ب مم وبيسي

مم /ثالثة 3 ثانوي مدونة محدودة /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني /التجويد /من كتب التراث الروائع /فيزياء ثاني2 ثانوي.ت2. /كتاب الرحيق المختوم /مدونة تعليمية محدودة رائعة /صفائي /الكشكول الابيض/ثاني ثانوي لغة عربية ترم اول يليه ترم ثاني ومعه 3ث /الحاسب الآلي)2ث /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة السنن الكبري للنسائي والنهاية لابن كثير /نهاية العالم /بيت المعرفة العامة /رياضيات بحتة وتطبيقية2 ثانوي ترم ثاني /احياء ثاني ثانوي ترم أول /عبدالواحد2ث.ت1و... /مدونة سورة التوبة /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /المكتبة التعليمية 3 ثانوي /كشكول /نهاية البداية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /الديوان الشامل لأحكام الطلاق /الاستقامة اا. /المدونة التعليمية المساعدة /اللهم أبي وأمي ومن مات من أهلي /الطلاق المختلف عليه /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي /الهندسة بأفرعها /لغة انجليزية2ث.ت1. /مناهج غابت عن الأنظار. /ترم ثاني الثاني الثانوي علمي ورياضة وادبي /المنهج في الطلاق /عبد الواحد2ث- ت1. /حورية /المصحف ورد ج /روابط المواقع التعليمية ثانوي غام /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ /فيزياء 2 ثاني ثانوي.ت1. /سنن النكاح والزواج /النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /مدونة المدونات /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /السيرة النبوية /اعجاز الخالق /فيمن خلق /ترجمة المقالات /الحائرون الملتاعون هلموا /النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق. /أصول الفقه الاسلامي وضوابطه /الأم)منهج ثاني ثانوي علمي رياضة وعلوم /وصف الجنة والحور العين اللهم أدخلنا الجنة ومتاعها /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /روابط مواقع تعليمية بالمذكرات /دين الله الحق /مدونة الإختصارات / /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /علم المناعة والحساسية /طرزان /مدونة المدونات /الأمراض الخطرة والوقاية منها /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /تفوق وانطلق للعلا /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الاستقامة أول /تكوير الشمس /كيمياء2 ثاني ثانوي ت1. /مدونة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مكتبة روابط ثاني ثانوي.ت1. /ثاني ثانوي لغة عربية /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /اللغة الفرنسية 2ثانوي /مدونة مصنفات الموسوعة الشاملة فهرسة /التاريخ 2ث /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /كتاب الزكاة /بستان العارفين /كتب 2 ثاني ثانوي ترم1و2 . /ترم اول وثاني الماني2ث  ///بيسو /مدونات أمي رضي الله عنكي /نهاية العالم /مدونة تحريز نصوص الشريعة الإسلامية ومنع اللعب باالتأويل والمجاز فيها /ابن حزم الأندلسي /تعليمية /أشراط الساعة /أولا/ الفقه الخالص /التعقيبات /المدونة الطبية /خلاصة الفقه /معايير الآخرة ويوم الحساب /بر الوالين /السوالب وتداعياتها

الأحد، 27 ديسمبر 2020

كتاب المحلي التوحيد والاصول والطهارة



مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله
قال علي بن أحمد بن سعيد بن حزم :
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وسلم تسليما ونسأل الله تعالى أن يصحبنا العصمة من كل خطإ وزلل ، ويوفقنا للصواب في كل قول وعمل , آمين آمين .
أما بعد وفقنا الله وإياكم لطاعته ، فإنكم رغبتم أن نعمل للمسائل المختصرة التي جمعناها في كتابنا الموسوم " بالمحلى " شرحا مختصرا أيضا ، نقتصر فيه على قواعد البراهين بغير إكثار ، ليكون مأخذه سهلا على الطالب والمبتدئ ، ودرجا له إلى التبحر في الحجاج ومعرفة الاختلاف وتصحيح الدلائل المؤدية إلى معرفة الحق مما تنازع الناس فيه والإشراف على أحكام القرآن والوقوف على جمهرة السنن الثابتة ، عن رسول الله ﷺ وتمييزها مما لم يصح ، والوقوف على الثقات من رواة الأخبار وتمييزهم من غيرهم والتنبيه على فساد القياس وتناقضه وتناقض القائلين به ، فاستخرت الله عز وجل على عمل ذلك ، واستعنته تعالى على الهداية إلى نصر الحق ، وسألته التأييد على بيان ذلك وتقريبه ، وأن يجعله لوجهه خالصا وفيه محضا آمين آمين رب العالمين .
وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند ، ولا خالفنا إلا خبرا ضعيفا فبينا ضعفه ، أو منسوخا فأوضحنا نسخه , وما توفيقنا إلا بالله تعالى .
=====
يحتوي بـــاب التــــوحيد على 91 مسألة 1 - مسألة : أول ما يلزم كل أحد ، ولا يصح الإسلام إلا به
2 - مسألة : وتفسير هذه الجملة : هو أن الله تعالى إله كل شيء دونه
3 - مسألة : هو الله لا إله إلا هو , وأنه تعالى واحد لم يزل ، ولا يزال
4 - مسألة : وأنه خلق كل شيء لغير علة أوجبت عليه أن يخلق
5 - مسألة : وأن النفس مخلوقة
6 - مسألة : وهي الروح نفسه
7 - مسألة : والعرش مخلوق
8 - مسألة : وأنه تعالى ليس كمثله شيء ، ولا يتمثل في صورة شيء مما خلق
9 - مسألة : وأن النبوة حق
10 - مسألة : وأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله
11 - مسألة : نسخ عز وجل بملته كل ملة
12 - مسألة : إلا أن عيسى ابن مريم عليه السلام سينزل
13 - مسألة : وأن جميع النبيين وعيسى ومحمدا عليهم السلام عبيدا لله تعالى مخلوقون
14 - مسألة : وأن الجنة حق دار مخلوقة للمؤمنين ، ولا يدخلها كافر أبدا
15 - مسألة : وأن النار حق دار مخلوقة لا يخلد فيها مؤمن
16 - مسألة : يدخل النار من شاء الله تعالى من المسلمين الذين رجحت كبائرهم وسيئاتهم على حسناتهم
17 - مسألة : لا تفنى الجنة ، ولا النار ، ولا أحد ممن فيهما أبدا
18 - مسألة : وأن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويطئون ويلبسون ويتلذذون ، ولا يرون بؤسا أبدا
19 - مسألة : وأهل النار يعذبون بالسلاسل والأغلال والقطران وأطباق النيران
20 - مسألة : وكل من كفر بما بلغه وصح عنده عن النبي ﷺ
أو أجمع عليه المؤمنون مما جاء به النبي عليه السلام فهو كافر
21 - مسألة : وأن القرآن الذي في المصاحف بأيدي المسلمين
22 - مسألة : وكل ما فيه من خبر عن نبي من الأنبياء أو مسخ أو عذاب أو نعيم أو غير ذلك فهو حق
23 - مسألة : ولا سر في الدين عند أحد
24 - مسألة : وإن الملائكة حق
25 - مسألة : خلقوا كلهم من نور وخلق آدم من ماء وتراب وخلق الجن من نار
26 - مسألة : والملائكة أفضل خلق الله تعالى
27 - مسألة : وأن الجن حق وهم خلق من خلق الله عز وجل
28 - مسألة : وأن البعث حق
29 - مسألة : وإن الوحوش تحشر
30 - مسألة : وأن الصراط حق
31 - مسألة: وأن الموازين حق توزن فيها أعمال العباد
32 - مسألة : وأن الحوض حق من شرب منه لم يظمأ أبدا
33 - مسألة : وأن شفاعة رسول الله ﷺ في أهل الكبائر من أمته حق
34 - مسألة : وأن الصحف تكتب فيها أعمال العباد الملائكة حق
35 - مسألة : وأن الناس يعطون كتبهم يوم القيامة
36 - مسألة : وإن على كل إنسان حافظين من الملائكة يحصيان أقواله وأعماله
37 - مسألة : ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة
38 - مسألة : ومن عمل في كفره عملا سيئا ثم أسلم ; فإن تمادى على تلك الإساءة حوسب وجوزي
39 - مسألة : وأن عذاب القبر حق ومساءلة الأرواح بعد الموت حق
40 - مسألة : والحسنات تذهب السيئات بالموازنة
41 - مسألة : وأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب
42 - مسألة : وأنه لا يرجع محمد رسول الله ﷺ ، ولا أحد من أصحابه ،
رضي الله عنهم ، إلا يوم القيامة
43 - مسألة : وأن الأنفس حيث رآها رسول الله ﷺ ليلة أسري به أرواح
أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام , وأرواح أهل الشقاء عن شماله
44 - مسألة : وأن الوحي قد انقطع مذ مات النبي ﷺ
45 - مسألة : والدين قد تم فلا يزاد فيه ، ولا ينقص منه
46 - مسألة : قد بلغ رسول الله ﷺ الدين كله وبين جميعه كما أمره الله تعالى
47 - مسألة : وحجة الله تعالى قد قامت واستبانت لكل من بلغته النذارة من مؤمن وكافر وبر وفاجر
48 - مسألة : والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان على كل أحد
49 - مسألة : فمن عجز لجهله أو عتمته عن معرفة كل هذا فلا بد له أن يعتقد بقلبه ويقول بلسانه
50 - مسألة : وبعد هذا فإن أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء
51 - مسألة : وأن الله تعالى خالق كل شيء سواه لا خالق سواه
52 - مسألة : ولا يشبهه عز وجل شيء من خلقه في شيء من الأشياء
53 - مسألة : وأنه تعالى لا في مكان ، ولا في زمان , بل هو تعالى خالق الأزمنة والأمكنة
54 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يسمي الله عز وجل بغير ما سمى به نفسه
55 - مسألة : وأن له عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد
56 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يشتق لله تعالى اسما لم يسم به نفسه
57 - مسألة : وأن الله تعالى يتنزل كل ليلة إلى سماء الدنيا
58 - مسألة : والقرآن كلام الله وعلمه غير مخلوق
59 - مسألة : وهو المكتوب في المصاحف والمسموع من القارئ والمحفوظ في الصدور
60 - مسألة : وعلم الله تعالى حق لم يزل عز وجل عليما بكل ما كان أو يكون مما دق أو جل لا يخفى عليه شيء
61 - مسألة : وقدرته عز وجل وقوته حق لا يعجز عن شيء
62 - مسألة : وأن لله عز وجل عزا وعزة , وجلالا وإكراما , ويدا ويدين وأيد , ووجها وعينا وأعينا وكبرياء
63 - مسألة : وأن الله تعالى يراه المسلمون يوم القيامة بقوة غير هذه القوة
64 - مسألة : وأن الله تعالى كلم موسى عليه السلام ومن شاء من رسله
65 - مسألة : وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم ومحمدا ﷺ خليلين
66 - مسألة : وأن محمدا ﷺ أسرى به ربه بجسده وروحه
67 - مسألة : وأن المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام
68 - مسألة : والسحر حيل وتخييل لا يحيل طبيعة أصلا
69 - مسألة : وأن القدر حق
70 - مسألة : ولا يموت أحد قبل أجله , مقتولا أو غير مقتول
71 - مسألة : وحتى يستوفي رزقه ويعمل بما يسر له
72 - مسألة : وجميع أعمال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوق
73 - مسألة : لا حجة على الله تعالى , ولله الحجة القائمة على كل أحد
74 - مسألة : ولا عذر لاحد بما قدره الله عز وجل من ذلك
75 - مسألة : الإيمان والإسلام شيء واحد
76 - مسألة : كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح , يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
77 - مسألة : من اعتقد الإيمان بقلبه ولم ينطق به بلسانه دون تقية فهو كافر
78 - مسألة : ومن اعتقد الإيمان بقلبه ونطق به بلسانه فقد وفق
79 - مسألة : ومن ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر
80 - مسألة : واليقين لا يتفاضل , لكن إن دخل فيه شيء من شك أو جحد بطل كله
81 - مسألة : والمعاصي كبائر فواحش , وسيئات صغائر ولمم
82 - مسألة : ومن لم يجتنب الكبائر حوسب على كل ما عمل
83 - مسألة : ومن رجحت سيئاته بحسناته فهم الخارجون من النار بالشفاعة على قدر أعمالهم
84 - مسألة : والناس في الجنة على قدر فضلهم عند الله تعالى , فأفضل الناس أعلاهم في الجنة درجة
85 - مسألة : وهم الأنبياء ثم أزواجهم ثم سائر أصحاب رسول الله ﷺ وجميعهم في الجنة
86 - مسألة : ولا تجوز الخلافة إلا في قريش
87 - مسألة : ولا يجوز الأمر لغير بالغ ، ولا لمجنون ، ولا امرأة
88 - مسألة : والتوبة من الكفر والزنى وفعل قوم لوط والخمر وأكل الأشياء
المحرمة كالخنزير والدم والميتة وغير ذلك : تكون بالندم والإقلاع والعزيمة
89 - مسألة : وأن الدجال سيأتي وهو كافر أعور ممخرق ذو حيل
90 - مسألة : والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم يكن يعلمه قبل
91 - مسألة : وأن إبليس باق حي قد خاطب الله عز وجل معترفا بذنبه مصرا عليه
فهارس كتاب التوحيد
باب التوحيد
التوحيد (مسألة 1 - 20) | التوحيد (مسألة 21 - 40) | التوحيد (مسألة 41 - 65) | التوحيد (مسألة 66 - 91)
========
التـــــوحيد
1 - مسألة : قال أبو محمد : أول ما يلزم كل أحد ، ولا يصح الإسلام إلا به أن يعلم المرء بقلبه علم يقين وإخلاص لا يكون لشيء من الشك فيه أثر وينطق بلسانه ، ولا بد بأن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
برهان ذلك : ما حدثناه عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح ، عن العلاء بن عبد الرحمان بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .
وقد روي معنى هذا مسندا معاذ ، وابن عباس وغيرهم .
قال الله تعالى {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}
وهو قول جميع الصحابة وجميع أهل الإسلام.
وأما وجوب عقد ذلك بالقلب فلقول الله تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} .
والإخلاص فعل النفس .
وأما وجوب النطق باللسان ، فإن الشهادة بذلك المخرجة للدم والمال من التحليل إلى التحريم كما قال رسول الله ﷺ لا تكون إلا باللسان ضرورة.
2 - مسألة : قال أبو محمد : وتفسير هذه الجملة : هو أن الله تعالى إله كل شيء دونه ، وخالق كل شيء دونه.
برهان ذلك : أن العالم بكل ما فيه ذو زمان لم ينفك عنه قط ، ولا يتوهم ، ولا يمكن أن يخلو العالم ، عن زمان.
ومعنى الزمان هو مدة بقاء الجسم متحركا أو ساكنا ومدة وجود العرض في الجسم ، وإذ الزمان مدة كما ذكرنا فهو عدد معدود ، ويزيد بمروره ودوامه ، والزيادة لا تكون ألبتة إلا في ذي مبدأ ونهاية من أوله إلى ما زاد فيه. والعدد أيضا ذو مبدأ ، ولا بد ، والزمان مركب بلا شك من أجزائه ، وكل جزء من أجزاء الزمان فهو بيقين ذو نهاية من أوله ومنتهاه والكل ليس هو شيئا غير أجزائه ، وأجزاؤه كلها ذات مبدأ ، فهو كله ذو مبدأ ضرورة ، فلما كان الزمان لا بد له من مبدأ ضرورة ، وكان العالم كله لا ينفك ، عن زمان والزمان ذو مبدأ ، فما لم يتقدم ذا المبدأ فهو ذو مبدأ ، ولا بد ، فالعالم كله جوهره وعرضه ذو مبدأ وإذ هو ذو مبدأ فهو محدث ، والمحدث يقتضي محدثا ضرورة إذ لا يتوهم أصلا ، ولا يمكن محدث إلا وله محدث ، فالعالم كله مخلوق وله خالق لم يزل ، وهو ملك كل ما خلق ، فهو إله كل ما خلق ومخترعه لا إله إلا هو.
3 - مسألة : قال أبو محمد : هو الله لا إله إلا هو ، وأنه تعالى واحد لم يزل ، ولا يزال .
برهان ذلك أنه لما صح ضرورة أن العالم كله مخلوق ، وأن له خالقا وجب أن لو كان الخالق أكثر من واحد أن يكون قد حصرهما العدد ، وكل معدود فذو نهاية كما ذكرنا ، وكل ذي نهاية فمحدث.
وأيضا فكل اثنين فهما غيران ، وكل غيرين ففيهما أو في أحدهما معنى ما صار به غير الآخر ، فعلى هذا كان يكون أحدهما ، ولا بد مركبا من ذاته ومما غاير به الآخر ، وإذا كان مركبا فهو مخلوق مدبر فبطل كل ذلك وعاد الأمر إلى وجوب أنه واحد ، ولا بد ، وأنه بخلاف خلقه من جميع الوجوه ، والخلق كثير محدث.
فصح أنه تعالى بخلاف ذلك ، وأنه واحد لم يزل ، إذ لو لم يكن كذلك لكان من جملة العالم تعالى الله ، عن ذلك قال تعالى {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}
وقال تعالى {ولم يكن له كفوا أحد} .
4 - مسألة : وأنه خلق كل شيء لغير علة أوجبت عليه أن يخلق .
برهان ذلك أنه لو فعل شيئا مما فعل لعلة لكانت تلك العلة إما لم تزل معه.
وأما مخلوقة محدثة ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فلو كانت لم تزل معه لوجب من ذلك شيئان ممتنعان : أحدهما أن معه تعالى غيره لم يزل ، فكان يبطل التوحيد الذي قد أبنا برهانه آنفا.
والثاني أنه كان يجب إذ كانت علة الخلق لم تزل أن يكون الخلق لم يزل ، لإن العلة لا تفارق المعلول ، ولو فارقته لم تكن علة له ، وقد أوضحنا آنفا برهان وجوب حدوث العالم كله.
وأيضا فلو كانت ههنا علة موجبة عليه تعالى أن يفعل ما فعل لكان مضطرا مطبوعا أو مدبرا مقهورا لتلك العلة ، وهذا خروج ، عن الإلهية ، ولو كانت العلة محدثة لكانت ، ولا بد إما مخلوقة له تعالى.
وأما غير مخلوقة ، فإن كانت غير مخلوقة فقد أوضحنا آنفا وجوب كون كل شيء محدث مخلوقا ، فبطل هذا القسم. وإن كانت مخلوقة وجب ، ولا بد أن تكون مخلوقة لعلة أخرى أو لغير علة ، فإن وجب أن تكون مخلوقة لعلة أخرى وجب مثل ذلك في العلة الثانية وهكذا أبدا ، وهذا يوجب وجوب محدثين لا نهاية لعددهم. وهذا باطل لما ذكرنا آنفا وبأن كل ما خرج إلى الفعل فقد حصره العدد ضرورة بمساحته أو بزمانه ، ولا بد ، وكل ما حصره العدد فهو متناه.
فبطل هذا القسم أيضا وصح ما قلناه ولله تعالى الحمد.
وإن قالوا : بل خلقت العلة لا لعلة .
سألوا : من أين وجب أن يخلق الأشياء لعلة ويخلق العلة لا لعلة ، ولا سبيل إلى دليل .
5 - مسألة : وأن النفس مخلوقة .
برهان هذا : أننا نجد الجسم في بعض أحواله لا يحس شيئا ، وأن المرء إذا فكر في شيء ما فإنه كلما تخلى ، عن الجسد كان أصح لفهمه وأقوى لادراكه ، فعلمنا أن الحساس العالم الذاكر هو شيء غير الجسد ونجد الجسد إذا تخلى منه ذلك الشيء موجودا بكل أعضائه ، ولا حس له ، ولا فهم إما بموت ، وإما بإغماء ، وإما بنوم.فصح أن الحساس الذاكر هو غير الجسد ، وهو المسمى في اللغة نفسا وروحا ، وقال الله تعالى ذكره : {الله يتوفى الأنفس حين موتـها والتي لم تمت في منامـها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
فكانت النفوس كما نص تعالى كثيرة ،وكذلك وجدناها نفسا خبيثة وأخرى طيبة ، ونفسا ذات شجاعة وأخرى ذات جبن ، وأخرى عالمة وأخرى جاهلة.
فصح يقينا أن لكل حي نفسا غير نفس غيره ، فإذا تيقن ذلك وكانت النفوس كثيرة مركبة من جوهرها وصفاتها ، فهي من جملة العالم ، وهي ما لم ينفك قط من زمان وعدد فهي محدثة مركبة ، وكل محدث مركب مخلوق. ومن جعل شيئا مما دون الله تعالى غير مخلوق فقد خالف الله تعالى في قوله : {خلق كل شيء}
وخالف ما جاءت به النبوة وما أجمع عليه المسلمون وما قام به البرهان العقلي.
6 - مسألة : وهي الروح نفسه .
برهان ذلك أنه قد قام البرهان كما ذكرنا بأن ههنا شيئا مدبرا للجسد هي الحي الحساس المخاطب ، ولم يقم برهان قط بأنهما شيئان ، فكان من زعم بأن الروح غير النفس قد زعم بأنهما شيئان وقال ما لا برهان له بصحته ، وهذا باطل .
قال تعالى {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فمن لا برهان له فليس صادقا.
فصح أن النفس والروح اسمان لمسمى واحد.
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس ، هو ابن زيد ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة في حديث ذكره أن رسول الله ﷺ قال لبلال : «اكلأ لنا الليل»
فغلبت بلالا عيناه فلم يستيقظ النبي ، ولا بلال ، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس ، فكان رسول الله ﷺ أولهم استيقاظا فقال : يا بلال فقال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله وذكر الحديث .
وقال الله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتـها والتي لم تمت في منامـها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
وحدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا علي بن نصر هو الجهضمي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثنا خالد بن سمير ، حدثنا عبد الله بن رباح حدثني أبو قتادة الأنصاري في حديث ذكر فيه نوم رسول الله حتى طلعت الشمس ، أن رسول الله ﷺ قال : «ألا إنا نحمد الله (أنا) لم نكن في شيء من أمر الدنيا يشغلنا عن صلاتنا ولكن أرواحنا كانت بيد الله عز وجل فأرسلها أنى شاء»
فعبر رسول الله ﷺ بالأنفس وبالأرواح ، عن شيء واحد ، ولا يثبت عنه ﷺ في هذا الباب خلاف لهذا أصلا . وبالله تعالى نتأيد.
7 - مسألة : والعرش مخلوق ;
برهان ذلك قول الله تعالى {رب العرش العظيم} وكل ما كان مربوبا فهو مخلوق .
8 - مسألة : وأنه تعالى {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ، ولا يتمثل في صورة شيء مما خلق .
قد مضى الكلام في هذا ، ولو تمثل تعالى في صورة شيء لكانت تلك الصورة مثلا له وهو تعالى يقول : {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
9 - مسألة : وأن النبوة حق ;
برهان ذلك : أن ما غاب عنا أو كان قبلنا فلا يعرف إلا بالخبر عنه.
وخبر التواتر يوجب العلم الضروري ، ولا بد ، ولو دخلت في نقل التواتر داخلة أو شك لوجب أن يدخل الشك هل كان قبلنا خلق أم لا ; إذ لم نعرف كون الخلق موجودا قبلنا إلا بالخبر ، ومن بلغ ههنا فقد فارق المعقول وبنقل التواتر المذكور صح أن قوما من الناس أتوا أهل زمانهم يذكرون أن الله تعالى خالق الخلق أوحى إليهم يأمرهم بإنذار قومهم بأوامر ألزمهم الله تعالى إياها ، فسألوا برهانا على صحة ما قالوا : فأتوا بأعمال هي خلاف لطبائع ما في العالم لا يمكن ألبتة في العقل أن يقدر عليها مخلوق ، حاشا خالقها الذي ابتدعها كما شاء ، كقلب عصا حية تسعى ، وشق البحر لعسكر جازوا فيه وغرق من اتبعهم ; وكإحياء ميت قد صح موته ، وكإبراء أكمه ولد أعمى ، وكناقة خرجت من صخرة ، وكإنسان رمي في النار فلم يحترق ، وكإشباع عشرات من الناس من صاع شعير ، وكنبعان الماء من بين أصابع إنسان حتى روي العسكر كله. فصح ضرورة أن الله تعالى شهد لهم بما أظهر على أيديهم فصح ما أتوا به عنه وأنه تعالى صدقهم فيما قالوه.
10 - مسألة : وأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺإلى جميع الإنس والجن ، كافرهم ومؤمنهم .
برهان ذلك أنه ﷺ أتى بهذا القرآن المنقول إلينا بأتم ما يكون من نقل التواتر ، وأنه دعا من خالفه إلى أن يأتوا بمثله فعجزوا كلهم ، عن ذلك ، وأنه شق له القمر قال الله عز وجل : {اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر * وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر * ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغنـي النذر} .
وحن الجذع إذ فقده حنينا سمعه كل من حضره ، وهم جموع كثيرة ; ودعا اليهود إلى تمني الموت إن كانوا صادقين ; وأخبر هم أنهم لا يتمنونه فعجزوا كلهم ، عن تمنيه جهارا.
ودعا النصارى إلى مباهلته فأبوا كلهم.
وهذان البرهانان مذكوران جميعا في نص القرآن ، كما ذكر فيه تعجيزه جميع العرب ، عن أن يأتوا بمثله أولهم ، عن آخرهم ; ونبع لهم الماء من بين أصابعه ، وأطعم مئين من الناس من صاع شعير وجدي ، وأذعن ملوك اليمن والبحرين وعمان لامره للآيات التي صحت عندهم عنه ، فنزلوا ، عن ملكهم كلهم طوعا دون رهبة أصلا ، ولا خوفا من أن يغزوهم ، ولا برغبة رغبهم بها ، بل كان يتيما فقيرا.
وهناك قوم يدعون النبوة كصاحب صنعاء وكصاحب اليمامة ، كلاهما أقوى جيشا وأوسع منه بلادا ، فما التفت لهم أحد غير قومهما ، وكان هو أضعفهم جندا وأضعفهم بلدا وأبعدهم من بلاد الملوك دارا ، فدعا الملوك والفرسان الذين قد ملئوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في نحو ذلك إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإسقاط الفخر والتجبر ، والتزام التواضع والصبر للقصاص في النفس فما دونها من كل حقير أو رفيع دون أن يكون معه مال ، ولا عشيرة تنصره ، بل اتبعه كل من اتبعه مذعنا لما بهرهم من آياته ; ولم يأخذ قط بلدة عنوة وغلبة إلا خيبر ومكة فقط وفي القرآن العظيم : {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إلـه إلا هو يحيـي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} وقال تعالى: {يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هـذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} وقال تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا} {يهدي إلى الرشد فآمنا به} إلى قوله: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولـئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} ، وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .
11 - مسألة : نسخ عز وجل بملته كل ملة وألزم أهل الأرض جنهم وإنسهم اتباع شريعته التي بعثه بها ، ولا يقبل من أحد سواها ; وأنه ﷺ خاتم النبيين لا نبي بعده ;
برهان ذلك قول الله تعالى {ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولـكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا وهب بن مسرة ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن المختار بن فلفل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : «إن النبوة والرسالة قد انقطعت، فجزع الناس فقال: قد بقيت مبشرات وهن جزء من النبوة» .
12 - مسألة : إلا أن عيسى ابن مريم عليه السلام سينزل وقد كان قبله ﷺ أنبياء كثيرة ممن سمى الله تعالى ومنهم لم يسم ; والإيمان بجميعهم فرض .
برهان ذلك ؛ ماحدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا الوليد بن شجاع وهارون بن عبد الله وحجاج بن الشاعر ; قالوا : حدثنا حجاج ، وهو ابن محمد ، عن ابن جريج قال : أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت النبي ﷺ يقول : «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة» .
وذكر الله تعالى في القرآن آدم ونوحا وإدريس وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويونس واليسع وإلياس وزكريا ويحيى وأيوب وعيسى وهودا وصالحا وشعيبا ولوطا.
{ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك} وقال تعالى: {ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولـئك هم الكافرون حقا}
13 - مسألة : وأن جميع النبيين وعيسى ومحمدا ﷺ عبيدا لله تعالى مخلوقون ; ناس كسائر الناس ; مولودون من ذكر وأنثى ; إلا آدم وعيسى ; فإن آدم خلقه الله تعالى من تراب بيده ; لا من ذكر ، ولا من أنثى ; وعيسى خلق في بطن أمه من غير ذكر .
قال الله عز وجل ، عن الرسل عليهم السلام أنهم قالوا : {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولـكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}
وقال تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}
وقال تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} وقال تعالى: {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين}
وقال تعالى عن جبريل عليه السلام أنه قال لمريم عليها السلام: {قال إنمآ أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} {قال كذلك قال ربك هو علي هين}
وقال تعالى: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين}
14 - مسألة : وأن الجنة حق دار مخلوقة للمؤمنين ، ولا يدخلها كافر أبدا ; قال تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}
وقال تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} .
15 - مسألة : وأن النار حق دار مخلوقة لا يخلد فيها مؤمن .
قال تعالى { لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى } .
16 - مسألة : يدخل النار من شاء الله تعالى من المسلمين الذين رجحت كبائرهم وسيئاتهم على حسناتهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويدخلون الجنة .
قال عز وجل : {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}
وقال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}
وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو غسان المسمعي ، ومحمد بن المثنى قالا ، حدثنا معاذ ، هو ابن هشام الدستوائي ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن النبي ﷺ : «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» .
17 - مسألة : لا تفنى الجنة ، ولا النار ، ولا أحد ممن فيهما أبدا .
برهان ذلك : قول الله عز وجل مخبرا ، عن كل واحدة من هاتين الدارين ومن فيهما : {خالدين فيهآ أبدا} و {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك عطآء} .
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثحدثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت , ثم قرأ رسو ل الله ﷺ: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وأشار بيده إلى أهل الدنيا»
وقال عز وجل في أهل الجنة : {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم} وقال في أهل النار: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} ، وبالله تعالى التوفيق .
18 - مسألة : وأن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويطئون ويلبسون ويتلذذون ، ولا يرون بؤسا أبدا ; وكل ذلك بخلاف ما في الدنيا ; لكن ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ; وحور العين حق نساء مطهرات خلقهن الله عز وجل للمؤمنين.
قال تعالى {يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزآء بما كانوا يعملون}
وقال تعالى: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير}
وقال تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال : «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
مصداق ذلك في كتاب الله تعالى {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون} .
وبه إلى مسلم حدثني الحسن الحلواني ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول ; قال رسول الله : «يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس» وهذا نص على أنه خلاف ما في الدنيا.
19 - مسألة : وأهل النار يعذبون بالسلاسل والأغلال والقطران وأطباق النيران ; أكلهم الزقوم وشربهم ماء كالمهل والحميم ; نعوذ بالله من ذلك .
وقال تعالى {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} .
وقال تعالى: {إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا} وقال تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم}
وقال تعالى: {إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم}
وقال تعالى: {في سموم وحميم} وقال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وسآءت مرتفقا} .
20 - مسألة : وكل من كفر بما بلغه وصح عنده ، عن النبي ﷺ أو أجمع عليه المؤمنون مما جاء به النبي ﷺ فهو كافر ;
كما قال تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} .
ابن حزم - المحلى التوحيد (مسألة 1 - 20)
المؤلف: ابن حزم التوحيد (مسألة 21 - 40)
=========
التـــــوحيد
21 - مسألة : وأن القرآن الذي في المصاحف بأيدي المسلمين شرقا وغربا فما بين ذلك من أول أم القرآن إلى آخر المعوذتين كلام الله عز وجل ووحيه أنزله على قلب نبيه محمد ﷺ من كفر بحرف منه فهو كافر .
قال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}
وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين} {على قلبك}
وقال تعالى: {وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير}
وكل ما روي ، عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح ; وإنما صحت عنه قراءة عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتين
22 - مسألة : وكل ما فيه من خبر ، عن نبي من الأنبياء أو مسخ أو عذاب أو نعيم أو غير ذلك فهو حق على ظاهره لا رمز في شيء منه .
قال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}
وقال تعالى: {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هـؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين}
وأنكر تعالى على قوم خالفوا هذا فقال تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه} .
23 - مسألة : ولا سر في الدين عند أحد ؛
قال الله عز وجل : {إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولـئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا}
وقال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} .
24 - مسألة : وإن الملائكة حق ; وهم خلق من خلق الله عز وجل مكرمون كلهم رسل الله .
قال الله تعالى {وقالوا اتخذ الرحمـن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ، وقال تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشآء إن الله على كل شيء قدير} .
25 - مسألة : خلقوا كلهم من نور وخلق آدم من ماء وتراب وخلق الجن من نار .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ : «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج نار وخلق آدم مما وصف لكم»
وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} .
26 - مسألة : والملائكة أفضل خلق الله تعالى ; لا يعصي أحد منهم في صغيرة ، ولا كبيرة وهم سكان السماوات .
قال الله تعالى : {لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}
وقال تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا} فهذا تفضيل لهم على المسيح عليه السلام
وقال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} .
ولا خلاف في أن بني آدم أفضل من كل خلق سوى الملائكة فلم يبق إلا الملائكة ، وإسجاده تعالى الملائكة لادم على جميعهم السلام سجود تحية ; فلو لم يكونوا أفضل منه لم يكن له فضيلة في أن يكرم بأن يحيوه.
وقد تقصينا هذا الباب في كتاب الفصل غاية التقصي والحمد لله رب العالمين .
وقال تعالى {وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} .
27 - مسألة : وأن الجن حق وهم خلق من خلق الله عز وجل ; فيهم الكافر والمؤمن ; يروننا ، ولا نراهم ; يأكلون وينسلون ويموتون
قال الله تعالى : {يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}
وقال تعالى: {والجآن خلقناه من قبل من نار السموم}
وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولـئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا}
وقال تعالى: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون}
وقال تعالى: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}
وقال تعالى: {كل من عليها فان} وقال تعالى: {كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور وعبد الله بن ربيع ; قال أحمد أخبرنا وهب بن مسرة ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ; وقال عبد الله : حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا هناد بن السري ; ثم اتفق ابن أبي شيبة وهناد قالا : حدثنا حفص بن غياث ، عن داود الطائي ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ : «لا تستنجوا بالعظام ولا بالروث فإنهما زاد إخوانكم من الجن» .
28 - مسألة : وأن البعث حق ; وهو وقت ينقضي فيه بقاء الخلق في الدنيا فيموت كل من فيها ; ثم يحيي الموتى ; يحيي عظامهم التي في القبور وهي رميم ويعيد الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح كما كانت ; ويجمع الأولين والآخرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يحاسب فيه الجن والإنس فيوفى كل أحد قدر عمله
قال الله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيـي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}
وقال تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} {قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم}
وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}
وقال تعالى: {قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم}
وقال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}
وقال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كـسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} .
29 - مسألة : وإن الوحوش تحشر
قال الله تعالى : {وإذا الوحوش حشرت}
وقال تعالى: {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» .
30 - مسألة : وأن الصراط حق وهو طريق يوضع بين ظهراني جهنم فينجو من شاء الله تعالى ويهلك من شاء.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله ﷺ : «ويضرب الصراط بين ظهري جهنم»
وقال ﷺ في هذا الحديث أيضا: «وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل تخطف الناس بأعمالهم فمنهم يعني الموبق بعمله ومنهم المخردل حتى ينجى» وذكر باقي الخبر.
31 - مسألة : وأن الموازين حق توزن فيها أعمال العباد ; نؤمن بها ، ولا ندري كيف هي
قال الله عز وجل : {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}
وقال تعالى: {والوزن يومئذ الحق}
وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية} .
32 - مسألة : وأن الحوض حق من شرب منه لم يظمأ أبدا .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ما آنية الحوض قال ﷺ : «والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» .
33 - مسألة : وأن شفاعة رسول الله ﷺ في أهل الكبائر من أمته حق فيخرجون من النار ويدخلون الجنة
قال الله عز وجل : {الله لا إلـه إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو غسان المسمعي ، حدثنا معاذ يعني ابن هشام الدستوائي ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله ﷺ قال : «لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» .
وبه إلى مسلم : حدثنا نصر بن علي ، حدثنا بشر يعني ابن المفضل ، عن أبي مسلمة هو سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» .
34 - مسألة : وأن الصحف تكتب فيها أعمال العباد الملائكة حق نؤمن بها ، ولا ندري كيف هي .
قال الله عز وجل : {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}
وقال عز وجل: {هـذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} .
وقال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك} .
35 - مسألة : وأن الناس يعطون كتبهم يوم القيامة ; فالمؤمنون الفائزون الذين لا يعذبون يعطونها بأيمانهم ; والكفار بأشملهم والمؤمنون أهل الكبائر وراء ظهورهم
قال الله عز وجل : {فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتي كتابه ورآء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور}
وقال تعالى {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يليتها كانت القاضية * مآ أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين} .
36 - مسألة : وإن على كل إنسان حافظين من الملائكة يحصيان أقواله وأعماله
قال عز وجل : {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} .
37 - مسألة : ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ; فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة فإن تركها لله تعالى كتبت له حسنة ; فإن تركها بغلبة أو نحو ذلك لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن رسول الله ﷺ فذكر أحاديث منها قال : قال رسول الله ﷺ : «قال الله عز وجل إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» .
وقال رسول الله ﷺ : «قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة ـــ وهو أبصر به ـــ فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي» .
وقال رسول الله ﷺ : «إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة تكتب (له) بمثلها حتى يلقى الله عز وجل» .
38 - مسألة : ومن عمل في كفره عملا سيئا ثم أسلم ; فإن تمادى على تلك الإساءة حوسب وجوزي في الآخرة بما عمل من ذلك في شركه وإسلامه ; وإن تاب ، عن ذلك سقط عنه ما عمل في شركه.
ومن عمل في كفره أعمالا صالحة ثم أسلم جوزي في الجنة بما عمل من ذلك في شركه وإسلامه ; فإن لم يسلم جوزي بذلك في الدنيا ولم ينتفع بذلك في الآخرة.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون ، وإبراهيم بن دينار ، واللفظ له قالا ، حدثنا حجاج ، وهو ابن محمد ، عن ابن جريج قال : أخبرني يعلى بن مسلم أنه سمع سعيد بن جبير يحدث ، عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا ﷺ فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت : {والذين لا يدعون مع الله إلـها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولـئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} {ومن تاب وعمل صالحا}
فلم يسقط الله ، عز وجل ، تلك الأعمال السيئة إلا بالإيمان مع التوبة مع العمل الصالح.
وبه إلى مسلم حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قال أناس لرسول الله ﷺ : يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال: «أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام» .
وبه إلى مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود قال : قلنا يا رسول الله «أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: «ومن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» .
وبه إلى مسلم حدثنا حسن الحلواني ، حدثنا يعقوب ، هو ابن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عن صالح ، هو ابن كيسان ، عن ابن شهاب أخبرنا عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره ، أنه قال لرسول الله ﷺ : «أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسو ل الله ﷺ: أسلمت على ما أسلفت من خير» .
فإن ذكروا قول الله عز وجل : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} .
وقوله ﷺ لعمرو بن العاص «إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله» .
قلنا : إن كلامه ﷺ لا يعارض كلامه ، ولا كلام ربه ،ولو كان ذلك وقد أعاذ الله من هذا لما كان بعضه أولى من بعض ولبطلت حجة كل أحد بما يتعلق به منه.
وكذلك القرآن لا يعارض القرآن ، ولا السنة.
قال عز وجل : {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}
فأما قوله تعالى : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} : إن من انتهى غفر له.
وأما من لم ينته عنه فلم يقل الله تعالى أنه يغفره له ، فبطل تعلقهم بالآية.
وأما قوله ﷺ : «إن الإسلام يهدم ما كان قبله»
وهو قولنا ; لإن الإسلام اسم واقع على جميع الطاعات ، والتوبة من عمل السوء من الطاعات.
وكذلك قوله ﷺ في الهجرة إنما هي التوبة من كل ذنب ، كما صح عنه ﷺ «المهاجر من هجر ما نهى عنه» .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا محمد بن يوسف الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر وإسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي ﷺ قال : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : «قلت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيعطى بحساب ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» .
39 - مسألة : وأن عذاب القبر حق ومساءلة الأرواح بعد الموت حق ، ولا يحيا أحد بعد موته إلى يوم القيامة .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن بشار بن عثمان العبدي ، حدثنا محمد بن جعفر هو غندر ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء بن عازب ، عن النبي ﷺ قال : «{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء} قال: نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد» .
وبه إلى مسلم ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا بديل ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة قال : «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدانها ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، قال: وإن الكافر إذا خرجت روحه يقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل»
قال أبو هريرة : فرد رسول الله ﷺ ريطة كانت عليه على أنفه .
وقال الله تعالى {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} فصح أنهما حياتان وموتان فقط ، ولا ترد الروح إلا لمن كان ذلك آية ، كمن أحياه عيسى عليه السلام ، وكل من جاء فيه بذلك نص ،
وهو قول من روي عنه في ذلك قول من الصحابة ، رضي الله عنهم.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عيسى بن حبيب ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا جدي محمد بن عبد الله ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن منصور بن عبد الرحمان ، عن أمه صفية بنت شيبة قالت " «دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يصلب، فقيل له هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء وإن الأرواح عند الله عز وجل، قالت له أسماء: وما يمنعني وقد أهدى رأس زكريا إلى بغى من بغايا بني إسرائيل» .
ولم يرو أحد أن في عذاب القبر رد الروح إلى الجسد إلا المنهال بن عمرو ، وليس بالقوي.
40 - مسألة : والحسنات تذهب السيئات بالموازنة ، والتوبة تسقط السيئات والقصاص من الحسنات
قال الله عز وجل : {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} .
وقال تعالى: {فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إلـه إلا هو فهل أنتم مسلمون} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل ، عن العلاء بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي من شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار»
وقال عز وجل: {اليوم تجزى كل نفس بما كـسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} .
=======
التـــــوحيد
41 - مسألة : وأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ولكن توفاه الله عز وجل ثم رفعه إليه.
وقال عز وجل {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولـكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} .
وقال تعالى: {إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون} .
وقال تعالى عنه أنه قال: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} .
وقال تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتـها والتي لم تمت في منامـها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} .
فالوفاة قسمان: نوم وموت فقط، ولم يرد عيسى عليه السلام بقولـه: «فلما توفيتني» وفاة النوم، فصح أنه إنما عنى وفاة الموت .
فصح أنه إنما عنى وفاة الموت ، ومن قال إنه عليه السلام قتل أو صلب فهو كافر مرتد حلال دمه وماله لتكذيبه القرآن وخلافه الإجماع .
42 - مسألة : وأنه لا يرجع محمد رسول الله ﷺ ، ولا أحد من أصحابه ، رضي الله عنهم ، إلا يوم القيامة إذا رجع الله المؤمنين والكافرين للحساب والجزاء.
هذا إجماع جميع أهل الإسلام المتقين قبل حدوث الروافض المخالفين لاجماع أهل الإسلام المبدلين للقرآن المكذبين بصحيح سنن رسول الله ﷺ المجاهرين بتوليد الكذب المتناقضين في كذبهم أيضا .
وقال عز وجل : {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} .
وقال تعالى {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} .
فادعوا من رجوع علي ما لا يعجز أحد ، عن أن يدعي مثله لعمر أو لعثمان أو لمعاوية ، رضي الله عنهم ، أو لغير هؤلاء : إذا لم يبال بالكذب والدعوى بلا برهان لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من إجماع ، ولا من معقول وبالله تعالى التوفيق.
43 - مسألة : وأن الأنفس حيث رآها رسول الله ﷺ ليلة أسري به أرواح أهل السعادة ، عن يمين آدم عليه السلام ، وأرواح أهل الشقاء ، عن شماله عند سماء الدنيا ، لا تفنى ، ولا تنتقل إلى أجسام أخر ، لكنها باقية حية حساسة عاقلة في نعيم أو نكد إلى يوم القيامة فترد إلى أجسادها للحساب وللجزاء بالجنة أو النار ، حاشا أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء فإنها الآن ترزق وتنعم .
ومن قال بانتقال الأنفس إلى أجسام أخر بعد مفارقتها هذه الأجساد فقد كفر .
برهان هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب أنا يونس ، هو ابن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله ﷺ : «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل (عليه السلام) ففرج صدري ثم غسلـه من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل (عليه السلام) لخازن السماء الدنيا افتح قال: من هذا ؟ قال: جبريل ، قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم معي محمد ﷺ قال: فأرسل إليه ؟ قال: نعم ففتح فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمالـه بكى قال فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح فقلت يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا آدم (عليه السلام) وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شمالـه نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شمالـه أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمالـه بكى (قال) ثم عرج بي جبريل (عليه السلام) حتى أتى السماء الثانية»
قال أنس : فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم صلوات الله عليهم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة. وذكر الحديث.
ففي هذا الخبر مكان الأرواح ، وأن أرواح الأنبياء في الجنة.
وأما الشهداء فإن الله عز وجل يقول : {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون}
وقال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} {فرحين بمآ آتاهم الله من} .
ولا خلاف بين مسلمين في أن الأنبياء عليهم السلام أرفع قدرا ودرجة وأتم فضيلة عند الله عز وجل وأعلى كرامة من كل من دونهم ، ومن خالف في هذا فليس مسلما.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : قال النبي ﷺ : «إذا مات الرجل عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فالجنة وإن كان من أهل النار فالنار، ثم يقال له: هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة» .
ففي هذا الحديث أن الأرواح حساسة عالمة مميزة بعد فراقها الأجساد.
وأما من زعم أن الأرواح تنقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ ، وهو كفر عند جميع أهل الإسلام. وبالله تعالى التوفيق .
44 - مسألة : وأن الوحي قد انقطع مذ مات النبي ﷺ .
برهان ذلك أن الوحي لا يكون إلا إلى نبي .
وقد قال عز وجل : {ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولـكن رسول الله وخاتم النبيين} .
45 - مسألة : والدين قد تم فلا يزاد فيه ، ولا ينقص منه ، ولا يبدل .
قال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} .
وقال تعالى {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} .
46 - مسألة : قد بلغ رسول الله ﷺ الدين كله وبين جميعه كما أمره الله تعالى
قال تعالى : {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} {صراط الله} .
وقال تعالى: {وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} .
47 - مسألة : وحجة الله تعالى قد قامت واستبانت لكل من بلغته النذارة من مؤمن وكافر وبر وفاجر .
قال الله عز وجل : {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} .
وقال تعالى : {من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن} .
48 - مسألة : والأمر بالمعروف والنهي ، عن المنكر فرضان على كل أحد على قدر طاقته باليد ، فمن لم يقدر فبلسانه ، فمن لم يقدر فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء.
قال عز وجل : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولـئك هم المفلحون} .
وقال تعالى: {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن المثنى قال ابن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان الثوري ، وقال ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، ثم اتفق سفيان وشعبة ، كلاهما ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال أبو سعيد الخدري : سمعت رسول الله ﷺ يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» .
وبه إلى مسلم حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن صالح بن كيسان ، عن الحارث ، هو ابن الفضيل الخطمي ، عن جعفر بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن عبد الرحمان بن المسور بن مخرمة ، عن أبي رافع هو مولى رسول الله ﷺ ، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ﷺ : «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» .
قال علي : لم يختلف أحد من المسلمين في أن الآيتين المذكورتين محكمتان غير منسوختين.فصح أن ما عارضهما أو عارض الأحاديث التي في معناهما هو المنسوخ بلا شك.
49 - مسألة : فمن عجز لجهله أو عتمته ، عن معرفة كل هذا فلا بد له أن يعتقد بقلبه ويقول بلسانه حسب طاقته بعد أن يفسر له لا إله إلا الله محمد رسول الله كل ما جاء به حق وكل دين سواه باطل .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا روح ، عن العلاء بن عبد الرحمان بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .
وقال عز وجل : {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .
50 - مسألة : وبعد هذا فإن أفضل الإنس والجن الرسل ثم الأنبياء على جميعهم من الله تعالى ثم منا أفضل الصلاة والسلام ثم أصحاب رسول الله ﷺ ثم الصالحون .
قال تعالى {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشآء إن الله على كل شيء قدير}
وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} وهذا لا خلاف فيه من أحد .
وقال عز وجل : {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولـئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه» .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا عمرو بن عون ومسدد قالا : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله ﷺ : «خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشو فيهم السمن» .
هكذا حدثناه عبد الله بن ربيع " يحربون " بحاء غير منقوطة وراء مرفوعة وباء منقوطة واحدة من أسفل ورويناه من طرق كثيرة " يخونون " بالخاء المنقوطة من فوق وواو بعدها نون ، ومن خان فقد حرب.
51 - مسألة : وأن الله تعالى خالق كل شيء سواه لا خالق سواه .
قال الله عز وجل {خالق كل شيء}
وقال تعالى: {هـذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين}
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض وما بينهما}
52 - مسألة : ولا يشبهه عز وجل شيء من خلقه في شيء من الأشياء.
قال عز وجل : {فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}
وقال تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد} .
53 - مسألة : وأنه تعالى لا في مكان ، ولا في زمان ، بل هو تعالى خالق الأزمنة والأمكنة .
قال تعالى : {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض وما بينهما}
والزمان والمكان فهما مخلوقان ، قد كان تعالى دونهما ، والمكان إنما هو للأجسام ، والزمان إنما هو مدة كل ساكن أو متحرك أو محمول في ساكن أو متحرك ، وكل هذا مبعد ، عن الله عز وجل .
54 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يسمي الله عز وجل بغير ما سمى به نفسه ، ولا أن يصفه بغير ما أخبر به تعالى ، عن نفسه .
قال عز وجل : {ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون}
فمنع تعالى أن يسمى إلا بأسمائه الحسنى وأخبر أن من سماه بغيرها فقد ألحد.
والأسماء الحسنى بالألف واللام لا تكون إلا معهودة ، ولا معروف في ذلك إلا ما نص الله تعالى عليه ، ومن ادعى زيادة على ذلك كلف البرهان على ما ادعى ، ولا سبيل له إليه ، ومن لا برهان له فهو كاذب في قوله ودعواه.
قال عز وجل {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} .
55 - مسألة : وأن له عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد ، وهي أسماؤه الحسنى ، من زاد شيئا من عند نفسه فقد ألحد في أسمائه ، وهي الأسماء المذكورة في القرآن والسنة .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق أنا معمر ، عن أيوب وهمام بن منبه ، قال أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، وقال همام ، عن أبي هريرة ثم اتفقا ، عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : «إن لله تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» زاد همام في حديثه «أنه وتر يحب الوتر» .
وقد صح أنها تسعة وتسعون اسما فقط ،
ولا يحل لأحد أن يجيز أن يكون له اسم زائد لانه ﷺ قال : «مائة غير واحد»
فلو جاز أن يكون له تعالى اسم زائد لكانت مائة اسم ، ولو كان هذا لكان قوله عليه السلام مائة غير واحد كذبا ومن أجاز هذا فهو كافر .
وقال تعالى {هو الله الذي لا إلـه إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمـن الرحيم} {هو الله الذي لا إلـه إلا هو الملك} .
وقد تقصينا كثيرا منها بالأسانيد الصحاح في كتاب " الإيصال " والحمد لله رب العالمين.
56 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يشتق لله تعالى اسما لم يسم به نفسه .
برهان ذلك أنه تعالى قال : {والسمآء وما بناها} .
وقال: {وأكيد كيدا} .
وقال تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} .
ولا يحل لأحد أن يسميه البناء ، ولا الكياد ، ولا الماكر ، ولا المتجبر ، ولا المستكبر ، لا على أنه المجازي بذلك ، ولا على وجه أصلا ، ومن ادعى غير هذا فقد ألحد في أسمائه تعالى وتناقض وقال على الله تعالى الكذب وما لا برهان له به. وبالله تعالى التوفيق.
57 - مسألة : وأن الله تعالى يتنزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وهو فعل يفعله عز وجل ليس حركة ، ولا نقلة .
برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى قرأت على مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عبد الله الأغر وعن أبي سلمة بن عبد الرحمان ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : «يتنزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له» .
قال مسلم : وحدثناه قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب ، هو ابن عبد الرحمان القاري ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ : «ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل (الأول) فيقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؛ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر» .
قال مسلم : وحدثناه إسحاق بن منصور ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا يحيى ، هو ابن أبي كثير ، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمان ، حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : «إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله (تبارك وتعالى) إلى السماء الدنيا فيقول : هل من سائل يعطى ؟ هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ حتى ينفجر الصبح» .
قال علي : فالرواية ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة من طريق الزهري " إذا بقي ثلث الليل الآخر "
ومن طريق يحيى بن أبي كثير " إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه "
ومن طريق أبي صالح ، عن أبي هريرة " إذا مضى ثلث الليل الأول إلى أن يضيء الفجر "
وهكذا رواه ابنا أبي شيبة ، وابن راهويه ، عن جرير ، عن منصور ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الأغر ، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وأوقات الليل مختلفة باختلاف تقدم غروب الشمس ، عن أهل المشرق وأهل المغرب.
فصح أنه فعل يفعله الباري عز وجل من قبول الدعاء في هذه الأوقات ، لا حركة ، والحركة والنقلة من صفات المخلوقين ، حاشا الله تعالى منها.
58 - مسألة : والقرآن كلام الله وعلمه غير مخلوق .
قال عز وجل : {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما}
فأخبر عز وجل أن كلامه هو علمه ، وعلمه تعالى لم يزل غير مخلوق .
59 - مسألة : وهو المكتوب في المصاحف والمسموع من القارئ والمحفوظ في الصدور ، والذي نزل به جبريل على قلب محمد ﷺ : كل ذلك كتاب الله تعالى وكلامه القرآن حقيقة لا مجازا ، من قال في شيء من هذا أنه ليس هو القرآن ، ولا هو كلام الله تعالى فقد كفر ، لخلافه الله تعالى ورسوله ﷺ وإجماع أهل الإسلام .
قال عز وجل : {فأجره حتى يسمع كلام الله} .
وقال تعالى {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}
وقال تعالى: {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ}
وقال تعالى: {في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين}
وقال تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنآ إلا الظالمون} وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : «نهى رسول الله ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو» .
ولا يحل لأحد أن يصرف كلام الله تعالى وكلام رسول الله ﷺ إلى المجاز ، عن الحقيقة بدعواه الكاذبة. وبالله تعالى التوفيق.
60 - مسألة : وعلم الله تعالى حق لم يزل عز وجل عليما بكل ما كان أو يكون مما دق أو جل لا يخفى عليه شيء .
قال عز وجل : {وهو بكل شيء عليم} وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه شيء .
وقال تعالى {يعلم السر وأخفى} والأخفى من السر هو مما لم يكن بعد .
61 - مسألة : وقدرته عز وجل وقوته حق لا يعجز ، عن شيء ، ولا عن كل ما يسأل عنه السائل من محال أو غيره مما لا يكون أبدا .
قال عز وجل : {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثنا عبد الرحمان بن أبي الموال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن قال : حدثني جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله ﷺ « يعلم أصحابه الاستخارة فذكر الحديث وفيه اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك» .
وقال عز وجل : {لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ إن كنا فاعلين} .
وقال تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء} .
وقد أخبر عز وجل أنه قادر على ما لا يكون أبدا:
قال عز وجل: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} . وقال تعالى: {والله على كل شيء قدير} .
وقال تعالى: {إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} .
ولو لم يكن تعالى كذلك لكان متناهي القدرة ، ولو كان متناهي القدرة لكان محدثا ، تعالى الله ، عن ذلك ، وهو تعالى مرتب كل ما خلق ، وهو الذي أوجب الواجب وأمكن الممكن وأحال المحال ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك على خلاف ما فعله ، لما أعجزه ذلك ، ولكان قادرا عليه ، ولو لم يكن كذلك لكان مضطرا لا مختارا. وهذا كفر ممن قاله.
قال عز وجل : {وربك يخلق ما يشآء ويختار} .
62 - مسألة : وأن لله عز وجل عزا وعزة ، وجلالا وإكراما ، ويدا ويدين وأيد ، ووجها وعينا وأعينا وكبرياء ، وكل ذلك حق لا يرجع منه ، ولا من علمه تعالى وقدره وقوته إلا إلى الله تعالى ، لا إلى شيء غير الله عز وجل أصلا ، مقر من ذلك مما في القرآن ، وما صح عن رسول الله ﷺ .
ولا يحل أن يزاد في ذلك ما لم يأت به نص من قرآن أو سنة صحيحة .
قال عز وجل : {ذو الجلال والإكرام} .
وقال تعالى: {يد الله فوق أيديهم} و{لما خلقت بيدي} و {مما عملت أيدينآ أنعاما} {إنما نطعمكم لوجه الله} {ولتصنع على عيني} {فإنك بأعيننا} .
ولا يحل أن يقال عينين لانه لم يأت بذلك نص ، ولا أن يقال " سمع وبصر ، ولا حياة " لانه لم يأت بذلك نص ، لكنه تعالى سميع بصير حي قيوم .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني أحمد بن يوسف الأزدي ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو إسحاق هو السبيعي ، عن أبي مسلم الأغر أنه حدثه ، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : قال رسول الله ﷺ : «العز إزاره، والكبرياء رداؤه» يعني الله تعالى .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا الفضل بن موسى ، حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا أبو سلمة ، هو ابن عبد الرحمان بن عوف ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ في حديث : خلق الله تعالى الجنة والنار «أن جبريل قال لله تعالى: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد» .
ولو كان شيء من ذلك غير الله تعالى لكان إما لم يزل .
وأما محدثا ، فلو كان لم يزل لكان مع الله تعالى أشياء غيره لم تزل ، وهذا شرك مجرد ، ولو كان محدثا لكان تعالى بلا علم ، ولا قوة ، ولا قدرة ، ولا عز ، ولا كبرياء قبل أن يخلق كل ذلك وهذا كفر .
وقال تعالى : {إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}
وقال تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا}
وقال تعالى: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}
وقال تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمآئه} .
فصح أنه لا يحل أن يضاف إليه تعالى شيء ، ولا أن يخبر عنه بشيء ، ولا أن يسمى بشيء إلا ما جاء به النص. ونقول : إن لله تعالى مكرا وكيدا.
وقال تعالى {أفأمنوا مكر الله}
وقال تعالى: {وأكيد كيدا} وكل ذلك خلق له تعالى. وبالله تعالى التوفيق.
63 - مسألة : وأن الله تعالى يراه المسلمون يوم القيامة بقوة غير هذه القوة .
قال عز وجل : {وتذرون الآخرة * وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا ابن أبي شيبة هو أبو بكر ، حدثنا جرير ، ووكيع وأبو أسامة كلهم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يقول ونظر إلى القمر «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته» .
ولو كانت هذه القوة لكانت لا تقع إلا على الألوان ، تعالى الله ، عن ذلك .
وأما الكفار فإن الله عز وجل قال : {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} .
64 - مسألة : وأن الله تعالى كلم موسى عليه السلام ومن شاء من رسله .
قال تعالى {وكلم الله موسى تكليما} {اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} ، {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله} .
65 - مسألة : وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم ومحمدا ﷺ خليلين .
قال عز وجل : {واتخذ الله إبراهيم خليلا} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثحدثنا محمد بن بشار العبدي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن رجاء قال سمعت عبد الله بن أبي الهذيل يحدث ، عن أبي الأحوص قال : سمعت عبد الله بن مسعود يحدث ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : « لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» .
========================================================================
التـــــوحيد
66 - مسألة : وأن محمدا ﷺ أسرى به ربه بجسده وروحه ، وطاف في السماوات سماء سماء ، ورأى أرواح الأنبياء عليهم السلام هنالك .
قال عز وجل : {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} .
ولو كان ذلك رؤيا منام ما كذبه في ذلك أحد ، كما لا نكذب نحن كافرا في رؤيا يذكرها.
وقد ذكرنا رؤيته عليه السلام للأنبياء عليهم السلام قبل فأغنى ، عن إعادته .
67 - مسألة : وأن المعجزات لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام .
قال عز وجل : {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} .
وقال تعالى : {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}
وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام أنه قال : {قال أولو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين} {فألقى عصاه} .
وقال تعالى : {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه} .
فصح أنه لو أمكن أن يأتي أحد ساحر أو غيره بما يحيل طبيعة أو يقلب نوعا ، لما سمى الله تعالى ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام برهانا لهم ، ولا آية لهم ، ولا أنكر على من سمى ذلك سحرا ، ولا يكون ذلك آية لهم عليهم السلام.
ومن ادعى أن إحالة الطبيعة لا تكون آية إلا حتى يتحدى فيها النبي ﷺ الناس فقد كذب وادعى ما لا دليل عليه أصلا ، لا من عقل ، ولا من نص قرآن ، ولا سنة ، وما كان هكذا فهو باطل ، ويجب من هذا أن حنين الجذع وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير حتى شبعوا وهم مئون من صاع شعير. ونبعان الماء من بين أصابع رسول الله ﷺ وإرواء ألف وأربعمائة من قدح صغير تضيق سعته ، عن شبر ليس شيء من ذلك آية له عليه السلام لانه عليه السلام لم يتحد بشيء من ذلك أحدا.
68 - مسألة : والسحر حيل وتخييل لا يحيل طبيعة أصلا .
قال عز وجل : {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} .
فصح أنها تخييلات لا حقيقة لها ، ولو أحال الساحر طبيعة لكان لا فرق بينه وبين النبي ﷺ وهذا كفر ممن أجازه.
69 - مسألة : وأن القدر حق ، ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا
قال الله عز وجل : {مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ} .
70 - مسألة : ولا يموت أحد قبل أجله ، مقتولا أو غير مقتول .
قال الله عز وجل : : {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} .
وقال تعالى: {فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} .
وقال تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} .
71 - مسألة : وحتى يستوفي رزقه ويعمل بما يسر له ، السعيد من سعد في علم الله تعالى ، والشقي من شقي في علمه تعالى .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبي وأبو معاوية ، ووكيع قالوا : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله بن مسعود قال : حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» .
72 - مسألة : وجميع أعمال العباد خيرها وشرها كل ذلك مخلوق خلقه الله عز وجل ، وهو تعالى خالق الاختيار والإرادة والمعرفة في نفوس عباده .
قال عز وجل : {والله خلقكم وما تعملون} .
وقال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} .
وقال تعالى: {خلق السماوات والأرض وما بينهما} .
73 - مسألة : لا حجة على الله تعالى ، ولله الحجة القائمة على كل أحد .
قال تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} .
وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين} .
74 - مسألة : ولا عذر لاحد بما قدره الله عز وجل من ذلك ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، وكل أفعاله تعالى عدل وحكمة. لإن الله تعالى واضع كل موجود في موضعه ، وهو الحاكم الذي لا حاكم عليه ، ولا معقب لحكمه.
قال تعالى {ربك فعال لما} .
75 - مسألة : الإيمان والإسلام شيء واحد .
قال عز وجل : {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} .
وقال تعالى : {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} .
76 - مسألة : كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وقال عز وجل : {فأما الذين آمنوا فزادتهم} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا كهمس التميمي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر قال : قال لي عبد الله بن عمر : حدثني أبي عمر بن الخطاب قال : «بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول الله ﷺ وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله ﷺ (الإسلام) أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: صدقت، فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت وذكر باقي الحديث وفيه أن رسول الله ﷺ قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم» .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال : «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» .
وبه إلى البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عبد الله بن عمرو «أن رجلا سأل رسول الله ﷺ أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله ﷺ قال «ما رأيت من ناقصات دين وعقل أغلب لذي لب منكن: قالت (امرأة): يا رسول الله وما نقصان العقل والدين ؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان ـــ فهذا نقصان الدين» .
قال علي : قال الله عز وجل : {إن الدين عند الله الإسلام} .
فصح أن الدين هو الإسلام ، وقد صح أن الإسلام هو الإيمان ، فالدين هو الإيمان ، والدين ينقص بنقص الإيمان ويزيد. وبالله تعالى التوفيق.
77 - مسألة : من اعتقد الإيمان بقلبه ولم ينطق به بلسانه دون تقية فهو كافر عند الله تعالى وعند المسلمين ، ومن نطق به دون أن يعتقده بقلبه فهو كافر عند الله وعند المسلمين .
قال الله تعالى ، عن اليهود والنصارى : إنهم يعلمون رسول الله ﷺ كما يعلمون أبناءهم .
وقال تعالى {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما}
وقال تعالى: {إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} .
78 - مسألة : ومن اعتقد الإيمان بقلبه ونطق به بلسانه فقد وفق ، سواء استدل أو لم يستدل ، فهو مؤمن عند الله تعالى وعند المسلمين .
قال الله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}
ولم يشترط عز وجل في ذلك استدلالا ولم يزل رسول الله ﷺ مذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه يقاتل الناس حتى يقروا بالإسلام ويلتزموه ، ولم يكلفهم قط استدلالا ، ولا سألهم هل استدلوا أم لا ، وعلى هذا جرى جميع الإسلام إلى اليوم. وبالله تعالى التوفيق.
79 - مسألة : ومن ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله ﷺ قال في حديث طويل: «حتى إذا فرغ الله من قضائه بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله عز وجل أن يرحمه ممن يقول لا إله لا الله» .
80 - مسألة : واليقين لا يتفاضل ، لكن إن دخل فيه شيء من شك أو جحد بطل كله .
برهان ذلك أن اليقين هو إثبات الشيء ، ولا يمكن أن يكون إثبات أكثر من إثبات ، فإن لم يحقق الإثبات صار شكا.
81 - مسألة : والمعاصي كبائر فواحش ، وسيئات صغائر ولمم ، واللمم مغفور جملة ، فالكبائر الفواحش هي ما توعد الله تعالى عليه بالنار في القرآن أو على لسان رسوله ﷺ فمن اجتنبها غفرت له جميع سيئاته الصغائر .
برهان ذلك قول الله عز وجل : {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة}
واللمم هو الهم بالشيء ، وقد تقدم ذكرنا الأثر في أن من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» .
وقال الله عز وجل: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} .
وبالضرورة نعرف أنه لا يكون كبيرا إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منه ، لا يمكن غير هذا أصلا ، فإذا كان العقاب بالغا أشد ما يتخوف فالموجب له هو كبير بلا شك ، وما لا توعد فيه بالنار فلا يلحق في العظم ما توعد فيه بالنار ، فهو الصغير بلا شك ، إذ لا سبيل إلى قسم ثالث.
82 - مسألة : ومن لم يجتنب الكبائر حوسب على كل ما عمل ، ووازن الله عز وجل بين أعماله من الحسنات وبين جميع معاصيه التي لم يتب منها ، ولا أقيم عليه حدها ، فمن رجحت حسناته فهو في الجنة ، وكذلك من ساوت حسناته سيئاته .
قال الله عز وجل : {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} .
وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية} .
ومن تساوت فهم أهل الأعراف. قال الله عز وجل: {إن الحسنات يذهبن السـيئات} .
ولا خلاف في أن التوبة تسقط الذنوب .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني إسماعيل بن سالم ، أخبرني هشيم ، حدثنا خالد ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت قال : «أخذ علينا رسول الله ﷺ كما أخذ على النساء: أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة له ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» .
83 - مسألة : ومن رجحت سيئاته بحسناته فهم الخارجون من النار بالشفاعة على قدر أعمالهم
قال الله عز وجل : {وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه * نار حامية}
وقال عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعـمل مثقال ذرة شرا يره} .
وقال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كـسبت} .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله ﷺ قال في حديث طويل : «ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم فمنهم (يعني) الموبق بعمله ومنهم المخردل حتى ينجى »
وبه إلى مسلم ، حدثنا أبو غسان المسمعي ، ومحمد بن المثنى قالا ، حدثنا معاذ ، و، هو ابن هشام الدستوائي أخبرنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك أن النبي ﷺ : «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» .
قال علي : وليس قول الله عز وجل : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن}
وقول النبي ﷺ في حديث عبادة الذي ذكرناه آنفا «إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» بمعارض لما ذكرنا ; لانه ليس في هذين النصين إلا أنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء .
وهذا صحيح لا شك فيه ، كما أن قوله تعالى : {إن الله يغفر الذنوب جميعا}
وقوله تعالى في النصارى حاكيا عن عيسى عليه السلام أنه قال: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}
قال الله {قال الله هـذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} ليس بمعارض لهذين النصين .
وليس في شيء من هذا أنه قد يغفر ، ولا يعذب من رجحت سيئاته على حسناته ، والمبين لاحكام هؤلاء مما ذكرنا هو الحاكم على سائر النصوص المجملة.
وكذلك تقضي هذه النصوص على كل نص فيه : من فعل كذا حرم الله عليه الجنة ، ومن قال لا إله إلا الله مخلصا حرم الله عليه النار ، وعلى قوله تعالى : {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها} .
ومعنى كل هذا أن الله يحرم الجنة عليه حتى يقتص منه ، ويحرم النار عليه أن يخلد فيها أبدا ، وخالدا فيها مدة حتى تخرجه الشفاعة ، إذ لا بد من جمع النصوص كلها. وبالله تعالى التوفيق.
84 - مسألة : والناس في الجنة على قدر فضلهم عند الله تعالى ، فأفضل الناس أعلاهم في الجنة درجة .
برهان ذلك قوله تعالى : {والسابقون السابقون * أولـئك المقربون * في جنات النعيم} .
ولو جاز أن يكون الأفضل أنقص درجة لبطل الفضل ولم يكن له معنى ، ولا رغب فيه راغب ، وليس للفضل معنى إلا أمر الله تعالى بتعظيم الأرفع في الدنيا وترفيع منزلته في الجنة.
85 - مسألة : وهم الأنبياء ثم أزواجهم ثم سائر أصحاب رسول الله ﷺ وجميعهم في الجنة .
وقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ أنه لو كان لاحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ، ولا نصيفه.
وقد ذكرنا أن أفضل الناس أعلاهم درجة في الجنة ، ولا منزلة أعلى من درجة الأنبياء عليهم السلام ، فمن كان معهم في درجتهم فهو أفضل ممن دونهم ، وليس ذلك إلا لنسائهم فقط.
وقال تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولـئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}
وقال عز وجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولـئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} {لا يحزنهم الفزع الأكبر} .
فجاء النص أن من صحب النبي ﷺ فقد وعده الله تعالى الحسنى .
وقد نص الله تعالى {إن الله لا يخلف الميعاد} .
وصح بالنص كل من سبقت له من الله تعالى الحسنى ، فإنه مبعد ، عن النار لا يسمع حسيسها ، وهو فيما اشتهى خالد لا يحزنه الفزع الأكبر. وهذا نص ما قلنا ، وليس المنافقون ، ولا سائر الكفار ، من أصحابه عليه السلام ، ولا من المضافين إليه ﷺ .
86 - مسألة : ولا تجوز الخلافة إلا في قريش ، وهم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، الذين يرجعون بأنساب آبائهم إليه .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه قال : قال عبد الله بن عمر قال رسول الله ﷺ : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» .
قال علي : هذه اللفظة لفظة الخبر ، فإن كان معناه الأمر فحرام أن يكون الأمر في غيرهم أبدا ، وإن كان معناه معنى الخبر كلفظه ، فلا شك في أن من لم يكن من قريش فلا أمر له وإن ادعاه ، فعلى كل حال فهذا خبر يوجب منع الأمر عمن سواهم.
87 - مسألة : ولا يجوز الأمر لغير بالغ ، ولا لمجنون ، ولا امرأة ، ولا يجوز أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد فقط ، ومن بات ليلة وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا يجوز التردد بعد موت الإمام في اختيار الإمام أكثر من ثلاث .
برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي ظبيان ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ : «رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المبتلى حتى يعقل» .
قال علي : الإمام إنما جعل ليقيم الناس الصلاة ويأخذ صدقاتهم ويقيم حدودهم ويمضي أحكامهم ويجاهد عدوهم ، وهذه كلها عقود ، ولا يخاطب بها من لم يبلغ أو من لا يعقل.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، هو ابن سعد ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي ﷺ ، أنه قال «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» .
وبه إلى مسلم ، حدثنا وهب بن بقية الواسطي ، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» .
وبه إلى مسلم ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا عاصم ، هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، عن زيد بن محمد ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : «من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» .
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ، حدثنا وهب بن مسرة ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عيينة بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال : «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال : «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» .
فصح أن أهل كل عصر لا يجوز أن يخلوا من أن يكون فيهم قائل بالحق ، فإذا صح إجماعهم على شيء فهو حق مقطوع بذلك ، إذا تيقن أنه لا مخالف في ذلك وقطع به وقد صح يقينا أن جميع أهل الإسلام رضوا بقاء الستة إذ مات عمر رضي الله ، عن جميعهم ثلاثة أيام يرتئون في إمام. فصح هذا وبطل ما زاد عليه ، إذ لم تبحه سنة ، ولا إجماع. وبالله تعالى التوفيق. ثم تدبرنا هذه القصة فوجدنا عمر قد ولى الأمر أحد الستة المعينين أيهم اختاروا لانفسهم.
فصح يقينا أن عثمان كان الإمام ساعة موت عمر في علم الله تعالى ، بإسناد عمر الأمر إليه بالصفة التي ظهرت فيه من اختيارهم إياه ، فارتفع الإشكال وصح أنهم لم يبقوا ساعة ، فكيف ليلة دون إمام بل كان لهم إمام معين محدود موصوف معهود إليه بعينه ، وإن لم تعرفه الناس بعينه مدة ثلاثة أيام.
88 - مسألة : والتوبة من الكفر والزنى وفعل قوم لوط والخمر وأكل الأشياء المحرمة كالخنزير والدم والميتة وغير ذلك : تكون بالندم والإقلاع والعزيمة ، على أن لا عودة أبدا ، واستغفار الله تعالى. هذا إجماع لا خلاف فيه.
والتوبة من ظلم الناس في أعراضهم وأبشارهم وأموالهم لا تكون إلا برد أموالهم إليهم ، ورد كل ما تولد منها معها أو مثل ذلك إن فات ، فإن جهلوا ففي المساكين ووجوه البر مع الندم والإقلاع والاستغفار ، وتحللهم من أعراضهم وأبشارهم ، فإن لم يكن ذلك فالأمر إلى الله تعالى ، ولا بد للمظلوم من الانتصاف يوم القيامة ، يوم يقتص للشاة الجماء من القرناء.
والتوبة من القتل أعظم من هذا كله ، ولا تكون إلا بالقصاص فإن لم يمكن فليكثر من فعل الخير ليرجح ميزان الحسنات.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمان بن بهرام الدارمي ، حدثنا مروان يعني بن محمد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر ، عن النبي ﷺ فيما روى ، عن الله تعالى ، أنه قال : «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» .
وبه إلى مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : «أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال عليه السلام: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» .
قال علي : هذا كله خبر مفسر مخصص لا يجوز نسخه ، ولا تخصيصه بعموم خبر آخر.
89 - مسألة : وأن الدجال سيأتي وهو كافر أعور ممخرق ذو حيل .
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة قال سمعت أنس بن مالك يقول إن النبي ﷺ قال : «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كفر» .
وبه إلى مسلم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المغيرة بن شعبة قال : «ما سأل أحد النبي ﷺ عن الدجال أكثر مما سألته عنه قال: وما سؤالك عنه؟ قال قلت: إنهم يقولون معه جبال من خبز ولحم ونهر من ماء، قال: هو أهون على الله من ذلك» .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، حدثنا حميد بن هلال ، عن أبي الدهماء قال : سمعت عمران بن حصين يحدث قال : قال رسول الله ﷺ : «من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات ، أو لما يبعث به الشبهات ، قال هكذا ؟ قال: نعم» .
90 - مسألة : والنبوة هي الوحي من الله تعالى بأن يعلم الموحى إليه بأمر ما يعلمه لم يكن يعلمه قبل. والرسالة هي النبوة وزيادة ، وهي بعثته إلى خلق ما بأمر ما هذا ما لا خلاف فيه والخضر ﷺ نبي قد مات ، ومحمد ﷺ لا نبي بعده .
قال الله عز وجل حاكيا ، عن الخضر {وما فعلته عن} فصحت نبوته.
وقال تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما * يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} .
91 - مسألة : وأن إبليس باق حي قد خاطب الله عز وجل معترفا بذنبه مصرا عليه موقنا بأن الله عز وجل خلقه من نار ، وأنه تعالى خلق آدم من تراب ، وأنه تعالى أمره بالسجود لادم فامتنع واستخف بآدم فكفر .
قال الله تعالى حاكيا عنه ، أنه قال : {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} .
وأنه قال: {قال أنظرني إلى يوم يبعثون} .
وأنه قال: {فبمآ أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} .
وقال تعالى: {وكان من الكافرين} . باب التوحيد
===========
كتاب مسائل من الأصول وفيه 18 مسألة 92 - مسألة : دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما صح عن رسول الله ﷺ
93 - مسألة : الموقوف والمرسل لا تقوم بهما حجة
94 - مسألة : والقرآن ينسخ القرآن , والسنة تنسخ السنة والقرآن
95 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر
96 - مسألة : والإجماع هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله ﷺ عرفوه وقالوا به ولم يختلف منهم أحد
97 - مسألة : وما صح فيه خلاف من واحد منهم أو لم يتيقن أن كل واحد منهم رضي الله عنهم عرفه ودان به فليس إجماعا
98 - مسألة : ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم عن آخرهم على حكم نص لا يقطع فيه بإجماع الصحابة
99 - مسألة : والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله ﷺ لا إلى شيء غيرهما
100 - مسألة : ولا يحل القول بالقياس في الدين ، ولا بالرأي
101 - مسألة : وأفعال النبي ﷺ ليست فرضا إلا ما كان منها بيانا لامر
102 - مسألة : ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا ﷺ
103 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا , لا حيا ، ولا ميتا
104 - مسألة : وإذا قيل له إذا سأل عن أعلم أهل بلده بالدين : هذا صاحب حديث عن النبي ﷺ : وهذا صاحب رأي وقياس : فليسأل صاحب الحديث
105 - مسألة : ولا حكم للخطإ ، ولا النسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما حكم
106 - مسألة : وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان , فإن قدر عليه لزمه , وإن عجز عن جميعه سقط عنه
107 - مسألة : ولا يجوز أن يعمل أحد شيئا من الدين مؤقتا بوقت قبل وقته
108 - مسألة : والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب
109 - مسألة : والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ
========
فهارس كتاب الطهارة 110 - مسألة : الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء
111 - مسألة : ولا يجزئ الوضوء إلا بنية الطهارة للصلاة فرضا وتطوعا
112 - مسألة : ويجزئ الوضوء قبل الوقت وبعده
113 - مسألة : فإن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء
114 - مسألة : ولا تجزئ النية في ذلك ، ولا في غيره من الأعمال إلا قبل الابتداء بالوضوء
115 - مسألة : ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة
116 - مسألة : وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز
117 - مسألة : وكذلك الآذان والإقامة يجزئان أيضا بلا طهارة وفي حال الجنابة
118 - مسألة : ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل أو النوم ولرد السلام ولذكر الله تعالى
119 - مسألة : والشرائع لا تلزم إلا بالاحتلام أو بالإنبات للرجل والمرأة أو بإنزال الماء الذي يكون منه الولد
120 - مسألة : وإزالة النجاسة وكل ما أمر الله تعالى بإزالته فهو فرض
121 - مسألة : فما كان في الخف أو النعل من دم أو خمر أو عذرة أو بول أو غير ذلك , فتطهيرهما بأن يمسحا بالتراب حتى يزول الأثر
122 - مسألة : وتطهير القبل والدبر من البول والغائط والدم من الرجل والمرأة لا يكون إلا بالماء
123 - مسألة : وتطهير بول الذكر أي ذكر كان في أي شيء كان فبأن يرش الماء عليه رشا يزيل أثره , وبول الآنثى يغسل
124 - مسألة : وتطهير دم الحيض أو أي دم كان , سواء دم سمك كان أو غيره إذا كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء
125 - مسألة : والمذي تطهيره بالماء , يغسل مخرجه من الذكر وينضح بالماء ما مس منه الثوب
126 - مسألة : وتطهير الإناء إذا كان لكتابي من كل ما يجب تطهيره منه بالماء
127 - مسألة : فإن ولغ في الإناء كلب , أي إناء كان وأي كلب كان كلب صيد أو غيره , صغيرا أو كبيرا فالفرض إهراق ما في ذلك الإناء كائنا ما كان ثم يغسل بالماء سبع مر
128 - مسألة : فإن ولغ في الإناء الهر لم يهرق ما فيه
129 - مسألة : وتطهير جلد الميتة , أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك فإنه بالدباغ
130 - مسألة : وإناء الخمر إن تخللت الخمر فيه فقد صار طاهرا
131 - مسألة : والمني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو في الثوب
132 - مسألة : وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا , فكل ذلك طاهر
133 - مسألة : ولعاب المؤمنين من الرجال والنساء الجنب منهم والحائض وغيرهما ولعاب الخيل وكل ما يؤكل لحمه , وعرق كل ذلك ودمعه , وسؤر كل ما يؤكل لحمه طاهر
134 - مسألة : ولعاب الكفار من الرجال والنساء الكتابيين وغيرهم نجس كله
135 - مسألة : وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل ما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه من خنزير أو سبع أو حمار أهلي أو دجاج مخلى أو غير مخلى
136 - مسألة : وكل شيء مائع من ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو غير ذلك إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه
137 - مسألة : البول كله من كل حيوان إنسان أو غير إنسان , مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه
138 - مسألة : والصوف والوبر والقرن والسن يؤخذ من حي فهو طاهر ، ولا يحل أكله
139 - مسألة : وكل ذلك من الكافر نجس ومن المؤمن طاهر
140 - مسألة : وألبان الجلالة حرام , وهي الإبل التي تأكل الجلة وهي العذرة والبقر والغنم كذلك
141 - مسألة : والوضوء بالماء المستعمل جائز
142 - مسألة : ونيم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش
143 - مسألة : والقيء من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه
144 - مسألة : والخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس حرام واجب اجتنابه
145 - مسألة : ونبيذ البسر والتمر والزهو والرطب
146 - مسألة : ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول
147 - مسألة : كل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه
148 - مسألة : إن سقط عنه اسم الماء جملة , كالنبيذ وغيره
149 - مسألة : وفرض على كل مستيقظ من نوم ألا يدخل يده في وضوئه
150 - مسألة : ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد
151 - مسألة : وكل ماء توضأت منه امرأة حائض أو غير حائض أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا , لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل
152 - مسألة : ولا يحل الوضوء بماء أخذ بغير حق , ولا من إناء مغصوب أو مأخوذ بغير حق
153 - مسألة : ولا يجوز الوضوء ، ولا الغسل من إناء ذهب ، ولا من إناء فضة لا لرجل ، ولا لامرأة
154 - مسألة : ولا يحل الوضوء من ماء بئار الحجر
155 - مسألة : وكل ماء اعتصر من شجر , كماء الورد وغيره , فلا يحل الوضوء به للصلاة
156 - مسألة : والوضوء للصلاة والغسل للفروض جائز بماء البحر وبالماء المسخن والمشمس
157 - مسألة : الأشياء الموجبة للوضوء ، ولا يوجب الوضوء غيرها
158 - مسألة : والنوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قل أو كثر
159 - مسألة : والمذي والبول والغائط من أي موضع خرج من الدبر والإحليل أو من جرح في المثانة
160 - مسألة : والريح الخارجة من الدبر خاصة لا من غيره
161 - مسألة : فمن كان مستنكحا بشيء مما ذكرنا توضأ
162 - مسألة : هذه الوجوه تنقض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة
163 - مسألة : ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه من باطن يده أو من ظاهرها أو بذراعه حاشا مسه بالفخذ أو الساق أو الرجل من نفسه فلا يوجب وضوءا
164 - مسألة : وأكل لحوم الإبل نيئة ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم جمل أو ناقة فإنه ينقض الوضوء
165 - مسألة : مس الرجل المرأة والمرأة الرجل
166 - مسألة : إيلاج الذكر في الفرج يوجب الوضوء , كان معه إنزال أو لم يكن
167 - مسألة : حمل الميت في نعش أو في غيره
168 - مسألة : ظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء
169 - مسألة : قال علي : لا ينقض الوضوء شيء غير ما ذكرنا , لا رعاف ، ولا دم
170 - مسألة : إيلاج الحشفة أو إيلاج مقدارها من الذكر الذاهب الحشفة
171 - مسألة : لو أجنب كل من ذكرنا وجب عليه غسل الرأس وجميع الجسد
172 - مسألة : والجنابة هي الماء الذي يكون من نوعه الولد
173 - مسألة : وكيفما خرجت الجنابة المذكورة بضربة أو علة ...إلخ فالغسل واجب في ذلك
174 - مسألة : ولو أن امرأة وطئت ثم اغتسلت ثم خرج ماء الرجل من فرجها فلا شيء عليها
175 - مسألة : لو أن امرأة شفرها رجل فدخل ماؤه فرجها فلا غسل عليها إذا لم تنزل هي
176 - مسألة : لو أن رجلا أو امرأة أجنبا وكان منهما وطء دون إنزال فاغتسلا وبالا أو لم يبولا ثم خرج منهما أو من أحدهما بقية من الماء المذكور أو كله فالغسل وا
177 - مسألة : ومن أولج في الفرج وأجنب فعليه النية في غسله ذلك لهما معا
178 - مسألة : وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء
179 - مسألة : وغسل يوم الجمعة إنما هو لليوم لا للصلاة
180 - مسألة : وغسل كل ميت من المسلمين فرض
181 - مسألة : ومن غسل ميتا متوليا ذلك بنفسه بصب أو عرك فعليه أن يغتسل فرضا
182 - مسألة : ومن صب على مغتسل ونوى ذلك المغتسل الغسل أجزأه
183 - مسألة : وانقطاع دم الحيض في مدة الحيض ومن جملته دم النفاس يوجب الغسل
184 - مسألة : والنفساء والحائض شيء واحد
185 - مسألة : والمرأة تهل بعمرة ثم تحيض ففرض عليها أن تغتسل ثم تعمل في حجها
186 - مسألة : والمتصلة الدم الأسود الذي لا يتميز ، ولا تعرف أيامها فإن الغسل فرض عليها
187 - مسألة : ولا يوجب الغسل شيء غير ما ذكرنا
188 - مسألة : أما غسل الجنابة فيختار دون أن يجب ذلك فرضا أن يبدأ بغسل فرجه إن كان من جماع
189 - مسألة : وليس عليه أن يتدلك
190 - مسألة : ولا معنى لتخليل اللحية في الغسل ، ولا في الوضوء
191 - مسألة : وليس على المرأة أن تخلل شعر ناصيتها أو ضفائرها في غسل الجنابة فقط
192 - مسألة : ويلزم المرأة حل ضفائرها وناصيتها في غسل الحيض وغسل الجمعة والغسل من غسل الميت ومن النفاس
193 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب أي غسل كان في ماء جار أجزأه
194 - مسألة : لو انغمس من عليه غسل واجب في ماء راكد , ونوى الغسل أجزأه
195 - مسألة : من أجنب يوم الجمعة من رجل أو امرأة فلا يجزيه إلا غسلان
196 - مسألة : يكره للمغتسل أن يتنشف في ثوب غير ثوبه الذي يلبس
197 - مسألة : كل غسل ذكرنا فللمرء أن يبدأ به من رجليه أو من أي أعضائه شاء , حاشا غسل الجمعة والجنابة
198 - مسألة : صفة الوضوء أنه إن كان انتبه من نوم فعليه أن يغسل يديه ثلاثا
199 - مسألة : وأما مسح الآذنين فليسا فرضا , ولا هما من الرأس
200 - مسألة : وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح
201 - مسألة : كل ما لبس على الرأس من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك : أجزأ المسح عليها
202 - مسألة : قال أبو محمد : وسواء لبس ما ذكرنا على طهارة أو غير طهارة
203 - مسألة : ويمسح على كل ذلك أبدا بلا توقيت ، ولا تحديد
204 - مسألة : لو كان تحت ما لبس على الرأس خضاب أو دواء جاز المسح عليهما
205 - مسألة : ومن ترك مما يلزمه غسله في الوضوء أو الغسل الواجب ولو قدر شعرة عمدا أو نسيانا , لم تجزه الصلاة بذلك الغسل والوضوء
206 - مسألة : ومن نكس وضوءه أو قدم عضوا على المذكور قبله في القرآن عمدا أو نسيانا لم تجزه الصلاة
207 - مسألة : ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك
208 - مسألة : ويكره الإكثار من الماء في الغسل والوضوء
209 - مسألة : ومن كان على ذراعيه أو أصابعه أو رجليه جبائر أو دواء ملصق لضرورة فليس عليه أن يمسح على شيء من ذلك
210 - مسألة : ولا يجوز لاحد مس ذكره بيمينه جملة إلا عند ضرورة
211 - مسألة : ومن أيقن بالوضوء والغسل ثم شك هل أحدث أو كان منه ما يوجب الغسل أم لا فهو على طهارته
212 - مسألة : والمسح على كل ما لبس في الرجلين مما يحل لباسه مما يبلغ فوق الكعبين سنة
213 - مسألة : ويبدأ بعد اليوم والليلة المقيم وبعد الثلاثة أيام بلياليها المسافر من حين يجوز له المسح إثر حدثه
214 - مسألة : والرجال والنساء في كل ما ذكرنا سواء , وسفر الطاعة والمعصية في كل ذلك سواء
215 - مسألة : ومن توضأ فلبس أحد خفيه بعد أن غسل تلك الرجل ثم إنه غسل الآخرى بعد لباسه الخف على المغسولة , ثم لبس الخف الآخر ثم أحدث فالمسح له جائز
216 - مسألة : حكم إن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير , طولا أو عرضا , فظهر منه شيء من القدم , فكل ذلك سواء
217 - مسألة : إن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين فالمسح جائز عليهما
218 - مسألة : من لبس خفيه أو جوربيه أو غير ذلك على طهارة ثم خلع أحدهما دون الآخر , فإن فرضه أن يخلع الآخر إن كان قد أحدث
219 - مسألة : من مسح كما ذكرنا على ما في رجليه ثم خلعهما لم يضره ذلك شيئا , ولا يلزمه إعادة وضوء ، ولا غسل رجليه , بل هو طاهر
220 - مسألة : حكم من تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما أو خضب رجليه أو حمل عليهما دواء
221 - مسألة : حكم من مسح في الحضر ثم سافر قبل انقضاء اليوم والليلة أو بعد انقضائهما
222 - مسألة : والمسح على الخفين وما لبس على الرجلين إنما هو على ظاهرهما فقط
223 - مسألة : حكم من لبس على رجليه شيئا مما يجوز المسح عليه على غير طهارة ثم أحدث
224 - مسألة : لا يتيمم من المرضى إلا من لا يجد الماء , أو من عليه مشقة وحرج في الوضوء بالماء أو في الغسل به
225 - مسألة : وسواء كان السفر قريبا أو بعيدا , سفر طاعة كان أو سفر معصية أو مباحا
226 - مسألة : والمرض هو كل ما أحال الإنسان عن القوة والتصرف
227 - مسألة : ويتيمم من كان في الحضر صحيحا إذا كان لا يقدر على الماء إلا بعد خروج وقت الصلاة
228 - مسألة : والسفر الذي يتيمم فيه هو الذي يسمى عند العرب سفرا سواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو مما لا تقصر فيه الصلاة
229 - مسألة : ومن كان الماء منه قريبا إلا أنه يخاف ضياع رحله أو فوت الرفقة ....إلخ ففرضه التيمم
230 - مسألة : فإن طلب بحق فلا عذر له في ذلك ، ولا يجزيه التيمم
231 - مسألة : لو كان على بئر يراها ويعرفها في سفر وخاف فوات أصحابه أو فوت صلاة الجماعة أو خروج الوقت : تيمم
232 - مسألة : من كان الماء في رحله فنسيه أو كان بقربه بئر أو عين لا يدري بها فتيمم وصلى أجزأه
233 - مسألة : كل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم
234 - مسألة : وينقض التيمم أيضا وجود الماء
235 - مسألة : والمريض المباح له التيمم مع وجود الماء بخلاف ما ذكرنا , فإن صحته لا تنقض طهارته
236 - مسألة : والمتيمم يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات الفرض والنوافل ما لم ينتقض تيممه بحدث أو بوجود الماء
237 - مسألة : والتيمم جائز قبل الوقت وفي الوقت إذا أراد أن يصلي به نافلة أو فرضا كالوضوء
238 - مسألة : ومن كان في رحله ماء فنسيه فتيمم وصلى فصلاته تامة
239 - مسألة : ومن كان في البحر والسفينة تجري فإن كان قادرا على أخذ ماء البحر والتطهر به لم يجزه غير ذلك , فإن لم يقدر على أخذه تيمم وأجزأه
240 - مسألة : وكذلك من كان في سفر أو حضر وهو صحيح أو مريض فلم يجد إلا ماء يخاف على نفسه منه الموت أو المرض , ولا يقدر على تسخينه إلا حتى يخرج الوقت , فإنه
241 - مسألة : وليس على من لا ماء معه أن يشتريه للوضوء ، ولا للغسل
242 - مسألة : ومن كان معه ماء يسير يكفيه لشربه فقط ففرضه التيمم
243 - مسألة : ومن كان معه ماء يسير يكفيه للوضوء وهو جنب تيمم للجنابة وتوضأ بالماء
244 - مسألة : لو فضل له من الماء يسير فلو استعمله في بعض أعضائه ذهب ولم يمكنه أن يعم به سائر أعضائه , ففرضه غسل ما أمكنه والتيمم
245 - مسألة : من أجنب ، ولا ماء معه فلا بد له من أن يتيمم تيممين
246 - مسألة : ومن كان محبوسا في حضر أو سفر بحيث لا يجد ترابا ، ولا ماء أو كان مصلوبا وجاءت الصلاة فليصل كما هو
247 - مسألة : ومن كان في سفر ، ولا ماء معه أو كان مريضا يشق عليه استعمال الماء فله أن يقبل زوجته وأن يطأها
248 - مسألة : وجائز أن يؤم المتيمم المتوضئين , والمتوضئ المتيممين , والماسح الغاسلين والغاسل الماسحين
249 - مسألة : ويتيمم الجنب والحائض وكل من عليه غسل واجب كما يتيمم المحدث
250 - مسألة : وصفة التيمم للجنابة وللحيض ولكل غسل واجب وللوضوء صفة عمل واحد
251 - مسألة : وإن عدم الميت الماء يمم كما يتيمم الحي ; لان غسله فرض
252 - مسألة : ولا يجوز التيمم إلا بالأرض
253 - مسألة : قال الأعمش : يقدم في التيمم اليدان قبل الوجه
254 - مسألة : الحيض هو الدم الأسود الخاثر الكريه الرائحة خاصة
255 - مسألة : إذا رأت الطهر كما ذكرنا لم تحل لها الصلاة ، ولا الطواف بالكعبة حتى تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء, أو تتيمم
256 - مسألة : وأما وطء زوجها أو سيدها لها إذا رأت الطهر فلا يحل إلا بأن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء أو بأن تتيمم
257 - مسألة : ولا تقضي الحائض إذا طهرت شيئا من الصلاة التي مرت في أيام حيضها. وتقضي الصوم
258 - مسألة : وإن حاضت امرأة في أول وقت الصلاة أو في آخر الوقت ولم تكن صلت تلك الصلاة سقطت عنها , ولا إعادة عليها فيها
259 - مسألة : فإن طهرت في آخر وقت الصلاة بمقدار ما لا يمكنها الغسل والوضوء حتى يخرج الوقت , فلا تلزمها تلك الصلاة ، ولا قضاؤها
260 - مسألة : وللرجل أن يتلذذ من امرأته الحائض بكل شيء , حاشا الإيلاج في الفرج
261 - مسألة : ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض
262 - مسألة : وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا وأن يدخلا المسجد وكذلك الجنب
263 - مسألة : ومن وطئ حائضا فقد عصى الله تعالى , وفرض عليه التوبة والاستغفار
264 - مسألة : وكل دم رأته الحامل ما لم تضع آخر ولد في بطنها , فليس حيضا ، ولا نفاسا
265 - مسألة : وإن رأت العجوز المسنة دما أسود فهو حيض مانع من الصلاة والصوم والطواف والوطء
266 - مسألة : وأقل الحيض دفعة , فإذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن الصلاة والصوم وحرم وطؤها
267 - مسألة : ولا حد لاقل الطهر ، ولا لاكثره
268 - مسألة : ولا حد لأقل النفاس
269 - مسألة : فإن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض
270 - مسألة : السواك مستحب , ولو أمكن لكل صلاة لكان أفضل , ونتف الإبط والختان وحلق العانة وقص الأظفار
271 - مسألة : لا يحل الوضوء ولا الغسل ولا الشرب ولا الأكل، لا لرجل ولا لامرأة في إناء عمل من عظم ابن آدم أو من عظم خنزير
272 - مسألة : ثم كل إناء بعد هذا من صفر أو نحاس أو رصاص أو قزدير أو بلور أو زمرد أو ياقوت أو غير ذلك فمباح الأكل فيه والشرب والوضوء والغسل
273 - مسألة : من عجز عن بعض أعضائه في الطهارة
274 - مسألة : من شك في الماء
=========
========================================================================================================
كتاب الطهارة
110 - مسألة : الوضوء للصلاة فرض لا تجزئ الصلاة إلا به لمن وجد الماء.
هذا إجماع لا خلاف فيه من أحد ، وأصله قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } .
111 - مسألة : ولا يجزئ الوضوء إلا بنية الطهارة للصلاة فرضا وتطوعا لا يجزئ أحدهما دون الآخر ، ولا صلاة دون صلاة.
برهان ذلك الآية المذكورة:
لإن الله تعالى لم يأمر فيها بالوضوء إلا للصلاة على عمومها ، لم يخص تعالى صلاة من صلاة فلا يجوز تخصيصها ، ولا يجزئ لغير ما أمر الله تعالى به.
وقال أبو حنيفة : يجزئ الوضوء والغسل بلا نية وبنية التبرد والتنظف.
كان حجتهم أن قالوا : إنما أمر بغسل جسمه أو هذه الأعضاء فقد فعل ما أمر به .
وقالوا : قسنا ذلك على إزالة النجاسة فإنها تجزئ بلا نية .
ومن قولهم : إن التيمم لا يجزئ إلا بنية.
وقال الحسن بن حي : الوضوء والغسل والتيمم يجزئ كل ذلك بلا نية .
وقال أبو يوسف : إن انغمس جنب في بئر ليخرج دلوا منها لم يجزه ذلك من غسل الجنابة .
وقال محمد بن الحسن : يجزيه من غسل الجنابة.
قال علي : أما احتجاجهم بأنه إنما أمر بغسل جسمه أو هذه الأعضاء وقد فعل ما أمر به ، فكذب بل ما أمر إلا بغسلها بنية القصد إلى العمل الذي أمره الله تعالى به في ذلك الوجه ، قال الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين }
فنفى عز وجل أن يكون أمرنا بشيء إلا بعبادته مفردين له نياتنا بدينه الذي أمرنا به فعم بهذا جميع أعمال الشريعة كلها.
حدثنا حمام بن أحمد ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا أبو زيد المروي ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول ، سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر : سمعت رسول الله ﷺ يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى
فهذا أيضا عموم لكل عمل ، ولا يجوز أن يخص به بعض الأعمال دون بعض بالدعوى.
وأما قياسهم ذلك على إزالة النجاسة فباطل لانه قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لوجوه : منها أن يقال لهم : ليس قياسكم الوضوء والغسل على إزالة النجاسة بأولى من قياسكم ذلك على التيمم الذي هو وضوء في بعض الأحوال أيضا ، وكما قستم التيمم على الوضوء في بعض الأحوال وهو بلوغ المسح إلى المرفقين ، فهلا قستم الوضوء على التيمم في أنه لا يجزئ كل واحد منهما إلا بنية ، لإن كليهما طهر للصلاة.
فإن قالوا : إن الله تعالى قال : فتيمموا صعيدا طيبا ولم يقل ذلك في الوضوء
قلنا نعم فكان ماذا !!
وكذلك قال الله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} فصح أنه لا يجزئ ذلك الغسل إلا للصلاة بنص الآية .
والوجه الثاني أن دعواهم أن غسل النجاسة يجزئ بلا نية باطل ليس كما قالوا .
بل كل تطهير لنجاسة أمر الله تعالى به على صفة ما فإنه لا يجزئ إلا بنية وعلى تلك الصفة لقول رسول الله ﷺ : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
وقد ذكرناه بإسناده قبل ، وكل نجاسة ليس فيها أمر بصفة ما فإنما على الناس أن يصلوا بغير نجاسة في أجسامهم ، ولا في ثيابهم ، ولا في موضع صلاتهم ، فإذا صلوا كذلك فقد فعلوا ما أمروا به ، فظهر فساد احتجاجهم وعظم تناقضهم في الفرق بين الوضوء والغسل وبين التيمم والصلاة وغير ذلك من الأعمال بلا برهان ، واختلافهم في الجنب ينغمس في البئر كما ذكرنا بلا دليل .
وقال بعضهم : لو احتاج الوضوء إلى نية لاحتاجت النية إلى نية وهكذا أبدا .
قلنا لهم : هذا لازم لكم فيما أوجبتم من النية للتيمم وللصلاة وهذا محال ، لإن النية المأمور بها هي مأمور بها لنفسها ، لانها القصد إلى ما أمر به فقط .
وأما الحسن بن حي فإنه ينقض قوله بالآية التي ذكرنا والحديث الذي أوردناه .
وقولنا في هذا قول مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود وغيرهم وبالله تعالى التوفيق .
112 - مسألة : ويجزئ الوضوء قبل الوقت وبعده ، وقال بعض الناس ، لا يجزئ الوضوء ، ولا التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة ، وقال آخرون : يجزئ الوضوء قبل الوقت ، ولا يجزئ التيمم إلا بعد الوقت ، وقال آخرون : الوضوء والتيمم يجزيان قبل الوقت.
واحتج من رأى كل ذلك لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت بقول الله تعالى ﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه .
قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة عليهم كافية ; لإن الله تعالى لم يقل : إذا قمتم إلى صلاة فرض ، ولا إذا دخل وقت صلاة فرض فقمتم إليها .
بل قال عز وجل : إذا قمتم إلى الصلاة
فعم تعالى ولم يخص ، والصلاة تكون فرضا وتكون تطوعا بلا خلاف ، وقد أجمع أهل الأرض قاطبة من المسلمين على أن صلاة التطوع لا تجزئ إلا بطهارة من وضوء أو تيمم أو غسل ، ولا بد ، فوجب بنص الآية ضرورة أن المرء إذا أراد صلاة فرض أو تطوع وقام إليها أن يتوضأ أو يغتسل إن كان جنبا أو يتيمم إن كان من أهل التيمم ثم ليصل ، فإن ذلك نص الآية بيقين فإذا أتم المرء غسله أو وضوءه أو تيممه فقد طهر بلا شك.
وإذ قد صحت طهارته فجائز له أن يجعل بين طهارته وبين الصلاة التي قام إليها مهلة من مشي أو حديث أو عمل .
لإن الآية لم توجب اتصال الصلاة بالطهارة لا بنصها ، ولا بدليل فيها .
وإذا جاز أن يكون بين طهارته وبين صلاته مهلة فجائز أن تمتد المهلة ما لم يمنع من تماديها قرآن أو سنة .
وذلك يمتد إلى آخر أوقات الفرض .
وأما في التطوع فما شاء. فصح بنص الآية جواز التطهر بالغسل وبالوضوء وبالتيمم قبل وقت صلاة الفرض ، وإنما وجب بنص الآية أن لا يكون شيء من ذلك إلا بنية التطهر للصلاة فقط ، ولا مزيد .
ودليل آخر : وهو أن الصلاة جائزة بلا خلاف في أول وقتها ، فإذا ذلك كذلك فلا يكون ذلك ألبتة إلا وقد صحت الطهارة لها قبل ذلك ، وهذا ينتج ، ولا بد جواز التطهر بكل ذلك قبل أول الوقت .
برهان آخر ، وهو ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، عن مالك ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ : (( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح فكأنما قدم بدنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر.
فهذا نص جلي على جواز الوضوء للصلاة والتيمم لها قبل دخول وقتها ، لإن الإمام يوم الجمعة لا بد ضرورة من أن يخرج قبل الوقت أو بعد دخول الوقت ، وأي الأمرين كان فتطهر هذا الرائح من أول النهار كان قبل وقت الجمعة بلا شك ، وقد علم رسول الله ﷺ أن في الرائحين إلى الجمعة المتيمم في السفر والمتوضئ .
وأما من فرق بين جواز الوضوء قبل الوقت وجواز التيمم قبل الوقت فمنع منه ، فإنهم ادعوا أن حكم الآية يوجب أن يكون كل ذلك بعد الوقت ، وادعوا أن الوضوء خرج بصلاة رسول الله ﷺ يوم الفتح الصلوات كلها بوضوء واحد ، وهذا لا حجة لهم فيه ; لانه ليس في هذا الخبر أن رسول الله ﷺ توضأ قبل دخول وقت الصلاة ، ولعله توضأ بعد دخول الوقت ثم بقي يصلي بطهارته ما لم تنتقض ، فإذا هذا ممكن فلا دليل في هذا الخبر على جواز الوضوء قبل دخول الوقت . وبالله تعالى التوفيق .
113 - مسألة : فإن خلط بنية الطهارة للصلاة نية لتبرد أو لغير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء .
برهان ذلك قول الله تعالى ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء )
فمن مزج بالنية التي أمر بها نية لم يؤمر بها ، فلم يخلص لله تعالى العبادة بدينه ذلك ، وإذا لم يخلص فلم يأت بالوضوء الذي أمره الله تعالى به ، فلو نوى مع وضوئه للصلاة أن يعلم الوضوء من بحضرته أجزأته الصلاة به ، لإن تعليم الناس الدين مأمور به. وبالله تعالى التوفيق.
114 - مسألة : ولا تجزئ النية في ذلك ، ولا في غيره من الأعمال إلا قبل الابتداء بالوضوء أو بأي عمل كان متصلة بالابتداء به لا يحول بينهما وقت قل أم كثر .
برهان ذلك أن النية لما صح أنها فرض في العمل وجب أن تكون لا يخلو منها شيء من العمل ، وإذا لم تكن كما ذكرنا فهي إما أن يحول بينها وبين العمل زمان فيصير العمل بلا نية .
وأيضا فإنه لو جاز أن يحول بين النية وبين العمل دقيقة لجاز أن يحول بينهما دقيقتان وثلاث وأربع ، وما زاد إلى أن يبلغ الأمر إلى عشرات أعوام .
وأما أن يكون مقارنا للنية فيكون أول العمل خاليا من نية دخل فيه بها ، لإن النية هي القصد بالعمل والإرادة به ما افترض الله تعالى في ذلك العمل ، وهذا لا يكون إلا معتقدا قبل العمل ومعه كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
115 - مسألة : ومن غمس أعضاء الوضوء في الماء ونوى به الوضوء للصلاة ، أو وقف تحت ميزاب حتى عمها الماء ونوى بذلك الوضوء للصلاة ، أو صب الماء على أعضاء الوضوء للصلاة ، أو صب الماء على أعضاء الوضوء غيره ونوى هو بذلك الوضوء للصلاة أجزأه .
برهان ذلك أن اسم " غسل " يقع على ذلك كله في اللغة التي بها نزل القرآن ، ومن ادعى أن اسم الغسل لا يقع إلا على التدلك باليد فقد ادعى ما لا برهان له به وقولنا هذا قول أبي حنيفة والشافعي وداود. وبالله تعالى التوفيق.
116 - مسألة : وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز ، كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب والحائض .
برهان ذلك أن قراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى أفعال خير مندوب إليها مأجور فاعلها ، فمن ادعى المنع فيها في بعض الأحوال كلف أن يأتي بالبرهان .
فأما قراءة القرآن فإن الحاضرين من المخالفين موافقون لنا في هذا لمن كان على غير وضوء ، واختلفوا في الجنب والحائض. فقالت طائفة : لا تقرأ الحائض ، ولا الجنب شيئا من القرآن ، وهو قول روي ، عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وعن غيرهما روي أيضا كالحسن البصري وقتادة والنخعي وغيرهم .
وقالت طائفة : أما الحائض فتقرأ ما شاءت من القرآن.
وأما الجنب فيقرأ الآيتين ونحوهما ، وهو قول مالك .
وقال بعضهم : لا يتم الآية ، وهو قول أبي حنيفة.
فأما من منع الجنب من قراءة شيء من القرآن ، فاحتجوا بما رواه عبد الله بن سلمة ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ لم يكن يحجزه ، عن القرآن شيء ليس الجنابة وهذا لا حجة لهم فيه ; لانه ليس فيه نهي ، عن أن يقرأ الجنب القرآن ، وإنما هو فعل منه عليه السلام لا يلزم ، ولا بين عليه السلام أنه إنما يمتنع من قراءة القرآن من أجل الجنابة.
وقد يتفق له عليه السلام ترك القراءة في تلك الحال ليس من أجل الجنابة ، وهو عليه السلام لم يصم قط شهرا كاملا غير رمضان ، ولم يزد قط في قيامه على ثلاث عشرة ركعة ، ولا أكل قط على خوان ، ولا أكل متكئا.
أفيحرم أن يصام شهر كامل غير رمضان أو أن يتهجد المرء بأكثر من ثلاث عشرة ركعة ، أو أن يأكل على خوان ، أو أن يأكل متكئا هذا لا يقولونه ، ومثل هذا كثير جدا.
وقد جاءت آثار في نهي الجنب ومن ليس على طهر ، عن أن يقرأ شيئا من القرآن ، ولا يصح منها شيء ، وقد بينا ضعف أسانيدها في غير موضع ، ولو صحت لكانت حجة على من يبيح له قراءة الآية التامة أو بعض الآية ; لانها كلها نهي ، عن قراءة القرآن للجنب جملة.
وأما من قال يقرأ الجنب الآية أو نحوها ، أو قال لا يتم الآية ، أو أباح للحائض ومنع الجنب فأقوال فاسدة ; لانها دعاوى لا يعضدها دليل لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة.
ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، ولا من رأي سديد ، لإن بعض الآية والآية قرآن بلا شك ، ولا فرق بين أن يباح له آية أو أن يباح له أخرى ، أو بين أن يمنع من آية أو يمنع من أخرى ، وأهل هذه الأقوال يشنعون مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف ، وهم قد خالفوا ههنا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسلمان الفارسي ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة. رضي الله عنهم .
وأيضا فإن من الآيات ما هو كلمة واحدة مثل والضحى و مدهامتان و والعصر و والفجر ومنها كلمات كثيرة كآية الدين ، فإذ لا شك في هذا. فإن في إباحتهم له قراءة آية الدين والتي بعدها أو آية الكرسي أو بعضها ، ولا يتمها ، ومنعهم إياه من قراءة والفجر وليال عشر والشفع والوتر أو منعهم له من إتمام مدهامتان لعجبا.
وكذلك تفريقهم بين الحائض والجنب بأن أمد الحائض يطول ، فهو محال ، لانه إن كانت قراءتها للقرآن حراما فلا يبيحه لها طول أمدها ، وإن كان ذلك لها حلالا فلا معنى للاحتجاج بطول أمدها.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، عن قاسم بن أصبغ ، عن محمد بن وضاح ، عن موسى بن معاوية ، حدثنا ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ربيعة قال : لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن .
وبه إلى موسى بن معاوية ، حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، حدثنا إدريس ، عن حماد قال سألت سعيد بن المسيب ، عن الجنب هل يقرأ القرآن فقال : وكيف لا يقرؤه وهو في جوفه .
وبه إلى يوسف السمتي ، عن نصر الباهلي. قال : كان ابن عباس يقرأ البقرة وهو جنب .
أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عون الله ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن حماد بن أبي سليمان قال : سألت سعيد بن جبير ، عن الجنب يقرأ فلم ير به بأسا وقال : أليس في جوفه القرآن وهو قول داود وجميع أصحابنا.
وأما سجود القرآن فإنه ليس صلاة أصلا ، لما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ومحمد بن جعفر قالا ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء أنه سمع عليا الأزدي وهو علي بن عبد الله البارقي ثقة أنه سمع ابن عمر يقول ، عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد صح عنه عليه السلام ، أنه قال : الوتر ركعة من آخر الليل .
فصح أن ما لم يكن ركعة تامة أو ركعتين فصاعدا فليس صلاة.
والسجود في قراءة القرآن ليس ركعة ، ولا ركعتين فليس صلاة ، وإذ ليس هو صلاة فهو جائز بلا وضوء ، وللجنب وللحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر ، ولا فرق ، إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة فقط ، إذ لم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس.
فإن قيل : إن السجود من الصلاة ، وبعض الصلاة صلاة.
قلنا وبالله تعالى التوفيق : هذا باطل ; لانه لا يكون بعض الصلاة صلاة إلا إذا تمت كما أمر بها المصلي ، ولو أن امرأ كبر وركع ثم قطع عمدا لما قال أحد من أهل الإسلام إنه صلى شيئا ، بل يقولون كلهم إنه لم يصل ، فلو أتمها ركعة في الوتر أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف.
ثم نقول لهم : إن القيام بعض الصلاة والتكبير بعض الصلاة وقراءة أم القرآن بعض الصلاة والجلوس بعض الصلاة ، والسلام بعض الصلاة ، فيلزمكم على هذا أن لا تجيزوا لاحد أن يقول ، ولا أن يكبر ، ولا أن يقرأ أم القرآن ، ولا يجلس ، ولا يسلم إلا على وضوء ، فهذا ما لا يقولونه ، فبطل احتجاجهم ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قالوا هذا إجماع .
قلنا لهم : قد أقررتم بصحة الإجماع على بطلان حجتكم وإفساد علتكم وبالله تعالى التوفيق.
وأما مس المصحف فإن الآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه فإنه لا يصح منها شيء ; لانها إما مرسلة
وأما صحيفة لا تسند
وأما ، عن مجهول
وأما ، عن ضعيف .
وقد تقصيناها في غير هذا المكان .
وإنما الصحيح ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ، حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ، حدثنا سعيد بن السكن ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أنه كان عند هرقل فدعا هرقل بكتاب رسول الله ﷺالذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل فقرأه ، فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. فهذا رسول الله ﷺ قد بعث كتابا وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون ذلك الكتاب .
فإن ذكروا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان ينهى النبي ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو يخاف أن يناله العدو فهذا حق يلزم اتباعه وليس فيه أن لا يمس المصحف جنب ، ولا كافر. وإنما فيه أن لا ينال أهل أرض الحرب القرآن فقط .
فإن قالوا : إنما بعث رسول الله ﷺ إلى هرقل آية واحدة. قيل لهم : ولم يمنع r من غيرها وأنتم أهل قياس فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها .
فإن ذكروا قول الله تعالى ﴿ في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون فهذا لا حجة لهم فيه لانه ليس أمرا وإنما هو خبر. والله تعالى لا يقول إلا حقا. ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن.
فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عز وجل لم يعن المصحف وإنما عنى كتابا آخر .
كما أخبرحدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن جامع بن أبي راشد ، عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى ﴿ لا يمسه إلا المطهرون ) قال : الملائكة الذين في السماء .
حدثنا حمام بن أحمد حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا يحيى بن العلاء ، عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة قال : أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف له .
فقلنا له : لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا فقال سلمان : إنما قال الله عز وجل : في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون وهو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة .
حدثحدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثنا منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة بن قيس : إنه كان إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نصرانيا فنسخه له.
وقال أبو حنيفة : لا بأس أن يحمل الجنب المصحف بعلاقته ، ولا يحمله بغير علاقة . وغير المتوضئ عندهم كذلك .
وقال مالك : لا يحمل الجنب ، ولا غير المتوضئ المصحف لا بعلاقة ، ولا على وسادة. فإن كان في خرج أو تابوت فلا بأس أن يحمله اليهودي والنصراني والجنب وغير الطاهر .
قال علي : هذه تفاريق لا دليل على صحتها لا من قرآن ، ولا من سنة لا صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من إجماع ، ولا من قياس ، ولا من قول صاحب .
ولئن كان الخرج حاجزا بين الحامل وبين القرآن فإن اللوح وظهر الورقة حاجز أيضا بين الماس وبين القرآن ، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق .
117 - مسألة : وكذلك الآذان والإقامة يجزئان أيضا بلا طهارة وفي حال الجنابة. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وقول أبي سليمان وأصحابنا .
وقال الشافعي : يكره ذلك ويجزئ إن وقع. وقال عطاء : لا يؤذن المؤذن إلا متوضئا .
وقال مالك : يؤذن من ليس على وضوء ، ولا يقيم إلا متوضئ .
قال علي : هذا فرق لا دليل على صحته لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس .
فإن قالوا إن الإقامة متصلة بالصلاة ، قيل لهم : وقد لا تتصل ويكون بينهما مهلة من حديث بدأ فيه الإمام مع إنسان يمكن فيه الغسل والوضوء ، وقد يكون الآذان متصلا بالإقامة والصلاة ، كصلاة المغرب وغيرها ، ولا فرق وإذا لم يأت نص بإيجاب أن لا يكون الآذان والإقامة إلا بطهارة من الجنابة وغيرها ، فقول من أوجب ذلك خطأ ، لانه إحداث شرع من غير قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع وهذا باطل .
فإن قيل : قد صح ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : كرهت أن أذكر الله إلا على طهر .
قيل لهم : هذه كراهة لا منع ، وهو عليكم لا لكم لانكم تجيزون الآذان وقراءة القرآن وذكر الله تعالى على غير طهر.
وهذا هو الذي نص على كراهته في الخبر وأنتم لا تكرهونه أصلا ، فهذا الخبر أعظم حجة عليكم .
وأما نحن فهو قولنا ، وكل ما ذكرنا فهو عندنا على طهارة أفضل ، ولا نكرهه على غير طهارة ، لإن هذه الكراهة منسوخة على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
118 - مسألة : ويستحب الوضوء للجنب إذا أراد الأكل أو النوم ولرد السلام ولذكر الله تعالى ، وليس ذلك بواجب .
فإن قيل : فهلا أوجبتم ذلك كله لقول رسول الله ﷺ إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ولقوله ﷺ لعمر بن الخطاب إذ ذكر له أنه تصيبه الجنابة من الليل فقال له رسول الله ﷺ: توضأ واغسل ذكرك ثم نم ولما روته عائشة أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة .
قلنا وبالله تعالى التوفيق : أما الحديث في كراهة ذكر الله تعالى إلا على طهر فإنه منسوخ بما حدثناه عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا صدقة ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي حدثني عمير بن هانئ حدثني جنادة بن أبي أمية ، حدثنا عبادة بن الصامت ، عن النبي ﷺ قال : من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ، ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته .
قال علي : فهذه إباحة لذكر الله تعالى بعد الانتباه من النوم في الليل وقبل الوضوء نصا ، وهي فضيلة ، والفضائل لا تنسخ لانها من نعم الله علينا ، قال الله تعالى ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وهذا أمر باق غير منسوخ بلا خلاف من أحد.
وقال تعالى ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا عموم ضمان لا يخيس قال الله تعالى ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد وقد أيقنا بما ذكرنا قبل من إخباره عليه السلام ، أنه قال : لا تزال طائفة من أمتي على الحق أن جميع الآمة لا تغير أصلا .
وإذا صح أن الآمة كلها لا تغير أبدا ، فقد أيقنا أن الله تعالى لا يغير نعمه عند الآمة أبدا. وبالله تعالى التوفيق.
وأما أمره عليه السلام بالوضوء فهو ندب ، لما حدثناه حمام قال : حدثنا عمر بن مفرج قال ، حدثنا ابن الأعرابي قال ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة أم المؤمنين قالت كان رسول الله ﷺ ينام جنبا ، ولا يمس ماء وهذا لفظ يدل على مداومته ﷺ لذلك وهي ، رضي الله عنها ، أحدث الناس عهدا بمبيته ونومه جنبا وطاهرا.
فإن قيل : إن هذا الحديث أخطأ فيه سفيان ; لإن زهير بن معاوية خالفه فيه .
قلنا : بل أخطأ بلا شك من خطأ سفيان بالدعوى بلا دليل ، وسفيان أحفظ من زهير بلا شك. وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وكان اللازم للقائلين بالقياس أن يقولوا : لما كانت الصلاة وهي ذكر لا تجزئ إلا بوضوء ، أن يكون سائر الذكر كذلك ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه ، ولا يمكنهم ههنا دعوى الإجماع ، لما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان لا يقرأ القرآن ، ولا يرد السلام ، ولا يذكر الله إلا وهو طاهر .
إلا معاودة الجنب للجماع فالوضوء عليه فرض بينهما.
للخبر الذي رويناه من طريق حفص بن غياث وابن عيينة كلاهما ، عن عاصم الأحول ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءا هذا لفظ حفص بن غياث ولفظ ابن عيينة إذا أراد أن يعود فلا يعود حتى يتوضأ ولم نجد لهذا الخبر ما يخصصه ، ولا ما يخرجه إلى الندب إلا خبرا ضعيفا من رواية يحيى بن أيوب ، وبإيجاب الوضوء في ذلك يقول عمر بن الخطاب وعطاء وعكرمة ، وإبراهيم والحسن ، وابن سيرين .
119 - مسألة : والشرائع لا تلزم إلا بالاحتلام أو بالإنبات للرجل والمرأة أو بإنزال الماء الذي يكون منه الولد ، وإن لم يكن احتلام ، أو بتمام تسعة عشر عاما ، كل ذلك للرجل والمرأة أو بالحيض للمرأة .
برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان هو الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن عبد الله بن عباس ، أن علي بن أبي طالب قال لعمر بن الخطاب : أوما تذكر أن رسول الله ﷺ قال : رفع القلم ، عن ثلاث ; ، عن المجنون المغلوب على عقله ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم والصبي لفظ يعم الصنف كله الذكر والآنثى في اللغة التي بها خوطبنا.
حدثنا حمام بن أحمد ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا عبد الله بن روح ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عطية القرظي قال : لما كان يوم قريظة جعل رسول الله ﷺ من أنبت ضرب عنقه ، فكنت فيمن لم ينبت فعرضت على رسول الله ﷺ فخلى عني .
قال علي : لا معنى لمن فرق بين أحكام الإنبات ، فأباح سفك الدم به في الآسارى خاصة ، جعله هنالك بلوغا ، ولم يجعله بلوغا في غير ذلك ; لإن من المحال أن يكون رسول الله ﷺ يستحل دم من لم يبلغ مبلغ الرجال ، ويخرج ، عن الصبيان الذين قد صح نهي النبي ﷺ ، عن قتلهم. ومن الممتنع المحال أن يكون إنسان واحد رجلا بالغا غير رجل ، ولا بالغ معا في وقت واحد .
وأما ظهور الماء في اليقظة الذي يكون منه الحمل فيصير به الذكر أبا والآنثى أما فبلوغ لا خلاف فيه من أحد .
وأما استكمال التسعة عشر عاما فإجماع متيقن ، وأصله أن رسول الله r ورد المدينة وفيها صبيان وشبان وكهول ، فألزم الأحكام من خرج ، عن الصبا إلى الرجولة ، ولم يلزمها الصبيان ، ولم يكشف أحدا من كل من حواليه من الرجال : هل احتلمت يا فلان وهل أشعرت وهل أنزلت وهل حضت يا فلانة هذا أمر متيقن لا شك فيه .
فصح يقينا أن ههنا سنا إذا بلغها الرجل أو المرأة فهما ممن ينزل أو ينبت أو يحيض ، إلا أن يكون فيهما آفة تمنع من ذلك ، كما بالأطلس آفة منعته من اللحية ، لولاها لكان من أهل اللحى بلا شك ، هذا أمر يعرف بما ذكرنا من التوقف وبضرورة الطبيعة الجارية في جميع أهل الأرض ، ولا شك في أن من أكمل تسع عشرة سنة ودخل في عشرين سنة فقد فارق الصبا ولحق بالرجال لا يختلف اثنان من أهل كل ملة وبلدة في ذلك وإن كانت به آفة منعته من إنزال المني في نوم أو يقظة ، ومن إنبات الشعر ومن الحيض .
وأما الحيض فحدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ، حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثحدثنا محمد بن الجارود القطان ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن صفية بنت الحارث ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله ﷺ قال : لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فأخبر عليه السلام أن الحائض تلزمها الأحكام ، وأن صلاتها تقبل على صفة ما ، ولا تقبل على غيرها.
وقال الشافعي : من استكمل خمس عشرة سنة فهو بالغ .
واحتج بأن رسول الله ﷺ عرض عليه ابن عمر يوم أحد ، و، هو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق هو ورافع بن خديج وهما ابنا خمس عشرة سنة فأجازهما .
قال علي : وهذا لا حجة له فيه لوجهين :
أحدهما أن رسول الله ﷺ لم يقل إني أجزتهما من أجل أنهما ابنا خمس عشرة سنة ، فإذ ذلك كذلك فلا يجوز لاحد أن يضيف إليه عليه السلام ما لم يخبر به ، عن نفسه ، وقد يمكن أن يجيزهما يوم الخندق ، لانه كان يوم حصار في المدينة نفسها ، ينتفع فيه بالصبيان في رمي الحجارة وغير ذلك ، ولم يجزه يوم أحد لانه كان يوم قتال بعدوا فيه ، عن المدينة فلا يحضره إلا أهل القوة والجلد .
والوجه الثاني أنه ليس في هذا الخبر أنهما في تلك الساعة أكملا معا خمسة عشر عاما لا بنص ، ولا بدليل كما قال الشافعي ، ولا خلاف في أنه يقال في اللغة لمن بقي عليه من ستة عشر عاما الشهر والشهران : هذا ابن خمسة عشر عاما ، فبطل التعلق بهذا الخبر جملة. وبالله تعالى التوفيق.
120 - مسألة : وإزالة النجاسة وكل ما أمر الله تعالى بإزالته فهو فرض .
هذه المسألة تنقسم أقساما كثيرة ، يجمعها أن كل شيء أمر الله تعالى على لسان رسوله ﷺ باجتنابه أو جاء نص بتحريمه ، أو أمر كذلك بغسله أو مسحه ، فكل ذلك فرض يعصي من خالفه ، لما ذكرنا قبل من أن طاعته تعالى وطاعة رسوله ﷺ فرض. وبالله تعالى التوفيق .
.........
كتاب الطهارة
121 - مسألة : فما كان في الخف أو النعل من دم أو خمر أو عذرة أو بول أو غير ذلك ، فتطهيرهما بأن يمسحا بالتراب حتى يزول الأثر ثم يصلى فيهما ، فإن غسلهما أجزأه إذا مسهما بالتراب قبل ذلك .
برهان ذلك أن كل ما ذكرنا من الدم والخمر والعذرة والبول حرام ، والحرام فرض اجتنابه لا خلاف في ذلك.
حدثنا حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ حدثحدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا سليمان بن حرب الواشحي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي نعامة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان النبي r يصلي بأصحابه فخلع نعليه فوضعهما ، عن يساره ، فخلع القوم نعالهم ، فلما سلم قال : لم خلعتم نعالكم قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا ، فقال : إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا قال عليه السلام : إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فلينظر إلى نعليه ، فإن كان فيهما قذر أو أذى فليمسحه وليصل فيهما أبو نعامة هو عبد ربه السعدي ، وأبو نضرة هو المنذر بن مالك العبدي ، كلاهما ثقة.
حدثنا عبد الله بن الربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي r قال : فمن وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب .
قال علي : وروينا ، عن عروة بن الزبير فيمن أصاب نعليه الروث ، قال يمسحهما وليصل فيهما وعن الحسن البصري أنه كان يمسح نعليه مسحا شديدا ويصلي فيهما وهو قول الأوزاعي وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابنا.
قال علي : الغسل بالماء وغيره يقع عليه اسم مسح ، تقول : مسحت الشيء بالماء وبالدهن ، فكل غسل مسح وليس كل مسح غسلا ، ولكن الخبر الذي رويناه من طريق أبي داود ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ إذا وطئ أحدكم الأذى بخفه أو نعله فليمسهما التراب وهذا زائد على حديث أبي سعيد الخدري في المسح بيانا وحكما ، فواجب أن يضاف الزائد إلى الأنقص حكما ، فيكون ذلك استعمالا لجميع الآثار ; لإن من استعمل حديث أبي هريرة لم يخالف خبر أبي سعيد ، ومن استعمل خبر أبي سعيد خالف خبر أبي هريرة.
وقال مالك والشافعي : لا تجزئ إزالة النجاسة حيث كانت إلا بالماء حاشا العذرة في المقعدة خاصة ، والبول في الإحليل خاصة فيزالان بغير الماء. وهذا مكان تركوا في أكثره النصوص ، كما ذكرنا في هذا الباب وغيره ، ولم يقيسوا سائر النجاسات على النجاسة في المقعدة والإحليل وهما أصل النجاسات.
قال علي : وهذا خلاف لهذه النصوص المذكورة وللقياس.
وقال أبو حنيفة : إذا أصاب الخف أو النعل روث فرس أو حمار أو أي روث كان ، فإن كان أكثر من قدر الدرهم البغلي لم يجز أن يصلى به .
وكذلك إن أصابهما عذرة إنسان أو دم أو مني ، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل أجزأت الصلاة به ، فإن كان كل ما ذكرنا يابسا أجزأه أن يحكه فقط ثم يصلي به ، وإن كان شيء من ذلك رطبا لم تجزه الصلاة به إلا أن يغسله بالماء ، فإن أصاب الخف بول إنسان أو حمار أو ما لا يؤكل لحمه ، فإن كان أكثر من قدر الدرهم البغلي لم تجزه الصلاة به ولم يجزه فيه مسح أصلا ، ولا بد من الغسل بالماء كان يابسا أو رطبا ، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل جاز أن يصلي به وإن لم يغسله ، ولا مسحه. قال : وأما بول الفرس فالصلاة به جائزة ما لم يكن كثيرا فاحشا.
وكذلك بول ما يؤكل لحمه ، ولم يحد في الكثير الفاحش من ذلك حدا ، فإن كان فيهما خرء ما لا يؤكل لحمه من الطير ، أو ما يؤكل لحمه منها وكان أكثر من قدر الدرهم ، فالصلاة به جائزة ما لم يكن كثيرا فاحشا ، فإن كان كل ذلك في الجسد لم تجز إزالته إلا بالماء ، وأما ما كان من ذلك في الثوب فتجزئ إزالته بالماء وغيره من المائعات كلها وهذه أقوال ينبغي حمد الله تعالى على السلامة عند سماعها. وبالله تعالى التوفيق.
وأعجب من ذلك أنهم لم يتعلقوا بالنصوص الواردة في ذلك ألبتة ، ولا قاسوا على شيء من النصوص في ذلك ، ولا قاسوا النجاسة في الجسد على النجاسة في الجسد وهي العذرة في المخرج والبول في الإحليل ، ولا قاسوا النجاسة في الثياب على الجسد ، ولا تعلقوا في أقوالهم في ذلك بقول أحد من الآمة قبلهم ويسألون قبل كل شيء أين وجدوا تغليظ بعض النجاسات وتخفيف بعضها أفي قرآن أو سنة أو قياس اللهم إلا إن الذي قد جاء في إزالته التغليظ قد خالفوه ، كالإناء يلغ فيه الكلب ، وكالعذرة فيما يستنجى فيه فقط.
122 - مسألة : وتطهير القبل والدبر من البول والغائط والدم من الرجل والمرأة لا يكون إلا بالماء حتى يزول الأثر أو بثلاثة أحجار متغايرة فإن لم ينق فعلى الوتر أبدا يزيد كذلك حتى ينقى ، لا أقل من ذلك ، ولا يكون في شيء منها غائط أو بالتراب أو الرمل بلا عدد ، ولكن ما أزال الأثر فقط على الوتر ، ولا بد ، ولا يجزئ أحدا أن يستنجي بيمينه ، ولا وهو مستقبل القبلة ، فإن بدأ بمخرج البول أجزأت تلك الأحجار بأعيانها لمخرج الغائط ، وإن بدأ بمخرج الغائط لم يجزه من تلك الأحجار لمخرج البول إلا ما كان لا رجيع عليه فقط.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور بن المعتمر ، كلاهما ، عن إبراهيم النخعي ، عن عبد الرحمان بن يزيد ، عن سلمان الفارسي قال : قال لنا المشركون : إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى يعلمكم الخراءة ، فقال سلمان : أجل ، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه أو يستقبل القبلة ، ونهانا ، عن الروث والعظام ، وقال : لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي ، عن عبد الرحمان بن يزيد ، عن سلمان الفارسي أن بعض المشركين قال له : إني لارى صاحبكم يعلمكم حتى الخراءة قال : أجل ، أمرنا أن لا نستقبل القبلة ، ولا نستنجي بأيماننا ، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع ، ولا عظم .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمان بن يزيد ، عن سلمان الفارسي قال : إن رسول الله r نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو نستنجي بأيماننا أو نكتفي بأقل من ثلاثة أحجار .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : وإذا استجمرت فأوتر .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عطاء بن أبي ميمونة سمع أنس بن مالك قال : كان رسول الله rﷺ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام إداوة من ماء وعنزة يستنجي ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل ، هو ابن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ورويناه أيضا من طريق جابر مسندا.
وقال أبو حنيفة ومالك : بأي شيء استنجى دون عدد فأنقى أجزأه ، وهذا خلاف ما أمر به رسول الله ﷺ لانه نهى أن يكتفي أحد بدون ثلاثة أحجار وأمر بالوتر في الاستجمار وما نعلم لهم متعلقا إلا أنهم ذكروا أثرا فيه : أن عمر كان له عظم أو حجر يستنجي به ثم يتوضأ ويصلي ، وهذا لا حجة فيه ; لانه شك. إما حجر وأما عظم ، وقد خالفوا عمر في المسح على العمامة وغير ذلك ، ولو صح لكان لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ لا سيما وقد خالفه سلمان وغيره من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ، فأخبروا أن حكم الاستنجاء هو ما علمهم إياه رسول الله ﷺ من ألا يكتفى بدون ثلاثة أحجار "
فإن قيل : أمره عليه السلام بثلاثة أحجار هو للغائط والبول معا ، فوقع لكل واحد منهما أقل من ثلاثة أحجار.
قلنا : هذا باطل لإن النص قد ورد بأن لا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، ومسح البول لا يسمى استنجاء ، فحصل النص في الاستنجاء والخراءة أن لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار ، وحصل النص مجملا في أن لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار على البول نفسه وعلى النجو فصح ما قلناه.
ومسح البول باليمين جائز ، وكذلك مستقبل القبلة ; لانه لم ينه ، عن ذلك في البول وإنما نهى في الاستنجاء فقط.
وقال الشافعي : ثلاث مسحات بحجر واحد ، وأجاز الاستنجاء بكل شيء حاشا العظم والروث والحممة والقصب والجلود التي لم تدبغ ، وهذا أيضا خلاف لامر رسول الله r بألا يكتفى بأقل من ثلاثة أحجار.
فإن قالوا : قسنا على الأحجار ،
قلنا لهم : فقيسوا على التراب في التيمم ، ولا فرق
فإن ذكروا حديثا رواه ابن أخي الزهري مسندا أن رسول الله ﷺ قال : إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات قيل : ابن أخي الزهري ضعيف ، والذي رواه عنه محمد بن يحيى الكناني وهو مجهول ، ولو صح لما كانت فيه حجة ; لانه ليس فيها أن تلك المسحات تكون بحجر واحد ، فزيادة هذا لا تحل.
وأما من قال إن حديث " من استجمر فليوتر معارض لحديث الثلاثة الأحجار
قلنا هذا خطأ ، بل كل حديث منها قائم بنفسه ، فلا يجزئ من الأحجار إلا ثلاثة لا رجيع فيها ، ويجزئ من التراب الوتر ، ولا يجزئ غير ذلك من كل ما لا يسمى أرضا إلا الماء. فإن كان على حجر نجاسة غير الرجيع أجزأ ما لم يأت عنه نهي.
وممن جاء عنه ألا يجزئ إلا ثلاثة أحجار سعيد بن المسيب والحسن وغيرهما. فإن ذكر ذاكر حديثا رويناه من طريق ابن الحصين الحبراني ، عن أبي سعيد أو أبي سعد ، عن أبي هريرة مسندا " من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فإن ابن الحصين مجهول وأبو سعيد أو أبو سعد الخير كذلك.
فإن ذكروا حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال له : ابغني أحجارا ، فأتيته بحجرين وروثة ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال : إنها ركس فهذا لا حجة فيه ، لانه ليس في الحديث أنه عليه السلام اكتفى بالحجرين ، وقد صح أمره عليه السلام له بأن يأتيه بأحجار ، فالأمر باق لازم لا بد من إبقائه ، وعلى أن هذا الحديث قد قيل فيه : إن أبا إسحاق دلسه ، وقد رويناه من طريق أبي إسحاق ، عن علقمة وفيه " أبغني ثالثا "
فإن قيل : إنما نهى ، عن العظم والروث لانهما زاد إخواننا من الجن.
قلنا : نعم فكان ماذا بل هذا موجب أن المستنجي بأحدهما عاص مرتين :
إحداهما خلافه نص الخبر .
والثاني تقذيره زاد من نهي ، عن تقذير زاده ، والمعصية لا تجزئ بدل الطاعة ، وممن قال لا يجزئ بالعظم ، ولا باليمين الشافعي وأبو سليمان وغيرهما.
123 - مسألة : وتطهير بول الذكر أي ذكر كان في أي شيء كان فبأن يرش الماء عليه رشا يزيل أثره ، وبول الآنثى يغسل ، فإن كان البول في الأرض أي بول كان فبأن يصب الماء عليه صبا يزيل أثره فقط .
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا أحمد بن الفضل الدينوري ، حدثنا محمد بن جرير ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي ، حدثنا يحيى بن الوليد ، عن محل بن خليفة الطائي ، حدثنا أبو السمح قال : كنت أخدم رسول الله ﷺ فأتي بحسن أو حسين فبال على صدره فدعا بماء فرشه عليه ثم قال عليه السلام : هكذا يصنع ، يرش من الذكر ويغسل من الآنثى.
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام فأجلسه رسول الله ﷺ على حجره ، فبال على ثوب رسول الله ﷺ فدعا عليه السلام بماء فنضحه ولم يغسله
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا همام ، هو ابن يحيى ، حدثنا إسحاق ، هو ابن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ رأى أعرابيا يبول في المسجد ، فدعا بماء فصبه عليه
قال علي : ليس تحديد ذلك بأكل الصبي الطعام من كلام رسول الله ﷺ .
وممن فرق بين بول الغلام وبول الجارية أم سلمة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب ، ولا مخالف لهما من الصحابة ، رضي الله عنهم .
وبه يقول قتادة والزهري وقال : مضت السنة بذلك ، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود بن علي ، وابن وهب وغيرهم ، إلا أنه قد روي ، عن الحسن وسفيان التسوية بين بول الغلام والجارية في الرش عليهما جميعا.
وقال أبو حنيفة ومالك والحسن بن حي : يغسل بول الصبي كبول الصبية ، وما نعلم لهم متعلقا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من قول صاحب. نعم ، ولا عن أحد من التابعين ، إلا أن بعض المتأخرين ذكر ذلك ، عن النخعي ، والمشهور عنه خلاف ذلك. وقوله ، عن سعيد بن المسيب : الرش من الرش والصب من الصب من الأبوال كلها ، وهذا نص خلاف قولهم. وبالله تعالى التوفيق.
124 - مسألة : وتطهير دم الحيض أو أي دم كان ، سواء دم سمك كان أو غيره إذا كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء ، حاشا دم البراغيث ودم الجسد فلا يلزم تطهيرهما إلا ما لا حرج في غسله على الإنسان ، فيطهر المرء ذلك حسب ما لا مشقة عليه فيه.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا جميعا : حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي ﷺ فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة قال لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي وهذا عموم منه ﷺ لنوع الدم ، ولا نبالي بالسؤال إذا كان جوابه عليه السلام قائما بنفسه غير مردود بضمير إلى السؤال.
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى ، هو ابن سعيد القطان ، عن هشام بن عروة حدثتني فاطمة هي بنت المنذر بن الزبير ، عن أسماء هي ابنة أبي بكر الصديق قالت أتت امرأة النبي ﷺ فقالت : أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع قال : تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه ويستحب أن تستعمل في غسل المحيض شيئا من مسك .
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا بن عيينة ، عن منصور بن صفية ، عن أمه ، عن عائشة أن امرأة سألت النبي r ، عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل. قال : خذي فرصة من مسك فتطهري بها ، قالت : كيف أتطهر بها قال : سبحان الله ، تطهري فاجتبذتها إلي فقلت : تتبعي بها أثر الدم.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ، حدثنا حبان ، هو ابن هلال ، حدثنا وهيب ، حدثنا منصور ، هو ابن صفية ، عن أمه ، عن عائشة أن امرأة سألت النبي ﷺ كيف أغتسل عند الطهر فقال : خذي فرصة ممسكة فتوضئي بها ثم ذكر نحو حديث سفيان.
قال علي : أمر رسول الله ﷺ بأن تتطهر بالفرصة المذكورة وهي القطعة وأن تتوضأ بها ، وإنما بعثه الله تعالى مبينا ومعلما ، فلو كان ذلك فرضا لعلمها عليه السلام كيف تتوضأ بها أو كيف تتطهر ، فلما لم يفعل كان ذلك غير واجب مع صحة الإجماع جيلا بعد جيل ، على أن ذلك ليس واجبا ، فلم تزل النساء في كل بيت ودار على عهده r إلى يومنا هذا يتطهرن من الحيض ، فما قال أحد إن هذا فرض ، ويكفي من هذا كله أنه لم تسند هذه اللفظة إلا من طريق إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف .
ومن طريق منصور بن صفية وقد ضعف ، وليس ممن يحتج بروايته ، فسقط هذا الحكم جملة ، والحمد لله رب العالمين. وكل ما أمرنا الله تعالى أو رسوله ﷺ فيه بالتطهير أو الغسل فلا يكون إلا بالماء ، أو بالتراب إن عدم الماء ، إلا أن يأتي نص بأنه بغير الماء فنقف عنده .
لما حدثناه عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قال أبو بكر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، وقال أبو كريب ، حدثنا ابن أبي زائدة هو يحيى بن زكريا ، عن أبي مالك هو سعد بن طارق ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : (( فضلنا على الناس بثلاث فذكر فيها وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ، ولا شك في أن كل غسل مأمور به في الدين فهو تطهر وليس كل تطهر غسلا .
فصح أنه لا طهر إلا بالماء أو بالتراب عند عدم الماء.
وقال أبو حنيفة : دم السمك كثر أو قل لا ينجس الثوب ، ولا الجسد ، ولا الماء ودم البراغيث والبق كذلك ، وأما سائر الدماء كلها فإن قليلها وكثيرها يفسد الماء ، وأما في الثوب والجسد : فإن كان في أحدهما منه مقدار الدرهم البغلي فأقل فلا ينجس ويصلى به ، وما كان منه أكثر من قدر الدرهم البغلي فإنه ينجس وتبطل به الصلاة ، فإن كان في الجسد فلا يزال إلا بالماء ، وإذا كان في الثوب فإنه يزال بالماء وبأي شيء أزاله من غير الماء ، فإن كان في خف أو نعل ، فإن كان يابسا أجزأ فيه الحك فقط ، وإن كان رطبا لم يجزئ إلا الغسل بأي شيء غسل.
وقال مالك : إزالة ذلك كله ليس فرضا ، ولا يزال إلا بالماء.
وقال الشافعي إزالته فرض ، ولا يزال إلا بالماء.
قال علي : قال الله تعالى ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج
وقال تعالى ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وقال تعالى ﴿ يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر
وبالضرورة ندري أنه لا يمكن الانفكاك من دم البراغيث ، ولا من دم الجسد ، فإذ ذلك كذلك فلا يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه ، ولا عسر مما هو في الوسع. وفرق بعضهم بين دم ما له نفس سائلة ودم ما ليس له نفس سائلة ، وهذا خطأ لانه قول لم يأت به قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول صاحب ، ولا قياس.
وفرق بعضهم بين الدم المسفوح وغير المسفوح ، وتعلقوا بقوله تعالى ﴿ أو دما مسفوحا وقد قال تعالى ﴿ حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فعم تعالى كل دم وكل ميتة ، فكان هذا شرعا زائدا على الآية الآخرى ، ولم يخص تعالى من تحريم الميتة ما لها نفس سائلة مما لا نفس لها.
وتعلق بعضهم في الدرهم البغلي بحديث ساقط ، ثم لو صح لكان عليهم ; لإن فيه الإعادة من قدر الدرهم ، بخلاف قولهم .
وقال بعضهم : قيس على الدبر ، فقيل لهم فهلا قستموه على حرف الإحليل ومخرج البول ، وحكمهما في الاستنجاء سواء ، وقد تركوا قياسهم هذا إذ لم يروا إزالة ذلك من الجسد بما يزال به من الدبر.
وأما من لم ير غسل ذلك فرضا ، فالسنن التي أوردناها مخالفة لقوله. وبالله تعالى التوفيق.
125 - مسألة : والمذي تطهيره بالماء ، يغسل مخرجه من الذكر وينضح بالماء ما مس منه الثوب .
قال مالك يغسل الذكر كله.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي دليم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن سليمان بن يسار ، عن المقداد بن الأسود " أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله ﷺ ، عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي ، قال فسألت رسول الله ﷺ ، عن ذلك فقال : إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة .
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن السكن ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي ، حدثنا زائدة ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمان السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا يسأل النبي ﷺ لمكان ابنته ، فسأل فقال : توضأ واغسل ذكرك .
حدثنا حمام بن أحمد ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا بكر بن حماد ، ومحمد بن وضاح قال بكر ، حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، وقال ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال ، حدثنا إسماعيل ابن علية ويزيد بن هارون ، ثم اتفق حماد وإسماعيل ويزيد كلهم ، عن محمد بن إسحاق ، حدثنا سعيد بن عبيد بن السباق ، عن أبيه ، عن سهل بن حنيف قال حماد في حديثه كنت ألقى من المذي شدة فكنت أكثر الغسل منه ثم اتفقوا كلهم قال سألت رسول الله ﷺ ، عن المذي فقال : يكفيك منه الوضوء ، قلت : أرأيت ما يصيب ثوبي منه قال : تأخذ كفا من ماء فتنضح ثوبك حيث ترى أنه أصابه .
قال علي : غسل مخرج المذي من الذكر يقع عليه اسم غسل الذكر ، كما يقول القائل إذا غسله : غسلت ذكري من البول ، فزيادة إيجاب غسل كله شرع لا دليل عليه .
وقال بعضهم في ذلك تقليص فيقال له : فعانوا ذلك بالقوابض من العقاقير إذن فهو أبلغ.
وهذا الخبر يرد على أبي حنيفة قوله : إن النجاسات لا تزال من الجسد إلا بالماء وتزال من الثياب بغير الماء. فإن تعلقوا بأن عائشة ، رضي الله عنها ، كانت تجيز إزالة دم الحيض من الثوب بالريق ، قيل لهم فإن ابن عمر كان يجيز مسح الدم من المحاجم بالحصاة دون غسل ، ولا حجة إلا فيما جاء به النبي ﷺ .
========
كتاب الطهارة
126 - مسألة : وتطهير الإناء إذا كان لكتابي من كل ما يجب تطهيره منه بالماء
وعلى كل حال إذا لم يجد غيرها سواء علمنا فيه نجاسة أو لم نعلم بالماء ، فإن كان إناء مسلم فهو طاهر ، فإن تيقن فيه ما يلزم اجتنابه فبأي شيء أزاله كائنا ما كان من الطاهرات إلا أن يكون لحم حمار أهلي أو ودكه أو شحمه أو شيئا منه فلا يجوز أن يطهر إلا بالماء ، ولا بد. حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث ، حدثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن أيوب السختياني ، عن أبي قلابة ، عن أبي ثعلبة الخشني ، أنه قال : يا نبي الله إنا بأرض أهلها أهل كتاب نحتاج فيها إلى قدورهم وآنيتهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تقربوها ما وجدتم بدا ، فإذا لم تجدوا بدا فاغسلوها بالماء واطبخوا واشربوا.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن عباد وقتيبة قالا ، حدثنا حاتم ، هو ابن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى خيبر ، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم ، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة ، فقال رسول الله ﷺ : ما هذه النيران ، على أي شيء توقدون قالوا على لحم ، قال على أي لحم قالوا على لحم الحمر الإنسية ، فقال رسول الله ﷺ : أهريقوها واكسروها ، فقال رجل : يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها قال : أو ذاك
قال علي : قد قدمنا أن كل غسل أمر به في الدين فهو تطهير ، وكل تطهير فلا يكون إلا بالماء.
وبالله تعالى التوفيق. ولا يجوز أن يقاس تطهير الإناء من غير ما ذكرنا من الحمر الأهلية على تطهيره من لحوم الحمر ; لإن النصوص اختلفت في تطهير الآنية من الكلب ومن لحم الحمار فليس القياس على بعضها أولى من القياس على بعض ، لو كان القياس حقا ، ولا يجوز أن يضاف إلى ما حكم فيه رسول الله ﷺ ما لم يحكم ; لانه يكون قولا عليه ما لم يقل ، أو شرعا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى.
والوقوف عند أوامره عليه السلام أولى من الوقوف عند الدرهم البغلي ، وتلك الفروق الفاسدة ، وبالله تعالى التوفيق.
127 - مسألة : فإن ولغ في الإناء كلب ، أي إناء كان وأي كلب كان كلب صيد أو غيره ، صغيرا أو كبيرا
فالفرض إهراق ما في ذلك الإناء كائنا ما كان ثم يغسل بالماء سبع مرات ، ولا بد أولاهن بالتراب مع الماء ، ولا بد ، وذلك الماء الذي يطهر به الإناء طاهر حلال ، فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ، ولا هرق ما فيه ألبتة وهو حلال طاهر كله كما كان .
وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة في الأرض أو في يد إنسان أو في ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ، ولا هرق ما فيه. والولوغ هو الشرب فقط ، فلو مس لعاب الكلب أو عرقه الجسد أو الثوب أو الإناء أو متاعا ما أو الصيد ، ففرض إزالة ذلك بما أزاله ماء كان أو غيره ، ولا بد من كل ما ذكرنا إلا من الثوب فلا يزال إلا بالماء.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا علي بن حجر السعدي ، حدثنا علي بن مسهر أنا الأعمش ، عن أبي رزين وأبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات.
وبه إلى مسلم ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب.
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو التياح ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن ابن مغفل قال : أمر رسول الله ﷺ بقتل الكلاب ثم قال : ما لهم ولها فرخص في كلب الصيد وفي كلب الغنم.
وقال عليه السلام : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات والثامنة عفروه بالتراب.
قال علي : فأمر عليه السلام بهرق ما في الإناء إذا ولغ فيه الكلب ، ولم يخص شيئا من شيء ، ولم يأمر عليه السلام باجتناب ما ولغ فيه في غير الإناء ، بل نهى ، عن إضاعة المال.
وقد جاء هذا الخبر بروايات شتى ، في بعضها والسابعة بالتراب وفي بعضها إحداهن بالتراب وكل ذلك لا يختلف معناه ، لإن الآولى هي بلا شك إحدى الغسلات. وفي لفظة " الآولى " بيان أيتهن هي ، فمن جعل التراب في أولاهن فقد جعله في إحداهن بلا شك واستعمل اللفظتين معا ، ومن جعله في غير أولاهن فقد خالف أمر رسول الله ﷺ في أن يكون ذلك في أولاهن ، وهذا لا يحل ، ولا شك ندري أن تعفيره بالتراب في أولاهن تطهير ثامن إلى السبع غسلات ، وأن تلك الغسلة سابقة لسائرهن إذا جمعن ، وبهذا تصح الطاعة لجميع ألفاظه عليه السلام المأثورة في هذا الخبر ، ولا يجزئ بدل التراب غيره ، لانه تعد لحد رسول الله ﷺ .
والماء الذي يغسل به الإناء طاهر ; لانه لم يأت نص باجتنابه ، ولا شريعة إلا ما أخبرنا بها عليه السلام ، وما عدا ذلك فهو مما لم يأذن الله تعالى به ، والماء حلال شربه طاهر ، فلا يحرم إلا بأمر منه عليه السلام.
وأما ما أكل فيه الكلب أو وقع فيه أو دخل فيه بعض أعضائه فلا غسل في ذلك ، ولا هرق ; لانه حلال طاهر قبل ذلك بيقين إن كان مما أباحه الله تعالى من المطاعم والمشارب وسائر المباحات فلا ينتقل إلى التحريم والتنجيس إلا بنص لا بدعوى.
وأما وجوب إزالة لعاب الكلب وعرقه في أي شيء كان فلان الله تعالى حرم كل ذي ناب من السباع ، والكلب ذو ناب من السباع ، فهو حرام ، وبعض الحرام حرام بلا شك ، ولعابه وعرقه بعضه فهما حرام ، والحرام فرض إزالته واجتنابه ، ولم يجز أن يزال من الثوب إلا بالماء لقول الله تعالى ﴿ وثيابك فطهر وقد قلنا إن التطهير لا يكون إلا بالماء ، وبالتراب عند عدم الماء.
وممن قال بقولنا في غسل ما ولغ فيه الكلب سبعا أبو هريرة ، كما حدثنا يونس بن عبد الله ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، حدثنا إسماعيل ، هو ابن علية ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال " إذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبع مرات ، أولاهن أو إحداهن بالتراب ، والهر مرة.
وروينا ، عن الحسن البصري " إذا ولغ الكلب في الإناء أهرقه واغسله سبع مرات .
وبه يقول ابن عباس وعروة بن الزبير وطاووس وعمرو بن دينار. وقال الأوزاعي " إن ولغ الكلب في إناء فيه عشرة أقساط لبن يهرق كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب ، فإن ولغ في ماء في بقعة صغيرة مقدار ما يتوضأ به إنسان فهو طاهر ، ويتوضأ بذلك الماء ويغسل لعاب الكلب من الثوب ومن الصيد.
قال علي : قول الأوزاعي هو نفس قولنا ، وبهذا يقول يعني غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا إحداهن بالتراب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وداود وجملة أصحاب الحديث.
وقال الشافعي كذلك إلا ، أنه قال " إن كان الماء في الإناء خمسمائة رطل لم يهرق لولوغ الكلب فيه ، ورأى هرق ما عدا الماء وإن كثر ، ورأى أن يغسل من ولوغ الخنزير في الإناء سبعا كما يغسل من الكلب ، ولم ير ذلك في ولوغ شيء من السباع ، ولا غير الخنزير أصلا.
قال علي : وهذا خطأ ; لإن عموم أمر رسول الله ﷺ في الأمر بهرقه أولى أن يتبع .
وأما قياس الخنزير على الكلب فخطأ ظاهر لو كان القياس حقا لإن الكلب بعض السباع لم يحرم إلا بعموم تحريم لحوم السباع فقط ، فكان قياس السباع وما ولغت فيه على الكلب الذي هو بعضها والتي يجوز أكل صيدها إذا علمت أولى من قياس الخنزير على الكلب ، وكما لم يجز أن يقاس الخنزير على الكلب في جواز اتخاذه وأكل صيده فكذلك لا يجوز أن يقاس الخنزير على الكلب في عدد غسل الإناء من ولوغه ، فكيف والقياس كله باطل.
وقال مالك في بعض أقواله : يتوضأ بذلك الماء وتردد في غسل الإناء سبع مرات فمرة لم يره ومرة رآه ، وقال في قول له آخر : يهرق الماء ويغسل الإناء سبع مرات فإن كان لبنا لم يهرق ولكن يغسل الإناء سبع مرات ويؤكل ما فيه ، ومرة قال : يهرق كل ذلك ويغسل الإناء سبع مرات.
قال علي : هذه تفاريق ظاهرة الخطإ ; لا النص اتبع في بعضها ، ولا القياس اطرد فيها ، ولا قول أحد من الصحابة أو التابعين ، رضي الله عنهم ، قلد فيها.
وروي عنه ، أنه قال : إني لاراه عظيما أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيهرق من أجل كلب ولغ فيه.
قال علي : فيقال لمن احتج بهذا القول : أعظم من ذلك أن تخالف أمر الله على لسان نبيه ﷺ بهرقه. وأعظم مما استعظمتموه أن يعمد إلى رزق من رزق الله فيهرق من أجل عصفور مات فيه بغير أمر من الله بهرقه.
فإن قالوا : العصفور الميت حرام .
قلنا : نعم لم نخالفكم في هذا ، ولكن المائع الذي مات فيه حلال ، فتحريمكم الحلال من أجل مماسته الحرام هو الباطل ، إلا أن يأمر بذلك رسول الله ﷺ فيطاع أمره ، ولا يتعدى حده ، ولا يضاف إليه ما لم يقل.
وقال أبو حنيفة : يهرق كل ما ولغ فيه الكلب أي شيء كان كثر أم قل ، ومن توضأ بذلك الماء أعاد الوضوء والصلوات أبدا ، ولا يغسل الإناء منه إلا مرة.
قال علي : وهذا قول لا يحفظ ، عن أحد من الصحابة ، ولا من التابعين إلا أننا روينا ، عن إبراهيم ، أنه قال فيما ولغ فيه الكلب " اغسله " وقال مرة " اغسله حتى تنقيه " ولم يذكر تحديدا.
وهو قول مخالف لسنة رسول الله ﷺ التي أوردنا. وكفى بهذا خطأ.
واحتج له بعض مقلديه بأن قال " إن أبا هريرة وهو أحد من روى هذا الخبر قد روي عنه أنه خالفه.
قال علي : فيقال له هذا باطل من وجوه :
أحدها أنه إنما روى ذلك الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف ، ولا مجاهرة أقبح من الاعتراض على ما رواه ، عن أبي هريرة ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين النجوم الثواقب بمثل رواية عبد السلام بن حرب.
وثانيها أن رواية عبد السلام على تحسينها إنما فيها أنه يغسل الإناء ثلاث مرات ، فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف ما اعترضوا به ، عن أبي هريرة ، فلا النبي ﷺ اتبعوا ، ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا.
وثالثها أنه لو صح ذلك ، عن أبي هريرة لما حل أن يعترض بذلك على ما رواه ، عن النبي ﷺ ; لإن الحجة إنما هي في قول رسول الله ﷺ لا في قول أحد سواه ، لإن الصاحب قد ينسى ما روى وقد يتأول فيه ، والواجب إذا وجد مثل هذا أن يضعف ما روي ، عن الصاحب من قوله ، وأن يغلب عليه ما روي ، عن النبي ﷺ لا أن نضعف ما روي ، عن النبي ﷺ ونغلب عليه ما روي ، عن الصاحب ، فهذا هو الباطل الذي لا يحل.
ورابعها أنه حتى لو صح عن أبي هريرة خلاف ما روى ومعاذ الله من ذلك فقد رواه من الصحابة غير أبي هريرة ، وهو ابن مغفل ، ولم يخالف ما روى.
وقال بعضهم : إنما كان هذا إذ أمر بقتل الكلاب ، فلما نهى ، عن قتلها نسخ ذلك.
قال علي : وهذا كذب بحت لوجهين. أحدهما ; لانه دعوى فاضحة بلا دليل ، وقفو ما لا علم لقائله به ، هذا حرام.
والثاني أن ابن مغفل روى النهي ، عن قتل الكلاب والأمر بغسل الإناء منها سبعا في خبر واحد معا ، وقد ذكرناه قبل.
وأيضا فإن الأمر بقتل الكلاب كان في أول الهجرة ، وإنما روى غسل الإناء منها سبعا أبو هريرة ، وابن مغفل ، وإسلامهما متأخر.
وقال بعضهم : كان الأمر بغسل الإناء سبعا على وجه التغليظ.
قال علي : يقال لهم أبحق أمر النبي ﷺ في ذلك وبما تلزم طاعته فيه أم أمر بباطل وبما لا مئونة في معصيته في ذلك
فإن قالوا بحق وبما تلزم طاعته فيه ، فقد أسقطوا شغبهم بذكر التغليظ.
وأما القول الآخر فالقول به كفر مجرد لا يقوله مسلم.
وقال بعضهم : قد جاء أثر بأنه إنما أمر بقتلها ، لانها كانت تروع المؤمنين
قيل له : لسنا في قتلها ، إنما نحن في غسل الإناء من ولوغها ، مع أن ذلك الأثر ليس فيه إلا ذكر قتلها فقط ، وهو أيضا موضوع ; لانه من رواية الحسين بن عبيد الله العجلي وهو ساقط.
وشغب بعضهم فذكر الحديث الذي فيه المغفرة للبغي التي سقت الكلب بخفها.
قال علي : وهذا عجب جدا ; لإن ذلك الخبر كان في غيرنا ، ولا تلزمنا شريعة من قبلنا.
وأيضا فمن لهم أن ذلك الخف شرب فيه ما بعد ذلك ، وأنه لم يغسل ، وأن تلك البغي عرفت سنة غسل الإناء من ولوغ الكلب ولم تكن تلك البغي نبية فيحتج بفعلها ، وهذا كله دفع بالراح وخبط يجب أن يستحى منه.
ويجزئ غسل من غسله وإن كان غير صاحبه ، لقوله عليه السلام فاغسلوه فهو أمر عام.
قال علي : فإن أنكروا علينا التفريق بين ما ولغ الكلب فيه وبين ما أكل فيه أو وقع فيه أو أدخل فيه عضوا من أعضائه غير لسانه. قلنا لهم : لا نكرة على من قال ما قال رسول الله ﷺ ولم يقل ما لم يقل عليه السلام ، ولم يخالف ما أمره به نبيه عليه السلام ، ولا شرع ما لم يشرعه عليه السلام في الدين ، وإنما النكرة على من أبطل الصلاة بما زاد على الدرهم البغلي في الثوب من دم الدجاج فأبطل به الصلاة ، ولم يبطل الصلاة بثوب غمس في دم السمك ، ومن أبطل الصلاة بقدر الدرهم البغلي في الثوب من خرء الدجاج وروث الخيل ، ولم يبطلها بأقل من ربع الثوب من بول الخيل وخرء الغراب. وعلى من أراق الماء يلغ فيه الكلب ، ولم يرق اللبن إذا ولغ فيه الكلب ، وعلى من أمر بهرق خمسمائة رطل غير أوقية من ماء وقع فيه درهم من لعاب كلب ، فإن كان خمسمائة رطل ووقع فيه رطل من لعاب الكلب كان طاهرا لا يراق منه شيء ، فهذه هي النكرات حقا لا ما قلنا. وبالله نتأيد.
128 - مسألة : فإن ولغ في الإناء الهر لم يهرق ما فيه ، لكن يؤكل أو يشرب أو يستعمل ، ثم يغسل الإناء بالماء مرة واحدة فقط .
ولا يلزم إزالة لعابه مما عدا الإناء والثوب بالماء لكن بما أزاله ومن الثوب بالماء فقط. حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا محمد بن أيوب الصموت ، حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، حدثنا قرة بن خالد ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسله سبع مرات والهر مرة.
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ، حدثنا وهب بن مسرة ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا مالك بن أنس أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ، عن حميدة بنت عبيد بن رافع ، عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ولد أبي قتادة أنها صبت لابي قتادة ماء يتوضأ به ، فجاءت هرة تشرب فأصغى لها الإناء فجعلت أنظر ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي قال رسول الله ﷺ إنها ليست بنجس ، إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات.
قال علي : فوجب غسل الإناء ولم يجب إهراق ما فيه ; لانه لم ينجس ، ووجب غسل لعابه من الثوب ، لإن الهر ذو ناب من السباع فهو حرام ، وبعض الحرام حرام ، وليس كل حرام نجسا ، ولا نجس إلا ما سماه الله تعالى أو رسوله نجسا ، والحرير والذهب حرام على الرجال وليسا بنجسين.
وقال الله تعالى ﴿ وثيابك فطهر.
وقال أبو حنيفة : يهرق ما ولغ فيه الهر ، ولا يجزئ الوضوء به ، ويغسل الإناء مرة. وهذا خلاف كلام رسول الله ﷺ من رواية أبي قتادة.
وقال مالك والشافعي : يتوضأ بما ولغ فيه الهر ، ولا يغسل منه الإناء ، وهذا خلاف أمر رسول الله ﷺ من رواية أبي هريرة.
وممن أمر بغسل الإناء من ولوغ الهر أبو هريرة وسعيد بن المسيب والحسن البصري وطاووس وعطاء.
إلا أن طاووسا وعطاء جعلاه بمنزلة ما ولغ فيه الكلب. وممن أباح أن يستعمل ما ولغ فيه الهر أبو قتادة ، وابن عباس وأبو هريرة وأم سلمة وعلي ، وابن عمر باختلاف عنه فصح قول أبي هريرة كقولنا نصا. والحمد لله رب العالمين.
129 - مسألة : وتطهير جلد الميتة ، أي ميتة كانت ولو أنها جلد خنزير أو كلب أو سبع أو غير ذلك فإنه بالدباغ بأي شيء دبغ طاهر .
فإذا دبغ حل بيعه والصلاة عليه ، وكان كجلد ما ذكي مما يحل أكله ، إلا أن جلد الميتة المذكور لا يحل أكله بحال ، حاشا جلد الإنسان ، فإنه لا يحل أن يدبغ ، ولا أن يسلخ ، ولا بد من دفنه وإن كان كافرا.
وصوف الميتة وشعرها وريشها ووبرها حرام قبل الدباغ حلال بعده ، وعظمها وقرنها مباح كله لا يحل أكله ، ولا يحل بيع الميتة ، ولا الأنتفاع بعصبها ، ولا شحمها.
حدثني أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا الحميدي ثنا سفيان ، هو ابن عيينة ثنا زيد بن أسلم أنه سمع عبد الرحمان بن وعلة المصري يقول : سمعت ابن عباس يقول : سمعت رسول الله r يقول : أيما إهاب دبغ فقد طهر ".
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : مر رسول الله r على شاة لمولاة لميمونة ميتة فقال : أفلا انتفعتم بإهابها قالوا : وكيف وهي ميتة يا رسول الله قال : إنما حرم لحمها.
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة أن رسول الله r مر على شاة ملقاة ، فقال لمن هذه ، قالوا لميمونة ، قال : ما عليها لو انتفعت بإهابها قالوا إنها ميتة. قال : إنما حرم الله أكلها.
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، وابن أبي عمر ، كلهم ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت : فمر بها رسول الله r فقال : هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا : إنها ميتة فقال : إنما حرم أكلها.
حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس أخبرتني ميمونة أن شاة ماتت ، فقال رسول الله r : ألا دبغتم إهابها.
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن الجون بن قتادة ، عن سلمة بن المحبق أن رسول الله r في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة فقالت : ما عندي إلا في قربة لي ميتة. قال : أليس قد دبغتها قالت : بلى. قال : فإن دباغها ذكاتها.
حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري ثنا محمد بن حاتم ثنا هشيم ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ثنا جون بن قتادة التميمي قال " كنا مع رسول الله r فقال في حديث ذكره فإن دباغ الميتة طهورها قال علي : جون وسلمة لهما صحبة.
حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله r يقول عام الفتح وهو بمكة إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل يا رسول الله : أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال لا.
هو حرام. فقال رسول الله r عند ذلك : قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.
قال علي : ذهب أحمد بن حنبل إلى أنه لا يحل استعمال جلد الميتة وإن دبغ ، وذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن قدامة ثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم بن عتيبة ، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عكيم قال : كتب إلينا رسول الله r : ألا تستنفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب.
قال علي : هذا خبر صحيح ، ولا يخالف ما قبله. بل هو حق ، لا يحل أن ينتفع من الميتة بإهاب إلا حتى يدبغ ، كما جاء في الأحاديث الأخر ، إذ ضم أقواله عليه السلام بعضها لبعض فرض ، ولا يحل ضرب بعضها ببعض ، لأنها كلها حق من عند الله عز وجل قال الله تعالى وما ينطق ، عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
وقال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
وروي ، عن عائشة أم المؤمنين بإسناد في غاية الصحة دباغ الأديم ذكاته وهذا عموم لكل أديم. وعن ابن عباس ، عن أم المؤمنين ميمونة : أنها دبغت جلد شاة ميتة فلم تزل تنبذ فيه حتى بلي ، وعن عمر بن الخطاب : دباغ الأديم ذكاته.
وقال إبراهيم النخعي في جلود البقر والغنم تموت فتدبغ : إنها تباع وتلبس. وعن الأوزاعي إباحة بيعها.
وعن سفيان الثوري إباحة الصلاة فيها.
وعن الليث بن سعد إباحة بيعها.
وعن سعيد بن جبير في الميتة : دباغها ذكاتها ، وأباح الزهري جلود النمور ،
واحتج بما جاء عن النبي r في جلد الميتة ، وعن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وابن سيرين مثل ذلك.
وقال أبو حنيفة : جلد الميتة إذا دبغ وعظامها وعصبها وعقبها وصوفها وشعرها ووبرها وقرنها لا بأس بالأنتفاع بكل ذلك ، وبيعه جائز ، والصلاة في جلدها إذا دبغ جائز ، أي جلد كان حاشا جلد الخنزير.
وقال مالك : لا خير في عظام الميتة وهي ميتة ، ولا يصلى في شيء من جلود الميتة وإن دبغت ، ولا يحل بيعها ، أي جلد كان ، ولا يستقى فيها ، لكن جلود ما يؤكل لحمه إذا دبغت جاز القعود عليها وأن يغربل عليها ، وكره الأستقاء فيها بآخرة لنفسه ، ولم يمنع ، عن ذلك غيره. ورأى جلود السباع إذا دبغت مباحة للجلوس والغربلة. ولم ير جلد الحمار وإن دبغ يجوز استعماله ، ولم ير استعمال قرن الميتة ، ولا سنها ، ولا ظلفها ، ولا ريشها. وأباح صوف الميتة وشعرها ووبرها.
وكذلك إن أخذت من حي.
وقال الشافعي : يتوضأ في جلود الميتة إذا دبغت أي جلد كان.
إلا جلد كلب أو خنزير. ولا يطهر بالدباغ لا صوف ، ولا شعر ، ولا وبر ، ولا عظم ، ولا قرن ، ولا سن ، ولا ريش. إلا الجلد وحده فقط.
قال علي : أما إباحة أبي حنيفة العظم والعقب من الميتة فخطأ ، لأنه خلاف الأثر الصحيح الذي أوردنا ألا ننتفع من الميتة بإهاب ، ولا عصب وجاء الخبر بإباحة الإهاب إذا دبغ ، فبقي العصب على التحريم ، والعقب عصب بلا شك ، وكذلك تفريقه بين جلود السباع والميتات وجلد الخنزير خطأ ، لأن كل ذلك ميتة محرم ، ولا نعلم هذه التفاريق ، ولا هذا القول ، عن أحد قبله.
وأما تفريق مالك بين جلد ما يؤكل لحمه وبين جلد ما لا يؤكل لحمه فخطأ ، لأن الله تعالى حرم الميتة كما حرم الخنزير ، ولا فرق قال الله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا فرق بين كبش ميت وبين خنزير ميت عنده ، ولا عندنا ، ولا عند مسلم في التحريم.
وكذلك فرقه بين جلد الحمار وجلد السباع خطأ ، لأن التحريم جاء في السباع كما جاء في الحمير ، ولا فرق ، والعجب أن أصحابه لا يجيزون الأنتفاع بجلد الفرس إذا دبغ ، ولحمه إذا ذكي حلال بالنص ، ويجيزون الأنتفاع بجلد السبع إذا دبغ ، وهو حرام لا تعمل فيه الذكاة بالنص ،
وكذلك منعه من الصلاة عليها إذا دبغت خطأ ; لأنه تفريق بين وجوه الأنتفاع بلا نص قرآن ، ولا سنة ، ولا قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا نعلم هذا التفريق ، عن أحد قبله.
وأما تفريق الشافعي بين جلود السباع وجلد الكلب والخنزير فخطأ ، لأن كل ذلك ميتة حرام سواء ، ودعواه أن معنى قوله عليه السلام : إذا دبغ الإهاب فقد طهر أن معناه عاد إلى طهارته خطأ ، وقول بلا برهان ، بل هو على ظاهره أنه حينئذ طهر ، ولا نعلم هذا التفريق ، عن أحد قبله.
قال علي : أما كل ما كان على الجلد من صوف أو شعر أو وبر فهو بعد الدباغ طاهر كله لا قبل الدباغ ; لأن النبي r قد علم أن على جلود الميتة الشعر والريش والوبر والصوف ، فلم يأمر بإزالة ذلك ، ولا أباح استعمال شيء من ذلك قبل الدباغ ، وكل ذلك قبل الدباغ بعض الميتة حرام ، وكل ذلك بعد الدباغ طاهر ليس ميتة ، فهو حلال حاشا أكله ، وإذ هو حلال فلباسه في الصلاة وغيرها وبيع كل ذلك داخل في الأنتفاع الذي أمر به رسول الله r فإن أزيل ذلك ، عن الجلد قبل الدباغ لم يجز الأنتفاع بشيء منه ، وهو حرام ، إذ لا يدخل الدباغ فيه ، وإن أزيل بعد الدباغ فقد طهر ، فهو حلال بعد كسائر المباحات حاشا أكله فقط.
وأما العظم والريش والقرن فكل ذلك من الحي بعض الحي ، والحي مباح ملكه وبيعه إلا ما منع من ذلك نص ، وكل ذلك من الميتة ميتة ، وقد صح تحريم النبي r بيع الميتة ، وبعض الميتة ميتة ، فلا يحل بيع شيء من ذلك ، والأنتفاع بكل ذلك جائز ، لقوله عليه السلام : إنما حرم أكلها فأباح ما عدا ذلك إلا ما حرم باسمه من بيعها والأدهان بشحومها ، ومن عصبها ولحمها.
وأما شعر الخنزير وعظمه فحرام كله ، لا يحل أن يتملك ، ولا أن ينتفع بشيء منه ; لأن الله تعالى قال : أو لحم خنزير فإنه رجس والضمير راجع إلى أقرب مذكور ، فالخنزير كله رجس ، والرجس واجب اجتنابه ، بقوله تعالى رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه حاشا الجلد فإنه بالدباغ طاهر بعموم قوله عليه السلام وأيما إهاب دبغ فقد طهر
قال علي : وأما جلد الإنسان فقد صح نهي رسول الله r عن المثلة ، والسلخ أعظم المثلة ، فلا يحل التمثيل بكافر ، ولا مؤمن ، وصح أمره عليه السلام بإلقاء قتلى كفار بدر في القليب ، فوجب دفن كل ميت كافر ومؤمن. وبالله تعالى التوفيق.
130 - مسألة : وإناء الخمر إن تخللت الخمر فيه فقد صار طاهرا يتوضأ فيه ويشرب وإن لم يغسل ، فإن أهرقت أزيل أثر الخمر ، ولا بد بأي شيء من الطاهرات أزيل ، ويطهر الإناء حينئذ سواء كان فخارا أو عودا أو خشبا أو نحاسا أو حجرا أو غير ذلك .
أما الخمر فمحرمة بالنص والإجماع المتيقن ، فواجب اجتنابها.
قال تعالى ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه فإذا تخللت الخمر أو خللت فالخل حلال بالنص طاهر حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا معاوية بن هشام ، حدثنا سفيان هو الثوري ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ : (( نعم الإدام الخل فعم عليه السلام ولم يخص ، والخل ليس خمرا ، لإن الحلال الطاهر غير الحرام الرجس بلا شك ، فإذن لا خمر هنالك أصلا ، ولا أثر لها في الإناء ، فليس هنالك شيء يجب اجتنابه وإزالته.
وأما إذا ظهر أثر الخمر في الإناء فهي هنالك بلا شك. وإزالتها واجتنابها فرض. ولا نص ، ولا إجماع في شيء ما بعينه تزال به.
فصح أن كل شيء أزيلت به فقد أدينا ما علينا من واجب إزالتها. والحمد لله رب العالمين.
وإذا أزيلت فالإناء طاهر ، لانه ليس هنالك شيء يجب اجتنابه من أجله.
===============================
كتاب الطهارة
131 - مسألة : والمني طاهر في الماء كان أو في الجسد أو في الثوب ، ولا تجب إزالته ، والبصاق مثله ، ولا فرق .
حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة كلاهما ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي ، عن همام بن الحارث قال : أرسلت عائشة أم المؤمنين إلى ضيف لها تدعوه فقالوا : هو يغسل جنابة في ثوبه ، قالت ولم يغسله لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله ﷺ فأنكرت ، رضي الله عنها ، غسل المني.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أحمد بن جواس الحنفي أبو عاصم ، حدثنا أبو الأحوص ، عن شبيب بن غرقدة ، عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال : كنت نازلا على عائشة فاحتلمت في ثوبي فغمستهما في الماء ، فرأتني جارية لعائشة فأخبرتها ، فبعثت إلي عائشة : ما حملك على ما صنعت بثوبيك قلت : رأيت ما يرى النائم في منامه : قالت : هل رأيت فيهما شيئا قلت لا ، قالت : فلو رأيت شيئا غسلته لقد رأيتني وإني لاحكه من ثوب رسول الله r يابسا بظفري فهذه الرواية تبين كذب من تخرص بلا علم وقال : كانت تفركه بالماء.
حدثنا حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود بن يزيد أن عائشة قالت كنت أفرك المني من ثوب رسول الله r فيصلي فيه وقد رواه أيضا علقمة بن قيس والحارث بن نوفل ، عن عائشة مسندا ، وهذا تواتر ،
وصح عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفرك المني من ثوبه ،
وصح ، عن ابن عباس في المني يصيب الثوب ، هو بمنزلة النخام والبزاق امسحه بإذخرة أو بخرقة ، ولا تغسله إن شئت إلا أن تقذره أو تكره أن يرى في ثوبك ،
وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وأبي سليمان وجميع أصحابهم.
وقال مالك : هو نجس ، ولا يجزئ إلا غسله بالماء.
وروينا غسله ، عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأنس وسعيد بن المسيب.
وقال أبو حنيفة : هو نجس ، فإن كان في الجسد منه أكثر من قدر الدرهم البغلي لم يجزئ في إزالته غير الماء ، فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل أجزأت إزالته بغير الماء ، فإن كان في الثوب أو النعل أو الخف منه أكثر من قدر الدرهم البغلي ، فإن كان رطبا لم يجز إلا غسله بأي مائع كان ، فإن كان يابسا أو كان قدر الدرهم البغلي فأقل وإن كان رطبا أجزأ مسحه فقط ،
وروينا ، عن ابن عمر ، أنه قال : إن كان رطبا فاغسله وإن كان يابسا فحته.
قال علي : واحتج من رأى نجاسة المني بحديث رويناه من طريق سليمان بن يسار ، عن عائشة أن رسول الله r كان يغسل المني وكنت أغسله من ثوب رسول الله r .
وقالوا : هو خارج من مخرج البول فينجس لذلك وذكروا حديثا رويناه من طريق أبي حذيفة ،
عن سفيان الثوري مرة قال : عن الأعمش ، ومرة قال : عن منصور ، ثم استمر ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، عن عائشة في المني أن رسول الله r كان يأمر بحته.
قال علي : وهذا لا حجة لهم فيه.
أما الصحابة ، رضي الله عنهم ، فقد روينا ، عن عائشة وسعد وابن عباس مثل قولنا ، وإذا تنازع الصحابة ، رضي الله عنهم ، فليس بعضهم أولى من بعض ، بل الرد حينئذ واجب إلى القرآن والسنة.
وأما حديث سليمان بن يسار فليس فيه أمر من رسول الله r بغسله ، ولا بإزالته ، ولا بأنه نجس. وإنما فيه أنه r كان يغسله.
وأن عائشة تغسله ، وأفعاله r ليست على الوجوب ،
وقد حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا زهير ، هو ابن معاوية ، حدثنا حميد ، عن أنس بن مالك أن رسول الله r رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورئي كراهيته لذلك فلم يكن هذا دليلا عند خصومنا على نجاسة النخامة ، وقد يغسل المرء ثوبه مما ليس نجسا.
وأما حديث سفيان فإنما انفرد به أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي ، بصري ضعيف مصحف كثير الخطإ ، روى ، عن سفيان البواطل ، قال أحمد بن حنبل فيه : هو شبه لا شيء ، كأن سفيان الذي يحدث عنه أبو حذيفة ليس سفيان الذي يحدث عنه الناس.
وأما قولهم : إنه يخرج من مخرج البول ، فلا حجة في هذا ، لانه لا حكم للبول ما لم يظهر ، وقد قال الله تعالى ﴿ من بين فرث ودم لبنا خالصا فلم يكن خروج اللبن من بين الفرث والدم منجسا له ، فسقط كل ما تعلقوا به. وبالله تعالى التوفيق.
وقال بعضهم : يغسله رطبا على حديث سليمان بن يسار ، ويحكه يابسا على سائر الأحاديث.
قال علي : وهذا باطل ; لانه ليس في حديث سليمان أنه كان رطبا ، ولا في سائر الأحاديث أنه كان يابسا ، إلا في حديث الخولاني وحده ، فحصل هذا القائل على الكذب والتحكم ، إذ زاد في الأخبار ما ليس فيها.
قال علي : وقد قال بعضهم : معنى كنت أفركه أي بالماء.
قال علي : وهذا كذب آخر وزيادة في الخبر ، فكيف وفي بعض الأخبار كما أوردنا يابسا بظفري.
قال علي : ولو كان نجسا لما ترك الله تعالى رسوله r يصلي به ، ولاخبره كما أخبره إذ صلى بنعليه وفيهما قذر فخلعهما ، وقد ذكرناه قبل هذا بإسناده ، وبالله تعالى التوفيق.
132 - مسألة : وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا ، فكل ذلك طاهر ، ويتيمم بذلك التراب .
برهان ذلك أن الأحكام إنما هي على ما حكم الله تعالى بها فيه مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل ، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم ، وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه.
والعذرة غير التراب وغير الرماد ، وكذلك الخمر غير الخل ، والإنسان غير الدم الذي منه خلق ، والميتة غير التراب.
133 - مسألة : ولعاب المؤمنين من الرجال والنساء الجنب منهم والحائض وغيرهما ولعاب الخيل وكل ما يؤكل لحمه ، وعرق كل ذلك ودمعه ، وسؤر كل ما يؤكل لحمه طاهر مباح الصلاة به.
حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى ، هو ابن سعيد القطان ، حدثنا حميد ، حدثنا بكر ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن النبي r لقيه في بعض طرق المدينة وأبو هريرة جنب ، قال : فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت ، فقال : أين كنت يا أبا هريرة قال : كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة قال : سبحان الله إن المؤمن لا ينجس.
قال علي : وكل ما يؤكل لحمه فلا خلاف في أنه طاهر ، قال الله تعالى ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فكل حلال هو طيب ، والطيب لا يكون نجسا بل هو طاهر ، وبعض الطاهر طاهر بلا شك ، لإن الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه إلى أن يأتي نص بتحريم بعض الطاهر فيوقف عنده ، كالدم والبول والرجيع ، ويكون مستثنى من جملة الطاهر ، ويبقى سائرها على الطهارة وبالله تعالى التوفيق.
134 - مسألة : ولعاب الكفار من الرجال والنساء الكتابيين وغيرهم نجس كله ، وكذلك العرق منهم والدمع ، وكل ما كان منهم ، ولعاب كل ما لا يحل أكل لحمه من طائر أو غيره ، من خنزير أو كلب أو هر أو سبع أو فأر ، حاشا الضبع فقط ، وعرق كل ما ذكرنا ودمعه حرام واجب اجتنابه.
برهان ذلك قول الله تعالى ﴿ إنما المشركون نجس وبيقين يجب أن بعض النجس نجس ; لإن الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه ،
فإن قيل : إن معناه نجس الدين ،
قيل : هبكم أن ذلك كذلك.
أيجب من ذلك أن المشركين طاهرون حاشا لله من هذا وما فهم قط من قول الله تعالى ﴿ إنما المشركون نجس مع قول نبيه r : إن المؤمن لا ينجس أن المشركين طاهرون ،
ولا عجب في الدنيا أعجب ممن يقول فيمن نص الله تعالى أنهم نجس إنهم طاهرون ، ثم يقول في المني الذي لم يأت قط بنجاسته نص إنه نجس ، ويكفي من هذا القول سماعه. ونحمد الله على السلامة.
فإن قيل : قد أبيح لنا نكاح الكتابيات ووطؤهن ،
قلنا نعم ، فأي دليل في هذا على أن لعابها وعرقها ودمعها طاهر
فإن قيل : إنه لا يقدر على التحفظ من ذلك.
قلنا : هذا خطأ ، بل يفعل فيما مسه من لعابها وعرقها مثل الذي يفعل إذا مسه بولها أو دمها أو مائية فرجها ، ولا فرق ، ولا حرج في ذلك ، ثم هبك أنه لو صح لهم ذلك في نساء أهل الكتاب ، من أين لهم طهارة رجالهم أو طهارة النساء والرجال من غير أهل الكتاب
فإن قالوا :
قلنا ذلك قياسا على أهل الكتاب.
قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لإن أول بطلانه أن علتهم في طهارة الكتابيات جواز نكاحهن ، وهذه العلة معدومة بإقرارهم في غير الكتابيات.
والقياس عندهم لا يجوز إلا بعلة جامعة بين الحكمين ، وهذه علة مفرقة لا جامعة وبالله تعالى التوفيق.
وأما كل ما لا يحل أكله فهو حرام بالنص ، والحرام واجب اجتنابه ، وبعض الحرام حرام.
وبعض الواجب اجتنابه واجب اجتنابه ،
وروينا من طريق شعبة ، عن قتادة ، عن أبي الطفيل قال سمعت حذيفة بن أسيد يقول ، عن الدجال " ، ولا يسخر له من المطايا إلا الحمار فهو رجس على رجس " وقد قال أحمد بن حنبل : عرق الحمار نجس.
وأما استثناء الضبع فلما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس قال : نهى رسول الله r ، عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير.
وبه إلى أبي داود ، حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن عبد الرحمان بن أبي عمار ، عن جابر بن عبد الله قال : سألت رسول الله r ، عن الضبع ، فقال : هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم.
135 - مسألة : وسؤر كل كافر أو كافرة وسؤر كل ما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه من خنزير أو سبع أو حمار أهلي أو دجاج مخلى أو غير مخلى إذا لم يظهر هنالك للعاب ما لا يؤكل لحمه أثر فهو طاهر حلال ، حاشا ما ولغ فيه الكلب فقط ، ولا يجب غسل الإناء من شيء منه ، حاشا ما ولغ فيه الكلب والهر فقط.
برهان ذلك : أن الله تعالى حكم بطهارة الطاهر وتنجس النجس وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وذم أن تتعدى حدوده ، فكل ما حكم الله تعالى أنه طاهر فهو طاهر ، ولا يجوز أن يتنجس بملاقاة النجس له ; لإن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسول الله r وكل ما حكم الله تعالى أنه نجس فإنه لا يطهر بملاقاة الطاهر له ; لإن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسوله r .
وكل ما أحله الله تعالى فإنه لا يحرم بملاقاة الحرام له ; لإن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسوله r .
وكل ما حرمه الله تعالى فإنه لا يحل بملاقاة الحلال له ; لإن الله تعالى لم يوجب ذلك ، ولا رسوله r .
ولا فرق بين من ادعى أن الطاهر يتنجس بملاقاة النجس. وأن الحلال يحرم بملاقاة الحرام ، وبين من عكس الأمر فقال : بل النجس يطهر بملاقاة الطاهر ، والحرام يحل بملاقاة الحلال ، كلا القولين باطل ، بل كل ذلك باق على حكم الله عز وجل فيه ، إلا أن يأتي نص بخلاف هذا في شيء ما فيوقف عنده ، ولا يتعدى إلى غيره. فإذا شرب كل ما ذكرنا في إناء أو أكل أو أدخل فيه عضوا منه أو وقع فيه فسؤره حلال طاهر ، ولا يتنجس بشيء مما ماسه من الحرام أو النجس ، إلا أن يظهر بعض الحرام في ذلك الشيء ، وبعض الحرام حرام كما قدمنا. حاشا الكلب والهر ، فقد ذكرنا حكم رسول الله r . والحمد لله رب العالمين.
وقال أبو حنيفة : إن شرب في الإناء شيء من الحيوان الذي يؤكل لحمه فهو طاهر ، والوضوء بذلك الماء جائز : الفرس والبقر والضأن وغير ذلك سواء ،
وكذلك أسآر جميع الطير ، وما أكل لحمه وما لم يؤكل لحمه منها ، والدجاج المخلى وغيره ، فإن الوضوء بذلك الماء جائز وأكرهه ، وأكل أسآرها حلال ، قال فإن شرب في الإناء ما لا يؤكل لحمه من بغل أو حمار أو كلب أو هر أو سبع أو خنزير فهو نجس : ولا يجزئ الوضوء به ، ومن توضأ به أعاد أبدا.
وكذلك إن وقع شيء من لعابها في ماء أو غيره ، قال : وهذا وما لا يؤكل لحمه من الطير سواء في القياس ، ولكني أدع القياس وأستحسن.
قال علي : هذا فرق فاسد. ولا نعلم أحدا قبله فرق هذا الفرق : ولئن كان القياس حقا فلقد أخطأ في تركه الحق ، وفي استحسان خلاف الحق ، ولئن كان القياس باطلا ، فلقد أخطأ في استعمال الباطل حيث استعمله ودان به.
وقال بعض القائلين : حكم المائع حكم اللحم المماس له.
قال علي : هذه دعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل ،
وأيضا فإن كان أراد أن الحكم لهما واحد في التحريم فقد كذب ، لإن لحم ابن آدم حرام ، وهم لا يحرمون ما شرب فيه أو أدخل فيه لسانه ، وإن كان أراد في النجاسة والطهارة ، فمن له بنجاسة الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ما دام حيا ، ولا دليل له على ذلك ، ولا يكون نجسا إلا ما جاء النص بأنه نجس ، وإلا فلو كان كل حرام نجسا لكان ابن آدم نجسا.
وقال مالك : سؤر الحمار والبغل وكل ما لا يؤكل لحمه طاهر كسؤر غيره ، ولا فرق.
قال : وأما ما أكل الجيف من الطير والسباع فإن شرب من ماء لم يتوضأ به وكذلك الدجاج التي تأكل النتن ، فإن توضأ به لم يعد إلا في الوقت ، فإن شرب شيء من ذلك في لبن ، فإن تبين في منقاره قذر لم يؤكل ،
وأما ما لم ير في منقاره فلا بأس قال ابن القاسم صاحبه : يتوضأ به إن لم يجد غيره ويتيمم ، إذا علم أنها تأكل النتن. وقال مالك : لا بأس بلعاب الكلب.
قال علي : إيجابه الإعادة في الوقت خطأ على أصله ، لانه لا يخلو من أن يكون أدى الطهارة والصلاة كما أمر ، أو لم يؤدهما كما أمر ، فإن كان أدى الصلاة والطهارة كما أمر فلا يحل له أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ، وكذلك سائر الصلوات ، وإن كان لم يؤدهما كما أمر فالصلاة عليه أبدا ، وهي تؤدى عنده بعد الوقت. وقد قال بعض المتعصبين له إذ سئل بهذا السؤال فقال : صلى ولم يصل ، فلما أنكر عليه هذا ذكر قول الله تعالى ﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
قال أبو محمد علي : وهذا الاحتجاج بالآية في غير موضعها أقبح من القول المموه له بذلك ; لإن الله أخبر أن رسوله r لم يرم إذ رمى ، ولكنه تعالى هو رماها.
فهذا البائس الذي صلى ولم يصل ، من صلاها عنه فلا بد للصلاة إن كانت موجودة منه من أن يكون لها فاعل ، كما كان للرمية رام ، وهو الخلاق عز وجل إذ وجود فعل لا فاعل له محال وضلال ، وليس من أقوال أهل التوحيد ، وإن كانت الصلاة التي أمر بها غير موجودة منه فليصلها على أصلهم أبدا.
وأما قول ابن القاسم : إنه إن لم يجد غيره يتوضأ به ويتيمم إذا علم أنها تأكل النتن فمتناقض ، لانه إما ماء وأما ليس ماء ، فإن كان ماء فإنه لئن كان يجزئ الوضوء به إذا لم يجد غيره ، فإنه يجزئ وإن وجد غيره ، لانه ماء ، وإن كان لا يجزئ إذا وجد غيره ، فإنه لا يجزئ إذا لم يجد غيره إن كان ليس ماء ; لانه لا يعوض من الماء إلا التراب ، وإدخال التيمم في ذلك خطأ ظاهر ; لإن التيمم لا يحل ما دام يوجد ماء يجزئ به الوضوء.
وقال الشافعي : سؤر كل شيء من الحيوان الحلال أكله والحرام أكله طاهر ، وكذلك لعابه حاشا الكلب والخنزير ،
واحتج لقوله هذا بعض أحكامه بأنه قاس ذلك على أسآر بني آدم ولعابهم ، فإن لحومهم حرام ، ولعابهم وأسآرهم كل ذلك طاهر.
قال علي : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لإن قياس سائر السباع على الكلب الذي لم يحرم إلا أنه من جملتها ، وبعموم تحريم الله تعالى على لسان رسوله r لحم كل ذي ناب من السباع فقط ، فدخل الكلب في جملتها بهذا النص ، ولولاه لكان حلالا أولى من قياسها على ابن آدم الذي لا علة تجمع بينه وبينها ; لإن بني آدم متعبدون ، والسباع وسائر الحيوان غير متعبدة ، وإناث بني آدم حلال لذكورهم بالتزويج المباح وبملك اليمين المبيح للوطء ، وليس كذلك إناث سائر الحيوان ، وألبان نساء بني آدم حلال ، وليس كذلك ألبان إناث السباع والآتن ، فظهر خطأ هذا القياس بيقين.
فإن قالوا : قسناها على الهر ،
قيل لهم : وما الذي أوجب أن تقيسوها على الهر دون أن تقيسوها على الكلب لا سيما وقد قستم الخنزير على الكلب ولم تقيسوه على الهر ، كما قستم السباع على الهر ، هذا لو سلم لكم أمر الهر ، فكيف والنص الثابت الذي هو أثبت من حديث حميدة ، عن كبشة وقد ورد مبينا لوجوب غسل الإناء من ولوغ الهر ، فهذه مقاييس أصحاب القياس كما ترى. والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه.
==========
كتاب الطهارة
136 - مسألة : وكل شيء مائع - من ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك ، أي شيء كان ، إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه أو ميتة ، فإن غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه أو ريحه فقد فسد كله وحرم أكله ، ولم يجز استعماله ولا بيعه ، فإن لم يغير شيئا من لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه ، فذلك المائع حلال أكله وشربه واستعماله - إن كان قبل ذلك كذلك - والوضوء حلال بذلك الماء ، والتطهر به في الغسل أيضا كذلك ، وبيع ما كان جائزا بيعه قبل ذلك حلال ، ولا معنى لتبين أمره ، وهو بمنزلة ما وقع فيه مخاط أو بصاق إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره ، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره . وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره ، إن لم يغير البول شيئا من أوصافه . وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر ، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره ، إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء ، فلا يجزئ حينئذ استعماله أصلا له ولا لغيره . وحاشا ما ولغ فيه الكلب فإنه يهرق ولا بد كما قدمنا في بابه ، وحاشا السمن يقع فيه الفأر ميتا أو يموت فيه أو يخرج منه حيا ذكرا كان الفأر أو أنثى صغيرا أو كبيرا - فإنه إن كان ذائبا حين موت الفأر فيه ، أو حين وقوعه فيه ميتا أو خرج منه حيا أهرق كله - ولو أنه ألف ألف قنطار أو أقل أو أكثر - ولم يحل الانتفاع به جمد بعد ذلك أو لم يجمد وإن كان حين موت الفأر فيه أو وقوعه فيه ميتا جامدا واتصل جموده ، فإن الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى ، والباقي حلال أكله وبيعه والادهان به قل أو كثر ، وحاشا الماء فلا يحل بيعه لنهي النبي ﷺ عن ذلك على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى . برهان ذلك : ما ذكرنا قبل من أن كل ما أحل الله تعالى وحكم فيه بأنه طاهر فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بتحريمه أو نجاسته . وكل ما حرم الله تعالى أو نجسه فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بإباحته أو تطهيره ، وما عدا هذا فهو تعد لحدود الله تعالى ، وقال تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } وقال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } وقال تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } وصح بهذا يقينا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس ، وأن النجس لا يطهر بملاقاة الطاهر . وأن الحلال لا يحرم بملاقاة الحرام والحرام لا يحل بملاقاة الحلال بل الحلال حلال كما كان والحرام حرام كما كان ، والطاهر طاهر كما كان والنجس نجس كما كان ، إلا أن يرد نص بإحالة حكم من ذلك فسمعا وطاعة . وإلا فلا . ولو تنجس الماء بما يلاقيه من النجاسات ما طهر شيء أبدا ، لأنه كان إذا صب على النجاسة لغسلها ينجس على قولهم ولا بد ، وإذا تنجس وجب تطهيره ، وهكذا أبدا ، ولو كان كذلك لتنجس البحر والأنهار الجارية كلها ؛ لأنه إذا تنجس الماء الذي خالطته النجاسة وجب أن يتنجس الماء الذي يماسه أيضا ، ثم يجب أن يتنجس ما مسه أيضا كذلك أبدا ، وهذا لا مخلص منه . فإن قالوا في شيء من ذلك : لا يتنجس . تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق وتناقضوا ، وفي إجماعهم معنا على بطلان ذلك وعلى تطهير المخرج والدم في الفم والثوب والجسم إقرار بأنه لا نجاسة إلا ما ظهرت فيه عين النجاسة ، ولا يحرم إلا ما ظهر فيه عين المنصوص على تحريمه فقط ، وسائر قولهم فاسد . فإن فرقوا بين الماء الوارد وبين الذي ترده النجاسة . زادوا في التخليط بلا دليل . وأما إذا تغير لون الحلال الطاهر - بما مازجه من نجس أو حرام - أو تغير طعمه بذلك ، أو تغير - ريحه بذلك ، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الحلال إلا باستعمال الحرام ، واستعمال الحرام في الأكل والشرب وفي الصلاة حرام كما قلنا ، ولذلك وجب الامتناع منه ، لا لأن الحلال الطاهر حرم ولا تنجست عينه ، ولو قدرنا على تخليص الحلال الطاهر من الحرام والنجس ، لكان حلالا بحسبه .
وكذلك إذا كانت النجاسة أو الحرام على جرم طاهر فأزلناها ، فإن النجس لم يطهر والحرام لم يحل ، لكنه زايل الحلال الطاهر ، فقدرنا على أن نستعمله حينئذ حلالا طاهرا كما كان . وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام ، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه ، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر ، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام ، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر . وكذلك إذا استحالت صفات عين الحلال الطاهر ، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه ، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حرام أو نجس ، فليس هو ذلك الحلال الطاهر ، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر كالعصير يصير خمرا ، أو الخمر يصير خلا ، أو لحم الخنزير تأكله دجاجة يستحيل فيها لحم دجاج حلالا وكالماء يصير بولا ، والطعام يصير عذرة ، والعذرة والبول تدهن بهما الأرض فيعودان ثمرة حلالا ، ومثل هذا كثير ، وكنقطة ماء تقع في خمر أو نقطة خمر تقع في ماء ، فلا يظهر لشيء من ذلك أثر ، وهكذا كل شيء ، والأحكام للأسماء والأسماء تابعة للصفات التي هي حد ما هي فيه المفرق بين أنواعه . وأما إباحة بيعه والاستصباح به ، فإنما بيع الجرم الحلال لا ما مازجه من الحرام ، وبيع الحلال حلال كما كان قبل . ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل . وممن أجاز بيع المائعات تقع فيها النجاسة والانتفاع بها : علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري والقاسم وسالم وعطاء والليث وأبو حنيفة وسفيان وإسحاق وغيرهم . فإن قيل : فإن في الناس من يحرم ذلك ولا يستجيز أن يأخذه ولو أعطيه بلا ثمن ، فكتمانه ذلك غش ، والغش حرام ، والدين النصيحة . قلنا نعم ، كما أن أكثر الناس لا يستسهل أن يأخذ مائعا وقعت فيه مخطة مجذوم ، أو أدخل فيه يده ، ولو أعطيه بلا ثمن ، وهذا عند الجامدين من خصومنا لا معنى له ، وليس شيء من هذا غشا ، إنما الغش ما كان في الدين ، والنصيحة كذلك ، لا في الظنون الكاذبة المخالفة لأمر الله تعالى . على أن في القائلين من يقول بأن البصاق نجس ممن هو أفضل من الأرض مملوءة من مثل من قلده هؤلاء المتأخرون ، كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عامر العقدي ثنا سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي بن حراش عن سلمان هو الفارسي صاحب رسول الله ﷺ - قال : " إذا بصقت على جلدك وأنت متوضئ فإن البصاق ليس بطاهر فلا تصل حتى تغسله " . قال ابن المثنى : وحدثنا مخلد بن يزيد الحراني عن التيمي عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال : البصاق بمنزلة العذرة ، ولكن لا حجة في أحد من الناس مع رسول الله ﷺ . فأما حكم البائل فلما حدثنا أحمد بن القاسم حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا حامد بن يحيى البلخي ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب هو السختياني - عن محمد هو ابن سيرين - عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } . فلو أراد عليه السلام أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا ولا تعنيتا لنا بأن يكلفنا علم ما لم يبده لنا من الغيب ، فأما أمر الكلب فقد مضى الكلام فيه .
وأما السمن فإن حمام بن أحمد قال : ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال { سئل رسول الله ﷺ عن الفأرة تقع في السمن قال : إذا كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه } قال عبد الرزاق : وقد كان معمر يذكره أيضا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن ميمونة قال : وكذلك حدثناه ابن عيينة . قال علي : الفأرة والحية والدجاجة والحمامة والعرس أسماء كل واحد منها يقع على الذكر في لغة العرب وقوعه على الأنثى ، وفي قوله ﷺ : { ألقوها وما حولها } . برهان بأنها لا تكون إلا ميتة ، إذ لا يمكن ذلك من الحية . فإن قيل : فإن عبد الواحد بن زياد روى عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة هذا الخبر فقال : { وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به أو قال : انتفعوا به } قلنا وبالله تعالى التوفيق : عبد الواحد قد شك في لفظة الحديث فصح أنه لم يضبطه ولا شك في أن عبد الرزاق أحفظ لحديث معمر . وأيضا فلم يختلف عن معمر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة . ومن لم يختلف عليه أحق بالضبط ممن اختلف عليه . وأما الذي نعتمد عليه في هذا فهو أن كلا الروايتين حق ، فأما رواية عبد الواحد فموافقة لما كنا نكون عليه لو لم يرد شيء من هذه الرواية ؛ لأن الأصل إباحة الانتفاع بالسمن وغيره ، لقول الله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } . وأما رواية عبد الرزاق فشرع وارد وحكم زائد ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين لا شك فيه ، ونحن على يقين من أن الله تعالى لو أعاد حكم المنسوخ وأبطل حكم الناسخ لبين ذلك بيانا يرفع به الإشكال ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فبطل حكم رواية عبد الواحد بيقين لا شك فيه ، وبالله تعالى التوفيق . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن فضيل ثنا عطاء بن السائب عن ميسرة النهدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - في الفأرة إذا وقعت في السمن فماتت فيه - قال : إن كان جامدا فاطرحها وما حولها وكل بقيته ، وإن كان ذائبا فأهرقه . قال علي : والمأخوذ مما حولها هو أقل ما يمكن أن يؤخذ وأرقه غلظا ، لأن هذا هو الذي يقع عليه اسم ما حولها ، وأما ما زاد على ذلك فمن المأمور بأكله والمنهي عن تضييعه . فإن قيل : فقد روي : { خذوا مما حولها قدر الكف . } قيل : هذا إنما جاء مرسلا من رواية أبي جابر البياضي - وهو كذاب - عن ابن المسيب فقط ، ومن رواية شريك بن أبي نمر - وهو ضعيف - عن عطاء بن يسار ، وشريك ضعيف ، ولا حجة في مرسل ولو رواه الثقات ، فكيف من رواية الضعفاء . ولا يجوز أن يحكم لغير الفأر في غير السمن ، ولا للفأر في غير السمن ولا لغير الفأرة في السمن بحكم الفأر في السمن ، لأنه لا نص في غير الفأر في السمن ، ومن المحال أن يريد رسول الله ﷺ - حكما في غير الفأر في غير السمن ثم يسكت عنه ولا يخبرنا به ، ويكلنا إلى علم الغيب والقول بما لا نعلم على الله تعالى ، وما يعجز عليه السلام قط عن أن يقول لو أراد : إذا وقع النجس أو الحرام في المائع فافعلوا كذا ، حاشا لله من أن يدع عليه السلام بيان ما أمره ربه تعالى بتبليغه . هذا هو الباطل المقطوع على بطلانه بلا شك . فإن قيل : فإنه قد روي { أن رسول الله ﷺ سئل عن فأرة وقعت في ودك فقال عليه السلام : اطرحوها وما حولها إن كان جامدا ، قيل : وإن كان مائعا ؟ قال : فانتفعوا به ولا تأكلوه } . قلنا : هذا لم يروه أحد إلا عبد الجبار بن عمر ، وهو لا شيء ، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم ، وأيضا فليس فيه إلا الفأر في الودك فقط ، وقد قيل : إن الودك في اللغة للسمن والمرق خاصة والدسم للشحم . وقال أبو حنيفة : إن وقعت خمر أو ميتة أو بول أو عذرة أو نجاسة في ماء راكد نجس كله قلت النجاسة أو كثرت ، ووجب هرقه كله ولم تجز صلاة من توضأ منه أو اغتسل منه ، ولم يحل شربه كثر ذلك الماء أو قل ، إلا أن يكون إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر ، فإنه طاهر حينئذ ، وجائز التطهر به وشربه ، فإن وقعت كذلك في مائع غير الماء حرم أكله وشربه وجاز الاستصباح به والانتفاع به وبيعه ، فإن وقعت النجاسة أو الحرام في بئر ، فإن كان ذلك عصفورا فمات ، أو فأرة فماتت ، فأخرجا ، فإن البئر قد تنجست ، وطهورها أن يستقى منها عشرون دلوا والباقي طاهر . فإن كانت دجاجة أو سنورا فأخرجا حين ماتا فطهورها أربعون دلوا والباقي طاهر ، فإن كانت شاة فأخرجت حين ماتت أو بعدما انتفخت أو تفسخت ، أو لم تخرج الفأرة ولا العصفور ولا الدجاجة أو السنور إلا بعد الانتفاخ أو الانفساخ ، فطهور البئر أن تنزح ، وحد النزح عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يغلبه الماء ، وعند محمد بن الحسن مائتا دلو ، فلو وقع في البئر سنور أو فأر أو حنش فأخرج ذلك وهي أحياء ، فالماء طاهر يتوضأ به ، ويستحب أن ينزح منها عشرون دلوا ، فلو وقع فيها كلب أو حمار فأخرجا حيين فلا بد من نزح البئر حتى يغلبهم الماء ، فلو بالت شاة في البئر وجب نزحها حتى يغلبهم ، قل البول أو كثر . وكذلك لو بال فيها بعير عندهم ، فلو وقع فيها بعرتان من بعر الإبل أو بعر الغنم لم يضرها ذلك .
وكذلك لو وقع في الماء خرء حمام أو خرء عصفور لم يضره . قال أبو حنيفة : من توضأ من بئر ثم أخرج منها ميتة : فأرة أو دجاجة أو نحو ذلك فإن كانت لم تنفسخ أعاد صلاة يوم وليلة ، وإن كانت قد انفسخت أعاد صلاة ثلاثة أيام بلياليها ، فإن كان طائرا رأوه وقع في البئر ، فإن أخرج ولم يتفسخ لم يعيدوا شيئا وإن أخرج متفسخا أعادوا صلاة ثلاثة أيام بلياليها . فإن رمي شيء من خمر أو دم في بئر نزحت كلها ، فلو رمي في بئر عظم ميتة ، فإن كان عليه لحم أو دم تنجست البئر كلها ووجب نزحها ، فإن لم يكن عليه دم أو لحم لم تتنجس البئر ، إلا أن يكون عظم خنزير أو شعرة واحدة من خنزير ، فإن البئر كلها تتنجس ويجب نزحها ، كان عليهما لحم أو دسم أو لم يكن . وقال أبو يوسف ومحمد : لو ماتت فأرة في ماء في طست وصب ذلك الماء في بئر فإنه ينزح منها عشرون دلوا فقط ، فلو توضأ رجل مسلم طاهر في طست طاهر بماء طاهر وصب ذلك الماء في البئر ، قال أبو يوسف : قد تنجست البئر وتنزح كلها ، وقال محمد بن الحسن : ينزح منها عشرون دلوا كما ينزح من الفأرة الميتة ، فلو وقعت فأرة في خابية ماء فماتت ، فصب ذلك الماء في بئر ، فإن أبا يوسف قال : ينزح منها مثل الماء الذي رمي فيها فقط . وقال محمد بن الحسن : ينزح الأكثر من ذلك الماء أو من عشرين دلوا ، وقال أبو يوسف : لو ماتت فأرة في خابية فرميت الفأرة في بئر ورمي الماء في بئر أخرى ، فإن الفأرة تخرج ويخرج معها عشرون دلوا فقط ويخرج من الماء من البئر الأخرى مثل الماء الذي رمي فيها وعشرون دلوا زيادة فقط ، فلو أن فأرة وقعت في بئر فأخرجت وأخرج معها عشرون دلوا ، ثم رميت الفأرة وتلك العشرون دلوا معها في بئر أخرى فإنه يخرج الفأرة وعشرون دلوا فقط .
قالوا : فلو مات في الماء ضفدع أو ذباب أو زنبور أو عقرب أو خنفساء أو جراد أو نمل أو صرار أو سمك فطفا أو كل ما لا دم له ، فإن الماء طاهر جائز الوضوء به والغسل ، والسمك الطافي عندهم لا يحل أكله . وكذلك إن مات كل ذلك في مائع غير الماء فهو طاهر حلال أكله ، قالوا : فإن ماتت في الماء أو في مائع غيره حية فقد تنجس ذلك الماء وذلك المائع ، لأن لها دما ، فإن ذبح كلب أو حمار أو سبع ثم رمي كل ذلك في راكد لم يتنجس ذلك الماء ، وإن ذلك اللحم حرام لا يحل أكله ، وهكذا كل شيء إلا الخنزير وابن آدم ، فإنهما وإن ذبحا ينجسان الماء . قال علي : فمن يقول هذه الأقوال - التي كثير مما يأتي به المبرسم أشبه منها - ألا يستحي من أن ينكر على من اتبع أوامر رسول الله ﷺ وموجبات العقول في فهم ما أمر الله تعالى به على لسان نبيه ﷺ ولم يتعد حدود ما أمر الله تعالى به ولكن ما رأينا سنة مضاعة ، إلا ومعها بدعة مذاعة . وهذه أقوال لو تتبع ما فيها من التخليط لقام في بيان ذلك سفر ضخم ، إذ كل فصل منها مصيبة في التحكم والفساد والتناقض ، وإنها أقوال لم يقلها قط أحد قبلهم ، ولا لها حظ من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا من قياس يعقل ، ولا من رأي سديد ، ولا من باطل مطرد ، ولكن من باطل متخاذل في غاية السخافة . والعجب أنهم موهوا برواية عن ابن عباس وابن الزبير : أنهما نزحا زمزم من زنجي مات فيها ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن إبراهيم النخعي وعطاء والشعبي والحسن وحماد بن أبي سليمان وسلمة بن كهيل . قال علي بن أحمد : وكل ما روي عن هؤلاء الصحابة وهؤلاء التابعين رضي الله عنهم فمخالف لأقوال أبي حنيفة وأصحابه . أما علي فإننا روينا عنه أنه قال في فأرة وقعت في بئر فماتت : إنه ينزح ماؤها ، وأنه قال في فأرة وقعت في بئر فقطعت : يخرج منها سبع دلاء ، فإن كانت الفأرة كهيئتها لم تتقطع ينزح منها دلو أو دلوان ، فإن كانت منتنة ينزح من البئر ما يذهب الريح ، وهاتان الروايتان ليست واحدة منهما قول أبي حنيفة أصلا . وأما الرواية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما ، فلو صح ذلك عن النبي ﷺ لم يجب بذلك فرض نزح البئر مما يقع فيها من النجاسات ، فكيف عمن دونه عليه السلام ، لأنه ليس فيه أنهما أوجبا نزحها ولا أمرا به ، وإنما هو فعل منهما قد يفعلانه عن طيب النفس ، لا على أن ذلك واجب ، فبطل تعلقهم بفعل ابن عباس وابن الزبير ، وأيضا فإن في الخبر نفسه أنه قيل لابن عباس : قد غلبتنا عين من جهة الحجر ، فأعطاهم كساء خز فحشوه فيها حتى نزحوها ، وليس هذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن حد النزح عند أبي حنيفة أن يغلبهم الماء فقط ، وعند محمد مائتا دلو فقط ، وعند أبي يوسف كقول أبي حنيفة ، فمن أضل ممن يحتج بخبر - يقضي بأنه حجة على من لا يراه حجة - ثم يكون المحتج به أول مخالف لما احتج فكيف ولو صح أنهما رضي الله عنهما أمرا بنزحها لما كان للحنفيين في ذلك حجة ، لأنه لا يجوز أن يظن بهم ، إلا أن زمزم تغيرت بموت الزنجي . وهذا قولنا ، ويؤيد هذا صحة الخبر عن ابن عباس الذي رويناه من طريق وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة عن الشعبي عن ابن عباس : أربع لا تنجس ، الماء والثوب والإنسان والأرض . وقد روينا عن عمر بن الخطاب أن الله جعل الماء طهورا . وأما التابعون المذكورون ، فإن إبراهيم النخعي قال : في الفأرة أربعون دلوا وفي السنور أربعون دلوا ، وقال الشعبي في الدجاجة سبعون دلوا ، وقال حماد بن أبي سليمان في السنور ثلاثون دلوا ، وفي الدجاجة ثلاثون دلوا . وقال سلمة بن كهيل في الدجاجة أربعون دلوا ، وقال الحسن في الفأرة أربعون دلوا ، وقال عطاء في الفأرة عشرون دلوا ، وفي الشاة تموت في البئر أربعون دلوا ، فإن تفسخت فمائة دلو أو تنزح ، وفي الكلب يقع في البئر ، إن أخرج منها حيا عشرون دلوا ، فإن مات فأخرج حين موته فستون دلوا ، فإن تفسخ فمائة دلو أو تنزح ، فهل من هذه الأقوال قول يوافق أقوال أبي حنيفة وأصحابه إلا قول عطاء في الفأرة دون أن يقسم تقسيم أبي حنيفة ، وقول إبراهيم في السنور دون أن يقسم أيضا تقسيم أبي حنيفة ، فلم يحصلوا إلا على خلاف الصحابة والتابعين كلهم فلا تعلق بشيء من السنن أو المقاييس . ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم : إن ماء وضوء المسلم الطاهر النظيف أنجس من الفأرة الميتة ولو أوردنا التشنيع عليهم بالحق لألزمناهم ذلك في وضوء رسول الله ﷺ فإما أن يتركوا قولهم ، وإما أن يخرجوا عن الإسلام أو في وضوء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقولهم : إن حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر ، فليت شعري هذه الحركة بماذا تكون أبإصبع طفل ، أم بتبنة ، أو بعود مغزل ، أو بعوم عائم ، أو بوقوع فيل ، أو بحصاة صغيرة أو بحجر منجنيق ، أو بانهدام جرف ؟ نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط ، لا سيما فرقهم في ذلك بين الماء وسائر المائعات ، فإن ادعوا فيه إجماعا ، قلنا لهم : كذبتم ، هذا ابن الماجشون يقول : إن كل ماء أصابته نجاسة فقد تنجس ، إلا أن يكون غديرا إذا حرك وسطه لم تتحرك أطرافه .
وقال مالك في البئر تقع فيها الدجاجة فتموت فيها : إنه ينزف إلا أن تغلبهم كثرة الماء ، ولا يؤكل طعام عجن به ، ويغسل من الثياب ما غسل به ، ويعيد كل من توضأ بذلك الماء أو اغتسل به صلاة صلاها ما كان في الوقت . قال فإن وقعت في البئر الوزغة أو الفأرة فماتتا إنه يستقى منها حتى تطيب ، ينزفون منها ما استطاعوا ، فلو وقع خمر في ماء فإن من يتوضأ منه يعيد في الوقت فقط ، فلو وقع شيء من ذلك في مائع غير الماء لم يحل أكله ، تغير أو لم يتغير ، فإن بل في الماء خبز لم يجز الوضوء منه ، وأعاد من توضأ به أبدا ، فلو تغير الماء من النجاسة المذكورة أو من شيء طاهر ، أعاد من توضأ به وصلى أبدا ، فلو مات شيء من خشاش الأرض في ماء أو في طعام أو شراب أو غير ذلك لم يضره ، ويؤكل كل ذلك ويشرب ، وذلك نحو الزنبور والعقرب والصرار والخنفساء والسرطان والضفدع وما أشبه ذلك . وقال ابن القاسم صاحبه : قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، ويتيمم من لم يجد سواه ، فإن توضأ وصلى به لم يعد إلا في الوقت . قال علي : إن كان فرق بهذا القول بين ما ماتت فيه الوزغة والفأرة وبين ما ماتت فيه الدجاجة فهو خطأ ، لأنه قول بلا برهان ، وإن كان ساوى بين كل ذلك فقد تناقض قوله ، إذ منع من أكل الطعام المعمول بذلك الماء ، وإذ أمر بغسل ما مسه من الثياب ، ثم لم يأمر بإعادة الصلاة إلا في الوقت ، وهذا عنده اختيار لا إيجاب ، فإن كانت الصلاة التي يأمره بأن يأتي بها في الوقت تطوعا عنده ، فأي معنى للتطوع في إصلاح ما فسد من صلاة الفريضة ؟ فإن قال إن لذلك معنى ، قيل له : فما الذي يفسد ذلك المعنى إذا خرج الوقت ؟ وما الوجه الذي رغبتموه من أجله في أن يتطوع في الوقت ، ولم ترغبوه في التطوع بعد الوقت ؟ وإن كانت الصلاة التي يأمره أن يأتي بها في الوقت فرضا ، فكيف يجوز أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ؟ وما الذي أسقطها عنه إذا خرج الوقت ؟ وهو يرى أن الصلاة الفرض يؤديها التارك لها فرضا ولا بد وإن خرج الوقت . ثم العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي . المائعات وبين ما له دم يموت فيها وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا معقول ، والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم . فإن قالوا : أردنا ما له دم سائل ، قيل : وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات ؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام ، وبذلك جاء القرآن ، والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد ، فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات ؟ فقال بعضهم : قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت ، وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت ، وعلى أكل الجبن والتين كذلك ، وقد أمر رسول الله ﷺ بمقل الذباب في الطعام . قيل لهم وبالله تعالى التوفيق : إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم ، وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم ، فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين : إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة . ويكون ما عدا ذلك بخلافه ، إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها ، وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر ، وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل ، وعلى الدود كل منساب . ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له ؟ فأخطأتم مرتين : إحداهما أن الذباب له دم ، والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له ، دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح . فإن قالوا : قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن . قيل لهم : ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر ؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل ، أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلا والعجب كله من حكمهم أن ما كان له دم سائل فهو النجس ، فيقال لهم : فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم ؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة ؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه . وأما قول ابن القاسم فظاهر الخطأ ، لأنه رأى التيمم أولى من الماء النجس . فوجب أن المستعمل له ليس متوضئا ، ثم لم ير الإعادة على من صلى كذلك إلا في الوقت ، وهو عنده مصل بغير وضوء . وقال الشافعي : إذا كان الماء غير جار ، فسواء البئر والإناء والبقعة وغير ذلك إذا كان أقل من خمسمائة رطل بالبغدادي ، بما قل أو كثر ، فإنه ينجسه كل نجس وقع فيه وكل ميتة ، سواء ما له دم سائل وما ليس له دم سائل ، كل ذلك ميتة نجس يفسد ما وقع فيه ، فإن كان خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه فإن كان ذلك في مائع غير الماء نجس كله وحرم استعماله ، كثيرا كان أو قليلا . وقال أبو ثور صاحبه : جميع المائعات بمنزلة الماء ، إذا كان المائع خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه ، إلا أن يغير لونه أو طعمه أو ريحه ، فإن كان أقل من خمسمائة رطل ينجس . ولم يختلف أصحاب الشافعي - وهو الواجب ولا بد على أصله - في أن إناء فيه خمسمائة رطل من ماء غير أوقية فوقع فيه نقطة بول أو خمر أو نجاسة ما فإنه كله نجس حرام ولا يجوز الوضوء فيه ، وإن لم يظهر لذلك فيه أثر ، فلو وقع فيه رطل بول أو خمر أو نجاسة ما فلم يظهر لها فيه أثر ، فالماء طاهر يجزئ الوضوء به ويجوز شربه .
========
كتاب الطهارة
واحتج أصحاب الشافعي لقولهم هذا بالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ في { غسل الإناء من ولوغ الكلب وهرقه } ، { وبأمره ﷺ من استيقظ من نومه بغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه فإنه لا يدري أين باتت يده } ، { وبأمره ﷺ البائل في الماء ألا يتوضأ منه ولا يغتسل } ، وبقوله ﷺ : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ولم يقبل الخبث } . قالوا : فدلت هذه الأحاديث على أن الماء يقبل النجاسة ما لم يبلغ حدا ما . قالوا فكانت القلتان حدا منصوصا عليه فيما لا يقبل النجاسة منه ، واحتج بهذا أيضا أصحاب أبي حنيفة في قولهم . ثم اختلفوا في تحديد القلتين ، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : القلة أعلى الشيء فمعنى القلتين ههنا القامتان ، وقال الشافعي - بما روى عن ابن جريج : إن القلتين من قلال هجر ، وإن قلال هجر القلة الواحدة قربتان أو قربتان وشيء ، قال الشافعي : القربة مائة رطل ، وقال أحمد بن حنبل بذلك ، ولم يحد في القلتين حدا أكثر من أنه قال مرة : القلتان أربع قرب ، ومرة قال : خمس قرب ، ولم يحدها بأرطال . وقال إسحاق : القلتان ست قرب ، وقال وكيع ويحيى بن آدم : القلة الجرة وهو قول الحسن البصري ، أي جرة كانت فهي قلة ، وهو قول مجاهد وأبي عبيد ، قال مجاهد القلة الجرة ، ولم يحد أبو عبيد في القلة حدا . وأظرف شيء تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري فإن احتجوا في ذلك بأن الماء الجاري إذا خالطته النجاسة مضى وخلفه طاهر : فقد علموا يقينا أن الذي خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو ، وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب ، والنجاسة قد خالطته بلا شك ، فوقعوا في نفس ما شنعوا وأنكروا . فإن قالوا : لم نحتج في الفرق بين الماء الجاري وغير الجاري إلا بأن النهي إنما ورد عن الماء الراكد الذي يبال فيه . قلنا : صدقتم ، وهذا هو الحق وبذلك الأمر نفسه في ذلك الخبر نفسه فرقنا نحن بين من ورد عليه النهي وهو البائل وبين من لم يرد عليه النهي وهو غير البائل ، ولا سبيل إلى دليل يفرق بين ما أخذوا به من ذلك الخبر وبين ما تركوا منه . وبالله تعالى التوفيق . واحتجوا بحديث الفأرة في السمن فيما ادعوه من قبول ما عدا الماء للنجاسة قال علي : هذا كل ما احتجوا به ، ما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا ، وكل هذه الأحاديث صحاح ثابتة لا مغمز فيها . وكلها لا حجة لهم في شيء منها . وكلها حجة عليهم لنا ، على ما نبين إن شاء الله عز وجل وبه تعالى نستعين . فأول ذلك أنهم كلهم أقوالهم مخالفة لما في هذه الأخبار ، ونحن نقول بها كلها والحمد لله على ذلك . أما حديث ولوغ الكلب في الإناء فإن أبا حنيفة وأصحابه خالفوه جهارا ، فأمر رسول الله ﷺ بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ، فقالوا هم : لا بل مرة واحدة فقط . فسقط تعلقهم بقول هم أول من عصاه وخالفه فتركوا ما فيه وادعوا فيه ما ليس فيه وأخطئوا مرتين . أما مالك فقال : لا يهرق إلا أن يكون ماء - فخالف الحديث أيضا علانية - وهو وأصحابه موافقون لنا على أن هذا الخبر لا يتعدى به إلى سواه وأنه لا يقاس شيء من النجاسات بولوغ الكلب ، وصدقوا في ذلك إذ من ادعى خلاف هذا فقد زاد في كلام رسول الله ﷺ ما لم يقله عليه السلام قط . وأما الشافعي فإنه قال : إن كان ما في الإناء من الماء خمسمائة رطل فلا يهرق ولا يغسل الإناء . وإن كان فيه غير الماء أهرق بالغا ما بلغ . هذا ليس في الحديث أصلا لا بنص ولا بدليل ، فقد خالف هذا الخبر وزاد فيه ما ليس فيه من أنه إن أدخل فيه يده أو رجله أو ذنبه أهرق وغسل سبع مرات إحداهن بالتراب ، وهذه زيادة ليست في كلامه عليه السلام أصلا ، وقال : إن ولغ في الإناء خنزير كان في حكمه حكم ما ولغ فيه الكلب : يغسل سبعا إحداهن بالتراب . قال فإن ولغ فيه سبع لم يغسل أصلا ولا أهرق . فقاس الخنزير على الكلب ، ولم يقس السباع على الكلب - وهو بعضها - وإنما حرم الكلب بعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع . فقد ظهر خلاف أقوالهم لهذا الخبر وموافقتنا نحن لما فيه ، فهو حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وظهر فساد قياسهم وبطلانه ، وأنه دعاوى لا دليل على شيء منها .
وأما الخبر فيمن { استيقظ من نومه فيغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت } ، فإنهم كلهم مخالفون له ، وقائلون إن هذا لا يجب على المستيقظ من نومه . وقلنا نحن بل هو واجب عليه . وقالوا كلهم إن النجاسات التي احتجوا بهذه الأخبار في قبول الماء لها وفرقوا بها بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء على النجاسة فإنها تزال بغسلة واحدة . وهذا خلاف ما في هذين الخبرين جهارا ، لأن في أحدهما تطهير الإناء بسبع غسلات أولاهن بالتراب وفي الآخر تطهير اليد بثلاث غسلات ، وهم لا يقولون بهذا في النجاسات ، ولو كان هذان الخبران دليلين على قبول الماء للنجاسة لوجب أن يكون حكمهما مستعملا في إزالة النجاسات ، فبطل احتجاجهم بهذين الخبرين جملة ، والحمد لله . ومن الباطل المتيقن أن يكون ما ظنت به النجاسة من اليد لا يطهر إلا بثلاث غسلات ، وإذا تيقنت النجاسة فيها اكتفي في إزالتها بغسلة واحدة ، فهذا قولهم الذي لا شنعة أشنع منه ، وهم يدعون إنفاذ حكم العقول في قياساتهم ، ولا حكم أشد منافرة للعقل من هذا الحكم ، ولو قاله رسول الله ﷺ لسمعنا وأطعنا وقلنا : هو الحق ، لكن لما لم يقله رسول الله ﷺ وجب إطراحه والرغبة عنه ، وأن نوقن بأنه الباطل ومن المحال أيضا أن يكون الأمر للمتنبه بغسل اليد ثلاثا خوف أن تقع على نجاسة ، إذ لو كان كذلك لكانت رجله في ذلك كيده ولكان باطن فخذيه وباطن أليتيه أحق بذلك من يده . وأما مالك فموافق لنا في الخبر أنه ليس دليلا على قبول الماء للنجاسة ، فبطل تعلقهم أيضا بهذا الخبر جملة ، وصح أنه حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين ، فصح اتفاق جميعهم على أن هذين الخبرين لا يجعلان أصلا لسائر النجاسات ، وألا يقاس سائر النجاسات على حكمهما ، فبطل تعلقهم بهما . وأما حديث نهي البائل في الماء الراكد عن أن يتوضأ منه أو يغتسل ، فإنهم كلهم مخالفون له أيضا . أما أبو حنيفة فإنه قال : إن كان الماء بركة إذا حرك طرفها الواحد لم يتحرك طرفها الآخر . فإنه لو بال فيها ما شاء أن يبول فله أن يتوضأ منها ويغتسل ، فإن كانت أقل من ذلك لم يكن له ولا لغيره أن يتوضأ منها ولا أن يغتسل فزاد في الحديث ما ليس فيه من تحريم ذلك على غير البائل ، وخالف الحديث فيما فيه بإباحته - في بعض أحوال كثرة الماء وقلته - للبائل فيه أن يتوضأ منه ويغتسل وكذلك قول الشافعي في الماء إذا كان خمسمائة رطل أو أقل من خمسمائة رطل فخالف الحديث كما خالفه أبو حنيفة ، وزاد فيه كما زاد أبو حنيفة ، وأما مالك فخالفه كله . قال : إذا لم يتغير الماء ببوله فله أن يتوضأ منه ويغتسل ، وقال في بعض أقواله إذا كان كثيرا . فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة لمخالفتهم له . وأما نحن فأخذنا به كما ورد ، ولله الحمد كثيرا . وأما حديث الفأر في السمن فإنهم كلهم خالفوه ؛ لأن أبا حنيفة ومالكا والشافعي أباحوا الاستصباح به ، وفي الحديث { لا تقربوه } وأباح أبو حنيفة بيعه ، فبطل تعلقهم بجميع هذه الآثار وصح خلافهم لها ، وأنها حجة لنا عليهم . فإن قيل : فما معنى هذه الآثار إن كانت لا تدل على قبول الماء النجاسة وما فائدتها ؟ قلنا : معناها ما اقتضاه لفظها ، لا يحل لأحد أن يقول إنسانا من الناس ما لا يقتضيه كلامه ، فكيف رسول الله ﷺ الذي جاء الوعيد الشديد على من قوله ما لم يقل . وأما فائدتها فهي أعظم فائدة ، وهي دخول الجنة بالطاعة لها ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلا . أول ذلك أن رسول الله ﷺ لم يحد مقدار القلتين ، ولا شك في أنه عليه السلام لو أراد أن يجعلهما - حدا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها لما أهمل أن يحدها لنا بحد ظاهر لا يحيل ، وليس هذا مما يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره ، ولو كان ذلك لكانت كل قلتين - صغرتا أو كبرتا - حدا في ذلك . فأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا : القلة القامة ، ومع ذلك فقد خالفوا هذا الخبر - على أن نسلم لهم تأويلهم الفاسد - لأن البئر وإن كان فيها قامتان أو ثلاث فإنها عندهم تنجس . وأما الشافعي فليس حده في القلتين بأولى من حد غيره ممن فسر القلتين بغير تفسيره وكل قول لا برهان له فهو باطل . وأما نحن فنقول بهذا الخبر حقا ونقول : إن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ولم يقبل الخبث والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين ، صغرتا أو كبرتا ، ولا خلاف في أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة . وليس في هذا الخبر ذكر لقلال هجر أصلا ، ولا شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا . فإن قيل إنه ﷺ قد ذكر قلال هجر في حديث الإسراء . قلنا : نعم ، وليس ذلك يوجب أنه ﷺ متى ما ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر ، وليس تفسير ابن جريج للقلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال : هما جرتان ، وتفسير الحسن كذلك : إنها أي جرة كانت . وليس في قوله ﷺ هذا دليل ولا نص على أن ما دون القلتين ينجس ويحمل الخبث ومن زاد هذا في الخبر فقد قوله ﷺ ما لم يقل فوجب طلب حكم ما دون القلتين من غير هذا الخبر ، فنظرنا فوجدنا ما حدثنا حمام قال : ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة - وهو ثقة - ثنا عبد العزيز بن أبي حازم أبو تمام عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال { قالوا يا رسول الله إنا نتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والحائض والجيف ، فقال رسول الله ﷺ : الماء لا ينجسه شيء } . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور أخبرنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : { فضلنا على الناس بثلاث - وذكر ﷺ فيها - وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } فعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء . فقالوا : فإنكم تقولون إن الماء إذا ظهرت فيه النجاسة فغيرت لونه وطعمه وريحه فإنه ينجس ، فقد خالفتم هذين الخبرين . قلنا : معاذ الله من هذا أن نقوله ، بل الماء لا ينجس أصلا ، ولكنه طاهر بحسبه ، لو أمكننا تخليصه من جملة المحرم علينا لاستعملناه ، ولكنا لما لم نقدر على الوصول إلى استعماله كما أمرنا سقط عنا حكمه ، وهكذا كل شيء كثوب طاهر صب عليه خمر أو دم أو بول ، فالثوب طاهر كما كان ، إن أمكننا إزالة النجس عنه صلينا فيه ، وإن لم يمكنا الصلاة فيه إلا باستعمال النجس المحرم سقط عنا حكمه ، ولم تبطل الصلاة للباس ذلك الثوب ، لكن لاستعمال النجاسة التي فيه ، وكذلك خبز دهن بودك خنزير ، وهكذا كل شيء حاشا ما جاء النص بتحريمه بعينه فتجب الطاعة له ، كالمائع يلغ فيه الكلب في الإناء ، وكالماء الراكد للبائل ، وكالسمن الذائب يقع فيه الفأر الميت ، ولا مزيد . وقد روينا من طريق قتادة أن ابن مسعود قال : لو اختلط الماء بالدم لكان الماء طهورا ، وبالله تعالى التوفيق . ولو كان الماء ينجس بملاقاة النجاسة للزم إذا بال إنسان في ساقية ما ألا يحل لأحد أن يتوضأ بما هو أسفل من موضع البائل ، لأن ذلك الماء الذي فيه البول أو العذرة منه يتوضأ بلا شك ، ولما تطهر فم أحد من دم أو قيء فيه ، لأن الماء إذا دخل في الفم النجس تنجس وهكذا أبدا ، والمفرق بين الماء وسائر المائعات في ذلك مبطل متحكم قائل بلا برهان . وهذا باطل . قال أبو محمد علي : وأما تشنيعهم علينا بالفرق بين البائل المذكور في الحديث وغير البائل الذي لم يذكر فيه ، وبين الفأر يقع في السمن المذكور في الحديث وبين وقوعه في الزيت أو وقوع حرام ما في السمن إذ لم يذكر شيء من ذلك في الحديث فتشنع فاسد عائد عليهم ، ولو تدبروا كلامهم لعلموا أنهم مخطئون في التسوية بين البائل الذي ورد فيه النص وغير البائل الذي لا نص فيه ، وهل فرقنا بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنا بين الماء الراكد المذكور في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر فيه ؟ وإلا فليقولوا لنا ما الذي أوجب الفرق بين الماء الراكد وغير الراكد ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل ؟ إلا أن ما ذكر في الحديث لا يتعدى بحكمه إلى ما لم يذكر فيه بغير نص ، وكفرقهم بين الغاصب للماء فيحرم عليه شربه واستعماله ، وهو حلال لغير الغاصب له ، وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني وغير الزاني والسارق وغير السارق والمصلي وغير المصلي ؟ لكل ذي اسم منها حكمه ، وهل الشنعة والخطأ الظاهر إلا أن يرد نص في البائل فيحمل ذلك الحكم على غير البائل وهل هذا إلا كمن حمل حكم السارق على غير السارق ، وحكم الزاني على غير الزاني ، وحكم المصلي على غير المصلي ، وهكذا في جميع الشريعة ونعوذ بالله من هذا . ولو أنصفوا أنفسهم لأنكر المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقهم بين مس الذكر بباطن الكف فينقض الوضوء ، وبين مس بظاهر الكف فلا ينقض الوضوء ، ولأنكر المالكيون على أنفسهم تفريقهم بين حكم الشريفة وحكم الدنية في النكاح ، وما فرق الله تعالى بين فرجيهما في التحليل والتحريم والصداق والحد ، ولأنكر المالكيون والشافعيون تفريقهم بين حكم التمر وحكم البسر في العرايا . وهؤلاء المالكيون يفرقون معنا بين ما أدخل فيه الكلب لسانه وبين ما أدخل فيه ذنبه المبلول من الماء ، ويفرقون بين بول البقرة وبول الفرس ، ولا نص في ذلك ، بل أشنع من ذلك تفريقهم بين خرء الدجاجة المخلاة وخرئها إذا كانت مقصورة وبين بول الشاة إذا شربت ماء نجسا وبين بولها إذا شربت ماء طاهرا ، وفرقوا بين الفول وبين نفسه ، فجعلوه في الزكاة مع الجلبان صنفا واحدا ، وجعلوهما في البيوع صنفين ، وكل ذي عقل يدري أن الفرق بين البائل والمتغوط بنص جاء في أحدهما دون الآخر أوضح من الفرق بين الفول أمس والفول اليوم ، وبين الفول ونفسه بغير نص ولا دليل أصلا .
وهؤلاء الشافعيون فرقوا بين البول في مخرجه من الإحليل ، فجعلوه يطهر بالحجارة ، وبين ذلك البول نفسه من ذلك الإنسان نفسه إذا بلغ أعلى الحشفة - فجعلوه لا يطهر إلا بالماء ، وفرقوا بين بول الرضيع وبين غائطه في الصب والغسل وهذا هو الذي أنكروا علينا ههنا بعينه . وهؤلاء الحنفيون فرقوا بين بول الشاة في البئر فيفسدها ، وبين ذلك المقدار نفسه من بولها بعينها في الثوب فلا يفسده ، وفرقوا بين بول البعير في البئر فيفسده ولو أنه نقطة ، فإن وقعت بعرتان من بعر ذلك الجمل في ماء البئر لم يفسد الماء ، وهذا نفس ما أنكروه علينا ، وفرقوا بين روث الفرس يكون في الثوب منه أكثر من قدر الدرهم البغلي فيفسد الصلاة ، وبين بول ذلك الفرس نفسه يكون في الثوب فلا يفسد الصلاة ، إلا أن يكون ربع الثوب عند أبي حنيفة ، وشبرا في شبر عند أبي يوسف فيفسدها حينئذ ، وزفر منهم يقول : بول ما يؤكل لحمه طاهر كله ورجيعه نجس ، وهذا هو الذي أنكروا علينا . وفرقوا بين ما يملأ الفم من القلس وبين ما لا يملأ الفم منه ، وفرقوا بين البول في الجسد فلا يزيله إلا الماء ، وبين البول في الثوب فيزيله غير الماء . ولو تتبعنا سقطاتهم لقام منها ديوان . فإن قالوا : من قال بقولكم هذا في الفرق بين البائل والمتغوط في الماء الراكد قبلكم ؟ قلنا : قاله رسول الله ﷺ - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - إذ بين لنا حكم البائل وسكت عن المتغوط والمتنخم والمتمخط ، ولكن أخبرونا : من قال من ولد آدم بفروقكم هذه قبلكم ؟ من الفرق بين بول الشاة في البئر وبولها في الثوب ، وبين بولها في الجسد وبولها في الثوب ؟ وبين بول الشاة تشرب ماء نجسا وبولها إذا شربت ماء طاهرا ؟ وبين البول في رأس الحشفة وبينه فوق ذلك ؟ فهذا هو الذي لم يقله أحد قط قبلهم وليتهم إذ قالوه مبتدئين قالوه بوجه يفهم أو يعقل ، وكذلك سائر فروقهم المذكورة والحمد لله رب العالمين . ونحن لا ننكر القول بما جاء به القرآن والسنة ، وإن لم نعرف قائلا مسمى به وهم ينكرون ذلك ويفعلونه ، فاللوائم لهم لازمة لا لنا ، وإنما ننكر غاية الإنكار القول في دين الله تعالى وعلى الله ما لم يقله تعالى قط ولا رسوله ﷺ فهذا والله هو المنكر حقا ، ولو قال أهل الأرض . وكذلك إن قالوا لنا : من فرق قبلكم بين السمن يقع فيه الفأر وبين غير السمن فجوابنا هو الذي ذكرنا بعينه ، فكيف وقد روينا الفرق بينهما عن ابن عمر ، كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا هشيم عن معمر عن أبان عن راشد مولى قريش عن ابن عمر أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : إن كان مائعا فألقه كله ، وإن كان جامدا فألق الفأرة وما حولها وكل ما بقي . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه سئل عن فأرة وقعت في عشرين فرقا من زيت ، فقال ابن عمر : استسرجوا به وادهنوا به الأدم . وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : الفأرة تقع في السمن الذائب فتموت فيه أو في الدهن ، فتؤخذ قد تسلخت أو قد ماتت وهي شديدة لم تتسلخ ؟ فقال سواء إذا ماتت فيه ، فأما الدهن فينش فيدهن به إن لم تقذره ، قلت : فالسمن أينش فيؤكل ؟ قال لا ، ليس ما يؤكل ، كهيئة شيء في الرأس يدهن به . قال أبو محمد : والزيت دهن بنص القرآن : قال تعالى : { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } وقد رأى مالك غسل الزيت تقع فيه النجاسة ، ثم يؤكل . وقد روى ابن القاسم عن مالك في النقطة من الخمر تقع في الماء والطعام : أنه لا يفسد شيء من ذلك ، وأن ذلك الماء يشرب وذلك الطعام يؤكل . قال علي : ويقال للحنفيين : أنتم تخالفون بين أحكام النجاسات في الشدة والخفة بآرائكم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ ولا من إجماع ولا قياس ، فبعضها عندكم لا ينجس الثوب والبدن والخف والنعل منه إلا مقدار أكبر من الدرهم البغلي وربما قل ، وبعضها لا ينجس هذه الأشياء إلا ما كان ربع الثوب ، ولا ندري ما قولكم في الجسد والنعل والخف والأرض ، وبعضها تفرقون بين حكمها في نفسها في الثوب والجسد وبين حكمها في نفسها في البئر ، فتقولون : إن قطرة خمر أو بول تنجس البئر ولا تنجس الثوب ولا الجسد حتى يكون ذلك أكثر من الدرهم البغلي ، فأخبرونا عن غدير إذا حرك طرفه الواحد لم يتحرك الآخر وقعت فيه نقطة بول كلب أو نقطة بول شاة أو حلمة ميتة أو فيل ميت متفسخ ، هل كل هذا سواء أم لا ؟ فإن ساووا بين ذلك كله نقضوا أصلهم في تغليظ بعض النجاسات دون بعض ، وتركوا قولهم إن بعرتين من بعر الإبل أو بعرتين من بعر الغنم لا تنجس البئر ، وإن فرقوا بين كل ذلك سألناهم تفصيل ذلك ليكون ذلك زيادة في السخرية والتخليط . قال علي : وقالوا لنا : ما قولكم في خمر أو دم أو بول وقع ذلك في الماء فلم يظهر لشيء من ذلك في الماء طعم ولا لون ولا ريح ، هل صار الخمر والبول والدم ماء ؟ أم بقي كل ذلك بحسبه ؟ فإن كان صار كل ذلك ماء فكيف هذا ؟ وإن كان بقي كل ذلك بحسبه فقد أبحتم الخمر والبول والدم ، وهذا عظيم وخلاف للإسلام ؟ قال أبو محمد : جوابنا وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله جوهرة واحدة تختلف أبعاضها بأعراضها وبصفاتها فقط . وبحسب اختلاف صفات كل جزء من العالم تختلف أسماء تلك الأجزاء التي عليها تقع أحكام الله عز وجل في الديانة . وعليها يقع التخاطب والتفاهم من جميع الناس بجميع اللغات ، فالعنب عنب وليس زبيبا ، والزبيب ليس عنبا ، وعصير العنب ليس عنبا ولا خمرا ، والخمر ليس عصيرا ، والخل ليس خمرا ، وأحكام كل ذلك في الديانة تختلف والعين الحاملة واحدة ، وكل ذلك له صفات ، منها يقوم حده ، فما دامت تلك الصفات في تلك العين فهي ماء وله حكم الماء . فإذا زالت تلك الصفات عن تلك العين لم تكن ماء ولم يكن لها حكم الماء وكذلك الدم والخمر والبول وكل ما في العالم لكل نوع منه صفات ما دامت فيه فهو خمر له حكم الخمر ، أو دم له حكم الدم ، أو بول له حكم البول أو غير ذلك ، فإذا زالت عنه لم تكن تلك العين خمرا ولا ماء ولا دما ولا بولا ولا الشيء الذي كان ذلك الاسم واقعا من أجل تلك الصفات عليه ، فإذا سقط ما ذكرتم من الخمر أو البول أو الدم في الماء أو في الخل أو في اللبن أو في غير ذلك ، فإن بطلت الصفات التي من أجلها سمي الدم دما والخمر خمرا والبول بولا ، وبقيت صفات الشيء الذي وقع فيه ما ذكرنا بحسبها ، فليس ذلك الجرم الواقع يعد خمرا ولا دما ولا بولا ، بل هو ماء على الحقيقة أو لبن على الحقيقة ، وهكذا في كل شيء . فإن غلب الواقع مما ذكرنا وبقيت صفاته بحسبها وبطلت صفات الماء أو اللبن أو الخل ، فليس هو ماء بعد ولا خلا ولا لبنا ، بل هو بول على الحقيقة أو خمر على الحقيقة أو دم على الحقيقة ، فإن بقيت صفات الواقع ولم تبطل صفات ما وقع فهو فيه ماء وخمر ، أو ماء وبول ، أو ماء ودم ، أو لبن وبول ، أو دم وخل ، وهكذا في كل شيء . ولم يحرم علينا استعمال الحلال من ذلك لو أمكننا تخليصه من الحرام ، لكنا لا نقدر على استعماله إلا باستعمال الحرام فعجزنا عنه فقط ، وإلا فهو طاهر مطهر حلال بحسبه كما كان . وهكذا كل شيء في العالم فالدم يستحيل لحما ، فهو حينئذ لحم وليس دما ، والعين واحدة ، واللحم يستحيل شحما فليس لحما بعد بل هو شحم والعين واحدة . والزبل والبراز والبول والماء والتراب يستحيل كل ذلك في النخلة ورقا ورطبا ، فليس شيء من ذلك حينئذ زبلا ولا ترابا ولا ماء ، بل هو رطب حلال طيب ، والعين واحدة ، وهكذا في سائر النبات كله ، والماء يستحيل هواء متصعدا وملحا جامدا ، فليس هو ماء بل ولا يجوز الوضوء به والعين واحدة ، ثم يعود ذلك الهواء وذلك الملح ماء . فليس حينئذ هواء ولا ملحا ، بل هو ماء حلال يجوز الوضوء به والغسل فإن أنكرتم هذا وقلتم : إنه وإن ذهبت صفاته فهو الذي كان نفسه لزمكم ولا بد إباحة الوضوء بالبول ، لأنه ماء مستحيل ، بلا شك ، وبالعرق ، لأنه ماء مستحيل . ولزمكم تحريم الثمار المغذاة بالزبل وبالعذرة ، وتحريم لحوم الدجاج ، لأنها مستحيلة عن المحرمات . فإن قالوا : فنحن نجد الدم يلقى في الماء أو الخمر أو البول فلا يظهر له لون ولا ريح ولا طعم فيواتر طرحه فتظهر صفاته فيه . فهلا صار الثاني ماء كما صار الأول ؟ قلنا لهم : هذا السؤال لسنا نحن المسئولين به لكن جريتم فيه على عادتكم الذميمة في التعقب على الله تعالى والاستدراك عليه في أحكامه تعالى وأفعاله ، وإياه تعالى تسألون عن هذا لا نحن ، لأنه هو الذي أحل الأول ولم يحل الثاني كما شاء لا نحن وجوابه عز وجل لكم على هذا السؤال يأتيكم يوم القيامة بما تطول عليه ندامة السائل ؛ لأن الله تعالى حرم هذا السؤال إذ يقول تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ثم نحن نجيبكم قائمين لله تعالى كما افترض عز وجل علينا إذ يقول : { كونوا قوامين لله } فنقول لكم : هذا خلق الله تعالى ما خلق كله من ذلك كله كما شاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل . ونحن نجد الماء يصعده الهواء بالتجفيف فيصير الماء هواء مصعدا وليس ماء أصلا . حتى إذا كثر الماء المستحيل هواء في الجو عاد ماء كما كان وأنزله الله تعالى من السحاب ماء . وهذا نفس ما احتججتم به علينا من أن الدم يخفى في الماء والفضة تخفى في النحاس . فإذا توبع بهما ظهرا . ولا فرق بين هذا السؤال الأحمق وبين من سأل : لم خلق الله الماء يتوضأ به ولم يجعل ماء الورد يتوضأ به ؟ ولم جعل الصلاة إلى الكعبة والحج ولم يجعلهما إلى كسكر أو إلى الفرما أو الطور ؟ ولم جعل المغرب ثلاثا والصبح ركعتين بكل حال . والظهر في الحضر أربعا ؟ ولم جعل الحمار طويل الأذنين والجمل صغيرهما والفأر طويل الذنب والثعلب كذلك والمعزى قصيرة الذنب والأرنب كذلك ؟ ولم صار الإنسان يحدث من أسفل ريحا فيلزمه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه ، ولا يغسل مخرج تلك الريح ؟ وهذا كله ليس من سؤال العقلاء المسلمين ، ولا يشبه اعتراضات العلماء المؤمنين ، بل هو سؤال نوكى الملحدين وحمقى الدهريين المتحيرين الجهال . وإذا أحلناكم وسائر خصومنا على العيان ومشاهدة الحواس في انتقال الأسماء بانتقال الصفات التي فيها تقوم الحدود ، ثم أريناكم بطلان الصفات التي لا تجب تلك الأسماء - عندكم وعندنا وعند كل من على أديم الأرض قديما وحديثا - على تلك الأعيان إلا بوجودها ، ثم أحلناكم على البراهين الضرورية العقلية على أن الله تعالى خالق كل ذلك على ما هو عليه كما شاء ، فاعتراضكم كله هوس وباطل يؤدي إلى الإلحاد . فقالوا : فما تقولون في فضة خالطها نحاس فلم يظهر له فيها أثر ولا غيرها ، أتزكى بوزنها وتباع بوزنها فضة محضة أم لا ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : القول في هذا كالقول في الماء سواء سواء ولا فرق ، إن بقيت صفات الفضة بحسبها ولم يظهر للنحاس فيها أثر ، فإنها تزكى بوزنها وتباع بوزنها من الفضة ، لا بأقل ولا بأكثر ولا نسيئة ، وإن غلبت صفات النحاس حتى لا يبقى للفضة أثر ، فهو كله نحاس محض لا زكاة فيه أصلا سواء كثرت تلك الفضة التي استحالت فيه أو لم تكثر ، وجائز بيعه بالفضة نقدا ونسيئة بأقل مما خالطه من الفضة وبمثل ذلك وبأكثر ، وإن ظهرت صفات النحاس وصفات الفضة معا فهو نحاس وفضة ، تجب الزكاة فيما فيه من الفضة ، خاصة إن بلغت خمس أواق وإلا فلا ، كما لو انفردت ، ولا يحل بيع تلك الجملة بفضة محضة أصلا لا بمقدار ما فيها من الفضة ولا بأقل ولا بأكثر ، لا نقدا ولا نسيئة ، لأننا لا نقدر فيها على المماثلة بالوزن ، وتباع تلك الجملة بالذهب نقدا لا نسيئة . فسألوا عن قدر طبخت بالخمر أو طرح فيها بول أو دم أو عذرة ولم يظهر من ذلك كله هنالك أثر أصلا ، فقلنا : من طرح في القدر شيئا من ذلك عمدا فهو فاسق عاص لله عز وجل ، لأنه استعمل الحرام المفترض اجتنابه ، وأما إذا بطل كل ذلك فما في القدر حلال أكله ، لأنه ليس فيه شيء من المحرمات أصلا ، وقد أبطل الله تعالى تلك المحرمات وأحالها إلى الحلال . ثم نقلب عليهم هذا السؤال في دن خل رمي فيه خمر فلم يظهر للخمر أثر ، فقولهم إن ذلك الذي في الدن كله حلال فهذا تناقض منهم وقول منهم بالذي شنعوا به فلزمهم التشنيع ، لأنهم عظموه ورأوه حجة ، ولم يلزمنا ، لأننا لم نعظمه ولا رأيناه حجة . ولله الحمد . قال علي : وأما متأخروهم فإنهم لما رأوا أنهم لا يقدرون على ضبط هذا المذهب لفساده وسخافته فروا إلى أن قالوا : إننا لا نفرق بين غدير كبير ولا بحر ولا غير ذلك ، لكن الحكم لغلبة الظن والرأي في الماء الذي يتوضأ منه ويغتسل منه ، فإن تيقنا أو غلب في ظنوننا أن النجاسة خالطته حرم استعماله ولو أنه ماء البحر ، وإن لم نتيقن ولا غلب في ظنوننا أن خالطته نجاسة توضأنا به . قال علي : وهذا المذهب أشد فسادا من الذي رغبوا عنه لوجوه أولها : أنهم مقرون بأنه حكم بالظن ، وهذا لا يحل ؛ لأن الله تعالى يقول : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . ولا أسوأ حالا ممن يحكم في دين الله تعالى الذي هو الحق المحض بالظن الذي هو مقر بأنه لا يحققه . والثاني : أن يقال لهم : كما تظنون أن النجاسة لم تخالطه فظنوا أنها خالطته فاجتنبوه ، لأن الحكم بالظن أصل من أصولكم ، فما الذي جعل إحدى جنبتي الظن أولى من الأخرى ؟ والثالث : أن قولكم هذا تحكم منكم بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل . والرابع : أن نقول لهم : عرفونا ما معنى هذه المخالطة من النجاسة للماء ؟ فلسنا نفهمها ولا أنتم ولا أحد في العالم ولله الحمد ، فإن كنتم تريدون أن كل جزء من أجزاء الماء قد جاور جزءا من أجزاء النجاسة فهذه مجاورة لا مخالطة ، وهذا لا يمكن ألبتة إلا بأن يكون مقدار النجاسة كمقدار الماء سواء سواء وإلا فقد فضلت أجزاء من الماء لم يجاورها شيء من النجاسة . فإن قالوا : فقد تنجس كل ذلك وإن كان لم يجاوره من النجاسة شيء ، قلنا لهم : هذا لازم لكم في البحر بنقطة بول تقع فيه ولا فرق ، فإن أبوا من هذا قلنا لهم : فعرفونا بالمقدار من النجاسة الذي إذا جاوز مقدارا محدودا أيضا من الماء ولا بد نجسه ، فإن أقدموا على تحديد ذلك زادوا في الضلال والهوس ، وإن لم يقدموا على ذلك تركوا قولهم ، كالميتة فسادا ومجهولا لا يحل القول به في الدين .
وأيضا فإن كان الحكم عندكم لغالب الظن فإنه يلزمكم أن تقولوا في قدح فيه أوقيتان من ماء فوقعت فيه مقدار الصآبة من بول كلب ، إنه لم ينجس من الماء إلا مقدار ما يمكن أن تخالطه تلك النجاسة ، وليس ذلك إلا لمقدارها من الماء فقط ويبقى سائر ماء القدح طاهرا حلالا شربه والوضوء به . وهكذا في جب فيه كر ماء وقعت فيه أوقية بول ، فإنه على أصلكم لا ينجس إلا مقدار ما مازجته تلك الأوقية ، وبقي سائر ذلك طاهرا مطهرا حلالا ، نحن موقنون وأنتم أنها لم تمازج عشر الكر ولا عشر عشره ، فإن التزمتم هذا فارقتم جميع مذاهبكم القديمة والحديثة التي هي أفكار سوء مفسدة للدماغ ، فإن رجعتم إلى أن ما قرب من النجاسة ينجس ، لزمكم ذلك كما قد ألزمناكم في النيل والجيحون ، وفي كل ماء جار ، لأنه يتصل بعضه ببعض فينجس جميعه لملاقاته الذي قد تنجس ولا بد - نعم - وفي البحر من نقطة بول تقع في كل ذلك ، فاختاروا ما شئتم فإن قالوا : لسنا على يقين من أن النهر الكبير أو البحر تنجس ، ولا من أن المتوضئ به توضأ بماء خالطته النجاسة منه . قلنا لهم : هذا نفسه موجود في الجب والبئر وفي القلة وفي قدح فيه عشرة أرطال ماء إذا لم يظهر أثر النجاسة في شيء من ذلك ولا فرق ، ولا يقين في أن كل ماء فيما ذكرنا تنجس ، ولا في أن المتوضئ من ذلك والشارب توضأ بنجس أو شرب نجسا ، ثم حتى لو كان كما ذكروا لما وجب أن يتنجس الماء الطاهر الحلال أو المائع لذلك لمجاورة النجس أو الحرام له ، ما لم يحمل صفات الحرام أو النجس . وبالله تعالى التوفيق . قال علي : رأيت بعض من تكلم في الفقه ويميل إلى النظر يقول : إن كل ماء وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها فيه أثر فسواء كان قليلا أو كثيرا ، الحكم واحد ، وهو أن من توضأ بذلك الماء كله أو شربه حاشا مقدار ما وقع فيه من النجاسة ، فوضوءه جائز وصلاته تامة وشربه حلال ، وكذلك غسله منه ، إذ ليس على يقين من أنه استعمل نجاسة ولا أنه شرب حراما ، فإن استوعب ذلك الماء كله فلا وضوء له ولا طهر وهو عاص في شربه ؛ لأننا على يقين من أنه استعمل نجاسة وشرب حراما قال : وهكذا القول في البحر فما دونه ولا فرق ، قال : فإن توضأ بذلك الماء اثنان فصاعدا فاستوعباه أو استوعبوه كله بالغسل أو الوضوء أو الشرب فكل واحد منهما أو منهم وضوءه جائز في الظاهر ، وكذلك غسله أو شربه ، إلا أن فيهما أو فيهم من لا وضوء له ولا غسل ، ولا أعرف بعينه ، فلا ألزم أحدا منهم إعادة وضوء ولا إعادة صلاة بالظن . قال علي : وقد ناظرت صاحب هذا القول رحمه الله في هذه المسألة ، وألزمته على أصل آخر له كان يذهب إليه ، أن يكون يأمر جميعهم بإعادة الوضوء والصلاة ، لأن كل واحد منهم ليس على يقين من الطهارة وشك في الحدث ، بل على أصلنا وأصل كل مسلم من أن كل واحد منهم على يقين من الحدث وعلى شك من الطهارة ، فالواجب عليه أن يأتي بيقين الطهارة ، وأريته أيضا بطلان القول الأول بما قدمنا من استحالة الأحكام باستحالة الأسماء ، وإن استحالة الأسماء باستحالة الصفات التي منها تقوم الحدود ، وقلت له : فرق بين ما أجزت من هذا وبين إناءين في أحدهما ماء وفي الآخر عصير بعض الشجر ، وبين بضعتي لحم إحداهما من خنزير والثانية من كبش ، وبين شاتين إحداهما مذكاة والأخرى عقيرة سبع ميتة ، ولا يقدر على الفرق بين شيء من ذلك أصلا . قال علي : وممن روى عنه هذا القول بمثل قولنا - إن الماء لا ينجسه شيء - عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس والحسين بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عن جميعهم ، والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم ، فإن كان التقليد جائزا ، فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي .
=======================
كتاب الطهارة
137 - مسألة : والبول كله من كل حيوان - إنسان أو غير إنسان ، مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه نحو ما ذكرنا كذلك ، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه ، فكل ذلك حرام أكله وشربه إلا لضرورة تداو أو إكراه أو جوع أو عطش فقط وفرض اجتنابه في الطهارة والصلاة إلا ما لا يمكن التحفظ منه إلا بحرج فهو معفو عنه كونيم الذباب ونجو البراغيث . وقال أبو حنيفة : أما البول فكله نجس ، سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه ، إلا أن بعضه أغلظ نجاسة من بعض ، فبول كل ما يؤكل لحمه - من فرس أو شاة أو بعير أو بقرة أو غير ذلك - لا ينجس الثوب ولا تعاد منه الصلاة ، إلا أن يكون كثيرا فاحشا فينجس حينئذ وتعاد منه الصلاة أبدا . ولم يحد أبو حنيفة في المشهور عنه في الكثير حدا . وحده أبو يوسف بأن يكون شبرا في شبر . قال : فلو بالت شاة في بئر فقد تنجست وتنزح كلها . قالوا : وأما بول الإنسان وما لا يؤكل لحمه فلا تعاد منه الصلاة ولا ينجس الثوب ، إلا أن يكون أكثر من قدر الدرهم البغلي ، فإن كان كذلك نجس الثوب وأعيدت منه الصلاة أبدا - فإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم ينجس الثوب ولم تعد منه الصلاة ، وكل ما ذكرنا - قبل وبعد - فالعمد عندهم والنسيان سواء في كل ذلك . قال : وأما الروث فإنه سواء كله كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه من بقر كان أو من فرس أو من حمار أو غير ذلك ، إن كان في الثوب منه أو النعل أو الخف أو الجسد أكثر من قدر الدرهم البغلي : بطلت الصلاة وأعادها أبدا . وإن كان قدر الدرهم البغلي فأقل لم يضر شيئا ، فإن وقع في البئر بعرتان فأقل من أبعار الإبل أو الغنم لم يضر شيئا ، فإن كان من الروث المذكور في الخف والنعل أكثر من قدر الدرهم ، فإن كان يابسا أجزأ فيه الحك ، وإن كان رطبا لم يجز فيه إلا الغسل ، فإن كان مكان الروث بول لم يجز فيه إلا الغسل يبس أو لم ييبس . قال فإن صلى وفي ثوبه من خرء الطير الذي يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه أكثر من قدر الدرهم لم يضر شيئا ولا أعيدت منه الصلاة ، إلا أن يكون كثيرا فاحشا فتعاد منه الصلاة إلا أن يكون خرء دجاج ، فإنه من صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ، فلو وقع في الماء خرء حمام أو عصفور لم يضره شيئا . وقال زفر : بول كل ما يؤكل لحمه طاهر كثر أم قل . وأما بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه ونجو ما يؤكل لحمه فكل ذلك نجس .
وقال مالك : بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه نجس ، وبول ما يؤكل لحمه ونجوه طاهران إلا أن يشرب ماء نجسا فبوله حينئذ نجس ، وكذلك ما يأكل الدجاج من نجاسات فخرؤها نجس . وقال داود : بول كل حيوان ونجوه - أكل لحمه أو لم يؤكل - فهو طاهر ، حاشا بول الإنسان ونجوه فقط فهما نجسان . وقال الشافعي مثل قولنا الذي صدرنا به . قال علي : أما قول أبي حنيفة ففي غاية التخليط والتناقض والفساد ، لا تعلق له بسنة لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا بقرآن ولا بقياس ولا بدليل إجماع ولا بقول صاحب ولا برأي سديد ، وما نعلم أحدا قسم النجاسات قبل أبي حنيفة هذا التقسيم بل نقطع على أنه لم يقل بهذا الترتيب فيها أحد قبله ، فوجب إطراح هذا القول بيقين . وأما قول أصحابنا فإنهم قالوا : الأشياء على الطهارة حتى يأتي نص بتحريم شيء أو تنجيسه فيوقف عنده . قالوا : ولا نص ولا إجماع في تنجيس بول شيء من الحيوان ونجوه ، حاشا بول الإنسان ونجوه ، فوجب أن لا يقال بتنجيس شيء من ذلك ، وذكروا ما رويناه من طريق أنس { أن قوما من عكل وعرينة قدموا على رسول الله ﷺ وتكلموا بالإسلام فقالوا : يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف ، واستوخموا المدينة ، فأمر لهم رسول الله ﷺ بذود وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها } وذكر الحديث . وبحديث روينا أيضا من طريق أنس { أن رسول الله ﷺ كان يصلي في المدينة حيث أدركته الصلاة وفي مرابض الغنم } وبحديث رويناه من طريق ابن مسعود { كان رسول الله ﷺ يصلي عند البيت وملأ من قريش جلوس وقد نحروا جزورا لهم ، فقال بعضهم : أيكم يأخذ هذا الفرث بدمه ثم يمهله حتى يضع وجهه ساجدا فيضعه على ظهره ، قال عبد الله : فانبعث أشقاها فأخذ الفرث ، فأمهله ، فلما خر ساجدا وضعه على ظهره ، فأخبرت فاطمة بنت رسول الله ﷺ وهي جارية فجاءت تسعى فأخذته من ظهره ، فلما فرغ من صلاته قال : اللهم عليك بقريش } وذكر الحديث . وبحديث رويناه من طريق { ابن عمر كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله ﷺ وكنت شابا عزبا ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك } . ذكروا في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما رويناه من طريق شعبة وسفيان ، كلاهما عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبيه قال " صلى بنا أبو موسى الأشعري على مكان فيه سرقين هذا لفظ سفيان ، وقال شعبة " روث الدواب " وروينا من طريق غيرهما " والصحراء أمامه ، وقال : هنا وهناك سواء " وعن أنس " لا بأس ببول كل ذات كرش " وعن إبراهيم النخعي . قال منصور : سألته عن السرقين يصيب خف الإنسان أو نعله أو قدمه ؟ قال لا بأس . وعن إبراهيم أنه رأى رجلا قد تنحى عن بغل يبول ، فقال له إبراهيم : ما عليك لو أصابك . وقد صح عنه أنه كان لا يجيز أكل البغل . وعن الحسن البصري : لا بأس بأبوال الغنم . وعن محمد بن علي بن الحسين ونافع مولى ابن عمر فيمن أصاب عمامته بول بعير قالا جميعا : لا يغسله . وعن عبد الله بن مغفل أنه كان يصلي وعلى رجليه أثر السرقين . وعن عبيد بن عمير قال : إن لي عنيقا تبعر في مسجدي . قال أبو محمد : أما الآثار التي ذكرنا فكلها صحيح ، إلا أنها لا حجة لهم في شيء منها : أما حديث ابن عمر فغير مسند ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ عرف ببول الكلاب في المسجد فأقره ، وإذ ليس هذا في الخبر فلا حجة فيه ، إذ لا حجة إلا في قوله عليه السلام أو في عمله أو فيما صح أنه عرفه فأقره ، فسقط هذا الاحتجاج بهذا الخبر ، لكن يلزم من احتج بحديث أبي سعيد { كنا نخرج على عهد رسول الله ﷺ صدقة الفطر صاعا من طعام } أن يحتج بهذا الخبر ؛ لأنه أقرب إلى أن يعرفه رسول الله ﷺ منه إلى أن يعرف عمل بني خدرة في جهة من جهات المدينة ، ويلزم من شنع لعمل الصحابة رضي الله عنهم أن يأخذ بحديث ابن عمر هذا ، فلا يرى أبوال الكلاب ولا غيرها نجسا ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه . وأما حديث ابن مسعود فلا حجة لهم فيه ، لأن فيه أن الفرث كان معه دم ، وليس هذا دليلا عندهم ، على طهارة الدم ، فمن الباطل أن يكون دليلا على طهارة الفرث دون طهارة الدم ، وكلاهما مذكوران معا . وأيضا فإن شعبة وسفيان وزكريا بن أبي زائدة رووا كلهم هذا الخبر عن الذي رواه عنه علي بن صالح وهو أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود ، فذكروا أن ذلك كان سلى جزور ، وهم أوثق وأحفظ من علي بن صالح ، وروايتهم زائدة على روايته ، فإذا كان الفرث والدم في السلى فهما غير طاهرين ، فلا حكم لهما ، والقاطع ههنا أن هذا الخبر كان بمكة قبل ورود الحكم بتحريم النجو والدم ، فصار منسوخا بلا شك وبطل الاحتجاج به بكل حال . وأما حديث أنس في الصلاة في مرابض الغنم ، فإنهم قالوا : إن مرابض الغنم لا تخلو من أبوالها ولا من أبعارها . فقلنا لهم : أما قولكم إنها لا تخلو من أبوالها ولا من أبعارها فقد يبول الراعي أيضا بينها ، وليس ذلك دليلا على طهارة بول الإنسان . وأيضا فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال : ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود السجستاني ثنا محمد بن كريب ثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت { أمر رسول الله ﷺ ببناء المساجد في الدور وأن تطيب وتنظف } . قال علي : الدور هي دور السكنى وهي أيضا المحلات . تقول : دار بني ساعدة ، ودار بني النجار ، دار بني عبد الأشهل . هكذا قال رسول الله ﷺ وهو كذلك في لغة العرب ، فقد صح أمره عليه السلام بتنظيف المساجد وتطييبها ، وهذا يوجب الكنس لها من كل بول وبعر وغيره . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ وأبو الربيع الزهراني ، كلاهما عن عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس بن مالك قال { كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا ، فربما رأيته تحضر الصلاة فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يؤم رسول الله ﷺ ونقوم خلفه فيصلي بنا } فهذا أمر منه ﷺ بكنس ما يصلى عليه ونضحه . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا إسماعيل ابن علية عن ابن عون هو عبد الله - عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن { أنس بن مالك قال صنع بعض عمومتي للنبي ﷺ طعاما وقال : إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه فأتاه وفي البيت فحل من تلك الفحول - يعني حصيرا - فأمر عليه السلام بجانب منه فكنس ورش فصلى وصلينا معه } فهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام بكنس ما يصلى عليه ورشه بالماء ، فدخل في ذلك مرابض الغنم وغيرها . وأيضا فإن هذا الحديث نفسه إنما رويناه من طريق عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس ، وقد رويناه من طريق البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أبي التياح عن أنس { كان رسول الله ﷺ يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد } فصح أن هذا كان في أول الهجرة قبل ورود الأخبار باجتناب كل نجو وبول . وأيضا فإن يونس بن عبد الله قال : ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم وأعطان الإبل ، فصلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في معاطن الإبل } . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب { أن رسول الله ﷺ سئل : أنصلي في أعطان الإبل ؟ فقال لا ، قال : أنصلي في مرابض الغنم ؟ قال نعم } . قال علي عبد الله هذا هو عبد الله بن عبد الله ثقة كوفي ولي قضاء الري . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال : { قال رسول الله ﷺ : إذا أتيتم على مرابض الغنم فصلوا فيها ، وإذا أتيتم على مبارك الإبل فلا تصلوا فيها ، فإنها خلقت من الشياطين } .
قال أبو محمد : فلو كان أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل دليلا على نجاسة أبوالها وأبعارها ، وإن كان نهيه عليه السلام عن الصلاة في أعطان الإبل ليس دليلا على نجاسة أبوالها ، فليس أمره عليه السلام بالصلاة في مرابض الغنم دليلا على طهارة أبوالها وأبعارها ، والمفرق بين ذلك متحكم بالباطل ، لا يعجز من لا ورع له عن أن يأخذ بالطرف الثاني بدعوى كدعواه . فإن قال : إنما نهى عن الصلاة في أعطان الإبل ، لأنها خلقت من الشياطين كما في الحديث قيل له : وإنما أمر بالصلاة في مرابض الغنم لأنها من دواب الجنة كما قد صح ذلك أيضا في الحديث ، فخرجت الطهارة والنجاسة من كلا الخبرين ، فسقط التعلق بهذا الخبر جملة . وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث أنس في أبوال الإبل وألبانها فلا حجة لهم فيه ؛ لأن رسول الله ﷺ إنما أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبان الإبل على سبيل التداوي من المرض ، كما روينا من طريق مسلم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا ابن علية عن حجاج بن أبي عثمان حدثني أبو رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة حدثني أنس بن مالك { أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله ﷺ فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال : ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها فصحوا ، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل } وذكر الحديث فصح يقينا أن رسول الله ﷺ أمرهم بذلك على سبيل الدواء من السقم الذي كان أصابهم ، وأنهم صحت أجسامهم بذلك ، والتداوي بمنزلة ضرورة ، وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب ، فإن قيل : قد قال رسول الله ﷺ ما رويتموه من طريق شعبة عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه قال : { ذكر طارق بن سويد أو سويد بن طارق أنه سأل رسول الله ﷺ عن الخمر فنهاه ثم سأله فنهاه ، فقال : يا نبي الله إنها دواء فقال النبي ﷺ : لا ، ولكنها داء } وحديث يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال { نهى رسول الله ﷺ عن الدواء الخبيث } . وما روي من طريق جرير عن سليمان الشيباني عن حسان بن المخارق عن أم سلمة عن النبي ﷺ { إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم } . فهذا كله لا حجة فيه ؛ لأن حديث علقمة بن وائل إنما جاء من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، ثم لو صح لم يكن فيه حجة ؛ لأن فيه أن الخمر ليست دواء ، وإذ ليست دواء فلا خلاف بيننا في أن ما ليس دواء فلا يحل تناوله إذا كان حراما ، وإنما خالفناهم في الدواء ، وجميع الحاضرين لا يقولون بهذا ، بل أصحابنا والمالكيون يبيحون للمختنق شرب الخمر إذا لم يجد ما يسيغ أكله به غيرها ، والحنفيون والشافعيون يبيحونها عند شدة العطش . وأما حديث الدواء الخبيث فنعم وما أباحه الله تعالى عند الضرورة فليس في تلك الحال خبيثا ، بل هو حلال طيب ؛ لأن الحلال ليس خبيثا ، فصح أن الدواء الخبيث هو القتال المخوف ، على أن يونس بن أبي إسحاق الذي انفرد به ليس بالقوي . وأما حديث { لم يجعل الله شفاءكم فيما حرم عليكم } فباطل لأن راويه سليمان الشيباني وهو مجهول . وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع فقد جعل تعالى شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال ونقول : نعم إن الشيء ما دام حراما علينا فلا شفاء لنا فيه ، فإذا اضطررنا إليه فلم يحرم علينا حينئذ بل هو حلال ، فهو لنا حينئذ شفاء ، وهذا ظاهر الخبر . وقد قال الله تعالى فيما حرم علينا : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقد قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وصح أن رسول الله ﷺ قال : { الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حلال لإناثها } وقال ﷺ { : إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة } من الطرق الثابتة الموجبة للعلم . روى تحريم الحرير عمر وابنه وابن الزبير وأبو موسى وغيرهم ، ثم صح يقينا { أنه عليه السلام أباح لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام لباس الحرير على سبيل التداوي من الحكة والقمل والوجع } ، فسقط كل ما تعلقوا به . وأما قولهم : إن الأشياء على الإباحة بقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وبقوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } فصحيح ، وهكذا نقول : إننا إن لم نجد نصا على تحريم الأبوال جملة والأنجاء جملة ، وإلا فلا يحرم من ذلك شيء إلا ما أجمع عليه من بول ابن آدم ونجوه . كما قالوا : فإن وجدنا نصا في تحريم كل ذلك ووجوب اجتنابه ، فالقول بذلك واجب ، فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا ابن سلام أخبرنا عبيدة بن حميد أبو عبد الرحمن عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ سمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما فقال عليه السلام : يعذبان وما يعذبان في كبير وإنه لكبير ، كان أحدهما لا يستتر من البول ، وكان الآخر يمشي بالنميمة } وذكر الحديث . قال أبو محمد : كل كبير فهو صغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه من الشرك أو القتل . ومن طريق البخاري : حدثنا محمد بن المثنى ثنا أبو معاوية الضرير هو محمد بن خازم ثنا الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال { مر رسول الله ﷺ بقبرين فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة } وذكر باقي الخبر . ورويناه أيضا من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر عن شعبة عن الأعمش ، ومن طريق وكيع عن الأعمش ، ومن طريق جرير وشعبة عن منصور بن المعتمر عن مجاهد . حدثنا يونس عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عفان بن مسلم ثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { أكثر عذاب القبر في البول } ورويناه أيضا من طريق أبي معاوية عن الأعمش بإسناده . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا يحيى بن سعيد هو القطان - عن أبي حزرة هو يعقوب بن مجاهد القاص ، ثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق أخو القاسم بن محمد قال : كنا عند عائشة أم المؤمنين فقالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول : { لا يصلى بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان يعني البول والنجو } . ورويناه أيضا من طريق مسدد عن يحيى بن سعيد بإسناده . ومن طريق مسلم عن محمد بن عباد عن حاتم بن إسماعيل عن أبي حزرة . قال أبو محمد : فافترض رسول الله ﷺ على الناس اجتناب البول جملة ، وتوعد على ذلك بالعذاب ، وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه بول دون بول ، فيكون فاعل ذلك مدعيا على الله تعالى وعلى رسوله ﷺ ما لا علم له به بالباطل إلا بنص ثابت جلي ، ووجدناه ﷺ قد سمى البول جملة والنجو جملة " الأخبثين " والخبيث محرم ، قال الله تعالى : { يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فصح أن كل أخبث وخبيث فهو حرام . فإن قيل : إنما خاطب عليه السلام الناس فإنما أراد نجوهم وبولهم فقط . قلنا : نعم إنما خاطب عليه السلام الناس ولكن أتى بالاسم الأعم الذي يدخل تحته جنس البول والنجو . ولا فرق بين من قال : إنما أراد عليه السلام نجو الناس خاصة وبولهم وبين من قال : بل إنما أراد عليه السلام بول كل إنسان عليه خاصة لا بول غيره من الناس ، وكذلك في النجو فصح أن الواجب حمل ذلك على ما تحت الاسم الجامع للجنس كله . فإن قيل : إن هذا الخبر الذي فيه العذاب في البول إنما هو من رواية الأعمش عن مجاهد ، وقد تكلم فيها ، وأيضا فإنه مرة رواه عن مجاهد عن ابن عباس ، ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس ، وأيضا فإن ابن راهويه ومحمد بن العلاء ويحيى وأبا سعيد الأشج رووه عن وكيع عن الأعمش فقالوا فيه { كان لا يستتر من بوله } وهكذا رواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد . قال أبو محمد : هذا كله لا شيء . أما رواية الأعمش عن مجاهد فإن الإمامين شعبة ووكيعا ذكرا في هذا الحديث سماع الأعمش له من مجاهد فسقط هذا الاعتراض ، وأيضا فقد رويناه آنفا من غير طريق الأعمش لكن من طريق منصور عن مجاهد عن ابن عباس ، فسقط التعلل جملة . وأما رواية هذا الخبر مرة عن مجاهد عن ابن عباس ومرة عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس فهذا قوة للحديث ، ولا يتعلل بهذا إلا جاهل مكابر للحقائق ؛ لأن كليهما إمام ، وكلاهما صحب ابن عباس الصحبة الطويلة ، فسمعه مجاهد من ابن عباس . وسمعه أيضا من طاوس عن ابن عباس فرواه كذلك ، وإلا فأي شيء في هذا مما يقدح في الرواية ؟ وددنا أن تبينوا لنا ذلك ولا سبيل إليه إلا بدعوى فاسدة لهج بها قوم من أصحاب الحديث ، وهم فيها مخطئون عين الخطأ ، ومن قلدهم أسوأ حالا منهم . وأما رواية من روى " من بوله " فقد عارضهم من هو فوقهم ، فروى هناد بن السري وزهير بن حرب ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلهم عن وكيع فقالوا " من البول " ورواه ابن عون وابن جرير عن أبيه عن منصور عن مجاهد فقالا : " من البول " ورواه شعبة وعبيدة بن حميد ، كلاهما عن منصور عن مجاهد فقالا : " من البول " ورواه شعبة وأبو معاوية الضرير وعبد الواحد بن زياد كلهم عن الأعمش فقالوا " من البول " فكلا الروايتين حق ، ورواية هؤلاء تزيد على رواية الآخرين وزيادة العدل واجب قبولها ، فسقط كل ما تعللوا به ، وصح فرضا وجوب اجتناب كل بول ونجو . وممن قال بهذا جملة من السلف ، كما حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد ثنا عمارة بن أبي حفصة حدثني أبو مجلز قال : - سألت ابن عمر عن بول ناقتي قال اغسل ما أصابك منه . وعن أحمد بن حنبل عن المعتمر بن سليمان التيمي عن سلم بن أبي الذيال عن صالح الدهان عن جابر بن زيد قال : الأبوال كلها أنجاس . وعن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال " البول كله يغسل " وعن قتادة عن سعيد بن المسيب قال " الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال كلها " وعن معمر عن الزهري فيما يصيب الراعي من أبوال الإبل قال " ينضح " وعن سفيان بن عيينة عن أبي موسى إسرائيل قال " كنت مع محمد بن سيرين فسقط عليه بول خفاش فنضحه ، وقال ما كنت أرى النضح شيئا حتى بلغني عن سبعة من أصحاب رسول الله ﷺ . وعن وكيع عن شعبة قال " سألت حماد بن أبي سليمان عن بول الشاة ، فقال اغسله . وعن حماد أيضا في بول البعير مثل ذلك . قال أبو محمد " وأما قول زفر فلا متعلق له بشيء من هذه الأخبار ، لما نذكره في إفساد قول مالك إن شاء الله تعالى - لكن تعلق من ذهب مذهبه بحديث رواه عيسى بن موسى بن أبي حرب الصفار عن يحيى بن بكير عن سوار بن مصعب عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء بن عازب عن رسول الله ﷺ { ما أكل لحمه فلا بأس ببوله } . قال علي : هذا خبر باطل موضوع ؛ لأن سوار بن مصعب متروك عند جميع أهل النقل ، متفق على ترك الرواية عنه ، يروي الموضوعات . فإذا سقط هذا فإن زفر قاس بعض الأبوال على بعض ، ولم يقس النجو على البول ، وهذا هو الذي أنكره أصحابه علينا في تفريقنا بين حكم البائل في الماء الراكد وبين المتغوط فيه ، إلا أننا نحن قلناه اتباعا لرسول الله ﷺ وقال زفر برأيه الفاسد . وأما قول مالك فظاهر الخطإ ، لأنه ليس فيما احتج به إلا أبوال الإبل فقط ، واستدلال على بول الغنم وبعرها فقط ، فأدخل هو في حكم الطهارة أبوال البقر وأخثاءها وأبعار الإبل وبعر كل ما يؤكل لحمه وبوله . فإن قالوا فعلنا ذلك قياسا لما يؤكل لحمه على ما لا يؤكل لحمه ، قلنا لهم فهلا قستم على الإبل والغنم كل ذي أربع ؛ لأنها ذوات أربع وذوات أربع ؟ أو كل حيوان ، لأنه حيوان وحيوان ؟ أو هلا قستم كل ما عدا الإبل والغنم المذكورين في الخبر على بول الإنسان ونجوه المحرمين ؟ فهذه علة أعم من علتكم إن كنتم تقولون بالأعم في العلل ، فإن لجأتم ههنا إلى القول بالأخص في العلل قلنا لكم ، فهلا قستم من الأنعام المسكوت عنها على الإبل والغنم ، وهي ما تكون أضحية من البقر فقط ، كما الإبل والغنم تكون أضحية ، أو ما يكون فيه الزكاة من البقر فقط ، كما يكون في الإبل والغنم ، أو ما يجوز ذبحه للمحرم من البقر خاصة ، كما يجوز ذلك في الإبل والغنم ، دون أن تقيسوا على الإبل والغنم والصيد والطير فهذا أخص من علتكم ، فظهر فساد قياسهم جملة يقينا . فإن قالوا : قسنا أبوال كل ما يؤكل لحمه وأنجاءها على ألبانها . قلنا لهم : فهلا قستم أبوالها على دمائها فأوجبتم نجاسة كل ذلك ؟ وأيضا فليس للذكور منها ولا للطير ألبان فتقاس أبوالها وأنجاؤها عليها . وأيضا فقد جاء القرآن والسنة والإجماع المتيقن بإفساد علتكم هذه وإبطال قياسكم هذا ، لصحة كل ذلك بأن لا تقاس أبوال النساء ونجوهن على ألبانهن في الطهارة والاستحلال . وهذا لا مخلص منه ألبتة . وهلا قاسوا كل ذي رجلين من الطير في نجوه على نجو الإنسان فهو ذو رجلين ؟ فكل هذه قياسات كقياسكم أو أظهر ، وهذا يرى من نصح نفسه إبطال القياس جملة ، وصح أن قول أبي حنيفة ومالك وأصحاب أبي حنيفة في هذه المسألة باطل بيقين ، لأنهم لا شيئا من النصوص اتبعوا ولا شيئا من القياس ضبطوا ، ولا بقول أحد من المتقدمين تعلقوا ، لا سيما تفريق مالك بين بول ما شرب ماء نجسا فقال بنجاسة بوله ، وبين بول ما شرب ماء طاهرا فقال بطهارة بوله ، وهو يرى لحم الدجاج حلالا طيبا ، هذا وهو يراه متولدا عن الميتات والعذرة ، وهذا تناقض لا خفاء به . وبالله تعالى التوفيق
138 - مسألة : والصوف والوبر والقرن والسن يؤخذ من حي فهو طاهر ولا يحل أكله . برهان ذلك أن الحي طاهر وبعض الطاهر طاهر ، والحي لا يحل أكله ، وبعض ما لا يحل أكله لا يحل أكله .
139 - مسألة : وكل ذلك من الكافر نجس ومن المؤمن طاهر ، والقيح من المسلم والقلس والقصة البيضاء وكل ما قطع منه حيا أو ميتا ولبن المؤمنة ، كل ذلك طاهر ، وكل ذلك من الكافر والكافرة نجس . برهان ذلك ما قد ذكرنا من قول الله عز وجل : { إنما المشركون نجس } وقول رسول الله ﷺ : { المؤمن لا ينجس } وقد ذكرناه بإسناده قبل ، وبعض النجس نجس ، وبعض الطهر طاهر ، لأن الكل ليس هو شيئا غير أبعاضه وبالله تعالى التوفيق .
140 - مسألة : وألبان الجلالة حرام ، وهي الإبل التي تأكل الجلة - وهي العذرة - والبقر والغنم كذلك ، فإن منعت من أكلها حتى سقط عنها اسم جلالة ، فألبانها حلال طاهرة . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن المثنى وعثمان بن أبي شيبة ، قال ابن المثنى ثنا أبو عامر العقدي ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ نهى عن لبن الجلالة } وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال { نهى رسول الله ﷺ عن أكل الجلالة وألبانها } .
=======
كتاب الطهارة
141 مسألة : والوضوء بالماء المستعمل جائز ، وكذلك الغسل به للجنابة ، وسواء وجد ماء آخر غيره أو لم يوجد ، وهو الماء الذي توضأ به بعينه لفريضة أو نافلة أو اغتسل به بعينه لجنابة أو غيرها ، وسواء كان المتوضئ به رجلا أو امرأة . برهان ذلك قول الله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فعم تعالى كل ماء ولم يخصه ، فلا يحل لأحد أن يترك الماء في وضوئه وغسله الواجب وهو يجده إلا ما منعه منه نص ثابت أو إجماع متيقن مقطوع بصحته . وقال رسول الله ﷺ : { وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } فعم أيضا عليه السلام ولم يخص ، فلا يحل تخصيص ماء بالمنع لم يخصه نص آخر أو إجماع متيقن . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا عبد الله بن داود وهو الخريبي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ قالت { إن رسول الله ﷺ مسح برأسه من فضل ماء كان بيده } . وأما من الإجماع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن كل متوضئ فإنه يأخذ الماء فيغسل به ذراعيه من أطراف أصابعه إلى مرفقه ، وهكذا كل عضو في الوضوء وفي غسل الجنابة ، وبالضرورة والحس يدري كل مشاهد لذلك أن ذلك الماء قد وضئت به الكف وغسلت ، ثم غسل به أول الذراع ثم آخره ، وهذا ماء مستعمل بيقين ، ثم إنه يرد يده إلى الإناء وهي تقطر من الماء الذي طهر به العضو ، فيأخذ ماء آخر للعضو الآخر ، فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه لم يطهر العضو الثاني إلا بماء جديد قد مازجه ماء آخر مستعمل في تطهير عضو آخر وهذا ما لا مخلص منه . وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ، وهو أيضا قول سفيان الثوري وأبي ثور وداود وجميع أصحابنا . وقال مالك : يتوضأ به إن لم يجد غيره ولا يتيمم . وقال أبو حنيفة : لا يجوز الغسل ولا الوضوء بماء قد توضأ به أو اغتسل به ، ويكره شربه ، وروي عنه أنه طاهر ، والأظهر عنه أنه نجس ، وهو الذي روي عنه نصا ، وأنه لا ينجس الثوب إذا أصابه الماء المستعمل إلا أن يكون كثيرا فاحشا . وقال أبو يوسف : إن كان الذي أصاب الثوب منه شبر في شبر فقد نجسه ، وإن كان أقل لم ينجسه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إن كان رجل طاهر قد توضأ للصلاة أو لم يتوضأ لها فتوضأ في بئر فقد تنجس ماؤها كله وتنزح كلها ، ولا يجزيه ذلك الوضوء إن كان غير متوضئ ، فإن اغتسل فيها أرضا أنجسها كلها . وكذلك لو اغتسل وهو طاهر غير جنب في سبعة آبار نجسها كلها . وقال أبو يوسف : ينجسها كلها ولو أنها عشرون بئرا ، وقالا جميعا : لا يجزيه ذلك الغسل ، فإن طهر فيها يده أو رجله فقد تنجست كلها ، فإن كان على ذراعيه جبائر أو على أصابع رجليه جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها لم يجزه وتنجس ماؤها كله ، فلو كان على أصابع يده جبائر فغمسها في البئر ينوي بذلك المسح عليها أجزأه ولم ينجس ماؤها اليد بخلاف سائر الأعضاء ، فلو انغمس فيها ولم ينو غسلا ولا وضوءا ولا تدلك فيها لم ينجس الماء حتى ينوي الغسل أو الوضوء وقال أبو يوسف : لا يطهر بذلك الانغماس ، وقال محمد بن الحسن : يطهر به . قال أبو يوسف : فإن غمس رأسه ينوي المسح عليه لم ينجس الماء ، وإنما ينجسه نية تطهير عضو يلزم فيه الغسل ، قال فلو غسل بعض يده بنية الوضوء أو الغسل لم ينجس الماء حتى يغسل العضو بكماله ، فلو غمس رأسه أو خفه ينوي بذلك المسح أجزأه ولم يفسد الماء ، وإنما يفسده نية الغسل لا نية المسح . وهذه أقول هي إلى الهوس أقرب منها إلى ما يعقل . وقال الشافعي : لا يجزئ الوضوء ولا الغسل بماء قد اغتسل به أو توضأ به وهو طاهر كله ، وأصفق أصحابه على أن من أدخل يده في الإناء ليتوضأ فأخذ الماء فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثم أدخل يده في الإناء فقد حرم الوضوء بذلك الماء ؛ لأنه قد صار ماء مستعملا ، وإنما يجب أن يصب منه على يده ، فإذا وضأها أدخلها حينئذ في الإناء . قال أبو محمد : واحتج من منع ذلك بالحديث الثابت عن { رسول الله ﷺ من نهيه الجنب أن يغتسل في الماء الدائم } . قال أبو محمد : وقالوا : إنما نهى رسول الله ﷺ عن ذلك ، لأن الماء يصير مستعملا ، وقال بعض من خالفهم : بل ما نهى عن ذلك عليه السلام إلا خوف أن يخرج من إحليله شيء ينجس الماء . قال أبو محمد : وكلا القولين باطل نعوذ بالله من مثله ، ومن أن نقول رسول الله ﷺ ما لم يقل ، وأن نخبر عنه ما لم يخبر به عن نفسه ولا فعله ، فهذا هو الكذب على رسول الله ﷺ وهو من أكبر الكبائر ممن قطع به ، فإن لم يقطع به فإنما هو ظن ، وقد قال عز وجل : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } ولا بد لمن قال بأحد هذين التأويلين من إحدى هاتين المنزلتين ، فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . واحتج بعضهم فقال : لم يقل أحد للمتوضئ ولا للمغتسل أن يردد ذلك الماء على أعضائه ، بل أوجبوا عليه أخذ ماء جديد ، وبذلك جاء عمل النبي ﷺ في الوضوء والغسل فوجب أن لا يجزئ . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لأنه لم ينه أحد من السلف عن ترديد الماء على الأعضاء في الوضوء والغسل ، ولا نهى عنه عليه السلام قط . ويقال للحنفيين : قد أجزتم تنكيس الوضوء ، ولم يأت قط عن النبي ﷺ أنه نكس وضوءه ، ولا أن أحدا من المسلمين فعل ذلك ، فأخذه عليه السلام ماء جديدا لكل عضو إنما هو فعل منه عليه السلام ، وأفعاله عليه السلام لا تلزم . وقد صح عنه مسح رأسه المقدس بفضل ماء مستعمل . فإن قيل : قد روي يؤخذ للرأس ماء جديد . قلنا : إنما رواه دهثم بن قران وهو ساقط لا يحتج به عن نمران بن جارية وهو غير معروف فكيف وقد أباح عليه السلام غسل الجنابة بغير تجديد ماء . كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة { أن رسول الله ﷺ قال لها في غسل الجنابة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين ثنا معمر بن يحيى بن سام حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين { قال لي جابر سألني ابن عمك فقال : كيف الغسل من الجنابة ؟ فقلت : كان رسول الله ﷺ يأخذ ثلاثة أكف ويفيضها على رأسه ثم يفيض على سائر جسده } . قال أبو محمد ولو كان ما قاله أصحاب أبي حنيفة من تنجس الماء المستعمل لما صح طهر ولا وضوء ولا صلاة لأحد أبدا ، لأن الماء الذي يفيضه المغتسل على جسده يطهر منكبيه وصدره ، ثم ينحدر إلى ظهره وبطنه ، فكان يكون كل أحد مغتسلا بماء نجس ، ومعاذ الله من هذا ، وهكذا في غسله ذراعه ووجهه ورجله في الوضوء ، لأنه لا يغسل ذراعه إلا بالماء الذي غسل به كفه ، ولا يغسل أسفل وجهه إلا بالماء الذي قد غسل به أعلاه وكذلك رجله . وقال بعضهم : الماء المستعمل لا بد من أن يصحبه من عرق الجسم في الغسل والوضوء شيء فهو ماء مضاف . قال أبو محمد : وهذا غث جدا ، وحتى لو كان كما قالوا فكان ماذا ؟ ومتى حرم الوضوء والغسل بماء فيه شيء طاهر لا يظهر له في الماء رسم فكيف وهم يجيزون الوضوء بماء قد تبرد فيه من الحر وهذا أكثر في أن يكون فيه العرق من الماء المستعمل . وقال بعضهم : قد جاء أثر بأن الخطايا تخرج مع غسل أعضاء الوضوء . قلنا : نعم ولله الحمد فكان ماذا ؟ وإن هذا لمما يغيط باستعماله مرارا إن أمكن لفضله ، وما علمنا للخطايا أجراما تحل في الماء . وقال بعضهم : الماء المستعمل كحصى الجمار الذي رمى به لا يجوز أن يرمي به ثانية . قال أبو محمد : وهذا باطل ، بل حصى الجمار إذا رمى بها فجائز أخذها والرمي بها ثانية ، وما ندري شيئا يمنع من ذلك ، وكذلك التراب الذي تيمم به فالتيمم به جائز والثوب الذي سترت به العورة في الصلاة جائز أن تستر به أيضا العورة في صلاة أخرى ، فإن كانوا أهل قياس فهذا كله باب واحد . وقال بعضهم : الماء المستعمل بمنزلة الماء الذي طبخ فيه فول أو حمص . قال علي : وهذا هوس مردود على قائله ، وما ندري شيئا يمنع من جواز الوضوء والغسل بماء طبخ فيه فول أو حمص أو ترمس أو لوبيا ، ما دام يقع عليه اسم ماء . وقال بعضهم : لما لم يطلق على الماء المستعمل اسم الماء مفردا دون أن يتبع باسم آخر وجب أن لا يكون في حكم الماء المطلق . قال أبو محمد : وهذه حماقة ، بل يطلق عليه اسم ماء فقط ، ثم لا فرق بين قولنا ماء مستعمل فيوصف بذلك ، وبين قولنا ماء مطلق فيوصف بذلك ، وقولنا ماء ملح أو ماء عذب ، أو ماء مر ، أو ماء سخن أو ماء مطر ، وكل ذلك لا يمنع من جواز الوضوء به والغسل . ولو صح قول أبي حنيفة في نجاسة الماء المتوضأ به والمغتسل به لبطل أكثر الدين ؛ لأنه كان الإنسان إذا اغتسل أو توضأ ثم لبس ثوبه لا يصلي إلا بثوب نجس كله ، وللزمه أن يطهر أعضاءه منه بماء آخر . وقال بعضهم : لا ينجس إلا إذا فارق الأعضاء . قال أبو محمد : وهذه جرأة على القول بالباطل في الدين بالدعوى ، ويقال لهم : هل تنجس عندكم إلا بالاستعمال ؟ فلا بد من نعم ، فمن المحال أن لا ينجس في الحال المنجسة له ثم ينجس بعد ذلك ، ولا جرأة أعظم من أن يقال : هذا ماء طاهر تؤدى به الفرائض ، فإذا تقرب به إلى الله في أفضل الأعمال من الوضوء والغسل تنجس أو حرم أن يتقرب إلى الله تعالى به ، وما ندري من أين وقع لهم هذا التخليط . وقال بعضهم : قد جاء عن ابن عباس أن الجنب إذا اغتسل في الحوض أفسد ماءه ، وهذا لا يصح ، بل هو موضوع ، وإنما ذكره الحنفيون عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن ابن عباس ، ولا نعلم من هو قبل حماد ، ولا نعرف لإبراهيم سماعا من ابن عباس والصحيح عن ابن عباس خلاف هذا . قال أبو محمد : وقد ذكرنا عن ابن عباس قبل خلاف هذا من قوله : أربع لا تنجس الماء والأرض والإنسان ، وذكر رابعا . وذكروا عن رسول الله ﷺ في تحريمه الصدقة على آل محمد { إنما هي غسالة أيدي الناس } . وعن عمر مثل ذلك . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه أصلا ، لأن اللازم لهم في احتجاجهم بهذا الخبر أن لا يحرم ذلك إلا على آل محمد خاصة ، فإنه عليه السلام لم يكره ذلك ولا منعه أحدا غيرهم ، بل أباحه لسائر الناس . وأما احتجاجهم بقول عمر فإنهم مخالفون له لأنهم يجيزون في أصل أقوالهم شرب ذلك الماء . وأيضا فإن غسالة أيدي الناس غير وضوئهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى ، ولا عجب أكثر من إباحتهم غسالة أيدي الناس وفيها جاء ما احتجوا به . وقولهم إنها طاهرة ، وتحريمهم الماء الذي قد توضأ به قربة إلى الله تعالى وليس في شيء من هذين الأثرين نهي عنه ، ونعوذ بالله من الضلال وتحريف الكلم عن مواضعه . ونسأل أصحاب الشافعي عمن وضأ عضوا من أعضاء وضوئه فقط ينوي به الوضوء في ماء دائم أو غسله كذلك وهو جنب ، أو بعض عضو أو بعض أصبع أو شعرة واحدة أو مسح شعرة من رأسه أو خفه أو بعض خفه : حتى نعرف أقوالهم في ذلك . وقد صح { أن رسول الله ﷺ توضأ وسقى إنسانا ذلك الوضوء } ، وأنه عليه السلام { توضأ وصب وضوءه على جابر بن عبد الله } ، وأنه عليه السلام { كان إذا توضأ تمسح الناس بوضوئه } ، فقالوا بآرائهم الملعونة : إن المسلم الطاهر النظيف إذا توضأ بماء طاهر ثم صب ذلك الماء في بئر فهي بمنزلة لو صب فيها فأر ميت أو نجس ، ونسأل الله العافية من هذا القول .
142 مسألة : وونيم الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش إن كان لا يمكن التحفظ منه وكان في غسله حرج أو عسر لم يلزم من غسله إلا ما لا حرج فيه ولا عسر . قال أبو محمد : قد قدمنا قول الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالحرج والعسر مرفوعان عنا ، وما كان لا حرج في غسله ولا عسر فهو لازم غسله ، لأنه بول ورجيع .
143 مسألة : والقيء من كل مسلم أو كافر حرام يجب اجتنابه ، لقول رسول الله ﷺ : { العائد في هبته كالعائد في قيئه } وإنما قال عليه السلام ذلك على منع العودة في الهبة .
144 مسألة : والخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس حرام واجب اجتنابه ، فمن صلى حاملا شيئا منها بطلت صلاته . قال الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } فمن لم يجتنب ذلك في صلاته فلم يصل كما أمر ، ومن لم يصل كما أمر فلم يصل .
145 مسألة : ونبيذ البسر والتمر والزهو والرطب والزبيب إذا جمع نبيذ واحد من هذه إلى نبيذ غيره فهو حرام واجب اجتنابه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا أبان هو ابن يزيد العطار ثنا يحيى هو ابن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن رسول الله ﷺ : { أنه نهى عن خليط الزبيب والتمر ، وعن خليط البسر والتمر ، وعن خليط الزهو والرطب ، وقال : انتبذوا كل واحد على حدة } وليس كذلك الخليطان من غير هذه الخمسة بل هو طاهر حلال ما لم يسكر ؛ لأنه لم ينه إلا عما ذكرنا .
146 مسألة : ولا يجوز استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، لا في بنيان ولا في صحراء ، ولا يجوز استقبال القبلة فقط كذلك في حال الاستنجاء . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قال قلت لسفيان بن عيينة : سمعت الزهري يذكر عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب " أن رسول الله ﷺ قال : { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا } ؟ قال سفيان نعم . وقد روى أيضا النهي عن ذلك أبو هريرة وغيره ، وقد ذكرنا قبل حديث سلمان عن النبي ﷺ { : ألا يستنجي أحد مستقبل القبلة } ، في باب الاستنجاء . وممن أنكر ذلك أبو أيوب الأنصاري كما ذكرنا في البيوت نصا عنه ، وكذلك أيضا أبو هريرة وابن مسعود ، وعن سراقة بن مالك ألا تستقبل القبلة بذلك ، وعن السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جملة ، وعن عطاء وإبراهيم النخعي ، وبقولنا في ذلك يقول سفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور ومنع أبو حنيفة من استقبالها لبول أو غائط ، وكل هؤلاء لم يفرق بين الصحاري والبناء في ذلك ، وروينا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يكره أن تستقبل القبلتان بالفروج ، وهو قول مجاهد . قال أبو محمد : لا نرى ذلك في بيت المقدس ، لأن النهي عن ذلك لم يصح . وقال عروة بن الزبير وداود بن علي : يجوز استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط ، وروينا ذلك عن ابن عمر من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن نافع عن ابن عمر ، وروينا عن ابن عمر من طريق أبي داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن صفوان بن عيسى عن الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر عن ابن عمر أنه قال : إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، وأما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ، وروينا أيضا هذا عن الشعبي ، وهو قول مالك والشافعي . فأما من أباح ذلك جملة فاحتجوا بحديث رويناه عن ابن عمر في بعض ألفاظه { رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله ﷺ قاعدا لحاجته مستقبل القبلة } وفي بعضها { رأيت رسول الله ﷺ يبول حيال القبلة } وفي بعضها : { اطلعت يوما ورسول الله ﷺ على ظهر بيت يقضي حاجته محجورا عليه بلبن فرأيته مستقبل القبلة } . وبحديث من طريق جابر { نهى رسول الله ﷺ أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وبحديث من طريق عائشة { أن رسول الله ﷺ ذكر عنده أن ناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال رسول الله ﷺ : قد فعلوها ؟ استقبلوا بمقعدتي القبلة } . قال علي : لا حجة لهم غير ما ذكرنا ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما حديث ابن عمر ، فليس فيه أن ذلك كان بعد النهي ، وإذا لم يكن ذلك فيه فنحن على يقين من أن ما في حديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل أن ينهى النبي ﷺ عن ذلك ، هذا ما لا شك فيه ، فإذا لا شك في ذلك فحكم حديث ابن عمر منسوخ قطعا بنهي النبي ﷺ عن ذلك ، هذا يعلم ضرورة ومن الباطل المحرم ترك اليقين بالظنون ، وأخذ المتيقن نسخه وترك المتيقن أنه ناسخ . وقد أوضحنا في غير هذا المكان أن كل ما صح أنه ناسخ لحكم منسوخ فمن المحال الباطل أن يكون الله تعالى يعيد الناسخ منسوخا والمنسوخ ناسخا ولا يبين ذلك تبيانا لا إشكال فيه ، إذ لو كان هذا لكان الدين مشكلا غير بين ، ناقصا غير كامل ، وهذا باطل ، قال الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } وأيضا فإنما في حديث ابن عمر ذكر استقبال القبلة فقط ، فلو صح أنه ناسخ لما كان فيه نسخ تحريم استدبارها ، ولكان من أقحم في ذلك إباحة استدبارها كاذبا مبطلا لشريعة ثابتة ، وهذا حرام ، فبطل تعلقهم بحديث ابن عمر . وأما حديث عائشة فهو ساقط ؛ لأنه رواية خالد الحذاء وهو ثقة عن خالد بن أبي الصلت وهو مجهول لا يدرى من هو ، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت ، وهذا أبطل وأبطل ؛ لأن خالدا الحذاء لم يدرك كثير بن الصلت ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأن نصه يبين أنه إنما كان قبل النهي ؛ لأن من الباطل المحال أن يكون رسول الله ﷺ ينهاهم عن استقبال القبلة بالبول والغائط ثم ينكر عليهم طاعته في ذلك ، هذا ما لا يظنه مسلم ولا ذو عقل ، وفي هذا الخبر إنكار ذلك عليهم ، فلو صح لكان منسوخا بلا شك ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إباحة الاستقبال فقط ، لا إباحة الاستدبار أصلا ، فبطل تعلقهم بحديث عائشة جملة . وأما حديث جابر فإنه رواية أبان بن صالح وليس بالمشهور ، وأيضا فليس فيه بيان أن استقباله القبلة عليه السلام كان بعد نهيه ، ولو كان ذلك لقال جابر ، ثم رأيته ، وأيضا فلو صح لما كان فيه إلا النسخ للاستقبال فقط ، وأما الاستدبار فلا أصلا ، ولا يحل أن يزاد في الأخبار ما ليس فيها ، فيكون من فعل ذلك كاذبا ، وليس إذا نهى عن شيئين ثم نسخ أحدهما وجب نسخ الآخر ، فبطل كل ما شغبوا به وبالله تعالى التوفيق ، وسقط قولهم لتعريه عن البرهان . وأما من فرق بين الصحاري والبناء في ذلك فقول لا يقوم عليه دليل أصلا ، إذ ليس في شيء من هذه الآثار فرق بين صحراء وبنيان ، فالقول بذلك ظن ، والظن أكذب الحديث ، ولا يغني عن الحق شيئا ، ولا فرق بين من حمل النهي على الصحاري دون البنيان ، وبين آخر قال بل النهي عن ذلك في المدينة أو مكة خاصة ، وبين آخر قال في أيام الحج خاصة ، وكل هذا تخليط لا وجه له . وقال بعضهم : إنما كان في الصحاري ، لأن هنالك قوما يصلون فيؤذون بذلك . قال أبو محمد : هذا باطل ؛ لأن وقوع الغائط كيفما وقع في الصحراء فموضعه لا بد أن يكون قبلة لجهة ما ، وغير قبلة لجهة أخرى ، فخرج قول مالك عن أن يكون له متعلق بسنة أو بدليل أصلا ، وهو قول خالف جميع أقوال الصحابة رضي الله عنهم إلا رواية عن ابن عمر قد روي عنه خلافها ، وبالله تعالى التوفيق .
147 مسألة : وكل ماء خالطه شيء طاهر مباح فظهر فيه لونه وريحه وطعمه إلا أنه لم يزل عنه اسم الماء ، فالوضوء به جائز والغسل به للجنابة جائز . برهان ذلك قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا ماء ، سواء كان الواقع فيه مسكا أو عسلا أو زعفرانا أو غير ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني عطاء بن أبي رباح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت : { دخلت على النبي ﷺ يوم الفتح وهو في قبة له ، فوجدته قد اغتسل بماء كان في صحفة ، إني لأرى فيها أثر العجين ، فوجدته يصلي الضحى } . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أم هانئ قالت { نزل رسول الله ﷺ يوم الفتح بأعلى مكة فأتيته بماء في جفنة إني لأرى أثر العجين فيها ، فستره أبو ذر فاغتسل رسول الله ﷺ ثم ستر عليه السلام أبا ذر فاغتسل ، ثم صلى ثماني ركعات وذلك في الضحى } . حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب العكلي عن إبراهيم بن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم هانئ { أن ميمونة أم المؤمنين ورسول الله ﷺ اغتسلا من قصعة فيها أثر العجين } . قال علي : وهذا قول ثابت عن ابن مسعود قال : إذا غسل الجنب رأسه بالخطمي أجزأه ، وكذلك نصا عن ابن عباس . وروي أيضا هذا عن علي بن أبي طالب ، وثبت عن سعيد بن المسيب وابن جريج وعن صواحب النبي ﷺ من نساء الأنصار والتابعات منهن : أن المرأة الجنب والحائض إذا امتشطت بحناء رقيق أن ذلك يجزئها من غسل رأسها للحيضة والجنابة ولا تعيد غسله ، وثبت عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير أنهم قالوا في الجنب : يغسل رأسه بالسدر والخطمي : إنه يجزئه ذلك من غسل رأسه للجنابة . وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة والشافعي وداود . وروي عن مالك نحو هذا أيضا . وروى سحنون عن ابن القاسم أنه سأل مالكا عن الغدير ترده المواشي فتبول فيه وتبعر حتى يتغير لون الماء وريحه : أيتوضأ منه للصلاة ؟ قال مالك : أكرهه ولا أحرمه ، كان ابن عمر يقول : إني لأحب أن أجعل بيني وبين الحرام سترة من الحلال . والذي عليه أصحابه بخلاف هذا ، وهو أنه روي عنه في الماء يبل فيه الخبز أو يقع فيه الدهن : أنه لا يجوز الوضوء به وكذلك الماء ينقع فيه الجلد ، وهذا خطأ من القول ، لأنه لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل خالفوا فيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف ، وخالفوا فيه فقهاء المدينة كما ذكرنا ، وما نعلمهم احتجوا بأكثر من أن قالوا : ليس هو ماء مطلقا . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل هو ماء مطلق وإن كان فيه شيء آخر ، ولا فرق بين ذلك الذي فيه وبين حجر يكون فيه ، وهم يجيزون الوضوء بالماء الذي تغير من طين موضعه ، وهذا تناقض . ومن العجب أنهم لم يجعلوا حكم الماء للماء الذي مازجه شيء طاهر لم يزل عنه اسم الماء ، وجعلوا للفضة المخلوطة بالنحاس خلطا يغيرها حكم الفضة المحصنة ، وكذلك في الذهب الممزوج فجعلوه كالذهب الصرف في الزكاة والصرف ، وهذا هو الخطأ وعكس الحقائق ، لأنهم أوجبوا الزكاة في الصفر الممازج للفضة ، وهذا باطل وأباحوا صرف فضة وصفر بمثل وزن الجميع من فضة محضة ، وهذا هو الربا بعينه وأما الوضوء بماء قد مازجه شيء طاهر فإنما يتوضأ ويغتسل بالماء ، ولا يضره مرور شيء طاهر على أعضائه مع الماء . وقال بعضهم : هو كماء الورد . قال أبو محمد وهذا باطل ، لأن ماء الورد ليس ماء أصلا ، وهذا ماء وشيء آخر معه فقط . ==================
كتاب الطهارة
148 - مسألة : فإن سقط عنه اسم الماء جملة ، كالنبيذ وغيره ، لم يجز الوضوء به ولا الغسل ، والحكم حينئذ التيمم ، وسواء في هذه المسألة والتي قبلها ، وجد ماء آخر أم لم يوجد . برهان ذلك قول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ولقول رسول الله ﷺ { وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . ولما كان اسم الماء لا يقع على ما غلب عليه غير الماء حتى تزول عنه جميع صفات الماء التي منها يؤخذ حده ، صح أنه ليس ماء ، ولا يجوز الوضوء بغير الماء ، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وداود وغيرهم ، وقال به الحسن وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور وغيرهم . وروي عن عكرمة أن النبيذ وضوء إذا لم يوجد الماء ولا يتيمم مع وجوده . وقال الأوزاعي : لا يتيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر ، فإن كان مسكرا فلا يتوضأ به . وقال حميد صاحب الحسن بن حي : نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل المفترض في الحضر والسفر ، وجد الماء أو لم يوجد ، ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر ، وجد الماء أو لم يوجد . وقال أبو حنيفة في أشهر قوليه : إن نبيذ التمر خاصة إذا لم يسكر فإنه يتوضأ به ويغتسل - فيما كان خارج الأمصار والقرى خاصة - عند عدم الماء ، فإن أسكر ، فإن كان مطبوخا جاز الوضوء به والغسل كذلك ، فإن كان نيئا لم يجز استعماله أصلا في ذلك ، ولا يجوز الوضوء بشيء من ذلك ، لا عند عدم الماء ولا في الأمصار ولا في القرى أصلا - وإن عدم الماء - ولا بشيء من الأنبذة غير نبيذ التمر لا في القرى ولا في غير القرى ، ولا عند عدم الماء ، والرواية الأخرى عنه أن جميع الأنبذة يتوضأ بها ويغتسل ، كما قال في نبيذ التمر سواء سواء . وقال محمد بن الحسن : يتوضأ بنبيذ التمر عند عدم الماء ويتيمم معا . قال أبو محمد : أما قول عكرمة والأوزاعي والحسن بن حي ، فإنهم احتجوا بحديث رويناه من طريق ابن مسعود من طرق { أن رسول الله ﷺ قال له ليلة الجن : معك ماء ؟ قال ليس معي ماء ، ولكن معي إداوة فيها نبيذ ، فقال النبي ﷺ : تمرة طيبة وماء طهور ، فتوضأ ثم صلى الصبح } وفي بعض ألفاظه { أن رسول الله ﷺ توضأ بنبيذ وقال : تمرة طيبة وماء طهور } . وقال بعضهم : إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ركبوا البحر فلم يجدوا إلا ماء البحر ونبيذا ، فتوضئوا بالنبيذ ولم يتوضئوا بماء البحر . وذكروا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات قال : ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا يزيد بن هارون ثنا عبد الله بن ميسرة عن مزيدة بن جابر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا لم تجد الماء فلتتوضأ بالنبيذ . قال محمد بن المثنى : وحدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ثنا الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لا بأس بالوضوء بالنبيذ . قالوا : ولا مخالف لمن ذكرنا يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو إجماع على قول بعض مخالفينا . وقالوا : النبيذ ماء بلا شك خالطه غيره ، فإذ هو كذلك فالوضوء به جائز . قال أبو محمد : هذا كل ما يمكن أن يشغبوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه ، ولله الحمد . أما الخبر المذكور فلم يصح ؛ لأن في جميع طرقه من لا يعرف أو من لا خير فيه ، وقد تكلمنا عليه كلاما مستقصى في غير هذا الكتاب ، ثم لو صح بنقل التواتر لم يكن لهم فيه حجة ، لأن ليلة الجن كانت بمكة قبل الهجرة ولم تنزل آية الوضوء إلا بالمدينة في سورة النساء وفي سورة المائدة ، ولم يأت قط أثر بأن الوضوء كان فرضا بمكة ، فإذ ذلك كذلك فالوضوء بالنبيذ كلا وضوء ، فسقط التعلق به لو صح . وأما الذي رووه من فعل الصحابة رضي الله عنهم فهو عليهم لا لهم ؛ لأن الأوزاعي والحسن بن حي وأبا حنيفة وأصحابه كلهم مخالفون لما روي عن الصحابة في ذلك ، مجيزون للوضوء بماء البحر ، ولا يجيزون الوضوء بالنبيذ ، ما دام يوجد ماء البحر ، وكلهم - حاشا حميدا صاحب الحسن بن حي - لا يجيز الوضوء ألبتة بالنبيذ ما دام يوجد ماء البحر ، وحميد صاحب الحسن يجيز الوضوء بماء البحر مع وجود النبيذ ، فكلهم مخالف لما ادعوه من فعل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ، ومن الباطل أن يرى المرء حجة على خصمه ما لا يراه حجة عليه . وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فلا حجة في أحد غير رسول الله ﷺ . وأيضا فإن حميدا صاحب الحسن بن حي يخالف الرواية عن علي في ذلك ، لأنه يرى الوضوء بنبيذ التمر مع وجود الماء ، وهذا خلاف قول علي ، ويرى أن سائر الأنبذة لا يحل بها الوضوء أصلا ، وهذا خلاف الرواية عن علي . وأما قولهم : إن في النبيذ ماء خالطه غيره ، فهو لازم لهم في لبن مزج بماء ، وفي الحبر ؛ لأنه ماء مع عفص وزاج ، وفي الأمراق ؛ لأنها ماء وزيت وخل ، أو ماء وزيت ومري ونحو ذلك ، وهم لا يقولون بشيء من هذا ، فظهر تناقضهم في كل ما احتجوا به . ولله الحمد . وأما قول أبي حنيفة فهو أبعدهم من أن يكون له في شيء مما ذكرنا حجة . أما الحديث المذكور فليس فيه أن النبي ﷺ كان حين الوضوء بالنبيذ خارج مكة ، فمن أين له بتخصيص جواز الوضوء بالنبيذ خارج الأمصار والقرى ؟ وهذا خلاف لما في ذلك الخبر ، لا سيما وهو لا يرى التيمم فيما يقرب من القرية ، ولا قصر الصلاة إلا في ثلاثة أيام ، أحد وعشرين فرسخا فصاعدا ، ولا سبيل له إلى دليل في شيء من ذلك إلا ودليله في ذلك جار في جميع هذه المسائل . وأما قوله الثاني الذي قاس فيه جميع الأنبذة على نبيذ التمر ، فهلا قاس أيضا داخل القرية على خارجها وما المجيز له أحد القياسين والمانع له من الآخر ؟ لا سيما مع ما في الخبر من قوله { تمرة طيبة وماء طهور } فإذ هو ماء طهور فما المانع من استعماله مع وجود ماء غيره ، وكلاهما ماء طهور ؟ وهذا ما لا انفكاك منه . وإن كان لا يجيزه مع وجود الماء فليجزه للمريض في الحضر مع عدم الماء . وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم وقول علي فهو مخالف له ، لأنه لا يجيز الوضوء بالنبيذ مع وجود ماء البحر ، ولا يجيز الوضوء بالنبيذ وإن عدم الماء في القرى ، وليس هذا في قول علي ، ولم يخص علي نبيذ تمر من غيره ، وأبو حنيفة يخصه في أحد قوليه ، ولا أمقت في الدنيا والآخرة ممن ينكر على مخالفه ترك قول هو أول تارك له ولا سيما ومخالفه لا يرى ذلك الذي ترك حجة . قال الله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } . وأما قولهم : إن النبيذ ماء وتمر فيلزمهم هذا كما قلنا في الأمراق وغيرها من الأنبذة وهو خلاف قوله . فظهر فساد قولي أبي حنيفة معا . الحمد لله رب العالمين . وأما قول محمد بن الحسن ففاسد ، لأنه لا يخلو أن يكون الوضوء بالنبيذ جائزا فالتيمم معه فضول . أو لا يكون الوضوء به جائزا فاستعماله فضول . لا سيما مع قوله : إنه إذا كان في ثوب المرء أكثر من قدر الدرهم البغلي من نبيذ مسكر بطلت صلاته . ولا شك أن المجتمع على جسد المتوضئ بالنبيذ أو المغتسل به وفي ثوبه أكثر من دراهم بغلية كثيرة . فإن قال من ينتصر له : إنا لا ندري أيلزم الوضوء به فلا يجزئ تركه أو لا يحل الوضوء به فلا يجزئ فعله . فجمعنا الأمرين . قيل لهم : الوضوء بالماء فرض متيقن عند وجوده ، فلا يجوز تركه ، والوضوء بالتيمم عند عدم ما يجزئ الوضوء به فرض متيقن ، والوضوء بالنبيذ عندكم غير متيقن ، وما لم يكن متيقنا فاستعماله لا يلزم ، وما لا يلزم فلا معنى لفعله ، ولو جئتم إلى استعمال كل ما تشكون في وجوبه لعظم الأمر عليكم ، لا سيما وأنتم على يقين من أنه نجس يفسد الصلاة كونه في الثوب ، وأنتم مقرون أن الوضوء بالنجس المتيقن لا يحل . وأما المالكيون والشافعيون فإنهم كثيرا ما يقولون في أصولهم وفروعهم : إن خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم لا يحل . وهذا مكان نقضوا فيه هذا الأصل وبالله تعالى التوفيق . وأبو حنيفة يقول بالقياس ، وقد نقض ههنا أصله في القول به ، فلم يقس الأمراق ولا سائر الأنبذة على نبيذ التمر ، وخالف أيضا أقوال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم كما ذكرنا دون مخالف يعرف لهم في ذلك ، وهذا أيضا هادم لأصله ، فليقف على ذلك من أراد الوقوف على تناقض أقوالهم ، وهدم فروعهم لأصولهم . وبالله تعالى التوفيق .
149 - مسألة : وفرض على كل مستيقظ من نوم - قل النوم أو كثر ، نهارا كان أو ليلا ، قاعدا أو مضطجعا أو قائما . في صلاة أو في غير صلاة ، كيفما نام - ألا يدخل يده في وضوئه - في إناء كان وضوءه أو من نهر أو غير ذلك - حتى يغسلها ثلاث مرات ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات . فإن لم يفعل لم يجزه الوضوء ولا تلك الصلاة . ناسيا ترك ذلك أو عامدا . وعليه أن يغسلها ثلاث مرات ويستنشق كذلك ثم يبتدي الوضوء والصلاة ، والماء طاهر بحسبه . فإن صب على يديه وتوضأ دون أن يغمس يديه فوضوءه غير تام وصلاته غير تامة . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال { : إذا استيقظ أحدكم من نوم فلا يغمس - يعني يده - حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده } . قال أبو محمد : زعم قوم أن هذا الغسل خوف نجاسة تكون في اليد ، وهذا باطل لا شك فيه ، لأنه عليه السلام لو أراد ذلك لما عجز عن أن يبينه ، ولما كتمه عن أمته ، وأيضا فلو كان ذلك خوف نجاسة لكانت الرجل كاليد في ذلك ، ولكان باطن الفخذين وما بين الأليتين أولى بذلك . ومن العجب على أصولهم أن يكون ظن كون النجاسة في اليد يوجب غسلها ثلاثا ، فإذا تيقن كون النجاسة فيها أجزأه إزالتها بغسلة واحدة ، وإنما السبب الذي من أجله وجب غسل اليد هو ما نص عليه السلام من مغيب النائم عن درايته أين باتت يده فقط ، ويجعل الله تعالى ما شاء سببا لما شاء ، كما جعل تعالى الريح الخارج من أسفل سببا يوجب الوضوء وغسل الوجه ومسح الرأس وغسل الذراعين والرجلين . وادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله { أين باتت يده } وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل يقال : بات القوم يدبرون أمر كذا ، وإن كان نهارا . وحدثنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري عن إبراهيم بن حمزة هو الزبيري - عن ابن أبي حازم هو عبد العزيز - عن يزيد بن عبد الله هو ابن أسامة بن الهاد - عن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . كتب إلي سالم بن أحمد بن فتح قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي قال : ثنا عمر بن محمد بن داود السجستاني ثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني بشر بن الحكم ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ثنا محمد بن زنبور المكي ثنا عبد العزيز بن أبي حازم ثنا يزيد بن الهاد أن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنشق ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . قال أبو محمد : أمر رسول الله ﷺ على الفرض . قال الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ومن توضأ بغير أن يفعل ما أمره رسول الله ﷺ أن يفعله فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، ومن لم يتوضأ كذلك فلا صلاة له ، لا سيما طرد الشيطان عن خيشوم المرء ، فما نعلم مسلما يستسهل الأنس بكون الشيطان هناك . وقد أوجب المالكيون متابعة الوضوء فرضا لا يتم الوضوء والصلاة إلا به ، وأوجب الشافعي الصلاة على رسول الله ﷺ فرضا لا تتم الصلاة إلا به ، وأوجب أبو حنيفة الاستنشاق والمضمضة في غسل الجنابة فرضا لا يتم الغسل والصلاة إلا به . وكل هذا لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله ﷺ . فهذا الذي يجب أن ينكر لا فعل من أوجب ما أمر به رسول الله ﷺ . ولم يقل فيما قال له نبيه عليه السلام : افعل كذا ، فقال هو : لا أفعل إلا أن أشاء ، ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها . نعوذ بالله من ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أحق علي أن أستنشق ؟ قال نعم ، قلت كم ؟ قال ثلاثا ، قلت عمن ؟ قال عن عثمان . قال عبد الرزاق : ثنا معمر عن قتادة عن معبد الجهني قال في المضمضة والاستنشاق : إن كان جنبا فثلاثا ، وإن كان جاء من الغائط فاثنتين ، وإن كان جاء من البول فواحدة . وروي عن الحسن إعادة الوضوء والصلاة على من لم يغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الوضوء ، وبه يقول داود وأصحابنا .
150 - مسألة : ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد ، فإن اغتسل فيه فلم يغتسل ، والماء طاهر بحسبه ، وله أن يعيد الغسل منه ، وكذلك لا يجزئ الجنب أن يغتسل لفرض غير الجنابة في ماء ركاد ، فإن كان غير جنب أجزأه الاغتسال في الماء الراكد ، والوضوء جائز في الماء الراكد ، فمن اغتسل وهو جنب في جون من أجوان النهر والنهر راكد لم يجزه ، وأما البحر فهو جار أبدا مضطرب متحرك غير راكد ، هذا أمر مشاهد عيانا ، وكذلك من بال في ماء راكد ثم سرح لذلك الماء فجرى فلا يحل له الوضوء منه ولا الاغتسال ، لأنه قد حرم عليه الاغتسال والوضوء من عين ذلك الماء بالنص ، ولو بال في ماء جار ثم أغلق صببه فركد جاز له الوضوء منه والاغتسال منه ، لأنه لم يبل في ماء راكد ، والاغتسال للجنابة وغيرها في الماء الجاري مباح ، وإن بال فيه لم يحرم عليه بذلك الوضوء منه وفيه والغسل منه وفيه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } ، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولا " . فهذا أبو هريرة لا يرى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة قال : إن فعل تنجس الماء ، وقد بينا فساد هذا القول قبل ، وكرهه مالك ، وأجاز غسله إن اغتسل كذلك ، وهذا خطأ ، لخلافه أمر رسول الله ﷺ . وسواء كان الماء الراكد قليلا أو كثيرا ، ولو أنه فراسخ في فراسخ ، لا يجزئ الجنب أن يغتسل فيه ، لأن رسول الله ﷺ لم يخص ماء من ماء ، ولم ينه عن الوضوء فيه ولا عن الغسل لغير الجنب فيه ، فهو مباح { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .
151 - مسألة : وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا ، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه ، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره ، وفرضهم التيمم حينئذ ، وحلال شربه للرجال والنساء ، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال . ولا يكون فضلا إلا أن يكون أقل مما استعملته منه ، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا ، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء . وأما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة ، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده ، ولم نجده صحيحا فإن توضأ الرجل والمرأة من إناء واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز ، ولا نبالي أيهما بدأ قبل ، أو أيهما أتم قبل . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود هو السجستاني - ثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود هو الطيالسي - ثنا شعبة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي حاجب هو سوادة بن عاصم - عن الحكم بن عمرو الغفاري " أن رسول الله ﷺ { نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة } أخبرني أصبغ قال ثنا إسحاق بن أحمد ثنا محمد بن عمر العقيلي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا معلي بن أسد ثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس { أن النبي ﷺ نهى أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة } . ولم يخبر عليه السلام بنجاسة الماء ، ولا أمر غير الرجال باجتنابه ، وبهذا يقول عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو ، وهما صاحبان من أصحاب رسول الله ﷺ وبه تقول جويرية أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب ، وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول . وقال قتادة : سألت سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة ، فكلاهما نهاني عنه . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا . وقد صح { عن النبي ﷺ أنه كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنها من إناء واحد معا حتى يقول أبقي لي وتقول له أبق لي } وهذا حق وليس شيء من ذلك فضلا حتى يتركه . هذا حكم اللغة بلا خلاف . واحتج من خالف هذا بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس { أن امرأة من نساء النبي ﷺ استحمت من جنابة فجاء النبي ﷺ فتوضأ من فضلها فقالت له : إني اغتسلت فقال : إن الماء لا ينجسه شيء } وبحديث آخر رويناه من طريق الطهراني عن عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة ، مختصر } قال أبو محمد : هكذا في نفس الحديث مختصر . قال أبو محمد : وهذان حديثان لا يصحان ، فأما الحديث الأول فرواية سماك بن حرب ، وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، وهذه جرحة ظاهرة ( والثاني ) أخطأ فيه الطهراني بيقين ؛ لأن هذا أخبرناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ومحمد بن حاتم قال إسحاق أخبرنا محمد بن بكر وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر وهو البرساني ثنا ابن جريج ثنا عمرو بن دينار قال : أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة } . قال أبو محمد : فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده ، وهؤلاء أوثق من الطهراني وأحفظ بلا شك . ثم لو صح هذان الخبران ولم يكن فيهما مغمز لما كانت فيهما حجة ، لأن حكمهما هو الذي كان قبل نهي رسول الله ﷺ عن أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل بفضل طهور المرأة ، بلا شك في هذا ، فنحن على يقين من أن حكم هذين الخبرين منسوخ قطعا ، حين نطق عليه السلام بالنهي عما فيهما ، لا مرية في هذا ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل الأخذ بالمنسوخ وترك الناسخ ، ومن ادعى أن المنسوخ قد عاد حكمه ، والناسخ قد بطل رسمه ، فقد أبطل وادعى غير الحق ، ومن المحال الممتنع أن يكون ذلك ولا يبينه رسول الله ﷺ وهو المفترض عليه البيان . وبالله تعالى التوفيق . على أن أبا حنيفة والشافعي - المحتجين بهذين الخبرين - مخالفان لما في أحدهما من قوله عليه السلام { الماء لا ينجس } ومن القبيح احتجاج قوم بما يقرون أنه حجة ثم يخالفونه وينكرون خلافه على من لا يراه حجة . وبالله تعالى التوفيق . وروينا إباحة وضوء الرجل من فضل المرأة عن عائشة وعلي ، إلا أنه لا يصح فأما الطريق عن عائشة ففيها العرزمي وهو ضعيف ، عن أم كلثوم وهي مجهولة لا يدرى من هي . وأما الطريق عن علي فمن طريق ابن ضميرة عن أبيه عن جده ، وهي صحيفة موضوعة مكذوبة لا يحتج بها إلا جاهل ، فبقي ما روي في ذلك عن ابن سرجس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم ، يصح ذلك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق .
152 - مسألة : ولا يحل الوضوء بماء أخذ بغير حق ، ولا من إناء مغصوب أو مأخوذ بغير حق ، ولا الغسل ، إلا لصاحبه أو بإذن صاحبه ، فمن فعل ذلك فلا صلاة له ، وعليه إعادة الوضوء والغسل . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا بشر هو ابن عمر - ثنا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه { قعد النبي ﷺ على بعير فقال - وذكر الحديث وفيه - : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه } . ورويناه أيضا من طريق جابر بن عبد الله وابن عمر مسندا صحيحا . ومن طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ { كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله } . فكان من توضأ بماء مغصوب أو أخذ بغير حق أو اغتسل به أو من إناء كذلك فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام ، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله ، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به ، بل هو وضوء محرم ، هو فيه عاص لله تعالى ، وكذلك الغسل ، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ ، وهذا أمر لا إشكال فيه . ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين ، فأطعمهم مال غيره ، أو من عليه صيام أيام ، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق ، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره : أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه ؟ فمن قولهم : لا ، فيقال لهم : فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب ؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه ، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء . وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه . وليس هذا قياسا بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال ، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعالى وقد قال رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله ﷺ فهو مردود بحكم النبي ﷺ وهم في هذا ومن قال إنما يحرم من الأموال البر والتمر ، وأما الشعير والزبيب فلا ، وهذا تحكم فاسد . والعجب أن الحنفيين يبطلون طهارة من تطهر بماء مستعمل ، وكذلك الشافعيون وأن المالكيين يبطلون طهارة من تطهر بماء بل فيه خبز ، دون نص في تحريم ذلك ، ولا حجة بأيديهم إلا تشغيب يدعون أنه نهى عن هذين الماءين ثم يجيزون الطهارة بماء وإناء ، يقرون كلهم بأنه قد صح النهي عنه ، وثبت تحريمه وتحريم استعماله في الوضوء والغسل عليه ، وهذا عجب لا يكاد يوجد مثله وهذا مما خالفوا فيه النص والإجماع المتيقن الذين هم من جملة المانعين منه في الأصل ، وخالفوا أيضا القياس وما تعلقوا في جوازه بشيء أصلا . وبالله تعالى التوفيق .
153 - مسألة : ولا يجوز الوضوء ولا الغسل من إناء ذهب ولا من إناء فضة لا لرجل ولا لامرأة . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة قال { نهانا رسول الله ﷺ عن الحرير والديباج وآنية الذهب والفضة ، وقال : هو لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة } وقد روينا أيضا عن البراء بن عازب { عن رسول الله ﷺ النهي عن آنية الفضة } . فإن قيل : إنما نهى عن الأكل فيها والشرب . قلنا : هذان الخبران نهي عام عنهما جملة ، فهما زائدان حكما وشرعا على الأخبار التي فيها النهي عن الشرب فقط أو الأكل والشرب فقط ، والزيادة في الحكم لا يحل خلافها . فإن قيل : فقد جاء أن الذهب والحرير { حرام على ذكور أمتي حل لإناثها } قلنا : نعم ، وحديث النهي عن آنية الذهب والفضة مستثنى من إباحة الذهب للنساء ، لأنه أقل منه ، ولا بد من استعمال جميع الأخبار ، ولا يوصل إلى استعمالها إلا هكذا ، وهم قد فعلوا هذا في الشرب في إناء الذهب والفضة ، فإنهم منعوا النساء من ذلك واستثنوه من إباحة الذهب لهن . فإن قيل : فقد صح عن النبي ﷺ { أن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرم شيئا } قلنا نعم ، هذا حق وبه نقول ، والماء الذي في إناء الذهب والفضة شربه حلال ، والتطهر به حلال ، وإنما حرم استعمال الإناء ، فلما لم يكن بد في الشرب منه وفي التطهر منه من معصية الله تعالى - التي هي استعمال الإناء المحرم - صار فاعل ذلك مجرجرا في بطنه نار جهنم بالنص ، وكان في حال وضوئه وغسله عاصيا لله تعالى بذلك التطهر نفسه ، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة ، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض . ثم نقول لهم : إن من العجب احتجاجكم بهذا الخبر علينا ، ونحن نقول به وأنتم تخالفونه ، فأبو حنيفة والشافعي يحرمون الوضوء والغسل بماء في إناء كان فيه خمر لم يظهر منها في الماء أثر ، فقد جعلوا هذا الإناء يحرم هذا الماء ، خلافا للخبر الثابت وأما مالك فإنه يحرم النبيذ الذي في الدباء والمزفت ، وهو الذي أبطل هذا الخبر وفيه ورد ، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها إباحة الحلي للنساء ، وتحريم الإناء من الفضة أو الإناء المفضض عليهن . وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق .
154 - مسألة : ولا يحل الوضوء من ماء بئار الحجر - وهي أرض ثمود - ولا الشرب ، حاشا بئر الناقة فكل ذلك جائز منها . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال { لما نزل رسول الله ﷺ الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، قالوا : قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء } . وبه إلى البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا ، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة } قال أبو محمد : هي معروفة بتبوك .
155 - مسألة : وكل ماء اعتصر من شجر ، كماء الورد وغيره ، فلا يحل الوضوء به للصلاة ، ولا الغسل به لشيء من الفرائض ، لأنه ليس ماء ، ولا طهارة إلا بالماء والتراب أو الصعيد عند عدمه .
156 - مسألة : والوضوء للصلاة والغسل للفروض جائز بماء البحر وبالماء المسخن والمشمس وبماء أذيب من الثلج أو البرد أو الجليد أو من الملح الذي كان أصله ماء ولم يكن أصله معدنا . برهان ذلك أن كل ما ذكرنا يقع عليه اسم ماء ، وقال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } والملح كان ماء ثم جمد كما يجمد الثلج ، فسقط عن كل ذلك اسم الماء ، فحرم الوضوء للصلاة به والغسل للفروض ، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء ، فعاد حكم الوضوء والغسل به كما كان ، وليس كذلك الملح المعدني ، لأنه لم يكن قط ماء . وبالله تعالى التوفيق . وفي بعض هذا خلاف قديم : روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ ، ولقد كان يلزم من يقول بتقليد الصاحب ويقول إذا وافقه قوله : " مثل هذا لا يقال بالرأي " أن يقول بقولهم ههنا . وكذلك من لم يقل بالعموم ، لأن الخبر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } لا يصح . ولذلك لم نحتج به . وروي عن مجاهد الكراهة للماء المسخن وعن الشافعي الكراهة للماء المشمس ، وكل هذا لا معنى له ، ولا حجة لا في قرآن أو سنة ثابتة أو إجماع متيقن ، وبالله تعالى التوفيق .
157 - مسألة : الأشياء الموجبة للوضوء ولا يوجب الوضوء غيرها . قال قوم : ذهاب العقل بأي شيء ذهب ، من جنون أو إغماء أو سكر من أي شيء سكر . وقالوا هذا إجماع متيقن . وبرهان ذلك أن من ذهب عقله سقط عنه الخطاب ، وإذا كان كذلك فقد بطلت حال طهارته التي كان فيها ، ولولا صحة الإجماع أن حكم جنابته لا يرجع عليه لوجب أن يرجع عليه ، وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، أما دعوى الإجماع فباطل ، وما وجدنا في هذا عن أحد من الصحابة كلمة ولا عن أحد التابعين ، إلا عن ثلاثة نفر : إبراهيم النخعي - على أن الطريق إليه واهية وحماد والحسن فقط ، عن اثنين منهم الوضوء وعن الثالث إيجاب الغسل ، روينا عن سعيد بن منصور عن سويد بن سعيد الحدثاني وهشيم ، قال سويد أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في المجنون إذا أفاق : يتوضأ ، وقال هشيم عن بعض أصحابه عن إبراهيم مثله ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان قال : إذا أفاق المجنون توضأ وضوءه للصلاة ، ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال : إذ أفاق المجنون اغتسل . فأين الإجماع ؟ ليت شعري ؟ فإن قالوا : قسناه على النوم ، قلنا : القياس باطل ، لكن قد وافقتمونا على أنه لا يوجب إحدى الطهارتين وهي الغسل ، فقيسوا على سقوطها سقوط الأخرى وهي الوضوء ، فهذا قياس ، يعارض قياسكم ، والنوم لا يشبه الإغماء ولا الجنون ولا السكر فيقاس عليه ، وقد اتفقوا على أنه لا يبطل إحرامه ولا صيامه ولا شيء من عقوده ، فمن أين لهم إبطال وضوئه بغير نص في ذلك ؟ وقد صح عن رسول الله ﷺ الخبر المشهور الثابت من طريق عائشة أم المؤمنين ، { أنه عليه السلام في علته التي مات فيها أراد الخروج للصلاة فأغمي عليه ، فلما أفاق اغتسل ، ولم تذكر وضوءا وإنما كان غسله ليقوى على الخروج فقط } .
==========
كتاب الطهارة
158 - مسألة : والنوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قل أو كثر ، قاعدا أو قائما ، في صلاة أو غيرها ، أو راكعا كذلك أو ساجدا كذلك أو متكئا أو مضطجعا ، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله وعبد الله بن ربيع قالا : ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ويحيى بن آدم وقتيبة بن سعيد قال محمد ثنا شعبة وقال قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وقال يحيى ثنا سفيان الثوري وزهير هو ابن معاوية - ومالك بن مغول وسفيان بن عيينة واللفظ ليحيى ، ثم اتفق شعبة وسفيان وزهير وابن مغول عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال : سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين فقال كان رسول الله ﷺ يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة } . ولفظ شعبة في روايته { أن رسول الله ﷺ كان يأمرنا إذا كنا مسافرين ألا ننزعه ثلاثا إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم } فعم عليه السلام كل نوم ، ولم يخص قليله من كثيره ، ولا حالا من حال ، وسوى بينه وبين الغائط والبول ، وهذا قول أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة والزهري والمزني وغيرهم كثير . وذهب الأوزاعي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء كيف كان . وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عمر وعن مكحول وعبيدة السلماني نذكر بعض ذلك بإسناده ؛ لأن الحاضرين من خصومنا لا يعرفونه ، ولقد ادعى بعضهم الإجماع على خلافه جهلا وجرأة . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال " كان أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة " . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن حبيب الحارثي ثنا خالد هو ابن الحارث - ثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يقول " كان أصحاب رسول الله ﷺ ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون " فقلت لقتادة : سمعته من أنس ؟ قال إي والله . قال أبو محمد : لو جاز القطع بالإجماع فيما لا يتيقن أنه لم يشذ عنه أحد لكان هذا يجب أن يقطع فيه بأنه إجماع ، لا لتلك الأكاذيب التي لا يبالي من لا دين له بإطلاق دعوى الإجماع فيها . وذهب داود بن علي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط ، وهو قول روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن عباس ، ولم يصح عنهما ، وعن ابن عمر صح عنه ، وصح عن إبراهيم النخعي وعن عطاء والليث وسفيان الثوري والحسن بن حي . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينقض النوم الوضوء إلا أن يضطجع أو يتكئ أو متوكئا على إحدى أليتيه أو إحدى وركيه فقط ، ولا ينقضه ساجدا أو قائما أو قاعدا أو راكعا ، طال ذلك أو قصر . وقال أبو يوسف : إن نام ساجدا غير متعمد فوضوءه باق ، وإن تعمد ذلك بطل وضوءه ، وهو لا يفرق بين العمد والغلبة فيما ينقض الوضوء والصلاة من غير هذا ، وهو قول لا نعلمه عن أحد من المتقدمين إلا أن بعضهم ذكر ذلك عن حماد بن أبي سليمان والحكم ، ولا نعلم كيف قالا . وقال مالك وأحمد بن حنبل : من نام نوما يسيرا وهو قاعد لم ينتقض وضوءه وكذلك النوم القليل للراكب ، وقد روي عنه نحو ذلك في السجود أيضا ، ورأي أيضا فيما عدا هذه الأحوال أن قليل النوم وكثيره ينقض الوضوء ، وهو قول الزهري وربيعة ، وذكر عن ابن عباس ولم يصح . وقال الشافعي : جميع النوم ينقض الوضوء ، قليله وكثيره إلا من نام جالسا غير زائل عن مستوى الجلوس ، فهذا لا ينتقض وضوءه ، طال نومه أو قصر ، وما نعلم هذا التقسيم يصح عن أحد من المتقدمين ، إلا أن بعض الناس ذكر ذلك عن طاوس وابن سيرين ولا نحققه . قال أبو محمد : احتج من لم ير النوم حدثا بالثابت عن رسول الله ﷺ من { أنه كان ينام ولا يعيد وضوءا ثم يصلي } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم ، لأن { عائشة رضي الله عنها ذكرت أنها قالت لرسول الله ﷺ أتنام قبل أن توتر ؟ قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي } فصح أنه عليه السلام بخلاف الناس في ذلك ، وصح أن نوم القلب الموجود من كل من دونه هو النوم الموجب للوضوء ، فسقط هذا القول . ولله الحمد . ووجدنا من حجة من لا يرى الوضوء من النوم إلا من الاضطجاع حديثا روي فيه { إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } وحديثا آخر فيه { أعلي في هذا وضوء يا رسول الله ؟ قال : لا إلا أن تضع جنبك } وحديثا آخر فيه { من وضع جنبه فليتوضأ } . قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة فيه . أما الحديث الأول فإنه من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس ، وعبد السلام ضعيف لا يحتج به ، ضعفه ابن المبارك وغيره ، والدالاني ليس بالقوي ، روينا عن شعبة أنه قال : لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ، ليس هذا منها ، فسقط جملة ولله الحمد . والثاني لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه ؛ لأنه رواية بحر بن كنيز السقاء ، وهو لا خير فيه متفق على إطراحه ، فسقط جملة . والثالث رواه معاوية بن يحيى وهو ضعيف يحدث بالمناكير فسقط هذا الباب كله وبالله تعالى نتأيد . وذكروا أيضا حديثا فيه { إذا نام العبد ساجدا باهى الله به الملائكة } وهذا لا شيء ؛ لأنه مرسل لم يخبر الحسن ممن سمعه ، ثم لو صح لم يكن فيه إسقاط الوضوء عنه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين أحدهما عن عطاء عن ابن عباس ، والآخر من طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر فيهما { : أن النبي ﷺ أخر الصلاة حتى نام الناس ثم استيقظوا ثم ناموا ، ثم استيقظوا ، فجاء عمر فقال : الصلاة يا رسول الله فصلوا ، ولم يذكر أنهم توضئوا } . قال أبو محمد : والثاني من طريق شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس { : أقيمت الصلاة والنبي ﷺ يناجي رجلا ، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ، ثم جاء فصلى بهم } وحديثا ثابتا من طريق عروة عن عائشة قالت : { أعتم النبي ﷺ بالعشاء ، حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان ، فخرج عليه السلام } . قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة فيه ألبتة لمن فرق بين أحوال النائم ولا بين أحوال النوم ، لأنها ليس في شيء منها ذكر حال من نام كيف نام ، من جلوس أو اضطجاع أو اتكاء أو تورك أو استناد ، وإنما يمكن أن يحتج بها من لا يرى الوضوء من النوم أصلا ، ومع ذلك فلا حجة لهم في شيء منه ؛ لأنه ليس في شيء منها أن رسول الله ﷺ علم بنوم من نام ، ولم يأمره بالوضوء ، ولا حجة لهم إلا فيما علمه النبي ﷺ فأقره ، أو فيما أمر به ، أو فيما فعله ، فكيف وفي حديث ابن عمر وعائشة { أنه لم يكن إسلام يومئذ إلا بالمدينة } ، فلو صح أنه عليه السلام علم ذلك منهم لكان حديث صفوان ناسخا له ؛ لأن إسلام صفوان متأخر فسقط التعلق بهذه الأخبار جملة ، وبالله تعالى التوفيق . وأما قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد فلا متعلق لمن ذهب إلى شيء منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا بعمل صحابة ولا بقول صح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بقياس ولا باحتياط ، وهي أقوال مختلفة كما ترى ليس لأحد من مقلديهم أن يدعي عملا إلا كان لخصومه أن يدعي لنفسه مثل ذلك وقد لاح أن كل ما شغبوا به من أفعال الصحابة رضي الله عنهم فإنما هو إيهام مفتضح ، لأنه ليس في شيء من الروايات أنهم ناموا على الحال التي يسقطون الوضوء عمن نام كذلك ، فسقطت الأقوال كلها من طريق السنن إلا قولنا . والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو النوم من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون النوم حدثا وإما أن لا يكون حدثا ، فإن كان ليس حدثا فقليله وكثيره ، كيف كان لا ينقض الوضوء ، وهذا خلاف قولهم ، وإن كان حدثا فقليله وكثيره - كيف كان - ينقض الوضوء ، وهذا قولنا فصح أن الحكم بالتفريق بين أحوال النوم خطأ وتحكم بلا دليل ، ودعوى لا برهان عليها . فإن قال قائل : إن النوم ليس حدثا ، وإنما يخاف أن يحدث فيه المرء ، قلنا لهم : هذا لا متعلق لكم بشيء منه ، لأن الحدث ممكن كونه من المرء في أخف ما يكون من النوم ، كما هو ممكن أن يكون منه في النوم الثقيل وممكن أن يكون من الجالس كما هو ممكن أن يكون من المضطجع ، وقد يكون الحدث من اليقظان ، وليس الحدث عملا يطول ، بل هو كلمح البصر ، وقد يمكن أن يكون النوم الكثير من المضطجع لا حدث فيه ، ويكون الحدث في أقل ما يكون من نوم الجالس ، فهذا لا فائدة لهم فيه أصلا ، وأيضا فإن خوف الحدث ليس حدثا ولا ينتقض به الوضوء ، وإنما ينقض الوضوء يقين الحدث . وبالله تعالى التوفيق . وإذ الأمر كما ذكرنا فليس إلا أحد أمرين : إما أن يكون خوف كون الحدث حدثا ، فقليل النوم وكثيره يوجب نقض الوضوء ، لأن خوف الحدث جار فيه ، وإما أن يكون خوف الحدث ليس حدثا ، فالنوم قليله وكثيره لا ينقض الوضوء وبطلت أقوال هؤلاء على كل حال بيقين لا شك فيه . وقد ذكر قوم أحاديث منها ما يصح ومنها ما لا يصح ، يجب أن ننبه عليها بعون الله تعالى . منها حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ { إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ؛ لأن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه } ، وفي بعض ألفاظه { لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري } وحديث أنس عن النبي ﷺ { إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يدري ما يقرأ } . قال أبو محمد : هذان صحيحان ، وهما حجة لنا ، لأن فيهما أن الناعس لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول ، والنهي عن الصلاة على تلك الحال جملة ، فإذ الناعس لا يدري ما يقول فهو في حال ذهاب العقل بلا شك ، ولا يختلفون أن من ذهب عقله بطلت طهارته ، فيلزمهم أن يكون النوم كذلك . والآخر من طريق معاوية عن النبي ﷺ { العينان وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء } والثاني من طريق علي عن النبي ﷺ { العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ } . قال علي بن أحمد : لو صحا لكانا أعظم حجة لقولنا ، لأن فيهما إيجاب الوضوء من النوم جملة ، دون تخصيص حال من حال ، ولا كثير نوم من قليله ، بل من كل نوم نصا ، ولكنا لسنا ممن يحتج بما لا يحل الاحتجاج به نصرا لقوله ، ومعاذ الله من ذلك . وهذان أثران ساقطان لا يحل الاحتجاج بهما . أما حديث معاوية فمن طريق بقية وهو ضعيف ، عن أبي بكر بن أبي مريم وهو مذكور بالكذب عن عطية بن قيس وهو مجهول . وأما حديث علي فراويه أيضا بقية عن الوضين بن عطاء ، وكلاهما ضعيف ، وبالله تعالى التوفيق .
159 - مسألة : والمذي والبول والغائط من أي موضع خرج من الدبر والإحليل أو من جرح في المثانة أو البطن أو غير ذلك من الجسد أو من الفم . فأما المذي فقد ذكرنا في باب تطهير المذي من كتابنا هذا قول رسول الله ﷺ فيمن وجده { وليتوضأ وضوءه للصلاة } وأما البول والغائط فإجماع متيقن ، وأما قولنا من أي موضع خرج فلعموم أمره عليه السلام بالوضوء منهما ، ولم يخص خروجهما من المخرجين دون غيرهما ، وهذان الاسمان واقعان عليهما في اللغة التي بها خاطبنا عليه السلام من حيث ما خرجا ، وممن قال بقولنا ههنا أبو حنيفة وأصحابه ، ولا حجة لمن أسقط الوضوء منهما إذا خرجا من غير المخرجين لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل القرآن جاء بما قلناه ، قال الله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء } وقد يكون خروج الغائط والبول من غير المخرجين ، فلم يخص تعالى بالأمر بالوضوء والتيمم من ذلك حالا دون حال ، ولا المخرجين من غيرهما ، وبالله التوفيق .
160 - مسألة : والريح الخارجة من الدبر - خاصة لا من غيره - بصوت خرجت أم بغير صوت . وهذا أيضا إجماع متيقن ، ولا خلاف في أن الوضوء من الفسو والضراط ، وهذان الاسمان لا يقعان على الريح ألبتة إلا إن خرجت من الدبر ، وإلا فإنما يسمى جشاء أو عطاسا فقط . وبالله تعالى التوفيق .
161 - مسألة : فمن كان مستنكحا بشيء مما ذكرنا توضأ - ولا بد - لكل صلاة فرضا أو نافلة ، ثم لا شيء عليه فيما خرج منه من ذلك في الصلاة أو فيما بين وضوئه وصلاته ، ولا يجزيه الوضوء إلا في أقرب ما يمكن أن يكون وضوءه من صلاته ، ولا بد للمستنكح أيضا أن يغسل ما خرج منه من البول والغائط والمذي حسب طاقته ، مما لا حرج عليه فيه ، ويسقط عنه من ذلك ما فيه عليه الحرج منه . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ فيما قد ذكرناه في مسألة إبطال القياس من صدر كتابنا هذا ، من قول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقول الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فصح أنه مأمور بالصلاة والوضوء من الحدث ، وهذا كله حدث ، فالواجب أن يأتي من ذلك ما يستطيع ، وما لا حرج عليه فيه ولا عسر ، وهو مستطيع على الصلاة وعلى الوضوء لها ، ولا حرج عليه في ذلك ، فعليه أن يأتي بهما ، وهو غير مستطيع للامتناع مما يخرج عنه من ذلك في الصلاة ، وفيما بين وضوئه وصلاته ، فسقط عنه ، وكذلك القول في غسل ما خرج منه من ذلك . قال أبو محمد : وهذا قول سفيان الثوري وأصحاب الظاهر . وقال أبو حنيفة : يتوضأ هؤلاء لكل وقت صلاة ، ويبقون على وضوئهم إلى دخول وقت صلاة آخر فيتوضئون . وقال مالك : لا وضوء عليه من ذلك . وقال الشافعي : يتوضأ لكل صلاة فرض فيصلي بذلك الوضوء ما شاء من النوافل خاصة . قال علي : إنما قالوا كل هذا قياسا على المستحاضة ، على حسب قول كل واحد منهم فيها ، والقياس باطل . ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن الثابت في المستحاضة هو غير ما قالوه لكن ما سنذكره إن شاء الله في باب المستحاضة ، وهو وجوب الغسل لكل صلاة فرض ، أو للجمع بين الظهر والعصر ثم بين المغرب والعتمة . ثم للصبح . ودخول وقت صلاة ما ليس حدثا بلا شك ، وإذا لم يكن حدثا فلا ينقض طهارة قد صحت بلا نص وارد في ذلك ، وإسقاط مالك الوضوء مما قد أوجبه الله تعالى منه ورسوله ﷺ منه بالإجماع وبالنصوص الثابتة خطأ لا يحل . وقد شغب بعضهم في هذا بما روينا عن عمر رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب في المذي . قال عمر : إني لأجده ينحدر على فخذي على المنبر فما أباليه وقال سعيد مثل ذلك عن نفسه في الصلاة : فأوهموا أنهما رضي الله عنهما كانا مستنكحين بذلك . قال أبو محمد : وهذا كذب مجرد ، لا ندري كيف استحله من أطلق به لسانه ، لأنه لم يأت في شيء من هذا الأثر ولا من غيره نص ولا دليل بذلك ، ونعوذ بالله من الإقدام على مثل هذا ، وإنما الحق من ذلك أن عمر كان لا يرى الوضوء منه وكذلك ابن المسيب ، لأن السنة في ذلك لم تبلغ عمر ثم بلغته فرجع إلى إيجاب الوضوء منه . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بشر العبدي ثنا مسعر بن كدام عن مصعب بن شيبة عن أبي حبيب بن يعلى بن منية عن { ابن عباس أنه وعمر بن الخطاب أتيا إلى أبي بن كعب فخرج إليهما أبي وقال : إني وجدت مذيا فغسلت ذكري وتوضأت ، فقال له عمر : أو يجزئ ذلك ؟ قال نعم . قال عمر : أسمعته من رسول الله ؟ قال نعم } . حدثنا حمام ثنا ابن مفرح ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إنه ليخرج من أحدنا مثل الجمانة فإذا وجد أحدكم ذلك فليغسل ذكره وليتوضأ ، وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة ، فهذا هو الثابت عن عمر . وكذلك قول الشافعي أيضا خطأ ظاهر ؛ لأن من المحال الظاهر أن يكون إنسان متوضئا طاهرا لنافلة إن أراد أن يصليها غير متوضئ ولا طاهر لفريضة إن أراد أن يصليها ، فهذا قول لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، ولا وجدوا له في الأصول نظيرا ، وهم يدعون أنهم أصحاب نظر وقياس ، وهذا مقدار نظرهم وقياسهم ، وبقي قول أبي حنيفة ومالك والشافعي عاريا من أن تكون له حجة من قرآن أو سنة صحيحة أو سقيمة أو من إجماع أو من قول صاحب أو من قياس أصلا
162 - مسألة : فهذه الوجوه تنقض الوضوء عمدا كان أو نسيانا أو بغلبة ، وهذا إجماع إلا ما ذكرنا مما فيه الخلاف ، وقام البرهان من ذلك على ما ذكرنا . وبالله تعالى التوفيق .
163 - مسألة : ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه من باطن يده أو من ظاهرها أو بذراعه - حاشا مسه بالفخذ أو الساق أو الرجل من نفسه فلا يوجب وضوءا - ومس المرأة فرجها عمدا كذلك أيضا سواء سواء ، ولا ينقض الوضوء شيء من ذلك بالنسيان ، ومس الرجل ذكر غيره من صغير أو كبير ميت أو حي بأي عضو مسه عمدا من جميع جسده من ذي رحم محرمة أو من غيره ، ومس المرأة فرج غيرها عمدا أيضا كذلك سواء سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك ، فإن كان كل ذلك على ثوب رقيق أو كثيف ، للذة أو لغير لذة ، باليد أو بغير اليد ، عمدا أو غير عمد ، لم ينقض الوضوء ، وكذلك إن مسه بغلبة أو نسيان فلا ينقض الوضوء . برهان ذلك ما حدثناه حمام بن أحمد قال : ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال { تذاكر هو ومروان الوضوء ، فقال مروان حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله ﷺ يأمر بالوضوء من مس الفرج } . قال أبو محمد : فإن قيل : إن هذا خبر رواه الزهري عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة ، قلنا : مرحبا بهذا ، وعبد الله ثقة ، والزهري لا خلاف في أنه سمع من عروة وجالسه ، فرواه عن عروة ورواه أيضا عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة ، فهذا قوة للخبر والحمد لله رب العالمين . قال علي : مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، ولم يلقه عروة قط إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه هذا ما لا شك فيه ، /126 L470 وبسرة /126 مشهورة من صواحب رسول الله ﷺ المبايعات المهاجرات - هي بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بنت أخي ورقة بن نوفل وأبوها ابن عم خديجة أم المؤمنين لحا . ولفظ هذا الحديث عام يقتضي كل ما ذكرناه ، وأما مس الرجل فرج نفسه بساقه ورجله وفخذه فلا خلاف في أن المرء مأمور بالصلاة في قميص كثيف وفي مئزر وقميص ، ولا بد له ضرورة في صلاته كذلك من وقوع فرجه على ساقه ورجله وفخذه ، فخرج هذا بهذا الإجماع المنصوص عليه عن جملة هذا الخبر . وممن قال بالوضوء من مس الفرج سعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهما وعطاء وعروة وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأبان بن عثمان وابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، إلا أن الأوزاعي والشافعي لم يريا الوضوء ينقض ذلك إلا بمسه بباطن الكف فقط لا بظاهرها . وقال عطاء بن أبي رباح : لا ينقض الوضوء مس الفرج بالفخذ والساق وينقض مسه بالذراع . وقال مالك : مس الفرج من الرجل فرج نفسه الذكر فقط بباطن الكف لا بظاهرها ولا بالذراع يوجب الوضوء ، فإن صلى ولم يتوضأ لم يعد الصلاة إلا في الوقت . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء مس الذكر كيف كان وقال الشافعي ينقض الوضوء مس الدبر ومس المرأة فرجها ، وقال مالك لا ينقض الوضوء مس الدبر ولا مس المرأة فرجها إلا أن تقبض وتلطف ، أي تدخل أصبعها بين شفريها ، ونحا بعض أصحابه بنقض الوضوء من مس الذكر نحو اللذة . فأما قول الأوزاعي والشافعي ومالك في مراعاة باطن الكف دون ظاهرها فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأي صحيح . وشغب بعضهم بأن قال : في بعض الآثار { من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ } قال أبو محمد : وهذا لا يصح أصلا ، ولو صح لما كان فيه دليل على ما يقولون ؛ لأن الإفضاء باليد يكون بظاهر اليد كما يكون بباطنها ، وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء ، إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء ، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد ، قال الله تعالى { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . وأما قول مالك في إيجاب الوضوء منه ثم لم ير الإعادة إلا في الوقت ، فقول متناقض ؛ لأنه لا يخلو أن يكون انتقض وضوءه أو لم ينتقض ، فإن كان انتقض فعلى أصله يلزمه أن يعيد أبدا ، وإن كان لم ينتقض فلا يجوز له أن يصلي صلاة فرض واحدة في يوم مرتين ، وكذلك فرق مالك بين مس الرجل فرجه وبين مس المرأة فرجها فهو قول لا دليل عليه فهو ساقط . وأما إيجاب الشافعي الوضوء من مس الدبر فهو خطأ لأن الدبر لا يسمى فرجا ، فإن قال : قسته على الذكر قيل له : القياس عند القائلين به لا يكون إلا على علة جامعة بين الحكمين ، ولا علة جامعة بين مس الذكر ومس الدبر ، فإن قال : كلاهما مخرج للنجاسة ، قيل له : ليس كون الذكر مخرجا للنجاسة هو علة انتقاض الوضوء من مسه ، ومن قوله إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء ، فكيف مس مخرجها . وبالله تعالى التوفيق . وأما أصحاب أبي حنيفة فاحتجوا بحديث طلق بن علي { أن رجلا سأل رسول الله ﷺ عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ ، فقال رسول الله ﷺ : هل هو إلا بضعة منك } . قال علي : وهذا خبر صحيح ، إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج ، هذا لا شك فيه ، فإذ هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله ﷺ بالوضوء من مس الفرج ، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ والأخذ بما تيقن أنه منسوخ ، وثانيها أن كلامه عليه السلام { هل هو إلا بضعة منك } دليل بين على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلا وأنه كسائر الأعضاء . قال أبو محمد : وقال بعضهم : يكون الوضوء من ذلك غسل اليد . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لم يقل أحد إن غسل اليد واجب أو مستحب من مس الفرج ، لا المتأولون لهذا التأويل الفاسد ولا غيرهم ، ويقال لهم : إن كان كما تقولون فأنتم من أول من خالف أمر رسول الله ﷺ بما تأولتموه في أمره ، وهذا استخفاف ظاهر ، وأيضا فإنه لا يطلق الوضوء في الشريعة إلا لوضوء الصلاة فقط ، وقد أنكر رسول الله ﷺ إيقاع هذه اللفظة على غير الوضوء للصلاة ، كما رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس قال { كنا عند رسول الله ﷺ فجاء من الغائط وأتي بطعام فقيل : ألا تتوضأ فقال عليه السلام : لم أصل فأتوضأ } فكيف وقد روينا من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : إن مروان قال له : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول : { إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة } ورواه أيضا غير مالك عن الثقات كذلك . كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبو صالح الحكم بن موسى ثنا شعيب بن إسحاق أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن مروان بن الحكم حدثه عن بسرة بنت صفوان - وكانت قد صحبت رسول الله ﷺ - أن رسول الله ﷺ قال { إذا مس أحدكم ذكره فلا يصل حتى يتوضأ } فأنكر ذلك عروة ، وسأل بسرة فصدقته بما قال . قال علي : أبو صالح وشعيب ثقتان مشهوران ، فبطل التعلل بمروان ، وصح أن بسرة مشهورة صاحبة ، ولقد كان ينبغي لهم أن ينكروا على أنفسهم شرع الدين وإبطال السنن برواية أبي نصر بن مالك وعمير والعالية زوجة أبي إسحاق وشيخ من بني كنانة ، وكل هؤلاء لا يدري أحد من الناس من هم ؟ وقال بعضهم : هذا مما تعظم به البلوى ، فلو كان لما جهله ابن مسعود ولا غيره من العلماء . قال أبو محمد وهذا حماقة ، وقد غاب عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم الغسل من الإيلاج الذي لا إنزال معه ، وهو مما تكثر به البلوى ، ورأى أبو حنيفة الوضوء من الرعاف وهو مما تكثر به البلوى ولم يعرف ذلك جمهور العلماء ورأى الوضوء من ملء الفم من القلس ولم يره من أقل من ذلك ، وهذا تعظم به البلوى ، ولم يعرف ذلك أحد من ولد آدم قبله ، ومثل هذا لهم كثير جدا ، ومثل هذا من التخليط لا يعارض به سنن رسول الله ﷺ إلا مخذول . وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : والماس على الثوب ليس ماسا ، ولا معنى للذة ؛ لأنه لم يأت بها نص ولا إجماع ، وإنما هي دعوى بظن كاذب ، وأما النسيان في هذا فقد قال الله تعالى { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وهذا قول ابن عباس ، وروينا من طريق وكيع عن خصيف عن عكرمة عنه أنه قال : مس الذكر عمدا ينقض الوضوء ولا ينقضه بالنسيان .
========
كتاب الطهارة
164 - مسألة : وأكل لحوم الإبل نيئة ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم جمل أو ناقة فإنه ينقض الوضوء ، ولا ينقض الوضوء أكل شحومها محضة ولا أكل شيء منها غير لحمها ، فإن كان يقع على بطونها أو رءوسها أو أرجلها اسم لحم عند العرب نقض أكلها الوضوء وإلا فلا ، ولا ينقض الوضوء كل شيء مسته النار غير ذلك ، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة ، ومن الفقهاء أبو خيثمة زهير بن حرب ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري والقاسم بن زكريا ، قال الفضيل ثنا أبو عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب وقال القاسم حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب وأشعث بن أبي الشعثاء كلاهما عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال { سأل رجل رسول الله ﷺ أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم فتوضأ من لحوم الإبل } . وحدثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال { سئل رسول الله ﷺ : أنتوضأ من لحوم الإبل ، قال : نعم } . قال أبو محمد : عبد الله بن عبد الله الرازي أبو جعفر قاضي الري ثقة . قال أبو محمد : وقد مضى الكلام في الفصل الذي قبل هذا في إبطال قول من تعلل في رد السنن بأن هذا مما تعظم به البلوى ، وإبطال قول من قال : لعل هذا الوضوء غسل اليد ، فأغنى عن إعادته ، ولو أن المعترض بهذا ينكر على نفسه القول بالوضوء من القهقهة في الصلاة ولا يرى فيها الوضوء في غير الصلاة - : لكان أولى به . وأما الوضوء مما مست النار ، فإنه قد صحت في إيجاب الوضوء منه أحاديث ثابتة من طريق عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقال به كل من ذكرنا وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وأبو مسعود ، وجماعة من التابعين منهم أهل المدينة جملة وسعيد بن المسيب وأبو ميسرة وأبو مجلز ويحيى بن يعمر والزهري وستة من أبناء النقباء من الأنصار والحسن البصري وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومعمر وأبو قلابة وغيرهم ، ولولا أنه منسوخ لوجب القول به . كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن منصور ثنا علي بن عياش ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله قال : { كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار } فصح نسخ تلك الأحاديث ولله الحمد . قال علي : وقد ادعى قوم أن هذا الحديث مختصر من الحديث الذي حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي ثنا حجاج قال : قال ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول { قرب لرسول الله ﷺ خبز ولحم فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ به ثم صلى الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ } قال أبو محمد : القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن ، والظن أكذب الحديث بل هما حديثان كما وردا . قال علي : وأما كل حديث احتج به من لا يرى الوضوء مما مست النار من { أن رسول الله ﷺ أكل كتف شاة ولم يتوضأ } ونحو ذلك - : فلا حجة لهم فيه لأن أحاديث إيجاب الوضوء هي الواردة بالحكم الزائدة على هذه التي هي موافقة لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء مما مست النار ، ولولا حديث شعيب بن أبي حمزة الذي ذكرنا لما حل لأحد ترك الوضوء مما مست النار . قال أبو محمد : فإن قيل : لم خصصتم لحوم الإبل خاصة من جملة ما نسخ من الوضوء مما مست النار ؟ قلنا : لأن الأمر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها خاصة ، سواء مستها النار أو لم تمسها النار ، فليس مس النار إياها - إن طبخت - يوجب الوضوء منها ، بل الوضوء واجب منها كما هي ، فحكمها خارج عن الأخبار الواردة بالوضوء مما مست النار ، وبنسخ الوضوء منه ، وبالله تعالى التوفيق . وأما أكلها بنسيان أو بغير علم أنه من لحوم الإبل فقد ذكرنا قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } فمن فعل شيئا عن غير قصد فسواء ذلك وتركه إلا أن يأتي نص في إيجاب حكم النسيان فيوقف عنده ، وبالله تعالى التوفيق .
165 - مسألة : ومس الرجل المرأة والمرأة الرجل بأي عضو مس أحدهما الآخر ، إذا كان عمدا ، دون أن يحول بينهما ثوب أو غيره ، سواء أمه كانت أو ابنته ، أو مست ابنها أو أباها ، الصغير والكبير سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك وكذلك لو مسها على ثوب للذة لم ينتقض وضوءه ، وبهذا يقول الشافعي وأصحاب الظاهر . برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . قال أبو محمد : والملامسة فعل من فاعلين ، وبيقين ندري أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية ، لا خلاف بين أحد من الأمة في هذا لأن أول الآية وآخرها عموم للجميع من الذين آمنوا ، فصح أن هذا الحكم لازم للرجال إذا لامسوا النساء ، والنساء إذا لامسن الرجال ، ولم يخص الله تعالى امرأة من امرأة ، ولا لذة من غير لذة ، فتخصيص ذلك لا يجوز ، وهو قول ابن مسعود وغيره . وادعى قوم أن اللمس المذكور في هذه الآية هو الجماع . قال أبو محمد : وهذا تخصيص لا برهان عليه ، ومن الباطل الممتنع أن يريد الله عز وجل لماسا من لماس فلا يبينه . نعوذ بالله من هذا . قال علي : واحتج من رأى اللماس المذكور في هذه الآية هو الجماع بحديث فيه { أن رسول الله ﷺ كان يقبل ولا يتوضأ } وهذا حديث لا يصح ؛ لأن راويه أبو روق وهو ضعيف ، ومن طريق رجل اسمه عروة المزني ، وهو مجهول ، رويناه من طريق الأعمش عن أصحاب له لم يسمهم عن عروة المزني ، وهو مجهول ولو صح لما كان لهم فيه حجة لأن معنى هذا الخبر منسوخ بيقين لأنه موافق لما كان الناس عليه قبل نزول الآية ، ووردت الآية بشرع زائد لا يجوز تركه ولا تخصيصه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين : أحدهما من طريق عائشة أم المؤمنين { التمست رسول الله ﷺ في الليل فلم أجده ، فوقعت يدي على باطن قدمه وهو ساجد } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الوضوء إنما هو على القاصد إلى اللمس ، لا على الملموس دون أن يقصد هو إلى فعل الملامسة ؛ لأنه لم يلامس ، ودليل آخر ، وهو أنه ليس في هذا الخبر أنه عليه السلام كان في صلاة ، وقد يسجد المسلم في غير صلاة ، لأن السجود فعل خير ، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام كان في صلاة - وهذا ما لا يصح - فليس في الخبر أنه عليه السلام لم ينتقض وضوءه ، ولا أنه صلى صلاة مستأنفة دون تجديد وضوء ، فإذا ليس في الخبر شيء من هذا فلا متعلق لهم به أصلا . ثم لو صح أنه عليه السلام كان في صلاة ، وصح أنه عليه السلام تمادى عليها أو صلى غيرها دون تجديد وضوء - وهذا كله لا يصح أبدا - فإنه كان يكون هذا الخبر موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية بلا شك ، وهي حال لا مرية في نسخها وارتفاع حكمه بنزول الآية ، ومن الباطل الأخذ بما قد تيقن نسخه وترك الناسخ ، فبطل أن يكون لهم متعلق بهذا الخبر . والحمد لله رب العالمين . والخبر الثاني من طريق أبي قتادة { أن رسول الله ﷺ حمل أمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ - على عاتقه يضعها ، إذا سجد ، ويرفعها إذا قام } قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه أصلا لأنه ليس فيه نص أن يديها ورجليها لمست شيئا من بشرته عليه السلام ، إذ قد تكون موشحة برداء أو بقفازين وجوربين ، أو يكون ثوبها سابغا يواري يديها ورجليها ، وهذا الأولى أن يظن بمثلها بحضرة الرجال ، وإذا لم يكن ما ذكرنا في الحديث فلا يحل لأحد أن يزيد فيه ما ليس فيه ، فيكون كاذبا ، وإذا كان ما ظنوا ليس في الخبر وما قلنا ممكنا ، والذي لا يمكن غيره ، فقد بطل تعلقهم به ، ولم يحل ترك الآية المتيقن وجوب حكمها لظن كاذب ، وقال تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } . وأيضا فإن هذا الخبر والذي قبله ليس فيهما أيهما كان بعد نزول الآية ، والآية متأخرة النزول ، فلو صح أنه عليه السلام مس يديها ورجليها في الصلاة لكان موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية ، وعلى كل حال فنحن على يقين من أن معنى هذا الخبر - لو صح لهم كما يريدون - فإنه منسوخ بلا شك ولا يحل الرجوع إلى المتيقن أنه منسوخ وترك الناسخ . فصح أنهم يوهمون بأخبار لا متعلق لهم بشيء منها ، يرومون بها ترك اليقين من القرآن والسنن . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء قبلة ولا ملامسة للذة كانت أو لغير لذة ، ولا أن يقبض بيده على فرجها كذلك ، إلا أن يباشرها بجسده دون حائل وينعظ فهذا وحده ينقض الوضوء . وقال مالك : لا وضوء من ملامسة المرأة الرجل ، ولا الرجل المرأة ، إذا كانت لغير شهوة ، تحت الثياب أو فوقها ، فإن كانت الملامسة للذة فعلى الملتذ منهما الوضوء سواء كان فوق الثياب أو تحتها ، أنعظ أو لم ينعظ ، والقبلة كالملامسة في كل ذلك ، وهو قول أحمد بن حنبل . وقال الشافعي كقولنا ، إلا أنه روي عنه أن مس شعر المرأة خاصة لا ينقض الوضوء . قال أبو محمد أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، ولا يمكنه التعلق بالتأويل الذي تأوله قوم في الآية : إن الملامسة المذكورة فيها هو الجماع فقط لأنه أوجب الوضوء من المباشرة إذا كان معها إنعاظ ، وأما مناقضته فتفريقه بين القبلة يكون معها إنعاظ فلا ينقض الوضوء . وبين المباشرة يكون معها إنعاظ فتنقض الوضوء ، وهذا فرق لم يؤيده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو مخالف لكل ذلك ، ومن مناقضاته أيضا أنه جعل القبلة لشهوة واللمس لشهوة بمنزلة القبلة لغير الشهوة ، واللمس لغير الشهوة لا ينقض الوضوء شيء من ذلك ، ثم رأى أن القبلة لشهوة واللمس لشهوة رجعة في الطلاق ، بخلاف القبلة لغير شهوة واللمس لغير شهوة ، وهذا كما ترى لا اتباع القرآن ، ولا التعلق بالسنة ولا طرد قياس ولا سداد رأي ولا تقليد صاحب ، ونسأل الله التوفيق . وأما قول مالك في مراعاة الشهوة واللذة ، فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا ضبط قياس ولا احتياط ، وكذلك تفريق الشافعي بين الشعر وغيره ، فقول لا يعضده أيضا قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو خلاف ذلك كله ، وهذه الأقوال الثلاثة كما أوردناها لم نعرف أنه قال بها أحد قبلهم ، وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : قد رويتم عن النخعي والشعبي : إذا قبل أو لمس لشهوة فعليه الوضوء وعن حماد : أي الزوجين قبل صاحبه والآخر لا يريد ذلك ، فلا وضوء على الذي لا يريد ذلك ، إلا أن يجد لذة ، وعلى القاصد لذلك الوضوء . قلنا : قد صح عن الشعبي والنخعي وحماد إيجاب الوضوء من القبلة على القاصد بكل حال ، وإذ ذلك كذلك فاللذة داخلة في هذا القول ، وبه نقول ، وليس ذلك قول مالك . والعجب أن مالكا لا يرى الوضوء من الملامسة إلا حتى يكون معها شهوة ، ثم لا يرى الوضوء يجب من الشهوة دون ملامسة فكل واحد من المعنيين لا يوجب الوضوء على انفراده فمن أين له إيجاب الوضوء عند اجتماعهما ؟
166 - مسألة : وإيلاج الذكر في الفرج يوجب الوضوء ، كان معه إنزال أو لم يكن . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ثنا هشام هو ابن عروة - عن أبيه عن أبي أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب قال : { سألت رسول الله ﷺ عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل ، قال : يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي } . ورويناه أيضا عن شعبة عن الحكم عن أبي صالح عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ فالوضوء لا بد منه مع الغسل على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى .
167 - مسألة : وحمل الميت في نعش أو في غيره . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ } قال أبو محمد : يعني الجنازة . ورويناه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وإسحاق مولى زائدة ثقة مدني وتابعي ، وثقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره ، وروى عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة . ورويناه بالسند المذكور إلى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : كنت مع عبد الله بن عتبة بن مسعود في جنازة ، فلما جئنا دخل المسجد ، فدخل عبد الله بيته يتوضأ ثم خرج إلى المسجد فقال لي : أما توضأت ؟ قلت : لا ، فقال : كان عمر بن الخطاب ومن دونه من الخلفاء إذا صلى أحدهم على الجنازة ثم أراد أن يصلي المكتوبة توضأ ، حتى إن أحدهم كان يكون في المسجد فيدعو بالطشت فيتوضأ فيها . قال أبو محمد : لا يجوز أن يكون وضوءهم رضي الله عنهم ، لأن الصلاة على الجنازة حدث ، ولا يجوز أن يظن بهم إلا إتباع السنة التي ذكرنا ، والسنة تكفي . وقد ذكرنا من أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي التي لم يقلها أحد قبلهم كثيرا ، كالأبواب التي قبل هذا الباب ببابين ، وكنقض الوضوء بملء الفم من القلس دون ما لا يملؤه منه ، وسائر الأقوال التي ذكرنا عنهم ، لم يتعلقوا فيها بقرآن ولا سنة ولا بقياس ولا بقول قائل . وبالله تعالى التوفيق .
168 - مسألة : وظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء ولا بد لكل صلاة تلي ظهور ذلك الدم سواء تميز دمها أو لم يتميز ، عرفت أيامها أو لم تعرف . برهان ذلك ما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي ﷺ : قالت يا رسول الله : إني أستحاض فلا أطهر ، فأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله ﷺ : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن أبي عدي من كتابه عن محمد هو ابن عمرو بن علقمة بن وقاص - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله ﷺ : إذا كان الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي فإنه عرق } . قال علي : فعم عليه السلام كل دم خرج من الفرج بعد دم الحيضة ولم يخص وأوجب الوضوء منه ، لأنه عرق . وممن قال بإيجاب الوضوء لكل صلاة على التي يتمادى بها الدم من فرجها متصلا بدم المحيض : عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسين وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . قالت عائشة رضي الله عنها : تغتسل وتتوضأ لكل صلاة رويناه من طريق وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن الشعبي عن امرأة مسروق عن عائشة ، ومن طريق عدي بن ثابت عن أبيه عن علي بن أبي طالب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة في التي يتمادى بها الدم إنها تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن محمد بن علي بن الحسين : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة في المتصلة الدم كما ذكرنا : إنها تتوضأ لدخول كل وقت صلاة ، فتكون طاهرا بذلك الوضوء ، حتى يدخل وقت صلاة أخرى فينتقض وضوءها ويلزمها أن تتوضأ لها . وروى عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في هذه : إذا توضأت إثر طلوع الشمس للصلاة أنها تكون طاهرا إلى خروج وقت الظهر ، وأنكر ذلك عليه أبو يوسف ، وحكى أنه لم يرو عن أبي حنيفة إلا أنها تكون طاهرا إلى دخول وقت الظهر . وغلب بعض أصحابه رواية محمد . قال أبو محمد : وليس كما قال . بل قول أبي يوسف أشبه بأقوال أبي حنيفة . وقال مالك : لا وضوء عليها من هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا ، وهي طاهر ما لم تحدث حدثا آخر . وقال الشافعي وأحمد : عليها فرضا أن تتوضأ لكل صلاة فرض وتصلي بين ذلك من النوافل ما أحبت ، قبل الفرض وبعده بذلك الوضوء . قال أبو محمد : أما قول مالك فخطأ ، لأنه خلاف للحديث الوارد في ذلك ، والعجب أنهم يقولون بالمنقطع من الخبر إذا وافقهم ، وههنا منقطع أحسن من كل ما أخذوا به ، وهو ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة وموسى بن معاوية عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت { جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله عليه السلام فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فاجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي ، وإن قطر الدم على الحصير } . قال : قالوا هذا على الندب ، قيل لهم : وكل ما أوجبتموه منا لاستطهار وغير ذلك لعله ندب ، ولا فرق ، وهذا قول يؤدي إلى إبطال الشرائع كلها مع خلافه لأمر الله تعالى في قوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وما نعلم لهم متعلقا في قولهم هذا ، لا بقرآن ولا بسنة ولا بدليل ولا بقول صاحب ولا بقياس . وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضا لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به ، ومخالف للمعقول وللقياس ، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت وتصح بكون الوقت قائما ، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا : قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارتهما بخروج الوقت المحدود لهما فنقيس عليهما المستحاضة . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس خطأ وعلى خطإ ، وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور بل هو طاهر كما كان ، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث ، وإنما جاءت السنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط ، لا بانتقاض طهارته ، ثم لو صح لهم ما ذكروا في الماسح - وهو لا يصح - لكان قياسهم هذا باطلا لأنهم قاسوا خروج وقت كل صلاة في السفر والحضر على انقضاء يوم وليلة في الحضر ، وعلى انقضاء ثلاثة أيام بلياليهن في السفر . وهذا قياس سخيف جدا ، وإنما كانوا يكونون قائسين على ما ذكروا لو جعلوا المستحاضة تبقى بوضوئها يوما وليلة في الحضر ، وثلاثة في السفر ، ولو فعلوا هذا لوجدوا فيما يشبه بعض ذلك سلفا ، وهو سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، فقد صح عنهم أنها تغتسل من الظهر إلى الظهر ، وأما قولهم هذا فعار من أن يكون لهم فيه سلف ، وما نعلم لقولهم حجة ، لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من معقول . وأما المسألة التي اختلف فيها عن أبي حنيفة فإن قول أبي يوسف أشبه بأصولهم ؛ لأن أثر طلوع الشمس ليس هو وقت صلاة فرض مارا إلى وقت الظهر ، وهو وقت تطوع ، فالمتوضئة فيه للصلاة كالمتوضئة لصلاة العصر في وقت الظهر ، ولا يجزيها ذلك عندهم . وأما قول الشافعي وأحمد فخطأ ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة ، هذا ما لا خفاء به وليس إلا طاهرا أو محدثا ، فإن كانت طاهرا فإنها تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل ، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا فرضا ولا نافلة . وأقبح من هذا يدخل على المالكيين في قولهم : من تيمم لفريضة فله أن يصلي بذلك التيمم بعد أن يصلي الفريضة ما شاء من النوافل ، وليس له أن يصلي نافلة قبل تلك الفريضة بذلك التيمم ، ولا أن يصلي به صلاتي فرض ، فهذا هو نظرهم وقياسهم وأما تعلق بأثر ، فالآثار حاضرة وأقواله حاضرة . قال أبو محمد ، وهم كلهم يشغبون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم وجميع الحنفيين والمالكيين والشافعيين قد خالفوا في هذه المسألة عائشة وعليا وابن عباس رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك وخالف المالكيون في ذلك فقهاء المدينة كما أوردنا ، فصارت أقوالهم مبتدأة ممن قالها بلا برهان أصلا . وبالله تعالى التوفيق .
===================
169 ..
كتاب الطهارة
169 - مسألة : قال علي : لا ينقض الوضوء شيء غير ما ذكرنا ، لا رعاف ولا دم سائل من شيء من الجسد أو من الحلق أو من الأسنان أو من الإحليل أو من الدبر ، ولا حجامة ولا فصد ، ولا قيء كثر أو قل ، ولا قلس ولا قيح ولا ماء ولا دم تراه الحامل من فرجها ، ولا أذى المسلم ولا ظلمه ، ولا مس الصليب والوثن ولا الردة ولا الإنعاظ للذة أو لغير لذة ، ولا المعاصي من غير ما ذكرنا ، ولا شيء يخرج من الدبر لا عذرة عليه ، سواء في ذلك الدود والحجر والحيات ، ولا حقنة ولا تقطير دواء في المخرجين ولا مس حيا بهيمة ولا قبلها ، ولا حلق الشعر بعد الوضوء ، ولا قص الظفر ولا شيء يخرج من فرج المرأة من قصة بيضاء أو صفرة أو كدرة أو كغسالة اللحم أو دم أحمر لم يتقدمه حيض ، ولا الضحك في الصلاة ، ولا شيء غير ذلك . قال أبو محمد : برهان إسقاطنا الوضوء من كل ما ذكرنا ، هو أنه لم يأت قرآن ولا سنة ولا إجماع بإيجاب وضوء في شيء من ذلك ، ولا شرع الله تعالى على أحد من الإنس والجن إلا من أحد هذه الوجوه ، وما عداها فباطل ، ولا شرع إلا ما أوجبه الله تبارك وتعالى وأتانا به رسوله ﷺ وفي كل ما ذكرنا خلاف نذكر منه ما كان المخالفون فيه حاضرين ، ونضرب عما قد درس القول به إلا ذكرا خفيفا . وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : قال أبو حنيفة : كل دم سائل أو قيح سائل أو ماء سائل من أي موضع سال من الجسد فإنه ينقض الوضوء ، فإن لم يسل لم ينقض الوضوء منه ، إلا أن يكون خرج ذلك من الأنف أو الأذن ، فإن خرج من الأنف أو الأذن فإن كان ذلك دما أو قيحا فبلغ إلى موضع الاستنشاق من الأنف أو إلى ما يلحقه الغسل من داخل الأذن فالوضوء منتقض ، وإن لم يبلغ إلى ما ذكرنا لم ينتقض الوضوء ، فإن خرج من الأنف مخاط أو ماء فلا ينتقض الوضوء ، وكذلك إن خرج من الأذن ماء فلا ينتقض الوضوء . قال : فإن خرج من الجوف إلى الفم أو من اللثات دم فإن كان غالبا على البزاق ففيه الوضوء وإن لم يملأ الفم ، وإن لم يغلب على البزاق فلا وضوء فيه ، فإن تساويا فيستحسن فيأمر فيه بالوضوء ، فإن خرج من الجرح دم فظهر ولم يسل فلا وضوء فيه ، فإن سال ففيه الوضوء ، فلو خرج من الجرح دود أو لحم فلا وضوء فيه ، فإن خرج الدود من الدبر ففيه الوضوء ، فإن عصب الجرح نظر ، فإن كان لو ترك سال ففيه الوضوء ، وإن كان لو ترك لم يسل فلا وضوء . قال وأما القيء والقلس وكل شيء خرج من الجوف إلى الفم ، فإن ملأ الفم نقض الوضوء وإن لم يملأ الفم لم ينقض الوضوء ، وحد بعضهم ما يملأ الفم بمقدار اللقمة - على أن اللقمة تختلف - وحد بعضهم ما لا يقدر على إمساكه في الفم قال أبو حنيفة حاشا البلغم فلا وضوء فيه وإن ملأ الفم وكثر جدا ، قال أبو يوسف : بل فيه الوضوء إذا ملأ الفم . وقال محمد بن الحسن كقول أبي حنيفة في كل ذلك إلا الدم ، فإن قوله فيه : إن خرج من اللثاة أو في الجسد أو من الفم كقول أبي حنيفة ، فإن خرج من الجوف لم ينقض الوضوء إلا أن يملأ الفم فينقض الوضوء حينئذ ، وقال زفر كقول أبي حنيفة في كل شيء إلا القلس ، فإنه قال ينقض الوضوء قليله وكثيره . قال علي : مثل هذا لا يقبل - ولا كرامة - إلا من رسول الله ﷺ المبلغ عن خالقنا ورازقنا تعالى أمره ونهيه ، وأما من أحد دونه فهو هذيان وتخليط كتخليط المبرسم وأقوال مقطوع على أنه لم يقلها أحد قبل أبي حنيفة ، ولم يؤيدها معقول ولا نص ولا قياس ، أفيسوغ لمن يأتي بهذه الوساوس أن ينكر على من اتبع أمر رسول الله ﷺ في البائل في الماء الراكد وفي الفأرة تموت في السمن ؟ إن هذا لعجب ما مثله عجب . قال أبو محمد : وموه بعضهم بخبر رويناه عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبيه يرفعه إلى رسول الله ﷺ قال { الوضوء من القيء وإن كان قلسا يقلسه فليتوضأ إذا رعف أحد في الصلاة أو ذرعه القيء ، وإن كان قلسا يقلسه ، أو وجد مذيا فلينصرف وليتوضأ ثم يرجع فيتم ما بقي من صلاته ولا يستقبلها جديدا } وخبر آخر رويناه من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن أبيه وعن ابن أبي مليكة عن عائشة { عن رسول الله ﷺ قال إذا قاء أحدكم أو قلس فليتوضأ ثم ليبن على ما مضى ما لم يتكلم } . قال أبو محمد : وهذان الأثران ساقطان ؛ لأن والد ابن جريج لا صحبة له فهو منقطع ، والآخر من رواية إسماعيل بن عياش وهو ساقط ، لا سيما فيما روي عن الحجازيين ، ثم لو صحا لكانا حجة على الحنفيين لأنه ليس شيء من هذين الخبرين يفرق بين ملء الفم من القيء والقلس وما دون ملء الفم من القيء والقلس ، ولا بين ما يخرج من نفاطة فينقض الوضوء وما يسيل من الأنف فلا ينقض الوضوء ولا فيه ذكر دم خارج من الجوف ولا من الجسد ولا من اللثاة ولا من الجرح ، وإنما فيهما القيء والقلس والرعاف فقط فلا على الخبرين اقتصروا ، كما فعلوا بزعمهم في خبر الوضوء من القهقهة والوضوء بالنبيذ ، ولا قاسوا عليهما فطردوا قياسهم ، لكن خلطوا تخليطا خرجوا به إلى الهوس المحض فقط ، فهو حجة عليهم - لو صح - وقد خالفوه . واحتجوا أيضا بحديث رويناه من طريق الأوزاعي عن يعيش بن الوليد عن أبيه عن معدان بن أبي طلحة { عن أبي الدرداء أن رسول الله ﷺ قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان فذكرت ذلك له فقال : صدقت ، أنا صببت له وضوءه يعني النبي ﷺ } ورويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد عن خالد بن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء قال { استقاء رسول الله ﷺ فأفطر ودعا بماء فتوضأ } . قال أبو محمد : هذا الحديث الأول فيه يعيش بن الوليد عن أبيه وليسا مشهورين والثاني مدلس لم يسمعه يحيى من يعيش ، ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ قال من تقيأ فليتوضأ ، ولا أن وضوءه عليه السلام كان من أجل القيء ، وقد صح عنه عليه السلام التيمم لذكر الله تعالى ، وهم لا يقولون بذلك ، وليس فيه أيضا فرق بين ما يملأ الفم من القيء وبين ما لا يملؤه ، ولا فيهما شيء غير القيء ، فلا على ما فيهما اقتصروا ، ولا قاسوا عليهما قياسا مطردا . وذكروا أيضا الحديث الثابت عن رسول الله ﷺ في فاطمة بنت أبي حبيش - وقد ذكرناه قبل - وهو قوله عليه السلام { إنما ذلك عرق وليس بالحيضة } وأوجب عليه السلام فيه الوضوء ، قالوا : فوجب ذلك في كل عرق سائل . قال علي : وهذا قياس ، والقياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه إذا لم يجز أن يقيسوا دم العرق الخارج من الفرج على دم الحيض الخارج من الفرج ، وكلاهما دم خارج من الفرج ، وكان الله تعالى قد فرق بين حكميهما فمن الباطل أن يقاس دم خارج من غير الفرج على دم خارج من الفرج ، وأبطل من ذلك أن يقاس القيح على الدم ، ولا يقدرون على ادعاء إجماع في ذلك ، فقد صح عن الحسن وأبي مجلز الفرق بين الدم والقيح ، وأبطل من ذلك أن يقاس الماء الخارج من النفاطة على الدم والقيح ، ولا يقاس الماء الخارج من الأنف والأذن على الماء الخارج من النفاطة ، وأبطل من ذلك أن يكون دم العرق الخارج من الفرج يوجب الوضوء ، قليله وكثيره ، ويكون القيء المقيس عليه لا ينقض الوضوء إلا حتى يملأ الفم ، ثم لم يقيسوا الدود الخارج من الجرح على الدود الخارج من الدبر ، وهذا من التخليط في الغاية القصوى . فإن قالوا : قسنا كل ذلك على الغائط لأن كل ذلك نجاسة قلنا لهم : قد وجدنا الريح تخرج من الدبر فتنقض الوضوء وليست نجاسة ، فهلا قستم عليها الجشوة والعطسة ، لأنها ريح خارجة من الجوف كذلك ولا فرق ؟ وأنتم قد أبطلتم قياسكم هذا فنقضتم الوضوء بقليل البول والغائط وكثيره ، ولم تنقضوا الوضوء من القيح والقيء والدم والماء إلا بمقدار ملء الفم أو بما سال أو بما غلب ، وهذا تخليط وترك للقياس . فإن قالوا : قد روي الوضوء من الرعاف ومن كل دم سائل عن عطاء وإبراهيم ومجاهد وقتادة وابن سيرين وعروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والحسن البصري وفي الرعاف عن الزهري ، نعم . وعن علي وابن عمر رضي الله عنهم وعن عطاء الوضوء من القلس والقيء والقيح ، وعن قتادة في القيح ، وعن الحكم بن عتيبة في القلس ، وعن ابن عمر في القيء ، قلنا : نعم إلا أنه ليس منهم أحد حد شيئا من ذلك بملء الفم ، ولو كان فلا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقد خالف هؤلاء نظراؤهم ، فصح عن أبي هريرة : أنه أدخل إصبعه في أنفه فخرج فيها دم ففته بأصبعه ثم صلى ولم يتوضأ ، وعن ابن عمر : أنه عصر بثرة بوجهه فخرج منها دم ففته بين إصبعيه وقام فصلى ، وعن طاوس أنه كان لا يرى في الرعاف وضوءا وعن عطاء أنه كان لا يرى في الرعاف وضوءا ، وعن الحسن أنه كان لا يرى في القلس وضوءا ، وعن مجاهد أنه كان لا يرى في القلس وضوءا . والعجب كله أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الغسل من المني إذا خرج من الذكر لغير لذة ، وهو المني نفسه الذي أوجب الله تعالى ورسوله عليه السلام فيه الغسل ثم يوجبون الوضوء من القيح يخرج من الوجه قياسا على الدم يخرج من الفرج والعجب كله أنهم سمعوا قول رسول الله ﷺ في نهيه عن الذكية بالسن فإنه عظم ، فرأوا الذكاة غير جائزة بكل عظم ، ثم أتوا إلى قوله عليه السلام في وضوء المستحاضة { فإنه عرق } فقاسوا على دم الرعاف واللثاة والقيح فهذا مقدار علمهم بالقياس ، ومقدار اتباعهم للآثار ، ومقدار تقليدهم من سلف . وأما الشافعي فإنه جعل العلة في نقض الوضوء للمخرج وجعله أبو حنيفة للخارج وعظم تناقضه في ذلك كما ذكرنا ، وتعليل كلا الرجلين مضاد لتعليل الآخر ومعارض له ، وكلاهما خطأ ؛ لأنه قول بلا برهان ، ودعوى لا دليل عليها ، قال الله تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } . قال أبو محمد : ويقال للشافعيين والحنفيين معا : قد وجدنا الخارج من المخرجين مختلف الحكم ، فمنه ما يوجب الغسل كالحيض والمني ودم النفاس ، ومنه ما يوجب الوضوء فقط كالبول والغائط والريح والمذي ، ومنه ما لا يوجب شيئا كالقصة البيضاء ، فمن أين لكم أن تقيسوا ما اشتهيتم فأوجبتم فيه الوضوء قياسا على ما يوجب الوضوء من ذلك ، دون أن توجبوا فيه الغسل قياسا على ما يوجب الغسل من ذلك ، أو دون أن لا توجبوا فيه شيئا قياسا على ما لا يجب فيه شيء من ذلك ؟ وهل هذا إلا التحكم بالهوى الذي حرم الله تعالى الحكم به وبالظن الذي أخبر تعالى أنه لا يغني من الحق شيئا ، ومع فساد القياس ومعارضة بعضه بعضا . وأما المالكيون فلم يقيسوا ههنا فوفقوا ، ولا عللوا ههنا بخارج ولا بمخرج ولا بنجاسة فأصابوا ، ولو فعلوا ذلك في تعليلهم الملامسة بالشهوة ، وفي تعليلهم النهي عن البول في الماء الراكد ، والفأرة تموت في السمن ، لوفقوا ولكن لم يطردوا أقوالهم . فالحمد لله على عظم نعمه علينا . وهم يدعون أنهم يقولون بالمرسل ، وقد أوردنا في هذا الباب مرسلات لم يأخذوا بها ، وهذا أيضا تناقض . وأما الوضوء من أذى المسلم فقد روينا عن عائشة رضي الله عنها قالت : يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ، ولا يتوضأ من الكلمة العوراء يقولها لأخيه وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب . وعن ابن عباس : الحدث حدثان ، حدث الفرج وحدث اللسان وأشدهما حدث اللسان . وعن إبراهيم النخعي : إني لأصلي الظهر والعصر والمغرب بوضوء واحد ، إلا أن أحدث أو أقول منكرا ، الوضوء من الحدث وأذى المسلم . وعن عبيدة السلماني : الوضوء يجب من الحدث وأذى المسلم . وروينا من طريق داود بن المحبر عن شعبة عن قتادة عن أنس { أن النبي ﷺ كان يتوضأ من الحدث وأذى المسلم } . قال علي : داود بن المحبر كذاب ، مشهور بوضع الحديث ، ولكن لا فرق بين تقليد من ذكرنا قبل في الوضوء من الرعاف والقيء والقلس ، والأخذ بذلك الأثر الساقط ، وبين تقليد من ذكرنا ههنا في الوضوء من أذى المسلم ، والأخذ بهذا الأثر الساقط ، بل هذا على أصولهم أوكد لأن الخلاف هنالك بين الصحابة رضي الله عنهم موجود ، ولا مخالف يعرف ههنا لعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ، وهم يشنعون مثل هذا إذا وافقهم . وأما نحن فلا حجة عندنا إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ من قرآن أو خبر . وأما مس الصليب والوثن فإننا روينا عن عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمار الدهني عن أبي عمرو الشيباني " أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه استتاب المستورد العجلي ، وأن عليا مس بيده صليبا كانت في عنق المستورد فلما دخل علي في الصلاة قدم رجلا وذهب ، ثم أخبر الناس أنه لم يفعل ذلك لحدث أحدثه ، ولكنه مس هذه الأنجاس فأحب أن يحدث منها وضوءا " وروينا أثرا من طريق يعلى بن عبيد عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه { أن رسول الله ﷺ أمر بريدة وقد مس صنما فتوضأ } . قال علي : صالح بن حيان ضعيف لا يحتج به ، ولقد كان يلزم من يعظم خلاف الصاحب ويرى الأخذ بالآثار الواهية مثل الذي قدمنا أن يأخذ بهذا الأثر ، فهو أحسن من كثير مما يأخذون به قد ذكرناه ، ولا يعرف لعلي ههنا مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا مما تناقضوا فيه . وأما نحن فلا حجة عندنا إلا في خبر ثابت عن رسول الله ﷺ أو القرآن . والحمد لله رب العالمين . لا سيما وعلي رضي الله عنه قد قطع صلاة الفرض بالناس من أجل ذلك ، وما كان رضي الله عنه ليقطعها فيما لا يراه واجبا . فإن قالوا : لعل هذا استحباب قلنا : ولعل كل ما أوجبتم فيه الوضوء من الرعاف وغيره تقليدا لمن سلف إنما هو استحباب وكذلك المذي ، وهذا كله لا معنى له وإنما هي دعاو مخالفة للحقائق . وبالله تعالى التوفيق . وأما الردة فإن المسلم لو توضأ واغتسل للجنابة أو كانت امرأة فاغتسلت من الحيض ثم ارتدا ثم راجعا - الإسلام دون حدث يكون منهما ، فإنه لم يأت قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قياس بأن الردة حدث ينقض الطهارة ، وهم يجمعون معنا على أن الردة لا تنقض غسل الجنابة ولا غسل الحيض ولا أحباسه السالفة ولا عتقه السالف ولا حرمة الرجل ، فمن أين وقع لهم أنها تنقض الوضوء وهم أصحاب قياس ، فهلا قاسوا الوضوء على الغسل في ذلك ، فكان يكون أصح قياس لو كان شيء من القياس صحيحا ، فإن ذكروا قول الله تعالى { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } قلنا هذا على من مات كافرا لا على من راجع الإسلام . يبين ذلك قول الله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } وقوله تعالى { ولتكونن من الخاسرين } شهادة صحيحة قاطعة لقولنا ، لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من ارتد ثم راجع الإسلام ومات مسلما فإنه ليس من الخاسرين ، بل من الرابحين المفلحين ، وإنما الخاسر من مات كافرا ، وهذا بين والحمد لله . وأما الدم الظاهر من فرج المرأة الحامل فقد اختلف الناس فيه ، فروينا من طريق أم علقمة عن عائشة أم المؤمنين أن الحامل تحيض ، وهو أحد قولي الزهري وهو قول عكرمة وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وربيعة ومالك والليث والشافعي ، وروينا عن سعيد بن المسيب والحسن وحماد بن أبي سليمان أنها مستحاضة لا حائض وروي عن مالك أنه قال في الحامل ترى الدم أنها لا تصلي إلا أن يطول ذلك بها فحينئذ تغتسل وتصلي ، ولم يحد في الطول حدا ، وقال أيضا ليس أول الحمل كآخره ، ويجتهد لها ولا حد في ذلك . وروينا من طريق عطاء عن عائشة أم المؤمنين : أن الحامل وإن رأت الدم فإنها تتوضأ وتصلي ، وهو قول عطاء والحكم بن عتيبة والنخعي والشعبي وسليمان بن يسار ونافع مولى ابن عمر ، وأحد قولي الزهري ، وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وداود وأصحابهم : قال أبو محمد : صح { أن رسول الله ﷺ نهى عن طلاق الحائض وأمر بالطلاق في حال الحمل } ، وإذا كانت حائلا فصح أن حال الحائض والحائل غير حال الحامل وقد اتفق المخالفون لنا على أن ظهور الحيض استبراء وبراءة من الحمل ، فلو جاز أن تحيض - الحامل لما كان الحيض براءة من الحمل ، وهذا بين جدا والحمد لله ، وإذا كان ليس - حيضا ولا عرق استحاضة فهو غير موجب للغسل ولا للوضوء إذ لم يوجب ذلك نص ولا إجماع وكذلك دم النفاس فإنما يوجب الغسل ، لأنه دم حيض على ما بينا بعد هذا والحمد لله رب العالمين . وكذلك القول في الذبح والقتل وإن كان معصية ، فإن كل ذلك لا ينقض الطهارة ، لأنه لم يأت بذلك قرآن ولا سنة ، وكذلك من مس المرأة على ثوب ، لأنه إنما لامس الثوب لا المرأة ، وكذلك مس الرجل الرجل بغير الفرج ومس المرأة المرأة وبغير الفرج والإنعاظ والتذكر وقرقرة البطن في الصلاة ومس الإبط ونتفه ومس الأنثيين والرفغين وقص الشعر والأظفار لأن كل ما ذكرنا لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب الوضوء في شيء منه . وقد أوجب الوضوء في بعض ما ذكرنا بل في أكثره بل في كله ، طوائف من الناس ، فأوجب الوضوء من قرقرة البطن في الصلاة إبراهيم النخعي ، وأوجب الوضوء في الإنعاظ والتذكر والمس على الثوب لشهوة بعض المتأخرين ، وروينا إيجاب الوضوء في مس الإبط عن عمر بن الخطاب ومجاهد ، وإيجاب الغسل من نتفه عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو . وعن مجاهد الوضوء من تنقية الأنف . وروينا عن علي بن أبي طالب ومجاهد وذر والد عمر بن ذر إيجاب الوضوء من قص الأظفار وقص الشعر ، وأما الدود والحجر يخرجان من الدبر فإن الشافعي أوجب الوضوء من ذلك ولم يوجبه مالك ولا أصحابنا ، وقد روينا { عن رسول الله ﷺ من مس أنثييه أو رفغيه فليتوضأ } ولكنه مرسل لا يسند . وأما الصفرة والكدرة والدم الأحمر فسيذكر في الكلام في الحيض - إن شاء الله - حكمه وإنه ليس - حيضا ولا عرقا ، فإذا ليس حيضا ولا عرقا فلا وضوء فيه . إذ لم يوجب في ذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع . وأما الضحك في الصلاة فإنا روينا في إيجاب الوضوء منه أثرا واهيا لا يصح لأنه إما مرسل من طريق أبي العالية وإبراهيم النخعي وابن سيرين والزهري وعن الحسن عن معبد بن صبيح ومعبد الجهني ، وإما مسند من طريق أنس وأبي موسى وأبي هريرة وعمران بن حصين وجابر وأبي المليح ، وروينا إيجاب الوضوء منه عن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن وأبي حنيفة وأصحابه . فأما حديث أنس فإنه من طريق أحمد بن عبد الله بن زيادة التتري عن عبد الرحمن بن عمر وأبي حيلة وهو مجهول ، وأما حديث أبي موسى ففيه محمد بن نعيم وهو مجهول ، وأما حديث أبي هريرة ففيه عبد الكريم بن أبي المخارق وهو غير ثقة وأما حديث عمران بن حصين ففيه إسماعيل بن عياش وعبد الوهاب بن نجدة وهما ضعيفان ، وأما حديث جابر ففيه أبو سفيان وهو ضعيف ، وأما حديث أبي المليح ففيه الحسن بن دينار وهو مذكور بالكذب . ولا حجة إلا في القرآن أو - أثر صحيح مسند . وقد كان يلزم المالكيين والشافعيين القائلين بالمتواتر من الأخبار حتى ادعوا التواتر لحديث معاذ { أجتهد رأيي } والقائلين بمرسل سعيد وطاوس أن يقولوا بهذه الآثار ، فإنها أشد تواترا مما ادعوا له التواتر ، وأكثر ظهورا في عدد من أرسله من النهي عن بيع اللحم والحيوان بالحيوان ، وسائر ما قالوا به من المراسيل . وكذلك كان يلزم أبا حنيفة وأصحابه المخالفين الخبر الصحيح - في المصراة وفي حج المرأة عن الهرم الحي وفي سائر ما تركوا فيه السنن الثابتة للقياس - أن يرفضوا هذا الخبر الفاسد قياسا على ما أجمع عليه من أن الضحك لا ينقض الوضوء في غير الصلاة ، فكذلك لا يجب أن ينقضه في الصلاة ، ولكنهم لا يطردون القياس ولا يتبعون السنن ولا يلتزمون ما أحلوا من قبول المرسل والمتواتر ، إلا ريثما يأتي موافقا لآرائهم أو تقليدهم ، ثم هم أول رافضين له إذا خالف تقليدهم وآراءهم . وحسبنا الله ونعم الوكيل . ويقال لهم : في أي قرآن أو في أي سنة أو في أي قياس وجدتم تغليظ بعض الأحداث فينقض الوضوء قليلها وكثيرها ، وتخفيف بعضها قد ينقض الوضوء إلا مقدارا حددتموه منها ؟ والنص فيها كلها جاء مجيئا واحدا ، فقال رسول الله ﷺ { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } ولا يخفى على ذي عقل أن بعض الحدث حدث ، فإذا هو كذلك فقليله وكثيره ينقض الطهارة ، وما لم يكن حدثا فكثيره وقليله لا ينقض الطهارة . وبالله تعالى التوفيق .
===========
كتاب الطهارة
باب الأشياء الموجبة غسل الجسد كله
170 - مسألة : إيلاج الحشفة أو إيلاج مقدارها من الذكر الذاهب الحشفة والذاهب أكثر من الحشفة - في فرج المرأة الذي هو مخرج الولد منها بحرام أو حلال ، إذا كان بعمد أنزل أو لم ينزل ، فإن عمدت هي أيضا لذلك ، فكذلك أنزلت أو لم تنزل ، فإن كان أحدهما مجنونا أو سكرانا أو نائما أو مغمى عليه أو مكرها ، فليس على من هذه صفته منهما إلا الوضوء فقط إذا أفاق أو استيقظ إلا أن ينزل ، فإن كان أحدهما غير بالغ فلا غسل عليه ولا وضوء ، فإذا بلغ لزمه الغسل فيما يحدث لا فيما سلف له من ذلك والوضوء . برهان ذلك ما حدثنا أحمد الطلمنكي ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن عائشة عن النبي قال : { إذا التقى الختانان وجب الغسل } . وحدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن زهير بن حرب ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا شعبة وهشام الدستوائي كلاهما عن قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل } . قال أحمد بن زهير : وحدثنا عفان بن مسلم ثنا همام بن يحيى وأبان بن يزيد العطار قالا جميعا ثنا قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { إذا قعد بين شعبها الأربع وأجهد نفسه فقد وجب عليه الغسل أنزل أو لم ينزل } . قال أبو محمد : هذا فيه زيادة ثابتة عن الأحاديث التي فيها إسقاط الغسل ، والزيادة شريعة واردة لا يجوز تركها . وإنما قلنا في مخرج الولد ، لأنه لا ختان إلا هنالك ، فسواء كان مختونا أو غير مختون لأن لفظة { أجهد نفسه } تقتضي ذلك ، ولم يخص عليه السلام حراما من حلال . وإنما قلنا بذلك في العمد دون الأحوال التي ذكرنا لأن قوله عليه السلام { إذا قعد ثم أجهد } وهذا الإطلاق ليس إلا للمختار القاصد ، ولا يسمى المغلوب أنه قعد ولا النائم ولا المغمى عليه . وأما المجنون فقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ : { رفع القلم عن ثلاثة } فذكر عليه السلام { المجنون حتى يفيق والصبي حتى يبلغ } فإذا زالت هذه الأحوال كلها من الجنون والإغماء والنوم والصبا فالوضوء لازم لهم فقط لأنهم يصيرون مخاطبين بالصلاة وبالوضوء لها جملة ، وبالغسل إن كانوا مجنبين ، وهؤلاء ليسوا بمجنبين . وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : فهلا أوجبتم الغسل بقوله عليه السلام : { إذا التقى الختانان وجب الغسل } ؟ قلنا : هذا الخبر أعم من قوله عليه السلام : { إذا أقحطت أو أكسلت فلا غسل عليك } . فوجب أن يستثنى الأقل من الأعم ولا بد ، ليؤخذ بهما معا ، ثم حديث أبي هريرة زائد حكما على حديث الإكسال فوجب إعماله أيضا . وأما كل موضع لا ختان فيه ولا يمكن فيه الختان فلم يأت نص ولا سنة بإيجاب الغسل من الإيلاج فيه ، وممن رأى أن لا غسل من الإيلاج في الفرج إن لم يكن أنزل : عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود ورافع بن خديج وأبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس والنعمان بن بشير وزيد بن ثابت وجمهور الأنصار رضي الله عنهم ، وعطاء بن أبي رباح وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهشام بن عروة والأعمش وبعض أهل الظاهر . وروي الغسل في ذلك عن عائشة أم المؤمنين وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر والمهاجرين رضي الله عنهم ، وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وبعض أصحاب الظاهر .
171 - مسألة : فلو أجنب كل من ذكرنا وجب عليه غسل الرأس وجميع الجسد إذا أفاق المغمى عليه والمجنون وانتبه النائم وصحا السكران وأسلم الكافر ، وبالإجناب يجب الغسل . برهان ذلك قول الله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فلو اغتسل الكافر قبل أن يسلم والمجنون قبل أن يفيق أو غسل المغمى عليه قبل أن يفيق والسكران لم يجزهم ذلك من غسل الجنابة وعليهم إعادة الغسل ، لأنهم بخروج الجنابة منهم صاروا جنبا ووجب الغسل به ، ولا يجزي الفرض المأمور به إلا بنية أدائه قصدا إلى تأدية ما أمر الله تعالى به . قال الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وكذلك لو توضئوا في هذه الأحوال للحدث لم يجزهم ولا بد من إعادته بعد زوالها لما ذكرنا .
172 - مسألة : والجنابة هي الماء الذي يكون من نوعه الولد ، وهو من الرجل أبيض غليظ رائحته رائحة الطلع ، وهو من المرأة رقيق أصفر ، وماء العقيم والعاقر يوجب الغسل ، وماء الخصي لا يوجب الغسل ، وأما المجبوب الذكر السالم الأنثيين أو إحداهما فماؤه يوجب الغسل . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عباس بن الوليد ثنا يزيد بن ربيع ثنا سعيد هو ابن أبي عروبة - عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم أن أم سليم حدثت { أنها سألت نبي الله ﷺ عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ؟ فقال رسول الله ﷺ : إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل ، قيل : وهل يكون هذا ؟ قال رسول الله ﷺ : نعم ، فمن أين يكون الشبه إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه } . قال أبو محمد : فهذا هو الماء الذي يوجب الغسل وماء العقيم والعاقر والسالم الخصية ، وإن كان مجبوبا ، فهذه صفته وقد يولد لهذا ، وأما ماء الخصي فإنما هو أصفر ، فليس هو الماء الذي جاء النص بإيجاب الغسل فيه فلا غسل فيه ، ولو أن امرأة شفرت وهي بالغ أو غير بالغ ، فدخل المني فرجها فحملت فالغسل عليها ولا بد لأنها قد أنزلت الماء يقينا .
173 - مسألة : وكيفما خرجت الجنابة المذكورة بضربة أو علة أو لغير لذة أو لم يشعر به حتى وجده أو باستنكاح فالغسل واجب في ذلك . برهان ذلك قوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وأمره عليه السلام إذا فضخ الماء أن يغتسل ، وهذا عموم لكل من خرجت منه الجنابة ، ولم يستثن عز وجل ولا رسوله عليه السلام حالا من حال ، فلا يحل لأحد أن يخص النص برأيه بغير نص ، وهذا هو قول الشافعي وداود . وقال أبو حنيفة ومالك : من خرج منه المني - لعلة ، قال أبو حنيفة : أو ضرب على استه فخرج منه المني فعليه الوضوء ولا غسل عليه ، وهذا قول خلاف للقرآن وللسنن الثابتة وللقياس ، وما نعلمه عن أحد من السلف إلا عن سعيد بن جبير وحده فإنه ذكر عنه لا غسل إلا من شهوة . قال أبو محمد : أما خلافهم للقياس فإن الغائط والبول والريح موجبة للوضوء ولا يختلفون أن كيفما خرج ذلك فالوضوء فيه ، وكذلك الحيض موجب للغسل ، وكيفما خرج فالغسل فيه ، فكان الواجب أن يكون المني كذلك ، فلا بالقرآن أخذوا ولا بالسنة عملوا ولا القياس طردوا . والعجب أن بعضهم احتج في ذلك بأن الغائط والبول ليس في خروجهما حال تحيل الجسد . قال : والمني إذا خرج لشهوة أذهب الشهوة وأحدث في الجسد أثرا فوجب أن يكون بخلافهما . قال علي : وهذا تخليط ، بل اللذة في خروج البول والغائط والريح أشد عند الحاجة إلى خروجها منها في خروج المني ، وضرر ألم امتناع خروجها أشد من ضرر امتناع خروج المني فقد استوى الحكم في ذلك ، وبالله تعالى التوفيق ، فإن تأذى المستنكح بالغسل فليتيمم ؛ لأنه غير واجد ما يقدر على الغسل به ، فحكمه التيمم بنص القرآن . وبالله تعالى التوفيق .
174 - مسألة : ولو أن امرأة وطئت ثم اغتسلت ثم خرج ماء الرجل من فرجها فلا شيء عليها ، لا غسل ولا وضوء ، لأن الغسل إنما يجب عليها من إنزالها لا من إنزال غيرها ، والوضوء إنما يجب عليها من حدثها لا من حدث غيرها وخروج ماء الرجل من فرجها ليس إنزالا منها ولا حدثا منها ، فلا غسل عليها ولا وضوء . وقد روي عن الحسن أنها تغسل ، وعن قتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق تتوضأ . قال علي : ليس قول أحد حجة دون رسول الله ﷺ .
175 - مسألة : فلو أن امرأة شفرها رجل فدخل ماؤه فرجها فلا غسل عليها إذا لم تنزل هي . وقد روي عن عطاء والزهري وقتادة : عليها الغسل . قال علي : إيجاب الغسل لا يلزم إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله ﷺ .
176 - مسألة : ولو أن رجلا أو امرأة أجنبا وكان منهما وطء دون إنزال فاغتسلا وبالا أو لم يبولا ثم خرج منهما أو من أحدهما بقية من الماء المذكور أو كله فالغسل واجب في ذلك ولا بد ، فلو صليا قبل ذلك أجزأتهما صلاتهما ، ثم لا بد من الغسل ، فلو خرج في نفس الغسل وقد بقي أقله أو أكثره لزمهما أو الذي خرج ذلك منه ابتداء الغسل ولا بد . برهان ذلك عموم قوله عز وجل : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } والجنب هو من ظهرت منه الجنابة . وقوله عليه السلام : { إذا فضخ الماء فليغتسل } ولا يجوز تخصيص هذا العموم بالرأي . وقال أبو حنيفة : إن كان الذي خرج منه المني قد بال قبل ذلك فالغسل عليه ، وإن كان لم يبل فلا غسل عليه . وقال مالك : لا غسل عليه بال أو لم يبل . وقال الشافعي كقولنا . قال أبو محمد : واحتج من لم ير الغسل بأنه قد اغتسل والغسل إنما هو لنزول الجنابة من الجسد وإن لم تظهر . قال علي : وهذا ليس كما قالوا بل ما الغسل إلا من ظهور الجنابة لقوله عليه السلام : { إذا رأت الماء } ولو أن امرأ التذ بالتذكر حتى أيقن أن المني قد صار في المثانة ولم يظهر ما وجب عليه غسل ، لأنه ليس جنبا بعد ، ومن ادعى عليه وجوب الغسل فعليه البرهان من القرآن أو السنة . فإن قيل : قد روي نحو قول مالك عن علي وابن عباس وعطاء . قلنا : لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وقد صح عن علي وابن عباس وابن الزبير إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة ، فلم يأخذ بذلك مالك ولا أبو حنيفة ، ومن الباطل أن يكون علي وابن عباس رضي الله عنهما حجة في مسألة غير حجة في أخرى . وبالله تعالى التوفيق
177 - مسألة : ومن أولج في الفرج وأجنب فعليه النية في غسله ذلك لهما معا ، وعليه أيضا الوضوء ولا بد ، ويجزيه في أعضاء الوضوء غسل واحد ينوي به الوضوء والغسل من الإيلاج ومن الجنابة ، فإن نوى بعض هذه الثلاثة ولم ينو سائرها أجزأه لما نوى ، وعليه الإعادة لما لم ينو ، فإن كان مجنبا باحتلام أو يقظة من غير إيلاج فليس عليه إلا نية واحدة للغسل من الجنابة فقط . برهان ذلك { أن رسول الله ﷺ أوجب الغسل من الإيلاج وإن لم يكن إنزال ومن الإنزال وإن لم يكن إيلاج ، وأوجب الوضوء من الإيلاج } ، فهي أعمال متغايرة وقد قال عليه السلام : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى } فلا بد لكل عمل مأمور به من القصد إلى تأديته كما أمره الله تعالى ، ويجزئ من كل ذلك عمل واحد ؛ لأنه قد صح عنه ﷺ أنه كان يغتسل غسلا واحدا من كل ذلك ، فأجزأ ذلك بالنص ، ووجبت النيات بالنص ، ولم يأت نص بأن نية لبعض ذلك تجزئ عن نية الجميع ، فلم يجز ذلك . وبالله تعالى التوفيق .
178 - مسألة : وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء وكذلك الطيب والسواك . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا علي هو ابن المديني - ثنا حرمي بن عمارة ثنا شعبة عن أبي بكر بن المنكدر حدثني عمرو بن سليم الأنصاري قال : أشهد على أبي سعيد الخدري قال : أشهد على رسول الله ﷺ قال : { الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبا } قال عمرو بن سليم : أما الغسل فأشهد أنه واجب ، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا ، ولكن هكذا في الحديث . وروينا إيجاب الغسل أيضا مسندا من طريق عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وأبي هريرة كلها في غاية الصحة ، فصار خبرا متواترا يوجب العلم ، وممن قال بوجوب فرض الغسل يوم الجمعة عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفه فيه أحد منهم ، وأبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمرو بن سليم وعطاء وكعب والمسيب بن رافع . أما عمر فإنه قال على المنبر لعثمان يوم الجمعة - وقد قال عثمان : ما هو إلا أن سمعت الأذان الأول فتوضأت وخرجت فقال له عمر : والله لقد علمت ما هو بالوضوء ، والوضوء أيضا { وقد علمت أن رسول الله ﷺ كان يأمر بالغسل } . وروينا عن أبي هريرة أنه قال : لله على كل مسلم أن يغتسل من كل سبعة أيام يوما فيغسل كل شيء منه ويمس طيبا إن كان لأهله ، والغسل يوم الجمعة واجب كغسل الجنابة . فأما اللفظ الأول فمن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة واللفظ الثاني عن مالك بن أنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة . وعن سعد بن أبي وقاص : ما كنت أرى مسلما يدع الغسل يوم الجمعة . وقال ابن مسعود في شيء ظن به : لأنا أحمق من الذي لا يغتسل يوم الجمعة . قال أبو محمد : لا يحمق من ترك ما ليس فرضا لأن رسول الله ﷺ قال فيه : { أفلح إن صدق ، دخل الجنة إن صدق } والمفلح المضمون له الجنة ليس أحمق . وعن عمار بن ياسر في شيء ظن به : أنا إذن كمن لا يغتسل يوم الجمعة . وعن أبي سعيد الخدري : { أوجب رسول الله ﷺ الغسل يوم الجمعة على كل محتلم } . وعن ابن عمر - وسئل عن الغسل يوم الجمعة فقال : { أمرنا به رسول الله ﷺ } . وعن كعب أنه قال : لله على كل حالم أن يغتسل في كل سبعة أيام مرة فيغسل رأسه وجسده ، وهو يوم الجمعة فقال ابن عباس : وأنا أرى أن يتطيب من طيب أهله إن كان لهم . وسئل ابن عباس عن غسل يوم الجمعة فقال : اغتسل . وروينا أمره بالطيب من طريق حماد بن سلمة عن جعفر بن أبي وحشية عن مجاهد عن ابن عباس . وأمره بالغسل عن ابن جريج عن عطاء عنه . وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري أن غسل يوم الجمعة واجب . وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال : سمعت أبا هريرة يوجب الطيب يوم الجمعة . وروينا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : ثلاث هن على كل مسلم يوم الجمعة : الغسل والسواك ويمس من طيب إن وجده . قال أبو محمد : ما نعلم أنه يصح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم إسقاط فرض الغسل يوم الجمعة . وذهب جماعة من المتأخرين إلى أنه ليس بواجب ، واحتجوا بحديث عمر وعثمان الذي ذكرناه وبحديث رويناه من طريق عائشة رضي الله عنها { كان الناس يأتون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح فأتى رسول الله ﷺ إنسان منهم وهو عندي ، فقال رسول الله ﷺ : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا } وعنها أيضا { كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة ، فكان يكون لهم تفل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة } ، وبحديث عن الحسن { أنبأنا أن رسول الله ﷺ كان لا يغتسل يوم الجمعة ، ولكن كان أصحابه يغتسلون } . وبحديث من طريق ابن عباس { كان رسول الله ﷺ ربما اغتسل وربما لم يغتسل يوم الجمعة } . وبحديث آخر من طريق ابن عباس في الغسل يوم الجمعة { أنه خير لمن اغتسل ، ومن لم يغتسل فليس بواجب ، وسأخبركم كيف بدأ الغسل ، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم ، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف ، فخرج رسول الله ﷺ في يوم حار وعرق الناس في الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا ، فلما وجد رسول الله ﷺ الريح قال : أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم طيبا ، أفضل ما يجد من دهنه وطيبه } . قال ابن عباس : ثم جاء الله بالخير ، ولبسوا غير الصوف ، وكفوا العمل ، ووسعوا مسجدهم ، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق " . وبحديث عن سمرة عن النبي ﷺ { من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل } . ومثله من طريق أنس عنه عليه السلام نصا . وكذلك من طريق الحسن ، ومن طريق جابر عنه عليه السلام ، ومثله نصا عن عبد الرحمن بن سمرة وأبي هريرة ، ومثله عن يزيد بن عبد الله أبي العلاء . وهذا كل ما شغبوا به ، وكله لا حجة لهم فيه لأن كل هذه الآثار لا خير فيها ، حاشا حديث عائشة وعمر فهما صحيحان ، ولا حجة لهم فيهما على ما سنبين إن شاء الله تعالى . أما حديث الحسن ويزيد بن عبد الله فمرسلان ، وكم من مرسل للحسن لا يأخذون به ، كمرسله في الوضوء من الضحك في الصلاة ، لا يأخذ به المالكيون والشافعيون ، وكمرسله { إن الأرض لا تنجس } لا يأخذ به الحنفيون ، وكذلك ليزيد بن عبد الله ، ومما يوجب المقت من الله تعالى أن يجعلوا المرسل حجة ، ثم لا يأخذون به ، أو أن لا يروه حجة ثم يحتجون به ، فيقولون ما لا يفعلون { كبر مقتا عند الله } . وأما حديثا ابن عباس فأحدهما من طريق محمد بن معاوية النيسابوري ، وهو معروف بوضع الأحاديث والكذب والثاني من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وقد روينا من طريق عمرو بن أبي عمرو - هذه نفسها - عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ﷺ { من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه } فإن كان خبر عمرو حجة فليأخذوا بهذا ، وإن كان ليس بحجة فلا يحل لهم الاحتجاج به في رد السنن الثابتة ، وأما عمرو فضعيف لا نحتج به لنا ، ولا نقبله حجة علينا ، وهذا هو الحق الذي لا يحل خلافه ، ولو احتججنا به في موضع واحد لأخذنا بخبره في كل موضع . فإن قالوا : قد صح عن ابن عباس خلاف ما روى عنه عمرو في قتل البهيمة ومن أتاها ، قلنا لهم : وقد صح عن ابن عباس خلاف ما روى عنه عمرو في إسقاط غسل الجمعة ولا فرق ، ثم لو صح حديث عمرو هذا لما كان لهم فيه حجة ، بل لكان لنا حجة عليهم ؛ لأنه ليس فيه من كلام النبي ﷺ إلا الأمر بالغسل وإيجابه ، وأما كل ما تعلقوا به من إسقاط وجوب الغسل فليس من كلامه عليه السلام ، وإنما هو من كلام ابن عباس وظنه ، ولا حجة في أحد دونه عليه السلام . وأما حديث سمرة فإنما هو من طريق الحسن عن سمرة ، ولا يصح للحسن سماع من سمرة إلا حديث العقيقة وحده ، فإن أبوا إلا الاحتجاج به ، قلنا لهم : قد روينا من طريق الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ { من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه } والحنفيون والمالكيون والشافعيون لا يأخذون بهذا ، وروينا أيضا عنه عن سمرة عن النبي ﷺ : { عهدة الرقيق أربع } وهم لا يأخذون بهذا . ومن الباطل والعار احتجاجهم في الدين برواية ما إذا وافقت تقليدهم ، ومخالفتهم لها بعينها إذا خالفت تقليدهم ، ما نرى دينا يبقى مع هذا لأنه اتباع الهوى في الدين . وأما حديث أنس فهو من رواية يزيد الرقاشي وهو ضعيف ، صح عن شعبة أنه قال : لأن أقطع الطريق وأزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي ، ورب حديث ليزيد الرقاشي تركوه لم يحتجوا فيه إلا بضعفه فقط ، ومن رواية الضحاك بن حمزة ، وهو هالك ، عن الحجاج بن أرطاة ، وهو ساقط ، عن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف . ثم نظرنا في حديث جابر فوجدناه ساقطا لأنه لم يرو إلا من طرق في أحدها رجل مسكوت عن اسمه لا يعرف من هو ، وفي ثانيهما أبو سفيان عن جابر وهو ضعيف ، ومحمد بن الصلت وهو مجهول ، وفي الثالث منها الحسن عن جابر ولا يصح سماع الحسن من جابر . وأما حديث عبد الرحمن بن سمرة فهو من طريق سلم بن سليمان أبي هشام البصري وليس بالقوي . وأما حديث أبي هريرة فهو من رواية أبي بكر الهذلي ، وهو ضعيف جدا فسقطت هذه الآثار كلها ، ثم لو صحت لم يكن فيها نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب ، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل ، وأن الغسل أفضل وهذا لا شك فيه ، وقد قال الله تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } فهل دل هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضا ؟ حاشا لله من هذا ، ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص على أن غسل الجمعة ليس فرضا لما كان في ذلك حجة ، لأن ذلك كان يكون موافقا لما كان الأمر عليه قبل قوله عليه السلام { غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وعلى كل مسلم } وهذا القول منه عليه السلام شرع وارد وحكم زائد ناسخ للحالة الأولى بيقين لا شك فيه ، ولا يحل ترك الناسخ بيقين ، والأخذ بالمنسوخ . وأما حديث عائشة رضي الله عنها { كانوا عمال أنفسهم ويأتون في العباء والغبار من العوالي فتثور لهم روائح ، فقال رسول الله ﷺ : لو تطهرتم ليومكم هذا } أو { أولا تغتسلون } . فهو خبر صحيح ، إلا أنه لا حجة لهم فيه أصلا ، لأنه لا يخلو هذا من أن يكون قبل أن يخطب عليه السلام على المنبر فأمر الناس بالغسل يوم الجمعة ، وقبل أن يخبر عليه السلام بأن غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم وكل محتلم ، والطيب والسواك ، وقبل أن يخبر عليه السلام أنه حق لله تعالى على كل مسلم ، أو يكون بعد كل ما ذكرنا ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإن كان خبر عائشة قبل ما رواه عمر بن الخطاب وابنه وأبو هريرة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وجابر ، فلا يشك ذو حس سليم في أن الحكم للمتأخر ، وإن كان خبر عائشة بعد كل ما ذكرنا من إيجاب الغسل يوم الجمعة والسواك والطيب وأنه حق الله تعالى على كل مسلم ، فليس فيه نص ولا دليل على نسخ الإيجاب المتقدم ، ولا على إسقاط حق الله تعالى المنصوص على إثباته ، وإنما هو تبكيت لمن ترك الغسل المأمور به الموجب فقط ، وهذا تأكيد للأمر المتيقن لا إسقاط له ، فقد { نهى رسول الله ﷺ عن الوصال فلم ينتهوا فواصل بهم } تنكيلا لهم ، أفيسوغ في عقل أحد أن ذلك نسخ للنهي عن الوصال ؟ وكل ما أخبر عليه السلام أنه واجب على كل مسلم ، وحق الله تعالى على كل محتلم ، فلا يحل تركه ولا القول بأنه منسوخ أو أنه ندب ، إلا بنص جلي بذلك ، مقطوع على أنه وارد بعده ، مبين أنه - ندب أو أنه قد نسخ ، لا بالظنون الكاذبة المتروك لها اليقين . هذا لو صح أن خبر عائشة كان بعد الإيجاب للغسل . وهذا لا يصح أبدا ، بل في خبر عائشة دليل بين على أنه كان قبل الإيجاب لأنها ذكرت أن ذلك كان والناس عمال أنفسهم ، وفي ضيق من الحال وقلة من المال ، وهذه صفة أول الهجرة بلا شك ، والراوي لإيجاب الغسل أبو هريرة ، وابن عباس ، وكلاهما متأخر الإسلام والصحبة . أما أبو هريرة فإسلامه إثر فتح خيبر ، حيث اتسعت أحوال المسلمين ، وارتفع الجهد والضيق عنهم . وأما ابن عباس فبعد فتح مكة قبل موت رسول الله ﷺ بعامين ونصف فقط ، فارتفع الإشكال جملة والحمد لله رب العالمين . وأما حديث عمر فإنهم قالوا : لو كان غسل الجمعة واجبا عند عمر وعثمان ومن حضر من الصحابة رضي الله عنهم لما تركه عثمان ولا أقر عمر وسائر الصحابة عثمان على تركه وقالوا : فدل هذا على أنه عندهم غير فرض . قال أبو محمد : هذا قول لا ندري كيف استطلقت به ألسنتهم لأنه كله قول بما ليس في الخبر منه شيء لا نص ولا دليل ، بل نصه ودليله بخلاف ما قالوه . أول ذلك أن يقال لهم : من لكم بأن عثمان لم يكن اغتسل في صدر يومه ذلك ؟ ومن لكم بأن عمر لم يأمره بالرجوع للغسل ؟ فإن قالوا : ومن لكم بأن عثمان كان اغتسل في صدر يومه ؟ ومن لكم بأن عمر أمره بالرجوع إلى الغسل قلنا : هبكم أنه لا دليل عندنا بهذا ، ولا دليل عندكم بخلافه . فمن جعل دعواكم في الخبر ، وتكهنكم ما ليس فيه ، وقفوكم ما لا علم لكم به ، أولى من مثل ذلك من غيركم ؟ وإنما الحق في هذا - إذ دعواكم ودعوانا ممكنة - أن يبقى الخبر لا حجة فيه لكم ولا عليكم ، ولا لنا ولا علينا ، هذا ما لا مخلص منه ، فكيف ومعنا الدليل على ما قلناه ؟ . وأما عثمان رضي الله عنه فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال : ثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - كلاهما عن وكيع عن مسعر بن كدام عن جامع بن شداد قال : سمعت حمران بن أبان قال : كنت أضع لعثمان طهوره فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة . فقد ثبت بأصح إسناد أن عثمان كان يغتسل كل يوم ، فيوم الجمعة يوم من الأيام بلا شك ، ولو لم يكن هذا الخبر عندنا ، لوجب أن لا يظن بمثله رضي الله عنه خلاف أمر رسول الله ﷺ بل لا يقطع عليه إلا بطاعته ، وإن لم يعين ذلك في خبر ، كما يقطع بأنه صلى الصبح في ذلك اليوم وسائر اللوازم له بلا شك وإن لم يرو لنا ذلك . وأما عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم ، فهذا الخبر عنهم حجة لنا ظاهرة بلا شك لأن عمر قطع الخطبة منكرا على عثمان أن لم يصل الغسل بالرواح ، فلو لم يكن ذلك فرضا عنده وعندهم لما قطع له الخطبة ، وعمر قد حلف " والله ما هو بالوضوء " فلو لم يكن الغسل عنده فرضا لما كانت - يمينه صادقة والذي حصل من عمر بن الخطاب ومن الصحابة بلا شك فهو إنكار ترك الغسل ، والإعلان بأن رسول الله ﷺ كان يأمر بالغسل يوم الجمعة ، ولا يجوز أن نظن بأحد من الصحابة رضي الله عنهم أن يستجيز خلاف أمره عليه السلام ، مع قول الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فصح ذلك الخبر حجة لنا وإجماعا من الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يكن فيهم آخر يقول لعمر : ليس ذلك عليه واجبا . قال أبو محمد : وبيقين ندري أن عثمان قد أجاب عمر في إنكاره عليه وتعظيمه أمر الغسل بأحد أجوبة لا بد من أحدها : إما أن يقول له قد كنت اغتسلت قبل خروجي إلى السوق ، وإما أن يقول له : بي عذر مانع من الغسل ، أو يقول له : أنسيت وها أنا ذا راجع فأغتسل ، فداره كانت على باب المسجد مشهورة إلى الآن أو يقول له : سأغتسل ، فإن الغسل لليوم لا للصلاة . فهذه أربعة أجوبة كلها موافقة لقولنا . أو يقول له : هذا أمر ندب وليس فرضا ، وهذا الجواب موافق لقول خصومنا . فليت شعري من الذي جعل لهم التعلق بجواب واحد من جملة خمسة أجوبة كلها ممكن ، وكلها ليس في الخبر شيء منها أصلا ؟ دون أن يحاسبوا أنفسهم بالأجوبة الأخر التي هي أدخل في الإمكان من الذي تعلقوا به ، لأنها كلها موافقة لأمر رسول الله ﷺ ولما خاطبه به عمر رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم . والذي تعلقوا هم به تكهن مخالف لأمر رسول الله ﷺ ولما أجمع عليه الصحابة . ثم لو صح لهم ما يدعونه من الباطل من أن عمر ومن بحضرته رأوا الأمر بالغسل ندبا ، وهذا لا يصح ، بل الصحيح خلافه بنص الخبر ، فقد أوردنا عن أبي هريرة وسعد وأبي سعيد وابن عباس القطع بإيجاب الغسل يوم الجمعة بعد موت عمر بدهر فصح وجود خلاف ما يدعونه بالدعوى الكاذبة إجماعا ، وإذا وجد التنازع فليس قول بعضهم أولى من قول بعض بل الواجب حينئذ الرد إلى سنة رسول الله ﷺ وسنته عليه السلام قد جاءت بإيجاب الغسل والسواك والطيب ، إلا أن يدعوا أن أبا هريرة وسعدا وأبا سعيد وابن مسعود وابن عباس خالفوا الإجماع ، فحسبهم بهذا ضلالا . ثم لو صح لهم أن عمر وعثمان قالا بأن الغسل يوم الجمعة ندب - ومعاذ الله من أن يصح هذا عنهما - فمن أين لهم تعظيم خلاف عمر وعثمان في هذا الباطل المتكهن ؟ ولم يعظموا على أنفسهم خلاف عمر وعثمان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في هذا الخبر نفسه ، في ترك عمر الخطبة ، وأخذه في الكلام مع عثمان ، ومجاوبة عثمان له بعد شروع عمر في الخطبة ، وهم لا يجيزون هذا . وكذلك الخبر الثابت من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه : أن عمر قرأ السجدة على المنبر يوم الجمعة فنزل وسجد وسجدوا معه ، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود ، فقال لهم عمر : على رسلكم ، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . فقال المالكيون : ليس العمل على هذا ، وقال الحنفيون : السجود واجب . قال أبو محمد : أفيكون أعجب من هذا أو أدخل في الباطل منه أن يكون كلام عمر مع عثمان في الخطبة بما لا يجدونه فيه من إسقاط فرض غسل الجمعة حجة عندهم ، ثم لا يبالون مخالفة عمر في عمله وقوله بحضرة الصحابة رضي الله عنهم أن السجود ليس مكتوبا علينا عند قراءة السجدة ، وفي نزوله عن المنبر للسجود إذا قرأ السجدة ؟ أفيكون في العجب أكثر من هذا ؟ وإن هذا إلا تلاعب أقرب إلى الجد . وكم قصة خالفوا فيها عمر وعثمان تقليدا لآراء من لا يضمن له الصواب في كل أقواله ، كقول عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم : أن لا غسل من الإيلاج إذا لم يكن هنالك إمناء ، وكقول عمر وابن مسعود : من أجنب ولم يجد الماء فلا يجوز له التيمم ولا الصلاة ، ولو بقي كذلك شهرا ، وكما روي عن عمر وعثمان بالقضاء بأولاد الغارة رقيقا لسيدها ، ومثل هذا كثير جدا . وقال بعضهم : هذا مما تعظم به البلوى ، فلو كان فرضا لما خفي على العلماء . قلنا نعم ما خفي ، قد عرفه جميع الصحابة رضي الله عنهم وقالوا به . وهؤلاء الحنفيون قد أوجبوا الوضوء من كل دم خارج من اللثات أو الجسد أو من القلس ، وهو أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرفه غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم . والمالكيون يوجبون التدلك في الغسل فرضا ، والفور في الوضوء فرضا ، تبطل الطهارة والصلاة بتركه ، وهذا أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرف ذلك غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم . والشافعيون يرون الوضوء من مس الدبر ، ومن مس الرجل ابنته وأمه ، وهو أمر تعظم به البلوى ، ولا يعرف ذلك غيرهم ، فلم يروا ذلك حجة على أنفسهم ، ثم يرونه حجة إذا خالف أهواءهم وتقليدهم ، ونعوذ بالله من مثل هذا العمل في الدين ومن أن يقول رسول الله ﷺ في شيء : إنه واجب على كل مسلم وعلى كل محتلم ، وإنه حق الله تعالى على كل مسلم محتلم . ثم نقول نحن : ليس هو واجبا ولا هو حق الله تعالى . هذا أمر تقشعر منه الجلود ، والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته .
==========
كتاب الطهارة
باب الأشياء الموجبة غسل الجسد كله
179 - مسألة : وغسل يوم الجمعة إنما هو لليوم لا للصلاة ، فإن صلى الجمعة والعصر ثم اغتسل أجزأه ذلك ، وأول أوقات الغسل المذكور إثر طلوع الفجر من يوم الجمعة ، إلى أن يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله قبل غروب آخره ، وأفضله أن يكون متصلا بالرواح إلى الجمعة ، وهو لازم للحائض والنفساء كلزومه لغيرهما . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ثنا شعيب هو ابن أبي حمزة - عن الزهري ، قال طاوس : قلت لابن عباس : ذكروا أن النبي ﷺ قال : { اغتسلوا يوم الجمعة وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب } قال : أما الغسل فنعم ، وأما الطيب فلا أدري . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني محمد بن حاتم ثنا بهز ثنا وهيب هو ابن خالد - حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال { حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده } . حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا يحيى بن حبيب بن عربي ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة رفعه قال { على كل مسلم في كل سبعة أيام غسل وهو يوم الجمعة } . وهكذا رويناه من طريق جابر والبراء مسندا ، فصح بهذا أنه لليوم لا للصلاة وروينا عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يغتسل بعد طلوع الفجر يوم الجمعة فيجتزئ به من غسل الجمعة ، وعن شعبة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد قال : إذا اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه . وعن الحسن : إذا اغتسل يوم الجمعة بعد طلوع الفجر أجزأه للجمعة ، فإذن هو لليوم ، ففي أي وقت من اليوم اغتسل أجزأه ، وعن إبراهيم النخعي كذلك . فإن قال قائل : فإنكم قد رويتم من طريق شعبة عن الحكم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ : { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } . ورويتم من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ : { إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل } وعن الليث عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه { عن رسول الله ﷺ أنه قال وهو قائم على المنبر من جاء منكم الجمعة فليغتسل } . قلنا نعم ، وهذه - آثار صحاح ، وكلها لا خلاف فيها لما قلنا . أما قوله عليه السلام { من جاء منكم الجمعة فليغتسل } فهو نص قولنا ، وإنما فيه أمر لمن جاء الجمعة بالغسل ، وليس فيه أي وقت يغتسل ، لا بنص ولا بدليل ، وإنما فيه بعض ما في الأحاديث الأخر لأن في هذا إيجاب الغسل على كل من جاء إلى الجمعة ، فليس فيه إسقاط الغسل عمن لا يأتي الجمعة ، وفي الأحاديث الأخر التي من طريق ابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم إيجاب الغسل على كل مسلم وعلى كل محتلم ، فهي زائدة حكما على ما في حديث ابن عمر ، فالأخذ بها واجب . وأما قوله عليه السلام : { إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل } فكذلك أيضا سواء سواء ، وقد يريد الرجل أن يأتي الجمعة من أول النهار ، وليس في هذا الخبر ولا في غيره إلزامه أن يكون إتيانه الجمعة لا من أول النهار ، وليس في هذا الخبر ولا في غيره إلزامه أن يكون أتى متصلا بإرادته لإتيانها ، بل جائز أن يكون بينهما ساعات ، فليس في هذا اللفظ أيضا دليل ولا نص يوجب أن يكون الغسل متصلا بالرواح . وأما قوله عليه السلام : { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } فظاهر هذا اللفظ أن الغسل بعد الرواح ، كما قال تعالى : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } ومع الرواح كما قال تعالى : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } أو قبل الرواح كما قال تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } فلما كان كل ذلك ممكنا ، ولم يكن في هذا اللفظ نص ولا دليل على وجوب اتصال الغسل بالرواح أصلا صح قولنا ، والحمد لله رب العالمين . وأيضا فإننا إذا حققنا مقتضى ألفاظ حديث ابن عمر كان ذلك دالا على قولنا لأنه إنما فيها { إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل } { أو أراد أحدكم أن يأتي إلى الجمعة فليغتسل } . { من جاء منكم الجمعة فليغتسل } وهذه ألفاظ ليس يفهم منها إلا أن من كان من أهل الرواح إلى الجمعة ، وممن يجيء إلى الجمعة ، ومن أهل الإرادة للإتيان إلى الجمعة فعليه الغسل ، ولا مزيد ، وليس في شيء منها وقت الغسل ، فصارت ألفاظ خبر ابن عمر موافقة لقولنا . وعهدنا بخصومنا يقولون : إن من روى حديثا فهو أعرف بتأويله ، وهذا ابن عمر راوي هذا الخبر قد روينا عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة إثر طلوع الفجر من يومها . وقال مالك والأوزاعي : لا يجزئ غسل يوم الجمعة إلا متصلا بالرواح ، إلا أن الأوزاعي قال : إن اغتسل قبل الفجر ونهض إلى الجمعة أجزأه . وقال مالك : إن بال أو أحدث بعد الغسل لم ينتقض غسله ويتوضأ فقط ، فإن أكل أو نام انتقض غسله . قال أبو محمد : وهذا عجب جدا . وقال أبو حنيفة والليث وسفيان وعبد العزيز بن أبي سلمة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود كقولنا ، وقال طاوس والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير : من اغتسل للجمعة ثم أحدث فيستحب أن يعيد غسله . قال علي : ما نعلم مثل قول مالك عن أحد من الصحابة التابعين ، ولا له حجة من قرآن ولا سنة ولا قياس ولا قول صاحب ، وكثيرا ما يقولون في مثل هذا بتشنيع خلاف قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وهذا مكان خالفوا فيه ابن عمر ، وما يعلم له من الصحابة في ذلك مخالف . فإن قالوا : من قال قبلكم إن الغسل لليوم ؟ قلنا : كل من ذكرنا عنه في ذلك قولا من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو ظاهر قولهم ، وهو قول أبي يوسف نصا وغيره ، وأعجب شيء أن يكونوا مبيحين للغسل يوم الجمعة في كل وقت ، ومبيحين لتركه في اليوم كله ، ثم ينكرون على من قال بالغسل في وقت هم يبيحونه فيه . وبالله تعالى التوفيق
180 - مسألة : وغسل كل ميت من المسلمين فرض ولا بد ، فإن دفن بغير غسل أخرج ولا بد ، ما دام يمكن أن يوجد منه شيء ويغسل إلا الشهيد الذي قتله المشركون في المعركة فمات فيها ، فإنه لا يلزم غسله . برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل بن عبد الله هو ابن أبي أويس - حدثني مالك عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية : { أن رسول الله ﷺ دخل عليهن حين توفيت ابنته فقال : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك } فأمر عليه السلام بالغسل ثلاثا ، وأمره فرض وخير في أكثر على الوتر ، وأما الشهيد فمذكور في الجنائز إن شاء الله عز وجل .
181 - مسألة : ومن غسل ميتا متوليا ذلك بنفسه - بصب أو عرك - فعليه أن يغتسل فرضا . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن صالح ثنا ابن أبي فديك حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { من غسل الميت فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ } قال أبو داود : وحدثنا حامد بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بمعناه . وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة { عن النبي ﷺ قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ } قال أبو محمد : يعني من حمل الجنازة . وممن قال بهذا علي بن أبي طالب وغيره ، روينا ذلك من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن هشام الدستوائي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن علي قال : من غسل ميتا فليغتسل ، ومن طريق وكيع عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن مكحول أن حذيفة سأله رجل مات أبوه ، فقال حذيفة : اغسله فإذا فرغت فاغتسل وعن أبي هريرة - من غسل ميتا فليغتسل ، ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال كان أصحاب علي يغتسلون منه . يعني من غسل الميت . قال علي : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وداود : لا يجب الغسل من غسل الميت ، واحتج أصحابنا في ذلك بالأثر الذي فيه { إنما الماء من الماء } . قال علي : وهذا لا حجة فيه لأن الأمر بالغسل من غسل الميت ومن الإيلاج وإن لم يكن إنزال - هما شرعان زائدان على خبر { الماء من الماء } والزيادة واردة من عند الله تعالى على لسان رسوله ﷺ فرض الأخذ بها . واحتج غيرهم في ذلك بأثر رويناه من طريق ابن وهب قال : أخبرني من أثق به يرفع الحديث إلى رسول الله ﷺ قال : { لا تتنجسوا من موتاكم } وكره ذلك لهم . وعن رجال من أهل العلم عن سعيد وجابر وابن مسعود وابن عباس وابن عمر أنه لا غسل من غسل الميت ، وبحديث رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق ، فلما فرغت قالت لمن حضرها من المهاجرين إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل ؟ قالوا : لا ، وعن إبراهيم النخعي : كان ابن مسعود وأصحابه لا يغتسلون من غسل الميت ، وبحديث رويناه من طريق شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة العدوية : سئلت عائشة رضي الله عنها : أيغتسل من غسل المتوفين ؟ قالت لا . قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة لهم فيه ، أما الخبر عن رسول الله ﷺ ففي غاية السقوط لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ، والمسافة بين ابن وهب وبين رسول الله ﷺ بعيدة جدا ، ثم لو صح بنقل الكافة ما كان لهم فيه متعلق ؛ لأنه ليس فيه إلا أن لا نتنجس من موتانا فقط ، وهذا نص قولنا ، ومعاذ الله أن نكون نتنجس من ميت مسلم ، أو أن يكون المسلم نجسا ، بل هو طاهر حيا وميتا ، وليس الغسل الواجب من غسل الميت لنجاسته أصلا ، لكن كغسل الميت الواجب عندنا وعندهم ، كما غسل رسول الله ﷺ وهو أطهر ولد آدم حيا وميتا ، وغسل أصحابه رضي الله عنهم إذ ماتوا ، وهم الطاهرون الطيبون أحياء وأمواتا ، وكغسل الجمعة ، ولا نجاسة هنالك ، فبطل تمويههم بهذا الخبر . وأما حديث أسماء فإن عبد الله بن أبي بكر لم يكن ولد يوم مات أبو بكر الصديق نعم ولا أبوه أيضا ، ثم لو صح كل ما ذكروا عن الصحابة لكان قد عارضه ما رويناه من خلاف ذلك عن علي وحذيفة وأبي هريرة ، وإذا وقع التنازع وجب الرد إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه ، من كلامه وكلام رسول الله ﷺ والسنة قد ذكرناها بالإسناد الثابت بإيجاب الغسل من غسل الميت ، وكم قصة خالفوا فيها الجمهور من الصحابة لا يعرف منهم مخالف ، وقد أفردنا لذلك كتابا ضخما ، والعجب من احتجاجهم بقول عائشة وهم قد خالفوها في إيجاب الوضوء مما مست النار وخالفوا علي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير في إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة أو للجمع بين صلاتين ، وعائشة في قولها : تغتسل كل يوم عند صلاة الظهر ، ولا مخالف يعرف لهؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم ، ومثل هذا كثير جدا
182 - مسألة : ومن صب على مغتسل ونوى ذلك المغتسل الغسل أجزأه . برهان ذلك أن الغسل هو إمساس الماء البشرة بالقصد إلى تأدية ما افترض الله تعالى من ذلك ، فإذا نوى ذلك لمرء فقد فعل الغسل الذي أمر به ، ولم يأت نص ولا إجماع بأن يتولى هو ذلك بيده ، وبالله تعالى التوفيق
183 - مسألة : وانقطاع دم الحيض في مدة الحيض - ومن جملته دم النفاس - يوجب الغسل لجميع الجسد والرأس وهذا إجماع متيقن ، من خالفه كفر عن نصوص ثابتة ، وبالله تعالى نتأيد . وقد ذكرنا أن الحامل لا تحيض ، ودم النفاس هو الخارج إثر وضع المرأة آخر ولد في بطنها ؛ لأنه المتفق عليه ، وأما الخارج قبل ذلك فليست نفساء ، وليس دم نفاس ، ولا نص فيه ولا إجماع ، وسنذكر في الكلام في الحيض مدة الحيض ومدة النفاس إن شاء الله تعالى . /
184 - مسألة : والنفساء والحائض شيء واحد ، فأيتهما أرادت الحج أو العمرة ففرض عليها أن تغتسل ثم تهل . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني هناد بن السري وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة ، كلهم عن عبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت { نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر الصديق بالشجرة ، فأمر رسول الله ﷺ أبا بكر أن تغتسل وتهل } . وجاء في الخبر الصريح : { نفست أسماء بنت عميس بالشجرة بمحمد بن أبي بكر فذكر ذلك لرسول الله ﷺ } { وحاضت عائشة وأم سلمة أما المؤمنين رضي الله عنهما ، فقال رسول الله ﷺ لكل واحدة منهما : أنفست ؟ قالت نعم } . فصح أن الحيض يسمى نفاسا ، فصح أنهما شيء واحد وحكم واحد ولا فرق . وأمر عليه السلام التي ترى الدم الأسود بترك الصلاة ، وحكم بأنه حيض وأنها حائض ، وأن الدم الآخر ليس حيضا ولا هي به حائض ، وأخبر أن الحيض شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم ، فكل دم أسود ظهر من فرج المرأة من مكان خروج الولد فهو حيض ، إلا ما ورد النص بإخراجه من هذه الجملة وهي الحامل والتي لا يتميز دمها ولا ينقطع ، وبالله تعالى التوفيق .
185 - مسألة : والمرأة تهل بعمرة ثم تحيض ففرض عليها أن تغتسل ثم تعمل في حجها ، ما سنذكره في الحج إن شاء الله تعالى . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث هو ابن سعد - عن أبي الزبير عن جابر قال : { أقبلنا مع رسول الله ﷺ مهلين بحج مفردا وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف عركت } ثم ذكر الحديث وفيه { أن رسول الله ﷺ دخل عليها فقالت : قد حضت وحل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت ، والناس يذهبون إلى الحج ، فقال لها رسول الله ﷺ : إن هذا كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت } .
186 - مسألة : والمتصلة الدم الأسود الذي لا يتميز ولا تعرف أيامها فإن الغسل فرض عليها إن شاءت لكل صلاة فرض أو تطوع ، وإن شاءت إذا كان قرب آخر وقت الظهر اغتسلت وتوضأت وصلت الظهر بقدر ما تسلم منها بعد دخول وقت العصر ، ثم تتوضأ وتصلي العصر ، ثم إذا كان قبل غروب الشفق اغتسلت وتوضأت وصلت المغرب بقدر ما تفرغ منها بعد غروب الشفق ، ثم تتوضأ وتصلي العتمة ، ثم تغتسل وتتوضأ لصلاة الفجر ، وإن شاءت حينئذ أن تتنفل عند كل صلاة فرض وتتوضأ بعد الفريضة أو قبلها فلها ذلك ، وسنذكر البرهان على ذلك في كلامنا في الحيض إن شاء الله تعالى .
187 - مسألة : ولا يوجب الغسل شيء غير ما ذكرنا أصلا لأنه لم يأت في غير ذلك أثر يصح ألبتة ، وقد جاء أثر في الغسل من موارة الكافر ، فيه ناجية بن كعب وهو مجهول ، والشرائع لا تؤخذ إلا من كلام الله أو من كلام رسوله ﷺ . وممن لا يرى الغسل من الإيلاج في حياء البهيمة إن لم يكن إنزال أبي حنيفة والشافعي . وقال مالك في الوطء في الدبر : لا غسل فيه إن لم يكن إنزال ، فمن قاس ذلك على الوطء في الفرج قيل له : بل هو معصية ، فقياسها على سائر المعاصي من القتل وترك الصلاة أولى ، ولا غسل في شيء من ذلك بإجماع ، فكيف والقياس كله باطل .
============
188..
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
188 - مسألة : أما غسل الجنابة فيختار - دون أن يجب ذلك فرضا - أن يبدأ بغسل فرجه إن كان من جماع ، وأن يمسح بيده الجدار أو في الأرض بعد غسله ثم يمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاثا ثلاثا ثم يغمس يده في الإناء بعد أن يغسلها ثلاثا فرضا ولا بد ، إن قام من نوم وإلا فلا ، فيخلل أصول شعره حتى يوقن أنه قد بل الجلد ، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثا بيده وأن يبدأ بميامنه ، وأما الفرض الذي لا بد منه فأن يغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها في الماء إن كان قام من نوم وإلا فلا ، ويغسل فرجه إن كان من جماع ، ثم يفيض الماء على رأسه ثم جسده بعد رأسه ولا بد إفاضة يوقن أنه قد وصل الماء إلى بشرة رأسه وجميع شعره وجميع جسده . برهان ذلك قوله - عز وجل - : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فكيفما أتى بالطهور فقد أدى ما افترض الله تعالى عليه . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد هو القطان ، ثنا عوف هو ابن أبي جميلة ، حدثنا أبو رجاء عن عمران هو ابن حصين قال { كنا مع رسول الله ﷺ في سفر ، فذكر الحديث وفيه : أن رسول الله ﷺ أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء وقال : اذهب فأفرغه عليك } . وإنما استحببنا ما ذكرنا قبل لما رويناه بالسند المذكور إلى البخاري ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة { أن النبي ﷺ اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط ثم غسلها ثم توضأ وضوءه للصلاة ، فلما فرغ من غسله غسل رجليه } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عيسى بن يونس ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس حدثتني خالتي ميمونة قالت : { أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه ، ثم غسل سائر جسده ثم تنحى عن مقامه فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده } وقد ذكرنا قوله عليه السلام لأم سلمة : { إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثم تفيضي الماء عليك فإذا بك قد طهرت } . فله أن يقدم غسل فرجه وأعضاء وضوئه قبل رأسه فقط إن شاء ، فإن انغمس في ماء جار فعليه أن ينوي تقديم رأسه على جسده ، ولا يلزمه ذلك في سائر الأغسال الواجبة إذ لم يأت بذلك نص ، إلا أن يصح أن هكذا علمه رسول الله ﷺ في الحيض فنقف عنده وإلا فلا ، ولم يأت ذلك في الحيض إلا من طريق إبراهيم بن المهاجر وهو ضعيف ، ورويناه من طريق عبد بن حميد عن عبد الرزاق ، وليس ذكر الحيض محفوظا عن عبد الرزاق أصلا فإن صح ذلك في الحيض قلنا به ، ولم نستجز مخالفته . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا حفص بن عمر ثنا شعبة أخبرني أشعث بن سليم قال : سمعت أبي عن مسروق عن عائشة قالت : { كان رسول الله ﷺ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله } .
189 - مسألة : - وليس عليه أن يتدلك : وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وداود وأبي حنيفة والشافعي ، وقال مالك بوجوب التدلك . قال أبو محمد : برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وعمرو الناقد وابن أبي عمر ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت : { قلت يا رسول الله : إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ فقال : لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك فتطهرين } . وبهذا جاءت الآثار كلها في صفة غسله عليه السلام ، لا ذكر للتدلك في شيء من ذلك . وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال في الغسل من الجنابة : فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاثا ثم أفض الماء على جلدك . وعن الشعبي والنخعي والحسن في الجنب ينغمس في الماء إنه يجزيه من الغسل . واحتج من رأى التدلك فرضا بأن قال : قد صح الإجماع على أن الغسل إذا تدلك فيه فإنه قد تم ، واختلف فيه إذا لم يتدلك ، فالواجب أن لا يجزئ زوال الجنابة إلا بالإجماع . وذكروا حديثا فيه أن رسول الله { ﷺ علم عائشة الغسل من الجنابة فقال لها عليه السلام : يا عائشة اغسلي يديك ثم قال لها تمضمضي ثم استنشقي وانتثري ثم اغسلي وجهك ثم قال : اغسلي يديك إلى المرفقين ثم قال : أفرغي على رأسك ثم قال : أفرغي على جلدك ثم أمرها تدلك وتتبع بيدها كل شيء لم يمسه الماء من جسدها ثم قال : يا عائشة أفرغي على رأسك الذي بقي ثم ادلكي جلدك وتتبعي } . وبحديث آخر فيه أنه عليه السلام قال { إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر } . وبحديث آخر فيه : { خلل أصول الشعر وأنق البشر } وبحديث آخر فيه : { أن امرأة سألته عليه السلام عن غسل الجنابة . فقال عليه السلام : تأخذ إحداكن ماءها فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ في الطهور ثم تصب الماء على رأسها فتدلك حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض الماء على رأسها } وقال بعضهم : قسنا ذلك على غسل النجاسة لا يجزئ إلا بعرك وقال بعضهم : قوله تعالى : { فاطهروا } دليل على المبالغة . قال أبو محمد : هذا كل ما شغبوا به ، وكله إيهام وباطل . أما قولهم : إن الغسل إذا كان بتدلك فقد أجمع على تمامه ولم يجمع على تمامه دون تدلك فقول فاسد ، أول ذلك أنه ليس ذلك مما يجب أن يراعى في الدين لأن الله تعالى إنما أمرنا باتباع الإجماع فيما صح وجوبه من طريق الإجماع أو صح تحريمه من طريق الإجماع أو صح تحليله من طريق الإجماع ، فهذا هو الحق : وأما العمل الذي ذكروا فإنما هو إيجاب اتباع الاختلاف لا وجوب اتباع الإجماع . وهذا باطل لأن التدلك لم يتفق على وجوبه ولا جاء به نص . وفي العمل الذي ذكروا إيجاب القول بما لا نص فيه ولا إجماع ، وهذا باطل ، ثم هم أول من نقض هذا الأصل ، وإن اتبعوه بطل عليهم أكثر من تسعة أعشار مذاهبهم ، أول ذلك أنه يقال لهم إن اغتسل ولم يمضمض ولا استنشق فأبو حنيفة يقول لا غسل له ولا تحل له الصلاة بهذا الاغتسال ، فيقال لهم : فيلزمكم إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل فرضا لأنهما إن أتى بهما المغتسل فقد صح الإجماع على أنه قد اغتسل ، وإن لم يأت بهما فلم يصح الإجماع على أنه قد اغتسل ، فالواجب أن لا يزول حكم الجنابة إلا بالإجماع . وهكذا فيمن اغتسل بماء من بئر قد بالت فيه شاة فلم يظهر فيها للبول أثر ، وهكذا فيمن نكس وضوءه ، وهذا أكثر من أن يحصر ، بل هو داخل في أكثر مسائلهم ، وما يكاد يخلص لهم ولغيرهم مسألة من هذا الإلزام ، ويكفي من هذا أنه حكم فاسد لم يوجبه قرآن ولا سنة لأن الله تعالى لم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط ، وحكم التدلك مكان تنازع فلا يراعى فيه الإجماع أصلا . وأما خبر عائشة رضي الله عنها فساقط لأنه من طريق عكرمة بن عمار عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن عائشة ، وعكرمة ساقط ، وقد وجدنا عنه حديثا موضوعا في نكاح رسول الله ﷺ أم حبيبة بعد فتح مكة ، ثم هو مرسل ؛ لأن عبد الله بن عبيد بن عمير لم يدرك عائشة ، وأبعد ذكره رواية ابن عمر أيام ابن الزبير ، فسقط هذا الخبر . ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأنه جاء فيه الأمر بالتدلك ، كما جاء فيه بالمضمضة والاستنثار والاستنشاق ولا فرق ، وهم لا يرون شيئا من ذلك فرضا ، وأبو حنيفة يرى كل ذلك فرضا ، ولا يرى التدلك فرضا ، فكلهم إن احتج بهذا الخبر فقد خالفوا حجتهم وأسقطوها ، وعصوا ما أقروا أنه لا يحل عصيانه ، وليس لإحدى الطائفتين من أن تحمل ما وافقها على الفرض وما خالفها على الندب ، إلا مثل ما للأخرى من ذلك ، وأما نحن فإنه لو صح لقلنا بكل ما فيه ، فإذ لم يصح فكله متروك . وأما الخبر { إن تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر } فإنه من رواية الحارس بن وجيه ، وهو ضعيف ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ، لأنه ليس فيه إلا غسل الشعر وإنقاء البشر ، وهذا صحيح ولا دليل على أن ذلك لا يكون إلا بالتدلك ، بل هو تام دون تدلك . وأما الخبر الذي فيه { خلل أصول الشعر وأنق البشر } فهو من رواية يحيى بن عنبسة عن حميد عن أنس ، ويحيى بن عنبسة مشهور برواية الكذب ، فسقط ، ثم لو صح لما كان فيه إلا إيجاب التخليل فقط لا التدلك وهذا خلاف قولهم ، لأنهم لا يختلفون فيمن صب الماء على رأسه ومعك بيديه دون أن يخلله أن يجزيه ، فسقط تعلقهم بهذا الخبر ولله الحمد . وأما حديث { تأخذ إحداكن ماءها } فإنه من طريق إبراهيم بن مهاجر عن صفية عن عائشة ، وإبراهيم هذا ضعيف ، ثم لو صح لما كان إلا عليهم لا لهم ، لأنه ليس فيه إلا دلك شئون رأسها فقط ، وهذا خلاف قولهم ، فسقط كل ما تعلقوا به من الأخبار . وأما قولهم قسنا ذلك على غسل النجاسة ، فالقياس كله باطل ، ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن حكم النجاسة يختلف ، فمنها ما يزال بثلاثة أحجار دون ماء . ومنها ما يزال بصب الماء فقط دون عرك . ومنها ما لا بد من غسله وإزالة عينه فما الذي جعل غسل الجنابة أن يقاس على بعض ذلك دون بعض ؟ فكيف وهو فاسد على أصول أصحاب القياس ، لأن النجاسة عين تجب إزالتها ، وليس في جلد الجنب عين تجب إزالتها ، فظهر فساد قولهم جملة ، وبالله تعالى التوفيق . وأيضا فإن عين النجاسة إذا زال بصب الماء فإنه لا يحتاج فيها إلى عرك ولا دلك ، بل يجزئ الصب ، فهلا قاسوا غسل الجنابة على هذا النوع من إزالة النجاسة فهو أشبه به ؟ إذ كلاهما لا عين هناك تزال . وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إن قوله تعالى : ( فاطهروا ) دليل على المبالغة ، فتخليط لا يعقل ، ولا ندري في أي شريعة وجدوا هذا ، أو في أي لغة ؟ وقد قال تعالى في التيمم { ولكن يريد ليطهركم } وهو مسح خفيف بإجماع منا ومنهم ، فسقط كل ما موهوا به ، ووضح أن التدلك لا معنى له في الغسل ، وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم لهم سلفا من الصحابة رضي الله عنهم في القول بذلك .
190 - مسألة : ولا معنى لتخليل اللحية في الغسل ولا في الوضوء ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وداود . والحجة في ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري ثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال { ألا أخبركم بوضوء رسول الله ﷺ ؟ فتوضأ مرة مرة } . قال علي : وغسل الوجه مرة لا يمكن معه بلوغ الماء إلى أصول الشعر ، ولا يتم ذلك إلا بترداد الغسل والعرك ، وقال - عز وجل - : { فاغسلوا وجوهكم } والوجه هو ما واجه ما قابله بظاهره ، وليس الباطن وجها وذهب إلى إيجاب التخليل قوم ، كما روينا عن مصعب بن سعد أن عمر بن الخطاب رأى قوما يتوضئون ، فقال خللوا وعن ابنه عبد الله أيضا مثل ذلك ، وعن ابن جريج عن عطاء أنه قال : اغسل أصول شعر اللحية ، قال ابن جريج : قلت لعطاء أيحق علي أن أبل أصل كل شعرة في الوجه ؟ قال نعم ، قال ابن جريج : وأن أزيد مع اللحية الشاربين والحاجبين ؟ قال : نعم ، وعن ابن سابط وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير إيجاب تخليل اللحية في الوضوء والغسل ، وروينا عن غير هؤلاء فعل التخليل دون أن يأمروا بذلك ، فروينا عن عثمان بن عفان أنه توضأ فخلل لحيته وعن عمار بن ياسر مثل ذلك ، وعن عبد الله بن أبي أوفى وعن أبي الدرداء وعلي بن أبي طالب مثل ذلك ، وإلى هذا كان يذهب أحمد بن حنبل ، وهو قول أبي البختري وأبي ميسرة وابن سيرين والحسن وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وعبد الرزاق وغيره . قال أبو محمد : واحتج من رأى إيجاب ذلك بحديث رويناه عن أنس { أن رسول الله ﷺ كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال : بهذا أمرني ربي } . وبحديث آخر عن أنس عن رسول الله ﷺ قال : { أتاني جبريل فقال : إن ربك يأمرك بغسل الفنيك والفنيك الذقن خلل لحيتك عند الطهور } وعن ابن عباس { كان رسول الله ﷺ يتطهر ويخلل لحيته ، ويقول : هكذا أمرني ربي ومن طريق وهب هكذا أمرني ربي } . قال أبو محمد : وكل هذا لا يصح ، ولو صح لقلنا به : أما حديث أنس فإنه من طريق الوليد بن زوران وهو مجهول والطريق الآخر فيها عمر بن ذؤيب وهو مجهول والطريق الثالثة من طريق مقاتل بن سليمان وهو مغموز بالكذب ، والطريق الرابعة فيها الهيثم بن جماز وهو ضعيف ، عن يزيد الرقاشي وهو لا شيء ، فسقطت كلها . ثم نظرنا في حديث ابن عباس فوجدناه من طريق نافع مولى يوسف وهو ضعيف منكر الحديث ، والأخرى فيها مجهولون لا يعرفون ، والذي من طريق ابن وهب لم يسم فيه ممن بين ابن وهب ورسول الله ﷺ أحد ، فسقط كل ذلك . وأما من استحب التخليل فاحتجوا بحديث من طريق عثمان بن عفان { أن رسول الله ﷺ كان يخلل لحيته } وعن عمار بن ياسر مثل ذلك . وعن عائشة مثل ذلك . وعن عبد الله بن أوفى مثل ذلك . وعن الحسن مثل ذلك . وعن أبي أيوب مثل ذلك . وعن أنس مثل ذلك . وعن أم سلمة مثل ذلك ، وعن جابر مثل ذلك وعن عمرو بن الحارث مثل ذلك . قال أبو محمد : وهذا كله لا يصح منه شيء : أما حديث عثمان فمن طريق إسرائيل وليس بالقوي ، عن عامر بن شقيق ، وليس مشهورا بقوة النقل . وأما حديث عمار فمن طريق حسان بن بلال المزني وهو مجهول ، وأيضا فلا يعرف له لقاء لعمار وأما حديث عائشة فإنه من طريق رجل مجهول لا يعرف من هو ؟ شعبة يسميه عمرو بن أبي وهب . وأمية بن خالد يسميه عمران بن أبي وهب . وأما حديث ابن أبي أوفى فهو من طريق أبي الورقاء فائد بن عبد الرحمن العطار وهو ضعيف أسقطه أحمد ويحيى والبخاري وغيرهم . وأما حديث أبي أيوب فمن طريق واصل بن السائب وهو ضعيف ، وأبو أيوب المذكور فيه ليس هو أبا أيوب الأنصاري صاحب النبي ﷺ قاله ابن معين . وأما حديث أنس فهو من طريق أيوب بن عبد الله وهو مجهول . وأما حديث أم سلمة فهو من طريق خالد بن إلياس المديني ، من ولد أبي الجهم بن حذيفة العدوي وهو ساقط منكر الحديث ، وليس هو خالد بن إلياس الذي يروي عنه شعبة ، ذا بصري ثقة . وأما حديث جابر فهو من طريق أصرم بن غياث ، وهو ساقط ألبتة لا يحتج به . وأما حديث الحسن وعمرو بن الحارث فمرسلان ، فسقط كل ما في هذا الباب ولقد كان يلزم من يحتج بحديث معاذ " أجتهد رأيي " ويجعله أصلا في الدين وبأحاديث الوضوء بالنبيذ وبالوضوء من القهقهة في الصلاة ، وبحديث بيع اللحم بالحيوان ، ويدعي فيها الظهور والتواتر - أن يحتج بهذه الأخبار فهي أشد ظهورا وأكثر تواترا - من تلك ، ولكن القوم إنما همهم نصر ما هم فيه في الوقت فقط . واحتج أيضا من رأى التخليل بأن قالوا : وجدنا الوجه يلزم غسله بلا خلاف قبل نبات اللحية ، فلما نبتت ادعى قوم سقوط ذلك وثبت عليه آخرون ، فواجب أن لا يسقط ما اتفقنا عليه إلا بنص آخر أو إجماع قال أبو محمد : وهذا حق ، وقد سقط ذلك بالنص ؛ لأنه إنما يلزم غسله ما دام يسمى وجها ، فلما خفي بنبات الشعر سقط عنه اسم الوجه ، وانتقل هذا الاسم إلى ما ظهر على الوجه من الشعر ، وإذ سقط اسمه سقط حكمه ، وبالله تعالى التوفيق .
191 - مسألة : وليس على المرأة أن تخلل شعر ناصيتها أو ضفائرها في غسل الجنابة فقط ، لما ذكرناه قبل هذا ببابين في باب التدلك وهو قول الحاضرين من المخالفين لنا .
192 - مسألة : ويلزم المرأة حل ضفائرها وناصيتها في غسل الحيض وغسل الجمعة والغسل من غسل الميت ومن النفاس . لما حدثناه يونس بن عبد الله بن مغيث ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي ﷺ قال لها في الحيض { انقضي رأسك واغتسلي } . قال علي : والأصل في الغسل الاستيعاب لجميع الشعر ، وإيصال الماء إلى البشرة بيقين ، بخلاف المسح ، فلا يسقط ذلك إلا حيث أسقطه النص ، وليس ذلك إلا في الجنابة فقط ، وقد صح الإجماع بأن غسل النفاس كغسل الحيض . فإن قيل : فإن عبد الله بن يوسف حدثكم قال : ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثنا عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة أم المؤمنين قالت { يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيضة والجنابة ؟ قال : لا } . قال علي : قوله ههنا راجع إلى الجنابة لا غير ، وأما النقض في الحيض فالنص قد ورد به ، ولو كان كذلك لكان الأخذ به واجب إلا أن حديث عائشة رضي الله عنها نسخ ذلك بقول النبي ﷺ لها في غسل الحيض { انقضي رأسك واغتسلي } فوجب الأخذ بهذا الحديث . قال علي : قلنا نعم ، إلا أن حديث هشام بن عروة عن عائشة الوارد بنقض ضفرها في غسل الحيضة - هو زائد حكما ومثبت شرعا على حديث أم سلمة ، والزيادة لا يجوز تركها . قال أبو محمد : وقد روينا حديثا ساقطا عن عبد الملك بن حبيب عن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن رسول الله ﷺ في المرأة تغتسل من حيضة أو جنابة { لا تنقض شعرها } وهذا حديث لو لم يكن فيه إلا ابن لهيعة لكفى سقوطا ، فكيف وفيه عبد الملك بن حبيب وحسبك به ، ثم لم يقل فيه أبو الزبير " حدثنا " وهو مدلس في جابر ما لم يقله . فإن قيل : قسنا غسل الحيض على غسل الجنابة ، قلنا القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأن الأصل يقين إيصال الماء إلى جميع الشعر ، وهم يقولون : إن ما خرج عن أصله لم يقس عليه ، وأكثرهم يقول : لا يؤخذ به كما فعلوا في حديث المصراة ، وخبر جعل الآبق ، وغير ذلك . فإن قيل : فإن عائشة قد أنكرت نقض الضفائر ، كما حدثكم عبد الله بن يوسف قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ثنا إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال { بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت : يا عجبا لابن عمرو هذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن . أولا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن ؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد ، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات } . قال أبو محمد : هذا لا حجة علينا فيه لوجوه : أحدها أن عائشة رضي الله عنها لم تعن بهذا إلا غسل الجنابة فقط وهكذا نقول ، وبيان ذلك إحالتها في آخر الحديث على غسلها مع رسول الله ﷺ من إناء واحد ، وهذا إنما هو بلا شك للجنابة لا للحيض ، والثاني أنه لو صح فيه أنها أرادت الحيض لما كان علينا فيه حجة لأننا لم نؤمر بقبول رأيها ، إنما أمرنا بقبول روايتها ، فهذا هو الفرض اللازم ، والثالث أنه قد خالفها عبد الله بن عمرو ، وهو صاحب ، وإذا وقع التنازع ، وجب الرد إلى القرآن والسنة ، لا إلى قول أحد المتنازعين دون الآخر ، وفي السنة ما ذكرنا ، والحمد لله رب العالمين .
193 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب - أي غسل كان - في ماء جار أجزأه إذا نوى به ذلك الغسل ، وكذلك لو وقف تحت ميزاب ونوى به ذلك الغسل أجزأه ، إذا عم جميع جسده ، لما قد ذكرنا من أن التدلك لا معنى له ، وهو قد تطهر واغتسل كما أمر ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وداود وغيرهم .
=================
194-
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
194 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب في ماء راكد ، ونوى الغسل أجزأه من الحيض ومن النفاس ومن غسل الجمعة ومن الغسل من غسل الميت ولم يجزه للجنابة ، فإن كان جنبا ونوى بانغماسه في الماء الراكد غسلا من هذه الأغسال ولم ينو غسل الجنابة أو نواه ، لم يجزه أصلا لا للجنابة ولا لسائر الأغسال ، والماء في كل ذلك طاهر بحسبه ، قل أو كثر ، مطهر له إذا تناوله ، ولغيره على كل حال ، وسواء في كل ما ذكرنا كان ماء قليلا في مطهرة أو جب أو بئر ، أو كان غديرا راكدا فراسخ في فراسخ ، كل ذلك سواء . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب ثنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ : { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } فقيل : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولا " . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن محمد بن عجلان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة } . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال " كنا نستحب أن نأخذ من ماء الغدير ونغتسل به في ناحية " . قال أبو محمد ، فنهى رسول الله ﷺ الجنب عن أن يغتسل في الماء الدائم - في رواية أبي السائب عن أبي هريرة - جملة فوجب منه أن كل من اغتسل وهو جنب في ماء دائم ، فقد عصى الله تعالى إن كان عالما بالنهي ، ولا يجزيه لأي غسل نواه ، لأنه خالف ما أمره به رسول الله ﷺ جملة . وهذا الحديث أعم من حديث ابن عجلان عن أبيه ، لأنه لو لم يكن إلا حديث ابن عجلان لأجزأ الجنب أن يغتسل في الماء الدائم لغير الجنابة ، لكن العموم وزيادة العدل لا يحل خلافها . وممن رأى أن اغتسال الجنب في الماء الدائم لا يجزيه أبو حنيفة ، إلا أنه عم بذلك كل غسل وكل وضوء ، وخص بذلك ما كان دون الغدير الذي إذا حرك طرفه لم يتحرك الآخر ، ورأى الماء يفسد بذلك ، فكان ما زاد بذلك على أمر رسول الله ﷺ - من عموم كل غسل - خطأ ، ومن تنجيس الماء وكان ما نقص بذلك من أمره عليه السلام من تخصيصه بعض المياه الرواكد دون بعض - خطأ وكان ما وافق فيه أمره عليه السلام صوابا ، وقاله أيضا الحسن بن حي ، إلا أنه خص به ما دون الكر من الماء ، فكان هذا التخصيص خطأ . وقال به أيضا الشافعي ، إلا أنه خص به ما دون خمسمائة رطل ، فكان هذا التخصيص خطأ ، وعم به كل غسل ، فكان هذا الذي زاده خطأ ، ورأى الماء لا يفسد ، فأصاب ، وكره مالك ذلك . وأجازه إذا وقع ، فكان هذا منه خطأ ، لأن رسول الله ﷺ قال : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ومن المحال أن يجزئ غسل نهى عنه رسول الله ﷺ عن غسل أمر به ، أبى الله أن تنوب المعصية عن الطاعة وأن يجزئ الحرام مكان الفرض . وقولنا هو قول أبي هريرة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم ، وما نعلم لهما في ذلك مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : فلو غسل الجنب شيئا من جسده في الماء الدائم لم يجزه ، ولو أنه شعرة واحدة ، لأن بعض الغسل غسل ، ولم ينه عليه السلام عن أن يغتسل غير الجنب في الماء الدائم { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } { وما كان ربك نسيا } فصح أن غير الجنب يجزيه أن يغتسل في الماء الدائم لكل غسل واجب أو غير واجب ، وبالله تعالى التوفيق .
195 - مسألة : ومن أجنب يوم الجمعة من رجل أو امرأة - فلا يجزيه إلا غسلان غسل ينوي به الجنابة ولا بد ، وغسل آخر ينوي به الجمعة ولا بد ، فلو غسل ميتا أيضا لم يجزه إلا غسل ثالث ينوي به ولا بد ، فلو حاضت امرأة بعد أن وطئت فهي بالخيار إن شاءت عجلت الغسل للجنابة وإن شاءت أخرته حتى تطهر ، فإذا طهرت لم يجزها إلا غسلان ، غسل تنوي به الجنابة وغسل آخر تنوي به الحيض ، فلو صادفت يوم جمعة وغسلت ميتا لم يجزها إلا أربعة أغسال كما ذكرنا فلو نوى بغسل واحد غسلين مما ذكرنا فأكثر ، لم يجزه ولا لواحد منهما ، وعليه أن يعيدهما ، وكذلك إن نوى أكثر من غسلين ، ولو أن كل من ذكرنا يغسل كل عضو من أعضائه مرتين إن كان عليه غسلان - أو ثلاثا - إن كان عليه ثلاثة أغسال - أو أربعا - إن كان عليه أربعة أغسال - ونوى في كل غسلة الوجه الذي غسله له أجزأه ذلك وإلا فلا ، فلو أراد من ذكرنا : الوضوء لم يجزه إلا المجيء بالوضوء بنية الوضوء مفردا عن كل غسل ذكرنا ، حاشا غسل الجنابة وحده فقط فإنه إن نوى بغسل أعضاء الوضوء غسل الجنابة والوضوء معا أجزأه ذلك ، فإن لم ينو إلا الغسل فقط لم يجزه للوضوء ولو نواه للوضوء فقط لم يجزه للغسل ، ولا يجزئ للوضوء ما ذكرنا إلا مرتبا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . برهان ذلك قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } فصح يقينا أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذ قد صح ذلك فمن الباطل أن يجزئ عمل واحد عن عملين أو عن أكثر ، وصح يقينا أنه إن نوى أحد ما عليه من ذلك فإنما له - بشهادة رسول الله ﷺ الصادقة - الذي نواه فقط وليس له ما لم ينوه ، فإن نوى بعمله ذلك غسلين فصاعدا فقد خالف ما أمر به ، لأنه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكرنا ، فلم يفعل ذلك ، والغسل لا ينقسم ، فبطل عمله كله ، لقول رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وأما غسل الجنابة والوضوء فإنه أجزأ فيهما عمل واحد بنية واحدة لهما جميعا للنص الوارد في ذلك ، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن يوسف ثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي ﷺ { كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ، ثم يفيض الماء على جلده كله } . وهكذا رواه أبو معاوية وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وغيرهم عن هشام عن أبيه عن عائشة . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عيسى بن يونس ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال : حدثتني خالتي ميمونة قالت { أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه ، ثم غسل سائر جسده ، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده } فهذا رسول الله ﷺ لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ، ونحن نشهد الله أن رسول الله ﷺ ما ضيع نية كل عمل افترضه الله عليه ، فوجب ذلك في غسل الجنابة خاصة وبقيت سائر الأغسال على حكمها قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يجزئ غسل واحد للجنابة والحيض . وقال بعض أصحاب مالك : يجزئ غسل واحد للجمعة والجنابة ، وقال بعضهم : إن نوى الجنابة يجزه من الجمعة ، وإن نوى الجمعة أجزأه ، من الجنابة قال علي : وهذا في غاية الفساد ، لأن غسل الجمعة عندهم تطوع ، فكيف يجزئ تطوع عن فرض ؟ أم كيف تجزئ نية في فرض لم تخلص وأضيف إليها نية تطوع ؟ إن هذا لعجب قال علي : واحتجوا في ذلك بأن قالوا : وجدنا وضوءا واحدا وتيمما واحدا يجزئ عن جميع الأحداث الناقضة للوضوء ، وغسلا واحدا يجزئ عن جنابات كثيرة ، وغسلا واحدا يجزئ عن حيض أيام ، وطوافا واحدا يجزئ عن عمرة وحج في القرآن ، فوجب أن يكون كذلك كل ما يوجب الغسل . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه لو صح القياس لم يكن القياس لأن يجزئ غسل واحد عن غسلين مأمور بهما على ما ذكروا في الوضوء : بأولى من أن يقاس حكم من عليه غسلان على من عليه يومان من - شهر رمضان ، أو رقبتان عن ظهارين ، أو كفارتان عن يمينين ، أو هديان عن متعتين ، أو صلاتا ظهر من يومين ، أو درهمان من عشرة دراهم عن مالين مختلفين ، فيلزمهم أن يجزئ في كل ذلك صيام يوم واحد ، ورقبة واحدة ، وكفارة واحدة ، وهدي واحد ، وصلاة واحدة ودرهم واحد ، وهكذا في كل شيء من الشريعة وهذا ما لا يقوله أحد ، فبطل قياسهم الفاسد . ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : أما الوضوء فإن رسول الله ﷺ قال : { لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ } وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده في باب الحدث في الصلاة ، فصح بهذا الخبر أن الوضوء من الحدث جملة ، فدخل في ذلك كل حدث . وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فدخل في ذلك كل جنابة . وصح أيضا عن رسول الله ﷺ وضوء واحد للصلاة من كل حدث سلف ، من نوم وبول وحاجة المرء وملامسة ، وإنه عليه السلام كان يطوف على نسائه بغسل واحد كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا هشيم ثنا حميد الطويل عن أنس { أن رسول الله ﷺ كان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد } . وأما - طواف واحد وسعي واحد في القران عن الحج والعمرة ، فلقول رسول الله ﷺ : { طواف واحد يكفيك لحجك وعمرتك } وقوله عليه السلام : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . والعجب كله من أبي حنيفة إذ يجزئ عنده غسل واحد عن الحيض والجنابة والتبرد ، ولا يجزئ عنده للحج والعمرة في القران إلا طوافان وسعيان . وهذا عكس الحقائق وإبطال السنن . قال أبو محمد " وممن قال بقولنا جماعة من السلف كما روينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا حبيب وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وعبد الأعلى وبشر بن منصور . قال حبيب عمرو بن هرم قال : سئل جابر بن زيد هو أبو الشعثاء - عن المرأة تجامع ثم تحيض ؟ قال عليها أن تغتسل - يعني للجنابة - وقال سفيان عن ليث والمغيرة بن مقسم وهشام بن حسان . قال ليث : عن طاوس ، وقال المغيرة عن إبراهيم النخعي . وقال هشام عن الحسن . قالوا كلهم في المرأة تجنب ثم تحيض أنها تغتسل - يعنون للجنابة - وقال ابن المبارك عن الحجاج عن ميمون بن مهران وعمرو بن شعيب في المرأة تكون جنبا ثم تحيض ، قالا جميعا : تغتسل ، يعنيان للجنابة ، قال وسألت عنها الحكم بن عتيبة قال : تصب عليها الماء ، غسلة دون غسلة وقال عبد الأعلى ثنا معمر ويونس بن عبيد وسعيد بن أبي عمرويه ، قال معمر عن الزهري ، وقال يونس عن الحسن وقال سعيد عن قتادة قالوا كلهم في المرأة تجامع ثم تحيض ، أنها تغتسل لجنابتها ، وقال بشر بن منصور عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح في المرأة تجامع ثم تحيض أنها تغتسل ، فإن أخرت فغسلان عند طهرها . فهؤلاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران ، وهو قول داود وأصحابنا .
196 - مسألة : ويكره للمغتسل أن يتنشف في ثوب غير ثوبه الذي يلبس ، فإن فعل فلا حرج ، ولا يكره ذلك في الوضوء . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن مفرج ثنا ابن السكن ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا أبو عوانة ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة بنت الحارث قالت { وضعت لرسول الله ﷺ غسلا وسترته - فذكرت صفة غسله عليه السلام قالت - وغسل رأسه ثم صب على جسده ، ثم تنحى فغسل قدميه ، فناولته خرقة ، فقال بيده هكذا ولم يردها } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا هشام ثنا أبو مروان ومحمد بن المثنى قالا حدثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : { زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ أمر له سعد بغسل فاغتسل ، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها رسول الله ﷺ } . قال أبو محمد : هذا لا يضاد الأول ، لأنه عليه السلام اشتمل فيها فصارت لباسه حينئذ ، وقال بهذا بعض السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : أنه سئل عن المنديل المهذب أيمسح به الرجل الماء ؟ فأبى أن يرخص فيه ، وقال هو شيء أحدث . قلت : أرأيت إن كنت أريد أن يذهب عني المنديل برد الماء قال فلا بأس به إذن ، ولم ينه عليه السلام عن ذلك في الوضوء فهو مباح فيه .
197 - مسألة : وكل غسل ذكرنا فللمرء أن يبدأ به من رجليه أو من أي أعضائه شاء ، حاشا غسل الجمعة والجنابة ، فلا يجزئ فيهما إلا البداءة بغسل الرأس أولا ثم الجسد ، فإن انغمس في ماء فعليه أن ينوي البداءة برأسه ثم بجسده ولا بد . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - الذي قد ذكرناه بإسناده { حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل رأسه وجسده } وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال { ابدءوا بما بدأ الله به } وسنذكره في ترتيب الوضوء بإسناده إن شاء الله تعالى . وقد بدأ عليه السلام بالرأس قبل الجسد ، وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح أن ما ابتدأ به رسول الله ﷺ في نطقه فعن وحي أتاه من عند الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي بدأ بالذي بدأ به رسول الله ﷺ .
198 - مسألة : وصفة الوضوء أنه إن كان انتبه من نوم فعليه أن يغسل يديه ثلاثا كما قد ذكرنا قبل ، وأن يستنشق وأن يستنثر ثلاثا ليطرد الشيطان عن خيشومه كما قد وصفنا ، وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد ، فإن كان قد فعل كل ذلك فليس عليه أن يعيد ذلك الوضوء من حدث غير النوم ، فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزمه غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه ، ثم نختار له أن يتمضمض ثلاثا ، وليست المضمضة فرضا ، وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة ، عمدا تركها أو نسيانا ، ثم ينوي وضوءه للصلاة كما قدمنا ، ثم يضع الماء في أنفه ويجبذه بنفسه ولا بد ، ثم ينثره بأصابعه ولا بد مرة فإن فعل الثانية والثالثة فحسن ، وهما فرضان لا يجزئ الوضوء ولا الصلاة دونهما ، لا عمدا ولا نسيانا ، ثم يغسل وجهه من حد منابت الشعر في أعلى الجبهة إلى أصول الأذنين معا إلى منقطع الذقن ويستحب أن يغسل ذلك ثلاثا أو ثنتين وتجزئ مرة ، ليس عليه أن يمس الماء ما انحدر من لحيته تحت ذقنه ، ولا أن يخلل لحيته ، ثم يغسل ذراعيه من منقطع الأظفار إلى أول المرافق مما يلي الذراعين ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ، وتجزئ مرة ، ولا بد ضرورة من إيصال الماء بيقين إلى ما تحت الخاتم بتحريكه عن مكانه ، ثم يمسح رأسه كيفما مسحه أجزأه ، وأحب إلينا أن يعم رأسه بالمسح ، فكيفما مسحه بيديه أو بيد واحدة أو بأصبع واحدة أجزأه . فلو مسح بعض رأسه أجزأه وإن قل ، ونستحب أن يمسح رأسه ثلاثا أو مرتين وواحدة تجزئ ، وليس على المرأة والرجل مس ما انحدر من الشعر عن منابت الشعر على القفا والجبهة ثم يستحب له مسح أذنيه ، إن شاء بما مسح به رأسه وإن شاء بماء جديد ، ويستحب تجديد الماء لكل عضو ، ثم يغسل رجليه من مبتدإ منقطع الأظفار إلى آخر الكعبين مما يلي الساق ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ومرة تجزئ ، وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء ، وإن لم يفعل فوضوءه تام . أما قولنا في المضمضة فلم يصح بها عن رسول الله ﷺ أمر ، وإنما هي فعل فعله عليه السلام ، وقد قدمنا أن أفعاله ﷺ ليست فرضا ، وإنما فيها الإيتار به عليه السلام ، لأن الله تعالى إنما أمرنا بطاعة أمر نبيه عليه السلام ولم يأمرنا بأن نفعل أفعاله . قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأما الاستنشاق والاستنثار فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان هو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر } ورويناه أيضا من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مسندا ، ومن طريق سلمة بن قيس عن رسول الله ﷺ قال علي : قال مالك والشافعي : ليس الاستنشاق والاستنثار فرضا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة ، وقال أبو حنيفة : هما فرض في الغسل من الجنابة وليسا فرضا في الوضوء ، وقال أحمد بن حنبل وداود : الاستنشاق والاستنثار فرضان في الوضوء وليسا فرضين في الغسل من الجنابة ، وليست المضمضة فرضا لا في الوضوء ولا في غسل الجنابة ، وهذا هو الحق . وممن صح عنه الأمر بذلك جماعة من السلف . روينا عن علي بن أبي طالب إذا توضأت فانثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ، وعن شعبة : قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض ويستنشق قال : يستقبل . وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض ويستنشق قال : أحب إلي أن يعيد يعني الصلاة . وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى قالا جميعا " إذا نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد " يعنون الصلاة - وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد - يعني الصلاة - وعن ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هشام عن الحسن في المضمضة والاستنشاق والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين : ثنتان تجزيان وثلاث أفضل . قال علي وشغب قوم بأن الاستنشاق والاستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى يقول : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فكل ما أمر به رسول الله ﷺ فالله تعالى أمر به . وأما قولنا في الوجه ، فإنه لا خلاف في أن الذي قلنا فرض غسله قبل خروج اللحية ، فإذا خرجت اللحية فهي مكان ما سترت ، ولا يسقط غسل شيء يقع عليه اسم الوجه بالدعوى ، ولا يجوز أن يؤخذ بالرأي فرق بين ما يغسل الأمرد من وجهه والكوسج والألحى . وأما ما انحدر عن الذقن من اللحية وما انحدر عن منابت الشعر من القفا والجبهة ، فإنما أمرنا عز وجل بغسل الوجه ومسح الرأس وبالضرورة يدري كل أحد أن رأس الإنسان ليس في قفاه ، وأن الجبهة من الوجه المغسول ، لا حظ فيها للرأس الممسوح ، وأن الوجه ليس في العنق ولا في الصدر فلا يلزم في كل ذلك شيء ، إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة . وأما قولنا في غسل الذراعين وما تحت الخاتم والمرفقين ، فإن الله تعالى قال : { وأيديكم إلى المرافق } فمن ترك شيئا ولو قدر شعرة مما أمر الله تعالى بغسله فلم يتوضأ كما أمره الله تعالى ، ومن لم يتوضأ كما أمره الله تعالى فلم يتوضأ أصلا ، ولا صلاة له فوجب إيصال الماء بيقين إلى ما ستر الخاتم من الأصبع ، وأما المرافق فإن " إلى " في لغة العرب التي بها نزل القرآن تقع على معنيين ، تكون بمعنى الغاية ، وتكون بمعنى مع ، قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } بمعنى مع أموالكم ، فلما كانت تقع " إلى " على هذين المعنيين وقوعا صحيحا مستويا ، لم يجز أن يقتصر بها على أحدهما دون الآخر ، فيكون ذلك تخصيصا لما تقع عليه بلا برهان ، فوجب أن يجزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين ، فيجزئ ، فإن غسل المرافق فلا بأس أيضا . وأما قولنا في مسح الرأس فإن الناس اختلفوا ، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء . وقال أبو حنيفة يمسح من الرأس فرضا مقدار ثلاث أصابع ، وذكر عنه تحديد الفرض مما يمسح من الرأس بأنه ربع الرأس ، وإنه إن مسح رأسه بأصبعين أو بأصبع لم يجزه ذلك ، فإن مسح بثلاث أصابع أجزأه . وقال سفيان الثوري : يجزئ من الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة ، ويجزئ مسحه بأصبع وببعض أصبع ، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين ، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع ، وأحب ذلك إلى الشافعي العموم بثلاث مرات . وقال أحمد بن حنبل : يجزئ المرأة أن تمسح بمقدم رأسها ، وقال الأوزاعي والليث : يجزئ مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك ، وقال داود : يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح . وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر وأحب إليه العموم ثلاثا ، وهذا هو الصحيح ، وأما الاقتصار على بعض الرأس فإن الله تعالى يقول : { وامسحوا برءوسكم } والمسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف ، والغسل يقتضي الاستيعاب والمسح لا يقتضيه حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا التيمي هو سليمان - عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن هو البصري - عن ابن المغيرة بن شعبة هو حمزة - عن أبيه { أن رسول الله ﷺ توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة } حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود ثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه { أن رسول الله ﷺ كان يمسح على الخفين وعلى ناصيته وعلى عمامته } قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة . وممن قال بهذا جماعة من السلف . روينا عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط . ورويناه أيضا من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر . وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير : إنها كانت تمسح عارضها الأيمن بيدها اليمنى ، وعارضها الأيسر بيدها اليسرى من تحت الخمار وفاطمة هذه أدركت جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وروت عنها . وعن وكيع عن قيس عن أبي هاشم عن النخعي قال : إن أصاب هذا - يعني مقدم رأسه وصدغيه - أجزأه - يعني في الوضوء - وعن وكيع عن إسماعيل الأزرق عن الشعبي قال : إن مسح جانب رأسه أجزأه وروي أيضا عن عطاء وصفية بنت أبي عبيد وعكرمة والحسن وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم . قال أبو محمد : ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف لما رويناه عن ابن عمر في ذلك ، ولا حجة لمن خالفنا فيمن روى عنه من الصحابة وغيرهم مسح جميع رأسه ؛ لأننا لا ننكر ذلك بل نستحبه ، وإنما نطالبهم بمن أنكر الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء فلا يجدونه . قال علي : ومن خالفنا في هذا فإنهم يتناقضون ، فيقولون في المسح على الخفين : إنه خطوط لا يعم الخفين ، فما الفرق بين مسح الخفين ومسح الرأس ؟ وأخرى وهي أن يقال لهم : إن كان المسح عندكم يقتضي العموم فهو والغسل سواء ، وما الفرق بينه وبين الغسل ؟ وإن كان كذلك فلم تنكرون مسح الرجلين في الوضوء وتأبون إلا غسلهما إن كان كلاهما يقتضي العموم ؟ وأيضا فإنكم لا تختلفون في أن غسل الجنابة يلزم تقصي الرأس بالماء ، وأن ذلك لا يلزم في الوضوء ، فقد أقررتم بأن المسح بالرأس خلاف الغسل ، وليس هنا فرق إلا أن المسح لا يقتضي العموم فقط ، وهذا ترك لقولكم . وأيضا فما تقولون فيمن ترك بعض شعرة واحدة في الوضوء فلم يمسح عليها ؟ فمن قولهم : إنه يجزيه ، وهذا ترك منهم لقولهم . فإن قالوا : إنما نقول بالأغلب ، قيل لهم : فترك شعرتين أو ثلاثا ؟ وهكذا أبدا ، فإن حدوا حدا قالوا بباطل لا دليل عليه ، وإن تمادوا صاروا إلى قولنا ، وهو الحق . فإن قالوا : من عم رأسه فقد صح أنه توضأ ، ومن لم يعمه فلم يتفق على أنه توضأ قلنا لهم فأوجبوا بهذا الدليل نفسه الاستنشاق فرضا والترتيب فرضا ، وغير ذلك مما فيه ترك لجمهور مذهبهم . إن قالوا : مسحه عليه السلام مع ناصيته على عمامته يدل على العموم ، قلنا : هذا أعجب شيء لأنكم لا تجيزون ذلك من فعل من فعله ، فكيف تحتجون بما لا يجوز عندكم وأيضا فمن لكم بأنه فعل واحد ؟ بل هما فعلان متغايران على ظاهر الأخبار في ذلك . وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس أو لمقدار ثلاثة أصابع ففاسد ؛ لأنه قول لا دليل عليه ، فإن قالوا : هو مقدار الناصية ، قلنا لهم : ومن لكم بأن هذا هو مقدار الناصية ؟ والأصابع تختلف ، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة وهذا باطل ، وكذلك قولهم في منع المسح بأصبع أو بأصبعين . فإن قالوا : إنما أردنا أكثر اليد ، قلنا لهم : أنتم لا توجبون المسح باليد فرضا ، بل تقولون إنه لو وقف تحت ميزاب فمس الماء منه مقدار ربع رأسه أجزأه ، فظهر فساد قولهم . ويسألون أيضا عن قولهم بأكثر اليد ؟ فإنهم لا يجدون دليلا على تصحيحه ، وكذلك يسألون عن اقتصارهم على مقدار الناصية ؟ فإن قالوا : اتباعا للخبر في ذلك ، قيل لهم : فلم تعديتم الناصية إلى مؤخر الرأس ؟ وما الفرق بين تعديكم الناصية إلى غيرها وبين تعدي مقدارها إلى غير مقدارها ؟ وأما قول الشافعي فإن النص لم يأت بمسح الشعر فيكون ما قال من مراعاة عدد الشعر ، وإنما جاء القرآن بمسح الرأس ، فوجب أن لا يراعى إلا ما يسمى مسح الرأس فقط ، والخبر الذي ذكرنا عن النبي ﷺ في ذلك هو بعض ما جاء به القرآن فالآية أعم من ذلك الخبر ، وليس في الخبر منع من استعمال الآية ، ولا دليل على الاقتصار على الناصية فقط . وبالله تعالى التوفيق .
199 - مسألة : وأما مسح الأذنين فليسا فرضا ، ولا هما من الرأس لأن الآثار في ذلك واهية كلها ، قد ذكرنا فسادها في غير هذا المكان ، ولا يختلف أحد في أن البياض الذي بين منابت الشعر من الرأس وبين الأذنين ليس هو من الرأس في حكم الوضوء ، فمن المحال أن يكون يحول بين أجزاء رأس الحي عضو ليس من الرأس ، وأن يكون بعض رأس الحي مباينا لسائر رأسه ، وأيضا فلو كان الأذنان من الرأس لوجب حلق شعرهما في الحج ، وهم لا يقولون هذا . وقد ذكرنا البرهان على صحة الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء ، فلو كان الأذنان من الرأس لأجزأ أن يمسحا عن مسح الرأس . وهذا لا يقوله أحد ، ويقال لهم : إن كانتا من الرأس فما بالكم تأخذون لهما ماء جديدا وهما بعض الرأس ؟ وأين رأيتم عضوا يجدد لبعضه ماء غير الماء الذي مسح به سائره . ثم لو صح الأثر أنهما من الرأس لما كان علينا في ذلك نقض لشيء من أقوالنا . وبالله تعالى التوفيق .
============
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
200 - مسألة : وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح . قال الله تعالى : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرءوس : إما على اللفظ وإما على الموضع ، لا يجوز غير ذلك . لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة . وهكذا جاء عن ابن عباس : نزل القرآن بالمسح - يعني في الرجلين في الوضوء - وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري ، ورويت في ذلك آثار . منها أثر من طريق همام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه - هو رفاعة بن رافع - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : إنها { لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين } . وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي " كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله ﷺ يمسح ظاهرهما " . قال علي بن أحمد : وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { تخلف النبي ﷺ في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا } . كتب إلي سالم بن أحمد قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي ثنا عمر بن محمد السجستاني ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن هلال بن إساف عن أبي يحيى هو مصدع الأعرج - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { خرجنا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر ، فتوضئوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ، فقال رسول الله ﷺ : ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء } فأمر عليه السلام بإسباغ الوضوء في الرجلين ، وتوعد بالنار على ترك الأعقاب . فكان هذا الخبر زائدا على ما في الآية ، وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخا لما فيها ، ولما في الآية والأخذ بالزائد واجب ، ولقد كان يلزم من يقول بترك الأخبار للقرآن أن يترك هذا الخبر للآية ، ولقد كان يلزم من يترك الأخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر : لأننا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم ، كما يسقط الرأس فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته أولى من حملهما على ما لا يثبتان بثباته . وأيضا فالرجلان مذكوران مع الرأس ، فكان حملهما على ما ذكرا معه أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه . وأيضا فالرأس طرف والرجلان طرف ، فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط ، وأيضا فإنهم يقولون بالمسح على الخفين ، فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل . وأيضا فإنه لما جاز المسح على ساتر للرجلين ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين دل - على أصول أصحاب القياس - أن أمر الرجلين أخف من أمر الوجه والذراعين ، فإذ ذلك كذلك فليس إلا المسح ولا بد . فهذا أصح قياس في الأرض لو كان القياس حقا . وقد قال بعضهم : قد سقط حكم الجسد في التيمم ولم يدل ذلك على أن حكمه المسح . قال أبو محمد : فنقول صدقت وهذا يبطل قولكم بالقياس ، ويريكم تفاسده كله وبالله تعالى التوفيق . وهكذا كل ما رمتم الجمع بينهما بالقياس ، لاجتماعهما في بعض الصفات ، فإنه لا بد فيهما من صفة يفترقان فيها . قال علي : وقال بعضهم : لما قال الله تعالى في الرجلين { إلى الكعبين } كما قال في الأيدي { إلى المرافق } دل على أن حكم الرجلين حكم الذراعين ، قيل له : ليس ذكر المرفقين والكعبين دليلا على وجوب غسل ذلك ؛ لأنه تعالى قد ذكر الوجه ولم يذكر في مبلغه حدا وكان حكمه الغسل ، لكن لما أمر الله تعالى في الذراعين بالغسل كان حكمهما الغسل ، وإذا لم يذكر ذلك في الرجلين وجب أن لا يكون حكمهما ما لم يذكر فيهما إلا أن يوجبه نص آخر قال علي : والحكم للنصوص لا للدعاوى والظنون . وبالله تعالى التوفيق .
201 - مسألة : وكل ما لبس على الرأس من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك : أجزأ المسح عليها ، المرأة والرجل سواء في ذلك ، لعلة أو غير علة . برهان ذلك حديث المغيرة الذي ذكرنا آنفا ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني الحكم بن موسى ثنا بشر بن إسماعيل عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - حدثني عمرو بن أمية الضمري { أنه رأى رسول الله ﷺ يمسح على الخفين والعمامة } . ورويناه من طريق البخاري عن عبدان عن عبد الله بن داود الخريبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه . وهذا قوة للخبر لأن أبا سلمة سمعه من عمرو بن أمية الضمري سماعا ، وسمعه أيضا من جعفر ابنه عنه كما فعل بكر بن عبد الله المزني الذي سمع حديث المغيرة من حمزة بن المغيرة وسمعه أيضا من الحسن عن حمزة . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - قال أبو بكر وأبو كريب : ثنا معاوية وقال ابن راهويه ، ثنا عيسى بن يونس ، ثم اتفق أبو معاوية وعيسى كلاهما عن الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال { أن رسول الله ﷺ مسح على الخفين والخمار } وروينا أيضا من طريق أبي إدريس الخولاني عن بلال { أنه عليه السلام مسح على العمامة والموقين } وروينا أيضا من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن سلمان ومن طريق مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر { رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على الموقين والخمار } . فهؤلاء ستة من الصحابة رضي الله عنهم : المغيرة بن شعبة وبلال وسلمان وعمرو بن أمية وكعب بن عجرة وأبو ذر ، كلهم يروي ذلك عن رسول الله ﷺ بأسانيد لا معارض لها ولا مطعن فيها . وبهذا القول يقول جمهور الصحابة والتابعين ، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير وإسماعيل بن علية كلاهما عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي قال : رأيت أبا بكر الصديق يمسح على الخمار ، يعني في الوضوء . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة قال : سأل نباتة الجعفي عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة ؟ فقال له عمر بن الخطاب : إن شئت فامسح على العمامة وإن شئت فدع . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن أبي جعفر عبد الله بن عبد الله الرازي عن زيد بن أسلم قال : قال عمر بن الخطاب : من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله . وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس كلاهما عن أنس بن مالك : أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة ، وهذه أسانيد في غاية الصحة . وعن الحسن البصري عن أمه : أن أم سلمة أم المؤمنين كانت تمسح على الخمار وعن سلمان الفارسي : أنه قال لرجل : امسح على خفيك وعلى خمارك ، وامسح بناصيتك . وعن أبي موسى الأشعري : أنه خرج من حدث فمسح على خفيه وقلنسوته وعن أبي أمامة الباهلي أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة وعن علي بن أبي طالب : أنه سئل عن المسح على الخفين ؟ فقال نعم ، وعلى النعلين والخمار . وهو قول سفيان الثوري ، رويناه عن عبد الرزاق عنه قال : القلنسوة بمنزلة العمامة - يعني في جواز المسح عليها - وهو قول الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وغيرهم . وقال الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله ﷺ فبه أقول . قال علي : والخبر - ولله الحمد - قد صح فهو قوله . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يمسح على عمامة ولا خمار ولا غير ذلك وهو قول الشافعي ، قال : إلا أن يصح الخبر . قال علي : ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلا ، فإن قالوا جاء القرآن بمسح الرءوس ، قلنا نعم ، وبالمسح على الرجلين ، فأجزتم المسح على الخفين ، وليس بأثبت من المسح على العمامة ، والمانعون من المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم أكثر من المانعين من المسح على العمامة ، فما روي المنع من المسح على العمامة إلا عن جابر وابن عمر ، وقد جاء المنع من المسح على الخفين عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس ، وأبطلتم مسح الرجلين - وهو نص القرآن - بخبر يدعي مخالفنا ومخالفكم أننا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه ، وأنه لا يدل على المنع من مسحها ، وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقلتم بالمسح على الجبائر ولم يصح فيه أثر عن رسول الله ﷺ وهذا تخليط . وقال بعضهم : حديث المغيرة بن شعبة فيه { إنه مسح بناصيته وعلى عمامته } فأما من لا يرى المسح على الناصية يجزئ فقد جاهر الله تعالى والناس في احتجاجه بهذا الخبر ، وهو عاص لكل ما فيه . وأما من يرى المسح على بعض الرأس يجزئ فإنهم قالوا : إن الذي أجزأه عليه السلام فهو مسح الناصية فقط وكان مسح العمامة فضلا . قال أبو محمد : رام هؤلاء أن يجعلوا كل ما في خبر المغيرة حكاية عن وضوء واحد وهذا كذب وجرأة على الباطل ، بل هو خبر عن عملين متغايرين ، هذا ظاهر الحديث ومقتضاه ، وكيف قد رواه جماعة غير المغيرة : وقال بعضهم أخطأ الأوزاعي في حديث عمرو بن أمية ، لأن هذا خبر رواه - عن يحيى بن أبي كثير شيبان وحرب بن شداد وبكر بن نضر وأبان العطار وعلي بن المبارك ، فلم يذكروا فيه المسح على العمامة . قال علي : فقلنا لهم فكان ماذا ؟ قد علم كل ذي علم بالحديث أن الأوزاعي أحفظ من كل واحد من هؤلاء ، وهو حجة عليهم ، وليسوا حجة عليه ، والأوزاعي ثقة ، وزيادة الثقة لا يحل ردها ، وما الفرق بينكم وبين من قال في كل خبر احتججتم به : إن راويه أخطأ فيه ، لأن فلانا وفلانا لم يرو هذا الخبر ؟ وقال بعضهم : لا يجوز المسح على العمامة كما لا يجوز المسح على القفازين . قال أبو محمد : وهذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لأنهم يعارضون فيه ، فيقال لهم إن كان هذا القياس عندكم صحيحا فأبطلوا به المسح على الخفين ؟ لأن الرجلين باليدين أشبه منهما بالرأس ، فقولوا : كما لا يجوز المسح على القفازين كذلك لا يجوز المسح على الخفين ولا فرق . فإن قالوا : قد صح المسح على الخفين عن رسول الله ﷺ ، قيل لهم : وقد صح المسح على العمامة عن رسول الله ﷺ . ويعارضون أيضا بأن يقال لهم : إن الله تعالى قرن الرءوس بالأرجل في الوضوء وأنتم تجيزون المسح على الخفين فأجيزوا المسح على العمامة ، لأنهما جميعا عضوان يسقطان في التيمم ، ولأنه لما جاز تعويض المسح عندكم من غسل الرجلين فينبغي أن يكون يجوز تعويض المسح من المسح في العمامة على الرأس أولى ، ولأن الرأس طرف ، والرجلان طرف ، وأيضا فقد صح تعويض المسح من جميع أعضاء الوضوء فعوض المسح بالتراب في الوجه والذراعين من غسل كل ذلك ، وعوض المسح على الخفين من غسل الرجلين ، فوجب أيضا أن يجوز تعويض المسح على العمامة من المسح على الرأس ، لتتفق أحكام جميع أعضاء الوضوء في ذلك . قال علي : كل هذا إنما أوردناه معارضة لقياسهم الفاسد وأنه لا شيء من الأحكام قالوا فيه بالقياس إلا ولمن خالفهم - من التعلق بالقياس - كالذي لهم أو أكثر فيظهر بذلك بطلان القياس لكل من أراد الله توفيقه وقال بعضهم : إنما مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار لمرض كان في رأسه . قال علي : هذا كلام من لا مؤنة عليه من الكذب ، ومن يستغفر الله تعالى من مكالمة مثله ؛ لأنه متعمد للكذب والإفك بقول لم يأت به قط لا نص ولا دليل ، وقد عجل الله العقوبة لمن هذه صفته ، بأن تبوأ مقعده من النار ، لكذبه على رسول الله ﷺ . ثم يقال لهم : قولوا مثل هذا في المسح على الخفين ، إنه كان لعلة بقدميه ولا فرق على أن امرأ لو قال هذا لكان أعذر منهم ؛ لأننا قد روينا عن ابن عباس أنه قال في المسح على الخفين : لو قلتم ذلك في البرد الشديد أو السفر الطويل ، ولم يرو قط عن أحد من الصحابة أنه قال ذلك في المسح على العمامة والخمار ، فبطل قول من منع المسح على العمامة والخمار ، وصح خلافه للسنن الثابتة ، ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وأم سلمة وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة وغيرهم ، وللقياس إن كان من أهل القياس . فإن قال قائل : إنه لم يأت عن النبي ﷺ أنه مسح على غير العمامة والخمار ، فلا يجوز ترك ما جاء في القرآن من مسح الرأس لغير ما صح النص به ، والقياس باطل ، وليس فعله عليه السلام عموم لفظ فيحمل على عمومه . قلنا : هذا خطأ ؛ لأنه عليه السلام لم يقل إنه لا يمسح إلا على عمامة أو خمار ، لكن علمنا بمسحه عليها أن مباشرة الرأس بالماء ليس فرضا ، فإذ ذلك كذلك ، فأي شيء لبس على الرأس جاز المسح عليه . ثم نقول لهم : قولوا لنا لو أن الراوي قال مسح رسول الله ﷺ على عمامة صفراء من كتان مطوية ثلاث طيات ، أكان يجوز عندكم المسح على حمراء من قطن ملوية عشر مرات أم لا ؟ وكذلك لو قال مسح عليه السلام على خفين أسودين ، أكان يجوز على أبيضين أم لا ؟ فإن لزموا قول الراوي أحدثوا دينا جديدا ، وإن لم يراعوه رجعوا إلى قولنا .
202 - مسألة : قال أبو محمد : وسواء لبس ما ذكرنا على طهارة أو غير طهارة قال أبو ثور : لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة ، قياسا على الخفين ، وقال أصحابنا كما قلنا قال علي : القياس باطل ، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار والمسح على الخفين ، وإنما نص رسول الله ﷺ في اللباس على الطهارة ، على الخفين ، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } { وما كان ربك نسيا } فلو وجب هذا في العمامة والخمار لبينه عليه السلام ، كما بين ذلك في الخفين ، ومدعي المساواة في ذلك بين العمامة والخمار وبين الخفين ، مدع بلا دليل ، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك ، فيقال له من أين وجب ، إذ نص عليه السلام في المسح على الخفين أنه لبسهما على طهارة ، أن يجب هذا الحكم في العمامة والخمار ولا سبيل له إليه أصلا بأكثر من قضية من رأيه ، وهذا لا معنى له قال الله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
203 - مسألة : ويمسح على كل ذلك أبدا بلا توقيت ولا تحديد ، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتا عنه ، كالمسح على الخفين وبه قال أبو ثور ، وقال أصحابنا كما قلنا . ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ ، والقياس باطل ، وقول القائل : لما كان المسح على الخفين موقتا بوقت محدود في السفر ووقت في الحضر وجب أن يكون المسح على العمامة كذلك ، دعوى بلا برهان على صحتها وقول لا دليل على وجوبه ، ويقال له ما دليلك على صحة ما تذكر من أن يحكم للمسح على العمامة بمثل الوقتين المنصوصين في المسح على الخفين ؟ وهذا لا سبيل إلى وجوده بأكثر من الدعوى ، وقد { مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار ، ولم يوقت في ذلك وقتا ووقت في المسح على الخفين } ، فيلزمنا أن نقول ما قال عليه السلام وأن لا نقول في الدين ما لم يقله عليه السلام ، قال الله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } .
204 - مسألة : فلو كان تحت ما لبس على الرأس خضاب أو دواء جاز المسح عليهما كما قلنا ولا فرق ، وكذلك لو تعمد لباس ذلك ليمسح عليه جاز المسح أيضا ، وإنما المسح المذكور في الوضوء خاصة ، وأما في كل غسل واجب فلا ، ولا بد من خلع كل ذلك وغسل الرأس . برهان ذلك { أن رسول الله ﷺ مسح على العمامة وعلى الخمار } ، ولم يخص لنا حالا من حال ، فلا يجوز أن يخص بالمسح حال دون حال ، وإذا كان المسح جائزا فالقصد إلى الجائز جائز ، وإنما مسح عليه السلام في الوضوء خاصة ، فلا يجوز أن يضاف إلى ذلك ما لم يفعله عليه السلام ، ولا يجوز أن يزاد في السنن ما لم يأت فيها ، ولا أن ينقص منها ما اقتضاه لفظ الخبر بها ، وبالله تعالى التوفيق . وهكذا يقول خصومنا في المسح على الخفين سواء سواء .
205 - مسألة : ومن ترك مما يلزمه غسله في الوضوء أو الغسل الواجب ولو قدر شعرة عمدا أو نسيانا ، لم تجزه الصلاة بذلك الغسل والوضوء حتى يوعبه كله ، لأنه لم يصل بالطهارة التي أمر بها ، وقال عليه السلام { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .
206 - مسألة : ومن نكس وضوءه أو قدم عضوا على المذكور قبله في القرآن عمدا أو نسيانا لم تجزه الصلاة أصلا ، وفرض عليه أن يبدأ بوجهه ثم ذراعيه ثم رأسه ثم رجليه ، ولا بد في الذراعين والرجلين من الابتداء باليمين قبل اليسار كما جاء في السنة ، فإن جعل الاستنشاق والاستنثار في آخر وضوئه أو بعد عضو من الأعضاء المذكورة لم يجز ذلك ، فإن فعل شيئا مما ذكرنا لزمه أن يعود إلى الذي بدأ به قبل الذي ذكره الله تعالى قبله فيعمله إلى أن يتم وضوءه ، وليس عليه أن يبتدئ من أول الوضوء ، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق ، فإن انغمس في ماء جار وهو جنب ونوى الغسل والوضوء معا لم يجزه ذلك من الوضوء ولا من الغسل ، وعليه أن يأتي به مرتبا ، وهو قول إسحاق . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إبراهيم بن هارون البلخي ثنا حاتم بن إسماعيل ثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال : { دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله عليه السلام قال جابر خرجنا معه - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا إلى الصفا قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدءوا بما بدأ الله به } . قال علي : وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه شيء ، وإنما قلنا : لا يجزئ في الأعضاء المغموسة معا لا الوضوء ولا الغسل إذا نوى بذلك الغمس كلا الأمرين فلأنه لم يأت بالوضوء كما أمر ، ولم يخلص الغسل فيجزيه ، لكن خلطه بعمل فاسد فبطل أيضا الغسل في تلك الأعضاء ؛ لأنه أتى به بخلاف ما أمره الله تعالى به ، وأما الاستنشاق والاستنثار فلم يأت فيهما في الوضوء ذكر بتقديم ولا تأخير ، فكيفما أتى بهما في وضوئه أو بعد وضوئه ، وقبل صلاته أو قبل وضوئه : أجزأه . قال علي : وقال أبو حنيفة : جائز تنكيس الوضوء والأذان والطواف والسعي والإقامة . وقال مالك : يجوز تنكيس الوضوء ولا يجوز تنكيس الطواف ولا السعي ولا الأذان ولا الإقامة . قال أبو محمد : لا يجوز تنكيس شيء من ذلك كله ، ولا يجزئ شيء منه منكسا فأما قول مالك فظاهر التناقض ؛ لأنه فرق بين ما لا فرق بينه ، وأما أبو حنيفة فإنه أطرد قولا ، وأكثر خطأ ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا ذلك على ما اتفق عليه من المنع من تنكيس الصلاة ؟ على أنه قد صح الإجماع في بعض الأوقات على تنكيس الصلاة ، وهي حال من وجد الإمام جالسا أو ساجدا ، فإنه يبدأ بذلك وهو آخر الصلاة ، وهذا مما تناقضوا فيه في قياسهم . وقد روينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس جواز تنكيس الوضوء ، ولكن لا حجة في أحد مع القرآن إلا في الذي أمر ببيانه وهو رسول الله ﷺ ، وهذا مما تناقض فيه الشافعيون فتركوا فيه قول صاحبين لا يعرف لهما من الصحابة مخالف . وبالله تعالى التوفيق . والعجب كله أن المالكيين أجازوا تنكيس الوضوء الذي لم يأت نص من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ فيه ، ثم أتوا إلى ما أجاز الله تعالى تنكيسه فمنعوا من ذلك ، وهو الرمي والحلق والنحر والذبح والطواف ، فإن رسول الله ﷺ أجاز تقديم بعض ذلك على بعض ، كما سنذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الحج ، فقالوا : لا يجوز تقديم الطواف على الرمي ، ولا تقديم الحلق على الرمي ، وهذا كما ترى . حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي حدثني جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا أحمد بن واقد ثنا زهير بن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { إذا توضأتم ولبستم فابدءوا بميامنكم } . وأما وجوب تقديم الاستنشاق والاستنثار ولا بد ، فلحديث رفاعة بن رافع أن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله - عز وجل - ويغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين } فصح أن ههنا إسباغا عطف عليه غسل الوجه ، وليس إلا الاستنشاق والاستنثار .
=======================
207..
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
207 - مسألة : ومن فرق وضوءه أو غسله أجزأه ذلك ، وإن طالت المدة في خلال ذلك أو قصرت ، ما لم يحدث في خلال وضوئه ما ينقض الوضوء ، وما لم يحدث في خلال غسله ما ينقض الغسل . برهان ذلك أن الله عز وجل أمر بالتطهر من الجنابة والحيض ، وبالوضوء من الأحداث ، ولم يشترط عز وجل في ذلك متابعة ، فكيفما أتى به المرء أجزأه ؛ لأنه قد وقع عليه اسم الأخبار بأنه تطهر ، وبأنه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي سلمة وهو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن عائشة قالت { كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثلاثا ، ثم يأخذ بيمينه فيصب على يساره فيغسل فرجه حتى ينقيه ، ثم يغسل يديه غسلا حسنا ، ثم يمضمض ثلاثا ، ثم يستنشق ثلاثا ويغسل وجهه ثلاثا ، ويغسل ذراعيه ثلاثا ، ثم يصب على رأسه ثلاثا ثم يغسل جسده غسلا ، فإذا خرج من مغتسله غسل رجليه } . قال علي : إذا جاز أن يجعل رسول الله ﷺ بين وضوئه وغسله وبين تمامهما بغسل رجليه مهلة خروجه من مغتسله ، فالتفريق بين المدد لا نص فيه ولا برهان ، وهذا قول السلف كما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر : أنه بال بالسوق ثم توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي لجنازة حين دخل المسجد ليصلي عليها فمسح على خفيه ثم صلى عليها . - وروينا عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال : كان أحدهم يغسل رأسه من الجنابة بالسدر ثم يمكث ساعة ثم يغسل سائر جسده ، وإبراهيم تابع أدرك أكابر التابعين وصغار الصحابة رضي الله عنهم ، قال إبراهيم في الرجل تكون له المرأة والجارية فيرافث امرأته بالغسل أنه لا بأس بأن يغسل رأسه ثم يمكث ثم يغسل سائر جسده بعد ولا يغسل رأسه وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : إن غسل الجنب رأسه بالسدر أو بالخطمي ثم يجلس حتى يجف رأسه فحسبه ذلك . وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي ، وقد روي نحو هذا عن سعيد بن المسيب وطاوس . وقال مالك : إن طال الأمد ابتدأ الوضوء ، وإن لم يطل بنى على وضوئه ، وقد روينا عن قتادة وابن أبي ليلى وغيرهم نحو هذا . وحد بعضهم ذلك بالجفوف ، وحد بعضهم ذلك بأن يكون في طلب الماء فيبني أو يترك وضوءه ويبتدئ . قال أبو محمد : أما تحديد مالك بالطول فإنه يكلف المنتصر له بيان ما ذلك الطول الذي تجب به شريعة ابتداء الوضوء ، والقصر الذي لا تجب به هذه الشريعة ، فلا سبيل لهم إلى ذلك إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد ، وما كان من الأقوال لا برهان على صحته فهو باطل ، إذ الشرائع غير واجبة على أحد حتى يوجبها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ . وأما من حد ذلك بجفوف الماء فخطأ ظاهر ، لأنه دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل لما ذكرناه ، وأيضا فإن في الصيف في البلاد الحارة لا يتم أحد وضوءه حتى يجف وجهه ، ولا يصح وضوء على هذا . وأما من حد في ذلك بما دام في طلب الماء ، فقول أيضا لا دليل على صحته ، والدعوى لا يعجز عنها أحد ، والعجب أن مالكا يجيز أن يجعل المرء إذا رعف بين أجزاء صلاته مدة وعملا ليس من الصلاة ، ثم يمنع من ذلك في الوضوء . قال علي : فإن تعلق بعضهم بخبر رويناه عن رسول الله ﷺ من طريق بقية عن بحير عن خالد عن بعض أصحاب رسول الله ﷺ { أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي وفي قدمه لمعة لم يصبها الماء ، فأمره عليه السلام أن يعيد الوضوء والصلاة } فإن هذا خبر لا يصح لأن راويه بقية ، وليس بالقوي ، وفي السند من لا يدري من هو ، وروينا أيضا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمر بن الخطاب وعن أبي سفيان عن جابر عن عمر بن الخطاب : أنه رأى رجلا يصلي وقد ترك من رجله موضع ظفر فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة . قال علي : أما الرواية عن عمر أيضا فلا تصح ؛ لأن أبا قلابة لم يدرك عمر ، وأبو سفيان ضعيف . وقد جاء أثر عن رسول الله ﷺ هو أحسن من هذا ، رويناه من طريق قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن مضر عن حرملة بن يحيى ثنا ابن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس { أن رسول الله ﷺ أتاه وقد توضأ وترك موضع الظفر لم يصبه الماء ، فقال له رسول الله ﷺ ارجع فأحسن وضوءك } وعن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن عمر مثل هذا أيضا . قال علي : لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف فعل عمر هذا ، فقد خالفوا ههنا صاحبا لا يعرف له من الصحابة مخالف ، وبيقين يدري كل ذي علم أن مرور الأوقات ليس من الأحداث الناقضة للوضوء ، وقد تناقض مالك في هذا المكان فرأى أن من نسي عضوا من أعضاء وضوئه فإن غسله أجزأه ، ورأى فيمن توضأ ومسح على خفيه وبقي كذلك نهاره ثم خلع خفيه فإن وضوء رجليه عنده قد انتقض وأنه ليس عليه إلا غسل رجليه فقط ، وهذا تبعيض الوضوء الذي منع منه ، وبالله تعالى التوفيق .
208 - مسألة : ويكره الإكثار من الماء في الغسل والوضوء ، والزيادة على الثلاث في غسل أعضاء الوضوء ومسح الرأس ؛ لأنه لم يأت عن رسول الله ﷺ أكثر من ذلك . وروينا من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي حية بن قيس { أن عليا توضأ ثلاثا ثلاثا ، وقال هكذا رأيت رسول الله ﷺ } وعن ابن المبارك عن الأوزاعي حدثني المطلب بن عبد الله بن حنطب { أن عبد الله بن عمر توضأ ثلاثا ، يسند ذلك إلى رسول الله ﷺ } وعن عثمان أيضا مثل ذلك فلم يخص في هذه الآثار رأسا من غيره . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد الذي أري النداء قال { رأيت رسول الله ﷺ توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين ومسح برأسه مرتين } . وقد روينا عن أنس مسح رأسه في الوضوء ثلاثا واثنتين ، وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : أكثر ما أمسح برأسي ثلاث مرات لا أزيد بكف واحدة لا أزيد ولا أنقص . وعن حماد بن سلمة ثنا جرير بن حازم : رأيت محمد بن سيرين توضأ فمسح برأسه مسحتين إحداهما ببلل يديه والأخرى بماء جديد ، وعن أبي عبيد ثنا هشيم ثنا العوام : أن إبراهيم التيمي كان يمسح رأسه ثلاثا ، وهو قول الشافعي وداود وغيرهم ، وأما الإكثار من الماء فمذموم من الجميع . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن نافع ثنا شبابة ثنا ليث هو ابن سعد - عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر - وكانت تحت المنذر بن الزبير - قالت { إن عائشة أم المؤمنين أخبرتها أنها كانت تغتسل هي ورسول الله ﷺ في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن حبيب الأنصاري قال : سمعت عباد بن تميم عن جدتي - وهي أم عمارة { أن النبي ﷺ توضأ فأتي بإناء فيه قدر ثلثي المد } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن سلمة المرادي ثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري عن مخرمة بن سليمان القرشي عن كريب مولى ابن عباس أن ابن عباس أخبره { أنه رأى رسول الله ﷺ قام من النوم فعمد إلى شجب من ماء فتسوك وتوضأ فأسبغ الوضوء ولم يهرق من الماء إلا قليلا } وذكر الحديث . قال علي : وقد جاءت آثار أنه { عليه السلام توضأ بالمد واغتسل بالصاع } ، وأنه { عليه السلام توضأ بمكوك واغتسل بخمس مكاكي } ، وأنه { عليه السلام كان يتوضأ من إناء فيه مد وربع } ، وكل هذا صحيح لا يختلف ، وإنما هو ما أجزأ فقط وبالله تعالى التوفيق .
209 - مسألة : ومن كان على ذراعيه أو أصابعه أو رجليه جبائر أو دواء ملصق لضرورة فليس عليه أن يمسح على شيء من ذلك ، وقد سقط حكم ذلك المكان ، فإن سقط شيء من ذلك بعد تمام الوضوء فليس عليه إمساس ذلك المكان بالماء ، وهو على طهارته ما لم يحدث . برهان ذلك قول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء ، وكان التعويض منه شرعا ، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله ، فسقط القول بذلك فإن قيل فإنه قد روي من طريق زيد عن أبيه عن جده عن علي { قلت يا رسول الله أمسح على الجبائر ؟ قال نعم امسح عليها } قلنا : هذا خبر لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه ؛ لأنه انفرد به أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي وهو مذكور بالكذب . فإن قيل : فقد جاء أنه { عليه السلام أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين } قلنا : هذا لا يصح من طريق الإسناد ، ولو كان لما كانت فيه حجة ، لأن العصائب هي العمائم ، قال الفرزدق : وركب كأن الريح تطلب عندهم لها ترة من جذبها بالعصائب والتساخين هي الخفاف . وإنما أوجب من أوجب المسح على الجبائر قياسا على المسح على الخفين ، والقياس باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن المسح على الخفين فيه توقيت ، ولا توقيت في المسح على الجبائر ، مع أن قول القائل : لما جاز المسح على الخفين وجب المسح على الجبائر ، دعوى بلا دليل ، وقضية من عنده ، ثم هي أيضا موضوعة وضعا فاسدا لأنه إيجاب فرض قيس على إباحة وتخيير ، وهذا ليس من القياس في شيء . وقد روينا مثل قولنا عن بعض السلف ، كما روينا من طريق ابن المبارك عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن الشعبي أنه قال في الجراحة : اغسل ما حولها ، فإن قيل : قد رويتم عن ابن عمر أنه ألقم أصبع رجله مرارة فكان يمسح عليها . قلنا : هذا فعل منه ، وليس إيجابا للمسح عليها ، وقد صح عنه { رضي الله عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل } ، وأنتم لا ترون ذلك ، فضلا عن أن توجبوه فرضا ، وصح أن كان يجيز بيع الحامل واستثناء ما في بطنها ، وهذا عندكم حرام ، ومن المقت عند الله تعالى أن تحتجوا به فيما اشتهيتم وتسقطوا الحجة به حيث لم تشتهوا ، وهذا عظيم في الدين جدا . وإذ قد صح ما ذكرنا فالوضوء إذا تم وجازت به الصلاة فلا ينقضه إلا حدث أو نص جلي وارد بانتقاضه ، وليس سقوط اللصقة أو الجبيرة أو الرباط حدثا ، ولا جاء نص بإيجاب الوضوء من ذلك ، والشرائع لا تؤخذ إلا عن الله تعالى على لسان رسول الله ﷺ وممن رأى المسح على الجبائر أبو حنيفة ومالك والشافعي ولم ير ذلك داود وأصحابنا ، وبالله تعالى التوفيق .
210 - مسألة : ولا يجوز لأحد مس ذكره بيمينه جملة إلا عند ضرورة لا يمكنه غير ذلك ، ولا بأس بأن يمس بيمينه ثوبا على ذكره ، ومس الذكر بالشمال مباح ، ومسح سائر أعضائه بيمينه وبشماله مباح ، ومس الرجل ذكر صغير لمداواة أو نحو ذلك من أبواب الخير كالختان ونحوه ، جائز باليمين والشمال ، ومس المرأة فرجها بيمينها وشمالها جائز ، وكذلك مسها ذكر زوجها أو سيدها بيمينها أو بشمالها جائز . برهان ذلك أن كل ما ذكرنا فلا نص في النهي عنه ، وكل ما لا نص في تحريمه فهو مباح بقول الله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وقول رسول الله ﷺ { من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته } . وقوله عليه السلام : { دعوني ما تركتكم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه } أو كما قال عليه السلام ، فنص تعالى على أن كل محرم قد فصل لنا باسمه ، فصح أن ما لم يفصل تحريمه فلم يحرم ، وكذلك بالخبرين المذكورين . وقد جاء النهي عن مس الرجل ذكره بيمينه ، كما حدثنا حمام وعبد الله بن يوسف ، قال عبد الله ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا ابن أبي عمر ثنا الثقفي هو عبد الوهاب بن عبد المجيد - عن أيوب السختياني ، وقال حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن محمد البرتي قاضي بغداد ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين - ثنا سفيان هو الثوري عن معمر ، ثم اتفق أيوب السختياني ومعمر كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : { نهى رسول الله ﷺ أن يمس الرجل ذكره بيمينه } هذا لفظ معمر . ولفظ أيوب { نهى رسول الله ﷺ أن يتنفس في الإناء وأن يمس ذكره بيمينه وأن يستطيب بيمينه } . وبهذا الخبر حرم أن يزيل أحد أثر البول بيمينه بغسل أو مسح ، لأنه استطابة . قال علي : رواية معمر وأيوب زائدة على كل ما رواه غيرهما عن يحيى بن أبي كثير من الاقتصار بالنهي عن مس الذكر باليمين في حال البول ، وعند دخول الخلاء ، والزيادة مقبولة لا يجوز ردها ، لا سيما وأيوب ومعمر أحفظ ممن روى بعض ما روياه ، وكل ذلك حق ، وأخذ كل ذلك فرض لا يحل رد شيء مما رواه الثقات ، فمن أخذ برواية أيوب ومعمر فقد أخذ برواية همام وهشام الدستوائي والأوزاعي وأبي إسماعيل ، ومن أخذ برواية هؤلاء وخالف رواية أيوب ومعمر فقد عصى . وقد روينا مثل قولنا هذا عن بعض السلف ، كما روينا من طريق وكيع عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان : سمعت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقول : ما مسست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله ﷺ . وبه إلى وكيع عن خالد بن دينار سمعت أبا العالية يقول : ما مسست ذكري بيميني مذ ستين سنة أو سبعين سنة . وروينا عن مسلم بن يسار - وكان من خيار التابعين - أنه قال : لا أمس ذكري بيميني وأنا أرجو أن آخذ بها كتابي . وبالله تعالى التوفيق .
211 - مسألة : ومن أيقن بالوضوء والغسل ثم شك هل أحدث أو كان منه ما يوجب الغسل أم لا فهو على طهارته ، وليس عليه أن يجدد غسلا ولا وضوءا ، فلو اغتسل وتوضأ ثم أيقن أنه كان محدثا أو مجنبا ، أو أنه قد أتى بما يوجب الغسل لم يجزه الغسل ولا الوضوء اللذان أحدثا بالشك ، وعليه أن يأتي بغسل آخر ووضوء آخر ، ومن أيقن بالحدث وشك في الوضوء أو الغسل فعليه أن يأتي بما شك فيه من ذلك ، فإن لم يفعل وصلى بشكه ثم أيقن أنه لم يكن حدثا ولا كان عليه غسل لم تجزه صلاته تلك أصلا . برهان ذلك قول الله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } ، وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وداود ، وقال مالك : يتوضأ في كلا الوجهين ، واحتج بعض مقلديه بأن رسول الله ﷺ { أمر من شك فلم يدر كم صلى بأن يلغي الشك ويبني على اليقين } قال أبو محمد : وهذا خطأ من وجهين ، أحدهما تركهم للخبر الوارد في المسألة بعينها ومخالفتهم له ، وأن يجعلوا هذا الأمر حدثا يوجب الوضوء في غير الصلاة ولا يوجبه في الصلاة ، وهذا تناقض قد أنكروا مثله على أبي حنيفة في الوضوء من القهقهة في الصلاة دون غيرها وأخذهم بخبر جاء في حكم آخر . والثاني أنهم احتجوا بخبر هو حجة عليهم ؛ لأنه عليه السلام لم يجعل للشك حكما ، وأبقاه على اليقين عنده بلا شك ، وإن جاز أن يكون الأمر كما ظن - هذا - إلى تناقضهم ، فإنهم يقولون : من شك أطلق أم لم يطلق ، وأيقن بصحة النكاح فلا يلزمه طلاق ، ومن أيقن بصحة الملك فشك أنه أعتق أم لم يعتق فلا يلزمه عتق ، ومن تيقنت حياته وشك في موته فهو على الحياة ، وهكذا في كل شيء . قال علي : فإذا هو كما ذكرنا فإن توضأ كما ذكرنا وهو شاك في الحدث ثم أيقن بأنه كان أحدث لم يجزه ذلك الوضوء ، لأنه لم يتوضأ الوضوء الواجب عليه ، وإنما توضأ وضوءا لم يؤمر به ، ولا ينوب وضوء لم يأمر الله عز وجل به عن وضوء أمر الله تعالى به . وبالله تعالى التوفيق
=============
212..
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
212 - مسألة : والمسح على كل ما لبس في الرجلين - مما يحل لباسه مما يبلغ فوق الكعبين سنة ، سواء كانا خفين من جلود أو لبود أو عود أو حلفاء أو جوربين من كتان أو صوف أو قطن أو وبر أو شعر - كان عليهما جلد أو لم يكن - أو جرموقين أو خفين على خفين أو جوربين على جوربين أو ما كثر من ذلك أو هراكس . وكذلك إن لبست المرأة ما ذكرنا من الحرير ، فكل ما ذكرنا إذا لبس على وضوء جاز المسح عليه للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ، ثم لا يحل له المسح ، فإذا انقضى هذان الأمدان - يعني أحدهما - لمن وقت له صلى بذلك المسح ما لم تنتقض طهارته ، فإن انتقضت لم يحل له أن يمسح ، لكن يخلع ما على رجليه ويتوضأ ولا بد ، فإن أصابه ما يوجب الغسل خلعهما ولا بد ، ثم مسح كما ذكرنا إن شاء ، وهكذا أبدا كما وصفنا . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا زكريا بن أبي زائدة عن عامر - هو الشعبي - ثنا عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال { كنت مع رسول الله ﷺ فذكر وضوءه عليه السلام ، قال المغيرة ثم أهويت لأنزع الخفين فقال عليه السلام : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، ومسح عليهما } . حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن علي بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو الأحوص ثنا الأعمش عن أبي وائل عن { حذيفة قال كنت أمشي مع رسول الله ﷺ بالمدينة فانتهى إلى سباطة ناس فبال عليها قائما ثم توضأ ومسح على خفيه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال عبد الله - ثنا محمد بن معاوية القرشي الهشامي ثنا أحمد بن شعيب ثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - وقال يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ، ثم اتفق أحمد وإسحاق واللفظ لأحمد قالا : ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة " أن رسول الله ﷺ { توضأ ومسح على الجوربين والنعلين } . حدثنا يونس بن عبد الله حدثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن الحكم - هو ابن عتيبة - عن القاسم بن مخيمرة عن { شريح بن هانئ قال : سألت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين فقالت : ائت علي بن أبي طالب فإنه أعلم بذلك مني ، فأتيت عليا فسألته عن المسح ؟ فقال : كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثا } . ورويناه أيضا كذلك من طريق مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق وزكريا بن عدي ، قال عبد الرزاق أنبأنا سفيان الثوري عن عمرو بن قيس الملائي - وكان سفيان إذا ذكره أثنى عليه - . وقال زكريا عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة ، ثم اتفق زيد وعمرو عن الحكم بن عتيبة بمثل حديث الأعمش عن الحكم وإسناده . حدثنا هشام بن سعيد الخير ثنا عبد الجبار بن أحمد المقري ثنا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد بن الحسن الأصبهاني ثنا يونس بن حبيب بن عبد القاهر حدثنا أبو داود الطيالسي ثنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد وهمام بن يحيى وشعبة بن الحجاج كلهم عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال : أتيت صفوان بن عسال فقلت : إنه حك في نفسي من المسح على الخفين شيء ، فهل سمعت من رسول الله ﷺ في ذلك شيئا ؟ فقال : كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فأمرنا أن نمسح عليهما ثلاثة أيام ولياليهن من غائط وبول ونوم إلا من جنابة } . ورويناه أيضا من طريق معمر وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة ، كلهم عن عاصم عن زر عن صفوان عن رسول الله ﷺ بمثله . وهذا نقل تواتر يوجب العلم ، ففي حديث المغيرة أن المسح إنما هو على من أدخل الرجلين وهما طاهرتان . وفي حديث حذيفة المسح في الحضر ، وفي حديث هزيل عن المغيرة المسح على الجوربين . وفي حديث علي عموم المسح على كل ما لبس في الرجلين يوما وليلة للمقيم وثلاثا للمسافر ، وأن لا يخلع إلا لغسل الجنابة في حديث صفوان . وأما قولنا إنه إذا انقضى أحد الأمدين المذكورين صلى الماسح بذلك المسح ما لم ينتقض وضوءه ، ولا يجوز له أن يمسح إلا حتى ينزعهما ويتوضأ ، فلأن رسول الله ﷺ أمره أن يمسح إن كان مسافرا ثلاثا فقط ، وإن كان مقيما يوما وليلة فقط ، وأمر عليه السلام بالصلاة بذلك المسح ، ولم ينهه عن الصلاة به بعد أمده المؤقت له ، وإنما نهاه عن المسح فقط ، وهذا نص الخبر في ذلك . وممن قال بالمسح على الجوربين جماعة من السلف ، كما روينا عن سفيان الثوري عن الزبرقان بن عبد الله العبدي ويحيى بن أبي حية والأعمش ، قال الزبرقان عن كعب بن عبد الله قال : رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه بال فمسح على جوربيه ونعليه ، وقال يحيى عن أبي الجلاس عن ابن عمر : أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن عبد الله بن ضرار قال إسماعيل عن أبيه قال : رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه . وقال إبراهيم عن همام بن الحارث عن أبي مسعود البدري أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه . وقال سعيد بن عبد الله : رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له من خز عربي أسود ثم صلى . ومن طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان الثوري حدثني عاصم الأحول قال : رأيت أنس بن مالك مسح على جوربيه . وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك قالا جميعا : كان أنس بن مالك يمسح على الجوربين والخفين والعمامة . وعن حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة الباهلي أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة وعن وكيع عن أبي جناب عن أبيه عن خلاس بن عمرو عن ابن عمر قال : بال عمر بن الخطاب يوم جمعة ثم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين وصلى بالناس الجمعة . وعن وكيع عن مهدي بن ميمون عن واصل الأحدب عن أبي وائل عن أبي مسعود أنه مسح على جوربين له من شعر . وعن وكيع عن يحيى البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول : المسح على الجوربين كالمسح على الخفين . وعن قتادة عن سعيد بن المسيب : الجوربان بمنزلة الخفين في المسح . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج ، قلت لعطاء : نمسح على الجوربين ؟ قال نعم امسحوا عليهما مثل الخفين . وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي : أنه كان لا يرى بالمسح على الجوربين بأسا . وعن أبي نعيم الفضل بن دكين قال : سمعت الأعمش سئل عن الجوربين أيمسح عليهما من بات فيهما ؟ قال نعم . وعن قتادة عن الحسن وخلاس بن عمرو أنهما كانا يريان الجوربين في المسح بمنزلة الخفين . وقد روي أيضا عن عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد وعمرو بن حريث . وعن سعيد بن جبير ونافع مولى ابن عمر - فهم عمر وعلي وعبد الله بن عمرو وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وابن مسعود وسعد وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ، لا يعرف لهم ممن يجيز المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم مخالف . ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء وإبراهيم النخعي والأعمش وخلاس بن عمرو وسعيد بن جبير ونافع مولى ابن عمر ، وهو قول سفيان الثوري والحسن بن حي وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وغيرهم . وقال أبو حنيفة : لا يمسح على الجوربين ، وقال مالك : لا يمسح عليهما إلا أن يكون أسفلهما قد خرز عليه جلد ، ثم رجع فقال : لا يمسح عليهما ، وقال الشافعي لا يمسح عليهما إلا أن يكونا مجلدين . قال علي : اشتراط التجليد خطأ لا معنى له ، لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس ولا صاحب ، والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ ، وخلاف الآثار ، ولم يخص عليه السلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما . والعجب أن الحنفيين والمالكيين والشافعيين يشنعون ويعظمون مخالفة الصاحب إذا وافق تقليدهم وهم قد خالفوا ههنا أحد عشر صاحبا ، لا مخالف لهم من الصحابة ممن يجيز المسح ، فيهم عمر وابنه وعلي وابن مسعود وخالفوا أيضا من لا يجيز المسح من الصحابة ، فحصلوا على خلاف كل من روي عنه في هذه المسألة شيء من الصحابة رضي الله عنهم ، وخالفوا السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ والقياس بلا معنى . وبالله تعالى التوفيق . وأما القائلون بالتوقيت في المسح من الصحابة رضي الله عنهم فروينا من طريق شعبة وابن المبارك عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال : شهدت سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر اختلفا في المسح ، فمسح سعد ولم يمسح ابن عمر ، فسألوا عمر بن الخطاب وأنا شاهد فقال عمر : امسح يومك وليلتك إلى الغد ساعتك . وعن شعبة عن عمران بن مسلم سمعت سويد بن غفلة قال بعثنا نباتة الجعفي إلى عمر بن الخطاب يسأله عن المسح على الخفين ، قال فسأله فقال عمر : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة يمسح على الخفين والعمامة ، وهذان إسنادان لا نظير لهما في الصحة والجلالة . وقد روينا ذلك أيضا من طريق سعيد بن المسيب وزيد بن الصلت كلاهما عن عمر . ومن طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال ثلاثة أيام لمسافر ويوم للمقيم يعني في المسح . وروينا أيضا من طريق شقيق بن سلمة عن ابن مسعود ، وهذا أيضا إسناد صحيح . ومن طريق وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ الحارثي : سألت عليا عن المسح فقال : للمسافر ثلاثا وللمقيم يوما وليلة . وعن شعبة عن قتادة عن موسى بن سلمة قال : سألت ابن عباس عن المسح على الخفين فقال : ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم ، وهذا إسناد في غاية الصحة . وعن الشعبي عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال : صارت سنة للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة في المسح . وعن حماد بن سلمة عن سعيد بن قطن عن أبي زيد الأنصاري صاحب رسول الله ﷺ قال : يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم يوما وليلة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج ومحمد بن راشد ويحيى بن ربيعة ، قال ابن جريج أخبرني أبان بن صالح أن عمر بن شريح أخبره أن شريكا القاضي كان يقول : للمقيم يوم إلى الليل وللمسافر ثلاث . وقال ابن أبي راشد : أخبرني سليمان بن موسى قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المصيصة : أن اخلعوا الخفاف في كل ثلاث وقال يحيى بن ربيعة : سألت عطاء بن أبي رباح عن المسح على الخفين فقال : ثلاث للمسافر ويوم للمقيم ، وقد روي أيضا عن الشعبي . وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وداود بن علي وجميع أصحابهم ، وهو قول إسحاق بن راهويه وجملة أصحاب الحديث . وقد رواه أيضا أشهب عن مالك والرواية عن مالك مختلفة ، فالأظهر عنه كراهة المسح للمقيم وقد روي عنه إجازة المسح للمقيم ، وأنه لا يرى التوقيت لا للمقيم ولا للمسافر وأنهما يمسحان أبدا ما لم يجنبا . وتعلق مقلدوه في ذلك بأخبار ساقطة لا يصح منها شيء ، أرفعها من طريق خزيمة بن ثابت ، رواه أبو عبد الله الجدلي صاحب راية الكافر المختار ، ولا يعتمد على روايته ، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة ؛ لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ أباح المسح أكثر من ثلاث ، ولكن في آخر الخبر من قول الراوي : ولو تمادى السائل لزادنا . وهذا ظن وغيب لا يحل القطع به في أخبار الناس ، فكيف في الدين إلا أنه صح من هذا اللفظ أن السائل لم يتماد فلم يزدهم شيئا ، فصار هذا الخبر لو صح - حجة لنا عليهم ، ومبطلا لقولهم ، ومبينا لتوقيت الثلاثة أيام في السفر واليوم والليلة في الحضر . وآخر من طريق أنس ، رواه أسد بن موسى عن حماد بن سلمة ، وأسد منكر الحديث ، ولم يرو هذا الخبر أحد من ثقات أصحاب حماد بن سلمة . وآخر من طريق أنس منقطع ، ليس فيه إلا { إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما وليمسح عليهما ما لم يخلعهما إلا من جنابة } . ثم لو صح لكانت أحاديث التوقيت زائدة عليه ، والزيادة لا يحل تركها . وآخر من طريق أبي بن عمارة ، فيه يحيى بن أيوب الكوفي وأخر مجهولون . وآخر فيه : قال عمر بن إسحاق بن يسار - أخو محمد بن إسحاق : قرأت في كتاب لعطاء بن يسار مع عطاء بن يسار : { سألت ميمونة عن المسح على الخفين فقالت قلت : يا رسول الله أكل ساعة يمسح الإنسان على الخفين ولا ينزعهما ؟ قال : نعم } . قال علي : هذا لا حجة فيه لأن عطاء بن يسار لم يذكر لعمر بن إسحاق أنه هو السائل ميمونة ، ولعل السائل غيره ، ولا يجوز القطع في الدين بالشك ، ثم لو صح لم تكن فيه حجة لهم ، لأنه ليس فيه إلا إباحة المسح في كل ساعة ، وهكذا نقول : إذا أتى بشروط المسح من إتمام الوضوء ولباسهما على طهارة وإتمام الوقت المحدود وخلعهما للجنابة ، وهذا كله ليس مذكورا منه شيء في هذا الخبر ، فبطل تعلقهم به . وذكروا آثارا عن الصحابة رضي الله عنهم لا تصح . منها أثر عن أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن زبيد بن الصلت ، سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ما لم يخلعهما إلا من جنابة . وهذا مما انفرد به أسد بن موسى عن حماد ، وأسد منكر الحديث لا يحتج به ، وقد أحاله ، والصحيح من هذا الخبر هو ما رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن محمد بن زياد قال سمعت زبيد بن الصلت سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا توضأ أحدكم وأدخل خفيه في رجليه وهما طاهرتان فليمسح عليهما إن شاء ولا يخلعهما إلا من جنابة ، وهذا ليس فيه " ما لم يخلعهما " كما روى أسد ، والثابت عن عمر في التوقيت - برواية نباتة الجعفي وأبي عثمان النهدي ، وهما من أوثق التابعين - هو الزائد على ما في هذا الخبر . وآخر من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب كان لا يجعل في المسح على الخفين وقتا ، وهذا منقطع ؛ لأن عبيد الله بن عمر لم يدرك أحدا أدرك عمر ، فكيف عمر . وآخر من طريق كثير بن شنظير عن الحسن : سافرنا مع أصحاب رسول الله ﷺ فكانوا يمسحون على خفافهم من غير وقت ولا عذر ، وكثير ضعيف جدا . وخبر رويناه من طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن يزيد عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة بعثاه بريدا إلى أبي بكر برأس سان - فذكر الحديث وفيه : ثم أقبل على عقبة وقال : مذ كم لم تنزع خفيك ؟ قال من الجمعة إلى الجمعة ، قال أصبت . وقد حدث به عبد الرحمن مرة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة . قال علي : هذا أقرب ما يمكن أن يغلط فيه من لا يعرف الحديث ، وهذا خبر معلول ؛ لأن يزيد بن أبي حبيب لم يسمعه من علي بن رباح ولا من أبي الخير ، وإنما سمعه من عبد الله بن الحكم البلوي عن علي بن رباح . وعبد الله بن الحكم مجهول ، هكذا رويناه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم أنه سمع علي بن رباح اللخمي يخبر أن عقبة بن عامر الجهني قال : قدمت على عمر بفتح الشام وعلي خفان لي جرموقان غليظان ، فقال لي عمر : كم لك مذ لم تنزعهما ؟ قلت لبستهما يوم الجمعة واليوم الجمعة ، قال أصبت . قال ابن وهب : وسمعت زيد بن الحباب يذكر عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو لبست الخفين ورجلاي طاهرتان وأنا على وضوء لم أبال أن لا أنزعهما حتى أبلغ العراق . قال علي : فهكذا هو الحديث ، فسقط جملة - ولله الحمد - وزيد بن الحباب لم يلق أحدا رأى عمر فكيف عمر . وقد روي أيضا هذا الخبر من طريق معاوية بن صالح عن عياض القرشي عن يزيد بن أبي حبيب أن عقبة وهذا أسقط وأخبث ؛ لأن يزيد لم يدرك عقبة وفيه معاوية بن صالح وليس بالقوي ، فبطل كل ما جاء في هذا الباب . ولا يصح خلاف التوقيت عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر فقط ، فإننا روينا من طريق هشام بن حسان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يوقت في المسح على الخفين شيئا . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه ؛ لأن ابن عمر لم يكن عنده المسح ولا عرفه ، بل أنكره حتى أعلمه به سعد بالكوفة ، ثم أبوه بالمدينة في خلافته ، فلم يكن في علم المسح كغيره ، وعلى ذلك فقد روي عنه التوقيت . روينا من طريق حماد بن زيد عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن نافع عن ابن عمر قال : أين السائلون عن المسح على الخفين ؟ للمسافر ثلاثا وللمقيم يوما وليلة . ثم لو صح عن أبي بكر وعمر وعقبة رضي الله عنهم ما ذكرنا ، وكان قد خالف ذلك علي وابن مسعود وغيرهما ، لوجب عند التنازع الرد إلى بيان رسول الله ﷺ وبيانه عليه السلام قد صح بالتوقيت ، ولم يصح عنه شيء غيره أصلا ، فكيف ولم يصح قط عن عمر إلا التوقيت . قال علي : فإذا انقضى الأمدان المذكوران ، فإن أبا حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا قالوا : يخلعهما ويغسل رجليه ولا بد ، وقال أبو حنيفة : إذا قعد الإنسان مقدار التشهد في آخر صلاته ثم أحدث عمدا أو نسيانا ببول أو ريح أو غير ذلك أو تكلم عمدا أو نسيانا فقد تمت صلاته ، وليس السلام من الصلاة فرضا . قال : فإن قعد مقدار التشهد في آخر صلاته وانقضى وقت المسح بعد ذلك فقد بطلت صلاته وبطلت طهارته ما لم يسلم ، وفي هذا من التناقض والخطأ ما لا يحتاج معه إلا تكليف رد عليه ، والحمد لله على السلامة . وقد قال الشافعي مرة : يبتدئ الوضوء . وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وداود : يصلي ما لم تنتقض طهارته بحدث ينقض الوضوء ، وهذا هو القول الذي لا يجوز غيره ، لأنه ليس في شيء من الأخبار أن الطهارة تنتقض عن أعضاء الوضوء ولا عن بعضها بانقضاء وقت المسح ، وإنما نهي عليه السلام عن أن يمسح أحد أكثر من ثلاث للمسافر أو يوم وليلة للمقيم . فمن قال غير هذا فقد أقحم في الخبر ما ليس فيه ، وقول رسول الله ﷺ ما لم يقل ، فمن فعل ذلك واهما فلا شيء عليه ، ومن فعل ذلك عامدا بعد قيام الحجة عليه فقد أتى كبيرة من الكبائر ، والطهارة لا ينقضها إلا الحدث ، وهذا قد صحت طهارته ولم يحدث فهو طاهر ، والطاهر يصلي ما لم يحدث أو ما لم يأت نص جلي في أن طهارته انتقضت وإن لم يحدث ، وهذا الذي انقضى وقت مسحه لم يحدث ولا جاء نص في أن طهارته انتقضت لا عن بعض أعضائه ولا عن جميعها ، فهو طاهر يصلي حتى يحدث ، فيخلع خفيه حينئذ وما على قدميه ويتوضأ ثم يستأنف المسح توقيتا آخر ، وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق . وأما من قال إن الطهارة تنتقض عن قدميه خاصة ، فقول فاسد لا دليل عليه لا من سنة ، ولا من قرآن ، ولا من خبر واه ، ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، ولا رأي سديد أصلا ، وما علم في الدين قط حدث ينقض الطهارة - بعد تمامها وبعد جواز الصلاة بها - عن بعض الأعضاء دون بعض ، وبالله تعالى التوفيق . وأما تقسيم أبي حنيفة فما روي قط عن أحد من الناس قبله ، وبالله تعالى نتأيد .
213 - مسألة : ويبدأ بعد اليوم والليلة المقيم وبعد الثلاثة أيام بلياليها المسافر من حين يجوز له المسح إثر حدثه ، سواء مسح وتوضأ أو لم يمسح ولا توضأ ، عامدا أو ساهيا ، فإن أحدث يومه بعد ما مضى أكثر هذين الأمدين أو أقلهما كان له أن يمسح باقي الأمدين فقط ، ولو مسح قبل انقضاء أحد الأمدين بدقيقة كان له أن يصلي به ما لم يحدث . قال علي : قال أبو حنيفة والشافعي والثوري : يبتدئ بعد هذين الوقتين من حين يحدث . وقال أحمد بن حنبل : يبدأ بعدهما من حين يمسح ، وروي عن الشعبي يمسح لخمس صلوات فقط إن كان مقيما ، ولا يمسح لأكثر ، ويمسح لخمس عشرة صلاة فقط ، إن كان مسافرا ، ولا يمسح لأكثر وبه يقول إسحاق بن راهويه وسليمان بن داود الهاشمي وأبو ثور . قال علي : فلما اختلفوا وجب أن ننظر في هذه الأقوال ونردها إلى ما افترض الله عز وجل علينا أن نردها عليه من القرآن وسنة رسول الله ﷺ ففعلنا ، فنظرنا في قول من قال يبدأ بعد الوقتين من حين يحدث ، فوجدناه ظاهر الفساد ؛ لأن أمر رسول الله ﷺ - الذي به تعلقوا كلهم وبه أخذوا أو وقفوا في أخذهم به - إنما جاءنا بالمسح مدة أحد الأمدين المذكورين ، وهم يقرون بهذا ، ومن المحال الباطل أن يجوز له المسح في الوضوء في حال الحدث ، هذا ما لا يقولون به هم ولا غيرهم ، ووجدنا بعض الأحداث قد تطول جدا الساعة والساعتين والأكثر كالغائط . ومنها ما يدوم أقل كالبول ، فسقط هذا القول بيقين لا شك فيه وهو أيضا مخالف لنص الخبر ، ولا حجة لهم فيه أصلا . ثم نظرنا في قول من حد ذلك بالصلوات الخمس أو الخمس عشرة ، فوجدناهم لا حجة لهم فيه إلا مراعاة عدد الصلوات في اليوم والليلة وفي الثلاثة الأيام بلياليهن وهذا لا معنى له ، لأنه إذا مسح المرء بعد الزوال في آخر وقت الظهر فإنه يمسح إلى صلاة الصبح ثم لا يكون له أن يصلي الضحى بالمسح ، ولا صلاة بعدها إلى الظهر وكذلك من مسح لصلاة الصبح في آخر وقتها فإنه يمسح إلى أن يصلي العتمة ، ثم لا يكون له أن يوتر ولا أن يتهجد ولا أن يركع ركعتي الفجر بمسح ، وهذا خلاف لحكم رسول الله ﷺ لأنه عليه السلام فسح للمقيم في مسح يوم وليلة ، وهم منعوه من المسح إلا يوما وبعض ليلة ، أو ليلة وأقل من نصف يوم ، وهذا خطأ بين . وأيضا فإنه يلزمهم أن من عليه خمس صلوات نام عنهن ثم استيقظ - وكان قد توضأ ولبس خفيه على طهارة ثم نام - أنه يمسح عليهما ، فإذا أتمهن لم يجز أن يمسح بعدهن باقي يومه وليلته ، وهذا خلاف الخبر ، فسقط هذا القول بمخالفته للخبر وتعريه من أن يكون لصحته برهان . ثم نظرنا في قول أحمد فوجدناه يلزمه إن كان إنسان فاسق قد توضأ ولبس خفيه على طهارة ثم بقي شهرا لا يصلي عامدا ثم تاب : أن له أن يمسح من حين توبته يوما وليلة أو ثلاثا إن كان مسافرا . وكذلك إن مسح يوما ثم تعمد ترك الصلاة أياما فإن له أن يمسح ليلة ، وهكذا في المسافر ، فعلى هذا يتمادى ماسحا عاما وأكثر ، وهذا خلاف نص الخبر ، فسقط أيضا هذا القول ولم يبق إلا قولنا . فنظرنا فيه فوجدناه موافقا لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي صح عنه وموافقا لنص الخبر الوارد في ذلك ، ولم يبق غيره فوجب القول به ؛ لأن رسول الله ﷺ أمره بأن يمسح يوما وليلة ، فله أن يمسح إن شاء ، وأن يخلع ما على رجليه ، لا بد له من أحدهما ، ولا يجزيه غيرهما ، وهو عاص لله عز وجل ، فاسق إن لم يأت بأحدهما ، فإن مسح فله ذلك وقد أحسن ، وإن لم يمسح فقد عصى الله ، أو أخطأ إن فعل ذلك ناسيا ولا حرج عليه ، وقد مضى من الأمد الذي وقت رسول الله ﷺ مدة ، وبقي باقيها فقط ، وهكذا إن تعمد أو نسي حتى ينقضي اليوم والليلة للمقيم والثلاثة الأيام بلياليهن للمسافر ، فقد مضى الوقت الذي وقته له الله تعالى على لسان نبيه ﷺ وليس له أن يمسح في غير الوقت الذي أمره الله تعالى بالمسح فيه . فلو كان فرضه التيمم ولم يجد ماء فتيمم ثم لبس خفيه ، فله أن يمسح إذا وجد الماء ، لأن التيمم طهارة تامة . قال الله تعالى وقد ذكر التيمم : { ولكن يريد ليطهركم } ومن جازت له الصلاة بالتيمم فهو طاهر بلا شك ، وإذا كان طاهرا كله فقدماه طاهرتان بلا شك ، فقد أدخل خفيه القدمين وهما طاهرتان ، فجائز له المسح عليهما الأمد المذكور للمسافر ، فإن لم يجد الماء إلا بعد تمام الثلاث بأيامها - من حين أحدث بعد لباس خفيه على طهارة التيمم - لم يجز له المسح ، لأن الأمد قد تم ، وقد كان ممكنا له أن يمسح بنزول مطر أو وجود من معه ماء . وكذلك لو لم يجد الماء إلا بعد مضي بعض الأمد المذكور ، فليس له أن يمسح إلا باقي الأمد فقط . قال علي : فإذا تم حدثه فحينئذ جاز له الوضوء والمسح ولا يبالي بالاستنجاء لأن الاستنجاء بعد الوضوء جائز ، وليس فرضه أن يكون قبل الوضوء ولا بد ؛ لأنه لم يأت بذلك أمر في قرآن ولا سنة ، وإنما هي عين أمرنا بإزالتها بصفة ما للصلاة فقط ، فمتى أزيلت قبل الصلاة وبعد الوضوء أو قبل الوضوء ، فقد أدى مزيلها ما عليه وليس بقاء البول في ظاهر الخرت وبقاء النجو في ظاهر المخرج حدثا ، إنما الحدث خروجهما من المخرجين فقط ، فإذا ظهرا فإنما خبثان في الجلد تجب إزالتهما للصلاة فقط ، فمن حينئذ يعد ، سواء كان وقت صلاة أو لم يكن ؛ لأن التطهر للصلاة قبل دخول وقتها جائز ، وقد يصلي بذلك الوضوء في ذلك الوقت صلاة فائتة ، أو ركعتي دخول المسجد ، فإن كان مقيما فإلى مثل ذلك الوقت من الغد إن كان ذلك نهارا ، وإلى مثله من الليلة القابلة إن كان ذلك ليلا ، فإن انقضى له الأمد المذكور وقد مسح أحد خفيه ولم يمسح شيئا من الآخر بطل المسح ، ولزمه خلعهما وغسلهما ، لأنه لم يتم له مسحه إلا في وقت قد حرم عليه فيه المسح ، وإن كان مسافرا فإلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع إن كان حدثه نهارا أو إلى مثل ذلك الوقت من الليلة الرابعة إن كان ذلك ليلا ، وبالله تعالى التوفيق .
214 - مسألة : والرجال والنساء في كل ما ذكرنا سواء ، وسفر الطاعة والمعصية في كل ذلك سواء ، وكذلك ما ليس طاعة ولا معصية ، وقليل السفر وكثيره سواء . برهان ذلك عموم أمر رسول الله ﷺ وحكمه ، ولو أراد عليه السلام تخصيص سفر من سفر ، ومعصية من طاعة ، لما عجز عن ذلك ، وواهب الرزق والصحة وعلو اليد للعاصي والمرجو للمغفرة له يتصدق عليه من فسح الدين بما شاء ، وقولنا هو قول أبي حنيفة . ولا معنى لتفريق من فرق في ذلك بين سفر الطاعة وسفر المعصية - لا من طريق الخبر ولا من طريق النظر . أما الخبر فالله تعالى يقول : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فلو كان ههنا فرق لما أهمله رسول الله ﷺ ، ولا كلفنا علم ما لم يخبرنا به ، ولا ألزمنا العمل بما لم يعرفنا به ، هذا أمر قد أمناه ولله الحمد . وأما من طريق النظر فإن المقيم قد تكون إقامته إقامة معصية وظلم للمسلمين وعدوانا على الإسلام أشد من سفر المعصية ، وقد يطيع المسافر في المعصية في بعض أعماله ، وأولها الوضوء الذي يكون فيه المسح المذكور الذي منعوه منه ، فمنعوه من المسح الذي هو طاعة ، وأمروه بالغسل الذي هو طاعة أيضا ، وهذا فساد من القول جدا ، وأطلقوا المسح للمقيم العاصي في إقامته . فإن قالوا المسح رخصة ورحمة ، قلنا ما حجر على الله الترخيص للعاصي في بعض أعمال طاعته ، ولا رحمة الله تعالى له إلا جاهل بالله تعالى ، قائل بما لا علم له به ، وكل سفر تقصر فيه الصلاة فيمسح فيه مسح سفر ، وما لا قصر فيه فهو حضر وإقامة ، لا يمسح فيه إلا مسح المقيم ، وبالله تعالى التوفيق .
215 - مسألة : ومن توضأ فلبس أحد خفيه بعد أن غسل تلك الرجل ثم إنه غسل الأخرى بعد لباسه الخف على المغسولة ، ثم لبس الخف الآخر ثم أحدث فالمسح له جائز كما لو ابتدأ لباسهما بعد غسل كلتي رجليه ، وبه يقول أبو حنيفة وداود وأصحابهما . وهو قول يحيى بن آدم وأبي ثور والمزني ، وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل : لا يمسح لكن إن خلع التي لبس أولا ثم أعادها من حينه فإن له المسح . قال علي : كلا القولين عمدة أهله على قول رسول الله ﷺ { دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين } ، فوجب النظر في أي القولين هو أسعد بهذا القول ، فوجدنا من طهر إحدى رجليه ثم ألبسها الخف فلم يلبس الخفين وإنما لبس الواحد ولا أدخل القدمين الخفين ، إنما أدخل القدم الواحدة ، فلما طهر الثانية ثم ألبسها الخف الثاني صار حينئذ مستحقا لأن يخبر عنه أنه أدخلهما طاهرتين ولم يستحق هذا الوصف قبل ذلك ، فصح أن له أن يمسح ، ولو أراد رسول الله ﷺ ما ذهب إليه مالك والشافعي لما قال هذا اللفظ ، وإنما كان يقول : دعهما فإني ابتدأت إدخالهما في الخفين بعد تمام طهارتهما جميعا ، فإذ لم يقل عليه السلام هذا القول فكل من صدق الخبر عنه بأنه أدخل قدميه جميعا في الخفين وهما طاهرتان فجائز له أن يمسح إذا أحدث بعد الإدخال ، وما علمنا خلع خف وإعادته في الوقت يحدث طهارة لم تكن ، ولا حكما في الشرع لم يكن ، فالموجب له مدع بلا برهان . وبالله تعالى التوفيق .
==============
216..
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
216 - مسألة : فإن كان في الخفين أو فيما لبس على الرجلين خرق صغير أو كبير ، طولا أو عرضا ، فظهر منه شيء من القدم ، أقل القدم أو أكثرها أو كلاهما فكل ذلك سواء ، والمسح على كل ذلك جائز ، ما دام يتعلق بالرجلين منهما شيء ، وهو قول سفيان الثوري وداود وأبي ثور وإسحاق بن راهويه ويزيد بن هارون . قال أبو حنيفة : إن كان في كل واحد من الخفين خرق عرضا يبرز من كل خرق أصبعان فأقل أو مقدار أصبعين فأقل : جاز المسح عليهما ، فإن ظهر من أحدهما دون الآخر ثلاثة أصابع أو مقدارها فأكثر لم يجز المسح عليهما قال : فإن كان الخرق طويلا مما لو فتح ظهر منه أكثر من ثلاثة أصابع جاز المسح . وقال مالك : إن كان الخرق يسيرا لا يظهر منه القدم جاز المسح ، وإن كان كبيرا فاحشا لم يجز المسح عليهما ، فيهما كان أو في أحدهما . وقال الحسن بن حي والشافعي وأحمد : إن ظهر من القدم شيء من الخرق لم يجز المسح عليهما ، فإن لم يظهر من الخرق شيء من القدم جاز المسح عليهما . قال الحسن بن حي : فإن كان من تحت الخرق قل أو كثر جورب يستر القدم جاز المسح . وقال الأوزاعي : إن انكشف من الخرق في الخف شيء من القدم مسح على الخفين وغسل ما انكشف من القدم أو القدمين وصلى ، فإن لم يغسل ما ظهر أعاد الصلاة . قال علي : فلما اختلفوا وجب أن ننظر ما احتجت به كل طائفة لقولها ، فوجدنا قول مالك لا معنى له ، لأنه منع من المسح في حال ما وأباحه في حال أخرى ، ولم يبين لمقلديه ولا لمريدي معرفة قوله ولا لمن استفتاه ، ما هي الحال التي يحل فيها المسح ، ولا ما الحال الذي يحرم فيها المسح فهذا إنشاب للمستفتي فيما لا يعرف وأيضا فإنه قول لا دليل على صحته ، ودعوى لا برهان عليها ، فسقط هذا القول . ثم نظرنا في قول أبي حنيفة فكان تحكما بلا دليل ، وفرقا بلا برهان ، لا يعجز عن مثله أحد ، ولا يحل القول في الدين بمثل هذا ، وأيضا فالأصابع تختلف في الكبر والصغر تفاوتا شديدا ، فليت شعري أي الأصابع أراد وما نعلم أحدا سبقه إلى هذا القول مع فساده ، فسقط أيضا هذا القول بيقين . ثم نظرنا في قول الحسن بن حي والشافعي وأحمد فوجدنا حجتهم أن فرض الرجلين الغسل إن كانتا مكشوفتين أو المسح إن كانتا مستورتين ، فإذا انكشف شيء منهما وإن قل فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، قالوا : ولا يجتمع غسل ومسح في رجل واحدة ، ما نعلم لهم حجة غير هذا . قال علي : كل ما قالوه صحيح ، إلا قولهم إذا انكشف من القدم شيء فقد انكشف شيء فرضه الغسل ، فإنه قول غير صحيح ، ولا يوافقون عليه ، إذ لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ، لكن الحق في ذلك ما جاءت به السنة المبينة للقرآن من أن حكم القدمين اللتين ليس عليهما شيء ملبوس يمسح عليه أن يغسلا ، وحكمهما إذا كان عليهما شيء ملبوس أن يمسح على ذلك الشيء ، بهذا جاءت السنة { وما كان ربك نسيا } . وقد علم رسول الله ﷺ - إذ أمر بالمسح على الخفين وما يلبس في الرجلين ومسح على الجوربين - أن من الخفاف والجوارب وغير ذلك مما يلبس على الرجلين المخرق خرقا فاحشا أو غير فاحش ، وغير المخرق ، والأحمر والأسود والأبيض ، والجديد والبالي ، فما خص عليه السلام بعض ذلك دون بعض ، ولو كان حكم ذلك في الدين يختلف لما أغفله الله تعالى أن يوحي به ، ولا أهمله رسول الله ﷺ المفترض عليه البيان ، حاشا له من ذلك فصح أن حكم ذلك المسح على كل حال ، والمسح لا يقتضي الاستيعاب في اللغة التي بها خوطبنا ، وهكذا روينا عن سفيان الثوري أنه قال : امسح ما دام يسمى خفا ، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مشققة مخرقة ممزقة ؟ وأما قول الأوزاعي فنذكره إن شاء الله في المسألة التالية لهذه وبالله التوفيق .
217 - مسألة : فإن كان الخفان مقطوعين تحت الكعبين فالمسح جائز عليهما ، وهو قول الأوزاعي ، روي عنه أنه قال : يمسح المحرم على الخفين المقطوعين تحت الكعبين ، وقال غيره لا يمسح عليها إلا أن يكونا فوق الكعبين . قال علي : قد { صح عن رسول الله ﷺ الأمر بالمسح على الخفين ، وأنه مسح على الجوربين } ، ولو كان ههنا حد محدود لما أهمله عليه السلام ولا أغفله فوجب أن كل ما يقع عليه اسم خف أو جورب أو لبس على الرجلين فالمسح عليه جائز ، وقد ذكرنا بطلان قول من قال : إن المسح لا يجوز إلا على ما يستر جميع الرجلين والكعبين . وبذلك الدليل يبطل هذا القول الذي لهم في هذه المسألة ، لا سيما قول أبي حنيفة المجيز المسح على الخفين اللذين يظهر منهما مقدار أصبعين من كل خف ، فإنه يلزمه إن ظهر من الكعبين من كل قدم فوق الخف مقدار أصبعين فالمسح جائز وإلا فلا . وكذلك يلزم المالكيين أن يقولوا : إن كان الظاهر من الكعبين فوق الخف يسيرا جاز المسح ، وإن كان فاحشا لم يجز ، وما ندري علام بنوا هذين القولين فإنهما لا نص ولا قياس ولا اتباع . وبالله التوفيق . قال علي : وأما قول الأوزاعي في الجمع بين الغسل والمسح في رجل واحدة فقول لا دليل على صحته ، لا من نص ولا من إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، وحكم الرجلين الملبوس عليهما شيء المسح فقط بالسنن الثابتة ، فلا معنى لزيادة الغسل على ذلك .
218 - مسألة : ومن لبس خفيه أو جوربيه أو غير ذلك على طهارة ثم خلع أحدهما دون الآخر ، فإن فرضه أن يخلع الآخر إن كان قد أحدث ولا بد ، ويغسل قدميه . وقد روى المعافى بن عمران ومحمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري أنه يغسل الرجل المكشوفة ويمسح على الأخرى المستورة . وروى الفضل بن دكين عنه ، أنه ينزع ما على الرجل الأخرى ويغسلهما ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي . قال علي : فنظرنا في ذلك فوجدنا نص حكمه عليه السلام أنه مسح عليهما لأنه أدخلهما طاهرتين . وأمر عليه السلام بغسل القدمين المكشوفتين فكان هذان النصان لا يحل الخروج عنهما . ووجدنا من غسل رجلا ومسح على الأخرى قد عمل عملا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا دليل من لفظيهما . ولا يجوز في الدين إلا ما وجد في كلام الله تعالى أو كلام نبيه عليه السلام . فوجب أن لا يجزئ غسل رجل ومسح على الأخرى . وأنه لا بد من غسلهما أو المسح عليهما . سواء في ذلك في الابتداء أو بعد المسح عليهما . وقد حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث قال : ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد - هو المقبري - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { إذا لبس أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا خلعه فليبدأ باليسرى ، ولا يمشي في نعل واحدة ولا خف واحدة ، ليخلعهما جميعا أو ليمش فيهما جميعا } . فأوجب عليه السلام خلعهما ولا بد أو تركهما جميعا ، فإن خلع إحداهما دون الأخرى فقد عصى الله في إبقائه الذي أبقى ، وإذا كان بإبقائه عاصيا فلا يحل له المسح على خف فرضه نزعه ، فإن كان ذلك لعلة برجله لم يلزمه في تلك الرجل شيء أصلا ، لا مسح ولا غسل ، لأن فرضه قد سقط . ووجدنا بعض الموافقين لنا قد احتج في هذا بأنه لما لم يجز عند أحد ابتداء الوضوء بغسل رجل ومسح على خف على أخرى لم يجز ذلك بعد نزع أحد الخفين . قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد ؛ لأن ابتداء الوضوء يرد على رجلين غير طاهرتين ، وليس كذلك الأمر بعد صحة المسح عليهما بعد إدخالهما طاهرتين . فبين الأمرين أعظم فرق . وبالله تعالى التوفيق .
219 - مسألة : ومن مسح كما ذكرنا على ما في رجليه ثم خلعهما لم يضره ذلك شيئا ، ولا يلزمه إعادة وضوء ولا غسل رجليه ، بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك وكذلك لو مسح على عمامة أو خمار ثم نزعهما فليس عليه إعادة وضوء ولا مسح رأسه بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك ، وكذلك لو مسح على خف على خف ثم نزع الأعلى فلا يضره ذلك شيئا ، ويصلي كما هو دون أن يعيد مسحا . وكذلك من توضأ أو اغتسل ثم حلق شعره أو تقصص أو قلم أظفاره ، فهو في كل ذلك على وضوئه وطهارته ويصلي كما هو دون أن يمسح مواضع القص . وهذا قول طائفة من السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، وروينا عن سفيان الثوري عن الفضيل بن عمرو عن إبراهيم النخعي : أنه كان يحدث ثم يمسح على جرموقين له من لبود ثم ينزعهما ، فإذا قام إلى الصلاة لبسهما وصلى . وأما أبو حنيفة فإنه قال : من توضأ ثم مسح على خفيه ثم أخرج قدمه الواحدة من موضعها إلى موضع الساق ، أو أخرج كلتيهما كذلك فقد بطل مسحه ، ويلزمه أن يخرج قدميه جميعا ويغسلهما ، وكذلك عنده لو أخرجهما بالكل . قال أبو يوسف وكذلك إذا أخرج أكثر من نصف القدم إلى موضع الساق . قال فلو لبس جرموقين على خفين ثم مسح عليهما ثم خلع أحد الجرموقين فعليه أن يمسح على الخف الذي كان تحت الجرموق ويمسح أيضا على الجرموق الثاني ولا بد ، لأن بعض المسح إذا انتقض انتقض كله . قال : فلو توضأ ثم جز شعره وقص شاربه وأظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وأما مالك فإنه قال : من مسح على خفيه ثم خلع أحدهما فإنه يلزمه أن يخلع الثاني ويغسل رجليه . وكذلك لو خلعهما جميعا . وكذلك من أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما من موضع القدم إلى موضع الساق فإنه يخلعهما جميعا ولا بد ويغسل قدميه فإن لم يغسل قدميه في فوره ذلك لزمه ابتداء الوضوء ، فلو توضأ وجز بعد ذلك شعره أو قص أظفاره فليس عليه أن يمس شيئا من ذلك الماء ، قال فلو أخرج عقبيه أو إحداهما من موضع القدم إلى موضع الساق إلا أن سائر قدميه في موضع القدم فليس عليه أن يخرج رجليه لذلك وهو على طهارته . وقال الشافعي : من خلع أحد خفيه لزمه خلع الثاني وغسل قدميه ، فإن خلعهما جميعا فكذلك ، فلو أخرج رجليه كليهما عن موضعهما ولم يخرجهما ولا شيئا منهما عن موضع ساق الخف فهو على طهارته ، ولا شيء عليه حتى يخرج شيئا مما يجب غسله عن جميع الخف ، فيلزمه أن يخلعهما حينئذ ويغسلهما ، فإن توضأ ثم جز شعره أو قص أظفاره فهو على طهارته ، وليس عليه أن يمس الماء شيئا من ذلك . وقال الأوزاعي : إن خلع خفيه أو جز شعره أو قص أظفاره لزمه أن يبتدئ الوضوء في خلع الخفين وأن يمسح على رأسه ويمس الماء موضع القطع من أظفاره في الجز والقص ، وهو قول عطاء . وكذلك قال الأوزاعي فيمن مسح على عمامته ثم نزعها فإنه يمسح رأسه بالماء . قال علي : أما قول أبي يوسف في مراعاة إخراج أكثر من نصف القدم عن موضعها فيلزمه الغسل في رجليه معا أو إخراج نصفها فأقل فلا يلزمه غسل رجليه ، فتحكم في الدين ظاهر وشرع لم يأذن به الله تعالى ، ولا أوجبه قرآن ولا سنة ، ولا قياس ولا قول صاحب ولا رأي مطرد ، لأنهم يرون مرة الكثير أكثر من النصف ، ومرة الثلث ، ومرة الربع ، ومرة شبرا في شبر ، ومرة أكثر من قدر الدرهم ، وكل هذا تخليط . وأما فرق مالك بين إخراج العقب إلى موضع الساق فلا ينتقض المسح ، وبين إخراج القدم كلها إلى موضع الساق فينتقض المسح ، فتحكم أيضا لا يجوز القول به ولا يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي مطرد ؛ لأنه يرى أن بقاء العقب في الوضوء لا يطهر ، إن فاعل ذلك لا وضوء له ، فإن كان المسح قد انتقض عن الرجل بخروجها عن موضع القدم ، فلا بد من انتقاض المسح عن العقب بخروجها عن موضعها إلى موضع الساق ، لا يجوز غير ذلك ، وإن كان المسح لا ينتقض عن العقب بخروجها إلى موضع الساق ، فإنه لا ينتقض أيضا بخروج القدم إلى موضع الساق كما قال الشافعي . وأما تفريقهم جميعهم بين المسح على الخفين ثم يخلعان فينتقض المسح ويلزم إتمام الوضوء ، وبين الوضوء ثم يجز الشعر وتقص الأظفار فلا ينتقض الغسل عن مقص الأظفار ولا المسح على الرأس ففرق فاسد ظاهر التناقض ولو عكس إنسان هذا القول فأوجب مسح الرأس على من حلق شعره ومس مجز الأظفار بالماء ولم ير المسح على من خلع خفيه ، لما كان بينها فرق . قال علي : وما وجدنا لهم في ذلك متعلقا أصلا إلا أن بعضهم قال : وجدنا مسح الرأس وغسل القدمين في الوضوء إنما قصد به الرأس لا الشعر ، وإنما قصد به الأصابع لا الأظافر ، فلما جز الشعر وقطعت الأظفار بقي الوضوء بحسبه ، وأما المسح فإنما قصد به الخفان لا الرجلان ، فلما نزعا بقيت الرجلان لم توضآ ، فهو يصلي برجلين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما فهو ناقص الوضوء . قال أبو محمد : وهذا لا شيء لأنه باطل وتحكم بالباطل ، فلو عكس عليه قوله فقيل له : بل المسح على الرأس وغسل الأظفار إنما قصد به الشعر والأظفار فقط ، بدليل أنه لو كان على الشعر حناء وعلى الأظفار كذلك لم يجز الوضوء ، وأما الخفان فالمقصود بالمسح القدمان لا الخفان ، لأن الخفين لولا القدمان لم يجز المسح عليهما فصح أن حكم القدمين الغسل ، إن كانتا مكشوفتين ، والمسح إن كانتا في خفين لما كان بين القولين فرق . ثم يقال لهم : هبكم أن الأمر كما قلتم في أن المقصود بالمسح الخفان ، وبالمسح في الوضوء الرأس ، وبغسل اليدين للأصابع لا للأظفار . فكان ماذا ؟ أو من أين وجب من هذا أن يعاد المسح بخلع الخفين ولا يعاد بحلق الشعر ؟ قال علي : فظهر فساد هذا القول . وأما قولهم : إنه يصلي بقدمين لا مغسولتين ولا ممسوح عليهما - فباطل ، بل ما يصلي - إلا على قدمين ممسوح على خفين عليهما . قال علي : فبطل هذا القول كما بينا ، وكذلك قولهم : يغسل رجليه فقط ، فهو باطل متيقن ، لأنه قد كان بإقرارهم قد تم وضوءه وجازت له الصلاة به ثم أمرتموه بغسل رجليه فقط ، ولا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون الوضوء الذي قد كان تم قد بطل أو يكون لم يبطل ، فإن كان لم يبطل فهذا قولنا وإن كان قد بطل فعليه أن يبتدئ الوضوء ، وإلا فمن المحال الباطل الذي لا يخيل أن يكون وضوء قد تم ثم ينقض بعضه ولا ينقض بعضه ، هذا أمر لا يوجبه نص ولا قياس ولا رأي يصح . فبطلت هذه الأقوال كلها ولم يبق إلا قولنا أو قول الأوزاعي . فنظرنا في ذلك فوجدنا البرهان قد صح بنص السنة والقرآن على أن من توضأ ومسح على عمامته وخفيه فإنه قد تم وضوءه وارتفع حدثه وجازت له الصلاة . وأجمع هؤلاء المخالفون لنا على ذلك فيمن مسح رأسه وخفيه ثم إنه لما خلع خفيه وعمامته وحلق رأسه أو تقصص وقطع أظفاره : قال قوم : قد انتقض وضوءه ، وقال آخرون لم ينتقض وضوءه فنظرنا في ذلك فوجدنا الحلق وقص الشعر وقص الأظفار وخلع الخفين والعمامة ليس شيء منه حدثا ، والطهارة لا ينقضها إلا الأحداث ، أو نص وارد بانتقاضها وأنه لم يكن حدث ولا نص ههنا على انتقاض طهارته ولا على انتقاض بعضها فبطل هذا القول ، وصح القول بأنه على طهارته ، وأنه يصلي ما لم يحدث ، ولا يلزمه مسح رأسه ولا أظفاره ولا غسل رجليه ولا إعادة وضوئه ، وكان من أوجب الوضوء من ذلك كمن أوجبه من المشي أو من الكلام أو من خلع قميصه ولا فرق . وبالله التوفيق .
220 - مسألة : ومن تعمد لباس الخفين على طهارة ليمسح عليهما أو خضب رجليه أو حمل عليهما دواء ثم لبسهما ليمسح على ذلك . أو خضب رأسه أو حمل عليه دواء ثم لبس العمامة أو الخمار ليمسح على ذلك ، فقد أحسن . وذلك لأنه قد جاء النص بإباحة المسح على كل ذلك مطلقا . ولم يحظر عليه شيئا من هذا كله نص : { وما كان ربك نسيا } وبلغنا عن بعض المتقدمين أنه قال : من توضأ ثم لبس خفيه ليبيت فيها ليمسح عليهما فلا يجوز له المسح . وهذا خطأ لأنه دعوى بلا برهان وتخصيص للسنة بلا دليل . وكل قول لم يصححه النص فهو باطل . وبالله تعالى التوفيق .
221 - مسألة : ومن مسح في الحضر ثم سافر - قبل انقضاء اليوم والليلة أو بعد انقضائهما - مسح أيضا حتى يتم لمسحه في كل ما مسح في حضره وسفره معا ثلاثة أيام بلياليها . ثم لا يحل له المسح ، فإن مسح في سفر ثم أقام أو دخل موضعه ابتدأ مسح يوم وليلة إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها وأكثر من يومين وليلتين مسح باقي اليوم الثالث وليلته فقط ، ثم لا يحل له المسح ، فإن كان قد أتم في السفر مسح ثلاثة أيام بلياليها خلع ولا بد ، ولا يحل له المسح حتى يغسل رجليه . برهان ذلك ما قد ذكرناه من أن رسول الله ﷺ لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام للمسافر بلياليها ويوما وليلة للمقيم ، فصح يقينا أنه لم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها ، لا مقيما ولا مسافرا ، وإنما نهى عن ابتداء المسح - لا عن الصلاة بالمسح المتقدم - فوجب ما قلنا ، فلو مسح في الحضر يوما وليلة ثم سافر ثم رجع قبل أن يتم يوما وليلة في السفر أو بعد أن أتمهما لم يجز له المسح أصلا ، لأنه لو مسح لكان قد مسح وهو في الحضر أكثر من يوم وليلة ، وهذا لا يحل ألبتة . وقال أبو حنيفة وسفيان : من مسح وهو مقيم فإن كان لم يتم يوما وليلة حتى سافر مسح حتى يتم ثلاثة أيام بلياليها من حين أحدث وهو مقيم ، فإن كان قد أتم يوما وليلة في حضره ثم سافر لم يجز له المسح ، ولا بد له من غسل رجليه . قال : فإن سافر فمسح يوما وليلة فأكثر ثم قدم أو أقام لم يجز له المسح حتى يغسل رجليه فلو مسح في سفره أقل من يوم وليلة ثم قدم أو أقام كان له أن يمسح تمام ذلك اليوم والليلة فقط ، وليس له أن يستأنف مسح يوم وليلة . وقال الشافعي : من مسح في الحضر ثم سافر ، فإن كان قد أتم اليوم والليلة خلع ولا بد ، وإن كان لم يتم يوما وليلة مسح باقي ذلك اليوم فقط ثم يخلع . وكذلك لو مسح في السفر ثم قدم سواء سواء ، إن كان مسح في سفره يوما وليلة وقدم أو أقام فإنه يخلع ولا بد ، وإن كان مسح أقل من يوم وليلة في سفره أتم باقي ذلك اليوم والليلة بالمسح فقط . واختلف أصحابنا ، فقال بعضهم كما قلنا ، وقال بعضهم : إذا مسح في سفره أقل من ثلاثة أيام بلياليها ، أو ثلاثة أيام بلياليها لا أكثر وقدم استأنف مسح يوم وليلة فإن لم يزد على ذلك حتى سافر استأنف ثلاثة أيام بلياليها ، واحتج هؤلاء بظاهر لفظ الخبر في ذلك . قال علي : وظاهر لفظه يوجب صحة قولنا ، لأن الناس قسمان : مقيم ومسافر ، ولم يبح عليه السلام للمسافر إلا ثلاثا ، ولا أباح للمقيم إلا بعض الثلاث فلم يبح لأحد - لا مقيم ولا مسافر - أكثر من ثلاث ، ومن خرج إلى سفر تقصر في مثله الصلاة مسح مسح مسافر ، ثلاثا بلياليهن ، ومن خرج دون ذلك مسح مسح مقيم ؛ لأن حكم هذا البروز حكم الحضر وبالله تعالى التوفيق .
222 - مسألة : والمسح على الخفين وما لبس على الرجلين إنما هو على ظاهرهما فقط ، ولا يصح معنى لمسح باطنهما الأسفل تحت القدم ، ولا لاستيعاب ظاهرهما ، وما مسح من ظاهرهما بأصبع أو أكثر أجزأ . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن { علي قال : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح على ظاهر الخفين } . وبه يقول أبو حنيفة وسفيان الثوري وداود ، وهو قول علي بن أبي طالب كما ذكرنا وقيس بن سعد . كما روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري ثنا أبو إسحاق هو السبيعي عن يزيد بن أبي العلاء قال : رأيت قيس بن سعد بال ثم أتى رحله فتوضأ ومسح على خفيه على أعلاهما حتى رأيت أثر أصابعه على خفيه . وروينا عن معمر بن أيوب السختياني قال : رأيت الحسن بال ثم توضأ ثم مسح على خفيه على ظاهرهما مسحة واحدة ، فرأيت أثر أصابعه على الخفين . وروينا عن ابن جريج قلت لعطاء : أمسح على بطون الخفين ؟ قال لا إلا بظهورهما . قال علي : والمسح لا يقتضي الاستيعاب ، فما وقع عليه اسم مسح فقد أدى فرضه إلا أن أبا حنيفة قال : لا يجزئ المسح على الخفين إلا بثلاثة أصابع لا بأقل ، وقال سفيان وزفر والشافعي وداود : إن مسح بأصبع واحدة أجزأه ، قال زفر : إذا مسح على أكثر الخفين . قال أبو محمد : تحديد الثلاث أصابع وأكثر الخفين كلام فاسد وشرع في الدين بارد لم يأذن به الله تعالى . واحتج بعضهم بأنهم قد اتفقوا على أنه إن مسح بثلاث أصابع أجزأه ، وإن مسح بأقل فقد اختلفوا . قال علي : وهذا يهدم عليهم أكثر مذاهبهم ، ويقال لهم مثل هذا في فور الوضوء وفي الاستنشاق والاستنثار وفي الوضوء بالنبيذ وغير ذلك ، فكيف ولا تحل مراعاة إجماع إذا وجد النص يشهد لقول بعض العلماء ، وقد جاء النص بالمسح دون تحديد ثلاثة أصابع أو أقل { وما كان ربك نسيا } بل هذا الذي قالوا هو إيجاب الفرائض بالدعوى المختلف فيها بلا نص ، وهذا الباطل المجمع على أنه باطل . ويعارضون بأن يقال لهم : قد صح إجماعهم على وجوب المسح بأصبع واحدة واختلفوا في وجوب المسح بما زاد ، فلا يجب ما اختلف فيه ، وإنما الواجب ما اتفق عليه ، وهذا أصح في الاستدلال إذا لم يوجد لفظ مروي . وقال الشافعي : يستحب مسح ظاهر الخفين وباطنهما ، فإن اقتصر على ظاهرهما دون الباطن أجزأه ، وإن اقتصر على الباطن دون الظاهر لم يجزه . قال علي : وهذا لا معنى له ، لأنه إذا كان مسح الأسفل ليس فرضا ولا جاء ندب إليه : فلا معنى له . وقال مالك : يمسح ظاهرهما وباطنهما ، قال ابن القاسم صاحبه : إن مسح الظاهر دون الباطن أعاد في الوقت ، وإن مسح الباطن دون الظاهر أعاد أبدا . وقد روينا مسح ظاهر الخفين وباطنهما عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر وعن معمر عن الزهري . قال علي : الإعادة في الوقت على أصول هؤلاء القوم لا معنى لها ، لأنه إن كان أدى فرض طهارته وصلاته فلا معنى للإعادة ، وإن كان لم يؤدهما فيلزمه عندهم أن يصلي أبدا . واحتج من رأي مسح باطن الخفين مع ظاهرهما بحديث رويناه من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة { أن رسول الله ﷺ مسح أعلى الخفين وأسفلهما } وحديث آخر رويناه عن بن وهب عن سليمان بن يزيد الكعبي عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن ابن شهاب عن المغيرة بن شعبة { أنه رأى رسول الله ﷺ يمسح أعلى الخفين وأسفلهما } وآخر رويناه من طريق بن وهب : حدثني رجل عن رجل من أعين عن أشياخ لهم عن أبي أمامة الباهلي وعبادة بن الصامت { أنهم رأوا رسول الله ﷺ يمسح أعلى الخفين وأسفلهما . } قال علي : هذا كله لا شيء ، أما حديث أبي أمامة وعبادة فأسقط من أن يخفى على ذي لب ؛ لأنه عمن لا يسمى عمن لا يدرى من هو عمن لا يعرف ، وهذا فضيحة . وأما حديثا المغيرة فأحدهما عن ابن شهاب عن المغيرة ، ولم يولد ابن شهاب إلا بعد موت المغيرة بدهر طويل ، والثاني مدلس أخطأ فيه الوليد بن مسلم في موضعين ، وهذا خبر حدثناه حمام قال ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي قال : قال عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد قال : حدثت عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة { أن رسول الله ﷺ مسح أعلى الخفين وأسفلهما } فصح أن ثورا لم يسمعه من رجاء بن حيوة ، وأنه مرسل لم يذكر فيه المغيرة ، وعلة ثالثة وهي أنه لم يسم فيه كاتب المغيرة ، فسقط كل ما في هذا الباب ، وبالله تعالى التوفيق .
223 - مسألة : ومن لبس على رجليه شيئا مما يجوز المسح عليه على غير طهارة ثم أحدث ، فلما أراد الوضوء وتوضأ ولم يبق له غير رجليه فجاءه خوف شديد لم يدرك معه غسل رجليه بعد نزع خفيه ، فإنه ينهض ولا يمسح عليهما ، ويصلي كما هو ، وصلاته تامة ، فإذا أمكنه نزع خفيه ووجد الماء بعد تمام صلاته فقد قال قوم : يلزمه نزعهما وغسل رجليه فرضا ولا يعيد ما صلى ، فإن قدر على ذلك قبل أن يسلم بطلت صلاته ونزع ما على رجليه وغسلهما وابتدأ الصلاة ، وقال آخرون : قد تم وضوءه ويصلي بذلك الوضوء ما لم ينتقض بحدث لا بوجود الماء ، وهذا أصح . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - وقد ذكرناه بإسناده فيما مضى من كتابنا هذا { إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم } وقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فلما عجز هذا عن غسل رجليه سقط حكمهما ، وبقي عليه ما قدر عليه من وضوء سائر أعضائه ، وإذا كان كذلك فقد توضأ كما أمره الله عز وجل ، ومن توضأ كما أمر الله فصلاته تامة . وأما من قال : إنه إذا قدر على الماء لزمه إتمام وضوئه فرضا وقد تمت صلاته ، فلو قدر على ذلك في صلاته فقد لزمه فرضا أن لا يتم ما بقي من صلاته إلا بوضوء تام ، والصلاة لا يحل أن يفرق بين أعمالها بما ليس منها ، فقول غير صحيح ودعوى بلا برهان ، بل قد قام البرهان من النص من القرآن والسنة على أنه قد توضأ كما أمر ، وقد تمت طهارته وأن له أن يصلي ، فمن الباطل أن يعود عليه حكم الحدث من غير أن يحدث ، إلا أن يوجب ذلك نص فيوقف عنده ، ولا نص في هذه المسألة يوجب عليه إعادة الوضوء ، فلا يلزمه إعادته ولا غسل رجليه ، لأنه على طهارة تامة ، لكن يصلي بذلك الوضوء ما لم يحدث لما ذكرناه . فإن قيل : قسنا ذلك على التيمم . قلنا : القياس باطل كله ، ومن أين لكم إذا وجب ذلك في التيمم أن يجب في العاجز عن بعض أعضائه ؟ فليس بأيديكم غير دعواكم أن هذا وجب في العاجز كما وجب في التيمم ، وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، ومن أراد أن يعطي بدعواه فقد أراد الباطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا ، لأنهم موافقون لنا على أن العاجز عن بعض أعضائه - كمن ذهبت رجلاه أو نحو ذلك - لا يجوز له التيمم ، وأن حكمه إنما هو غسل ما بقي من وجهه وذراعيه ومسح رأسه فقط ، وأن وضوءه بذلك تام وصلاته جائزة ، فلما لم يجعلوا له أن يتيمم لم يجز أن يجعل له حكم التيمم ، وهذا أصح من قياسهم . والحمد لله رب العالمين .
========================================
224..
كتاب الطهارة
كتاب التـــيمم
224 - مسألة : لا يتيمم من المرضى إلا من لا يجد الماء ، أو من عليه مشقة وحرج في الوضوء بالماء أو في الغسل به أو المسافر الذي لا يجد الماء الذي يقدر على الوضوء به أو الغسل به برهان ذلك قول الله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } فهذا نص ما قلناه وإسقاط الحرج ، وقال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالحرج والعسر ساقطان - ولله تعالى الحمد - سواء زادت علته أو لم تزد ، وكذلك إن خشي زيادة علته فهو أيضا عسر وحرج . وقال عطاء والحسن : المريض لا يتيمم أصلا ما دام يجد الماء ، ولا يجزيه إلا الغسل والوضوء ، المجدور وغير المجدور سواء .
225 - مسألة : وسواء كان السفر قريبا أو بعيدا ، سفر طاعة كان أو سفر معصية أو مباحا ، هذا مما لا نعلم فيه خلافا ، إلا أن بعض العلماء ذكر قولا لم ينسبه إلى أحد ، وهو أن التيمم لا يجوز إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . قال علي : ولقد كان يلزم من حد في قصر الصلاة والفطر سفرا دون سفر ، في بعض المسافات دون بعض ، وفي بعض الأسفار دون بعض ، وفرق بين سفر الطاعة والمعصية في ذلك : أن يفعل ذلك في التيمم ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه أقبح تناقض ، فإن ادعوا ههنا إجماعا لزمهم ، إذ هم أصحاب قياس بزعمهم أن يقيسوا ما اختلف فيه من صفة السفر في القصر والفطر والمسح على ما اتفق عليه من صفة السفر في التيمم ، وإلا فقد تركوا القياس ، وخالفوا القرآن والسنن وبالله التوفيق .
226 - مسألة : والمرض هو كل ما أحال الإنسان عن القوة والتصرف ، هذا حكم اللغة التي بها نزل القرآن ، وبالله تعالى التوفيق .
227 - مسألة : قال علي : ويتيمم من كان في الحضر صحيحا إذا كان لا يقدر على الماء إلا بعد خروج وقت الصلاة ، ولو أنه على شفير البئر والدلو في يده أو على شفير النهر والساقية والعين ، إلا أنه يوقن أنه لا يتم وضوءه أو غسله حتى يطلع أول قرن الشمس ، وكذلك المسجون والخائف . برهان ذلك ما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ { فضلنا على الناس بثلاث } ، فذكر فيها : { وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . وبه إلى مسلم : حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا إسماعيل - هو ابن جعفر - عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال : { فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الناس كافة ، وختم بي النبيون . } فهذا عموم دخل فيه الحاضر والبادي . فإن قيل : فإن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } وقال رسول الله ﷺ { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } فلم يبح عز وجل للجنب أن يقرب الصلاة حتى يغتسل أو يتوضأ إلا مسافرا . قلنا : نعم ، قال الله تعالى هذا ، وقال رسول الله ﷺ ما ذكرتم ، وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } فكانت هذه الآية زائدة حكما وواردة بشرع ليس في الآية التي ذكرتم بل فيها إباحة أن يقرب الصلاة الجنب دون أن يغتسل ، وهو غير عابر سبيل ، لكن إذا كان مريضا لا يجد الماء أو عليه حرج ، وكانت هذه الآية أيضا زائدة حكما على الخبر الذي لفظه { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } ثم جاء الخبران اللذان ذكرنا بزيادة وعموم على الآيتين والخبر المذكور ، فدخل في هذين الخبرين الصحيح المقيم إذا لم يجد الماء ، وكلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ فرض جمع بعضه إلى بعض وكله من عند الله تعالى . وقولنا هذا هو قول مالك وسفيان والليث : وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يتيمم الحاضر ، لكن إن لم يقدر على الماء إلا حتى يفوت الوقت تيمم وصلى ، ثم أعاد ولا بد إذا وجد الماء ، وقال زفر : لا يتيمم الصحيح في الحضر ألبتة وإن خرج الوقت ، لكن يصبر حتى يخرج الوقت ويجد الماء فيصلي حينئذ . قال علي : أما قول أبي حنيفة والشافعي فظاهر الفساد ، لأنه لا يخلو أمرهما له بالتيمم والصلاة من أن يكونا أمراه بصلاة هي فرض الله تعالى عليه أو بصلاة لم يفرضها الله تعالى عليه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ، فإن قال مقلدهما أمراه بصلاة : هي فرض عليه ، قلنا فلم يعيدها بعد الوقت إن كان قد أدى فرضه ؟ وإن قالوا : بل أمراه بصلاة ليست فرضا عليه ، أقرا بأنهما ألزماه ما لا يلزمه ، وهذا خطأ ، وأما قول زفر فخطأ ، لأنه أسقط فرض الله تعالى في الصلاة في الوقت الذي أمر الله تعالى بأدائها فيه ، وألزمه إياها في الوقت الذي حرم الله تعالى تأخيرها إليه . قال أبو محمد : والصلاة فرض معلق بوقت محدود ، والتأكيد فيها أعظم من أن يجهله مسلم ، وقد قال رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فوجدنا هذا الذي حضرته الصلاة هو مأمور بالوضوء وبالغسل إن كان جنبا وبالصلاة ، فإذا عجز عن الغسل والوضوء سقطا عنه ، وقد نص عليه السلام على أن الأرض طهور إذا لم يجد الماء وهو غير قادر عليه ، فهو غير باق عليه ، وهو قادر على الصلاة فهي باقية عليه ، وهذا بين والحمد لله رب العالمين .
228 - مسألة : والسفر الذي يتيمم فيه هو الذي يسمى عند العرب سفرا سواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو مما لا تقصر فيه الصلاة ، وما كان دون ذلك - مما لا يقع عليه اسم السفر من البروز عن المنازل - فهو في حكم الحاضر ، فأما المسافر سفرا يقع عليه اسم سفر والمريض الذي له التيمم فالأفضل لهما أن يتيمما في أول الوقت ، سواء رجوا الماء أو أيقنا بوجوده قبل خروج الوقت ، أو أيقنا أنه لا يوجد حتى يخرج الوقت ، وكذلك رجاء الصحة ولا فرق ، وأما الحاضر الصحيح ومن له حكم الحاضر فلا يحل له التيمم إلا حتى يوقن بخروج الوقت قبل إمكان الماء . برهان ذلك أن النص ورد في المسافر الذي لا يجد الماء ، وفي المريض كذلك وفي المريض ذي الحرج ، وكان البدار إلى الصلاة أفضل ، لقول الله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وأما الحاضر فلا خلاف من أحد في أنه ما دام يرجو بوجود الماء قبل خروج الوقت فإنه لا يحل له التيمم ، وما أبيح له التيمم عند تيقن خروج الوقت إلا باختلاف ، ولولا النص ما حل له . وقال أبو حنيفة في المشهور عنه : لا يتيمم المسافر إلا في آخر وقت الصلاة ، إلا أنه قد روي عنه أن هذا إنما هو ما دام يطمع في الماء فإن لم يرج به فليتيمم في أول الوقت . وقال سفيان : يؤخر المسافر التيمم إلى آخر الوقت لعله يجد الماء ، وهو قول أحمد بن حنبل . وروي أيضا عن علي وعطاء ، وقال مالك مرة : لا يعجل ولا يؤخر ، ولكن في وسط الوقت . وقال مرة : إن أيقن بوجود الماء قبل خروج وقت الصلاة فإنه يؤخر التيمم إلى آخر الوقت ، فإن وجد الماء وإلا تيمم وصلى ، وإن كان طامعا في وجود الماء قبل خروج الوقت أخر التيمم إلى وسط الوقت ، فيتيمم في وسطه ويصلي ، وإن كان موقنا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فيتيمم في أول الوقت ويصلي . وقال الأوزاعي : كل ذلك سواء . قال علي : التعلق بتأخير التيمم لعله يجد الماء لا معنى له ؛ لأنه لا نص ولا إجماع على أن عمل المتوضئ أفضل من عمل المتيمم ، ولا على أن صلاة المتوضئ أفضل ولا أتم من صلاة المتيمم ، وكلا الأمرين طهارة تامة وصلاة تامة ، وفرض في حالة فإذ كان ذلك كذلك فتأخير الصلاة رجاء وجود الماء ترك للفضل في البدار إلى أفضل الأعمال بلا معنى ، وقد جاء مثل هذا عن رسول الله ﷺ وعن ابن عمر وغيره . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال : سمعت عميرا مولى ابن عباس قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي ﷺ حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري . قال { أقبل رسول الله ﷺ من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي ﷺ حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام } . وروينا عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع : أن ابن عمر تيمم ثم صلى العصر وبينه وبين المدينة ميل أو ميلان ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد . وعن مالك عن نافع : أنه أقبل مع ابن عمر من الجرف ، فلما أتى المربد لم يجد ماء ، فنزل فتيمم بالصعيد وصلى ثم لم يعد تلك الصلاة . قال علي : وهو قول داود وأصحابنا . وقال محمد بن الحسن : أما المسافر فإن كان الماء منه على أقل من ميل طلبه وإن خرج الوقت ، فإن كان على ميل لم يلزمه طلبه وتيمم . قال : وأما من خرج من مصره غير مسافر ، فإن كان بحيث لا يسمع حس الناس وأصواتهم تيمم . قال علي : وهذه أقوال نحمد الله على السلامة منها ومن مثلها
229 - مسألة : ومن كان الماء منه قريبا إلا أنه يخاف ضياع رحله أو فوت الرفقة أو حال بينه وبين الماء عدو ظالم أو نار أو أي خوف كان في القصد إليه مشقة ففرضه التيمم . برهان ذلك قول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } وكل هؤلاء لا يجدون ماء يقدرون على الطهارة به . 230 - مسألة : فإن طلب بحق فلا عذر له في ذلك ولا يجزيه التيمم ، لأن فرضا عليه أن لا يمتنع من كل حق قبله لله تعالى أو لعباده ، فإن امتنع فهو عاص ، قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وأمر رسول الله ﷺ أن يعطى كل ذي حق حقه ، وبالله تعالى التوفيق .
231 - مسألة : فلو كان على بئر يراها ويعرفها في سفر وخاف فوات أصحابه أو فوت صلاة الجماعة أو خروج الوقت : تيمم وأجزأه ، لكن يتوضأ لما يستأنف لأن كل هذا عذر مانع من استعماله الماء ، فهو غير واجد الماء يمكنه استعماله بلا حرج .
232 - مسألة : ومن كان الماء في رحله فنسيه أو كان بقربه بئر أو عين لا يدري بها فتيمم وصلى أجزأه ، لأن هذين غير واجدين للماء ، ومن لم يجد الماء تيمم بنص كلام الله تعالى ، وهذا قول أبي حنيفة وداود . وقال مالك : يعيد في الوقت ولا يعيد إن خرج الوقت . وقال أبو يوسف والشافعي : يعيد أبدا . وقال أبو يوسف إن كانت البئر منه على رمية سهم أو نحوها وهو لا يعلم بها أجزأه التيمم ، فإن كان على شفيرها أو بقربها وهو لا يعلم بها لم يجزه التيمم .
233 - مسألة : وكل حدث ينقض الوضوء فإنه ينقض التيمم ، هذا ما لا خلاف فيه من أحد من أهل الإسلام .
234 - مسألة : وينقض التيمم أيضا وجود الماء ، سواء وجده في صلاة أو بعد أن صلى أو قبل أن يصلي ، فإن صلاته التي هو فيها تنتقض لانتقاض طهارته ويتوضأ أو يغتسل ، ثم يبتدئ الصلاة ، ولا قضاء عليه فيما قد صلى بالتيمم . ولو وجد الماء إثر سلامه منها ، الخلاف في هذا في ثلاث مواضع : أحدها خلاف قديم في أن الماء إذا وجد لم يكن على المتيمم الوضوء به ولا الغسل ما لم يحدث منه ما يوجب الغسل أو الوضوء . وروينا ذلك عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : إذا كنت جنبا في سفر فتمسح ثم إذا وجدت الماء فلا تغتسل من جنابة إن شئت ، قال عبد الحميد : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : ما يدريه ؟ إذا وجدت الماء فاغتسل . وبإحداث الغسل والوضوء يقول جمهور المتأخرين . وكان من حجة من لا يرى تجديد الوضوء والغسل أن قال : التيمم طهارة صحيحة فإذ ذلك كذلك فلا ينقضها إلا ما ينقض الطهارات ، وليس وجود الماء حدثا ، فوجود الماء لا ينقض طهارة التيمم . قال علي : وكان هذا قولا صحيحا لولا ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد - هو القطان - ثنا عوف - هو ابن أبي جميلة - ثنا أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال { كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فذكر الحديث وفيه أن رسول الله ﷺ صلى بالناس ، فلما انفتل رسول الله ﷺ من صلاته إذ هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، فقال : ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك } ثم ذكر في حديثه ذلك أمر الماء الذي أحدثه الله تعالى آية لنبيه عليه السلام قال : " وكان آخر ذلك أن { أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء ، وقال : اذهب فأفرغه عليك } . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري ببغداد ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا إسماعيل بن مسلم ثنا أبو رجاء العطاردي عن { عمران بن الحصين قال كنت مع رسول الله ﷺ وفي القوم جنب ، فأمره رسول الله ﷺ فتيمم وصلى ، ثم وجدنا الماء بعد ، فأمره رسول الله ﷺ أن يغتسل ولا يعيد الصلاة } وقد ذكرنا حديث حذيفة عن رسول الله ﷺ { وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . فصح بهذه الأحاديث أن الطهور بالتراب إنما هو ما لم يوجد الماء ، وهذا لفظ يقتضي أن لا يجوز التطهر بالتراب إلا إذا لم يوجد الماء ، ويقتضي أن لا يصح طهور بالتراب إلا أن لا نجد الماء إلا لمن أباح له ذلك نص آخر ، وإذا كان هذا فلا يجوز أن يخص بالقبول أحد المعنيين دون الآخر ، بل فرض العمل بهما معا ، وصحح هذا أيضا أمره عليه السلام المجنب بالتيمم بالصعيد والصلاة ، ثم أمره عند وجود الماء بالغسل ، فصح ما قلناه نصا والحمد لله . والموضع الثاني : إن وجد الماء بعد الصلاة أيعيدها أم لا ؟ فقال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والشعبي والحسن وأبو سلمة بن عبد الرحمن : إنه يعيد ما دام في الوقت . رويناه من طريق معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن أبي سلمة ، وعن طريق حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن ، ومن طريق الحجاج بن المنهال عن سفيان الثوري عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن سعيد بن المسيب ، ومن طريق وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي ، ومن طريق سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن عطاء ، ومن طريق الحسن بن صالح عن العلاء بن المسيب عن طاوس . وقال مالك : المسافر والمريض والخائف يتيممون في وسط الوقت ، فإن تيمموا وصلوا ثم وجدوا الماء في الوقت فإن المسافر لا يعيد ، وأما المريض والخائف فيعيدان الصلاة . قال علي : أما قول مالك فظاهر الخطأ في تفريقه بين المريض والخائف وبين المسافر ، لأن المريض الذي لا يجد الماء مأمور بالتيمم والصلاة ، كما أمر به المسافر في آية واحدة ولا فرق . وأما المريض والخائف المباح لهما التيمم لرفع الحرج والعسر فكذلك أيضا ، وكل من ذكرنا ، فلم يأت بالفرق بين أحد منهم في ذلك قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي له وجه ، نعم ، ولا نعلم أحدا قال قبل مالك ، فسقط هذا القول جملة ولم يبق إلا قول من قال : يعيد الكل ، وقول من قال لا يعيد فنظرنا ، فوجدنا كل من ذكرنا مأمورا بالتيمم بنص القرآن ، فلما صلوا كانوا لا يخلون من أحد وجهين : إما أن يكونوا صلوا كما أمروا أو لم يصلوا كما أمروا . فإن قالوا لم يصلوا كما أمروا قلنا لهم : فهم إذا منهيون عن التيمم والصلاة ابتداء لا بد من هذه وهذا لا يقوله أحد ، ولو قاله لكان مخطئا مخالفا للقرآن والسنن والإجماع ، فإذ قد سقط هذا القسم بيقين فلم يبق إلا القسم الثاني ، وهو أنهم قد صلوا كما أمروا ، فإذ قد صلوا كما أمروا فلا تحل لهم إعادة صلاة واحدة في يوم مرتين ، لنهي رسول الله ﷺ . حدثنا بذلك عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أبو كامل ثنا يزيد - يعني ابن زريع - ثنا حسين - هو المعلم عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال : { أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون فقال : إني سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين } فسقط الأمر بالإعادة جملة . والحمد لله رب العالمين . والثالث من رأى الماء وهو في الصلاة ، فإن مالكا والشافعي وأحمد بن حنبل وأبا ثور وداود . قالوا : إن رأى الماء وهو في الصلاة فليتماد على صلاته ولا يعيدها ولا تنتقض طهارته بذلك ، وإن رآه بعد الصلاة فليتوضأ وليغتسل ولا بد ، لا تجزيه صلاة مستأنفة إلا بذلك . وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والأوزاعي : سواء وجد الماء في الصلاة أو بعد الصلاة يقطع الصلاة ولا بد ، ويتوضأ أو يغتسل ويبتديها ، وأما إن رآه بعد الصلاة فقد تمت صلاته تلك ، ولا بد له من الطهارة بالماء لما يستأنف لا تجزيه صلاة يستأنفها إلا بذلك . قال علي : فلما اختلفوا نظرنا في ذلك ، فوجدنا حجة من فرق بين وجود الماء في الصلاة ووجوده بعد الصلاة - إن قالوا قد دخل في الصلاة كما أمر ، فلا يجوز له أن ينقضها إلا بنص أو إجماع . قال أبو محمد : لا نعلم لهم حجة غير هذه ، ولا متعلق لهم بها ، لأنه - وإن كان قد دخل في الصلاة كما أمره الله تعالى - فلا يخلو وجود الماء من أن يكون ينقض الطهارة ويعيده في حكم المحدث أو المجنب ، أو يكون لا ينقض الطهارة ولا يعيده في حكم المجنب أو المحدث . فإن قالوا لا ينقض الطهارة ولا يعيده مجنبا ولا محدثا ، فهذا جواب أبي سليمان وأصحابنا ، قلنا فلا عليكم ، أنتم مقرون بأنه مع ذلك مفترض عليه الغسل أو الوضوء متى وجد الماء بلا خلاف منكم ، فمن قولهم نعم ، فقلنا لهم : فهو مأمور بذلك في حين وجوده في الصلاة وغير الصلاة بنص مذهبنا ومذهبكم في البدار إلى ما أمرنا به فإن قالوا : ليس مأمورا بذلك في الصلاة لشغله بها ، قلنا : هذا فرق لا دليل عليه ، ودعوى بلا برهان ، فإذ هو مأمور بذلك في الصلاة وغير الصلاة فقد صح إذ هو مأمور بذلك في الصلاة أن أمركم بالتمادي على ترك استعمال الماء خطأ ؛ لأنه على أصلكم لا تنتقض بذلك صلاته ، فكان اللازم على أصولكم أن يستعمل الماء ويبني على ما مضى من صلاته كما تقولون في المحدث ولا فرق ، وهم لا يقولون هذا فسقط قولهم . وأما المالكيون والشافعيون فجوابهم أن وجود الماء ينقض الطهارة ويعيد التيمم مجنبا ومحدثا في غير الصلاة ، ولا ينقض الطهارة في الصلاة . قال علي : فكان هذا قولا ظاهر الفساد ودعوى عارية عن الدليل ، وما جاء قط في قرآن ولا سنة ولا في قياس ولا في رأي له وجه أن شيئا يكون حدثا في غير الصلاة ولا يكون حدثا في الصلاة والدعوى لا يعجز عنها أحد ، وهي باطل ما لم يصححها برهان من قرآن أو سنة ، لا سيما قولهم : إن وجود المصلي الماء في حال صلاته لا ينقض صلاته ، فإذا سلم انتقضت طهارته بالوجود الذي كان في الصلاة ، وإن لم يتماد ذلك الوجود إلى بعد الصلاة ، فهذا أطرف ما يكون شيء ينقض الطهارة إذا عدم ولا ينقضها إذا وجد وهم قد أنكروا هذا بعينه على أبي حنيفة في قوله : إن القهقهة تنقض الوضوء في الصلاة ولا تنقضها في غير الصلاة . قال علي : فإذ قد ظهر أيضا فساد هذا القول فقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ : { إن التراب طهور ما لم يوجد الماء } فصح أن لا طهارة تصح بتراب مع وجود الماء إلا لمن أجازه له النص من المريض الذي عليه من استعماله حرج ، فإذ ذلك كذلك فقد صح بطلان طهارة المتيمم إذا وجد الماء في صلاة كان أو في غير صلاة وصح قول سفيان ومن وافقه . إلا أن أبا حنيفة تناقض ههنا في موضعين ، أحدهما أنه يرى لمن أحدث مغلوبا أن يتوضأ ويبني ، وهذا أحدث مغلوبا ، فكان الواجب على أصله أن يأمره بأن يتوضأ ويبني ، والثاني : أنه يرى السلام من الصلاة ليس فرضا : وأن من قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت صلاته ، وأنه إن أحدث عامدا أو ناسيا فقد صحت صلاته ولا إعادة عليه ، ثم رأى ههنا أنه وإن قعد في آخر صلاته مقدار التشهد ثم وجد الماء وإن لم يسلم فإن صلاته تلك قد بطلت وكذلك طهارته ، وعليه أن يتطهر ويعيدها أبدا ، وهذا تناقض في غاية القبح والبعد عن النصوص والقياس وسداد الرأي ، وما علمنا هذه التفاريق لأحد قبل أبي حنيفة .
235 - مسألة : والمريض المباح له التيمم مع وجود الماء بخلاف ما ذكرنا ، فإن صحته لا تنقض طهارته . برهان ذلك أن الخبر الذي أتبعنا إنما جاء فيمن لم يجد الماء ، فهو الذي تنتقض طهارته بوجود الماء ، وأما من أمره الله تعالى بالتيمم والصلاة مع وجود الماء فإن وجود الماء قد صح يقينا أنه لا ينقض طهارته ، بل هي صحيحة مع وجود الماء ، فإذ ذاك كذلك فإن الصحة ليست حدثا أصلا ، إذ لم يأت بأنها حدث لا قرآن ولا سنة فإن قالوا : قسنا المريض على المسافر ، قلنا القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس الشيء على ضده ، وهذا باطل عند أصحاب القياس وهو قياس واجد الماء على عادمه ، وقياس مريض على صحيح ، وهم لا يختلفون أن أحكامهما في الصلاة وغيرها تختلف ، وبالله تعالى التوفيق .
==================
236..
كتاب الطهارة
كتاب التـــيمم
236 - مسألة : والمتيمم يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات الفرض والنوافل ما لم ينتقض تيممه بحدث أو بوجود الماء ، وأما المريض فلا ينقض طهارته بالتيمم إلا ما ينقض الطهارة من الأحداث فقط . وبهذا يقول أبو حنيفة وسفيان الثوري والليث بن سعد وداود . وروينا أيضا عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لم يحدث . وعن معمر قال : سمعت الزهري يقول : التيمم بمنزلة الماء . يقول يصلي به ما لم يحدث . وعن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : صل بتيمم واحد الصلوات كلها ما لم تحدث ، هو بمنزلة الماء وهو قول يزيد بن هارون ومحمد بن علي بن الحسين وغيرهم . وقال مالك : لا يصلى صلاتا فرض بتيمم واحد ، وعليه أن يتيمم لكل صلاة فإن تيمم وتطوع بركعتي الفجر أو غيرهما فلا بد له من أن يتيمم تيمما آخر للفريضة فلو تيمم ثم صلى الفريضة جاز له أن يتنفل بعدها بذلك التيمم . وقال الشافعي : يتيمم لكل صلاة فرض ولا بد ، وله أن يتنفل قبلها وبعدها بذلك التيمم . وقال شريك : يتيمم لكل صلاة . وروي مثل قول شريك عن إبراهيم النخعي والشعبي وربيعة وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وهو قول الليث بن سعد وأحمد وإسحاق . وقال أبو ثور : يتيمم لكل وقت صلاة فرض إلا أنه يصلي الفوائت من الفروض كلها بتيمم واحد . قال علي : أما قول مالك فلا متعلق له بحجة أصلا ، لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة ولا بقياس ، ولا يخلو التيمم من أن يكون طهارة أو لا طهارة ، فإن كان طهارة فيصلي بطهارته ما لم يوجب نقضها قرآن أو سنة ، وإن كان ليس طهارة فلا يجوز له أن يصلي بغير طهارة . وقال بعضهم : ليس طهارة تامة ولكنه استباحة للصلاة . قال علي : وهذا باطل من وجوه : أحدها أنه قول بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل . والثاني أنه قول يكذبه القرآن . قال الله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } فنص تعالى على أن التيمم طهارة من الله تعالى . والثالث : أنه تناقض منهم لأنهم قالوا ليس طهارة تامة - ولكنه استباحة للصلاة ، وهذا كلام ينقض أوله آخره ؛ لأن الاستباحة للصلاة لا تكون إلا بطهارة ، فهو إذن طهارة لا طهارة . والرابع أنه هبك أنه كما قالوا استباحة للصلاة ، فمن أين لهم أن لا يستبيحوا بهذه الاستباحة الصلاة الثانية كما استباحوا به الصلاة الأولى ؟ ومن أين وجب أن يكون استباحة للصلاة الأولى دون أن يكون استباحة للثانية ؟ وقالوا : إن طلب الماء ينقض طهارة المتيمم وعليه أن يطلب الماء لكل صلاة . قلنا لهم : هذا باطل ، أول ذلك إن قولكم ، إن طلب الماء ينقض طهارة المتيمم دعوى كاذبة بلا برهان ، وثانيه أن قولكم : أن عليه طلب الماء لكل صلاة باطل وأي ماء يطلب ؟ وهو قد طلبه وأيقن أنه لا يجده ؟ ثم لو كان كذلك ، فأي ماء يطلبه المريض الواجد الماء ؟ فظهر فساد هذا القول جملة ، لا سيما قول مالك في بقاء الطهارة بعد الفريضة للنوافل وانتقاض الطهارة بعد النافلة للفريضة ، وبعد الفريضة للفريضة ، وطلب الماء على قولهم يلزم للنافلة ولا بد ، كما يلزم للفريضة ، إذ لا فرق في وجوب الطهارة للنافلة كما تجب للفريضة ولا فرق ، بلا خلاف به من أحد من الأمة وإن اختلفت أحكامها في غير ذلك ، لا سيما وشيخهم الذي قلدوه - مالك - يقول في الموطأ : ليس المتوضئ بأطهر من المتيمم ، ومن تيمم فقد فعل ما أمره الله تعالى به . وأما قول الشافعي فظاهر الخطأ أيضا ، لأنه أوجب تجديد التيمم للفريضة ولم يوجبه للنافلة ، وهذا خطأ بكل ما ذكرناه . وأما قول أبي ثور فظاهر الخطأ أيضا ، لأنه جعل الطهارة بالتيمم تصح ببقاء وقت الصلاة وتنتقض بخروج الوقت وما علمنا في الأحداث خروج وقت أصلا ، لا في قرآن ولا سنة ، وإنما جاء الأمر بالغسل في كل صلاة فرض أو في الجمع بين الصلاتين في المستحاضة ، والقياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ، لأن قياس المتيمم على المستحاضة لم يوجبه شبه بينهما ولا علة جامعة ، فهو باطل بكل حال ، فحصلت هذه الأقوال دعوى كلها بلا برهان وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا إن قولنا هذا هو قول ابن عباس وعلي وابن عمر وعمرو بن العاص قلنا أما الرواية عن ابن عباس فساقطة لأنها من طريق الحسن بن عمارة وهو هالك وعن رجل لم يسم . وأما الرواية عن عمرو بن العاص فإنما هي عن قتادة عن عمرو بن العاص ، وقتادة لم يولد إلا بعد موت عمرو بن العاص ، والرواية في ذلك عن علي وابن عمر أيضا لا تصح ، ولو صحت لما كان في ذلك حجة ، إذ ليس في قول أحد حجة دون رسول الله ﷺ . وأيضا فإن تقسيم مالك والشافعي وأبي ثور لم يرو عن أحد ممن ذكرنا ، فهم مخالفون الصحابة المذكورين في كل ذلك ، وأيضا فقد روي نحو قولنا عن ابن عباس أيضا ، فصح قولنا وبالله التوفيق . وقد قال بعضهم : لما قال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } إلى قوله : { فتيمموا صعيدا طيبا } قال فأوجب عز وجل الوضوء على كل قائم إلى الصلاة ، فلما صلى النبي ﷺ الصلوات بوضوء واحد خرج الوضوء بذلك عن حكم الآية ، وبقي التيمم على وجوبه على كل قائم للصلاة . قال علي رضي الله عنه : وهذا ليس كما قالوا ، لا سيما المالكيين والشافعيين المبيحين للقيام إلى صلاة النافلة بعد الفريضة بغير إحداث تيمم ولا إحداث طلب للماء ، فلا متعلق لهاتين الطائفتين بشيء مما ذكرنا في هذا الباب ، وإنما الكلام بيننا وبين من قال بقول شريك ، فنقول وبالله التوفيق : إن الآية لا توجب شيئا مما ذكرتم ، ولو أوجبت ذلك لأوجبت غسل الجنابة على كل قائم إلى الصلاة أبدا ، وإنما حكم الآية في إيجاب الله تعالى الوضوء والتيمم والغسل إنما هو على المجنبين والمحدثين فقط ، بنص آخر الآية المبين لأولها ، لقول الله تعالى فيها : { وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ولا يختلف اثنان من الأمة في أن ههنا حذفا دل عليه العطف وإن معنى الآية : وإن كنتم مرضى أو على سفر فأحدثتم أو جاء أحد منكم من الغائط ، فبطل ما شغبوا به . بل لو قال قائل إن حكم تجديد الطهارة عند القيام إلى الصلاة إنما هو بنص الآية إنما هو على من حكمه الوضوء لا على من حكمه التيمم ، لكان أحق بظاهر الآية منهم ، لأن الله تعالى لم يأمر قط بالتيمم في الآية إلا من كان محدثا فقط ، لا كل قائم إلى الصلاة أصلا ، وهذا لا مخلص لهم منه ألبتة ، فبطل تعلقهم في إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة بالآية وصارت الآية موجبة لقولنا ، ومسقطة للتيمم إلا عمن كان محدثا فقط ، وأن التيمم طهارة صحيحة بنص الآية ، فإذ الآية موجبة لذلك فقد صح أنه يصلي بتيمم واحد ما شاء المصلي من صلوات الفرض في اليوم والليلة وفي أكثر من ذلك ومن النافلة ، ما لم يحدث أو يجنب أو يجد الماء بنص الآية نفسها والحمد لله رب العالمين .
237 - مسألة : والتيمم جائز قبل الوقت وفي الوقت إذا أراد أن يصلي به نافلة أو فرضا كالوضوء ولا فرق ، لأن الله تعالى أمر بالوضوء والغسل والتيمم عند القيام إلى الصلاة ، ولم يقل تعالى إلى صلاة فرض دون النافلة ، فكل مريد صلاة فالفرض عليه أن يتطهر لها بالغسل إن كان جنبا ، وبالوضوء أو التيمم إن كان محدثا ، فإذ ذلك كذلك فلا بد لمريد الصلاة من أن يكون بين تطهره وبين صلاته مهلة من الزمان ، فإذ لا يمكن غير ذلك فمن حد في قدر تلك المهلة حدا فهو مبطل ، لأنه يقول من ذلك ما لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب ، فإذ هذا كما ذكرنا فلا ينقض الطهارة بالوضوء ولا بالتيمم طول تلك المهلة ولا قصرها وهذا في غاية البيان ، والحمد لله رب العالمين .
238 - مسألة : ومن كان في رحله ماء فنسيه فتيمم وصلى فصلاته تامة ، لأن الناسي غير واجد للماء . وبالله تعالى التوفيق .
239 - مسألة : ومن كان في البحر والسفينة تجري فإن كان قادرا على أخذ ماء البحر والتطهر به لم يجزه غير ذلك ، فإن لم يقدر على أخذه تيمم وأجزأه . روينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أن ماء البحر لا يجزئ الوضوء به ، وأن حكم من لم يجد غيره التيمم . وروينا عن عمر رضي الله عنه الوضوء بماء البحر ، وهو الصحيح لقول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ولقول رسول الله ﷺ { وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } وماء البحر ماء مطلق ، فإن لم يقدر على أخذ الماء منه فهو لا يجد ماء يقدر على التطهر به ، ففرضه التيمم .
240 - مسألة : وكذلك من كان في سفر أو حضر وهو صحيح أو مريض فلم يجد إلا ماء يخاف على نفسه منه الموت أو المرض ، ولا يقدر على تسخينه إلا حتى يخرج الوقت ، فإنه يتيمم ويصلي ، لأنه لا يجد ماء يقدر على التطهر به .
241 - مسألة : وليس على من لا ماء معه أن يشتريه للوضوء ولا للغسل ، لا بما قل ولا بما كثر ، فإن اشتراه لم يجزه الوضوء به ولا الغسل وفرضه التيمم ، وله أن يشتريه للشرب إن لم يعطه بلا ثمن ، وأن يطلبه للوضوء فذلك له . وليس ذلك عليه فإن وهب له توضأ به ولا بد ، ولا يجزيه غير ذلك . برهان ذلك { نهي رسول الله ﷺ عن بيع الماء } . وروينا من طريق مسلم : حدثنا أحمد بن عثمان النوفلي ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا ابن جريج أخبرني زياد بن سعد أخبرني هلال بن أسامة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ { لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ } . حدثنا حمام ثنا عيسى بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن زهير بن حرب ثنا أبي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أخبره أبو المنهال أن إياس بن عبد قال لرجل : لا تبع الماء ، فإن { رسول الله ﷺ نهى عن بيع الماء } ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال { عن إياس بن عبد المزني - ورأى ناسا يبيعون الماء - فقال لا تبيعوا الماء ، فإني سمعت رسول الله ﷺ نهى أن يباع } . ومن طريق ابن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ثنا أبو إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت { نهى رسول الله ﷺ أن نمنع نقع البئر يعني فضل الماء } هكذا في الحديث تفسيره . ورويناه أيضا مسندا من طريق جابر ، فهؤلاء أربعة من الصحابة ، فهو نقل تواتر لا تحل مخالفته . قال علي : وقد تقصيت الكلام في هذا في مسألة المنع من بيع الماء في كتاب البيوع من ديواننا هذا . والحمد لله . قال أبو محمد : فإذ نهى رسول الله ﷺ عن بيعه فبيعه حرام ، وإذ هو كذلك فأخذه بالبيع أخذ بالباطل ، وإذ هو مأخوذ بالباطل فهو غير متملك له ، وإذ هو غير متملك له فلا يحل استعماله له ، لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولقول رسول الله ﷺ { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فإذا لم يجده إلا بوجه حرام - من غصب أو بيع محرم - فهو غير واجد الماء ، وإذا لم يجد الماء ففرضه التيمم . وأما ابتياعه للشرب فهو مضطر إلى ذلك ، والثمن حرام على البائع ، لأنه أخذه بغير حق ، ومنع فضل الماء هو محرم عليه ذلك . وأما استيهابه الماء فلم يأت بذلك إيجاب ولا جاء عنه منع فهو مباح ، قال عليه السلام : { دعوني ما تركتكم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه } أو كما قال عليه السلام ، فإذا ملكه بهبة فقد ملكه بحق ، فواجب عليه استعماله في الطهارة وبالله التوفيق . وقد اختلف الناس في هذا فقال الأوزاعي والشافعي وإسحاق : عليه أن يشتري الماء للوضوء بثمنه ، فإن طلب منه أكثر من ثمنه ، تيمم ولم يشتره . وقال أبو حنيفة لا يشتريه بثمن كثير . وقال مالك : إن كان قليل الدراهم ولم يجد الماء إلا بثمن غال تيمم ، وإن كان كثير المال اشترى ما لم يشطوا عليه في الثمن ، وهو قول أحمد . وقال الحسن البصري : يشتريه ولو بماله كله . قال أبو محمد : إن كان واجده بالثمن - واجدا للماء - فالحكم ما قاله الحسن ، وإن كان غير واجد فالقول قولنا ، وأما التقسيم في ابتياعه ما لم يغل عليه فيه ، وتركه إن غولي به ، فلا دليل على صحة هذا القول ، وكل ما دعت إليه ضرورة فليس غاليا بشيء أصلا وبالله تعالى التوفيق .
242 - مسألة : ومن كان معه ماء يسير يكفيه لشربه فقط ففرضه التيمم لقول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } .
243 - مسألة : ومن كان معه ماء يسير يكفيه للوضوء وهو جنب تيمم للجنابة وتوضأ بالماء ، لا يبالي أيهما قدم ، لا يجزيه غير ذلك ، لأنهما فرضان متغايران ، وإذ هما كذلك فلا ينوب أحد عن الآخر على ما قدمنا ، وهو قادر على أن يؤدي أحدهما بكماله بالماء ، فلا يجزيه إلا ذلك ، ويؤدي الآخر بالتيمم أيضا كما أمر .
244 - مسألة : فلو فضل له من الماء يسير فلو استعمله في بعض أعضائه ذهب ولم يمكنه أن يعم به سائر أعضائه ، ففرضه غسل ما أمكنه والتيمم ، وقال الشافعي يغسل به أي أعضائه شاء ويتيمم . قال علي : قال أصحابنا : وهذا خطأ ، لأنه غير عاجز عن سائر أعضائه . بمنع منها فيجزيه تطهير بعضها : ولكنه عاجز عن تطهير ما أمر بتطهيره بالماء ، ومن هذه صفته فالفرض عليه التيمم ولا بد ، بتعويض الله تعالى الصعيد من الماء إذا لم يوجد . وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : قال رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وهذا مستطيع لأن يأتي ببعض وضوئه أو ببعض غسله ، غير مستطيع على باقيه ، ففرض عليه أن يأتي من الغسل بما يستطيع في الأول ، فالأول من أعضاء الوضوء وأعضاء الغسل حيث بلغ ، فإذا نفد لزمه التيمم لباقي أعضائه ولا بد ، لأنه غير واجد للماء في تطهيرها ، فالواجب عليه تعويض التراب كما أمره الله تعالى ، فلو كان بعض أعضائه ذاهبا أو لا يقدر على مسه الماء لجرح أو كسر سقط حكمه ، قل أو كثر ، وأجزأه غسل ما بقي ، لأنه واجد للماء عاجز عن تطهير الأعضاء ، وليس من أهل التيمم لوجوده الماء وسقط عنه ما عجز عنه لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وبالله التوفيق .
245 - مسألة : فمن أجنب ولا ماء معه فلا بد له من أن يتيمم تيممين ، ينوي بأحدهما تطهير الجنابة وبالآخر الوضوء ، ولا يبالي أيهما قدم . برهان ذلك أنهما عملان متغايران كما قدمنا ، فلا يجزئ عمل واحد عن عملين مفترضين إلا بأن يأتي نص بأنه يجزئ عنهما ، والنص قد جاء بأن غسل أعضاء الوضوء يجزئ عن ذلك وعن غسلها في غسل الجنابة فصرنا إلى ذلك ، ولم يأت ههنا نص بأن تيمما واحدا يجزئ عن الجنابة وعن الوضوء : وكذلك لو أجنبت المرأة ثم حاضت ثم طهرت يوم جمعة وهي مسافرة ولا ماء معها فلا بد لها من أربع تيممات : تيمم للحيض وتيمم للجنابة وتيمم للوضوء وتيمم للجمعة لما ذكرناه ، فإن كانت قد غسلت ميتا فتيمم خامس ، والبرهان في ذلك قد ذكرناه في الغسل واجتماع وجوهه الموجبة له ، وبالله تعالى التوفيق .
=============
246..
كتاب الطهارة
كتاب التـــيمم
246 - مسألة : ومن كان محبوسا في حضر أو سفر بحيث لا يجد ترابا ولا ماء أو كان مصلوبا وجاءت الصلاة فليصل كما هو وصلاته تامة ولا يعيدها ، سواء وجد الماء في الوقت أو لم يجده إلا بعد الوقت . برهان ذلك قول الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فصح بهذه النصوص أنه لا يلزمنا من الشرائع إلا ما استطعنا ، وأن ما لم نستطعه فساقط عنا ، وصح أن الله تعالى حرم علينا ترك الوضوء أو التيمم للصلاة إلا أن نضطر إليه ، والممنوع من الماء والتراب مضطر إلى ما حرم عليه من ترك التطهر بالماء أو التراب ، فسقط عنا تحريم ذلك عليه ، وهو قادر على الصلاة بتوفيتها أحكامها وبالإيمان ، فبقي عليه ما قدر عليه ، فإذا صلى كما ذكرنا فقد صلى كما أمره الله تعالى ، ومن صلى كما أمره الله تعالى فلا شيء عليه ، والمبادرة إلى الصلاة في أول الوقت أفضل لما ذكرنا قبل . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي فيمن هذه صفته : لا يصلي حتى يجد الماء متى وجده . قال أبو حنيفة : فإن قدر على التيمم تيمم وصلى ، ثم إذا وجد الماء أعاد ولا بد متى وجده ، وإن خشي الموت من البرد تيمم وصلى وأجزأه . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي : يصلي كما هو ، فإذا وجد الماء أعاد متى وجده ، فإن قدر في المصر على التراب تيمم وصلى ، وأعاد أيضا ولا بد إذا وجد الماء . وقال زفر في المحبوس في المصر بحيث لا يجد ماء ولا ترابا أو بحيث يجد التراب : إنه لا يصلي أصلا حتى يجد الماء ، لا بتيمم ولا بلا تيمم ، فإذا وجد الماء توضأ وصلى تلك الصلوات ، وقال بعض أصحابنا : لا يصلي ولا يعيد ، وقال أبو ثور : يصلي كما هو ولا يعيد . قال علي : أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، لأنه لا يجيز الصلاة بالتيمم في المصر لغير المريض وخائف الموت ، كما لا يجيز له الصلاة بغير الوضوء والتيمم ولا فرق ، ثم فرق بينهما - وكلاهما عنده لا تجزيه صلاته - فأمر أحدهما بأن يصلي صلاة لا تجزيه ، وأمر الآخر بأن لا يصليها ، وهذا خطأ لا خفاء به ، فسقط هذا القول سقوطا لا خفاء به ، وما له حجة أصلا يمكن أن يتعلق بها . وأما قول أبي يوسف ومحمد فخطأ ، لأنهما أمراه بصلاة لا تجزيه ولا لها معنى ، فهي باطل ، وقد قال الله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } وأما قول زفر فخطأ أيضا ، لأنه أمره بأن لا يصلي في الوقت الذي أمر الله تعالى بالصلاة فيه ، وأمره أن يصلي في الوقت الذي نهاه الله تعالى عن تأخيره الصلاة إليه ، وقد أمره الله تعالى بالصلاة في وقتها أوكد أمر وأشده ، قال الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فلم يأمر تعالى بتخلية سبيل الكافر حتى يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، فلا يحل ترك ما هذه صفته عن الوقت الذي لم يفسح تعالى في تأخيره عنه ، فظهر فساد قول زفر وكل من أمره بتأخير الصلاة عن وقتها . وأما من قال : لا يصلي أصلا فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ " { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } وقال عليه السلام { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } قالوا : فلا نأمره بما لم يقبله الله تعالى منه ، لأنه في وقتها غير متوضئ ولا متطهر ، وهو بعد الوقت محرم عليه تأخير الصلاة عن وقتها . قال علي : هذا كان أصح الأقوال ، لولا ما ذكرنا من أن النبي ﷺ أسقط عنا ما لا نستطيع مما أمرنا به ، وأبقى علينا ما نستطيع ، وأن الله تعالى أسقط عنا ما لا نقدر عليه ، وأبقى علينا ما نقدر عليه ، بقوله تعالى { : فاتقوا الله ما استطعتم } فصح أن قوله عليه السلام : { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } و { لا يقبل الله صلاة إلا بطهور } إنما كلف ذلك من يقدر على الوضوء أو الطهور بوجود الماء أو التراب ، لا من لا يقدر على وضوء ولا تيمم ، هذا هو نص القرآن والسنن ، فلما صح ذلك سقط عنا تكليف ما لا نطيق من ذلك ، وبقي علينا تكليف ما نطيقه ، وهو الصلاة فإذ ذلك كذلك فالمصلي كذلك مؤد ما أمر به ، ومن أدى ما أمر به فلا قضاء عليه . وبالله تعالى التوفيق . فكيف وقد جاء في هذا نص كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا النفيلي ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { بعث رسول الله ﷺ أسيد بن الحضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة ، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فأتوا النبي ﷺ فذكروا ذلك له ، فأنزلت آية التيمم . } حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا زكريا بن يحيى ثنا ابن نمير - هو عبد الله - ثنا هشام بن عروة عن أبيه { عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله ﷺ رجلا فوجدها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى آية التيمم } فهذا أسيد وطائفة من الصحابة مع حكم الله تعالى ورضاء نبيه ﷺ . وبالله تعالى التوفيق .
247 - مسألة : ومن كان في سفر ولا ماء معه أو كان مريضا يشق عليه استعمال الماء فله أن يقبل زوجته وأن يطأها ، وهو قول ابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ، وجمهور أصحاب الحديث . وروي عن علي وابن مسعود وابن عوف وابن عمر النهي عن ذلك ، وقال عطاء إن كان بينه وبين الماء ثلاث ليال فأقل فلا يطؤها ، وإن كان بينه وبين الماء أربع ليال فله أن يطأها وقال الزهري إن كان مسافرا فلا يطؤها له وإن كان مغربا رحالا فله أن يطأها ، وإن كان لا ماء معه . وقال مالك : إن كان مسافرا فلا يطؤها ولا يقبلها إن كان على وضوء ، فإن كان به جراح يكون حكمه معها التيمم فله أن يطأها ويقبلها ، لأن أمر هذا يطول . قال : فإن كانت حائضا فطهرت فتيممت وصلت فليس لزوجها أن يطأها . قال : وكذلك لا يطؤها وإن كانت طاهرا متيممة . قال علي : أما تقسيم عطاء فلا وجه له ، لأنه لم يوجب ذلك الحد قرآن ولا سنة وكذلك تقسيم الزهري ، وأما قول مالك فكذلك أيضا ، لأنه تفريق لم يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب لم يخالف ولا قياس ولا احتياط ، لأن الله تعالى سمى التيمم طهرا ، والصلاة به جائزة ، وقد حض الله تعالى على مباضعة الرجل امرأته ، وصح أنه مأجور في ذلك ، وما خص الله تعالى بذلك من حكمه التيمم ممن حكمه الغسل أو الوضوء . قال أبو محمد : والعجب أنه يرى أنه يجزئ للجنابة وللوضوء وللحيض تيمم واحد ، ثم يمنع المحدثة والمتطهرة من الحيض بالتيمم والمحدث أن يطأ امرأته فقد أوجب أنهما عملان متغايران ، فكيف يجزئ عنده عنهما عمل واحد قال علي : ولا حجة للمانع من ذلك أصلا ، لأن الله تعالى جعل نساءنا حرثا لنا ولباسا لنا ، وأمرنا بالوطء في الزوجات وذوات الأيمان ، حتى أوجب تعالى على الحالف أن يطأ امرأته أجلا محدودا - إما أن يطأ وإما أن يطلق ، وجعل حكم الواطئ والمحدث الغسل والوضوء إن وجد الماء ، والتيمم إن لم يجد الماء ، لا فضل لأحد العملين على الآخر ، وليس أحدهما بأطهر من الآخر ولا بأتم صلاة ، فصح أن لكل واحد حكمه ، فلا معنى لمنع من حكمه التيمم من الوطء ، كما لا معنى لمنع من حكمه الغسل من الوطء ، وكل ذلك في النص سواء ، ليس أحدهما أصلا والثاني فرعا ، بل هما في القرآن سواء . وبالله تعالى التوفيق .
248 - مسألة : وجائز أن يؤم المتيمم المتوضئين ، والمتوضئ المتيممين ، والماسح الغاسلين والغاسل الماسحين ، لأن كل واحد ممن ذكرنا قد أدى فرضه ، وليس أحدهما بأطهر من الآخر ، ولا أحدهما أتم صلاة من الآخر ، وقد أمر رسول الله ﷺ إذا حضرت الصلاة أن يؤمهم أقرؤهم ، ولم يخص عليه السلام غير ذلك ، ولو كان ههنا واجب غير ما ذكره عليه السلام لبينه ولا أهمله ، حاشا لله من ذلك ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر وسفيان والشافعي وداود وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وروي ذلك عن ابن عباس وعمار بن ياسر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والزهري وحماد بن أبي سليمان . وروي المنع في ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال : لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد المطلقين ، وقال ربيعة : لا يؤم المتيمم من جنابة إلا من هو مثله ، وبه يقول يحيى بن سعيد الأنصاري . وقال محمد بن الحسن والحسن بن حي : لا يؤمهم . وكره مالك وعبيد الله بن الحسن أن يؤمهم ، فإن فعل أجزأه . وقال الأوزاعي : لا يؤمهم إلا إن كان أميرا . قال علي : النهي عن ذلك أو كراهته لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس ، وكذلك تقسيم من قسم ، وبالله تعالى التوفيق .
249 - مسألة : ويتيمم الجنب والحائض وكل من عليه غسل واجب كما يتيمم المحدث ولا فرق . وروينا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما : أن الجنب لا يتيمم حتى يجد الماء ، وعن الأسود وإبراهيم مثل ذلك . كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن واصل الأحدب والحكم بن عتيبة ، قال واصل : سمعت أبا وائل قال : كان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود - وهما خير مني - يقولان : إن لم يجد الماء لم يصل - يعني الجنب - قال : وأنا لو لم أجد الماء لتيممت وصليت . وقال الحكم : سألت إبراهيم النخعي إذا لم تجد الماء وأنت جنب ؟ قال لا أصلي قال شعبة : وقلت لأبي إسحاق : أقال ابن مسعود إن لم أجد الماء شهرا لم أصل ؟ - يعني الجنب - فقال أبو إسحاق : قال نعم والأسود . وقال غيرهما من الصحابة يتيمم الجنب . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا عوف - هو ابن أبي جميلة - ثنا أبو رجاء - هو العطاردي - عن عمران بن الحصين قال { كنا مع رسول الله ﷺ فذكر الحديث وأنه عليه السلام صلى بالناس فلما انفتل عليه السلام من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ قال أصابتني جنابة ولا ماء ، قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك . } واحتج من ذهب إلى قول ابن مسعود بقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } قال فلم يجعل للجنب إلا الغسل ، قلنا له : إن رسول الله ﷺ هو المبين عن الله عز وجل ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وهو عليه السلام قد بين أن الجنب حكمه التيمم عند عدم الماء . فإن ذكروا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن أبي عدي ثنا شعبة عن المخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال : { جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني أجنبت فلم أصل ، فقال أحسنت . وجاءه آخر فقال : إني أجنبت فتيممت فصليت ، قال أحسنت } قلنا : هذا خبر صحيح ، والمخارق ثقة ، تابع ، وطارق صاحب ، صحيح الصحبة مشهور والخبر به نقول ، وهذا الذي أجنب فلم يصل لم يكن عليه حكم التيمم ، فأصاب إذ لم يصل بما لا يدري ، وإنما تلزم الشرائع بعد البلوغ . قال الله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } والذي تيمم علم فرض التيمم ففعله ، لا يجوز ألبتة أن يكون غير هذا ، فإما أن يكون التيمم فرض المجنب إذا لم يجد الماء ، فيخطئ من ترك الفرض ممن عليه ، أو يكون التيمم ليس فرض المجنب المذكور فيخطئ من فعله ، وقد صح أنه فرضه بما ذكرنا في خبر عمران بن الحصين فصح ما قلناه من أن أحدهما لم يعلمه والآخر علمه ، فأتى به ، وبالله تعالى التوفيق . وأما الحائض وكل من عليه غسل واجب ، فقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ { جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء } وكل مأمور بالطهور إذا لم يجد الماء فالتراب بنص عموم هذا الخبر ، وبالله تعالى التوفيق .
===============
250..
كتاب الطهارة
كتاب التـــيمم
250 - مسألة : وصفة التيمم للجنابة وللحيض ولكل غسل واجب وللوضوء صفة عمل واحد ، إنما يجب في كل ذلك أن ينوي به الوجه الذي تيمم له ، من طهارة للصلاة أو جنابة أو إيلاج في الفرج أو طهارة من حيض أو من نفاس أو ليوم الجمعة أو من غسل الميت ، ثم يضرب الأرض بكفيه متصلا بهذه النية ثم ينفخ فيهما ويمسح وجهه وظهر كفيه إلى الكوعين بضربة واحدة فقط ، وليس عليه استيعاب الوجه ولا الكفين ولا يمسح في شيء من التيمم ذراعيه ولا رأسه ولا رجليه ولا شيئا من جسمه . أما النية فقد ذكرنا وجوبها قبل ، وقال أبو حنيفة يجزئ الوضوء وغسل الجنابة بلا نية ، ولا يجزئ التيمم فيهما إلا بنية ، وقال الحسن بن حي : كل ذلك يجزئ بلا نية ، وأما كون عمل التيمم للجنابة وللحيض وللنفاس ولسائر ما ذكرنا - كصفته لرفع الحدث فإجماع لا خلاف فيه من كل من يقول بشيء من هذه الأغسال وبالتيمم لها . وأما سقوط مسح الرأس والرجلين وسائر الجسد في التيمم فإجماع متيقن ، إلا شيئا فعله عمار بن ياسر رضي الله عنه في حياة رسول الله ﷺ نهاه عنه عليه السلام ، وفي سائر ذلك اختلاف ، وهو أن قوما قالوا بأن التيمم ضربتان ولا بد ، وقالت طائفة عليه استيعاب الوجه والكفين ، وقالت طائفة عليه استيعاب ذراعيه إلى الآباط ، وقال آخرون إلى المرافق . فأما الذين قالوا : إن التيمم ضربتان واحدة للوجه والأخرى لليدين والذراعين إلى المرافق ، فإنه احتجوا بحديث من طريق أبي أمامة الباهلي عن رسول الله ﷺ قال في التيمم { ضربتان ضربة للوجه وأخرى للذراعين } وبحديث من طريق عمار أن رسول الله ﷺ قال : " إلى المرفقين " وبحديث من طريق ابن عمر قال { سلم رجل على رسول الله ﷺ في سكة من السكك فلم يرد عليه ثم ضرب بيديه عليه السلام على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل ، وقال عليه السلام : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر } . ثم بحديث الأسلع رجل من بني الأعرج بن كعب قال { قلت يا رسول الله أصابتني جنابة . فسكت عليه السلام حتى جاءه جبريل بالصعيد ، فقال : قم يا أسلع فارحل ، قال : ثم علمني رسول الله ﷺ التيمم ، فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه حتى أمر على لحيته ، ثم أعادها إلى الأرض فمسح كفيه الأرض فدلك إحداهما بالأخرى ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما . } وبحديث عن أبي ذر قال { وضع رسول الله ﷺ يديه على الأرض ثم نفضهما ، ثم مسح وجهه ويديه إلى المرفقين } ليس في هذا الخبر إلا ضربة واحدة وبحديث عن ابن عمر عن النبي ﷺ في التيمم { ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين } وبحديث عن الواقدي أن رسول الله ﷺ قال { التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين } . وقالوا : قد صح عن عمر بن الخطاب وعن جابر بن عبد الله وعن ابن عمر ، من فتياهم وفعلهم أن التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة للذراعين واليدين ، قالوا والتيمم بدل من الوضوء ، فلما كان يجدد الماء للوجه وماء آخر للذراعين وجب كذلك في التيمم ، ولما كان الوضوء إلى المرفقين وجب أن يكون التيمم الذي هو بدله كذلك . هذا كل ما شغبوا به ، وكله لا حجة لهم فيه . أما الأخبار فكلها ساقطة ، لا يجوز الاحتجاج بشيء منها . أما حديث أبي أمامة فإننا رويناه من طريق ابن وهب عن محمد بن عمرو اليافعي عن رجل حدثه عن جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة ، ففيه علتان : إحداهما القاسم وهو ضعيف ، والثانية أن محمد بن عمرو لم يسم من أخبره به عن جعفر بن الزبير وقد دلسه بعض الناس فقال : عن محمد بن عمرو عن جعفر . ومحمد لم يدرك جعفر بن الزبير فسقط هذا الخبر . وأما حديث عمار فإننا رويناه من طريق أبان بن يزيد العطار عن قتادة قال : حدثني محدث عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار ، فلم يسم قتادة من حدثه . والأخبار الثابتة كلها عن عمار بخلاف هذا ، فسقط هذا الخبر أيضا . وأما حديث ابن عمر فإننا رويناه من طريق محمد بن إبراهيم الموصلي عن محمد بن ثابت العبدي عن نافع عن ابن عمر ، ومحمد بن ثابت العبدي ضعيف لا يحتج بحديثه ، ثم لو صح لكان حجة عليهم ، لأن فيه التيمم في الحضر للصحيح ، والتيمم لرد السلام ، وترك رد السلام على غير طهارة ، وهم لا يقولون بشيء من هذا كله ، ومن المقت احتجاج امرئ بما لا يراه لا هو ولا خصمه حجة واحتجاجه بشيء هو أول مخالف له ، فإن كان هذا الخبر حجة في التيمم إلى المرفقين ، فهو حجة في ترك رد السلام إلا على طهر ، وفي التيمم بين الحيطان في المدينة لرد السلام ، وإن لم يكن حجة في هذا فليس حجة فيما احتجوا به . فإن قالوا : هو على الندب ، قلنا : وكذلك قولوا في صفة التيمم فيه مرتين وإلى المرفقين أنه على الندب ولا فرق ، فسقط هذا الخبر أيضا . وأما حديث الأسلع ففي غاية السقوط ؛ لأننا رويناه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عليلة - هو الربيع - عن أبيه عن جده عن الأسلع ، وكل من ذكرنا فليسوا بشيء ولا يحتج بهم . وأما حديث أبي ذر فإنا رويناه من طريق ابن جريج عن عطاء : حدثني رجل أن أبا ذر ، وهذا كما ترى ، لا ندري من ذلك الرجل ، فسقط هذا الخبر أيضا . وأما حديث ابن عمر الثاني فرويناه من طريق شبابة بن سوار عن سليمان بن داود الحراني عن سالم ونافع عن ابن عمر ، وسليمان بن داود الحراني ضعيف لا يحتج به . وأما حديث الواقدي فأسقط من أن يشتغل به ، لأنه عن الواقدي وهو مذكور بالكذب ثم مرسل من عنده ، فسقط كل ما موهوا به من الآثار وأما احتجاجهم بما صح من ذلك عن عمر وابن عمر وجابر ، فقد صح عن عمر وابن مسعود : لا يتيمم الجنب وإن لم يجد الماء شهرا ، وقد صح عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وأم سلمة وغيرهم المسح على العمامة ، فلم يلتفتوا إلى ذلك ، فما الذي جعلهم حجة حيث يشتهي هؤلاء ، ولم يجعلهم حجة حيث لا يشتهون ؟ هذا موجب للنار في الآخرة وللعار في الدنيا ، فكيف وقد خالف في هذه المسألة عمر وابنه وجابرا علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار وابن عباس ، على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فسقط تعلقهم بالصحابة رضي الله عنهم . وأما قولهم إن التيمم بدل من الوضوء ، فيقال لهم : فكان ماذا ؟ ومن أين وجب أن يكون البدل على صفة المبدل منه ؟ وإن كان هذا فأنتم أول مخالف لهذا الحكم الذي قضيتم أنه حق ، فأسقطتم في التيمم الرأس والرجلين ، وهما فرضان في الوضوء وأسقطتم جميع الجسد في التيمم للجنابة وهو فرض في الغسل ، وأوجبتم أن يحمل الماء إلى الأعضاء في الوضوء ، ولم توجبوا حمل شيء من التراب إلى الوجه والذراعين في التيمم ، وأسقط أبو حنيفة منهم النية في الوضوء والغسل وأوجبها في التيمم ، ثم أين وجدتم في القرآن أو السنة أو الإجماع أن البدل لا يكون إلا على صفة المبدل منه ؟ وهل هذا إلا دعوى فاسدة كاذبة ؟ وقد وجدنا الرقبة واجبة في الظهار وفي كفارة اليمين وكفارة قتل الخطأ وكفارة المجامع عمدا نهارا في رمضان وهو صائم ، ثم عوضها الله تعالى وأبدل من رقبة الكفارة صيام ثلاثة أيام ومن رقاب القتل والجماع والظهار صيام شهرين متتابعين ، وعوض من ذلك إطعاما في الظهار والجماع ، ولم يعوضه في القتل ، وهكذا في كل شيء . فإن قالوا : قسنا التيمم على الوضوء ، قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، وهلا قستم ما يتيمم من اليدين على ما يقطع من اليدين في السرقة كما تركتم أن تقيسوا ما يستباح به فرج الحرة في النكاح على ما يستباح به فرج الأمة في البيع ، وقستموه على ما تقطع فيه يد السارق لا سيما وقد فرقتم بالنص والإجماع بين حكم التيمم وبين الوضوء في سقوط الرأس والرجلين في التيمم دون الوضوء ، وسقوط الجسد كله في التيمم دون الغسل . ويقال لهم كما جعلتم سكوت الله تعالى عن ذكر الرأس والرجلين في التيمم دليلا على سقوط ذلك فيه ولم تقيسوه على الوضوء ، فهلا جعلتم سكوته تعالى عن ذكر التحديد إلى المرافق في التيمم دليلا على سقوط ذلك ، ولا تقيسوه على الوضوء ؟ كما فعل أبو حنيفة وأصحابه في سكوت الله تعالى عن دين الرقبة في الظهار ، ولم يقيسوها على المنصوص عليها في رقبة القتل ، وإذا قستم التيمم للوضوء على الوضوء فقيسوا التيمم للجنابة على الجنابة ، فعموا به الجسد وهذا ما لا مخلص منه . وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وقد رأى قوم أن التيمم ضربتان ، ضربة للوجه وضربة للكفين فقط ، واحتجوا بحديث رويناه من طريق حرمي بن عمارة ثنا الحريش بن الخريت أخو الزبير بن الخريت حدثنا عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة أم المؤمنين { نزلت آية التيمم فضرب رسول الله ﷺ ضربة ومسح بها وجهه ، ثم ضرب على الأرض أخرى فمسح بها كفيه } . وبحديث رويناه من طريق شبابة بن سوار عن سليمان بن داود الحراني عن سالم ونافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ قال في التيمم { ضربة للوجه وضربة للكفين . } قال علي : وهذا لا شيء ؛ لأن أحدهما من طريق الحريش بن الخريت وهو ضعيف ، والثاني من طريق سليمان بن داود الحراني وهو ضعيف . وممن رأى أن التيمم ضربتان ضربة للوجه والأخرى لليدين والذراعين إلى المرفقين : الحسن البصري وأبو حنيفة وأصحابه ، وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن حي . والشافعي وأبو ثور قالا : إلا أن يصح عن رسول الله ﷺ غير ذلك فنقول به ، واختلف في ذلك عن الشعبي . وقال إبراهيم : أحب إلي أن يكون إلى المرفقين ، ولهذا قال مالك ، ولم ير على من تيمم إلى الكوعين أن يعيد الصلاة إلا في الوقت . وقد ذهب قوم إلى أن التيمم إلى المناكب ، واحتجوا بما رويناه من طريق العباس بن عبد العظيم عن عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد عن عمه جويرية بن أسماء عن مالك بن أنس عن الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار بن ياسر قال : { تيممنا مع رسول الله ﷺ فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب } ورويناه أيضا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد : ثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس { عن عمار بن ياسر - فذكر نزول آية التيمم قال : فقام المسلمون مع رسول الله ﷺ فضربوا أيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط . } وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري : حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار ، وبه كان يقول عمار والزهري ، روينا من طريق سليمان بن حرب الواشحي ، ثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني قال : سمعت الزهري يقول : التيمم إلى المنكبين . قال علي : هذا أثر صحيح إلا أنه ليس فيه نص ببيان أن رسول الله ﷺ أمر بذلك فيكون ذلك حكم التيمم وفرضه ، ولا نص بيان بأنه عليه السلام علم بذلك فأقره ، فيكون ذلك ندبا مستحبا ، ولا حجة في فعل أحد دون رسول الله ﷺ وإن العجب ليطول ممن يرى إنكار عمر على عثمان إن لم يصل الغسل بالرواح إلى الجمعة بحضرة الصحابة رضي الله عنهم : حجة في إبطال وجوب الغسل ، وهذا الخبر مؤكد لوجوبه منكر لتركه ، ثم لا يرى عمل المسلمين في التيمم إلى المناكب مع رسول الله ﷺ حجة في وجوب ذلك قال علي : فإذ لا حجة في شيء من هذه الآثار - وقد اختلف الناس كما ذكرنا - فالواجب الرجوع إلى ما افترض الله الرجوع إليه من القرآن والسنة عند التنازع ، ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول : { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } فلم يحد الله تعالى غير اليدين ، ونحن على يقين من أن الله تعالى لو أراد إلى المرافق والرأس والرجلين لبينه ونص عليه كما فعل في الوضوء ، ولو أراد جميع الجسد لبينه كما فعل في الغسل ، فإذ لم يرد عز وجل على ذكر الوجه واليدين ، فلا يجوز لأحد أن يزيد في ذلك ما لم يذكره الله تعالى . من الذراعين والرأس والرجلين وسائر الجسد ، ولم يلزم في التيمم إلا الوجه والكفان ، وهما أقل ما يقع عليه اسم يدين ، ووجدنا السنة الثابتة قد جاءت بذلك لا الأكاذيب الملفقة . كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن ذر - هو ابن عبد الله المرهبي - عن ابن عبد الرحمن بن أبزى - هو سعيد - عن أبيه قال : قال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب " تمعكت فأتيت رسول الله ﷺ فقال : { يكفيك الوجه والكفان } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة قال : كنت جالسا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري - فذكر الحديث ، وفيه - فقال أبو موسى لابن مسعود " ألم تسمع قول عمار : { بعثني رسول الله ﷺ في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء ، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة ، ثم أتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه ؟ } وبه إلى مسلم ثنا عبد الله بن هاشم العبدي ثنا يحيى بن سعيد القطان عن شعبة ثنا الحكم عن ذر - هو ابن عبد الله - عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ، قال عمر لا تصل ، فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذا أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت ، فقال رسول الله ﷺ { إنما كان يكفيك أن تضرب الأرض بيديك ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك } وذكر باقي الحديث . قال علي : في هذا الحديث إبطال القياس ؛ لأن عمارا قدر أن المسكوت عنه من التيمم للجنابة حكمه حكم الغسل للجنابة ، إذ هو بدل منه ، فأبطل رسول الله ﷺ ذلك ، وأعلمه أن لكل شيء حكمه المنصوص عليه فقط ، وفيه أن الصاحب قد يهم وينسى ، وفيه نص حكم التيمم . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث بن سعيد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت عميرا مولى ابن عباس قال : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي ﷺ حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو جهيم { أقبل رسول الله ﷺ من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ، حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد السلام . } قال أبو محمد : هذا هو الثابت لا حديث محمد بن ثابت . وهذا فعل مستحب يعني التيمم لرد السلام في الحضر . وبهذا يقول جماعة من السلف ، كما روينا عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي بن أبي طالب قال : التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الرسغين . وروينا عن أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة ثنا حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الأشجعي قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : التيمم ضربة للوجه والكفين ، وروينا عن محمد بن أبي عدي حدثنا شعبة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك أنه سمع عمار بن ياسر يقول في خطبته : التيمم هكذا وضرب ضربة للوجه والكفين . قال أبو محمد : هذا بحضرة الصحابة في الخطبة ، فلم يخالفه ممن حضر أحد . وعن أحمد بن حنبل حدثني مسكين بن بكير ثنا الأوزاعي عن عطاء أن ابن عباس وابن مسعود كانا يقولان : التيمم للكفين والوجه . قال الأوزاعي وبهذا كان يقول عطاء ومكحول ، وهو الثابت عن الشعبي وقتادة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وبه يقول الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود . قال علي : وأما استيعاب الوجه والكفين فما نعلم في ذلك لمن أوجبه حجة إلا قياس ذلك على استيعابهما بالماء . قال أبو محمد : والقياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلا ؛ لأن حكم الرجلين عندنا وعندهم في الوضوء الغسل ، فلما عوض منه المسح على الخفين سقط الاستيعاب عندهم ، فيلزمهم - إن كانوا يدرون ما القياس - أن كذلك لما كان حكم الوجه واليدين في الوضوء الغسل ، ثم عوض منه المسح في التيمم ، أن يسقط الاستيعاب كما سقط في المسح على الخفين ، لا سيما ومن أصول أصحاب القياس أن المشبه بالشيء لا يقوى قوة الشيء بعينه قال أبو محمد : هذا كله لا شيء ، وإنما نورده لنريهم تناقضهم وفساد أصولهم ، وهدم بعضها لبعض ، كما نحتج على كل ملة وكل نحلة وكل قولة بأقوالها الهادم بعضها لبعض ، لأنهم يصححونها كلها ، لا على أننا نصحح منها شيئا ، وإنما عمدتنا ههنا أن الله تعالى قال : { بلسان عربي مبين } وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } والمسح في اللغة لا يقتضي الاستيعاب ، فوجب الوقوف عند ذلك ، ولم يأت بالاستيعاب في التيمم قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ، نعم ولا قياس ، فبطل القول به ، وممن قال بقولنا في هذا ، وأنه إنما هو ما وقع عليه اسم مسح فقط : أبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي وغيره . قال أبو محمد : والعجب أن لفظة المسح لم تأت في الشريعة إلا في أربعة مواضع ولا مزيد : مسح الرأس ومسح الوجه واليدين في التيمم ومسح على الخفين والعمامة والخمار ، ومسح الحجر الأسود في الطواف ، ولم يختلف أحد من خصومنا المخالفين لنا في أن مسح الخفين ومسح الحجر الأسود لا يقتضي الاستيعاب ، وكذلك من قال منهم بالمسح على العمامة والخمار ، ثم نقضوا ذلك في التيمم ، فأوجبوا فيه الاستيعاب تحكما بلا برهان ، واضطربوا في الرأس ، فلم يوجب أبو حنيفة ولا الشافعي فيه الاستيعاب ، وهم مالك بأن يوجبه ، وكاد فلم يفعل ، فمن أين وقع لهم تخصيص المسح في التيمم بالاستيعاب بلا حجة ، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من لغة ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ولا من قياس ؟ وبالله التوفيق .
251 - مسألة : وإن عدم الميت الماء يمم كما يتيمم الحي ؛ لأن غسله فرض ، وقد ذكرنا عن النبي ﷺ أن التراب طهور إذا لم نجد الماء ، فهذا عموم لكل طهور واجب ، ولا خلاف في أن كل غسل طهور .
252 - مسألة : ولا يجوز التيمم إلا بالأرض ، ثم تنقسم الأرض إلى قسمين : تراب وغير تراب ، فأما التراب فالتيمم به جائز ، كان في موضعه من الأرض أو منزوعا مجعولا في إناء أو في ثوب أو على يد إنسان أو حيوان ، أو نفض غبار من كل ذلك ، فاجتمع منه ما يوضع عليه الكف ، أو كان في بناء لبن أو طابية أو غير ذلك ، وأما ما عدا التراب من الحصى أو الحصباء أو الصحراء أو الرضراض أو الهضاب أو الصفا أو الرخام أو الرمل أو معدن كحل أو معدن زرنيخ أو جيار أو جص أو معدن ذهب أو توتياء أو كبريت أو لازورد أو معدن ملح أو غير ذلك . فإن كان في الأرض غير مزال عنها إلى شيء آخر فالتيمم بكل ذلك جائز ، وإن كان شيء من ذلك مزال إلى إناء أو إلى ثوب ونحو ذلك لم يجز التيمم بشيء منه ، ولا يجوز التيمم بالآجر ، فإن رض حتى يقع عليه اسم تراب جاز التيمم به ، وكذلك الطين لا يجوز التيمم به ، فإن جف حتى يسمى ترابا جاز التيمم به ، ولا يجوز التيمم بملح انعقد من الماء كان في موضعه أو لم يكن ، ولا بثلج ولا بورق ولا بحشيش ولا بخشب ولا بغير ذلك مما يحول بين المتيمم وبين الأرض . برهان ذلك قول الله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقال رسول الله ﷺ { وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } وقال عليه السلام : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } وقد ذكرنا كل ذلك بإسناده قبل فأغنى عن إعادته ، فصح أنه لا يجوز التيمم إلا بما نص عليه الله تعالى ورسوله ﷺ ولم يأت النص إلا بما ذكرنا من الصعيد ، وهو وجه الأرض في اللغة التي بها نزل القرآن وبالأرض - وهي معروفة - وبالتراب فقط فوجدنا التراب سواء كان منزوعا عن الأرض ، محمولا في ثوب أو في إناء أو على وجه إنسان أو عرق فرس أو لبد أو كان لبنا أو طابية أو رضاض آجر أو غير ذلك فإنه تراب لا يسقط عنه هذا الاسم ، فكان التيمم به على كل حال جائزا ، ووجدنا الآجر والطين قد سقط عنهما اسم تراب واسم أرض واسم صعيد فلم يجز التيمم به ، فإذا رض أو جفف عاد عليه اسم تراب فجاز التيمم به ، ووجدنا سائر ما ذكرنا من الصخر ومن الرمل ، ومن المعادن ما دامت في الأرض ، فإن اسم الصعيد واسم الأرض يقع على كل ذلك ، فكان التيمم بكل ذلك جائزا ، ووجدنا كل ذلك إذا أزيل عن الأرض سقط عنه اسم الأرض واسم الصعيد ولم يسم ترابا ، فلم يجز التيمم بشيء من ذلك ، ووجدنا الملح المنعقد من الماء ، والثلج والحشيش والورق لا يسمى شيئا من ذلك صعيدا ولا أرضا ولا ترابا ، فلم يجز التيمم به . وهذا هو الذي لا يجوز غيره ، وفي هذا خلاف من ذلك أن الحسن بن زياد قال : إن وضع التراب في ثوب لم يجز التيمم به ، وهذا تفريق لا دليل عليه ، وقال مالك : يتيمم على الثلج ، وروي أيضا ذلك عن أبي حنيفة ، وهذا خطأ ؛ لأنه لم يأت به نص ولا إجماع . فإن قيل : ما حال بينك وبين الأرض فهو أرض . قيل لهم فإن حال بينه وبين الأرض قتلى أو غنم أو ثياب أو خشب أيكون ذلك من الأرض فيتيمم عليه ؟ وهم لا يقولون بذلك . وقولهم : إن ما حال بينك وبين الأرض فهو أرض أو من الأرض - فقول فاسد لم يوجبه قرآن ولا سنة ولا لغة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس " . قال علي : والثلج والطين والملح لا يتوضأ بشيء منها ولا يتيمم ، لأنه ليس شيء من ذلك يسمى ماء ولا ترابا ولا أرضا ولا صعيدا ، فإذا ذاب الملح والثلج فصارا ماء جاز الوضوء بهما ، لأنهما ماء ، وإذا جف الطين جاز التيمم به لأنه تراب . وقال الشافعي وأبو يوسف : لا يتيمم إلا بالتراب خاصة ، لا بشيء غير ذلك ، فادعوا أن قول رسول الله ﷺ : { وجعلت تربتها لنا طهورا } بيان لمراد الله تعالى بالصعيد ، ولمراده عليه السلام بقوله { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } . قال علي : وهذا خطأ ؛ لأنه دعوى بلا برهان ، وما كان هكذا فهو باطل . قال عز وجل : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } بل كل ما قال عز وجل ورسوله عليه السلام فهو حق ، فقال الله عز وجل : { صعيدا طيبا } وقال رسول الله ﷺ : { الأرض مسجد وطهور } وقال عليه السلام : { الأرض مسجد وتربتها طهور } فكل ذلك حق ، وكل ذلك مأخوذ به وكل ذلك لا يحل ترك شيء منه لشيء آخر فالتراب كله طهور والأرض كلها طهور والصعيد كله طهور ، والآية وحديث جابر في عموم الأرض زائد حكما على حديث حذيفة في الاقتصار على التربة ، فالأخذ بالزائد واجب ، ولا يمنع ذلك من الأخذ بحديث حذيفة ، وفي الاقتصار على ما في حديث حذيفة مخالفة للقرآن ولما في حديث جابر ، وهذا لا يحل ، وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو حنيفة : الصعيد كله يتيمم به ، كالتراب والطين والزرنيخ والجير والكحل والمرادسنج وكل تراب نفض من وسادة أو فراش أو من حنطة أو شعير : فالتيمم به جائز وكذلك قال سفيان الثوري : إن كان في ثوبك أو سرجك أو بردعتك تراب أو على شجر فتيمم به ، وهذا قولنا . وبالله تعالى التوفيق .
253 - مسألة : قال الأعمش : يقدم في التيمم اليدان قبل الوجه ، وقال الشافعي يقدم الوجه على الكفين ولا بد ، وأباح أبو حنيفة تقديم كل منهما على الآخر . قال علي : وبهذا نقول ؛ لأننا روينا من طريق البخاري عن محمد بن سلام عن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبي موسى الأشعري عن عمار بن ياسر : { أن رسول الله ﷺ علمه التيمم فضرب ضربة بكفيه على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه } فكان هذا حكما زائدا ، وبيانا أن كل ذلك جائز ، بخلاف الوضوء . وبالله تعالى التوفيق . فمن أخذ بظاهر القرآن فبدأ بالوجه فحسن ، ومن أخذ بحديث عمار فبدأ باليدين قبل الوجه فحسن ، ثم استدركنا قوله عليه السلام { ابدءوا بما بدأ الله به } فوجب أن لا يجزئ إلا الابتداء بالوجه ثم اليدين .
==============
254.
كتاب الطهارة
كتاب الحيض والاستحاضة
254 - مسألة : الحيض هو الدم الأسود الخاثر الكريه الرائحة خاصة ، فمتى ظهر من فرج المرأة لم يحل لها أن تصلي ولا أن تصوم ولا أن تطوف بالبيت ولا أن يطأها زوجها ولا سيدها في الفرج ، إلا حتى ترى الطهر ، فإذا رأت أحمر أو كغسالة اللحم أو صفرة أو كدرة أو بياضا أو جفوفا فقد طهرت وفرض عليها أن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء ، فإن لم تجد الماء فلتتيمم ثم تصلي وتصوم وتطوف بالبيت ويأتيها زوجها أو سيدها ، وكل ما ذكرنا فهو قبل الحيض وبعده طهر ليس شيء منه حيضا أصلا . أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج في حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به ، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه ، وقد خالف في ذلك قوم من الأزارقة حقهم ألا يعدوا في أهل الإسلام . وأما ما هو الحيض ؟ فإن يونس بن عبد الله بن مغيث حدثنا قال ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا هشام بن عروة حدثني أبي عن عائشة { أن فاطمة ابنة أبي حبيش أتت رسول الله ﷺ فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : ليس ذلك بالحيض ، إنما ذلك عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } وهكذا رويناه من طريق حماد بن زيد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن جريج ومعمر وزهير بن معاوية وأبي معاوية وعبد الله بن نمير ووكيع بن الجراح وجرير وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وأبي يوسف كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . ورويناه من طريق مالك والليث وحماد بن سلمة وعمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن رسول الله ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا ذهبت فاغسلي عنك الدم ثم صلي } وفي بعضها { فتوضئي } . وحدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، حدثني محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : { استحيضت أم حبيبة بنت جحش فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال عليه السلام : إنها ليست بالحيضة ولكنه عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } . حدثنا أبو سعيد الجعفري ثنا أبو بكر الأذفوني المقر ثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن غليب حدثنا يحيى بن عبد الله ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن المنذر بن المغيرة { عن عروة بن الزبير أن فاطمة بنت أبي حبيش أخبرته أنها أتت إلى رسول الله ﷺ فشكت إليه الدم ، فقال إنما ذلك عرق ، فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي ، فإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء } . فأمر عليه السلام باجتناب الصلاة لإقبال الحيضة وبالغسل لإدبارها ، وخاطب بذلك نساء قريش والعرب العارفات بما يقع عليه اسم الحيضة ، فوجب أن يطلب بيان ذلك وما هي الحيضة في الشريعة واللغة ، فوجدنا ما حدثناه حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا محمد بن أبي عدي ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص - عن الزهري عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش " كانت استحيضت فقال لها رسول الله ﷺ : { إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا قتيبة ثنا يزيد بن زريع عن خالد الحذاء عن عكرمة عن عائشة قالت { اعتكفت مع رسول الله ﷺ امرأة من أزواجه ، فكانت ترى الصفرة والدم والطست تحتها وهي تصلي } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن سلمة المرادي ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن ، كلاهما عن عائشة زوج النبي ﷺ { أن أم حبيبة بنت حبيش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين ، فاستفتت رسول الله ﷺ في ذلك ، فقال رسول الله ﷺ : إن هذه ليست بالحيضة ، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي . قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء } . فصح بما ذكرنا أن الحيض إنما هو الدم الأسود وحده وإن الحمرة والصفرة والكدرة عرق وليس حيضا ، ولا يمنع شيء من ذلك الصلاة . فإن قيل : إنما هذا للتي يتصل بها الدم أبدا ، قلنا فإن اتصل بها الدم بعض دهرها وانقطع بعضه فما قولكم ؟ ألها هذا الحكم أم لا ؟ فكلهم مجمع على أن هذا الحكم لها . فقلنا لهم : حدوا لنا المدة التي إذا اتصل بها الدم والصفرة والكدرة كان لها هذا الحكم الذي أمر به رسول الله ﷺ والمدة التي إذا اتصل بها هذا كله لم يكن لها ذلك الحكم ، فكان الذي وقفوا عليه من ذلك أن قالت طائفة : تلك المدة هي أيامها المعتادة لها . وقالت طائفة أخرى : بل تلك المدة هي أكثر من أيامها المعتادة لها ، فإذا كان ذلك راعوا في أيام عادتها تكون الدم وإلا فلا ، فقلت لهم : هاتان دعويان قد سمعناهما ، والدعوة مردودة ساقطة إلا ببرهان ، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . فقال بعضهم : قد صح عن النبي ﷺ أنه قال : { اقعدي أيام أقرائك ودعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها } . قلنا نعم هذا صحيح ، وإنما أمر عليه السلام بهذا التي لا تميز دمها والذي هو كله أسود متصل . برهان ذلك قوله للتي تميز دمها { إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا جاء الآخر فصلي ، وإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي واغسلي عنك الدم وصلي } على ما نبين في باب المستحاضة إن شاء الله . قال أبو محمد : وهذا لا مخلص لهم منه ، فإن تعلقوا بمن روي عنه مثل قولهم ، مثل ما رويناه من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه : كنت أرى النساء يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيها الصفرة يسألنها عن الصلاة ، فسمعت عائشة تقول : لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء . قال أبو محمد : ما نعلم لهم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم متعلقا إلا هذه الرواية وحدها ، وقد خولفت أم علقمة في ذلك عن عائشة ، وخالف هذه الرواية عن أم علقمة غير أم المؤمنين من الصحابة . فأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها فإن أحمد بن عمر بن أنس قال : ثنا عبد بن أحمد الهروي أبو ذر ثنا أحمد بن عبدان الحافظ بنيسابور ثنا محمد بن سهل بن عبد الله المقرئ البصري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري - هو جامع الصحيح - قال : قال لنا علي بن إبراهيم حدثنا محمد بن أبي الشمال العطاردي البصري ، حدثتني أم طلحة قالت : سألت عائشة أم المؤمنين فقالت : دم الحيض بحراني أسود . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع عن أبي بكر الهذلي عن معاذة العدوية عن عائشة قالت : ما كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا . وروينا من طريق أحمد بن حنبل ثنا إسماعيل ابن علية ثنا خالد الحذاء عن أنس بن سيرين قال : استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس فقال : أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي ، فإذا رأت الطهر ولو ساعة من نهار فلتغتسل وتصلي . فلم يلتفت ابن عباس إلى اتصال الدم ، بل رأى وأفتى أن ما عدا الدم البحراني فهو طهر ، تصلي مع وجوده ولو لم تر إلا ساعة من النهار ، وأنه لا يمنع الصلاة إلا الدم البحراني ، وهذا إسناد في غاية الجلالة . ومن طريق البخاري : حدثنا قتيبة ثنا إسماعيل هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت : كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا " وأم عطية من المبايعات من نساء الأنصار قديمة الصحبة مع رسول الله ﷺ وقد ذكرنا عن نساء النبي ﷺ وفاطمة بنت أبي حبيش وأم حبيبة بنت جحش هذا نفسه ، وكل هذا هو الثابت بالأسانيد العالية الصحيحة . وروينا عن علي بن أبي طالب : إذا رأت بعد الظهر مثل غسالة اللحم أو مثل قطرة الدم من الرعاف ، فإنما تلك ركضة من ركضات الشيطان فلتنضح بالماء ولتتوضأ ولتصل ، فإن كان عبيطا لا خفاء به فلتدع الصلاة . وعن ثوبان في المرأة ترى البرية قال : تتوضأ وتصلي . قيل : أشيء تقوله أم سمعته ؟ قال ففاضت عيناه وقال : بل سمعته . قال أبو محمد : فهذا أقوى من رواية أم علقمة وأولى ، وقد روى ما يوافق رواية أم علقمة عن عمرة من رأيها . وعن ربيعة ويحيى بن سعيد مثل ذلك ، وقد خالف هؤلاء من التابعين من هو أجل منهم ، كسعيد بن المسيب ، روينا من طريق قتادة عنه في المرأة ترى الصفرة والكدرة أنها تغتسل وتصلي ، وروينا عن سفيان الثوري عن القعقاع : سألنا إبراهيم النخعي عن المرأة ترى الصفرة ؟ قال : تتوضأ وتصلي ، وعن مكحول مثل ذلك . فإن ذكروا حديث ابن عباس { عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال إن كان الدم عبيطا فدينار ، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار } قلنا : هذا حديث لو صح لكانوا قد خالفوا ما فيه ، ومن الباطل أن يكون بعض الخبر حجة وبعضه ليس حجة ، فكيف وهو باطل لا يصح لأنه راويه عبد الكريم بن أبي المخارق وليس بثقة ، جرحه أيوب السختياني وأحمد بن حنبل وغيرهما . فإن قالوا : إن حديث ابن أبي عدي اضطرب فيه ، فمرة حدث به من حفظه فقال : عن الزهري عن عروة عن عائشة ، ومرة حدث به من كتابه فقال : عن الزهري عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش ، ولم يذكر هذا الكلام أحد غير محمد بن أبي عدي . قلنا : هذا كله قوة للخبر ، وليس هذا اضطرابا ؛ لأن عروة رواه عن فاطمة وعائشة معا وأدركهما معا ، فعائشة خالته أخت أمه ، وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد ابنة عمه ، وهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد ، ومحمد بن أبي عدي الثقة الحافظ المأمون ، ولا يعترض بهذا إلا المعتزلة الذين لا يقولون بخبر الواحد ، تعللا على إبطال السنن فسقط كل ما تعلقوا به . والحمد لله رب العالمين . وقولنا هذا هو قول جمهور أصحابنا . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الرحمن بن مهدي : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وليست في غير أيام الحيض حيضا ، وقال الليث بن سعد : الدم والصفرة والكدرة في غير أيام الحيض ليس شيء من ذلك حيضا ، وكل ذلك في أيام الحيض حيض . وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : الصفرة والكدرة حيض ، سواء كان في أيام الحيض أو في غير أيام الحيض ، وقال أبو يوسف ومحمد : الصفرة والدم فكل ذلك في أيام الحيض حيض وأما الكدرة فهي في أيام الحيض قبل الحيض ليست حيضا ، وأما بعد الحيض فهي حيض ، وكل ذلك ليس في غير أيام الحيض حيضا ، على عظيم اضطرابهم في الدم في غير أيام الحيض ، فإن أبا حنيفة قال : إذا رأت المرأة الدم قبل أيام حيضها ثلاثة أيام فأكثر وانقطع في أيام حيضها أو اتصل أقل من ثلاثة أيام منها فليس شيء من ذلك حيضا ولا تمتنع بذلك من الصلاة والصوم والوطء ، إلا أن يتكرر ذلك عليها مرتين ، ويتصل كذلك فهو حيض متصل . قال : فإن رأت الدم قبل أيام حيضها بيومين فأقل واتصل بها في أيامها ثلاثة أيام فأكثر فهو كله حيض ، ما لم تجاوز عشرة أيام ، قال : فإن رأت الدم قبل أيام حيضها ثلاثة أيام فصاعدا وفي أيام الحيض متصلا بذلك ثلاثة أيام فصاعدا ، فمرة قال : كل ذلك حيض ، ومرة قال : أما ما رأت قبل أيامها فليس حيضا ، وأما ما رأت في أيامها فهو حيض ، وهذه تخاليط ناهيك بها وقال أبو ثور وبعض أصحابنا الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض ليستا حيضا ، وفي أيام الحيض قبل الدم ليستا حيضا ، وأما بعد الدم متصلا به فهما حيض . قال علي : واحتج هؤلاء بأن قالوا : ما لم يتيقن الحيض فلا يجوز أن تترك الصلاة والصوم المتيقن وجوبهما ، ولا أن تمنع من الوطء المتيقن تحليله حتى إذا تيقن الحيض وحرمت الصلاة والصوم والوطء بيقين لم يسقط تحريم ذلك إلا بيقين آخر . قال علي وهذا عمل غير صحيح البيان ، بل هو مموه ، وذلك أن هاتين المقدمتين حق ، إلا أن اليقين الذي ذكروا هو النص ، وقد صح النص ، بأن ما عدا الدم الأسود ليس حيضا ، ولا يمنع من صلاة ولا من صوم ولا من وطء ، فصارت حجتهم حجة عليهم ، وأيضا فلو لم يكن ههنا هذا النص لما وجب ما قالوه ، لأن الصلاة والصوم فرضان قد تيقن وجوبهما ، والوطء حق قد تيقنت إباحته في الزوجة والأمة المباحة ، والحيض قد تيقن أنه محرم به كل ذلك ، فلا يجوز أن يقطع على شيء بأنه حيض محرم للصلاة وللصوم وللوطء إلا بنص وارد أو بإجماع متيقن ، وأما بدعوى مختلف فيها فلا ، فهذا هو الحق ، ولا نص ولا إجماع ولا لغة في أن ما عدا الدم الأسود حيض أصلا . وقد صح النص والإجماع واللغة على أن الدم الأسود حيض ، فلا يجوز أن يسمى حيضا إلا ما صح النص والإجماع بأنه حيض ، لا ما لا نص فيه ولا إجماع . واحتج بعض أهل المقالة الأولى بأن قال : لما كان السواد حيضا وكانت الحمرة جزءا من أجزاء السواد وجب أن تكون حيضا ، ولما كانت الصفرة جزءا من أجزاء الحمرة وجب أن تكون حيضا ، ولما كانت الكدرة جزءا من أجزاء الصفرة وجب أن تكون حيضا ، ولما كان كل ذلك في بعض الأحوال حيضا وجب أن يكون في كل الأحوال حيضا . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه يعارض بأن يقال له : لما كانت القصة البيضاء طهرا وليست حيضا بإجماع ، ثم كانت الكدرة بياضا غير ناصع ، وجب أن لا تكون حيضا ، ثم لما كانت الصفرة كدرة مشبعة وجب أن لا تكون حيضا ، ثم لما كانت الحمرة صفرة مشبعة وجب أن لا تكون حيضا ، ولما كان ذلك في بعض الأحوال - وهو ما كان بعد أكثر أيام الحيض - ليس حيضا وجب أن يكون في جميع الأحوال ليس حيضا ، فهذا أصح من قياسهم ؛ لأننا لم نساعدهم قط على أن الحمرة والصفرة والكدرة حيض في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات ، ولا جاء بذلك قط نص ولا إجماع ولا قياس غير معارض ولا قول صاحب لم يعارض وهم كلهم قد وافقونا على أن كل ذلك ليس حيضا إذا رئي فيما زاد في أيام الحيض ، فبطل قياسهم ، وكان ما جئناهم به - لو صح القياس لا يصح غيره . وكذلك لا يوافقون على أن الحمرة جزء من السواد ، ولا أن الصفرة جزء من الحمرة ، ولا أن الكدرة جزء من الصفرة ، بل هي دعوى عارضناهم بدعوى مثلها فسقط كل ما قالوه ، والحمد لله رب العالمين ، وثبت قولنا بشهادة النص والإجماع له .
255 - مسألة : فإذا رأت الطهر كما ذكرنا لم تحل لها الصلاة ولا الطواف بالكعبة حتى تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء ، أو تتيمم إن عدمت الماء أو كانت مريضة عليها في الغسل حرج ، وإن أصبحت صائمة ولم تغتسل فاغتسلت أو تيممت - إن كانت من أهل التيمم - بمقدار ما تدخل في صلاة الصبح صح صيامها ، وهذا كله إجماع متيقن ، ولقول رسول الله ﷺ { وإذا أدبرت الحيضة فتطهري } ولقول الله تعالى : { فإذا تطهرن فأتوهن } وقد أخبر عليه السلام أن الأرض طهور إذا لم نجد الماء ، فوجب التيمم للحائض عند عدم الماء وفي تأخيرها الغسل والتيمم عن هذا المقدار خلاف نذكره في كتاب الصيام إن شاء الله .
256 - مسألة : وأما وطء زوجها أو سيدها لها إذا رأت الطهر فلا يحل إلا بأن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء أو بأن تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، فإن لم تفعل فبأن تتوضأ وضوء الصلاة أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، فإن لم تفعل فبأن تغسل فرجها بالماء ولا بد ، أي هذه الوجوه الأربعة فعلت حل له وطؤها . برهان ذلك قول الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فقوله : { حتى يطهرن } معناه حتى يحصل لهن الطهر الذي هو عدم الحيض وقوله تعالى : { فإذا تطهرن } هو صفة فعلهن وكل ما ذكرنا يسمى في الشريعة وفي اللغة تطهرا وطهورا وطهرا ، فأي ذلك فعلت فقد تطهرت : قال الله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فجاء النص والإجماع بأنه غسل الفرج والدبر بالماء ، وقال عليه السلام : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } فصح أن التيمم للجنابة وللحدث طهور . وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقال عليه السلام { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } يعني الوضوء . ومن اقتصر بقوله تعالى : { فإذا تطهرن } على غسل الرأس والجسد كله دون الوضوء ودون التيمم ودون غسل الفرج بالماء ، فقد قفا ما لا علم له به ، وادعى أن الله تعالى أراد بعض ما يقع عليه كلامه بلا برهان من الله تعالى . ويقال لهم : هلا فعلتم هذا في الشفق ؟ إذ قلتم أي شيء توقع عليه اسم الشفق فبغروبه تدخل صلاة العتمة ، فمرة تحملون اللفظ على كل ما يقتضيه ، ومرة على بعض ما يقتضيه بالدعوى والهوس . فإن قال : إذا حاضت حرمت بإجماع فلا تحل إلا بإجماع آخر ، قلنا هذا باطل ، ودعوى كاذبة ، لم يوجبها لا نص ولا إجماع ، بل إذا حرم الشيء بإجماع ثم جاء نص يبيحه فهو مباح ، ما نبالي أجمع على إباحته أم اختلف فيها ، ولو كانت قضيتكم هذه صحيحة لبطل بها عليكم أكثر أقوالكم ، فيقال لكم : قد حرمتم الصلاة على المحدث والمجنب بإجماع ، فلا تحل لهما إلا بإجماع ولا تجيزوا للجنب أن يصلي بالتيمم ولو عدم الماء شهرا فلا إجماع في ذلك ، بل عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم والأسود لا يجيزون له الصلاة بالتيمم ، وأبطلوا صلاة من توضأ ولم يستنشق ، لأنه لا إجماع في صحتها ، وأبطلوا صلاة من توضأ بفضل امرأة ومن لم يتوضأ مما مست النار ، وهذا كثير جدا ، وكذلك القول في الصيام والزكاة والحج وجميع الشرائع ، فصح أن قضيتهم هذه في غاية الفساد في ذاتها ، وفي غاية الإفساد لقولهم . قال علي : وممن قال بقولنا في هذه المسألة عطاء وطاوس ومجاهد ، وهو قول أصحابنا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن كانت أيامها عشرة أيام فبانقطاع العشرة الأيام يحل له وطؤها ، اغتسلت أو لم تغتسل ، مضى لها وقت صلاة أو لم يمض ، توضأت أو لم تتوضأ ، تيممت أو لم تتيمم ، غسلت فرجها أو لم تغسله ، فإن كانت أيام حيضها أقل من عشرة أيام لم يحل له أن يطأها إلا بأن تغتسل أو يمضي لها وقت أدنى صلاة من طهرها ، فإن مضى لها وقت صلاة واحدة طهرت فيه أو قبله ولم تغتسل فيه فله وطؤها ، وإن لم تغتسل ولا تيممت ولا توضأت ولا غسلت فرجها ، فإن كانت كتابية حل له وطؤها إذا رأت الطهر على كل حال . وهذه أقوال نحمد الله على السلامة منها ، ولم يرو عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة شيء ، ولا نعلم أيضا عن أحد من التابعين إلا عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة المنع من وطئها حتى تغتسل ولا حجة في قولهم لو انفردوا ، فكيف وقد عارضهم من هو مثلهم . وبالله تعالى التوفيق . وكم من مسألة خالفوا فيها أكثر عددا من هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم فيها مخالف ، وقد ذكرنا منها كثيرا قبل ، ونذكر إن شاء الله عز وجل من ذلك الرواية عن عمر وعلي وابن عباس وأنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ونافع بن جبير : لا تجوز الصلاة في مقبرة ولا إلى قبر ، ولا يعرف لهم في ذلك مخالف من الصحابة ، فخالفوهم بآرائهم ، وعن أبي بكر وثابت بن قيس وأنس : الفخذ ليست عورة ولا يعرف لهم في ذلك مخالف من الصحابة ، فخالفوهم ، ومثل ذلك كثير جدا . ولو أن الله تعالى أراد بقوله : { تطهرن } بعض ما يقع عليه اللفظ دون بعض لما أغفل رسول الله ﷺ بيان ذلك ، فلما لم يخص عليه السلام ذلك وأحالنا على القرآن أيقنا قطعا بأن الله عز وجل لم يرد بعض ما يقتضيه اللفظ دون بعض ، فإن قالوا قولنا أحوط ، قلنا حاشا لله ، بل الأحوط أن لا يحرم عليه ما أحله الله عز وجل من الوطء بغير يقين . فإن قالوا : لا يحل له وطؤها إلا بما يحل لها الصلاة ، قلنا هذه دعوى باطل منتقضة ، أول ذلك أنها لا برهان على صحتها . والثاني أنه قد يحل له وطؤها حيث لا تحل لها الصلاة ، وهو كونها مجنبة ومحدثة . والثالث أن يقال لهم : هلا قلتم لا يحل له وطؤها إلا بما يحل لها به الصوم وهو يحل لها عندهم برؤية الطهر فقط فهذه دعوى بدعوى فإن قال بعضهم : وجدنا التحريم يدخل بأدق الأشياء ، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأشياء ، كنكاح ما نكح الآباء ، يحرم بالعقد ، وتحليل المطلقة ثلاثا لا يحل لها إلا بالعقد والوطء . قلنا ليس كما قلتم ، بل قد خالفتم قضيتكم هذه على فسادها وبطلانها ، فتركتم أغلظ الأشياء مما قاله غيركم وهو الإجناب ، فإن الحسن البصري لا يرى المطلقة ثلاثا تحل إلا بالعقد والوطء والإنزال ولا بد ، وسعيد بن المسيب يرى أنها تحل بالعقد فقط وإن لم يكن وطء ولا دخول . ثم يقال لهم : قد وجدنا التحليل يدخل بأدق الأشياء وهو فرج الأجنبية الذي في وطئه دخول النار وإباحة الدم بالرجم والشهرة بالسياط ، فإنه يحل بثلاث كلمات أو كلمتين : أنكحني ابنتك . قال قد أنكحتها . أو تلفظ هي بالرضا والولي بالإذن . وبأن يقول سيد الأمة : هي لك هبة . ووجدنا التحريم لا يدخل إلا بأغلظ الأشياء وهو طلاق الثلاث أو انقضاء أمد العدة ، ووجدنا تحريم الربيبة لا يدخل إلا بالعقد والدخول وإلا فلا ، فظهر أن الذي قالوه تخليط وقول بالباطل في الدين ، والحق من هذا هو أن التحريم لا يدخل إلا بما يدخل به التحليل ، وهو القرآن أو السنة ولا مزيد ، وبالله تعالى التوفيق .
======
257..
كتاب الطهارة
كتاب الحيض والاستحاضة
257 - مسألة : ولا تقضي الحائض إذا طهرت شيئا من الصلاة التي مرت في أيام حيضها . وتقضي صوم الأيام التي مرت لها في أيام حيضها . وهذا نص مجمع لا يختلف فيه أحد .
258 - مسألة : وإن حاضت امرأة في أول وقت الصلاة أو في آخر الوقت ولم تكن صلت تلك الصلاة سقطت عنها ، ولا إعادة عليها فيها ، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي وأصحابنا . وبه قال محمد بن سيرين وحماد بن أبي سليمان . وقال النخعي والشعبي وقتادة وإسحاق : عليها القضاء . وقال الشافعي : إن أمكنها أن تصليها فعليها القضاء . قال علي : برهان قولنا هو أن الله تعالى جعل للصلاة وقتا محدودا أوله وآخره وصح أن رسول الله ﷺ صلى الصلاة في أول وقتها وفي آخر وقتها ، فصح أن المؤخر لها إلى آخر وقتها ليس عاصيا . لأنه عليه السلام لا يفعل المعصية فإذا هي ليست عاصية فلم تتعين الصلاة عليها بعدولها تأخيرها ، فإذا لم تتعين عليها حتى حاضت فقد سقطت عنها ، ولو كانت الصلاة تجب بأول الوقت لكان من صلاها بعد مضي مقدار تأديتها من أول وقتها قاضيا لها لا مصليا ، وفاسقا بتأخيرها عن وقتها ، ومؤخرا لها عن وقتها ، وهذا باطل لا اختلاف فيه من أحد .
259 - مسألة : فإن طهرت في آخر وقت الصلاة بمقدار ما لا يمكنها الغسل والوضوء حتى يخرج الوقت ، فلا تلزمها تلك الصلاة ولا قضاؤها ، وهو قول الأوزاعي وأصحابنا . وقال الشافعي وأحمد : عليها أن تصلي . قال أبو محمد : برهان صحة قولنا إن الله عز وجل لم يبح الصلاة إلا بطهور ، وقد حد الله تعالى للصلوات أوقاتها ، فإذا لم يمكنها الطهور وفي الوقت بقية فنحن على يقين من أنها لم تكلف تلك الصلاة التي لم يحل لها أن تؤديها في وقتها .
260 - مسألة : وللرجل أن يتلذذ من امرأته الحائض بكل شيء ، حاشا الإيلاج في الفرج ، وله أن يشفر ولا يولج ، وأما الدبر فحرام في كل وقت . وفي هذا خلاف فروينا عن ابن عباس أنه كان يعتزل فراش امرأته إذا حاضت وقال عمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب وعطاء - إلا أنه لا يصح عن عمر - وأبو حنيفة ومالك والشافعي : له ما فوق الإزار من السرة فصاعدا إلى أعلاها ، وليس له ما دون ذلك . فأما من ذهب مذهب ابن عباس فإنه احتج بقول الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } ، وبحديث رويناه من طريق أبي داود عن سعيد بن عبد الجبار عن عبد العزيز الدراوردي عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة أم المؤمنين قالت " كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير فلم نقرب رسول الله ﷺ ولم ندن منه حتى نطهر . قال أبو محمد : وأما هذا الخبر فإنه من طريق أبي اليمان كثير بن اليمان الرحال وليس بالمشهور ، عن أم ذرة وهي مجهولة فسقط ، وأما الآية فهي موجبة لفعل ابن عباس إلا أن يأتي بيان صحيح عن رسول الله ﷺ ، فيوقف عنده ، فأرجأنا أمر الآية . ثم نظرنا فيما احتج به من ذهب إلى ما قال به أبو حنيفة ومالك ، فوجدناهم يحتجون بخبر رويناه من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن كريب مولى ابن عباس سمعت ميمونة أم المؤمنين قالت { كان رسول الله ﷺ يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب } . وبحديث آخر رويناه من طريق الليث بن سعد عن الزهري عن حبيب مولى عروة عن ندبة مولاة ميمونة { أن رسول الله ﷺ كان يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين وهي محتجزة } . وبحديث رويناه من طريق أبي خليفة عن مسدد عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه { عن عائشة أنها كانت تنام مع رسول الله ﷺ وهي حائض وبينهما ثوب } . وبخبر رويناه عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو العجلي { أن نفرا سألوا عمر فقال سألت رسول الله ﷺ : ما يحل للرجل من امرأته حائضا ؟ قال رسول الله ﷺ : لك ما فوق الإزار ، لا تطلعن إلى ما تحته حتى تطهر } . وروي أيضا عن أبي إسحاق عن عمير مولى عمر مثله ، وعن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن مغول عن عاصم بن عمرو : عن عمر مثله . ورويناه أيضا عن مسدد عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن عاصم بن عمرو . وبحديث رويناه من طريق هارون بن محمد بن بكار ثنا مروان يعني ابن محمد - حدثنا الهيثم بن حميد ثنا العلاء بن الحارث { عن حرام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله ﷺ : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : لك ما فوق الإزار } . وبخبر رويناه من طريق هشام بن عبد الملك اليزني عن بقية بن الوليد عن سعيد بن عبد الله الأغطش عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي هو ابن قرط أمير حمص - عن معاذ بن جبل { سألت رسول الله ﷺ عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض ؟ قال : ما فوق الإزار ، والتعفف عن ذلك أفضل } . وبحديث رويناه من طريق عبد الرحيم بن سليمان ثنا محمد بن كريب عن كريب { عن ابن عباس أنه سئل عما يحل من المرأة وهي حائض لزوجها ؟ قال : سمعنا والله أعلم إن كان قاله رسول الله ﷺ فهو كذلك : يحل ما فوق الإزار } . وبخبر رويناه من طريق محمد بن الجهم عن محمد بن الفرج عن يونس بن محمد ثنا عبد الله بن عمر عن ابن النضر عن أبي سلمة عن عائشة { أن رسول الله ﷺ سئل ما يحل للرجل من امرأته ؟ قال : ما فوق الإزار } . فنظرنا في هذه الآثار فوجدناها لا يصح منها شيء ، أما حديثا ميمونة فأحدهما عن مخرمة بن بكير عن أبيه ولم يسمع من أبيه ، وأيضا فقد قال فيه ابن معين : مخرمة هو ضعيف ليس حديثه بشيء ، والآخر من طريق ندبة وهي مجهولة لا تعرف ، وأبو داود يروي هذا الحديث عن الليث فقال : قال ندبة بفتح النون والدال ومعمر يرويه ويقول : ندبة بضم النون وإسكان الدال ، ويونس يقول بدية ، بالباء المضمومة والدال المفتوحة والياء المشددة ، كلهم يرويه عن الزهري كذلك ، فسقط خبرا ميمونة " . وأما حديثا عائشة فأحدهما من طريق عمر بن أبي سلمة ، وقد ضعفه شعبة ولم يوثقه أحد فسقط ، وأما الثاني : فمن طريق عبد الله بن عمر وهو العمري الصغير ، وهو متفق على ضعفه ، إنما الثقة أخوه عبيد الله ، فسقط حديثا عائشة . وأما حديث عمر فإن أبا إسحاق لم يسمعه من عمير مولى عمر ، هكذا رويناه من طريق زهير بن حرب : ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي ثنا عبيد الله بن عمرو الجزري عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو عن عمير مولى عمر عن رسول الله ﷺ فذكر هذا الحديث نصا ، فسقط إسناده لأن عاصم بن عمرو لم يسمعه من عمر بل رواه كما ذكرنا منقطعا عن عمير ، ورويناه أيضا عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو الشامي عن أحد النفر الذين أتوا عمر فذكر هذا الحديث بنصه ، ورويناه أيضا من طريق شعبة قال : سمعت عاصم بن عمرو البجلي يحدث عن رجل من القوم الذين سألوا عمر فذكر الحديث نفسه فإنما رواه عاصم عن رجل مجهول عن مجهولين ، فسقط جملة . ثم نظرنا في حديث حرام بن حكيم عن عمه فوجدناه لا يصح ؛ لأن حرام بن حكيم ضعيف ، وهو الذي روى غسل الأنثيين من المذي ، وأيضا فإن هذا الخبر رواه عن حرام مروان بن محمد وهو ضعيف . ثم نظرنا في حديث معاذ فوجدناه لا يصح ؛ لأنه عن بقية وليس بالقوي ، عن سعيد الأغطش وهو مجهول ، مع ما فيه من أن التعفف عن ذلك أفضل ، وهم لا يقولون بهذا . ثم نظرنا في حديث ابن عباس فوجدناه لم يحقق إسناده ، فسقطت هذه الأخبار كلها ولم يجز التعلق بشيء منها . ثم نظرنا فيما قلناه فوجدنا الصحيح عن ميمونة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما هو ما رويناه من طريق عبد الله بن شداد عن ميمونة { كان رسول الله ﷺ يباشر نساءه فوق الإزار وهن حيض } . وما رويناه من طريق عبد الرحمن بن الأسود وإبراهيم النخعي كلاهما عن الأسود { عن عائشة أنه عليه السلام كان يأمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها ، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن منصور ثنا هشام بن عبد الملك هو الطيالسي - ثنا يحيى بن سعيد هو القطان - حدثني جابر بن صبح قال : سمعت خلاس بن عمرو يقول سمعت { عائشة أم المؤمنين تقول كنت أنا ورسول الله ﷺ في الشعار الواحد وأنا حائض ، فإن أصابه مني شيء غسله لم يعده إلى غيره وصلى فيه ثم يعود معي } . حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة - عن أيوب عن عكرمة عن بعض أزواج رسول الله ﷺ { أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت هو البناني - عن أنس بن مالك { أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي ﷺ عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } إلى آخر الآية ، فقال رسول الله ﷺ : اصنعوا كل شيء إلا النكاح } . فكان هذا الخبر بصحته ، وبيان أنه كان إثر نزول الآية هو البيان عن حكم الله تعالى في الآية ، وهو الذي لا يجوز تعديه ، وأيضا فقد يكون المحيض في اللغة موضع الحيض وهو الفرج ، وهذا فصيح معروف ، فتكون الآية حينئذ موافقة للخبر المذكور ، ويكون معناها : فاعتزلوا النساء في موضع الحيض ، وهذا هو الذي صح عمن جاء عنه في ذلك شيء من الصحابة رضي الله عنهم ، كما روينا عن أيوب السختياني عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي عن مسروق قال : سألت عائشة : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قالت كل شيء إلا الفرج ، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { فاعتزلوا النساء في المحيض } قال : اعتزلوا نكاح فروجهن ، وهو قول أم سلمة أم المؤمنين ومسروق والحسن وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي ، وهو قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن والصحيح من قول الشافعي ، وهو قول داود وغيره من أصحاب الحديث . قال أبو محمد : وقال من لا يبالي بما أطلق به لسانه : إن حديث عمر - الذي لا يصح - ناسخ لحديث أنس - الذي لا يثبت غيره في معناه - قال : لأن حديث أنس كان متصلا بنزول الآية . قال علي : وهذا هو الكذب بعينه وقفا ما لا علم له به ، ولو صح حديث عمر فمن له أنه كان بعد نزول الآية ؟ ولعله كان قبل نزولها ، فإذ ذلك ممكن هكذا فلا يجوز القطع بأحدهما ، ولا يجوز ترك يقين ما جاء به القرآن وبينه رسول الله ﷺ إثر نزول الآية لظن كاذب في حديث لا يصح ، مع أن الحديثين الثابتين اللذين رويناهما : أحدهما عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد { عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال لها : ناوليني الخمرة من المسجد قالت فقلت : إنني حائض فقال رسول الله ﷺ إن حيضتك ليست في يدك } . وروينا الآخر من طريق يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان وأبي حازم عن أبي هريرة { أن رسول الله ﷺ كان في المسجد فقال : يا عائشة ناوليني الثوب ، فقالت إني حائض ، فقال : إن حيضتك ليست في يدك } فهما دليل أن لا يجتنب إلا الموضع الذي فيه الحيضة وحده ، وبالله تعالى التوفيق .
261 - مسألة : ودم النفاس يمنع ما يمنع منه دم الحيض . هذا لا خلاف فيه من أحد ، حاشا الطواف بالبيت ، فإن النفساء تطوف به ، لأن النهي ورد في الحائض ولم يرد في النفساء { وما كان ربك نسيا } ثم استدركنا فرأينا أن النفاس حيض صحيح ، وحكمه حكم الحيض في كل شيء { لقول رسول الله ﷺ لعائشة أنفست ؟ قالت نعم } فسمى الحيض نفاسا . وكذلك الغسل منه واجب بإجماع .
262 - مسألة : وجائز للحائض والنفساء أن يتزوجا وأن يدخلا المسجد وكذلك الجنب ، لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك ، وقد قال رسول الله ﷺ { المؤمن لا ينجس } وقد كان أهل الصفة يبيتون في المسجد بحضرة رسول الله ﷺ وهم جماعة كثيرة ولا شك في أن فيهم من يحتلم ، فما نهوا قط عن ذلك . وقال قوم : لا يدخل المسجد الجنب والحائض إلا مجتازين ، هذا قول الشافعي وذكروا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } فادعوا أن زيد بن أسلم أو غيره قال معناه لا تقربوا مواضع الصلاة . قال علي : ولا حجة في قول زيد ، ولو صح أنه قاله لكان خطأ منه ، لأنه لا يجوز أن يظن أن الله تعالى أراد أن يقول لا تقربوا مواضع الصلاة فيلبس علينا فيقول : { لا تقربوا الصلاة } وروي أن الآية في الصلاة نفسها عن علي بن أبي طالب وابن عباس وجماعة . وقال مالك : لا يمرا فيه أصلا ، وقال أبو حنيفة وسفيان لا يمرا فيه ، فإن اضطرا إلى ذلك تيمما ثم مرا فيه . واحتج من منع من ذلك بحديث رويناه من طريق أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة { أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه : وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } ، وآخر رويناه من طريق ابن أبي غنية عن أبي الخطاب الهجري عن محدوج الهذلي عن جسرة بنت دجاجة حدثتني أم سلمة { أن رسول الله ﷺ نادى بأعلى صوته : ألا إن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا حائض إلا للنبي وأزواجه وعلي وفاطمة } . وخبر آخر رويناه عن عبد الوهاب عن عطاء الخفاف عن ابن أبي غنية عن إسماعيل عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة ، قال رسول الله ﷺ : { هذا المسجد حرام على كل جنب من الرجال وحائض من النساء إلا محمدا وأزواجه وعليا وفاطمة } . وخبر آخر رويناه من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله { أن رسول الله ﷺ لم يكن أذن لأحد أن يجلس في المسجد ولا يمر فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب } . قال علي : وهذا كله باطل : أما أفلت فغير مشهور ولا معروف بالثقة ، وأما محدوج فساقط يروي المعضلات عن جسرة ، وأبو الخطاب الهجري مجهول ، وأما عطاء الخفاف فهو عطاء بن مسلم منكر الحديث ، وإسماعيل مجهول ، ومحمد بن الحسن مذكور بالكذب ، وكثير بن زيد مثله ، فسقط كل ما في هذا الخبر جملة . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد بن إسماعيل ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين { أن وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها فجاءت إلى رسول الله ﷺ فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش } . قال علي : فهذه امرأة ساكنة في مسجد النبي ﷺ والمعهود من النساء الحيض فما منعها عليه السلام من ذلك ولا نهى عنه ، وكل ما لم ينه عليه السلام عنه فمباح وقد ذكرنا عن رسول الله ﷺ قوله : { جعلت لي الأرض مسجدا } ولا خلاف في أن الحائض والجنب مباح لهما جميع الأرض ، وهي مسجد ، فلا يجوز أن يخص بالمنع من بعض المساجد دون بعض ، ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه السلام عائشة ، إذ حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط ، ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه السلام عن ذلك ويقتصر على منعها من الطواف . وهذا قول المزني وداود وغيرهما ، وبالله تعالى التوفيق .
=======
263...
كتاب الطهارة
كتاب الحيض والاستحاضة
263 - مسألة : ومن وطئ حائضا فقد عصى الله تعالى ، وفرض عليه التوبة والاستغفار ، ولا كفارة عليه في ذلك . وقال ابن عباس : إن أصابها في الدم فيتصدق بدينار ، وإن كان في انقطاع الدم فنصف دينار . وروينا عنه أيضا قال : من وطئ حائضا فعليه عتق رقبة ، وروينا عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في الذي يطأ امرأته وهي حائض : يتصدق بدينار . وروينا عن قتادة : إن كان واجدا فدينار وإن لم يجد فنصف دينار . وقال الأوزاعي ومحمد بن الحسن : يتصدق بدينار ، وقال أحمد بن حنبل : يتصدق بدينار وإن شاء بنصف دينار ، وقال الحسن البصري : يعتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . فأما من قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار فاحتجوا بحديث رويناه من طريق مقسم عن ابن عباس " أن رسول الله ﷺ قال : { يتصدق بدينار أو بنصف دينار } وفي بعض ألفاظ هذا الخبر { إن كان الدم عبيطا فدينار ، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار } وبحديث رويناه من طريق شريك عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس { عن النبي ﷺ في الذي يأتي أهله حائضا يتصدق بنصف دينار } وبحديث روي من طريق الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك { عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن رسول الله ﷺ أمره - يعني الذي يعمد وطء حائض - أن يتصدق بخمسي دينار } وبحديث رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب ثنا أصبغ بن الفرج عن السبيعي عن زيد بن عبد الحميد عن أبيه { أن عمر بن الخطاب وطئ جاريته فإذا بها حائض ، فأتى رسول الله ﷺ فأخبره ، فقال له رسول الله ﷺ تصدق بنصف دينار } وآخر رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب عن المكفوف عن أيوب بن خوط عن قتادة عن ابن عباس عن النبي ﷺ { فليتصدق بدينار أو بنصف دينار } وبحديث آخر رويناه من طريق موسى بن أيوب عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ أمر رجلا أصاب حائضا بعتق نسمة } . ورويناه أيضا من طريق محمود بن خالد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد السلمي عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ بمثله نصا ، واحتج من أوجب عليه العتق أو الصيام أو الإطعام بقياسه على الوطء نهارا في رمضان . قال أبو محمد : كل هذا لا يصح منه شيء . أما حديث مقسم فمقسم ليس بالقوي فسقط الاحتجاج به ، وأما حديث عكرمة ، فرواه شريك عن خصيف ، وكلاهما ضعيف . وأما حديث الأوزاعي فمرسل ، وأما حديثا عبد الملك بن حبيب فلو لم يكن غيره لكفى به سقوطا ، فكيف وأحدهما عن السبيعي ، ولا يدرى من هو ؟ ومرسل مع ذلك ، والآخر مع المكفوف ، ولا يدرى من هو ؟ عن أيوب بن خوط وهو ساقط . وأما حديثا الوليد بن مسلم فمن طريق موسى بن أيوب وعبد الرحمن بن يزيد وهما ضعيفان ، فسقط جميع الآثار في هذا الباب . وأما قياس الواطئ حائضا على الواطئ في رمضان فالقياس باطل . ولقد كان يلزم الآخذين بالآثار الواهية كحديث حزام في الاستظهار وأحاديث الوضوء بالنبيذ ، وأحاديث الجعل في الأنف ، وحديث الوضوء من القهقهة ، وأحاديث جسرة بنت دجاجة وغيرها في أن لا يدخل المسجد حائض ولا جنب ، وبالأخبار الواهية في أن لا يقرأ القرآن الجنب ، أن يقولوا بهذه الآثار فهي أحسن على علاتها من تلك الصلع الدبرة التي أخذوا بها ههنا ، ولكن هذا يليح اضطرابهم ، وأنهم لا يتعلقون بمرسل ولا مسند ولا قوي ولا ضعيف إلا ما وافق تقليدهم ، ولقد كان يلزم من قاس الأكل في رمضان ، على الواطئ فيه في إيجاب الكفارة أن يقيس واطئ الحائض على الواطئ في رمضان ، لأن كليهما وطئ فرجا حلالا في الأصل حراما بصفة تدور ، وهذا أصح من قياساتهم الفاسدة ، فإن الواطئ أشبه بالواطئ من الآكل بالواطئ . نعم ومن الزيت بالسمن ومن المتغوط بالبائل ، ومن الخنزير بالكلب ومن فرج الزوجة المسلمة بيد السارق الملعون ، وسائر تلك المقاييس الفاسدة ، وبهذا يتبين كل ذي فهم أنهم لا النصوص يلتزمون ، ولا القياس يتبعون ، وإنما هم مقلدون أو مستحسنون ، وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وأما نحن فلو صح شيء من هذه الآثار لأخذنا به ، فإذ لم يصح في إيجاب شيء على واطئ الحائض فماله حرام ، فلا يجوز أن يلزم حكما أكثر مما ألزمه الله من التوبة من المعصية التي عمل ، والاستغفار والتعزير ، لقول رسول الله ﷺ { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده } وقد ذكرناه بإسناده ، وسنذكر مقدار التعزير في موضعه إن شاء الله عز وجل وبه نتأيد .
264 - مسألة : وكل دم رأته الحامل ما لم تضع آخر ولد في بطنها ، فليس حيضا ولا نفاسا ، ولا يمنع من شيء ، وقد ذكرنا أنه ليس حيضا قبل وبرهانه ، وليس أيضا نفاسا لأنها لم تنفس ولا وضعت حملها بعد ولا حائض ، ولا إجماع بأنه حيض أو نفاس ، وبالله تعالى التوفيق ، فلا يسقط عنها ما قد صح وجوبه من الصلاة والصوم وإباحة الجماع إلا بنص ثابت لا بالدعوى الكاذبة .
265 - مسألة : وإن رأت العجوز المسنة دما أسود فهو حيض مانع من الصلاة والصوم والطواف والوطء . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ الذي ذكرناه قبل بإسناده { إن دم الحيض أسود يعرف وأمر رسول الله ﷺ إذا رأته بترك الصلاة } وقوله عليه السلام في الحيض { هذا شيء كتبه الله على بنات آدم } فهذا دم أسود وهي من بنات آدم ، ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس حيضا ، كما جاء به النص في الحامل ، فإن ذكروا قول الله عز وجل { : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } قلنا : إنما أخبر الله تعالى عنهن بيأسهن ، ولم يخبر تعالى أن يأسهن حق قاطع لحيضهن ، ولم ننكر يأسهن من الحيض ، لكن قلنا : إن يأسهن من الحيض ، ليس مانعا من أن يحدث الله تعالى لهن حيضا ، ولا أخبر تعالى بأن ذلك لا يكون ، ولا رسوله ﷺ وقد قال تعالى { : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا } فأخبر تعالى أنهن يائسات من النكاح ، ولم يكن ذلك مانعا من أن ينكحن بلا خلاف من أحد ، ولا فرق بين ورود الكلامين من الله تعالى في اللائي يئسن من المحيض واللاتي لا يرجون نكاحا ، وكلاهما حكم وارد في اللواتي يظنن هذين الظنين ، وكلاهما لا يمنع مما يئسن منه ، من المحيض والنكاح ، وبقولنا في العجوز يقول الشافعي وبالله تعالى التوفيق .
266 - مسألة : وأقل الحيض دفعة ، فإذا رأت المرأة الدم الأسود من فرجها أمسكت عن الصلاة والصوم وحرم وطؤها على بعلها وسيدها ، فإن رأت أثر الدم الأحمر أو كغسالة اللحم أو الصفرة أو الكدرة أو البياض أو الجفوف التام - فقد طهرت وتغتسل أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، وتصلي وتصوم ويأتيها بعلها أو سيدها ، وهكذا أبدا متى رأت الدم الأسود فهو حيض ، ومتى رأت غيره فهو طهر ، وتعتد بذلك من الطلاق ، فإن تمادى الأسود فهو حيض إلى تمام سبعة عشر يوما ، فإن زاد ما قل أو كثر فليس حيضا ، ونذكر حكم ذلك بعد هذا إن شاء الله عز وجل . برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النص بأن دم الحيض أسود يعرف ، وما عداه ليس حيضا ، ولم يخص عليه السلام لذلك عدد أوقات من عدد ، بل أوجب برؤيته أن لا تصلي ولا تصوم ، وحرم تعالى نكاحهن فيه ، وأمر عليه السلام بالصلاة عند إدباره والصوم ، وأباح تعالى الوطء عند الطهر منه ، فلا يجوز تخصيص وقت دون وقت بذلك ، وما دام يوجد الحيض فله حكمه الذي جعله الله تعالى له ، حتى يأتي نص أو إجماع على أنه ليس حيضا ، ولا نص ولا إجماع في أقل من سبعة عشر يوما ، فما صح الإجماع فيه أنه ليس حيضا وقف عنده ، وانتقلت عن حكم الحائض وما اختلف فيه فمردود إلى النبي ﷺ وهو عليه السلام جعل للدم الأسود حكم الحيض ، فهو حيض مانع مما ذكرنا ، ولم يأت نص ولا إجماع على أن بعض الطهر المبيح للصلاة والصوم لا يكون قرءا في العدة ، فالمفرق بين ذلك مخطئ متيقن الخطأ ، قائل ما لا قرآن جاء به ولا سنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا قياس ولا إجماع ، بل القرآن والسنة كلاهما يوجب ما قلنا : من امتناع الصلاة والصوم بالحيض ، ووجودهما بعدم الحيض ، ووجود الطهر وكون الطهر بين الحيضتين قرءا يحتسب به في العدة . قال الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } فمن حد في أيام القرء حدا فهو مبطل ، وقاف ما لا علم له به ، وما لم يأت به نص ولا إجماع . وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع : أحدها أقل مدة الحيض ، والثاني أكثر مدة الحيض ، والثالث الفرق بين العدة في ذلك وبين الصلاة والصوم ، فأما أقل مدة الحيض فإن طائفة قالت : أقل الحيض دفعة تترك لها الصلاة والصوم ويحرم الوطء وأما في العدة فأقله ثلاثة أيام ، وهو قول مالك ، وقد روي عن مالك : أقله في العدة خمسة أيام . وقالت طائفة : أقل الحيض دفعة واحدة في الصلاة والصوم والوطء والعدة ، وهو قول الأوزاعي وأحد قولي الشافعي وداود وأصحابه . وقالت طائفة : أقل الحيض يوم وليلة ، وهو الأشهر من قولي الشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول عطاء وقالت طائفة : أقل الحيض ثلاثة أيام ، فإن انقطع قبل الثلاثة الأيام فهو استحاضة وليس حيضا ولا تترك له صلاة ولا صوم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان وقالت طائفة : حيض النساء ست أو سبع ، وهو قول لأحمد بن حنبل . قال علي : أما من فرق بين الصلاة والصوم وتحريم الوطء وبين العدة ، فقول ظاهر الخطأ ، ولا نعلم له حجة أصلا ، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ، ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من احتياط ولا من رأي له وجه ، فوجب تركه . ثم نظرنا في قول من قال : حيض النساء يدور على ست أو سبع ، فلم نجد لهم حجة إلا أن قالوا : هذا هو المعهود في النساء ، وذكروا حديثا رويناه من طريق ابن جريج عن عبد الله بن محمد عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة { عن أم حبيبة أنها استحيضت فجعل رسول الله ﷺ أجل حيضتها ستة أيام أو سبعة } . ورويناه أيضا من طريق الحارث بن أبي أسامة عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش { أن رسول الله ﷺ قال لها : تحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله - عز وجل - ثم اغتسلي ، فإذا استنقأت فصلي أربعا وعشرين أو ثلاثا وعشرين وأيامها وصومي كذلك ، وافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن } . وقد أخذ بهذا الحديث أبو عبيد فجعل هذا حكم المبتدأة . قال علي : أما هذان الخبران فلا يصحان ، أما أحدهما فإن ابن جريج لم يسمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل . كذلك حدثناه حمام عن عباس بن أصبغ عن ابن أيمن عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه - وذكر هذا الحديث فقال - قال ابن جريج : حدثت عن ابن عقيل ، ولم يسمعه ، قال أحمد : وقد رواه ابن جريج عن النعمان بن راشد قال أحمد : والنعمان يعرف فيه الضعف . وقد رواه أيضا شريك وزهير بن محمد وكلاهما ضعيف . وعن عمرو بن ثابت وهو ضعيف . وأيضا فعمر بن طلحة غير مخلوق ، لا يعرف لطلحة ابن اسمه عمر . وأما الآخر فمن طريق الحارث بن أبي أسامة ، وقد ترك حديثه فسقط الخبر جملة . وأما قولهم : إن هذا هو المعهود من حيض النساء فلا حجة في هذا ، لأنه لم يوجب مراعاة ذلك قرآن ولا سنة ولا إجماع ، وقد يوجد في النساء من لا تحيض أصلا فلا يجعل لها حكم الحيض ، فبطل حملهن على المعهود ، وقد يوجد من تحيض أقل وأكثر ، فسقط هذا القول . ثم نظرنا في قول من قال : أقل الحيض خمس ، فوجدناه قولا بلا دليل ، وما كان هكذا فهو ساقط . ثم نظرنا في قول من جعل أقل الحيض ثلاثة أيام فوجدناهم يحتجون بقول رسول الله ﷺ { دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي } رويناه من طريق أبي أمامة : سمعت هشام بن عروة أخبرني أبي عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال ذلك لفاطمة بنت أبي حبيش ، ورويناه أيضا من طريق سهيل بن أبي صالح عن الزهري { عن عروة بن الزبير : حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أنها أمرت أسماء ، أو أسماء حدثتني أنها أمرتها فاطمة بنت أبي حبيش أن تسأل رسول الله ﷺ فأمرها أن تقعد الأيام التي كانت تقعد ثم تغتسل } . قال أبو محمد : وقالوا : أقل ما يقع عليه اسم أيام فثلاثة ، وبحديث رويناه من طريق جعفر بن محمد بن بريق عن عبد الرحمن بن نافع درخت ثنا أسد بن سعيد البلخي عن محمد بن الحسن الصدفي عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ { لا حيض أقل من ثلاث ولا فوق عشر } قالوا : وهو قول أنس بن مالك ، رويناه من طريق الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك ، وروينا أيضا عن عائشة أفتت بذلك بعد موت رسول الله ﷺ من طريق ابن عقيل عن نهيه وهو قول الحسن . قال علي : أما الخبر الصحيح في هذا من طريق عائشة وفاطمة وأسماء فلا حجة لهم فيه ، لأن رسول الله ﷺ أمر بذلك من كانت لها أيام معهودة ، هذا نص ذلك الخبر الذي لا يحل أن يحال عنه ولم يأمر عليه السلام بذلك من لا أيام لها . برهان ذلك أن الناس والجم الغفير يحيى بن سعيد القطان وزهير بن معاوية وحماد بن زيد وسفيان وأبو معاوية وجرير وعبد الله بن نمير وابن جريج والدراوردي ووكيع بن الجراح ، كلهم رووا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن رسول الله ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي } ورواه مالك والليث بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن وحماد بن سلمة وعمرو بن الحارث كلهم رووا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي } ورواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة ، والمنذر بن المغيرة عن عروة كلهم { إذا جاءت الحيضة وإذا جاء قرؤك و إذا جاء الدم الأسود } دون ذكر أيام . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رمح وقتيبة ، كلاهما عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت { إن أم حبيبة سألت رسول الله ﷺ عن الدم . قالت عائشة : رأيت مركنها ملآن ، فقال لها رسول الله ﷺ : امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي } فهذا أمر لمن كانت حيضتها أقل من ثلاثة أيام ، ومن يوم وأكثر من عشرة أيام أيضا . وهذه كلها فتاوى حق لا يحل تركها ، ولا إحالة شيء منها عن ظاهرها ، ولا يحل لأحد أن يقول إن مراده عليه السلام بقوله كل ما ذكرنا : إنما أراد ثلاثة أيام ، فإن أقدم على ذلك مقدم كان كاذبا على رسول الله ﷺ فسقط تعلقهم بالحديث . وأما خبر معاذ ففي غاية السقوط ؛ لأنه من طريق محمد بن الحسن الصدفي وهو مجهول ، فهو موضوع بلا شك ، والعجب من انتصارهم ههنا على أنه لا يقع اسم الأيام إلا على ثلاث لا أقل ، وهم يقولون : إن قول الله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أنه لا يقع على أخوين فقط فهلا جعلوا لفظة الأيام تقع ههنا على يومين ؟ وأما احتجاجهم بقول أنس وعائشة فلا يصح عنهما ، لأنه من طريق الجلد بن أيوب وهو ضعيف ، ومن طريق ابن عقيل وليس بالقوي ، ثم لو صح عنه وعن أم المؤمنين لما كان في ذلك حجة ، لأنه قد خالفهما غيرهما من الصحابة على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ، فكيف وإنما أفتت أم المؤمنين بذلك من لها أيام معهودة ، وبالله تعالى التوفيق ، فسقط هذا القول . وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في قول من قال : أقل الحيض يوم وليلة ، فوجدناه أيضا لا حجة لهم في شيء من النصوص ، فإن ادعى مدع إجماعا في ذلك فهذا خطأ لأن الأوزاعي يقول : إنه يعرف امرأة تطهر عشية وتحيض غدوة ، وأيضا فإن مالكا والشافعي قد أوجبا برؤية دفعة من الدم ترك الصلاة وفطر الصائمة وتحريم الوطء ، وهذه أحكام الحيض ، فسقط أيضا هذا القول . وبالله تعالى التوفيق . قال علي : ثم نسألهم عمن رأت الدم في أيام حيضتها : بماذا تفتونها ؟ فلا يختلف منهم أحد في أنها حائض ولا تصلي ولا تصوم ، فنسألهم : إن رأت الطهر إثرها ؟ فكلهم يقول : تغتسلي وتصلي ، فظهر فساد قولهم ، وكان يلزمهم إذا رأت الدم في أيام حيضتها ألا تفطر ولا تدع الصلاة وألا يحرم وطؤها إلا حتى تتم يوما وليلة في قول من يرى ذلك أقل الحيض ، أو ثلاثة أيام بلياليها في قول من رأى ذلك أقل الحيض ، فإذ لا يقولون بهذا ولا يقوله أحد من أهل الإسلام فقد ظهر فساد قولهم ، وصح الإجماع على صحة قولنا ، والحمد لله . وأيضا فإن الآثار الصحاح كما ذكرنا عن رسول الله ﷺ { إذا جاءت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } دون تحديد وقت ، وهذا هو قولنا ، وقد ذكرنا قبل - بأصح إسناد يكون - عن ابن عباس أنه أفتى إذا رأت الدم البحراني أن تدع الصلاة ، فإذا رأت الطهر ولو ساعة من نهار فلتغتسل وتصلي .
وأما أكثر مدة الحيض فإن مالكا والشافعي قالا : أكثره خمسة عشر يوما لا يكون أكثر ، وقال سعيد بن جبير : أكثر الحيض ثلاثة عشر يوما . وقال أبو حنيفة وسفيان : أكثره عشرة أيام . فاحتج أبو حنيفة بالأخبار التي ذكرنا وقال : لا يقع اسم أيام إلا على عشرة ، وادعى بعضهم أنه لم يقل أحد إن الحيض أقل من ذلك . قال علي : أما قولهم إن اسم أيام لا يقع على أكثر من عشرة فكذب لا توجبه لغة ولا شريعة ، وقد قال عز وجل : { فعدة من أيام أخر } وهذا يقع على ثلاثين يوما بلا خلاف ، وحديث معاذ قد ذكرنا بطلانه ، وأما قولهم : إنه لم يقل أحد إن أيام الحيض أقل من عشرة فهو كذب ، وقد ذكرنا قول من قال : إن أيام الحيض ستة أو سبعة ، وقول مالك أقل الحيض خمسة أيام ، فحصل قولهم دعوى بلا برهان وهذا باطل . وأما من حد ثلاثة عشر يوما فكذلك أيضا ، وأما من قال خمسة عشر يوما فإنهم ادعوا الإجماع على أنه لا يكون حيض أكثر من ذلك . قال علي : وهذا باطل ، قد روي من طريق عبد الرحمن بن مهدي : أن الثقة أخبره أن امرأة كانت تحيض سبعة عشر يوما ، ورويناه عن أحمد بن حنبل قال : أكثر ما سمعنا سبعة عشر يوما ، وعن نساء آل الماجشون أنهن كن يحضن سبعة عشر يوما . قال علي : قد صح عن رسول الله ﷺ أن دم الحيض أسود فإذا رأته المرأة لم تصل ، فوجب الانقياد لذلك ، وصح أنها ما دامت تراه فهي حائض لها حكم الحيض ما لم يأت نص أو إجماع في دم أسود أنه ليس حيضا . وقد صح النص بأنه قد يكون دم أسود وليس حيضا ، ولم يوقت لنا في أكثر عدة الحيض من شيء ، فوجب أن نراعي أكثر ما قيل ، فلم نجد إلا سبعة عشر يوما ، فقلنا بذلك ، وأوجبنا ترك الصلاة برؤية الدم الأسود هذه المدة - لا مزيد - فأقل ، وكان ما زاد على ذلك إجماعا متيقنا أنه ليس حيضا . وقالوا : إن كان الحيض أكثر من خمسة عشر يوما ، فإنه يجب من ذلك أن يكون الحيض أكثر من الطهر وهذا محال ، فقلنا لهم : من أين لكم أنه محال ؟ وما المانع إن وجدنا ذلك ألا يوقف عنده ؟ فما نعلم منع من هذا قرآن ولا سنة أصلا ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب وبالله تعالى التوفيق .
===========
267..
كتاب الطهارة
كتاب الحيض والاستحاضة
267 - مسألة : ولا حد لأقل الطهر ولا لأكثره ، فقد يتصل الطهر باقي عمر المرأة فلا تحيض بلا خلاف من أحد مع المشاهدة لذلك ، وقد ترى الطهر ساعة وأكثر بالمشاهدة . وقال أبو حنيفة : لا يكون طهر أقل من خمسة عشر يوما . وقال بعض المتأخرين : لا يكون طهر أقل من تسعة عشر يوما . وقال مالك : الأيام الثلاثة والأربعة والخمسة بين الحيضتين ليس طهرا وكل ذلك حيض واحد ، وقال الشافعي في أحد أقواله كقول أبي حنيفة ، والثاني أنه لا حد لأقل الطهر ، وهو قول أصحابنا ، وهو قول ابن عباس كما أوردنا قبل ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم . فأما من قال لا يكون طهر أقل من خمسة عشر يوما فما نعلم لهم حجة يشتغل بها أصلا ، وأما من قال : لا يكون طهر أقل من تسعة عشر يوما فإنهم احتجوا فقالوا : إن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء للتي تحيض وجعل للتي لا تحيض ثلاثة أشهر ، قالوا : فصح أن بإزاء كل حيض وطهر شهرا ، فلا يكون حيض وطهر في أقل من شهر . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه ، لأنه قول لم يقله الله تعالى فناسبه إلى الله تعالى كاذب ، نعني أن الله تعالى لم يقل قط إني جعلت بإزاء كل حيضة وطهر شهرا ، بل لا يختلف اثنان من المسلمين في أن هذا باطل ، لأننا وهم لا نختلف في امرأة تحيض في كل شهرين مرة أو في كل ثلاثة أشهر مرة ، فإنها تتربص حتى تتم لها ثلاثة قروء ، ولا بد ، فظهر كذب من قال : إن الله تعالى جعل بدل كل حيضة وطهر شهرا ، بل قد وجدنا العدة تنقضي في ساعة بوضع الحمل ، فبطل كل هذر أتوا به وكل ظن كاذب شرعوا به الدين . وأما قول مالك فظاهر الخطأ أيضا ، لأنه لم يجعل خمسة أيام بين الحيضتين طهرا وهو يأمرها فيه بالصلاة وبالصوم ويبيح وطأها لزوجها ، فكيف لا يكون طهرا ما هذه صفته ؟ وكيف لا يعد اليوم وأقل منه حيضا وهو يأمرها فيه بالفطر في رمضان وبترك الصلاة ؟ وهذه أقوال يغني ذكرها عن تكلف فسادها ، ولا يعرف لشيء منها قائل من الصحابة رضي الله عنهم . فإن قالوا : فإنكم ترون العدة تنقضي في يوم أو في يومين على قولكم ؟ قلنا نعم ، فكان ماذا ؟ وأين منع الله تعالى ونبيه ﷺ من هذا ؟ وأنتم أصحاب قياس بزعمكم وقد أريناكم العدة تنقضي في أقل من ساعة فما أنكرتم من ذلك ؟ فإن قالوا : إن هذا لا يؤمن معه أن تكون حاملا ، قلنا لهم : ليست العدة للبراءة من الحمل ، لبراهين : أول ذلك : أنه منكم دعوى كاذبة لم يأت بها نص ولا إجماع ، والثاني : أن العدة عندنا وعندكم تلزم العجوز ابنة المائة عام ، ونحن على يقين من أنها لا حمل بها ، والثالث : أن العدة تلزم الصغيرة التي لا تحمل ، والرابع : أنها تلزم من العقيم ، والخامس : أنها تلزم من الخصي ما بقي له ما يولجه ، والسادس : أنها تلزم العاقر ، والسابع : أنها تلزم من وطئ مرة ثم غاب إلى الهند وأقام هنالك عشرين سنة ثم طلقها ، وكل هؤلاء نحن على يقين من أنها لا حمل بها ، والثامن : أنه لو كانت من أجل الحمل لكانت حيضة واحدة تبرئ من ذلك ، والتاسع : أنها تلزم المطلقة إثر نفاسها ولا حمل بها ، والعاشر : أن المكيين بالضد منهم ، قالوا : لا تصدق المرأة في أن عدتها انقضت في أقل من ثلاثة أشهر ، وتصدق في ثلاثة أشهر ، وقال أبو حنيفة : لا تصدق المرأة في أن عدتها انقضت في أقل من ستين يوما ، وتصدق في الستين ، وقال محمد بن الحسن : تصدق في أربعة وخمسين يوما لا في أقل ، وقال مالك : تصدق في أربعين يوما لا في أقل . وقال أبو يوسف : تصدق في تسعة وثلاثين يوما لا أقل ، وقال الشافعي : تصدق في ثلاثة وثلاثين يوما لا أقل . قال علي : وكل هذه المدد التي بنوها على أصولهم لا يؤمن مع انقضاء وجود الحمل ، فهم أول من أبطل علتهم ، وكذب دليلهم ، ولا يجوز ألبتة أن يؤمن الحمل إلا بعد انقضاء أزيد من أربعة أشهر ، فكيف وهم المحتاطون بزعمهم للحمل وهم يصدقون قولها ، ولو أنها أفسق البرية وأكذبهم في هذه المدد ، أما نحن فلا نصدقها إلا ببينة من أربع قوابل عدول عالمات ، فظهر من المحتاط للحمل ، لا سيما مع قول أكثرهم : أن الحامل تحيض ، فهذا يبطل قول من قال منهم : إن العدة وضعت لبراءة الرحم من الحمل ، وقد روينا عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي : أن علي بن أبي طالب أتي برجل طلق امرأته فحاضت ثلاث حيض في شهر أو خمس وثلاثين ليلة ، فقال علي لشريح اقض فيها ؟ قال إن جاءت بالبينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث الذي هو الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة ، قال علي بن أبي طالب " قالون " معناها أصبت . قال علي بن أحمد : وهذا نص قولنا ، وروى عنه محمد بن سيرين أنه سئل : أيكون طهرا خمسة أيام ؟ قال : النساء أعلم بذلك . قال علي : لا يصح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف قول علي بن أبي طالب وابن عباس وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق . والنفاس والحيض سواء في كل شيء وبالله تعالى التوفيق .
268 - مسألة : ولا حد لأقل النفاس ، وأما أكثره فسبعة أيام لا مزيد . قال أبو محمد : ولم يختلف أحد في أن دم النفاس إن كان دفعة ثم انقطع الدم ولم يعاودها فإنها تصوم وتصلي ويأتيها زوجها ، وقال أبو يوسف : إن عاودها دم في الأربعين يوما فهو دم نفاس ، وقال محمد بن الحسن . إن عاودها بعد الخمسة عشر يوما فليس دم نفاس . قال أبو محمد : وهذه حدود لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله ﷺ فهو باطل . وأما أكثر النفاس فإن مالكا قال مرة : ستون يوما ، ثم رجع عن ذلك ، وهو قول الشافعي ، وقال مالك : النساء أعلم ، وقال أبو حنيفة : أكثر النفاس أربعون يوما . فأما من حد ستين يوما فما نعلم لهم حجة ، وأما من قال أربعون يوما فإنهم ذكروا روايات عن أم سلمة من طريق مسة الأزدية وهي مجهولة ، ورواية عن عمر من طريق جابر الجعفي ، وهو كذاب ، ورواية عن عائذ بن عمرو أن امرأته رأت الطهر بعد عشرين يوما ، فاغتسلت ودخلت معه في لحافه ، فضربها برجله وقال : لا تغضي من ديني حتى تمضي الأربعون ، وهم لا يقولون بهذا ، ولا أسوأ حالا ممن يحتج بما لا يراه حجة ، وهو أيضا عن الجلد بن أيوب وليس بالقوي . وعن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مثله ، وعن جابر عن خيثمة عن أنس بن مالك ، وعن وكيع عن أبي عوانة عن جعفر بن إياس عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس : تنتظر النفساء نحوا من أربعين يوما . قال أبو محمد : لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد ذكرنا ونذكر ما خالفوا فيه الصاحب ، والصحابة لا يعرف لهم منهم مخالفون ، وأقرب ذلك ما ذكرناه في المسألة المتصلة بهذه من أقل الطهر ، فإنهم خالفوا فيه ابن عباس ، ولا مخالف له من الصحابة أصلا ولقد يلزم المالكيين والشافعيين المشنعين بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف ، أن يقولوا بما روي ههنا عمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : فلما لم يأت في أكثر مدة النفاس نص قرآن ولا سنة وكان الله تعالى قد فرض عليها الصلاة والصيام بيقين وأباح وطأها لزوجها ، لم يجز لها أن تمتنع من ذلك إلا حيث تمتنع بدم الحيض لأنه دم حيض . وقد حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن جابر عن الضحاك بن مزاحم قال : تنتظر إذا ولدت سبع ليال أو أربع عشرة ليلة ثم تغتسل وتصلي . قاله جابر . وقال الشعبي : تنتظر أقصى ما تنتظر امرأة وبه إلى عبد الرزاق عن معمر وابن جريج . قال معمر عن قتادة . وقال ابن جريج عن عطاء ثم اتفق قتادة وعطاء : تنتظر البكر إذا ولدت كامرأة من نسائها ، قال عبد الرزاق : وبهذا يقول سفيان الثوري . قال علي : وقال الأوزاعي عن أهل دمشق : تنتظر النفساء من الغلام ثلاثين ليلة ومن الجارية أربعين ليلة . قال علي : إن كان خلاف الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم - لا يعرف لهم مخالف - خلافا للإجماع ، فقد حصل في هذه المسألة في خلاف الإجماع الشعبي وعطاء وقتادة ومالك وسفيان الثوري والشافعي ، إلا أنهم حدوا حدودا لا يدل على شيء منها قرآن ولا سنة ولا إجماع ، وأما نحن فلا نقول إلا بما أجمع عليه ، من أنه دم يمنع مما يمنع منه الحيض ، فهو حيض . وقد حدثنا حمام ثنا يحيى بن مالك بن عائذ ثنا أبو الحسن عبيد الله بن أبي غسان ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ثنا أبو سعيد الأشج ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن سلام بن سليمان المدائني عن حميد عن أنس عن رسول الله ﷺ { أكثر النفاس أربعون يوما } . قال أبو محمد : سلام بن سليمان ضعيف منكر الحديث . وقال أبو حنيفة : أقل أمد النفاس خمسة وعشرون يوما . وقال أبو يوسف أقل أمد النفاس أحد عشر يوما . وقال أبو محمد : هذان حدان لم يأذن الله تعالى بهما ، والعجب ممن يحد مثل هذا برأيه ولا ينكره على نفسه ، ثم ينكر على من وقف عندما أوجبه الله تعالى في القرآن ورسوله ﷺ وأجمع عليه المسلمون إجماعا متيقنا والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : ثم رجعنا إلى ما ذكرنا قبل من أن دم النفاس هو حيض صحيح ، وأمده أمد الحيض وحكمه في كل شيء حكم الحيض ، لقول النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها { أنفست } بمعنى حضت فهما شيء واحد ، ولقوله عليه السلام في الدم الأسود ما قال من اجتناب الصلاة إذا جاء ، وهم يقولون بالقياس ، وقد حكموا لهما بحكم واحد في تحريم الوطء والصلاة والصوم وغير ذلك ، فيلزمهم أن يجعلوا أمدهما واحدا . وبالله تعالى التوفيق .
269 - مسألة : فإن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض كما قدمنا تدع الصلاة والصوم ولا يطؤها بعلها أو سيدها ، فإن تلون أو انقطع إلى سبعة عشر يوما فأقل فهو طهر صحيح تغتسل وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها وإن تمادى أسود تمادت على أنها حائض إلى سبع عشرة ليلة ، فإن تمادى بعد ذلك أسود فإنها تغتسل ثم تصلي وتصوم ويأتيها زوجها ، وهي طاهر أبدا لا ترجع إلى حكم الحائضة إلا أن ينقطع أو يتلون كما ذكرنا ، فيكون حكمها إذا كان أسود حكم الحيض وإذا تلون أو انقطع أو زاد على السبع عشرة حكم الطهر . فأما التي قد حاضت وطهرت فتمادى بها الدم فكذلك أيضا في كل شيء ، إلا في تمادي الدم الأسود متصلا فإنها إذا جاءت الأيام التي كانت تحيضها أو الوقت الذي كانت تحيضه إما مرارا في الشهر أو مرة في الشهر أو مرة في أشهر أو في عام ، فإذا جاء ذلك الأمد أمسكت عما تمسك به الحائض ، فإذا انقضى ذلك الوقت اغتسلت وصارت في حكم الطاهر في كل شيء ، وهكذا أبدا ما لم يتلون الدم أو ينقطع ، فإن كانت مختلفة الأيام بنت على آخر أيامها قبل أن يتمادى بها الدم ، فإن لم تعرف وقت حيضها لزمها فرضا أن تغتسل لكل صلاة وتتوضأ لكل صلاة ، أو تغتسل وتتوضأ وتصلي الظهر في آخر وقتها ، ثم تتوضأ وتصلي العصر في أول وقتها ، ثم تغتسل وتتوضأ وتصلي المغرب في آخر وقتها ، ثم تتوضأ وتصلي العتمة في أول وقتها ، ثم تغتسل وتتوضأ لصلاة الفجر ، وإن شاءت أن تغتسل في أول وقت الظهر للظهر والعصر فذلك لها ، وفي أول وقت المغرب للمغرب والعتمة ، فذلك لها ، وتصلي كل صلاة لوقتها ولا بد ، وتتوضأ لكل صلاة فرض ونافلة في يومها وليلتها ، فإن عجزت عن ذلك وكان عليها فيه حرج تيممت كما ذكرنا . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - الذي قد ذكرنا بإسناده في أول مسألة من الحيض من كتابنا هذا - { إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإن كان الآخر فتوضئي وصلي } وقوله ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } وفي بعضها { فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي } وفي بعضها { فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي } وهكذا رويناه من طريق حماد بن زيد وحماد بن سلمة كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ ففي هذه الأخبار إيجاب مراعاة تلون الدم . وما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن أبي رجاء ثنا أبو أسامة سمعت هشام بن عروة بن الزبير قال أخبرني أبي عن عائشة { أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي ﷺ قالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : لا ، إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن حمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رمح وقتيبة ، كلاهما عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة قالت : { إن أم حبيبة سألت رسول الله ﷺ عن الدم ، قالت عائشة : رأيت مركنها ملآن دما ، فقال لها رسول الله ﷺ امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي } . قال أبو محمد : ففي هذين الخبرين إيجاب مراعاة القدر . الذي كانت تحيضه قبل أن يمتد بها الدم . وأما المبتدأة التي لا يتلون دمها عن السواد ولا مقدار عندها لحيض متقدم ، فنحن على يقين من وجوب الصلاة والصيام عليها ، ونحن على يقين من أن الدم الأسود منه حيض ومنه ما ليس بحيض ، فإن ذلك كذلك فلا يجوز لأحد أن يجعل برأيه بعض ذلك الدم حيضا وبعضه غير حيض ، لأنه يكون شارعا في الدين ما لم يأذن به الله ، أو قائلا على الله تعالى ما لا علم لديه ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل لها ترك يقين ما افترض الله عليها من الصوم والصلاة لظن في بعض دمها أنه حيض ، ولعله ليس حيضا ، والظن أكذب الحديث . وهذا الذي قلناه هو قول مالك وداود ، وقال الأوزاعي : تجعل لنفسها مقدار حيض أمها وخالتها وعمتها وتكون فيما زاد في حكم المستحاضة ، فإن لم تعرف جعلت حيضها سبعة أيام من كل شهر ، وتكون في باقي الشهر مستحاضة تصوم ، وقال سفيان الثوري وعطاء : تجعل لنفسها قدر حيض نسائها . وقال الشافعي : تقعد يوما وليلة من كل شهر تكون فيه حائضا ، وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم ، وإلى هذا مال أحمد بن حنبل ، وقال أبو حنيفة : تقعد عشرة أيام من كل شهر حائضا وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم . قال علي : يقال لجميعهم : من أين قطعتم بأنها تحيض كل شهر ولا بد ؟ وفي الممكن أن تكون ضهياء لا تحيض فتركتم بالظن فرض ما أوجبه الله تعالى عليها من الصلاة والصيام ، ثم ليس لأحد منهم أن يقول : اقتصر بها على أقل ما يكون من الحيض لئلا تترك الصلاة إلا بيقين : إلا كان للآخر أن يقول . بل اقتصر بها على أكثر الحيض لئلا تصلي وتصوم ويطأها زوجها وهي حائض ، وكل هذين القولين يفسد صاحبه ، وهما جميعا فاسدان لأنهما قول بالظن ، والحكم بالظن في دين الله عز وجل لا يجوز ، ونحن على يقين لا شك فيه أن هذه المبتدأة لم تحض قط ، وأن الصوم والصلاة فرضان عليها ، وأن زوجها مأمور ومندوب إلى وطئها ، ثم لا ندري ولا نقطع إن شيئا من هذا الدم الظاهر عليها دم حيض ، فلا يحل ترك اليقين والفرائض اللازمة بظن كاذب . وبالله تعالى التوفيق . وأما وضوءها لكل صلاة فقد ذكرنا برهان ذلك في كتابنا هذا في الوضوء وما يوجبه . وأما غسلها لكل صلاتين أو لكل صلاة فلما حدثناه حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا علان ثنا محمد بن بشار ثنا وهب بن جرير بن حازم ثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - { عن أم حبيبة بنت جحش أنها كانت تهراق الدم وأنها سألت رسول الله ﷺ فأمرها أن تغتسل لكل صلاة } . وبه إلى ابن أيمن : ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد التنوري عن الحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : أخبرتني زينب بنت أبي سلمة المخزومي { أن امرأة كانت تهراق الدم ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وأن رسول الله ﷺ أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي } . قال علي : زينب هذه ربيبة رسول الله ﷺ نشأت في حجره عليه السلام ، ولها صحبة به عليه السلام . وبه إلى ابن أيمن : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة بنت جحش { أنها استحيضت فأمرها رسول الله ﷺ بالغسل عند كل صلاة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا هناد بن السري عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة { أن أم حبيبة بنت جحش استحضت في عهد رسول الله ﷺ فأمرها بالغسل لكل صلاة } . حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا وهب بن بقية ثنا خالد بن إسماعيل عن سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة بن الزبير { عن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ، فقال لها رسول الله ﷺ : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا ، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر غسلا وتتوضأ فيما بين ذلك } . فهذه آثار في غاية الصحة رواها عن رسول الله ﷺ أربع صواحب : عائشة أم المؤمنين وزينب بنت أم سلمة وأسماء بنت عميس وأم حبيبة بنت جحش . ورواها عن كل واحدة من عائشة وأم حبيبة عروة وأبو سلمة ورواه أبو سلمة عن زينب بنت أم سلمة . ورواه عروة عن أسماء ، وهذا نقل تواتر يوجب العلم . وقال بهذا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، كما روينا من طريق الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة : أن أم حبيبة استحيضت فكانت تغتسل لكل صلاة ، فهذه أم حبيبة ترى ذلك وعائشة تذكر ذلك لا تنكره . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير : أنه كان عند ابن عباس فأتاه كتاب امرأة . قال سعيد : فدفعه ابن عباس إلي ، فقرأته فإذا فيه : إني امرأة مستحاضة أصابني بلاء وضر ، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل ، وإن ابن أبي طالب سئل عن ذلك فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة ، فقال ابن عباس : اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي ، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد والمغرب والعشاء بغسل واحد وتغتسل للفجر غسلا واحدا ، فقيل لابن عباس : إن الكوفة أرض باردة وأنها يشق عليها ، قال : لو شاء الله لابتلاها بأشد من ذلك . ورويناه أيضا من طريق سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس . ومن طريق ابن جريج أن عمرو بن دينار أخبره أنه سمع سعيد بن جبير يذكر هذا عن ابن عباس ، ومن طريق شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس . حدثنا يونس بن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبي حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج بن المنهال عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير قال أخبرني سعيد بن جبير قال : أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير : إني أفتيت أن أغتسل لكل صلاة ، فقال ابن الزبير : ما أجد لها إلا ذلك ، ثم أرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا جميعا : ما نجد إلا ذلك . ومن طريق أبي مجلز عن ابن عمر في المستحاضة قال : تغتسل لكل صلاة ، وقد رواه أيضا عكرمة ومجاهد عن ابن عباس ، قال مجاهد عنه : تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا ، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر غسلا . وروينا عن ابن جريج عن عطاء : تنتظر المستحاضة أيام أقرائها ثم تغتسل غسلا واحدا للظهر والعصر ، تؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر قليلا ، وكذلك المغرب والعشاء وتغتسل للصبح غسلا . وروينا من طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي مثل قول عطاء سواء سواء . وروينا من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : المستحاضة تغتسل لكل صلاة وتصلي . فهؤلاء من الصحابة أم حبيبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، إلا رواية عن عائشة ، أنها تغتسل كل يوم عند صلاة الظهر . ورويناه هكذا من طريق معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة هكذا مبينا ، كل يوم عند صلاة الظهر . ومن التابعين عطاء وسعيد بن المسيب والنخعي وغيرهم ، كل ذلك بأسانيد في غاية الصحة ، فأين المشنعون بمخالفة الصاحب إذا وافق أهواءهم وتقليدهم من الحنفيين والمالكيين والشافعيين عن هذا ومنعهم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ ؟ قال علي : فجاءت السنة في التي تميز دمها أن الأسود حيض ، وأن ما عداه طهر ، فوضح أمر هذه ، وجاءت السنة في التي لا تميز دمها - وهو كله أسود لأن ما عداه طهر لا حيض ولها وقت محدود مميز كانت تحيض فيه : أن تراعي أمد حيضها فتكون فيه حائضا ، ويكون ما عداه طهرا ، فوجب الوقوف عند ذلك ، وكان حكم التي كانت أيامها مختلفة منتقلة أن تبني على آخر حيض حاضته قبل اتصال دمها ، لأنه هو الذي استقر عليه حكمها وبطل ما قبله باليقين والمشاهدة ، فخرجت هاتان بحكمهما ، ولم يبق إلا التي لا تميز دمها ولا لها أيام معهودة ، ولم يبق إلا المأمورة بالغسل لكل صلاة أو لكل صلاتين ، فوجب ضرورة أن تكون هي ، إذ ليست إلا ثلاث صفات وثلاثة أحكام فللصفتين حكمان منصوصان عليهما ، فوجب أن يكون الحكم الثالث للصفة الثالثة ضرورة ولا بد . قال علي : وأما مالك فإنه غلب حكم تلون الدم ولم يراع الأيام ، وأما أبو حنيفة فغلب الأيام ولم يراع حكم تلون الدم ، وكلا العملين خطأ ، لأنه ترك لسنة لا يحل تركها ، وأما الشافعي وابن حنبل وأبو عبيد وداود فأخذوا بالحكمين معا ، إلا أن أحمد بن حنبل وأبا عبيد غلبا الأيام ولم يجعلا لتلون الدم حكما إلا في التي لا تعرف أيامها ، وجعلا للتي تعرف أيامها حكم الأيام وإن تلون دمها ، وأما الشافعي وداود فغلبا حكم تلون الدم ، سواء عرفت أيامها أو لم تعرفها ، ولم يجعلا حكم مراعاة وقت الحيض إلا للتي لا يتلون دمها . قال علي : فبقي النظر في أي العملين هو الحق ؟ ففعلنا ، فوجدنا النص قد ثبت وصح بأنه لا حيض إلا الدم الأسود ، وما عداه ليس حيضا ، لقوله عليه السلام { إن دم الحيض أسود يعرف } فصح أن المتلونة الدم طاهرة تامة الطهارة لا مدخل لها في حكم الاستحاضة ، وأنه لا فرق بين الدم الأحمر وبين القصة البيضاء ، ووجب أن الدم إذا تلون قبل انقضاء أيامها المعهودة أنه طهر صحيح ، فبقي الإشكال في الدم الأسود المتصل فقط ، فجاء النص بمراعاة الوقت لمن تعرف وقتها ، وبالغسل المردد لكل صلاة أو لصلاتين في التي نسيت وقتها . وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم لمن ترك شيئا من هذه الأخبار سببا يتعلق به ، لا من قياس ولا من قول صاحب ولا من قرآن ولا سنة . وقال مالك في بعض أقواله : إن التي يتصل بها الدم تستظهر بثلاثة أيام إن كانت حيضتها اثني عشر يوما فأقل ، أو بيومين إن كانت ثلاثة عشر يوما ، أو بيوم إن كانت حيضتها أربعة عشر يوما ، ولا تستظهر بشيء إن كانت حيضتها خمسة عشر وهذا قول لا يعضده قرآن ولا سنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي له وجه ولا احتياط ، بل فيه إيجاب ترك الصلاة المفروضة والصوم اللازم بلا معنى . واحتج له بعض مقلديه بحديث سوء رويناه من طريق إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر عن أبيهما قال { جاءت أسماء بنت مرشد الحارثية إلى رسول الله ﷺ وأنا جالس عنده ، فقالت يا رسول الله حدثت لي حيضة أنكرها ، أمكث بعد الطهر ثلاثا أو أربعا ، ثم تراجعني فتحرم علي الصلاة ، فقال : إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثا ثم تطهري اليوم الرابع فصلي إلا أن تري دفعة من دم قاتمة } . قال أبو محمد : فكان هذا الاحتجاج أقبح من القول المحتج له به ، لأن هذا الخبر باطل إذ هو مما انفرد به حرام بن عثمان ، ومالك نفسه يقول : هو غير ثقة . فالعجب لهؤلاء القوم وللحنفيين ، وقد جرح أبو حنيفة جابرا الجعفي وقال ما رأيت أكذب من جابر ، ومالك جرح حرام بن عثمان وصالحا مولى التوأمة ، ثم لا مؤنة على المالكيين والحنفيين إذا جاء هؤلاء خبر من رواية حرام وصالح يمكن أن يوهموا به أنه حجة لتقليدهم إلا احتجوا به وأكذبوا تجريح مالك لهم ولا مؤنة على الحنفيين إذا جاءهم خبر يمكن أن يوهموا به أنه حجة لتقليدهم من رواية جابر إلا احتجوا به ، ويكذبوا تجريح أبي حنيفة له ، ونحن - ولله الحمد - أحسن مجاملة لشيوخهم منهم ، فلا نرد تجريح مالك فيمن لم تشتهر إمامته . قال أبو محمد ، ثم لو صح هذا الخبر لما كان لهم به متعلق لأنه ليس فيه شيء من قول مالك ، ولا من تلك التقاسيم ، بل هو مخالف لقوله ، وموجب للصلاة إلا أن ترى دما ، فظهر فساد احتجاجهم به . وقال بعضهم : قسناه على حديث المصراة ، وعلى أجل الله تعالى لثمود ، فكان هذا إلى الهزل والاستخفاف بالدين أقرب منه إلى العلم . ونعوذ بالله من الخذلان . قال علي : وروينا عن إبراهيم النخعي أن المستحاضة تصوم وتصلي ولا يطؤها زوجها . قال علي ، وهذا خطأ لأنها إما حائض وإما طاهر غير حائض ، ولا سبيل إلى قسم ثالث في غير النفساء ، فإن كانت حائضا فلا تحل لها الصلاة ولا الصوم ، وإن كانت غير نفساء ولا حائض فوطء زوجها لها حلال ما لم يكن أحدهما صائما أو محرما أو معتكفا أو كان مظاهرا منها ، فبطل هذا القول ، وبالله تعالى التوفيق .
================
كتاب الطهارة
الفطــــرة
270 - مسألة : السواك مستحب ، ولو أمكن لكل صلاة لكان أفضل ، ونتف الإبط والختان وحلق العانة وقص الأظفار ، وأما قص الشارب ففرض ولا يحل للمرأة نتف الشعر من وجهها ، ويستحب للجنب إن أراد الأكل أو النوم أو الشرب أن يتوضأ ، وليس فرضا عليه ، وإن أراد المعاودة فيجب عليه أن يتوضأ أيضا ، وإن وطئ زوجتين له أو زوجات أو إماء وزوجات فيغتسل بين كل اثنتين فحسن ، وإن لم يغتسل إلا في آخر ذلك فحسن . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { الفطرة خمس أو خمس من الفطرة : الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب } . وبه إلى مسلم : ثنا قتيبة بن سعيد وعمرو الناقد ثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } قال علي : فإذ لم يأمرهم فليس فرضا . وبه إلى مسلم بن الحجاج . ثنا يحيى بن يحيى وقتيبة كلاهما عن جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال : { وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة } . وأما فرض قص الشارب وإعفاء اللحية فإن عبد الله بن يوسف ثنا قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سهل بن عثمان ثنا يزيد بن زريع عن عمر بن محمد ثنا نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { خالفوا المشركين ، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى } . حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا محمد بن عجلان قال : قال لي عثمان بن عبيد الله بن رافع رأيت أصحاب رسول الله ﷺ يبيضون شواربهم شبه الحلق ، قلت : من ؟ قال جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأبا أسيد وسلمة بن الأكوع وأنس بن مالك ورافع بن خديج . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة قالت : { كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة } . حدثنا يونس بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصر أرنا عبد الله هو ابن المبارك - عن يونس هو ابن يزيد - عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عائشة قالت { كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ ، وإن أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه ثم يأكل أو يشرب } . فإن قيل : فقد صح أن { عمر ذكر لرسول الله ﷺ أنه تصيبه الجنابة من الليل ، فقال له رسول الله ﷺ : توضأ واغسل ذكرك ثم نم } . قلنا فحدثنا محمد بن سعيد بن نبات قال : ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عائشة { أن رسول الله ﷺ كان ينام وهو جنب كهيئته ولا يمس ماء } . وحدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي - عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت { كان رسول الله ﷺ إذا رجع من المسجد صلى ما قضى الله له ، ثم مال إلى فراشه أو إلى أهله فإن كانت له حاجة إلى أهله قضاها ثم نام كهيئته لا يمس ماء ، فإذا سمع النداء وثب فإن كان جنبا أفاض عليه الماء ، وإن لم يكن جنبا توضأ وصلى ركعتين ثم خرج إلى المسجد } . فهذا عموم يدخل فيه الوضوء والغسل معا وغير ذلك ، ومن ادعى أن سفيان أخطأ في هذا الحديث فهو المخطئ ، بدعواه ما لا دليل عليه . فإن قيل : قد خالفه زهير بن معاوية . قلنا : سفيان أحفظ من زهير ، ولو لم يكن لما كان في خلاف بعض الرواة لبعض دليل على خطأ أحدهم ، بل الثقة مصدق في كل ما يروي . وبالله تعالى التوفيق . وقول عائشة هذا إخبار عن مداومته عليه السلام على ذلك ، وممن روينا عنه إباحة النوم للمجامع قبل أن يتوضأ : سعيد بن المسيب وربيعة ويزيد بن هارون الشافعي وأبو ثور . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون وهشيم وحفص بن غياث . قال يزيد عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن أبي رافع عن عمته سلمى عن أبي رافع { أن رسول الله ﷺ طاف على نسائه في ليلة واحدة فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا } . وقال هشيم : ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك { أن رسول الله ﷺ كان يطوف على جميع نسائه في ليلة بغسل واحد } وقال حفص بن غياث عن عاصم عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله ﷺ : { إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءا } .
الآنية
271 - مسألة : لا يحل الوضوء ولا الغسل ولا الشرب ولا الأكل لا لرجل ولا لامرأة في إناء عمل من عظم ابن آدم ، لما ذكرنا في كتابنا هذا في جلود الميتة من وجوب دفن المؤمن والكافر ، وتحريم المثلة ، ولا في إناء عمل من عظم خنزير لما ذكرنا من أنه كله رجس ، ولا في إناء من جلد ميتة قبل أن يدبغ . ولا في إناء فضة أو إناء ذهب . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة والوليد بن شجاع قالا : ثنا علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن زيد بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ قال : { إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم } . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة قال : { نهانا رسول الله ﷺ عن لبس الحرير والديباج وعن آنية الذهب والفضة ، وقال : هو لهم في الدنيا وهو لنا في الآخرة } . ولا في إناء مأخوذ بغير حق ، لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .
272 - مسألة : ثم كل إناء بعد هذا من صفر أو نحاس أو رصاص أو قزدير أو بلور أو زمرد أو ياقوت أو غير ذلك فمباح الأكل فيه والشرب والوضوء والغسل فيه للرجال والنساء ، لقول الله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } وقول رسول الله ﷺ : { دعوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه } فصح أن كل مسكوت عن ذكره بتحريم أو أمر فمباح . والمذهب والمضبب بالذهب حلال للنساء دون الرجال لأنه ليس إناء ، وقد صح عن النبي ﷺ { الحرير والذهب حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها } أو كما قال عليه السلام : " وليس المذهب إناء ذهب ، والمفضض والمضبب بالفضة حلال للرجال والنساء ، لأنه ليس إناء ، وبالله تعالى نتأيد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل " .
273 - مسألة : من عجز عن بعض أعضائه في الطهارة : من قطعت يداه أو رجلاه أو بعض ذلك سقط عنه حكمه ، وبقي عليه غسل ما بقي لقوله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فإن كان في الجسد جرح سقط حكمه وبقي فرض غسل سائر الجسد أو الأعضاء لما ذكرناه ، فإن عمت القروح يديه أو يده أو رجليه أو وجهه أو بعض جسده ، فإن أخرجه ذلك إلى اسم المرض وكان عليه من إمساسه الماء حرج تيمم فقط ، لأن هذا حكم المريض ، وإن كان لا مشقة عليه في الماء غمسه فقط وأجزأه ، أو صب عليه الماء وأجزأه ، وإن كان لم يخرجه إلى اسم المرض غسل ما أمكنه وسقط عنه ما عليه فيه حرج فقط كثر أو قل لما ذكرناه ، ولا يجوز أن يجمع في وضوء تيمم وغسل ، ولا في طهر واحد أيضا إذ لم يأت بذلك نص ولا إجماع ، إلا في موضع واحد وقد ذكرناه قبل وهو : من معه ماء لا يعم به جميع أعضاء وضوئه أو جميع جسده فقط . وبالله تعالى التوفيق .
من شك في الماء ؟
274 - مسألة : من كان بحضرته ماء وشك أولغ فيه الكلب أم لا ؟ أم هو فضل امرأة أم لا ، فله أن يتوضأ به لغير ضرورة وأن يغتسل به كذلك لأنه على يقين من طهارته في أصله ، وجواز التطهير به ، ثم شك هل حرم ذلك فيه أم لا ، والحق اليقين لا يسقطه الظن ، قال الله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } فإن شك أهو ماء أم هو معتصر من بعض النبات لم يحل له الوضوء به ولا الغسل لأنه ليس على يقين من أنه جاز به التطهر يوما ما ، والوضوء والغسل فرضان ، فلا يرفع الفرض بالشك ، فإن كان بين يديه إناءان فصاعدا في أحدهما ماء طاهر بيقين وسائرها مما ولغ فيه الكلب ، أو فيها واحد ولغ فيه كلب وسائرها طاهر ، ولا يميز من ذلك شيئا فله أن يتوضأ بأيها شاء ، ما لم يكن على يقين من أنه قد تجاوز عدد الطاهرات وتوضأ بما لا يحل الوضوء به ، لأن كل ماء منها فعلى أصل طهارته على انفراده ، فإذا حصل على يقين التطهر فيما لا يحل التطهر به فقد حصل على يقين الحرام ، فعليه أن يطهر أعضاءه إن كان ذلك الماء حراما استعماله جملة ، فإن كان فيها واحد معتصر لا يدري ، لم يحل له الوضوء بشيء منها ، لأنه ليس على يقين من أنه توضأ بماء ، واليقين لا يرتفع بالظن ، وبالله تعالى التوفيق .
=======================
===================================================================================================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصنيف المحلي لابن حزم

تصنيف:محلى ابن حزم:المجلد الثاني اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث صفحات تصنيف «محلى ابن حزم:المجلد الثاني»  الصفحات 90 التالية مصنّفة بهذا ا...