ب مم وبيسي

مم /ثالثة 3 ثانوي مدونة محدودة /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني /التجويد /من كتب التراث الروائع /فيزياء ثاني2 ثانوي.ت2. /كتاب الرحيق المختوم /مدونة تعليمية محدودة رائعة /صفائي /الكشكول الابيض/ثاني ثانوي لغة عربية ترم اول يليه ترم ثاني ومعه 3ث /الحاسب الآلي)2ث /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة السنن الكبري للنسائي والنهاية لابن كثير /نهاية العالم /بيت المعرفة العامة /رياضيات بحتة وتطبيقية2 ثانوي ترم ثاني /احياء ثاني ثانوي ترم أول /عبدالواحد2ث.ت1و... /مدونة سورة التوبة /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /المكتبة التعليمية 3 ثانوي /كشكول /نهاية البداية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /الديوان الشامل لأحكام الطلاق /الاستقامة اا. /المدونة التعليمية المساعدة /اللهم أبي وأمي ومن مات من أهلي /الطلاق المختلف عليه /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي /الهندسة بأفرعها /لغة انجليزية2ث.ت1. /مناهج غابت عن الأنظار. /ترم ثاني الثاني الثانوي علمي ورياضة وادبي /المنهج في الطلاق /عبد الواحد2ث- ت1. /حورية /المصحف ورد ج /روابط المواقع التعليمية ثانوي غام /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ /فيزياء 2 ثاني ثانوي.ت1. /سنن النكاح والزواج /النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /مدونة المدونات /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /السيرة النبوية /اعجاز الخالق /فيمن خلق /ترجمة المقالات /الحائرون الملتاعون هلموا /النُخْبَةُ في شِرعَةِ الطلاق. /أصول الفقه الاسلامي وضوابطه /الأم)منهج ثاني ثانوي علمي رياضة وعلوم /وصف الجنة والحور العين اللهم أدخلنا الجنة ومتاعها /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /روابط مواقع تعليمية بالمذكرات /دين الله الحق /مدونة الإختصارات / /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /علم المناعة والحساسية /طرزان /مدونة المدونات /الأمراض الخطرة والوقاية منها /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /تفوق وانطلق للعلا /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الاستقامة أول /تكوير الشمس /كيمياء2 ثاني ثانوي ت1. /مدونة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مكتبة روابط ثاني ثانوي.ت1. /ثاني ثانوي لغة عربية /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /اللغة الفرنسية 2ثانوي /مدونة مصنفات الموسوعة الشاملة فهرسة /التاريخ 2ث /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /كتاب الزكاة /بستان العارفين /كتب 2 ثاني ثانوي ترم1و2 . /ترم اول وثاني الماني2ث  ///بيسو /مدونات أمي رضي الله عنكي /نهاية العالم /مدونة تحريز نصوص الشريعة الإسلامية ومنع اللعب باالتأويل والمجاز فيها /ابن حزم الأندلسي /تعليمية /أشراط الساعة /أولا/ الفقه الخالص /التعقيبات /المدونة الطبية /خلاصة الفقه /معايير الآخرة ويوم الحساب /بر الوالين /السوالب وتداعياتها

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل



الفصل في الملل والأهواء والنحل 
 الفصل في الملل والأهواء والنحل/المجلد الأول

المقدمة 

قال الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه
الحمد لله كثيراً وصلى الله على عبده ورسوله خاتم أنبيائه بكرةً وأصيلاً وسلم تسليماً أما بعد فإن كثيراً من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتباً كثيرة جداً فبعض أطال وأسهب وأكثر وهجر واستعمل الأغاليط والشغب فكان ذلك شاغلاً عن الفهم قاطعاً دون العلم وبعض حذف وقصر وقلل واختصر واضرب عن كثير من قوي معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالماً لخصمه في أن لم يوفه حق اعتراضه وباخساً حق من قرأ كتابه إذ لم يغنه عن غيره وكلهم إلا تحلة القسم عقد كلامه تعقيداً يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلق على المعاني من بعد حتى صار ينسي آخر كلامه أوله وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم فكان هذا منهم غير محمود في عاجله وآجله.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عز وجل في جمعه وقصدنا به قصد إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلاً مخرجها إلى ما أخرجت له وأن لا يصح منه إلا ما صححت البراهين المذكورة فقط.
إذ ليس الحق إلا ذلك وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد راجين من الله تعالى على ذلك الأجر الجزيل وهو تعالى ولي من تولاه ومعطي من استعطاه لا إله إلا هو وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول وبالله التوفيق رؤس الفرق المخالفة لدين الإسلام ست ثم تتفرق كل فرقة من هذه الفرق الست على فرق وسأذكر جماهيرها إن شاء الله عز وجل.
فالفرق الست التي ذكرناها على مراتبها في البعد عنا أولها مبطلو الحقائق وهم الذين يسميهم المتكلمون السوفسطائية ثم القائلون بإثبات الحقائق إلا أنهم قالوا إن العالم لم يزل وأنه لا محدث له ولا مدبر ثم القائلون بإثبات الحقائق وإن العالم لم يزل وإن له مدبراً لم يزل ثم القائلون بإثبات الحقائق فبعضهم قال إن العالم لم يزل وبعضهم قال هو محدث واتفقوا على أنه له مدبرين لم يزالوا وأنهم أكثر من واحد واختلفوا في عددهم ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأبطلوا النبوات كلها ثم القائلون بإثبات الحقائق وأن العالم محدث وأن له خالقاً واحداً لم يزل وأثبتوا النبوات إلا أنهم خالفوا في عبضها فأقروا ببعض الأنبياء عليهم السلام وأنكروا بعضهم.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد تحدث في خلال هذه الأقوال آراء هي منتجة من هذه الرؤس مركبة منها فمنها ما قد قالت به طوائف من الناس.
مثل ما ذهبت إليه فرق من الأمم من القول بتناسخ الأرواح أو القول بتواتر النبوات في كل وقت أو إن في كل نوع من أنواع الحيوان أنبياء.
ومثل ما قد ذهب إليه جماعة من القائلين به وناظرتهم عليه من القول بأن العالم محدث وأن له مدبراً لم يزل إلا أن النفس ولامكان المطلق وهو الخلاء والزمان المطلق لم يزل معه.
قال أبو محمد وهذا قول قد ناظرني عليه عبد الله بن خلف ابن مروان الأنصاري وعبد الله بن محمد السلمي الكاتب ومحمد بن علي بن أبي الحسين الأصبحي الطبيب وهو قول يؤثر عن محمد بن زكريا الرازي الطبيب ولنا عليه فيه كتاب مفرد في نقض كتابه في ذلك وهو المعروف بالعلم الإلهي.
ومثل ما ذهب إليه قوم من أن الفلك لم يزل وأنه غير الله تعالى وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالاً بزعمهم لله عن أن يوصف بأنه فعل شيئاً من الأشثياء وقد كنى بعضهم عن ذلك بالعرش
ومنا ما لا نعلم أن أحداً قال به إلا أنه مما لا يؤمن أن يقول به قائل من المخالفين عند تضييق الحجيج عليهم فيلجئون إليها فلا بد إن شاء الله تعالى من ذكر ما يقتضيه مساق الكلام منها وذلك مثل القول بأن العالم محدث ولا محدث له فلا بد بحول الله تعالى من إثبات المحدث بعد الكلام في إثبات الحدوث وبالله تعالى التوفيق والعون لا إله إلا هو.
باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق
في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين إلا أننا نذكر ههنا جملة كافية فيه لتكون مقدمة لما يأتي بعده مما اختلف الناس فيه يرجع إليها إن شاء الله تعالى.
فنقول وبالله التوفيق إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول أنها كانت قبل ذلك ذاكرة أولاً ذكر لها البتة في قول من يقول أنها حدثت حينئذ أو أنها مزاج عرض إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلا ما لسائر الحيوان من الحس والحركة الإرادية فقط فتراه يقبض رجليه ويمدهما ويقلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إذا أحس البرد أو الحر أو الجوع وإذا ضرب أو قرص وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيواناً من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه من سائر الأعضاء بفمه دون سائر أعضائه كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ولنمائها.
فإذا قويت النفس على قول من يقول أنها مزاج أو أنها حدثت حينئذ أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول أنها كانت ذاكرة قبل ذلك وأنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسها الخمس.
كعلمها أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها والرائحة الرديئة منافرة لطبعها.
وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر والأصفر والأبيض والأسود.
وكالفرق بين الخشن والأملس المكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفي.
وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف.
وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع.
قال أبو محمد فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها والإدراك السادس علمها بالبديهيات.
فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً.
ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد.
ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه.
وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك.
ومنها علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد وذلك أنه إذا سألته عن شيءٍ لا يعرفه أنكر ذلك وقال لا أدري.
ومنها فرقة بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدقه حتى إذا تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدقه وسكن إلى ذلك.
ومنها علمه بأنه لا يكون شيءٌ إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمراً ما قال متى كان وإذا قلت له لم تفعل كذا وكذا قال ما كنت أفعله وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في زمان.
ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها فتراه إذا رأى شيئاً لا يعرفه قال أي شيء هذا فإذا شرح له سكت.
ومنها علمه بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل فإنه إذا رأى شيئاً قال من عمل هذا ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل وإذا رأى بيد آخر شيئاً قال من أعطاك هذا.
ومنها معرفته بأنه في الخبر صدقاً وكذباً فتراه يكذب بعض ما يخبر به ويصدق بعضه ويتوقف في بعضه هذا كله مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم.
قال أبو محمد فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل وههنا أيضاً أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحيحة لا امتراء فيها وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضاً آفة دخلت على تمييزه.
كالآفة الداخلة على من به هيجان الصفراء فيجد العسل مراً.
ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها.
وكسائر الآفات الداخلة على الحواس.
قال أبو محمد فهذه المقدمات التي ذكرناها هي الصحيحة التي لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه.
وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة لا دقيقة ولا جليلة ولا سبيل على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ولا يصح شيءٌ إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.
إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم القوي الفهم والتمييز.
وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات التي ذكرنا حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق وهذا مثل الأعداد فكلما قلت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلا مع الحاسب الكافي المجيد وكلما قرب من ذلك وبعد فهو كله حق ولا تفاضل في شيء من ذلك ولا تعارض مقدمة مما ذكرنا مقدمة أخرى منها ولا يعارض ما يرجع إلى مقدمة أخرى منها رجوعاً صحيحاً وهذا كله يعلم بالضرورة.
ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض صح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبراً كاذباً طويلاً فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالماً بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فبالضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي مرض من مرض وأفاق من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لاشك عند أحمد يوفي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
باب الكلام على أهل القسم الأول وهم مبطلوا الحقائق وهم السوفسطائية
قال أبو محمد ذكر من سلف من المتكلمين أنهم ثلاثة أصناف.
فصنف منهم نفى الحقائق جملة.
وصنف منهم شكوا فيها.
وصنف منهم قالوا هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل وعمدة ما ذكر من اعتراضهم فهو اختلاف الحواس في المحسوسات كإدراك البصر من بعدٍ عنه صغيراً ومن قربٍ منه كبيراً وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مراً وما يرى في الرؤيا مما لا يشك فيه رائيه أنه حق من أنه في البلاد البعيدة.
قال أبو محمد وكل هذا لا معنى له لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة وحسن العقل شاهد بالفرق بين ما يخيل إلى النائم وبين ما يدركه المستيقظ إذ ليس في الرؤيا من استعمال الجري على الحدود المستقرة في الأشياء المعروفة وكونها ابداً على صفة واحدة ما في اليقظة وكذلك يشهد الحس أيضاً بأن تبدل المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حس الحاس له لا في المحسوس جار كل ذلك على رتبة واحدة لا تتحول وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان إذ لو طلب على كل برهان برهان لاقتضى ذلك وجود موجودات لا نهاية لها ووجود أشياء لا نهاية لها محال لا سبيل إليه على ما سنبينه إن شاء الله تعالى والذي يطلب على البرهان برهاناً فهو ناطق بالمحال لأنه لا يفعل ذلك إلا وهو مثبت لبرهان ما فإذا وقفنا عند البرهان الذي ثبت لزمه الإذعان له فإن كان لا يثبت برهاناً فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده والقول بنفي الحقائق مكابرة للعقل والحس.
ويكفي من الرد عليهم أن يقال لهم قولكم أنه لا حقيقة للأشياء حق هو أم باطل فإن قالوا هو حق أثبتوا حقيقة ما وإن قالوا ليس هو حقاً أقروا ببطلان قولهم وكفوا خصمهم أمرهم ويقال للشكاك منهم وبالله تعالى التوفيق أشككم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود فإن قالوا هو موجود صحيح منا أثبتوا أيضاً حقيقة ما وإن قالوا هو غير موجود نفوا الشك وأبطلوه وفي إبطال الشك إثبات الحقائق أو القطع على إبطالها وقد قدمنا بعون الله تعالى إبطال قول من أبطلها فلم يبق إلا الإثبات.
ويقال وبالله التوفيق لمن قال هي حق عند من هي عنده حق وهي باطل عند من هي عنده باطل أن الشيء لا يكون حقاً باعتقاد من اعتقد أنه حق كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً سواءً اعتقد أنه حق أو اعتقد أنه باطل ولو كان غير هذا لكان الشيء معدوماً موجوداً في حال واحدة في ذاته وهذا عين المحال وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق من يعتقد أن الأشياء حق بطلان قول من قال أن الحقائق باطل وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة إذ حسه يشهد بخلافها وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المنقطعين على سبيل الشغب وبالله تعالى التوفيق.
باب الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له
قال أبو محمد رضي الله عنه : لا يخلو العالم من أحد وجهين إما أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثاً لم يكن ثم كان فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدهرية وذهب سائر الناس إلى أنه محدث فنبتدىء بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بها ثم نبين بحوله تعالى نقضها وفسادها فإذا بطل القول بأن العالم لم يزل وجب القول بالحدوث وصح إذ لا سبيل إلى وجه ثالث لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فمما اعترضوا به أن قالوا لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لا يشاهد ولم يشاهد وقالوا أيضاً لا يخلو محدث الأجسام الجواهر والأعراض وهي كل ما في العالم إن كان العالم محدثاً من أن يكون إحداثه لأنه أو إحداثه لعلة.
فإن كان لأنه فالعالم لم يزل لأن محدثه لم يزل وإذ هو علة خلقه فالعلة لا تفارق المعلول وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضاً لم يزل إذ هو مثله بلا شك فالعالم لم يزل.
وإن كان أحدثه لعلة فتلك العلة لا تخلو من أحد وجهين إما أن تكون لم تزل وإما أن تكون محدثة فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل وإن كانت تلك العلة محدثة لزم في حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه أو لعلة فإن كان لعلة لزم ذلك أيضاً علة العلة وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا أوائل لها قالوا وهذا قولنا قالوا وإن كان أحدثها لأنه فهذا يوجب أن العلة لم تزل كما بينا آنفاً.
وقالوا أيضاً إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه وإما أن يكون خلافها من جميع الوجوه وإما أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه.
قالوا فإن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثاً مثلها وهكذا في محدثة أيضاً ابداً.
وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضاً من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث إذ الحدوث اللازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق.
وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها لأن هذا هو حقيقة الضد والمناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشيء خلافه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد وقالوا أيضاً لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيء من ذلك.
قالوا فإن كان فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فهو محل للمنافع والمضار وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها.
قالوا وإن كان فعله طباعاً فالطباع موجبة لما حدث بها ففعله لم يزل معه.
قالوا وإن كان فعله لا لشيء من ذلك فهذا لا يعقل وما خرج عن المعقول فمحال وقالوا أيضاً لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلاً لتركها قالوا وتركها لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عول عليه القائلون بالدهر قد تقصيناها لهم ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحداً واحداً.
إفساد الاعتراض الأول
قال أبو محمد رضي الله عنه : يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة أو لا يدرك شيء من الحقائق إلا من طريق الرؤية فقط فإن قالوا إنه قد تدرك الحقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة وقد نفوا ذلك قبل هذا فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى.
فإن قالوا لا بل لا يدرك شيء إلا من طريق المشاهدة قيل لهم فهل شاهدتم شيئاً قط لم يزل فلابد من نعم أو لا فإن قالوا لا صدقوا وأبطلوا استدلالهم وإن قالوا نعم كابروا وادعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أول بلا شك وذو الأول هو غير الذي لم يزل لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أول ما لا أول له مشاهدة متصلة فبطل هذا الاستدلال على كل وجه والحمد لله رب العالمين.
إفساد الاعتراض الثاني
قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنه أو لعلة هذه قسمة ناقصة وينقص منها القسم الثالث وهو لأنه فعل لا لأنه ولا لعلة أصلاً لكن كما شاء لأن كلا القسمين المذكورين أولاً وهما أنه فعل لأنه أو لعلة قد بطلا بما قدمنا هنالك إذ العلة توجب إما الفعل أو الترك وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصح بذلك أنه لا علة لفعله أصلاً ولا لتركه البتة فبطل هذا الشغب والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا إن ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ففعله الذي هو الترك لم يزل قلنا وبالله تعالى التوفيق إن ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلاً أصلاً على ما نبين في فساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى.
إفساد الاعتراض الثالث
قال أبو محمد رضي الله عنه : يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه أو من بعض الوجوه لا من كلها أو خلافها من جميع الوجوه إلى انقضاء كلامهم بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه وإدخالكم على هذا الوجه أنه حقيقة الضد والنقيض والضد لا يفعل ضده كما لا تفعل النار التبريد إدخال فاسد لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضد لخلقه لأن الضد هو ما حمل حمل التضاد والتضاد هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى وإنما التضاد كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون أو الفضيلة والرذيلة اللتين يجمعهما الكيفية والخلق ولا يكون الضدان إلا عرضين تحت جنس واحد ولابد وكل هذا منفي عن الخالق عز وجل فبطل بالضرورة أن يكون عز وجل ضداً لخلقه.
وأيضاً فإن قولهم لو كان خلافاً لخلقه من جميع الوجوه لكان ضداً لهم فاسد إذ ليس كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف العرض من كل وجه حاشا الحدوث فقط وليس ضداً له ويقال أيضاً لمن قال هذا القول هل تثبت فاعلاً وفعلاً على وجه من الوجوه أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة فإن نفي الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن ومن دفع بهذا كان في نصاب من لا يكلم وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بينا قيل له هل يفعل الجسم إلا الحركة والسكون فلابد من نعم والحركة والسكون خلاف الجسم وليسا ضداً له إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلاً وإنما يجمعها وإياه الحدوث فقط فلو كان كل خلاف ضداً لكان الجسم فاعلاً لضده وهو الحركة أو السكون وهذا هو نفس ما أبطلوا فصح بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضداً وصح أن الفاعل يفعل خلافه ولابد من ذلك فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين.
إفساد الاعتراض الرابع
قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيءٍ من ذلك إلى انقضاء كلامهم.
أما الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون.
وأما فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو الخالق لكل ما دونه.
وأما القسم الثاني وهو أنه فعل لا لشيءٍ من ذلك فهذا هو قولنا ثم نقول لمن قال إن الفعل لا لشيءٍ من ذلك أمر غير معقول ماذا تعني بقولك غير معقول أتريد أنه لا يعقل حساً أو مشاهدة أم تقول أنه لا يعقل استدلالاً فإن قلت إنه لا يعقل حساً ومشاهدة قلنا لك صدقت كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حساً ومشاهدة وإن قلت إنه لا يعقل استدلالاً كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل والدعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة فالاستدلال بها ساقط فكيف والفعل لا لشيءٍ من ذلك متوهم ممكن غير داخل في الممتنع وما كان هكذا فالمانع منه مبطل والقول به يعقل فسقط هذا الاعتراض ثم نقول لما كان الباري تعالى بالبراهين الضرورية خلافاً لجميع خلقه من جميع الوجوه كان فعله خلافاً لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه وجميع خلقه لا تفعل إلا طباعاً أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك وبالله التوفيق.
إفساد الاعتراض الخامس
قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لمن قال إن ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو أن يكون جسماً أو عرضاً إلى منتهى كلامهم إن هذه قسمة فاسدة بينة العوار وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق وترك الفعل ليس طويلاً ولا عريضاً ولا عميقاً فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسماً والعرض هو المحمول في الجسم وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولاً فليس عرضاً فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس هو جسماً ولا عرضاً وإنما هو عدم والعدم ليس معنى ولا هو شيئاً وترك الله تعالى للفعل ليس فعلاً البتة بخلاف صفة خلقه لأن الترك من المخلوق للفعل فعل برهان ذلك إن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وتارك الأكل لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضاً أو في مباعدة بعضها بعضاً وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره فصح أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه وإن تركه للفعل ليس فعلاً أصلاً فبطل استدلالهم وبالله التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ولم يبق لهم شغب أصلاً بعون الله وتأييده فنحن مبتدئون بتأييده عز وجل في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن وتحقيق أن له محدثاً لم يزل لا إله إلا هو.
برهان أول
قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول وبالله التوفيق إن كل شخص في العالم وكل عرض في شخص وكل زمان فكل ذلك متناه ذو أول نشاهد ذلك حساً وعياناً لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره وأيضاً بزمان وجوده وتناهي العرض المحمول ظاهر بين بتناهي الشخص الحامل له وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي وفناء كل وقت بعد وجوده واستئناف آخر يأتي بعده إذ كل زمان فنهايته الآن وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي وما بعده ابتداء للمستقبل وهكذا أبداً يفنى زمان ويبتدىء آخر وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وذوات أوائل كما قدمنا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذات أوائل فليس هو شيئاً غير أجزائه إذ الكل ليس هو شيئاً غير الأجزاء التي ينحل إليها وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل والعالم كله إنما هو أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ذوات أوائل كما ذكرنا فالعالم كله متناه ذو أول ولا بد فغن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أو بالمشاهدة والحس وكان هو غير ذي أول وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فهو ذو أول لا ذو أول وهذا عين المحال ويجب من ذلك أيضاً أن لأجزائه أوائل محسوسة وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول فأجزاؤه إذن لها أول ليس لها أول وهذا محال وتخليط فصح بالضرورة أن للعالم أولاً إذ كل أجزائه لها أول وليس هو شيئاً غير أجزائه وبالله تعالى التوفيق.
برهان ثان
قال أبو محمد رضي الله عنه : فنقول كل موجود بالفعل فقد حصره العدد وأحصته طبيعته ومعنى الطبيعة وحدها هو أن تقول الطبيعة هي القوة التي في الشيء فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه وإن أوجزت قلت هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له إذ ليس معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصي المحصور والعالم موجود بالفعل وكل محصور بالعدد محصي بالطبيعة فهو ذو نهاية فالعالم كله ذو نهاية وسواء في ذلك ما وجد في مدة واحدة أو مدد كثيرة إذ ليست تلك المدد إلا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشثياء التي ركب منها فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول فصح من كل ذلك أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبداً لأن وقوع البعدية فيه هو وجود نهاية له وما لا نهاية له فلا بعد له فعلى هذا لا يوجد شيءٌ بعد شيءٍ أبد الأبد والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول وكل شيءٍ عنده بمقدار.
برهان ثالث
قال أبو محمد رضي الله عنه : ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئاً من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته فإن كان الزمان لا أول له يكون به متناهياً في عدده الآن فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئاً وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتمد بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله ﷺ فإن لم يكن هذا صحيحاً فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة واحدة في كل ثلاثين سنة وزحل لم يزل يدور دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غيرة خمسين دورة والفلك لم يزل يدور وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة وهذا محال لما قدمنا ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه فوجبت في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها.
ويجب أيضاً من ذلك أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن وأيضاً فلا شك في أن الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا وبلا شك أيضاً في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا أفلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوج لا رابع لها أما أن يكون الزمان مذ كان موجوداً إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة فالكل أقل من الجزء والجزء أكثر من الكل وهذا هو الاختلاط وعين المحال إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس وإن كان مساوياً له فالكل مساو للجزء وهذا عين المحال والتخليط وإن كان أكثر منه وهذا هو الذي لا شك فيه فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية ومعنى الجزء إنما هو إبعاض الشيء ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كل ذي أبعاض والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لإبعاضه وإبعاضه أجزاء له والنهاية كما قدمنا لازمة لكل ذي كل وذي أجزاء والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً ولو فارقه لم يكن الجرم موجوداً ولا كان الزمان أيضاً موجوداً والجزء والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه والزمان ذو أول والجرم ذو أول وهذا مما لا انفكاك له البتة وأما ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئاً فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ولا يوصف بشيء أصلاً لأنه لا وجود له بعد فإذا وجد لزمه حينئذ مالزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات.
وأيضاً فلا شك في أن ما وقع من الزمان ووجد من الزماان إلى يومنا هذا مساو لما من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوساً وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان والمساوى لا يقع إلا في ذي نهاية فالزمان متناه ضرورة وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان فأراد أن يعكسه علي في بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط لأن الباري تعالى ليس في زمان ولا له مدة لأن الزمان إنما هو حركة كل ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان أو مدة بقائه ساكناً في مكان واحد والباري تعالى ليس متحركاً ولا ساكناً ولاشك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا هو في مكان أصلاً وليس هو جرماً ولا جوهراً ولا عرضاً ولا عدداً ولا جنساً ولا نوعاً ولا فصلاً ولا متحركاً ولا ساكناً وإنما هو تعالى حق في ذاته وجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره واحد لا واحد في العالم سواه مخترع للموجودات كلها دونه لا يشبه شيئاً من خلقه بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد نبه الله على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى. يزيد في الخلق ما يشاء.
برهان رابع
قال أبو محمد رضي الله عنه : إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له فالإحصاء منا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه إذ لو أحصى ذلك كله لكان له نهاية ضرورة فإذا لا سبيل إليه فكذلك أيضاً هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا وإذا كان ذلك محالاً فالعدد والطبيعة إذاً لم يبلغا إلينا وقد تيقنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك فإذاً قد أحصى العدد والطبيعة كل ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا فكذلك الإحصاء منا إلى أولية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك وإذ ذلك كذلك فللعالم أول ضرورة وبالله تعالى التوفيق.
برهان خامس
قال أبو محمد لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان وهكذا أبداً ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان وثان بعد أول وفي صحة هذا وجوب أول ضرورة وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى وأحصى كل شيء عدداً وأيضاً فالآخر والأول من باب المضاف فالآخر آخر للأول والأول أول للآخر ولو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هذا بما فيه آخر لكل موجود قبله إذ ما لم يأت بعد فليس شيئاً ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة.
قال أبو محمد وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمه الله تعالى أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين وهو عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه لكن على أن الله تعالى ينشىء لكل ذلك بقاء محدوداً وحركات حادثة ولذات مترادفة أبداً وقتاً بعد وقت إلا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك وإذا ثبت الأول فغير ممتنع تمادي الزمان حيناً بعد حين أبداً بلا نهاية وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عد أي شيء أبداً فالعدد له أول ضرورة يعرف ذلك بالحس والمشاهدة وهو قولنا واحد فإن هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ثم الأعداد يمكن فيها لزيادة أبداً لا بد لا إلى غاية لكن كلما خرج منه جزء إلى حد الوجود وحد الفعل فله نهاية وهكذا أبداً سرمداً وبالله تعالى التوفيق فانقطع الشنيفي ولم يكن عنده إلا الشغب.
قال أبو محمد وقد قال بعض اهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها أتقولون أن الله تعالى يوف أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك.
فإن قلتم أنه تعالى يوفيهم إياه دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ولا فرق.
وإن قلتم أنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد وهو كفر عندكم.
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه شغيبة قد طال ما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق وهي منفسخة من وجهين أحدها أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف وإنما يلزم المرء أن يخلص قوله مجرداً ولا أسوة له في تناقض خصمه بل لعل خصمه لا يقول ذلك الثاني إن المسؤل بها إن كان جهمياً سقط عنه هذا السؤال المذكور.
وأما نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه فنقول وبالله التوفيق إن من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يوبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب فيموهون بها على الجهال وما يبنون عليها وهذا الاعتراض من هذا الباب وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عز وجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية وما لم يخرج إلى حد الفعل فهو عدمٌ يعد ولا يقع عليه عدد ولا صفة وهكذا أبداً فقد ظهر أن لفظة يوفيهم هي الشغيبة الفاسدة التي موهوا بها فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن الله تعالى يقول وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قلنا هذا لا يخلوا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة.
فإن كان عنى عز وجل بذلك نصيبهم من الجزاء بالعقاب والنعيم فهو صحيح لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبداً وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار فهذا صحيح لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها وقد قال عز وجل فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وقال تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفي هو ما يعطونه من مساحة الجنة وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم لا يزال تعالى يزيدهم من فضلهه كما قال تعالى بغير حساب فهذا لا يستوفي أبداً لأنه لا نهاية له ولا كل ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفى فلا زيادة فيه وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبداً فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول.
وإذا كان ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه وإما أن يكون أحدثه غيره فإن كان هو أحدث ذاته فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثها وكلاهما معدوم وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها لأن الشيء وذاته هي وهو هي وكل ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس فهذا وجه قد بطل ثم نقول وإن كان خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهو أيضاً محال لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ولا حال أصلاً هنالك فإذاً لا سبيل إلى خروجه وخروجه مشاهد متيقن فحال الخروج غير حال اللا خروج وحال الخروج هي علة كونه وهذا لازم في تلك الحال أعني إن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت أنفسها أو أخرجها غيرها أو أخرجت بغير هذين الوجهين وهكذا في كل حال فإن تمادي الكلام وجب بما قدمناه إلا نهاية واللا نهاية في العالم من مبدأه باطل ممتنع محال فإذاً قد بطل أن يخرج العالم بنفسه وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره فقد ثبت.
الوجه الثالث ضرورة إذ لم يبق غيره البتة فلابد من صحته وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية وحركة دورية في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه والأثر مع المؤثر من باب المضاف فإن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وإن لم يكن مؤثرٌ أثرها ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر لأنه يصير هو المؤثر والمؤثر فيه مع أن المؤثر والأثر من باب المضاف أيضاً ومعنى قولنا إن المؤثر والأثر والمؤثر فيه من باب المضاف إنما هو أن الأثر والمؤثر فيه يقتضيان مؤثراً ولابد ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلابد ضرورة من مرثر ليس مؤثراً فيه وليس هو شيئاً مما في العلام فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى فصح بهذا أن العالم كله محدث وإن له محدثاً هو غيره هذا إلى ما نراه ويشاهد بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشكل فيها ذو عقل.
ومن بعض ذلك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ثم أفلاك تداويرها والبون بين حركة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لها ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها محركاً على هذه الوجوه المختلفة.
ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدبة في المقعرة وتركيب العضل على تلك المداخل والشد على ذلك بالعصب والعروق صناعة ظاهرة لاشك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.
ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه كإصباغ الحجل والشفانين اليمام والسمان والبزاة وكثير من الطير والسلاحف والحشرات والسمك لا يختلف تنقيطه البتة ولا تكون أصباغه موضوعة إلا وضعاً واحداً كأذناب الطواويس وفي السمك والجراد والحشرات نوعاً واحداً كالذي يصوره المصور بيننا.
منها ما يأتي مختلفاً كأصباغ الدجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان فبالضرورة والحس نعلم أن لذلك صانعاً مختاراً يفعل ذلك كله كما شاء ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبداً عما شاء من ذلك وليس يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطاً لا تفاوت فيه من فعل طبيعة ولابد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك ومن دري ما الطبيعة علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط وبالضرورة يعلم أن لها واضعاً ومرتباً وصانعاً لأنها لا تقوم بنفسها وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة.
ومنها ما نرى في ليف النخل والدوم من النسج المصنوع يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط وليس هذا البتة من فعل طبيعة ولا بنسج ناسج ولا بناء ولا صانع أصباغ مرتبة بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله يقيناً كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين فصح أنه خالق أول واحد حق لا يشبه شيئاً من خلقه البتة لا إله إلا هو الواحد الأول الخالق عز وجل .
باب الكلام على من قال أن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل
قال أبو محمد رضي الله عنه : قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة ولكن بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصياً لكل ما موهوا به
قال أبو محمد رضي الله عنه : اعتمد أهل هذه المقالة على أن قالوا إن علة فعل الباري تعالى إنما هو جوده وحكمته وقدرته وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل إذ علته لم تزل فهذا فاسد البتة بالدلالة التي قدمنا التي تضطر إلى المعرفة والتيقن بحدوث العالم ثم نقول أنه إنما يلزم هذا من أقر بهذه المقدمة أعني أن للعالم علة وأما نحن فإنا نقول أنه لا علة لتكوين الله عز وجل كل ما كونه وأنه لا شيء غير الخالق وخلقه ثم نقول على علم هؤلاء قولاً كافياً إن شاء الله تعالى وهو أن المفعول هو المنتقل من العدم إلى الوجود بمعنى من ليس إلى شيء فهذا هو المحدث ومعنى المحدث هو ما لم يكن ثم كان وهم يقولون أنه الذي لم يزل وهذا هو خلاف المعقول لأن الذي لم يكن ثم كان هو غير الذي لم يزل فالعالم إذاً هو غير نفسه وهذا عين المحال وبالله تعالى التوفيق فإن قال لنا قائل لما كان الباري تعالى غير فاعل على قولكم ثم صار فاعلاً فقد لحقته استحالة وتعالى الله عن ذلك قلنا له وبالله التوفيق هذا السؤال راجع عليكم إذ صححتموه فهو لكم لازم لا لنا إذ لم نصححه وذلك أنه إن كان عندكم الفعل منه بعد أن كان غير فاعل يوجب الاستحالة على الفاعل تعالى فإن فعله لما أحدث من الإعراض عندكم بعد أن كان غير محدث لها وإعدامه ما أعدم منها بعد أن كان غير معدم لها موجب عليه الاستحالة فأجيبوا عن سؤالكم الذي صححتموه ولا جواب لكم إلا بإفساده.
وأما نحن فنقول إن الاستحالة ليست ما ذكرتم وإنما معنى الاستحالة أنه حدوث شيء في المستحيل لم يكن فيه قبل ذلك صار به مستحيلاً عن صفته المحمولة عليه إلى غيرها وهذا المعنى منفي عن الله تعالى أي أنه تعالى يجل عن أن يكون حاملاً لصفة عليه بل بذاته لم يفعل إن كان غير فاعل وبذاته فعل إن فعل ولا علة لما فعل ولا علة لما لم يفعل وأيضاً فإن الذي لم يزل هو الذي لا فاعل له ولا مخرج له من عدم إلى وجود فلو كان العالم لم يزل لكان لا محرج له ولا فاعل له وقد أقر أهل هذه المقالة بأن العالم لم يزل وإن له فاعلاً لم يزل يفعل وهذا عين المحال والتخليط والفساد وبالله تعالى التوفيق.
باب الكلام على من قال أن للعالم خالقاً لم يزل
وأن النفس والمكان المطلق هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة وأنها غير محدثة
قال أبو محمد رضي الله عنه : النفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه حامل لأعراضه لا متحرك ولا منقسم ولا متمكن أي لا في مكان.
وقد ناظرني قوم من أهل الرأي ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوا منها أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوته.
ولم نر أحداً ممن تكلم قبلنا ذكر هذه الفرقة فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما فيه تزييف قولهم وما توفيقنا إلا بالله وهذا الزمان والمكان عندهم هما غير المكان المعهود عندنا وغير الزمان المعهود عندنا.
لأن المكان المعهود عندنا هو المحيط بالمتمكن فيه من جهاته أو من بعضها وهو ينقسم قسمين إما مكان يتشكل المتمكن فيه بشكله كالبر أو الماء في الخابية وما أشبه ذلك وإما مكان يتشكل هو بشكل المتمكن فيه كالماء لما حل فيه من الأجسام وما أشبهه.
والزمان المعهود عندنا هو مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً أو مدة وجود العرض في الجسم ويعمه أن نقول هو مدة وجود الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات.
وهم يقولون أن الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حددنا آنفاً من الزمان والمكان ويقولون أنهما شيئان متغايران ولقد كان يكفي من بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك ولكن لابد من إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن هذا الخلاء الذي أثبتم وقلتم أنه كان موجوداً قبل حدوث الفلك وما فيه هل بطل بحدوث الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل.
فإن قالوا لم يبطل وبذلك أجابني بعضهم فيقال لهم فإن كان لم يبطل فهو انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل فإن قالوا لم ينتقل وهو قولهم قيل لهم فإذ لم يبطل ولا انتقل فأين حدث الفلك وقد كان في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابت قائم بنفسه موجود وهل حدث الفلك في ذلك المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره فإن كان حدث في غيره فههنا إذاً مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء وهو إما مع الذي ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيز آخر فإن كان معه في حيز واحد فالفلك فيه حدث ضرورة وقد قلتم أنه لم يحدث فيه فهو إذاً حادث فيه غير حادث فيه وهذا تناقض ومحال.
وإن كان في حيز آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه الفلك ليس هو في ذلك الخلاء وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناهٍ لا متناهٍ وهذا تناقض وتخليط وإذا بطل أن يكون غير متناهٍ وثبت أنه متناه فهو المكان المعهود المضاف إلى المتمكن فيه وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه.
وإن كان الفلك حدث فيه والفلك ملاء بلا شك ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل فالفلك إذاً خلاءٌ وملاءٌ معاً في مكان واحد وهذا محال وتخليط.
فإن قالوا بطل بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك أو قالوا انتقل فقد أوجبوا له النهاية ضرورة إما من طريق الوجود بالبطلان إذ لا يفسد ويبطل إلا ما كان حادثاً لا ما لم يزل وإما من طريق المساحة بالنقلة إذ لو لم يجد أين ينتقل لم تكن له نقلة إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك ووجوده مكاناً ينتقل غليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا.
ويلزمهم في ذلك أيضاً أن يكون متحيزاً ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل والذي انتقل هو غير الذي لم ينتقل وهو إذا كان ذلك فإما هو جسم ذو أجزاء وإما هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم وقد أثبتنا النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإن كان لم يبطل فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ولا انتقل لحدوث الفلك فيه فهو والفلك إذاً موجودان في حيز واحد معاً فهو إذاً ليس مكاناً للفلك لأن المكان لا يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد وهذا يعرف بأولية العقل ولو كان ذلك لكان المكان مكاناً لنفسه ولما كان واحد منهما أولى بأن يكون مكاناً للآخر من الآخر بذلك ولا كان أحدهما أولى أيضاً بأن يكون متمكناً في الآخر من الآخر فيه وكل هذا فاسد ومحال بالضرورة وأيضاً فإن الخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه والفلك عندهم موجود في الخلاء إذ لا نهاية للبخلاء عندهم من طريق المساحة فإذا كان الفلك متمكناً في الخلاء عندهم والخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه فالخلاء إذاً مكان فيه متمكن ليس فيه متمكن وهذا محال وتخليط وهذا بعينه لازم في قولهم إن ذلك الجزء من الخلاء لم ينتقل لحدوث الفلك فيه.
فإن قالوا انتقل فإنما صار إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك خلاء ولا ملاء فقد ثبت عدم الخلاء والملاء فيما فوق الفلك ضرورة وهذا خلاف قولهم.
وإن قالوا بطل لزمهم أيضاً أنه قد عدته المدد ضرورة فإذا عدته المدد فقد تناهى من أوله بالمبدأ ضرورة فإن قالوا بل لم يحدث الفلك في شيء من ذلك المكان الذي هو الخلاء فقد أثبتوا حيزاً آخر ومكاناً للفلك غير الخلاء الشامل عندهم وإذا كان ذلك فقد تناهى كلا المكانين من جهة تلاقيهما ضرورة وإذا تناهيا من جهة تلاقيهما لزمتهما المساحة ووجب تناهيهما التناهي ذرعهما ضرورة ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي هو عندهم مكان لا متمكن فيه هل له مبدأ متصل بصفحات الفلك الأعلى أم لا مبدأ له من هنالك ولابد من أحد الأمرين ضرورة فإن قالوا لا مبدأ له وهو قولهم قيل لهم إن قول القائل مكان إنما يفهم منه ما يتمثل في النفس من المقصود بهذه اللفظة وموضعها في اللغة لتكون عبارة للتفاهم عن المراد بها أنها ساحة ولابد للساحة من الذرع ضرورة ولابد للذرع من مبدأ لأنه كمية والكمية أعداد مركبة من الآحاد فإن لم يكن له مبدأ من واحد اثنين ثلاثة لم يكن عدد وإذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلاً وإذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة ولا انفساح ولا مسافة وكل هذه ألفاظ واقعة إما على ذرع المذروع وإما على مذروع بالذرع ضرورة.
فإن قالوا له مبدأ من هنالك وجبت له النهاية ضرورة لحصر العدد لمساحته بوجود المبدأ له ويسألون أيضاً أمماس هذا الفلك أم غير مماس وبائن عنه أم غير بائن فإن قالوا لا مماس ولا بائن فهذا أمر لا يعقل بالحس ولا يتشكل في النفس ولا يقوم على صحته برهان أبداً إلا في الأعراض المحمولة في الأجسام وهم لا يقولون أن الخلاء عرض محمول في جسم وكل دعوى لم يقم عليها دليل فهي باطلة مردودة وإن أثبتوا المماسة أو المباينة وجب عليهم ضرورة إثبات النهاية له كما لزم بإثبات المبدأ إذ النهاية منطوية في ذكر المبدأ والمماسة والمباينة ضرورة لاشك فيها وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي يذكرون والزمان الذي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أحدهما محمول والثاني حامل أم كلاهما لا حامل ولا محمول فأيهما أجابوا فيه فإنه حامل بلا شك في أن محموله غيره إذ لا يكون الشيء حاملاً لنفسه فله إذاً محمول لم يزل وهو غير الزمان فإن قالوا ذلك كلموا بما قدمنا قبل على أهل الدهر القائلين بأزلية العالم.
وأيضاً فإن كان المكان حاملاً فلا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون حاملاً لجرم متمكن فيه وهذا يوجب النهاية له لوجوب نهاية الجرم المتمكن فيه بالدلالة التي قدمنا في إثبات نهايات الأجرام وإما أن يكون حاملاً لكيفياته فإن كان حاملاً لكيفياته فهو مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذي حسن سليم أن كل مركب فهو متناه بالجرم والزمان بالدلائل التي قدمنا ولا سبيل إلى حمل ثالث وأيهما قالوا فيه أنه محمول فإنه يقتضي حاملاً ويعكس الدليل الذي ذكرنا آنفاً سواءً بسواءٍ وأيهما قالوا فيه أنه حامل محمول وجب كل ما ذكرنا فيه أيضاً بعكسه وأيهما قالوا فيه لا حامل ولا محمول فلا يخلو من أن يكون باقياً أو يكون بقاءً فإن كان باقياً فهو مفتقر إلى بقاءٍ وهو مدته إذ لا باقي إلا ببقاء وإن كان بقاء فلا بد له من باق به وهو من باب الإضافة والمدة وهي البقاء إنما هي محمولة وناعتة للباقي بها ضرورة هذا الذي لا يقوم في العقل سواه ولا يقوم برهان إلا عليه ويسألون أيضاً عن هذا الزمان الذي يذكرون هل زاد في مدة اتصاله مذ حدث الفلك إلى يومنا هذا أو لم يزد ذلك في أمده فإن قالوا لم يزد ذلك في أمده كانت مكابرة لأنها مدة متصلة بها مضافة إليها وعدد زائد على عدد فإن قالوا زاد ذلك في أمده سئلوا متى كانت تلك المدة أطول أقبل الزيادة أم هي وهذه الزيادة معاً فإن قالوا هي والزيادة معاً فقد أثبتوا النهاية ضرورة إذ ما لا نهاية له فلا يقع فيه زيادة ولا نقص ولا يكون شيء مساوياً له ولا أكثر منه ولا أنقص منه ولا يكون هو أيضاً مفصلاً أصلاً فلا يكون مساوياً لنفسه كما هو ولا أكثر من نفسه ولا أقل منها فإن قالوا ليست هي والزيادة معها أطول منها قبل الزيادة فقد أثبتوا أن الشيء وغيره معه ليس أكثر منه وحده وهذا باطل وهم يقولون أن الخلاء والزمان المطلق شيآن متغايران فيقال لهم فإذا هما كذلك فبأي شيء انفصل بعضهما من بعض فإن قالوا انفصل بشيء ما وذكروا في ذلك أي شيء ذكروه فقد أثبتوا لهما التركيب من جنسهما وفصلهما وأيضاً فجعلهم لهما شيئين إيقاع منهم للعدد عليهما وكل عدد فهو متناه محصور وكل محصور فقد سلكته الطبيعة وكل ما سلكته الطبيعة فهو متناه ضرورة.
فإن أرادوا ألزامنا في الباري تعالى مثل ما ألزمناهم في هذا السؤال فقالوا أيما أكثر الباري تعالى وحده أم الباري وخلقه معاً قلنا هذا سؤال فاسد بالبرهان الضروري لأن هذا البرهان إنما هو على وجوب حدوث الزمان وما لم ينفك من الزمان وعلى حدوث النوامي وأيضاً فإن الباري تعالى ليس عدداً ولا بعض عدد وليس هو أيضاً معدوداً ولا بعضاً لمعدود لأن واحداً ليس عدداً بالبرهان الذي نورده في الباب الذي يتلو هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا واحد على الحقيقة إلا الله عز وجل فقط فهو الذي لا يتكثر البتة ولا ينضاف إلى سواه إذ لا يجمعه مع شيء سواه عدد ولا صفة البتة لأن كل ما وقع عليه اسم واحد مما دونه تعالى فإنما هو مجاز لا حقيقة لأنه إذا قسم استبان أنه كان كثيراً لا واحداً فلذلك وقع العدد على الأجرام والأعداد المسماة آحاداً في العالم وأما الواحد في الحقيقة فهو الذي ليس كثيراً أصلاً ولا يتكثر بوجه من الوجوه فلا يقع عليه عدد بوجه من الوجوه لأنه يكون حينئذ واحداً لا واحداً كثيراً لا كثيراً وهذا تخليط ومحال وممتنع لا سبيل إليه فلا يجوز أن يضاف الواحد الأول إلى شيء مما دونه لا في عدد ولا كمية ولا في جنس ولا في صفة ولا في معنى من المعاني أصلاً وبالله تعالى التوفيق.
فإن ذكر ذاكر قول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فمعنى قوله تعالى هو رابعهم وهو سادسهم إنما هو فعل فعله فيهم وهو أن ربعهم بإحاطته بهم لا بذاته وسدسهم بإحاطته لا بذاته أو قد يربعهم بملك يشرف عليهم ويسدسهم كذلك وبرهان هذا القول أن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الآية بلا خلاف بل بضرورة العقل من كل سامع أنه لا تخفى عليه نجواهم وهذا نص الآية لأنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين وإنما أراد عز وجل علمه بنجواهم لا أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاشى لله من ذلك إذ من المحال الممتنع الخارج عن رتبة الأعداد والمعدودين أن يكون الله عز وجل معدوداً بذاته مع ثلاثة بالهند ومع ثلاثة بالسند ومع ثلاثة بالعراق ومع ثلاثة بالصين في وقت واحد لأنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند مع الثلاثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لأنهم أربعة وأربعة بلا شك فكأن تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال وكذلك إذا كان بذاته سادساً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعاً لثلاثة هنالك فهم أربعة فهم كلهم بلا شك عشرة فهو إذاً اثنان وكذلك قوله تعالى في الآية نفسها إلا هو معهم أينما كانوا إنما أضاف تعالى الأينية إليهم لا إلى نفسه تعالى معناه أينما كانوا فهو تعالى معهم بإحاطته إذ محال أن يكون بذاته في مكانين فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين كثيراً
وليس قول القائل الله ورسوله والله وعمرو مما يعترض به علينا لأننا لم نمنع من ضم اسمه تعالى إلى اسم غيره معه لأن الاسم كلمة مركبة من حروف الهجاء وإنما منعنا من أن تعد ذاته تعالى مع شيء غيره إذ العدد إنما هو جمع شيء إلى غيره في قضية ما والله تعالى لا يجمعه وخلقه شيء أصلاً فصح انتفاء العدد عنه تعالى وإذا صح انتفاء العدد عنه صح أنه ليس معدوداً البتة والحمد لله رب العالمين ويسألون أيضاً هذا الزمان والمكان اللذان يذكران أهما واقعان تحت الأجناس والأنواع أم لا وهل هما واقعان تحت المقولات العشر أم لا فإن قالوا لا فقد نفوهما أصلاً وأعدموهما البتة إذ لا مقول من الموجودات إلا هو واقع تحتها وتحت الأجناس والأنواع حاشى الحق الأول الواحد الخالق عز وجل الذي علم بضرورة الدلائل ووجب بها خروجه عن الأجناس والأنواع والمقولات وبالجمة شاؤا أو أبوا فالخلاء والزمان المطلق اللذان يذكران إن كانا موجودين فهما واقعان تحت جنس الكمية والعدد ضرورة فإذا كان ذلك كذلك فهذا الزمان الذي ندريه نحن وهم وذلك الزمان الذي يدعونه هما واقعان جميعاً تحت جنس متى وكذلك المكان الذي يدعونه واقع مع المكان الذي نعرفه نحن وهم تحت جنس أين وبالضرورة يجب أن ما لزم بعض ما تحت الجنس مما يوجبه له الجنس فإنه لازم لكل ما تحت ذلك الجنس وإذ لا شك في هذا فهما مركبان والنهاية فيهما موجودة ضرورة إذ المقولات كلها كذلك.
وأيضاً فإن المكان لابد له من مدة يوجد فيها ضرورة فنسألهم هل تلك المدة هي الزمان الذي يدعونه أم هي غيره فإن كانت هي هو فهو زمان للمكان فهو محمول في المكان فهو ككل زمان لذي الزمان فلا فرق وإن كانت غيره فههنا إذن زمان ثالث غير مدة ذلك المكان وغير الزمان الذي ندريه نحن وهم وهذه وساوس لا يعجز عن ادعائها كل من لم يبال بما يقول ولا استحيا من فضيحة ويقال لهم إذ ليس المكان الذي تدعونه والزمان الذي تدعونه واقعين مع المكان المعهود والزمان المعهود تحت جنس وحدٍ واحد فلم سميتموه مكاناً وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لهما ليبعدا بذلك عن الإشكال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشتركة فإن كانا مع الزمان والمكان المعهودين تحت حد واحد فقد بطلت دعواكم زماناً ومكاناً غير الزمان والمكان المعهودين بالضرورة وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الزمان والمكان غير المعهودين أهما داخل الفلك أم خارجه فإن قالوا هما داخل الفلك فالخلاء إذاً هو الملاء والمكان إذاً في المتمكن يعني في داخله وهذا محال والزمان إذن هو الذي لا يعرف غيره وإن قالوا هما خارج الفلك أوجبوا لهما نهاية ابتداء مما هو خارج الفلك وإن قالوا لا خارج ولا داخل فهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ولا برهان على صحتها فهي باطل فإن قالوا أنتم تقولون هذا في الباري تعالى قلنا لهم نعم لأن البرهان قد قام على وجوده فلما صح وجوده تعالى قام البرهان بوجوب خلافه لكل ما في العالم على أنه لا داخل ولا خارج وأنتم لم يصح لكم برهان على وجود الخلاء والزمان الذي تدعونه فصار كلامكم كله دعوى وبالله التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولم نجد لهم سؤالاً أصلاً ولا أتونا قط بدليل فنورده عنهم ولا وجدنا لهم شيئاً يمكن الشغب به في أزلية الخلاء والمدة فنورده عنهم وإن لم ينتبهوا وإنما هو
قال أبو محمد رضي الله عنه : ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطرف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء وهو أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً فإذا رفعناهما ارتفعا فإذا تركناهما عادا إلى طبعهما بالرسوب ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقي الماء فيها صعداً ولا ينسفك وتجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ونجد إذا حفرنا بئراً امتلأ هواء وسفل الهواء حينئذ ونجد المحجمة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها فليس كل كل هذا إلا لأحد وجهين لا ثالث لهما إما عدم الخلاء جملة كما نقول نحن وإما لأن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فنظرنا في قولهم أن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى بلا دليل فسقط ثم تأملناه أخرى فوجدناه عائداً عليهم لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولابد فقد صار ملأً فالملأ حاضر موجود والخلاء دعوى لا برهان عليها فسقطت وثبت عدم الخلاء.
ثم نظرنا في قولنا فوجدناه يعلم بالمشاهدة وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان مكاناً يبقى خالياً قط دون متمكن فصح الملأ بالضرورة وبطل الخلاء إذ لم يقم عليه دليل ولا وجد قط وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم إن كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون من جنس هذا الخلاء الذي تدعون أنه يجتذب الأجسام بطبعه أو يكون من غير جنسه ولابد من أحد هذين الوجهين ضرورة ولا سبيل إلى ثالث البتة فإن قالوا هو من جنسه وهو قولهم فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن يجذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلىء بها حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها فوجب أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك لذلك أيضاً ضرورة لأن هذه صفة طبعه وجنسه فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكناً فيه ولابد وإذا كان هذا وذلك الخلاء عندهم لا نهاية له فالجسم الماليء له أيضاً لا نهاية له وقد قدمنا البراهين الضرورية أنه لا يجوز وجود جسم لا نهاية له فالخلاء باطل ولو كان ذلك أيضاً لكان ملأ لا خلاء وهذا خلاف قولهم.
فإن قالوا بل ذلك الخلاء هو من غير جنس هذا الخلاء.
يقال لهم فبأي شيء عرفتموه وبما استدللتم عليه وكيف وجب أن تسموه خلاء وهو ليس خلاء وهذا مخلص منه وبالله تعالى التوفيق وهم في هذا سواء ومن قال أن في مكان خارج من العالم ناساً لا يحدون بحد الناس ولا هم كهؤلاء الناس أو من قال أن في خارج الفلك ناراً غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس.
الكلام على من قال أن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد
قال أبو محمد رضي الله عنه : افترق القائلون بأن فاعل العالم أكثر من واحد فرقاً ثم ترجع هذه الفرق إلى فرقتين فإحدى الفرقتين تذهب إلى أن العالم غير مدبريه وهم القائلون بتدبير الكواكب السبعة وأزليتها وهم المجوس فإن المتكلمين ذكروا عنهم أنهم يقولون أن الباري عز ول لما طالت وحدته استوحش فلما استوحش فكر فكرة سوءٍ فتجسمت فاستحالت ظلمة فحدث منها اهرمن وهو إبليس فرام البارىء تعالى إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الخيرات وشرع اهرمن في خلق الشر ولهم في ذلك تخليط كثير.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أمر لا تعرفه المجوس بل قولهم الظاهر هو أن الباري تعالى وهو أوورمن وإبليس وهواهر من وكام وهو الزمان وجام وهو المكان وهو الخلاء أيضاً ونوم وهو الجوهر وهو أيضاً الهيولي وهو أيضاً الطينة والخميرة خمسة لم تزل وإن اهرمن هو فاعل الشرور وإن اورمن فاعل الخير وإن نوم هو المفعول فيه كل ذلك.
وقد أفردنا في نقض هذه المقالة كتاباً في نقض كلام محمد بن زكريا الرازي الطبيب في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي.
والمجوس يعظمون الأنوار والنيران والمياه إلا أنهم يقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يضيفونها إليه ومنهم المزدقية وهم أصحاب مزدق الموبذ وهم القائلون بالمساواة في المكاسب والنساء والخرمية أصحاب بابك وهم فرقة من فرق المزدقية وهم أيضاً سر مذهب الإسماعيلية ومن كان على قول القرامطة وبني عبيد وعنصرهم.
وقد يضاف إلى جملة من قال إن مدبر العالم أكثر من واحد الصابئون وهم يقولون بقدم الأصلين على ما قدمنا من نحو قول المجوس إلا أنهم يقولون بتعظيم الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم ويقربون الذبائح والدخن ولهم صلوات خمس في اليوم والليلة تقرب من صلوات المسلمين ويصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلاتهم الكعبة البيت الحرام ويعظمون مكة والكعبة ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرائب ما يحرم على المسلمين وعلى نحو هذه الطريقة تفعل الهند بالبددة في تصويرها على أسماء الكواكب وتعظيمها وهو كان أصل الأوثان في العرب والدقاقرة في السودان حتى آل الأمر مع طول الزمان إلى عبادتهم إياها وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث وبدلوا شرائعه بما ذكرنا فبعث الله عز وجل إليهم إبراهيم خليله ﷺ بدين الإسلام الذي نحن عليه الآن وتصحيح ما أفسدوه بالحنيفة السمحة التي أتى بها محمد ﷺ من عند الله تعالى فبين لهم كما نص في القرآن بطلان ما أحدثوه من تعظيم الكواكب وعبادتها وعبادة الأوثان فلقي منهم ما نصه الله في كتابه وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء ومنهم اليوم بقايا بحران وهم قليل جداً فهذه فرقة.
ويدخل في هذه الفرقة من وجه ويخرج منها وجه آخر النصارى فأما الوجه الذي يدخلون به فهو قولهم بالتثليث وأن خالق الخلق ثلاثة وأما الوجه الذي يخرجون به فهو أن للصابئين شرائع يسندونها إلى هرمس ويقولون أنه إدريس وإلى قوم آخرين يذكرون أنهم أنبياء كايلون ويقولون أنه نوح عليه السلام واسقلانيوس صاحب الهيكل الموصوف وعاظيمون ويوداسف وغيرهم والنصارى لا يعرفون هؤلاء لكن يقرون بنبوة كل نبي تعرفه من بني إسرائيل وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ولا يعرفون نبوة إسمعيل وصالح وهود وشعيب وينكرون نبوة محمد ﷺ وعلى إخوته الأنبياء عليهم السلام والصابئون لا يقرون بنبوة أحد ممن ذكرنا أصلاً وكذلك المجوس لا يعرفون إلا زرادشت فقط وأما الفرقة الثانية فإنها تذهب إلى أن العالم هو مدبروه لا غيرهم البتة وهم الديصانية والمزقونية والمنانية القائلون بأزلية الطبائع الأربع بسائط غير ممتزجة ثم حدث الامتزاج فحدث العالم بامتزاجها فأما المنانية فإنهم يقولون أن أصلين لم يزالا وهما نور وظلمة وأن النور والظلمة حية وأن كليهما غير متناه إلا من الجهة التي لاقى منها الآخر وأما من جهاته الخمس فغير متناه وأنهما جرمان ثم لهم في وصف امتزاجهما أشياء شبيهة بالخرافات وهم أصحاب ماني.
وقال المتكلمون أن ديصان كان تلميذ ماني وهذا خطأٌ بل كان أقدم من ماني لأن ماني ذكره في كتبه ورد عليه وهما متفقان في كل ما ذكرنا إلا أن الظلمة عند ماني حية.
وقال ديصان هي موات وكان ماني راهباً بحران وأحدث هذا الدين وهو الذي قتله الملك بهرام بن بهرام إذ ناظره بحضرته إذرباذ بن ماركسفند موبذموبذان في مسألة قطع النسل وتعجيل فراغ العالم فقال له الموبذانت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ورجوع كل شكل إلى شكله وأن ذلك حق واجب فقال له ماني واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج فقال له اذرباذ فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم فانقطع ماني فأمر بهرام بقتل ماني فقتل هو وجماعة من أصحابه وهم لا يرون الذبائح ولا إيلام الحيوان ولا يعرفون من الأنبياء عليهم السلام إلا عيسى عليه السلام وحده وهم يقرون بنبوة زرادشت ويقولون بنبوة ماني وقالت المزقونية أيضاً كذلك إلا أنهم قالوا نور وظلمة لم يزالا وثالث أيضاً بينهما لم يزل إلا أن هؤلاء كلهم متفقون على أن هذه الأصول لم تحدث شيئاً هو غيرها لكن حدث من امتزاجها ومن أبعاضها بالاستحالة صور العالم كله فهذه الفرق كلها مطبقة على أن الفاعل أكثر من واحد وإن اختلف في العدد والصفة وكيفية الفعل وإلزامات الشرائع وكلامنا هذا كلام اختصار وإيجاز وقصد إلى استيعاب قواعد الاستدلال والبراهين الضرورية والنتائج الواجبة من المقدمات الأولية الصحيحة وإضراب عن الشغب والتطويل الذي يكتفي بغيره عنه فإنما وكدنا بعون الله تعالى أن نبين بالبراهين الضرورية أن الفاعل واحد لا أكثر البتة ونبين بطلان أن يكون أكثر من واحد كما فعلنا بتأييد الله عز وجل إذ بينا بالبراهين الضرورية أن العالم محدث كان بعد أن لم يكن وإن له مخترعاً مدبراً لم يزل وسقطت خرافاتهم المضافة إلى الأوائل الفاسدة في وصفهم الفاعلين وكيفية أفعالهم إذ لا تكون صفة إلا لموصوف فإذا بطل الموصوف بطلت الصفة التي وصفوه بها.
وأما الاشتغال بأحكامهم الشرعية فلسنا من ذلك في شيء لأنه ليس من الشرائع العلمية شيء يوجبه العقل ولا شيء يمنع منه العقل بل كلها من باب الممكن فإذا قامت البراهين الضرورية على قول الآمر بها ووجوب طاعته وجب قبول كل ما أتى به كائناً ما كان من الأعمال ولو أنه قتل أنفسنا وأبنائنا وآبائنا وأمهاتنا وإذا لم يصح قول الآمر بها ولم يصح وجوب طاعته لا يلتفت إلى ما يأمر به أي شيء كان من الأعمال وكل شريعة كانت على خلاف هذا فهي باطلة فكلامنا مع الفرق التي ذكرنا في إثبات الفاعل الأول واحد لا أكثر وإبطال أن يكون أكثر من واحد وهو حاسم لكل شغب يأتون به بعد ذلك وكاف من التكلف لما قد كفته المرء بيسير من البيان وما تفويقنا إلى بالله تعالى.
ونبدأ بحول الله تعالى وقوته بإيراد عمدة ما موهوا به في إثبات أن الفاعل أكثر من واحد ثم ننقضه بحول الله تعالى وقوته بالبراهين الواضحة ثم نشرع إن شاء الله تعالى في إثبات أنه تعالى واحد بما لا سبيل إلى رده ولا اعتراض فيه كما فعلنا فيما خلا من كتابنا والحمد لله رب العالمين فنقول وبالله تعالى التوفيق.
عمدة ما عول عليه القائلون بأن الفاعل أكثر من واحد استدلالان فاسدان أحدهما هو استدلال المنانية والديصانية والمجوس والصابئة والمزدقية ومن ذهب مذاهبهم وهو أنهم قالوا وجدنا الحكيم لا يفعل الشر ولا يخلق خلقاً ثم يسلط عليه غيره وهذا عيب في المعهود ووجدنا العالم كله ينقسم قسمين كل قسم منهما ضد الآخر كالخير والشر والفضيلة والرذيلة والحياة والموت والصدق والكذب فعلمنا أن الحكيم لا يفعل إلا الخير وما يليق فعله به وعلمنا أن الشرور لها فاعل غيره وهو شر مثلها والاستدلال الثاني هو استدلال من قال بتدبير الكواكب السبعة والاثني عشر برجاً ومن قال بالطبائع الأربع وهو أن قالوا لا يفعل الفاعل أفعالاً مختلفة إلا بأحد وجوه أربعة إما أن يكون ذا قوى مختلفة وإما أن يفعل بآلات مختلفة وإما أن يفعل باستحالة وإما أن يفعل في أشياء مختلفة قالوا فلما بطلت هذه الوجوه كلها إذ لو قلنا إنه يفعل بقوى مختلفة لحكما عليه بأنه مركب فكان يكون من أحد المفعولات ولو قلنا إنه يفعل باستحالة لوجب أن يكون منفعلاً للشيء الذي أحاله فكان يدخل بذلك في جملة المفعولات ولو قلنا أنه يفعل في أشياء مختلفة لوجب أن تكون تلك الأشياء معه وهو لم يزل فتلك الأشياء لم تزل فكان حينئذ لا يكون مخترعاً للعالم ولا فاعلاً له قالوا فعلمنا بذلك أن الفاعلين كثير وإن كل واحد يفعل ما يشاكله
قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه عمدة ما عول عليه من لم يقل بالتوحدي وكلا هذين الاستدلالين خطأ فاحش على ما نبين إن شاء الله تعالى.
فيقال وبالله تعالى التوفيق لمن احتج بما احتجت به المنانية من أنه لا يفعل الحكيم الشر ولا العبث هل يخلو علمكم بأن هذا الشيء شر وعبث من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن تكونوا علمتموه بسمع وردكم وخبر وإما أن تكونوا علمتموه بضرورة العقل.
فإن قلتم أنكم علمتموه من طريق السمع.
قيل لكم هل معنى السمع الآتي غير أن مبتدع الخلق ومرتبة سمي هذ الشيء شراً وأمر باجتنابه وسمي هذا الشيء الآخر خيراً وأمر بإتيانه فلابد من نعم إذ هذا هو معنى اللازم عند كل من قال بالسمع.
فيقال لهم فإنما صار الشر شراً لنهي الواحد الأول عنه وإنما صار الخير خيراً لأمر به فلابد من نعم فإذا كان هذا فقد ثبت أن من لا مبدع ولا مدبر له ولا آمر فوقه لا يكون شيء من فعله شراً إذ السبب في كون الشر شراً هو الإخبار بأنه شر ولا مخبر يلزم طاعته إلا الله تعالى فإن قال فكيف يفعل هو شيئاً قد أخبر أنه شر قيل له ليس يفعل الجسم فيما يشاهد غير الحركة والسكون والحركة كلها جنس واحد في أنها نقلة مكانية وكذلك السكون جنس واحد كله فإنما أمرنا تعالى بفعل بعضها ونهانا عن فعل بعضها ولم يفعل هو الحركة قط على أنه متحرك بها ولا السكون على أنه ساكن به وإنما فعلهما على سبيل الإبداع فتحركنا نحن بحركة نهينا عنها وسكوننا بسكون نهينا عنه هو الشر وغيره أصلاً وكذلك اعتقاد النفس ما نهيت عنه وهذا كله غير موصوف به الباري تعاىل وإن قالوا علمنا ذلك ببداهة العقل قيل لهم وبالله التوفيق أليس العقل قوة من قوى النفس وداخلاً تحت الكيفية على الحقيقة أو تحت الجوهر على قول من لا يحصل فلا بد من نعم فيقال لهم إنما يؤثر العقل ما هو من شكله في باب الكيفيات فيميز بين خطائها وصوابها ويعرف أحوالها ومراتبها وأما فيما هو فوقه وفيما لم يزل العقل معدوم وفي مخترع العقل ومرتبه كما هو فلا تأثير للعقل فيه إذ لو أثر فيه لكان محدثاً على ما قدمنا من أن الأثر من باب المضاف فهي تقتضي مؤثراً فكان يكون الباري تعالى منفعلاً للعقل وكان يكون العقل فاعلاً فيه تعالى وحاكماً عليه جل الله عن ذلك.
وقد بينا في كتابنا هذا أن الباري تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا يجري مجرى خلقه في معنى ولا حكم وذكرنا أيضاً فيه إبطال قول من قال بتسمية الباري حياً أو حكيماً أو قادراً أو غير ذلك من سائر الصفات من جهة الاستدلال حاشى أربعة أسماء فقط وهي الأول الواحد الحق الخالق فقط وهذه الأسماء هي التي لا يستحقها شيءٌ في العالم غيره فلا أول سواه البتة ولا واحد سواه البتة ولا خالق سواه البتة ولا حق سواه البتة على الإطلاق وكل ما دونه تعالى فإنما هو حق بالباري تعالى ولولا الباري تعالى ما كان شيءٌ في العالم حقاً وكل ما دونه تعالى فإنما حق بالإضافة ولولا أن السمع قد ورد بسائر الأسماء التي ورد الخبر الصادق بها ما جاز أن يسمى الله عز وجل بشيءٍ منها ولكن قد بينا في مكانه من هذا الكتاب على أي شيءٍ تسميته بما ورد السمع وإن ذلك تسمية لايراد بها غيره تعالى ولا يرجع منها إلى شيء سواه البتة.
وأيضاً فإن دليلهم فيما سموا به الباري تعالى وأجروه عليه إقناعي شغبي وفيه تشبيه للخالق بخلقه وفي تشبيههم له بخلقه حكم عليه بالحدوث وأن يكون الفاعل مفعولاً وقد قدمنا إبطال ذلك.
ويقال لهم إن الترميم أن يكون فاعل الشر فيما عندنا عابثاً فقررتم بذلك عن أن يكون فاعل العالم واحداً وقد علمنا فيما بينا أن تارك الشيء لا يغيره وهو قادر على تغييره عابث ظالم ولا يخلو فاعل الخيرات عندكم من أن يكون قادراً على تغييره والمنع منه ولم يغيره فقد صار عندكم عابثاً ضرورة فقد وقعتم فيما عنه فررتم ضرورة وإن قلتم أنه غير قادر على تغييره ولا المنع منه فهو بلا شك عاجز ضعيف وهذه صفة سوء عندكم فهلا تركتم القول بأنه أكثر من واحد لهذا الاستدلال فإنه أصح على أصولكم ومقدماتكم وأما نحن فمقدمتكم عندنا فاسدة بالبرهان الذي ذكرناه
قال أبو محمد رضي الله عنه : والمنانية تزعم أن النور كان في العلو إلى ما لا نهاية له وأن الظلمة في السفل إلى ما لا نهاية له وأن كل واحد منها متناه المساحة من الجهة التي لاقى منها الآخر وغير متناه من جهاته الخمس وأن اللذة للنور خاصة لا للظلمة وأن الأذى للظلمة خاصة لا للنور.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فأما بطلان هذا القول في عدم التناهي من الجهات الخمس فيفسد بما أوجبنا به تناهي جسم العالم وأما قولهم بالعلو والسفل فظاهر الفساد لأن السفل لا يكون إلا بالإضافة وكذلك العلو فكل علو فهو سفل لما فوقه حتى تنتهي إلى الصفحة العليا التي لا صفحة فوقها وهم لا يقرون بها فصح ضرورة أن في الظلمة على قولهم علواً وأن في النور سفلاً.
وأما قولهم في اللذة والأذى ففاسد جداً لأن اللذة لا تكون إلا بالإضافة وكذلك الأذى فإن الإنسان لا يلتذ بما يلتذ به الحمار ويتأذى بما لا يتأذى به الأفعى فبطل هوسهم بيقين والحمد لله رب العالمين.
سؤال على المنانية دامغ لقولهم بحول الله وقوته وهو أن يقال لهم ألهذه الأجساد أنفس أم لا فإن قالوا لا قيل لهم فهذه الأجساد لا تخلو على أصولكم من أن يكون في كل جسد منها نور وظلمة أو يكون بعض الأجساد نوراً محضاً وبعضها ظلمة محضة فإن قالوا في كل جسد نور وظلمة قيل لهم فهل يجوز من الظلمة فعل الخير فلا بد من لا لأنه لو فعل الخير لانتقلت إلى النور وكذلك لا يجوز أن يفعل النور شراً لأنه كان يصير ظلمة.
فيقال لهم فإي معنى لدعائكم إلى الخير ونهيكم عن النكاح والقتل وأخبرونا من تدعون إلى كل ذلك فإن كنتم تدعون النور فهو طبعه وهو فاعل له بطبعه قبل أن تدعوه إليه لا يمكنه أن يحول عنه فدعاؤكم له إلى ما يفعله وأمركم له بترك ما لا يفعله عبث من النور داع إلى المحال وهذا خلاف أصلكم وإن كنتم تدعون الظلمة فذلك عبث من النور لها إلى ذلك إذ لا سبيل لها إلى ترك طبعها.
وكذلك يقال لهم سواء بسواء إن قالوا إن من الأجساد ما هو نور محض ومنها ما هو ظلمة محضة وهكذا يسئلون في الأرواح أن أقروا بها ثم يسئلون عمن رأيناه ينكح ويقتل ويظلم ويكذب ثم يتوب عن كل ذلك من القاتل الظالم أهو النور أم الظلمة ومن التائب النور أم الظلمة فأي ذلك قالوا فهو هدم مذهبهم وقد جوزوا الاستحالة فإن قالوا معنى دعائنا إلى ما ندعو إليه من ذلك إنما هو حض للنور على المنع للظلمة من ذلك قيل لهم أكان النور قادراً على منعها قبل دعائكم أم لا فإن قالوا كان قادراً قيل لهم فقد ظلم بتركه إياها تظلم وهو يقدر على منعها قبل دعائكم وإن قلتم لم يذكر حتى نبه قيل لهم فهذا نقص منه وجهل وصفات شر لا تليق بالنور على قولكم وهذا ما لا انفكاك لهم منه وأيضاً فيقال لهم إن الداعي منكم إلى دينه لا يقول لمن دعاه كف غيرك على ظلمه إنما يقول له كف عن ظلمك وارجع عن ضلالك ولقد أحسنت في رجوعك عن الباطل إلى الحق فإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك الظلمة فالأمر بذلك كاذب آمر بالكذب وإن كنتم تأمرون بأن يخاطب بذلك النور فالأمر بذلك أيضاً كاذب آمر بالكذب فإن قالوا فأي معنى لدعائكم إلى الخير وقد سبق علم الله تعالى فيمن يعلمه ومن لا يعلمه قيل لهم جواب بعضنا في هذا هو أن كل من يدعى إلى الخير فممكن وقوعه منه وممكن أيضاً فعل الشر منه ومتوهم كل ذلك منه فوجه دعائنا له معروف وليس علم الله تعالى إجباراً وإنما هو أنه تعالى علم ما يختاره العبد.
وجواب بعضنا في ذلك هو أن فاعل كل ما يبدو في العالم فعل خلق وإبداع فهو الله عز وجل ولا يتعقب عليه فهو خالق دعائنا من ندعوه فإذ ذلك كذلك فلا يجوز سؤال الخالق لما شاء بل فعلت وهذا هو الجواب الذي نختاره ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن ماني والمسيح وزرادشت وأنتم تعظمونهم أفيهم ظلمة أم كانوا أنواراً محضة فمن قولهم ولابد أن فيهم ظلمة لأنهم يتغوطون ويجزعون ويألمون فيقال لهم فما عجز النور الذي فيكم عن مثل ذلك فإن قالوا لقلته قيل لهم فكان يجب أن يأتي من المعجزات ولو بيسير على قدره وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلاً.
ويقال لهم أيضاً إن من العجائب إلزامكم ترك النكاح لتعجلوا قطع النسل فهبكم قدرتم على ذلك فكيف تصنعون في الوحوش والطير وسائر الحيوان البري والحشرات وحيوان المياه والبحار التي تقتل بعضها بعضاً أشد من قتل بعض الناس لبعض وأكثر فكيف السبيل إلى قطع تناسلها وفراغ امتزاجها وهذا ما لا سبيل لكم إليه أصلاً فإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه أبد الأبد وإن كان النور عاجزاً عن قطعها فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه ولم يتركها تردد في الظلمات وأعجب شيء منعهم من القتل وهذا عون منهم على بقاء المزاج وعلى منع الخلاص وتأخره وكان القتل أبلغ شيء في تمام مرادهم وبغيتهم من تعجيل الخلاص واستنقاذ النور وقطع المزاج وهذا تناقض ظاهر منهم لا خفاء به وبالله تعالى نتأيد.
وكل ما قدمنا من البراهين على حدوث العالم وإيجاب النهاية في جرمه وأشخاصه وأزمانه فهو لازم الأصلين النور والظلمة على أصول المنانية وعلى كل من يقول بأن الفاعل أكثر من واحد وأنه لم يزل مع الفاعل غيره لزوم ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأما الاستدلال الثاني الذي عولوا فيه على أقسام من يفعل أفعالاً مختلفة فهو استدلال فاسد أيضاً لأنهم إنما عولوا فيه على الأقسام الموجودة في العالم وقد قدمنا البراهين الضرورية على حدوث العالم وعلى أن محدثه لا يشبهه في شيء من الأشياء فلا سبيل إلى أن يدخل تحت شيء من أقسام العالم لكنه تعالى يفعل الأشياء المختلفة والأشياء المتفقة مختاراً لكل ذلك وحين شاء لا علة لشيء من ذلك إذ قدمنا أن ما حصرته الطبيعة فهو متناه والمتناهي محدث على ما قدمنا من أن يكون ذا قوى أو فاعلاً بآلات أو فاعلاً باستحالة أو فاعلاً في أشياء لأن هذا كله يقتضي أن يكون محدثاً تعالى الله عن ذلك وهو لم يزل فقد وجب ضرورة أن يكون الباري تعالى يفعل ما يشاء من مختلف ومتفق مختاراً دون علة موجبة عليه شيئاص من ذات ولا بقوة هي غيره وبالله تعالى التوفيق.
وكل ما ألزمنا من يقول أن العالم لم يزل من البراهين الضرورية فهو لازم للمنانية والديصانية والمزقونية والقائلين بأزلية الطبائع والهيولي لأن العالم عند هؤلاء ليس هوشيأ غير تلك الأصول التي لم تزل عندهو وإنما حدثت فيهم عندهم الصورة فقط ويدخل أيضاً عليهم القول بتناهي الأصلين لأنهما عندهم جسمان والجسم متناه ضرورة لبرهانين نوردهما إن شاء الله تعالى وذلك أننا نقول لا يخلو كل جرم من الأجرام من أن يكون متحركاً أو ساكناً فإن كان متحركاً فقد علمنا أن المسافة التي لا تتناهى لا تقطع أصلاً لا في زمان متناه ولا في زمان غير متناه ثم لا تخلو حركته من أن تكون إما باستدارة وإما إلى جهة من الجهات ولا ثالث لهذين الوجهين.
فإن كان متحركاً باستدارة وهو غير متناه فهذا محال لأن الخطين الخارجين من الوسط إلى المشرق وإلى العلو غير متناهين إذن فكان يجب أن يكون الجزء الذي في سمت المشرق منه لا يبلغه إلى العلو الذي هو سمت الرأس منه أبداً فقد بطلت الحركة على هذا فهذا إذن متحرك لا متحرك وهذا محال مع مشاهدة العيان لقطع كل جزء من الفلك الكلي جميع مسافته ورجوعه إلى حيث ابتدأ منه في كل أربع وعشرين ساعة.
وإن كان متحركاً إلى جهة من الجهات فهذا أيضاً محال لأن الحركة نقلة من مكان إلى مكان فإذا وجد هذا الجسم مكاناً ينتقل إليه لم يكن فيه قبل ذلك فقد ثبتت النهاية له ضرورة لأن وجوده غير كائن في المكان الذي انتقل إليه موجب لانقطاعه قبله وإن كان لم يزل في المكان الذي انتقل إليه وهكذا فيما بعده من الأمكنة فلم يزل غير منتقل وقد قلتم أنه لم يزل منتقلاً فهو إذن متحرك ولا متحرك وهذا محال.
وإن قلتم ساكن قلنا لكم اقطعوا من هذا الجرم قطعة بالوهم فإذا توهموا ذلك سألناهم متى كان هذا الجرم أعظم أقبل أن تقطع منه هذه القطعة أو بعد إن قطعت فأياً ما قالوا أو إن قالوا أنه مسا ولنفسه قبل أن تقطع منه هذه القطعة فقد أثبتوا النهاية إذ لا تقع الكثرة والقلة والتساوي إلا في ذي نهاية.
وأيضاً فإن المكان والجرم مما يقع تحت العدد كوقوع الزمان تحت العدد فكل ما أدخلناه فيما خلا من تناهي الزمان من طريق العدد فهو لازم في تناهي المكان والجرم من طريق العدد بالمساحة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل ما ألزمناه من يقول بأن الأجسام لم تزل فهو لازم بعينه لمن يقول أن السبعة الكواكب والاثني عشر برجاً لم تزل لأنها أجسام جارية تحت أقسام الفلك وحركته فانظر هنالك ما ألزمناه من حدوث الأجسام وأزمانها فهو لازم لهؤلاء وتركنا ما ألزمناه في حدوث الأجسام في فروع أقوالهم كقولهم في المزاج والخلاص وصفات النور والظلمة إذ إنما قصدنا اجتثاث أصول المذاهب الفاسدة في أن الفاعل أكثر من واحد واعتمدنا البيان في إثبات الواحد فقط فإذ قد ثبت ذلك ببراهين ضرورية بطل كل ما فرعوه من هذا الأصل الفاسد إذ إنما قصدنا ما تدفع إليه الضرورة من الاستيعاب لما لا بد منه بإيجاز بحول الله تعالى وقوته وأما من جعل الفاعل أكثر من واحد إلا أ هم جعلوهم غير العالم كالمجوس والصابئين والمزدقية
ومن قال بالتثليث من النصارى فإنه يدخل عليهم من الدلائل الضرورية بحول الله وقوته ما نحن موردوه إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ما كان أكثر من واحد فهو واقع تحت جنس العدد وما كان واقعاً تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع العدد وما كان نوعاً فهو مركب من جنسه العام له ولغيره ومن فصل خصه ليس في غيره فله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس وله محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع وذو محمول فهو مركب من جنسه وفصله والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لابد لكل واحد منهما من الآخر فأما المركب فإنما يقتضي وجود المركب من وقت تركبه وحينئذ يسمى مركابً لا قبل ذلك وأما الواحد فليس عدداً لما سنبينه إن شاء الله تعالى فقد انقضى الكلام في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.
ومن البرهان على أن فاعل العالم ليس واحداً أن العالم لو كان مخلوقاً لاثنين فصاعداً لم يخل من أن يكونا لم يزالا مشتبهين أو مختلفين فأياً ما قالوا فقد أثبتوا معنى فيهما أو في أحدهما به اشتبها أو به اختلفا فإن نفوا ذلك فقد نفوا الاختلاف والاشتباه معاً ولا يجوز ارتفاعهما معاً أصلاً لأن ذلك محال وموجب للعدم لأن وجود شيئين لا يشتبهان في شيء ولا يختلفان بوجه من الوجوه محال إذ في ذلك عدمهما لأن هذه الصفة معدومة فحاملها معدوم وهم قد أثبتوا وجودها فيلزمهم القول بموجود معدوم في وقت واحد من وجه واحد وهذا محال وهم إذا أثبتوهما موجودين لم يزالا فقد أثبتوا لهما معاني قد اشتبها فيها وهي كونهما مشتبهين في الوجود مشتبهين في الفعل مشتبهين في أن لم يزالا ولا يجوز أن تكون هذه الأشياء ليست غيرهما لأنها صفات عمتهما أعني اشتباههما في المعاني المذكورة فإن كان اشتباههما هو هما فهما شيءٌ واحد وكذلك أيضاً يلزم في كونهما مختلفين في أن كل واحد منهما غير صاحبه فإن كان هذا الاختلاف فيهما هو غيرهما فههنا ثالث وهكذا أيضاً أبداً.
وسنذكر ما يدخل في هذا إن شاء الله تعالى.
وإن كان التغاير هو هما والاشتباه هو هما فالتغاير هو الاشتباه وهذا هو عين المحال لأنه لابد من معنى موجود في المتغاير ليس اشتباهاً لأنه لا يجوز أن يكون الشيئآن مشتبهين بالتغاير فإذا قد ثبت ما ذكرنا ولم يكن بد من اشتباه أو اختلاف هو معنى غيرهما فقد ثبت ثالث وإذا ثبت ثالث لزم فيهم ثلاثتهم مثل ما لزم في الاثنين من السؤال وهكذا أبداً وهذا يوجب ضرورة أن كل واحد منهما أو أحدهما مركب من ذاته ومن المعنى الذي بان به عن الآخر أو به أشبه الآخر فإن أثبتوا ذلك لهما جميعاً وكلاهما مركب والمركب محدث فهما مخلوقان لغيرهما ولابد وإن أثبتوا ذلك لأحدهما فقط كان مركباً وكان الآخر هو الفاعل له فقد عاد الأمر إلى واحد غير مركب ولابد ضرورة.
ويوجب أيضاً إن تمادوا على ما ألزمناهم من وجود معنى به بأن كل من الآخر وجود قدماء لم يزالوا ووجود فاعلين آلهة أكثر من المألوهين وهذا محال لأنه لا سبيل إلى وجود أعداد قائمة ظاهرة في وقت واحد لا نهاية لها لأنه إن كان لها عدد فقد حصرها ذلك العدد على ما قدمنا وكل ما حصر فهو متناه وقد أوجبنا عليهم القول بأنها غير متناهية فلزمهم القول بأعداد متناهية لا متناهية وهذا من أعظم المحال فإن لم يكن لها عدد فليست موجودة لأن كل موجود فله عدد وكل ذي عدد متناه كما قدمنا فإن قال قائل فبأي شيء انفصل الخالق عن الخلق وبأي شيء انفصل الخلق بعضه من بعض وأراد أن يلزمنا في ذلك مثل الذي ألزمناه في الأدلة المتقدمة قيل له وبالله التوفيق الخلق كله حامل ومحمول فكل حامل فهو منفصل من خالقه ومن غيره من الحاملين بمحموله من فصوله وأنواعه وجنسه وخواصه وإعراضه في مكانه وسائر كيفياته وكل محمول فهو منفصل من خالقه ومن غيره من المحمولات بحامله وبما هو عليه مما باين فيه سائر المحمولات من نوعه وجنسه وفصله والباري تعالى غير موصوف بشيءٍ من ذلك كله وبالله تعالى التوفيق
وقد ذكرنا في باب الكلام في بقاء الجنة والنار وبقاء الأجسام فيها بلا نهاية وفيما خلا من كتابنا الانفصال ممن أراد أن يلزمنا هنالك ما ألزمناهم نحن هنالك من الأعداد التي لا تتناهى إلا أننا نذكر هنا من ذلك إن شاء الله تعالى طرفاً كافياً وبالله تعالى التوفيق وبه نستعين فنقول إن الفرق بين المسئلتين المذكورتين أننا لم نوجب نحن في الجنة والنار وجود أعداد لا تتناهى بل قولنا إن أعدادهم متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن مساحة النار والجنة محدودة متناهية لا تزيد ولا تنقص وإن كل ما ظهر من حركاتهم ومددهم فيها فمحصورة متناهية وإنما نفينا عنها النهاية بالقوة بمعنى أن الباري تعالى محدث لهم في كلتا الدارين بقاء ومدداً ونعيماً وعذاباً أبداً لا إلى غاية وليس ما ظهر من ذلك بعضاً لما لم يظهر فليلزمنا أن يكون اسم كل ما يقع على الموجود والمعدوم لأن الموجود لا يكون بعضاً للمعدوم وإنما هو بعض لموجود مثه هذا يعلم بالحس لأن الأسماء إنما تقع على معانيها ومعنى الوجود إنما هو ما كان قائماً في وقت من الأوقات ماض من الأوقات أو حال منها فما لم يكن هكذا فليس موجوداً وأبعاض الموجودات كلها موجودة فكلها موجود وكلها كان موجوداً فليس الموجود بعضاً للمعدوم
والعدم هو إبطال الوجود ونفيه ولا سبيل إلى أن تكون أبعاض الشيء التي يلزمها اسمه الذي لا اسم لها سواه يبطل بعضها بعضاً وقد يمكن أن شغب مشغب في هذا المكان فيقول قد وجدنا أبعاضاً لا يقع عليها اسم كلها كاليد والرجل والرأس وسائر الأعضاء ليس شيء منها يسمى إنساناً فإذا اجتمعت وقع عليها اسم إنسان
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا شغب لأننا إنما تكلمنا على الأبعاض المتساوية التي كل بعض منها يقع عليه اسم الكل كالماء الذي كل بعض منه ماء وكله ماء وليس الجزء من هذا الباب وكل بعض من أبعاض الموجود فإنه يقع عليه اسم موجود وقد يمكن أن يشغب أيضاً مشغب في قولنا إن الأبعاض لا تتنافى فيقول إن الخضرة لا تنافي البياض وكلاهما بعض للون الكلي فهذا أيضاً ليس مما أردناه في شيء لأن قولنا موجود ليس جنساً فيقع على أنواع المتضادات وإنما هو إخبار عن وجودنا أشياء قد تساوي كلها في وجودنا إياها حقاً فهو يعم بعضها كما يعم كلها وأيضاً فإن الخضرة لا تضاد البياض في أن هذا لون بل يجتمعان في هذا المعنى اجتماعاً واحداً لا يختلفان فيه وإنما اختلفا بمعنى آخر وكذلك لا يخالف موجود موجوداً في أنه موجود والموجود يخالف المعدوم في هذا المعنى نفسه وليس بعضاً للمعدوم والمعدوم ليس شيئاً ولا له معنى حتى يوجد فإذا وجد كان حينئذ شيئاً موجوداً وقد تخلصنا أيضاً في باب التجزىء وكلامنا فيه في هذا الديون من مثل هذا الإلزام هنالك
الكلام على النصارى
قال أبو محمد رضي الله عنه : النصارى وإن كانوا أهل كتاب ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم الصلام فإن جماهيرهم وفرقهم لا يقرون بالتوحيد مجرداً بل يقولون بالتثليث فهذا مكان الكلام عليهم والمجوس أيضاً وإن كانوا أهل كتاب لا يقرون ببعض الأنبياء ولكنا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا فالنصارى أحق بالإدخال ههنا لأنهم يقولون بثلاثة لم يزالوا.
والنصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيساً بالإسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات والأرض وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس هذا.
ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي وكان بطريركاً بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه وكان يقول لا أدري ما الكلمة ولا روح القدس.
وكان منهم أصحاب مقدونيوس وكان بطريركاً في القسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وكان هذا الملك أريوسياً كاتبه وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق إنسان نبي رسول الله كسائر الأنبياء عليهم السلام وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله عز وجل وأن روح القدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذلك.
ومنهم البربرانية وهم يقولون أن عيسى وأمه إلهان من دون الله عز وجل وهذه الفرقة قد بادت وعمدتهم اليوم ثلاث فرق فأعظمها )فرق الملكانية( وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة للنصارى حيث كانوا حاشي الحبشة والنوبة ومذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية والأندلس وجمهور الشام وقولهم أن الله تعالى عبارة عن قولهم ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس كلها لم تزل وأن عيسى عليه السلام إله تام كله وإنسان تام كله ليس أحدهما غير الآخر وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل وأن الإله منه لم ينله شيءٌ من ذلك وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معاً شيءٌ واحد ابن الله تعالى عن كفرهم وقالت النسطورية مثل ذلك سواءً بسواءٍ إلا أنهم قالوا إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان وأن الله تعالى لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان وهم منسوبون إلى نسطور وكان بطريركاً بالقسطنطينية وقالت اليعقوبية إن المسيح هو الله تعالى نفسه وأن الله تعالى عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر والفلك بلا مدبر ثم قام ورجع كما كان وأن الله تعالى عاد محدثاً وأن المحدث عاد قديماً وأنه تعالى هو كان في بطن مريم محمولاً به وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة وملوك الأمتين المذكورتين
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وإذ يقول تعالى حاكياً عنهم أن الله ثالث ثلاثة وإذ يقول تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج السخيف وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان فأما اليعقوبية فإنهم ينسبون إلى يعقوب البرذعاني وكان راهباً بالقسطنطينية وهم فرقة نافرت العقل والحس منافرة وحشة تامة لأن الاستحالة نقلة والنقلة والاستحالة لا يوصف بهما الأول الذي لم يزل تعالى عن ذلك علواً كبيراً ولو كان كذلك لكان مخلوقاً والمحدث يقتضي محدثاً خالباً له ويكفي من بطلان هذا القول دخوله في باب المحال والممتنع الذي قد أوجب العقل والحس بطلانه وليس في باب المحال أعظم من أن يكون الذي لم يزل يعود محدثاً لم يكن ثم كان وأن يصير غير المؤلف مؤلفاً ويلزم هؤلاء القوم أن يعرفونا من دبر السموات والأرض وأدار الفلك هذه الثلاثة الأيام التي كان فيها ميتاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثم يقال للقائلين بأن الباري تعالى ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس أخبرونا إذ هذه الأشياء لم تزل كلها وأنها مع ذلك شيء واحد إن كان ذلك كما ذكرتم فبأي معنى استحق أن يكون أحدها يسمى أباً والثاني ابناً وأنتم تقولون أن الثلاثة واحد وأن كل واحد منها هو الآخر فالأب هو الابن والابن هو الأب وهذا هو عين التخليط وإ جيلهم يبطل هذا بقولهم فيه سأقعد عن يمين أبي وبقولهم فيه أن القيامة لا يعلمها إلا الأب وحده وأن الابن لا يعلمها فهذا يوجب أن الابن ليس هو الأب وإن كانت الثلاثة متغايرة وهم لا يقولون بهذا فليلزمهم أن يكون في الابن معنى من الضعف أو من الحدوث أو من النقص به وجب أن ينحط عن درجة الأب والنقص ليس من صفة الذي لم يزل مع ما يدخل على من قال بهذا من وجوب أن تكون محدثة لحصر العدد وجرى طبيعة النقص والزيادة فيها على حسب ما قدمناه في حدوث العالم.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد لفق بعضهم أشياء قالوا أنها لا معنى لها إلا أننا ننبه عليها ليتبين هجنة قولهم وضعفه بحول الله تعالى وقوته وذلك أن بعضهم قال لما وجب أن يكون الباري تعالى حياً عالماً وجب أن تكون له حياة وعلم فحياته هي التي تسمى روح القدس وعلمه هو الذي يسمى الابن
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا من أغث ما يكون من الاحتجاج لأننا قد قدمنا أن الباري تعالى لا يوصف بشيء من هذا من طريق الاستدلال لكن من طريق السمع خاصة ولا يصح لهم دليل لا من إنجيلهم ولا من غيره من الكتب أن العلم يسمى ابناً ولا في كتبهم أن علم الله هو ابنه وقد ادعى بعضهم أن هذا تقتضيه اللغة اللاتينية من أن علم العالم يقال فيه أنه ابنه
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا باطل ظاهر الكذب لأن الإنجيل الذي كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس لا يختلف أحد من الناس في أنه إنما نقل عن اللغة العبرانية إلى السريانية وغيرها فعبر عن تلك الألفاظ العبرانية وبها كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس وليس في اللغة العبرانية شيء مما ذكروا وادعى وإن كانوا ممن يقولون بتسمية الباري عز وجل من طريق الاستدلال فقد أسقطوا صفة القدرة إذ ليس الاستدلال على كونه عالماً بأصح ولا أولى من الاستدلال على كونه قادراً لاسيما مع قول بولس وهو عندهم فوق الأنبياء أن المسيح قدرة الله وعلمه تعالى قال هذا النص في رسالته الأولى إلى أهل قريته فليضيفوا إلى هذه الثلاث صفة رابعة وهي القدرة وأخرى وهي السمع وأخرى وهي البصر وأخرى وهي الكلام وأخرى وهيالعقل وأخرى وهي الحكمة وأخرى وهي الجود.
فإن قالوا القدرة هي الحياة قيل لهم والعلم هو الحياة.
فإن قالوا ليس العلم الحياة لأنه قد يكون حي ليس عالماً كالمجنون قيل لهم قد يكون حيٌّ ليس قادراً كالمغشي عليه ونحو ذلك فالقدرة ليست الحياة وأيضاً فإن كان الابن هو العلم وروح القدس هو الحياة فما بال إقحامهم المسيح عليه السلام في أنه الابن وروح القدس أترى المسيح هو حياة الله وعلمه وما بال قول بعضهم أن مريم ولدت ابن الله أتراها ولدت علم الله وحياته إلا كحظ غيره ولا فرق وهذا لا مخلص منه وبالله التوفيق وقال بعضهم لما وجدنا الأشياء قسمين حياً ولا حياً وجب أن يكون الباري عز وجل حياً ولما وجدنا الحي ينقسم قسمين ناطقاً وغير ناطق وجب أن يكون الباري تعالى ناطقاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الكلام في غاية الكلال لوجهين أحدهما أن هذه القسمة قسمة طبيعية واقعة تحت جنس لأنه إذا كان تسمية الباري تعالى حياً إنما هو من هذا الوجه فهو إذاً يقع مع سائر الأحياء تحت جنس الحي ويحد بحد الحي وبحد الناطق وإذا كان كذلك فهو مركب من جنسه وفضله وكل ما كان محدوداً فهو متناه وكل ما كان مركباً فهو محدث والوجه الثاني أن هذه القسمة التي قسموا منقوضة مموهة لأنه يلزمهم أن يبدؤا بأول القسمة الذي هو أقرب إلى الطبيعة فيقولوا وجدنا الأشياء جوهراً ولا جوهراً ثم يدخلوه تحت أي القسمين شاؤا وهم إنما يدخلونه تحت الجوهر فإذا أدخلوه تحت الجوهر فقد وجب ضرورة أن يحدوه بحد الجوهر فإذا كان ذلك وجب أن يكون مدثاً إذ كل محدود محدث كما قد بيناه ثم نعترضهم في قسمتهم من قبل أن يبلغوا إلى الحي الناطق وعلى بعض القسم قبله يقع الثاني وهذه كلها مخلوقات فلو كان الباري تعالى بعضها أو كانت هذه الصفات واقعة عليه من طريق وجوب وقوعها علينا لكان مخلوقاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقال بعضهم لما كانت الثلاثة تجمع الزوج والفرد وهذا أكمل الأعداد وجب أن يكون الباري تعالى كذلك لأنه غاية الكمال
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا من أغث الكلام لوجوه ضرورية أحدها أن الباري تعالى لا يوصف بكمال ولا تمام لأن الكمال والتمام من باب الإضافة إن التمام والكمال لا يقعان البتة إلا فيما فيه النقص لأن معناهما إنما هو إضافة شيءٍ إلى شيءٍ به كملت صفاته ولولاه لكان ناقصاً لا معنى للتمام والكمال إلا هذا فقط والوجه الثاني أن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة لأنه يجمع إما زوجاً وزوجاً وفرداً وإما أكثر من ذلك وبالضرورة يعلم أن ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجاً وفرداً فقط فيلزمه أن يقول إن ربه أعداد لا تتناهى أو أنه أكثر الأعداد وهذا أيضاً ممتنع محال لو قاله وكفى فساداً بقول يؤدي إلى المحال والوجه الثالث أن هذا الاستدلال مضاد لقولهم أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد هي غير الثلاثة التي هي عندكم واحد بلا شك لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها وهي جامعة له ولغيره بل ولا هي بعض فالكل ليس هو الجزء والجزء ليس هو الكل والفرد جزء للثلاثة والثلاثة كل للفرد وللزوج معه فالفرد غير الثلاثة والثلاثة غير الفرد والعدد مركب من واحد يراد به الفرد وواحد كذلك وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به فالعدد ليس الواحد والواحد ليس هو العدد لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد وهكذا كل مركب من أجزاء فذلك المركب ليس هو جزأ من أجزائه كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم المعنى المعبر عنه فالكلام ليس هو الحرف والحرف ليس هو الكلام والوجه الرابع أن هذا المعنى السخيف الذي قصده هذا الجاهل نجده في الإثنين لأن الإثنين عدد يجمع فرداً وفرداً وهو زوج مع ذلك فقد وجدنا في الإثنين الزوج والفرد فيلزمه أن يجعل ربه اثنين والوجه الخامس أن كل عدد فهو محدث وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضاً محدث على ما قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا والمعدود لم يوجد قط إلا ذا عدد والعدد لم يوجد قط إلا في المعدود والواحد ليس عدداً على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى وبه يتم الكلام في التوحيد بحول الله وقوته
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهم يقولون أن الإله اتحد مع الإنسان بمعنى أنهما صارا شيئاً واحداً فقالت اليعقوبية كاتحاد الماء يلقي في الخمر فيصيران شيئاً واحداً وقالت النسطورية كاتحاد الماء يلقى في الزيت فكل واحد منهما باق بحسبه وقالت الملكية كاتحاد النار في
قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل هذا في غاية الفساد أول ذلك أنها دعاو ولا يعجز عن مثلها متحامق وليس في إنجيلهم شيء من هذه الأقسام والثاني أنها كلها محال لأن قول الملكية في تمثيلهم بما مثلوا إنما هو عرض في جوهر ولا يتوهم غير ذلك فالإله على قولهم عرض والإنسان جوهر وهذا في غاية الفساد وقول اليعقوبية أفسد لأننا نقول لهم إن كان استحال الإله إنساناً فالمسيح إنسان وليس إلهاً وإن كان الإنسان استحال إلهاً فالمسيح إله وليس بإنسان وإن كان كلاهما لم يستحل واحد منهما إلى الآخر فهذا هو قول النسطورية لا قولهم وإن كان كل واحد منهما استحال إلى الآخر فقد صار الإله إنساناً لا إلهاً وصار الإنسان إلهاً لا إنساناً وحصلوا بعد هذا الحمق على قول النسطورية ولا مزيد وإن كانا استحالا إلى غير الإنسان والإله فالمسيح لا إله ولا إنسان وكل هذا خلاف قولهم.
وأما النسطورية فلم يزيد وأعلى أن قالوا إن الإنسان إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله فالمسحي وغيره من الناس سواء.
وأيضاً فإن ما قالوه محال لأن الذي لم يزل لا يستحيل إلى طبيعة الإنسان المحدث ولا يستحيل المحدث إلهاً لم يزل وهذا محال بذاته ممتنع لا يتشكك وكذلك الإنسان لا يجاور الإله مجاورة مكانية لأنه محال أيضاً وكذا لا يتوهم ولا يمكن أن يكون الإله عرضاً يحمله جوهر الإنسان ولا يمكن أيضاً أن يكون الإنسان عرضاً يحمله الإله في ذاته كما تدعي الملكية ي تشبيه ذلك الاتحاد بضوء الشمس في البيت وبالنار في الحديد المحماة فقد صح أن كل ما قالوا محال وباطل وسخف لا يقبله إلا مخذول ولا يمكنهم ادعاء وجود شيء من هذا في كتب الأنبياء أصلاً وأيضاً فإنهم يضيفون إلى ذكرهم الأب والابن وروح القدس شيئاً رابعاً وهو الكلمة وهي المتحدة عندهم بالإنسان الملتحمة به في مشيمة مريم عليها السلام فإن أمانتهم التي اتفقوا عليها كلهم هي كما نورده نصاً نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع الآه حق من الآه من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وولد من مريم البتول وألم وصلب أيام قيطوش بلاطش ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي هو مشتق من أبيه روح محبة وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قدسية سليحية جاثليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين وقال في أول إنجيل يوحنا التلميذ في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله كان الكلمة
قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذه أقوال إذا تأملها ذو عقل علم أنها وساوس أو جنون ملقى من الشيطان لا يمتحن به إلا مخذول مشهود له ببراءة الله تعالى منه.
ويقال لهم الكلمة هي أو الأب الابن أو روح القدس أم شيء رابع.
فإن قالوا شيء رابع فقد خرجوا عن التثليث إلى التربيع.
وإن قالوا إنها أحد الثلاثة سئلوا عن الدليل على ذلك إذ الدعوى لا يعجز عنها أحد.
ثم يقال لهم الأب هو الابن أم هو غيره.
فإن قالوا هو غيره.
سئلوا أيضاً من الملتحم في مشيمة مريم المتحد مع طبيعة المسيح الأب أم الابن.
فإن قالوا الابن.
فقد بطل أن يكون هو الأب وخالفوا يوحنا إذ يقول في أول إنجيله إن الكلمة هي الله فإذا كانت هي الله والكلمة التحمت في مشيمة مريم فالله تعالى هو نفسه التحم في مشيمة مريم وفي أمانتهم أن الابن هو الذي التحم في مشيمة مريم وهذه وساوس لا نظير لها.
ويقال لهم أيضاً هل معنى التحم إلا صار لحماً وهذا غير قول النسطورية والملكية.
وإن قالوا بل الأب.
فقد بطل أن يكون هو الابن وخالفوا يوحنا والأمانة.
وإن قالوا هو الأب وهو الابن.
تركوا قولهم أن الابن يقعد عن يمين أبيه وأن الأب يعلم وقت القايمة والابن لا يعلمها وقولهم في إنجيل يوحنا الأب فوض الأمر إلى ابنه والأب أكبر من الابن فهذه نصوص على أن الابن غير الأب إذ لا يقعد المرء عن يمين نفسه ولا يفوض الأمر إلى نفسه ولا يجهل ما يعلم وهذا كله يبطل قولهم أن الابن هو العلم والقدرة أو غير ذلك لأن هذه الصفات لا تقعد عن يمين حاملها ولا يفوض إليها شيء.
وإن قالوا لا هو هو وإلا هو غيره دخل عليهم من الجنون ما يدخل على من ادعى أن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره.
وإن قالوا الأب هو الابن وهو غيره لم يكن ذلك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عن المعقول ولزمهم أن الابن ابن لنفسه وأب لنفسه وأن الأب أب لنفسه وابن لنفسه وليس في الحمق والهوس أكثر من هذا ولا متعلق لهم بشيء مما في الزبور ولا في كتاب شعياء وغيره لأنه ليس في شيء منها أن المراد بما ذكر هنالك هو عيسى بن مريم عليهما السلام وقد قال لوقا في آخر إنجيله أنه كان نبياً مقتدراً عبداً لله وهذا كله بين عظيم مناقضتهم وما توفيقنا إلا بالله.
فإن تعلقوا بما في الإنجيل من ذكر المسيح أنه ابن الله.
قيل لهم في الإنجيل أيضاً أبي وأبيكم الله إلهي وإلهكم وأمرهم إذا دعوا أن يقولوا يا أبانا السماوي فله من ذلك كالذي لهم ولا فرق.
فإن قالوا أنه أتى بالعجائب.
قيل لهم والحواريون أيضاً عندكم أتوا بالعجائب وموسى قبله والياس وسائر الأنبياء قد أتوا بمثل ما أتى به من إحياء الموتى وغيره فأي فرق بينه وبينهم على أنه ليس في شيء من الإنجيل نص الأمانة التي لا يصح الإيمان عندهم إلا بها من ذكر أب وابن وروح القدس معاً وسائر ما فيها وإنما هي تقليد لأسلافهم من الأساقفة ونعوذ بالله من الخذلان.
وأمانتهم التي ذكروا أنهم متفقون عليها موجبة أن الابن هو الذي نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وقتل وصلب.
فيقال لهم هذا الابن الذي في أمانتكم أنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً أخبرونا قبل أن ينزل من السماء أمخلوقاً كان أو غير مخلوق بل كان لم يزل.
فإن قالوا كان مخلوقاً.
فقد تركوا قولهم لاسيما أن قالوا ليس هو غير الأب بل يصير الأب وروح القدس مخلوقين.
وإن قالوا كان قبل أن ينزل غير مخلوق.
قيل لهم فقد صار مخلوقاً إنساناً وهذا محال وتناقض.
وأيضاً فقد لزم من هذا أن الابن مخلوق وروح القدس مخلوق إذ صار إنساناً.
ثم يقال لهم أخبرونا عن هذا الابن الذي أخبرتم عنه بما لم تخبروا عن الأب والذي يقعد عن يمين الرب ثم ينزل لفصل القضاء أله علم وحياة أم لا علم له ولا حياة.
فإن قالوا لا علم له ولا حياة.
فارقوا إجماعهم ولزمهم ضرورة أن قالوا مع ذلك أنه غير الأب الذي له حياة وعلم إذ ما لا علم له هو بلا شك غير الذي له علم والذي لا حياة له هو بلا شك غير الذي له حياة وهذا ترك منهم للنصرانية.
وإن قالوا بل له علم وحياة لزمهم أن الأزليين خمسة الأب وعلمه وحياته والابن الذي هو علم الأب وعلمه وحياته.
وهكذا يسألون أيضاً عن روح القدس ولا فرق وقد قال يوحنا في أول إنجيله فمن تقبله منهم وآمن به أعطاهم سلطاناً أن يكونوا أولاد الله أولئك المؤمنون باسمه الذين لم يتوالدوا من دم ولا شهوة اللحم ولاباه رجل ولكن توالدوا من الله فصح بهذا أن لكل نصراني من ولادة الله والأزلية والكون من جوهر الأب كالذي لمسيح سواءً بسواء ولا فرق وإلا فقد كذب يوحنا اللعين قائل هذا الكفر وأهل الكذب هو وهذا ما لا انفكاك منه وهذا يلزم الأشعرية الذين يقولون بأن علم الله تعالى وقدرته هما غير الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً ومما يعترض به علينا اليهود والناصرى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين إن قال قائلهم قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه السلام قد صلب وقتل وجاء القرآن بأنه ﷺ لم يقتل ولم يصلب فقولوا لنا كيف كان هذا فإن جوزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.
فإن قلتم اشتبه عليهم فلم يتعمد وانقل الباطل.
فقد جوزتم التلبيس على الكواف فلعل كافتكم أيضاً ملتبس عليها فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم وقولوا لنا كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله.
فإن قلتم كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه.
وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به وفي هذا ما فيه.
وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه.
فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف وفي هذا إبطال قول كافتكم بل إبطال جميع الشرائع بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ووقعتم
وفي هذا ما قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بياناً لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.
فنقول وبالله التوفيق إن صلب المسيح عليه السلام لم يقله قط كافة ولا صح بالخبر قط لأن الكافة التي يلزم قبول نقلها هي إما الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم وعدم التقائهم وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعداً وإما أن يكون عدد كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما تواطؤا عليه فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه فما نقله أحد هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ويضطر خبرها سامعها إلى تصديقه وسواء كانوا عدولاً أو فساقاً أو كفاراً ولا يقطع على صحته إلا ببرهان فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه السلام فوجدناه كواف عظيمةً صادقة بلا شك في نقلها جيلاً بعد جيل إلى الذين ادعوا مشاهدة صلبه فإن هنالك تبدلت الصفة ورجعت إلى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه نهاراً خوف العامة وإنما أخذوه ليلاً عند افتراق الناس عن الفصح وأنه لم يبق في الخشبة إلا ست ساعات من النهار وأ ه أنزل إثر ذلك وأنه لم يصلب إلا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ليس موضعاً معروفاً بصلب من يصلب ولا موقوفاً لذلك وأنه بعد هذا كله رسي الشرط على أن يقولوا أن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه بل كانت واقفة على بعد تنظر هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولاً بكافة بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم غيباً عن ذلك المشهد هاربين بأرواحهم مستترين وإن شمعون الصفا غرر ودخل دار قيقان الاهن أيضاً بضوء النهار فقال له أنت من أصحابه فانتفى وجحد وخرج هارباً عن الدار فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النفس عليه على أن نظن به الصدق فكيف أن ينقله كافةٌ وهذا معنى قوله تعالى ولكن شبه لهم إنما عنى تعالى أن أولئك الفساق الذين دبروا هذا الباطل وتواطؤا عليه هم شبهوا على من قلدهم فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك عالمون أنهم كذبة ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت النبوات كلها إذ لعلها شبهت على الحواس السليمة ولو أمكن ذلك لبطلت الحقائق كلها ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس وفيمن يجالس وفي حيث هو فعله نائم أو مشبه على حواسه وفي هذا خروج إلى السخف وقول السوفسطائية والحماقة
وقد شاهدنا نحن مثل ذلك وذلك أننا اندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشاً فيه شخص مكفن وقد شاهد غسله شيخان جليلان حكمان من حكام المسلمين ومن عدول القضاة في بيت وخارج البيت أبي رحمه الله وجماعة عظماء البلد ثم صلينا في ألوف من الناس عليه ثم لم يلبث إلا شهوراً نحو السبعة حتى ظهر حياً وبويع بعد ذلك بالخلافة ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط وحتى لو صح أنها كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات فلو صح أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبه لهم حاكماً على حواسهم ومحيلاً لها كخروج النبي صلا الله عليه وسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.
وأما ما لم يأت خبر عن الله عز وجل بأنه شبه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع على المحال وإحالة طبيعة وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عز وجل فيلزم قبوله.
وأما التشيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ولا يجوز على الجماعة كلها.
وقوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم إنما هو إخبار عن الذين يقولون تقليداً لأسلافهم من النصارى واليهود أنه عليه السلام قتل وصلب فهؤلاء شبه لهم القول أي أدخلوا في شبهة منه وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المدعون أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ثم أنزلوه ودفنوه تمويهاً على العامة التي شبه الخبر لها.
ثم نقول لليهود والنصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته بيان ما شنعوه في هذه المسئلة أن كوافكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقاً ووطء إماء وهو حرام عندكم وعن هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام عن عبادة غيره وعن الأمر بذلك وعن كل معصية ورذيلة فإذا جوزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى عليه السلام وسائر أنبيائهم كان كل ما أمروهم به من جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما السلام وسائر أنبيائهم لاسيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.
وأما نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة ولكن نقل آحاد كذبوا فيه وأما خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره لا أنه خار بطبعه قط وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من إثر جبريل عليه السلام والذي يعتمد عليه فهو قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
وأما قوله كيف كان الفرض قبل ورود النص ببطلان صلبه الإقرار بصلبه أم الإنكار له فهذه قسمة فاسدة شغبية قد حذر منها الأوائل كثيراً ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام وذلك أنهم أوجبوا فرضاً ثم قسموه على قسمين إما فرض بإنكار وإما فرض بإقرار وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه وهذا لا يرضى به لنفسه إلا جاهل أو سخيف مغالط غابن لنفسه غاش لمن اغتر به وإنما الحقيقة ههنا أن يقول هل يلزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك فهذه هي القسمة الصحيحة والسؤال الصحيح وحق الجواب أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك لا بإقرار ولا بإنكار وإنما كان خبراً لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ممكن صدق قائله فقد قتل أنبياء كثيرة وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك وهو بمنزلة شيء مغيب في دار فيقال لهذا المعرض بهذا السؤال الفاسد ما الفرض على الناس فيما في هذه الدار الإقرار بأن فيها رجلاً أم الإنكار لذلك فهذا كله لايلزم منه شيء.
ولم ينزل الله عز وجل كتاباً قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح ﷺ ولا بإنكاره وإنما ألزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بصلبه.
فإن قالوا قد نقل الحواريون صلبه وهم أنبياء وعدول.
قيل لهم وبالله التوفيق الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عليه السلام هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى مفتر عليه كافر به فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقاً أو كانوا كافة فما كان يوحنا ومتى وبولس إلا كفاراً كاذبين وما كانوا قط من صالحي الحواريين وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذباً فالكاذب لا يقوم بنقله حجة فبطل التمويه المتقدم والحمد لله رب العالمين.
وقال متكلموهم إن الاتحاد المذكور إنما هو تقليد للإنجيل ولم يكن نقلة ولا حركة ولا فارق الباري ولا العلم ما كانا عليه ولا انتقلا فيقال لهم هذا إبطال للاتحاد وقول منكم بأن حظه وحظ غيره في ذلك سواء وخلاف لأمانتكم التي فيها أن الابن نزل من السماء وتجسد وولد وقتل ودفن.
وقالت طائفة منهم المسيح حجاب الله خاطبه الله تعالى منه فيقال لهم أنتم تقولون أن المسيح رب معبود وإله خالق والحجاب عندكم مخلوق والمسيح عند بعضكم طبيعة واحدة وعند بعضكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين معاً اللاهوتية والناسوتية أم تبعدون إحداهما دون الأخرى.
فإن قالوا نعبدهما جميعاً أقروا بأنهم يعبدون إنساناً وحجاباً مخلوقاً مع الله تعالى وهذا أقبح ما يكون من الشرك.
وإن قالوا بل نعبد اللاهوت وحده قيل لهم فإنما تعبدون نصف المسيح لا كله لأنه طبيعتان ولستم تعبدون إلا أحدهما دون الأخرى.
وكذلك يسألون عن موت المسيح وصلبه فمن قول الملكية والنسطورية إن الموت والصلب إنما وقع على الناسوت خاصة.
فيقال لهم فأنتم في قولكم مات المسيح وصلب كاذبون لأنه إنما مات نصفه وصلب نصفه فقط لأن اسم المسيح عندكم واقع على اللاهوت والناسوت كليهما معاً لا على أحدهما دون الآخر وكل من قال من اليعقوبية الإنسان والإله شيء هو الإنسان فقد عبد إنساناً وربه إنسان مخلوق.
وكل من قال منهم الإله غير الإنسان فقد أبطل الاتحاد.
وهكذا يقال لهم في الحجاب مع الله تعالى سواء بسواء ويلزمهم جميعهم إذ قد أقروا بعبادة المسيح هكذا جملة وأنه رب خالق وفي الإنجيل أنه جاع وأكل الخبز والحيتان وعرق وضرب أن ربهم أكل وجاع وأن الإله ضرب ولطم وصلب وكفى بهذا رذالة وفحش قول وبيان بطلان.
ويقال للملكية واليعقوبية القائلين بأن المسيح ابن الله وابن مريم قد أقررتم أن المسيح إنسان وإله فالإنسان هو ابن الله وابن مريم والإله هو ابن مريم وهذه غاية الشناعة.
فإن قالوا ما تقولون فيما في كتابكم وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطىء الوادي.
قلنا التكليم فعل الله تعالى مخلوق والحجاب إنما هو للتكليم والتكليم هو اذي حدث في الشجرة وشاطىء الوادي وجانب الطور وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحول جبريل عليه السلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن قوة يتحولون بها فيما شاؤا من الصور وكلهم مخلوق تعاقب عليهم الإعراض بخلاف الله تعالى في ذلك.
قال أبو محمد رضي الله عنه : ومما يعترض به على النصارى وإن كان ليس برهاناً ضرورياً على جميعهم لكنه برهان ضروري على كل من تلقد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارقبية قاطع لهم وهي مسئلة جرت لنا مع بعضهم وذلك أنهم لا يخلون من أحد وجهين إما أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام وإما أن يقولوا بإمكانها بعده عليه السلام.
فإن قالوا بإمكان النبوة بعده عليه السلام.
لزمهم الإقرار بنبوة محمد ﷺ إذ ثبت نقل إعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت إعلام عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام.
وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليه السلام.
لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم وتعظيمهم الأحد وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم وأعيادهم واستباحتهم الخنزير والميتة والدم وترك الختان وتحريم النكاح على أهل المراكب في دينهم إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة شيء البتة بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم إذ فيها أ ه عليه السلام قال لم آت لأغير شيئاً من شرائع التوراة وأنه كان يلتزم هو وأصحابه بعده السبت وأعياد اليهود من الفصح وغيره بخلاف كل ما هم عليه اليوم فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلا عن الأنبياء عليهم السلام وإلا فإن شارعها عن غير الأنبياء عليهم السلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب والسخف فشرائعهم التي هي دينهم غير مأخوذة عن نبي أصلاً فهي معاص مفترات على الله عز وجل بيقين لاشك فيه
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا حين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إن شاء الله لا إله إلا هو في تبيين أن الواحد ليس عدداً فنقول وبالله تعالى التوفيق أن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساوٍ له وعدد آخر ليس مساوياً له هذا شيء لا يخلو منه عدد أصلاً والمساواة هي أن تكون إبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للإثنين وأن الزوج والفرد ليس مساوياً للزوج الذي هو الإثنان والخمسة مساوية للإثنين والثلاثة غير مساوية للثلاثة وهكذا كل عدد في العالم فهذا معنى قولنا أن المساوي وغير المساوي هو خاصة العدد وهذه المساواة أردنا لا غيرها فلو كان للواحد أبعاض مساوية له لكان كثيراً بلا شك فيه عند كل ذي حس سليم.
وكل ما كان له أبعاض فهو كثير بلا شك فهو إذاً بالضرورة ليس واحداً فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له فإذ لاشك فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه ليس عدداً وهو الذي أردنا أن نبين وأيضاً فإن الحس وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد إذ لو لم يكن الواحد موجوداً لم يقدر على عدد أصلاً إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل إلى عدد ولا معدود إلا بعد وجوده ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلاً والعالم كله أعداد ومعدودات موجودة فالواحد موجود ضرورة فلما نظرنا في العالم كله نظراً طبيعياً ضرورياً لم نجد فيه واحداً على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه لأن كل جرم من العالم فمنقسم محتمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبداً بلا نهاية وكل حركة فهي أيضاً منقسمة بانقسام المتحرك بها والزمان حركة الفلك فهو منقسم بإنقسام الفلك فكل مدة فمنقسمة أيضاً بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة وكذلك كل مقول من جنس أو نوع أو فصل وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله هذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة وليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا فصح ضرورة أنه ليس في العالم واحد البتة وقد قدمنا ببرهان ضروري آنفاً أنه لابد من وجود الواحد فإذاً لابد من وجوده وليس هو في شيء من العالم البتة فهو إذاً بالضرورة شيءٌ غير العالم فإذ ذلك كذلك فبالضرورة التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيءٌ غير العالم إلا خالقه فهو الواحد الأول الله لا إله إلا هو الذي لا يتكثر البتة أصلاً لا بعدد ولا صفة ولا بوجه من الوجوه لا واحد سواه البتة ولا أول غيره أصلاً ولا مخترع فاعلاً خالقاً إلا هو وحده لا شريك له.
وإنما قلنا في كل فرد في العالم وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحداً على المجاز أنه كثير بمعنى أنه يحتمل أن يقسم وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه وأما ما لم يقسم فهو يعد فرداً حقيقياً وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الإنقسام لكل جزء في العالم في آخر كتبانا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء أليس كل واحد منها واحداً لا ينقسم قيل له وبالله التوفيق إن هذا شغب ينبغي أن تحفظ من مثله لأن الحرف إنما هو هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة وأنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والأسنان والشفتين فإذ لاشك في هذا فذلك الهواء المندفع جسم طويل عريض عميق فهو محتمل الإنقسام ضرورة فذلك الهواء هو الحرف فالحرف هو جسم محتمل للقسم ضرورة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من يقول أن البارىء خلق العالم جملة
كما هو بجميع أحواله بلا زمان
قال أبو محمد رضي الله عنه : رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ومن يذهب إلى ذلك وناظرناه على ذلك فقلت إن الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكراً واحداً وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما ممكن أيضاً فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه فتردد ساعة فلما لم يجد دليلاً قال فمن أين ملتم أنتم أيضاً إلى هذه الحيثية دون تلك فقلت لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم منها أنه لو كان ما قلت لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أنهم الآن به حدثوا وأنهم لم يكونوا قبل ذلك لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلاً يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولابد كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع وليبلغ الأمر إلينا كذلك ولعلمه جميع الناس علماً ضرورياً لأن شيئاً ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبداً كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولاد وغير ذلك ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض # قاطبة لا يعرفون هذا بل لا يدريه أحد منهم وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن لا بخبر ونقل أصلاً هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس فمن المحال الممتنع أن يكون خبرٌ نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عن ما شاهدوه يخفي حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض هذا أمرٌ يعرف كذبه بأول العقل وبديهته.
فقال والذي تحكونه أنتم أيضاً قد وجدنا جماعات ينكرونه فينيبغي أن يبطل بما عارضتنا به.
فقلت بين النقلين فرق لا خفاء به لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد وامرأة واحدة فقط وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري إذ التواطؤ ممكن في ذلك ولولا أن الأنبياء والذين جاؤا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صح قولنا من جهة النقل وحده بل كان ممكناً أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم لكن لما أخبر من صححت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدىء من النوع الإنساني إلا رجلاً واحداً وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم وبرهان آخر وهو ا كم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنسان بأن خلق ذكراً وأنثى ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلاً ولا بدليل إقناعي فضلاً عن برهاني وقد صحت البراهين التي قدمنا قيل أنه لابد من مبدأ ضرورة فوجب ولابد حدوث ذكر وأنثى وكان من ادعى حدوث أكثر من ذلك مدعياً لما لا دليل له عليه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا مرية فيه وكل ما ذكرت عنه نبوةٌ في الهند والمجوس والصابئين واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر وأنثى وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدعوى وإنما اختلف عنهم في الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماءً كثيرة فلم يمنع من هذا مانع وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد رضي الله عنه : فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلاً وما علمنا أحداً من المتكلمين ذكر هذه الفرقة أصلاً وقلت له في خلال كلامي معه أترى العالم إذا خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن والطباقون قعوداً على أطباقهم يبيعون التين والسرقين فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده وقال لي نعم فقلت ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما هم عليه من العلوم والصناعات أو يلهمون ذلك وفي هذا من بطلان الدعوى ما لا خافاء به وكان مما اعترض به أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار وأنه يوجد فيها النمل والحشرات وكثير من الطير وكثير من حشرات الأرض فقلت إن كان ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفيران في جملة الرحل كذلك وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلاً مع أن الحيوان نوعان.
نوع متولد يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان وعفونات الأرض فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين.
وقسم آخر متوالد قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلا عن مني ذكر وأنثى فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول إليها بلا شك وبالله تعالى التوفيق.
وما ننكر في كل نوع ماعدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين فهذا ممكن في قدرة الله تعالى ولم يأت خبر صادق بخلافه لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه السلام وسفينته حين الطوفان واحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه السلام مأموراً بأن يحمل من كل زوجين اثنين ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط وبرهان آخر وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم من المعلوم والعلماء بها والصناعات والصانعين لها دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى وإما بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك وما صنعوا فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم إذ ليست النبوة معنى غير هذا وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل وما لا دليل عليه فهو باطل لا يجوز القول به لاسيما والقائلون بها منكرون للنبوة فلاح تناقض قولهم وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف فهذا محال ضرورة وممتنع في العقل وفي الطبيعة إذ لو كان ذلك لوجدوا أبداً كذلك إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبداً في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلاً يأتي بعلم من العلوم لم يعلمه إياه أحد ولا يتكلم بلغة لم يعلمه إياها أحد ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد.
وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعريه من البرهان
الكلام على من ينكر النبوة والملائكة
قال أبو محمد رضي الله عنه : ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف الهند ويقولون أنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ولهم علامة ينفردون بها وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات.
وعمدة احتجاجهم في دفعها أن قالوا لما صح أن الله عز وجل حكيم وكان من بعث رسولاً إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عز وجل لنفي العبث والعنت عنه.
وقالوا أيضاً إن كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به.
قالوا فبطل إرسال الرسل على هذا الوجه أيضاً ومجيء الرسل عندهم من باب الممتنع.
وأما نحن فنقول إن مجيء الرسل قبل أن يبعثهم الله تعالى واقع في باب الإمكان وأما بعد إن بعثهم الله عز وجل ففي حد الوجوب ثم أخبر الصادق عليه السلام عنه تعالى أنه لا نبي بعده فقد جد الامتناع ولسنا نحتاج إلى تكلف ذكر قول من قال من المسلمين أن مجيء الرسل من باب الواجب واعتلالهم في ذلك بوجوب الإنذار في الحكمة إذ ليس هذا القول صحيحاً وإنما قولنا الذي بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئاً لعلة وأنه تعالى يفعل ما يشاء وإنك ل ما فعله فهو عدل وحكمة أي شيءٍ كان.
فيقال وبالله التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل وأن الحكيم لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه أنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك إلى موافقة المنانية على أصولها أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ولا من يكفر به ويقتل أولياءه وهم يقولن إن الله تعالى خلق الخلق ليدلهم بهم على نفسه.
ويقال لهم قد علمنا وعلمتم أن في الناس كثيراً يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا أنه ليس حكيماً من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها.
فإن قالوا أنه قد استدل بها كثير.
قيل لهم وقد صدق الرسل أيضاً كثير.
فإن قالوا أنه خلق الخلق كما شاء.
قيل لهم وكذلك بعث الرسل أيضاً كما شاء فبعثته تعالى الرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى وعلى توحيده.
ويقال لمن احتج بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به أن هذا قول مرذول مردود عليكم في قولكم أن الله عز وجل خلق الخلق ليدلهم بهم نفسه ووحدانيته فيلزمكم على ذلك الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال وقد علم أن فيهم من لا يستدل وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال فكان الأولى في الحكمة أن يضطر عقولهم إلى الإيمان به ولا يكلفهم مؤنة الاستدلال وأن يلطف بهم ألطافاً يختار جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة
قال أبو محمد رضي الله عنه : وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع منهم فعل إلا لعلة ووجب بالبراهين الضرورية أن البارىء تعالى بخلاف جميع خلقه من جميع الجهات وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلة ولا إذ جاء الإنسان بالنطق وحرمه سائر الحيوان وخلق بعض الحيوان صائداً وبعضه مصيداً وباين بين جميع مفعولاته كما شاء فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقاً وحرم الحمار النطق وجعل الحجر جامداً لا حياة له ولا نطق وهذا أصل قد وافقنا البراهمة عليه وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد وهكذا إذا بعث تعالى الأنبياء ليس لأحد أن يقول لم بعثهم أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة كما لا يقال لم حباه بالسعد في الدنيا دون غيره وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
قال أبو محمد رضي الله عنه : وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده فلنقل الآن بعون الله تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذا وجدت قولاً بيناً وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثاً لم يزل واحداً لا مبدأ له ولا كان معه غيره ولا مدبر سواه ولا خالق غيره فإذ قد ثبت هذا كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ولا معاناة ولا طبيعة ولا استعانة ولا مثال سلف ولا علة موجبة ولا حكم سابق قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ وفعل إذ شاء كما شاء فيزيد ما شاء وينقص ما شاء فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بينا في غير هذا المكان إلا أننا نذكر ههنا طرفاً إن شاء الله عز وجل فنقول وبالله تعالى نتأيد.
إن الممكن ليس واقعاً في العالم وقوعاً واحداً ألا تري أن نبات اللحية للرجال ما بين الثمان عشرة إلى عشرين سنة ممكن وهو في حدود الأنثى عشر سنة إلى العامين ممتنع وإن فك الإشكالات العويصة واستخراج المعاني الغامضة وقول الشعر ابديع وصناعة البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهي اللطيف والذكاء النافذ وغير ممكن من ذي البلادة الشديدة والغباوة المفرطة فعلى هذا ما كان ممتنعاً بيننا إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ولا من عادتنا فهو غير ممتنع على الذي لا بنية له ولا طبيعة له ولا عادة عنده ولا رتبة لازمة لفعله فإذا قد صح هذا فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى فصح أن النبوة في الإمكان وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالفضيلة لا لعلة إلا أنه شاء ذلك فعلمهم الله تعالى العلم بدون تعلم ولا تنقل في مراتبه ولا طلب له ومن هذا الباب ما يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحاً وما هو من باب تقدم المعرفة فإذ قد أثبتنا أن النبوة قبل مجيء الأنبياء عليهم السلام واقعة في حد الإمكان فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته على وجوبها إذا وقعت ولابد فنقول إذ قد صح أن الله تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجوداً حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ومعرفة الطبائع والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبداً وكيف يجرب كل عقار في كل علة ومتى يتهيأ هذا ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين ومشاهدة كل مريض في العالم وهذا يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بد منه من أمر المعاش وذهاب الدول وسائر العوائق وكعلم النجوم ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم إلا في عشرة آلاف من السنين ولابد من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ولا سبيل إلى الاتفاق عليها إلا بلغة أخرى ولابد فصح أنه لابد من مبدأ للغة ما وكالحرث والحصاد والدراس والطحن وآلاته والعجن والطبخ والحلب وحراسة المواشي واتخاذ الأنسال منها والغرس واستخراج الأدهان ودق الكتان والقنب والقطن وغزله وحياكته وقطعه وخياطته ولبسه وآلات كل ذلك وآلات الحرث والإرحاء والسفن وتدبيرها في القطع بها للبحار والدواليب وحفر الآبار وتريبة النحل ودود الخز واستخراج المعادن وعمل الأبنية منها ومن الخشب والفخار وكل هذا لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم فوجب بالضرورة ولابد أنه لابد من إنسان واحد فأكثر علمهم الله تعالى ابتداء كل هذا دون معلم لكن بوحي حققه عنده وهذه صفة النبوة فإذاً لابد من نبي أو انبياء ضرورة فقد صح وجود النبوة والنبي في العالم بلا شك.
ومن البرهان على ما ذكرنا أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ولا إلى مخارج الحروف وكالبلاد التي ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة وأكثر الأمم وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم يعرفه ولا إلى صناعة لم يعرف بها فلا سبيل إلى تهديهم إليها البتة حتى يعلموها ولو كان ممكناً في الطبيعة التهدي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من يهتدي إليها ولو واحداً وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد وهكذا القول في العلوم ولا فرق ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مؤنة فيه إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب وفي الهندسة وفي النجوم وفي الهيئة والنحو واللغة والشعر والعروض إنما نعني ابتداء مؤنة اللغة والكلام بها وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها فابتداء أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير والمعاناة بها وابتداء معرفة الصناعات فصح بذلك أنه لابد من وحي من الله تعالى في ذلك
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أيضاً برهان ضروري على حدوث العالم وأن له محدثاً مختاراً ولابد إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ولا نشأة ولا معاش إلا بهذه الأعمال والصناعات والآلات ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري تعالى فصح أن العالم لم يكن موجوداً إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا ثم وجد معلماً مدبراً مبتدئاً بتعليمه على ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رضي الله عنه : وإذ قد تكلمنا على أنه لابد من نبوة وصح ذلك ضرورة فلنتكلم على براهينها التي صح بها علم صدق مدعيها إذ وقعت فنقول أنه قد صح أن البارىء تعالى هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر عىل إظهار كل متوهم لم يظهر وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه الرتب التي في العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا وأنه لا فاعل على الحقيقة غيره تعالى ثم رأينا خلافاً لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ووجدنا طبائع قد أحيلت وأشياء في حد الممتنع قد وجبت ووجدت كصخرة انفلقت عن ناقة وعصى انقلبت حية وميت أحياه إنسان ومئين من الناس رووا وتوضؤا كلهم من ماء يسير في قدح صغير يضيق عن بسط اليد فيه لا مادة له فعلمنا أن محل هذه الطبائع وفاعل هذه المعجزات هو الأول الذي أحدث كل شيء ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالاً يدعون إليه ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه المعجزات المحدثة منه تعالى في عين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها وضراعتهم إليه في تصديقهم بها فعلمنا علماً ضرورياً لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من قبله عز وجل وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى إذ لا سبيل في طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارىء ولا على طبائع خلقه بمثل هذا ووجوب النبوة إذ ظهر على مدعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه العالم وقد تكلمنا في غير هذا المكان على أن هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول ببدايتها والنفوس بأول معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب ولا الوهم عليها وإن ذلك ممتنع فيها فمن تجاهل وأجاز ذلك عليها خرج عن كل معقول ولزمه أن لا يصدق أن من غاب عن بصره من الانس بأنهم أحياء ناطقون كمن شاهد وأن صورهم على حسب الصورة التي عاين ولزم أن يكون عندهم ممكناً في بعض من غاب عن بصره من الناس أن يكونوا بخلاف ما عهد من الصورة إذ لا يعرف أحدا أن كل من غاب عن حسه فإنه في مثل كيفية ما شاهد من نوعه إلا بنقل الكواف ذلك كما نقلت أن بعضهم بخلاف ذلك في بعض الكيفيات فوجب تصديق ذلك ضرورة كبلاد السودان وما أشبه ذلك ويلزم من لم يصدق خبر الكافة ويجيز فيه الكذب والوهم أن لا يصدق ضرورة بأ أحداً كان قبله في الدنيا ولا أن في الدنيا أحداً إلا من شاهد بحسه فإن جوز هذا عرف بقلبه أنه كاذب وخرج عن حدود من يتكلم معه لأن هذا الشيء لا يعرف البتة إلا من طريق الخبر لا غير فإن نفر عن هذا وأقر بأنه قد كان قبله ملوك وعلماء ووقائع وأمم وأيقن بذلك ولم يكن في كثير منها شك بل هي عنده في الصحة كما شاهد ولا فرق سئل من أين عرفت ذلك وكيف صح عندك فلا سبيل له أصلاً إلى أن يصح ذلك عنده إلا بخبر منقول نقل كافة وبالله تعالى التوفيق فنقول له حينئذ فرق بين ما نقل إليك من كل ذلك وبين كل ما نقل إليك من علامات الأنبياء ولا سبيل له إلى الفرق بين شيء من ذلك أصلاً فإن قال الفرق بينها وبينها أنه لا ينكر أحد هذه الأمور وكثير من الناس ينكرون أعلام الأنبياء قيل له وبالله تعالى التوفيق أن كثيراً من الناس لا يعرفون كثيراً مما صح عندك من الأخبار العارضة لمن كان في بلادك قبلها فليس جهلهم بها ودفعهم لها لو حدثوا بها مخرجاً لها عن الصحة وكذلك جحد من جحد إعلام الأنبياء ليس مخرجاً لها عن الوجوب والصحة فإن قال إنه ليس نجد الناس على الكذب فيما كان قبلنا من الأخبار ما نجدهم على الكذب في إعلام النبوة قيل له وبالله التوفيق هذا كذب بل الأمران سواء لا فرق بينهما ومن الملوك من يشتد عليهم وصف أسلافهم بالجور والظلم والقبائح ويحمي هذا الباب بالسيف فما دونه فما انتفعوا بذلك في كتمان الحق قد نقل ذلك كله وعرف كما نقلت فضائل من يغضب ملوك الزمان من مدحه كفضائل علي رضي الله عنه ما قدر قط ملوك بني مروان على سترها وطيها وقد رام المأمون والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق فما قدروا على ذلك وكل نبي فله عدو من الملوك والأمم يكذبونهم فما قدروا قط على طي إعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا على ذلك لمن يغضب له من لا دين له فصح أن الأمرين سواء وأن الحق حق فإن قال قائل فلعل هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار ما أظهر قيل له وبالله التوفيق إن الخواص قد علمت ووجوه الحيل قد أحكمت وليس في شيءٍ منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن ولا في شيء منه إحالة نوع إلى نوع آخر دفعة على الحقيقة ولا جنس إلى جنس آخر دفعه على الحقيقة وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهم السلام فصح أنه من عند الله تعالى لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلة فيه ونحن نبين إن شاء الله الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجابيين فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العالم كله جوهر وعرض لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى فأما الجواهر فاختراعها من ليس إلى أنس وهو من العدم إلى الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى مبتدىء العالم ومخترعه فمن ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله ﷺ بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى له بصحة نبوته لا يمكن غير ذلك أصلاً ولذلك إحالة الأعراض التي هي جوهريات ذاتيات وهي الفصول التي تؤخذ من الأجناس وذلك كقلب العصا حية وحنين الجذع وإحياء الموتى الذين رموا وصاروا عظاماً والبقاء في النار ساعات لا تؤذيه وما أشبه ذلك وكذلك الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها كالفطس والرزق ونحو ذلك فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله تعالى بوجه من الوجوه وأما إحالة الأعراض من الغيرات التي تزول بغير فساد حاملها فقد تكون بالسحر ومنه طلسمات كتنفير بعض الحيوان عن مكان ما فلا يقر به أصلاً وكإبعاد البرد ببعض الصناعات وما أشبه هذا وقد يزيد الأمر ويفشو العلم ببعض هذا النوع حتى يحسبه أكثر الناس كالطير والاصباغ وما أشبه هذا وأما التخييل نوع من الخديعة كسكين مثقوبة النصاب تدخل فيها السكين ويظن من رآها أنها دخلت في جسد المضروب بها في حيل غير هذه من حيل أرباب العجائب والحلاج وأشباهه فأمر يقدر عليه من تعلمه وتعلمه ممكن لكل من أراده فالذي يأتي به الأنبياء عليهم السلام هو إحالة الذاتيات ومن ذلك صرف الحواس على طبائعها كمن أراك ما لا يراه غيرك أو مسح يده على مريض فأفاق أو سقاه ما يضر علته فبرىء أو أخبر عن الغيوب في الجزئيات عن غير تعديل ولا فكرة فهذه كلها إحالة الذاتيات وما ثبت إذ ثباتها لا يكون إلا لنبي فإذ قد تكلمنا على مكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذلك فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ قد صح كل ما ذكرنا من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهم السلام شهادة من الله تعالى لهم يصدق بها أقوالهم فقد وجب علينا الانقياد لما أتوا به ولزمنا تيقن كل ما قالوا وقد صح عن رسول الله ﷺ بنقل الكواف التي نقلت نبوته واعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده إلا ما جاءت الأخبار الصحاح من نزول عيسى عليه السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادعى اليهود قتله وصلبه فوجب الإقرار بهذه الجملة وصح أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون البتة وبهذا يبطل أيضاً قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبداً وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال بامتناعهما البتة إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم إن الله حكيم والحكيم لا يجوز في حكمته أن يترك عباده هملاً دون إنذار
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا إن الله تعالى لا شرط عليه ولا علة موجبة عليه أن يفعل شيئاً ولا أن لا يفعله وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقاً وحسناً لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم يلزمه شريعة ولا خطر عليه شيءٌ وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبداً لكان حقاً وحسناً لما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبداً وأنه تعالى لو خلق الخلق كفاراً كلهم لكان ذلك منه حقاً وحسناً أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقاً وحسناً كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن وأنه لا يقبح شيء إلا من مأمور منهي قد تقدمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المترتبة للأشياء كونه وأما من سبق كل ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه وأما الملائكة فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب إلى الفساد من سائر العناصر ومن سائر الأجرام العلوية وأنها مواتية كلها وأن الحياة إنما هي في النفوس المنزلة قسراً إلى مجاورة أجساد الترابية المواتية من جميع الحيوان فقد ثبت يقيناً بضرورة المشاهدة أن محل الحياة وعنصرها ومعدنها وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما فيه طبعها من مجاورة هذه الأجساد والتثبت بها عن كمال ما خص بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرناً وعيوباً فصح أن العلو الصافي هو محل الأحياء الفاصلين السالمين من كل رذيلة ومن كل نقص ومن كل مزاج فاسد المحبوين بكل فضيلة في الخلق وهذه صفة الملائكة عليهم السلام وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من أهله وعماره وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدراء ومما هنالك كما لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك وبهذا صحت الرواية وهكذا أخبر رسول الله ﷺ عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه ﷺ وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى الذي خصهم بالنبوة والرسالة وتعليم العلوم وبين إنقاذ النفوس من الهلكة
قال أبو محمد رضي الله عنه : ذهب أحمد بن حابط وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام يظهر الاعتزال وما نراه إلا كافراً لا مؤمناً وإنما استخرنا إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوهاً من الكفر منها التناسخ والطعن على رسول الله ﷺ بالنكاح وكان من قوله أن الله عز وجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان حتى البق والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ذكروا قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يقول لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وإنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها قال الله تعالى يا أولي الألباب وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه والتصرف في الصناعات على اختلافها الإنسان خاصة وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن وأضفنا إليهم بالخبر الصادق وببراهين ضرورية الملائكة وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلا من يعقلها ويعرف المراد بها وبقوله تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معايشها وتناسلها لا يجتنب منها واحد شيئاً بفعله غيره هذا الذي يدرك حساً فيما يعاشر الناس في منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك وليس الناس في أحوالهم كذلك فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط وصح أن معنى قول الله تعالى أمم أمثالكم أي أنواع أمثالكم إذ كل نوع يسمى أمة وإن معنى قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير إنما عنى تعالى الأمم من الناس وهم القبائل والطوائف ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم فإن قال قائل فما يدريك لعل سائر الحيوان له نطق وتمييز قيل له وبالله التوفيق بقضية العقول وبديهها عرفنا الأشياء على ما هي عليه وبها عرفنا الله تعالى وصحة النبوة وهي التي لا يصح شيء إلا بموجبها فما عرف بالعقل فهو واجب فيما بيننا نريد في الوجود في العالم وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل واقعين تحت جنس فإن ذلك الجنس يعطيهما اسمه وحده عطاء مستوياً فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه فيما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة الإرادية وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلاً وعلمنا ذلك بالمشاهدة لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ويحدث لهما من الصوت والقلق ما يحقق ألمها كما نفعل نحن ولا فرق ولذلك لما شاركنا والحيوان جميع الشجر والنبات في النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء واستحالته في المتغذى به إلى نوعه ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواءً واحداً لا تفاضل فيه ولما شاركنا وجميع الحيوان والشجر والنبات وسائر الجمادات في أن كل ذلك أجسام طويلة عريضة عميقة جميع الأجرام استوى كل ذلك فيما اقتضاه له اسم الجسمية في ذلك استواءً لا تفاضل فيه ولم يدخل ما لم يشارك شيئاً مما ذكرنا في الصفة التي انفرد بها عنه هذا كله يعلمه ضرورة من وقف عليه ممن له حس سليم فلما كان النطق الذي هو في العلوم والصناعات قد خصنا دون سائر الحيوان وجب ضرورة أن لا يشاركنا شيء من الحيوان في شيء منه إذ لو كان فيه شيءٌ منه لما كنا أحق بكله من سائر الحيوان كما أنا لسنا بالحياة أحق منها ولا بالنمو ولا بالحركة ولا بالجسمية فصح بهذا أنه لا نطق لها أصلاً فإن قال قائل لعل نطقها بخلاف نطقنا قيل له وبالله التوفيق لا يتشكل في العقول ألبتة حياة على غير صفة الحياة عندنا ولا نماء على غير صفة النماء عندنا ولا حمرة على غير الحمرة عندنا ولا جسم على خلاف الأجسام عندنا وهكذا في كل شيء ولو كان شيء بخلاف ما عندنا لم يقع عليه ذلك الاسم أصلاً وكان كمن سمى الماء ناراً والعسل حجراً وهذا هو الحمق والتخليط فبالضرورة وجب أن كل صفة هي بخلاف نطقنا فليس نطقاً والنطق عندنا هو التصرف في العلوم والصناعات ومعرفة الأشياء على ما هي عليه فلو كان ذلك النطق بخلاف هذا لكان ليس معرفة للأشياء على ما هي عليه ولاتصرفاً في العلوم والصناعات فهو إذاً ليس نطقاً فبطل هذا الشغب السخف والحمد لله رب العالمين.
فإن اعترض معترض بفعل النحل ونسيج العنكبوت قيل له وبالله التوفيق إن هذه طبيعة ضرورية لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ولا توجد أبداً إلا لذلك وأما الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج والوشي والقباطي وأنواع الأصباغ والدباغ والخرط والنقش وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات وفي أنواع العلوم من النجوم ومن الأغاني والطب والقبل والجبر والعبارة والعبادة وغير ذلك ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ولا مفارقة تلك الكيفية فإن اعترض معترض بقول الله تعالى علمنا منطق الطير وبما ذكر الله تعالى من قول النملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم الآية وقصة الهدهد قيل له وبالله تعالى التوفيق لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء وعند الألم وعند المضاربة وطلب السفاد ودعاء أولادها وما أشبه ذلك فهذا هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه السلام وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام فيها ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء وإنما عنى الله تعالى بمنطق الطير أصواتها التي ذكرنا لا تمييز العلوم والتصرف في الصناعات الذي من ادعاه لها أكذبه العيان والله تعالى لا يقول إلا الحق وأما قصة النملة والهدهد فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل وكذلك الهدهد وآيتان لسليمان رسول الله ﷺ ككلام الذراع وحنين الجذع وتسبيح الطعام لمحمد ﷺ آيات لنبوته عليه السلام وكذلك حياة حصا موسى عليه السلام آية لرسول الله موسى عليه السلام لأن هذا النطق شامل لأنواع هذه الأشياء
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد قاد السخف والضعف والجهل من يقدر في نفسه أنه عالم وهو المعروف بخويز منداد المالكي إلى أن جعل للجمادات تمييزاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولعل معترضاً يعترض بقول الله تعالى وإن من شيء غلا يسبح بحمده وبقوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان الآية وبقوله تعالى حاكياً أنه قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبقول رسول الله ﷺ يوم يقتص للشاه الجماء من الشاة القرناء فهذا كله حق ولا حجة لهم فيه والحمد لله رب العالمين لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره كذلك كلام رسول الله ﷺ ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل مبدلاً لكلماته ما لم يأت نص في أحدها أو إجماع متيقن أو ضرورة حس على خلاف ظاهره فيوقف عند ذلك ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل أو كاذباً عليه وعلى نبيه عليه السلام نعوذ بالله من كلا الوجهين وإذ قال بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان غير الإنس والجن والملائكة لا نطق له نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوماً بالضرورة لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا فإنه ليس تمييزاً وكان هذا أيضاً يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة فوجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها وأما معانيها فمختلفة لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا لأنه إن فعل كان مخبراً أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ولولاه ما عرفناه ومن أجاز هذا كان كافراً مشركاً ومن أبطل العقل فقد أبطل التوحيد إذ كذب شاهده عليه إذ لولا العقل لم يعرف الله عز وجل أحد ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم عقولهم ومن جوز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به من خلاف المعقول ولا على الدهرية ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول لكنا نقول أن اللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه كما فعلنا في النزول وفي الوجه واليدين والأعين وحملنا كل ذلك على أنه حق بخلاف ما يقع عليه اسم ينزل عندنا واسم يد وعين عندنا لأن هذا عندنا في اللغة واقع على الجوارح والنقلة وهذا منفي عن الله تعالى فإذ لا شك في هذا فلنقل الآن على معاني الآيات التي ذركنا أنه ربما اعترض بها من لا يمعن النظر بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق أما تسبيح كل شيء فالتسبيح عندنا إنما هو قول سبحان الله وبحمده وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والألوان لا تقول سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل فإذ لا شك في هذا فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء فإذ قد صح هذا فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث وليس في العالم شيء إلا وهو دال بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبه على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك وهذا المعنى حق لا ينكره موحد فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه الكاذب وأيضاً فإن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم والكافر الدهري شيء لا يشك في أنه شيءٌ وهو لا يسبح بحمد الله تعالى ألبتة فصح ضرورة أن الكافر يسبح إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى وأن تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك ولكنه تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبهاً لشيء مما خلق وهذا يقين لا شك فيه فصح بما ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة وهي التي تقع على نوعين فصاعداً وأما السجود الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فقد علمنا أن السجود المعهود عندنا في الشريعة واللغة هو وضع الجبهة واليدين والركبتين والرجلين والأنف في الأرض بنية التقرب بذلك إلى الله تعالى هذا ما لا يشك فيه مسلم وكذلك نعلم ضرورة لاشك فيها أن الحمير والهوام والخشب والحشيش والكفار لا تفعل ذلك لاسيما من ليس له هذه الأعضاء وقد نص تعالى على صحة ما قلنا وأخبر تعالى أن في الناس من لا يسجد له السجود المعهود عندنا بقوله تعالى واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار لا يسأمون فأخبر تعالى أن في الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد وقال تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً فبين تعالى أن السجود كرهاً غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا وإذ قد أخبر الله تعالى بهذا وصح أيضاً بالعيان فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى أنه يسجد له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعاً ويستكبر عنه بعض الناس ويمتنع منه أكثر الخلق هذا مما لا يشك فيه مسلم فإ هذا كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو ففعلنا فوجدناه مبيناً بلا إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى وظلالهم بالغدو والآصال وقوله تعالى أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون فبين تعالى في هاتين الآيتين بياناً لا إشكال فيه أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي ظل هو معنى السجود المذكور في الآية لا السجود المعهود عندنا وصح بهذا أن لفظة السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر وأما قوله تعالى قالتا أتينا طائعين فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك واللسان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل فإذ لا شك في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول المعهود منا هذا مما لا يشك فيه ذو عقل فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا لكنه معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى قالتا أتينا طائعين إنما هو على نفاذ حكمه عز وجل فيهما وتصريفه لهما وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال وإباية كل واحد منها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك وهذا نص قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدئاً لا يشبهه البتة فأراد معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها فلما أبتها وأشفقت منها سلبها ذلك التمييز وتلك القوة وأسقط عنها تكليف الأمانة هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ولا مزيد عندنا على ذلك وأما ما كان بعد ابتداء الخلق فمعروف الكيفيات قال تعالى وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته فصح أنه لا تبديل لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع للأنبياء عليهم السلام فإن اعترضوا أيضاً بقول الله تعالى يصف الحجارة وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً فإذ لاشك في هذا فإن في قوله تعالى وإن منها لما يهبط راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة الآية فذكر تعالى أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوماً ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ويخشى العاصي وقد أخبر عز وجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فهذا وجه ظاهر متيقن الصحة.
والوجه الثاني أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا في قوله تعالى عز وجل حاكياً عن السماء والأرض قالتا أتينا طائعين وقد بين جل وعز ذلك موصولاً بهذا اللفظ فقال جل وعز فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فبين الله تعالى بياناً رفع كل إشكال أن تلك الطاعة من السموات والأرض إنما هي تصرفه لها وقضاؤه تعالى إياهن سبع سموات ووحيه في كل سماءٍ أمرها فصح قولنا نصاً جلياً ببيان الله تعالى لذلك والحمد لله رب العالمين وصح بهذا أن إباية السموات والأرض والجبال من قبول الأمانة إنما هو لما ركبها الله تعالى عليه من الجمادية وعدم التمييز وقد علم كل ذي عقل امتناع قبول ما هذه صفته للشرائع والأوامر والنواهي وقد ذم الله تعالى من ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ولا يحل لمسلم أن ينسب إلى الله تعالى فعلاً ذمه.
والوجه الثالث أن يكون الله تعالى عنى بقوله وإن منها لما يهبط من خشية الله الجبل الذي صار دكاً إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه السلام الرؤية فذلك الجبل بلا شك من جملة الحجارة وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة ويكون يهبط بمعنى هبط كما قال الله عز وجل وإذ يمكر بك الذين كفروا ومعناه بلا شك وإذ مكر وبين قوله تعالى مصدقاً إبراهيم خليله ﷺ في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر وبقوله تعالى واتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون
قال أبو محمد رضي الله عنه : فصح بهذا صحة لا مجال للشك فيها أن الحجارة لا تعقل لأنها هي التي كانوا يعبدون مما لا يعقل وأما سائر ما كانوا يعبدون من الملائكة والمسيح وأمه عليهما السلام ومن الجن فكل هؤلاء عاقلون مميزون فلم يبق إلا الحجارة فصح بالنص أنها لا تعقل وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية المعهود كل ذلك عندنا وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان والكعبة كذلك وإن الجبال تطاولة وخشع جبل كذا فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف لا يصح شيء منها من طريق الإسناد أصلاً ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئاً منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث أو ما يستجاز روايته
مما قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل من يخالفنا في هذا فإنه إذا أقر لنا أن القول المذكور في الآيات التي تلونا والسجود والتسبيح والخشية ليس شيء منه على الصفة المعهودة بيننا فقد وافقنا أحب أو كره وهم كلهم مقرون بذلك وقد جاء ذلك في أشعار العرب قال الشاعر شكى إلي جملي طول السرى وقال آخر فقالت له العينان سمعاً وطاعةً وقال الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نصولا ومن هذا الباب قوله تعالى جداراً يريد أن ينقض وهذا بلا شك غير الإرادة المعهودة من الحيوان فصح قولنا بالنص والضرورة والحمد لله رب العالمين وأما قول رسول الله ﷺ يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء فقد قال الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحية إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقال تعالى وإذا الوحوش حشرت فصح أنها تحشر بلا شك ويسلط الله تعالى ما يشاء من خلقه على ما يشاء فإذا سلط القرناء على الجماء في الدنيا فله تعالى أن يسلط الجماء على القرناء في الآخرة يوم القيامة ولم يأت نص ولا إجماع ولا دليل عقل ولا دليل عقل ولا دليل خبر على أن المواشي متعبدة بشريعة وهذا مما نقر به ونقول يفعل الله ما يشاء ولا علم لنا إلا ما علمنا وبالله تعالى التوفيق
الرد على من زعم أن الأنبياء ليسوا أنبياء اليوم
ولا الرسل اليوم رسلاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ ليس هو الآن رسول الله ﷺ ولكنه كان رسول الله ﷺ وهذا قول ذهب إليه الأشعرية.
وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسئلة قتله بالسم محمود ابن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله ﷺ ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبداً ويحدث ولا يبقى وقتين فروح النبي ﷺ عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته
قال أبو محمد رضي الله عنه : ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله ﷺ واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الآذان كذباً ويكون من أمر به كاذباً وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمداً كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب فالأذان كذب على قولهم وهذا كفر مجرد وكذلك ما اتفق عليه جميع أهل الإسلام بلا خلاف من أحد منهم من تلقين موتاهم لا إله إلا الله محمد رسول الله فإنه باطل على قول هؤلاء وكذلك ما عمل به رسول الله ﷺ مدة قتاله الأمة وأمره عن الله عز وجل بأن يعمل به بعده أبداً وأجمع على القول به والعمل جميع أهل الإسلام من أول الإسلام إلى آخره ومن شرق الأرض إلى غربها إنسهم وجنهم بيقين مقطوع به دون مخالف فيما تخرج به الدماء من التحليل إلى التحريم أو إلى الحقن بالجزية من أن يعرض على أهل الكفر أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فيجب على قول هؤلاء المحرومين أن هذا باطل وكذب وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا محمد كان رسول الله وكذلك قوله تعالى ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكذلك قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وقوله تعالى وجيء بالنبيين والشهداء فسماهم الله رسلاً وقد ماتوا وسماهم نبيين ورسلاً وهم في القيامة وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضاً أو نافلة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فلو لم يكن روحه عليه السلام موجوداً قائماً لكان السلام على العدم هدراً.
فإن قالوا كيف يكون ميتاً رسول الله وإنما الرسول هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة قيل لهم نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولاً لله تعالى أبداً لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطه عنها شيء أبداً ولا يسقط عنه هذا الاسم أبداً ولو كان ما قلتم لوجب أن لا يكون رسول الله ﷺ رسولاً إلى أهل اليمن في حياته لأنه لم يكلمهم ولا شافههم ويلزم أيضاً أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله وهذا حمق مشوب بكفر وخلاف للإجماع المتيقن ونعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عز وجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله ﷺ أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في سماءٍ سماء فهل رأى إلا أرواحهم التي هي أنفسهم ومن كذب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان وهذه براهين لا محيد عنها وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر أن لله ملائكة يبلغونه منا السلام وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقاً ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون أن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لسن الآن أمهات المؤمنين لكنهن كن أمهات المؤمنين
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ضلال بحت وحماقة محضة ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء الذي ولدته وأبوه الذي ولده أباه ولا أمه إلا في حين الولادة والحمل من الأم فقط وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة فإن قالوا أتقولون أن عمر أمير المؤمنين اليوم أو عثمان أيضاً كذلك قلنا لهم لا وهذا إجماع لأنه لا يكون أمير إلا من الائتمار لأمره واجب وليس هذا لأحد بعد موته إلا للنبي ﷺ وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط فبطل أن يكون لهم فيها متعلق
قال أبو محمد رضي الله عنه : افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين فذهبت الفرقة الواحدة إلى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت وهذا قول أحمد بن حابط وأحمد بن نانوس تلميذه وأبي مسلم الخراساني ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب صرح بذلك في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي وهو قول القرامطة وقال الرازي في بعض كتبه لولا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان ألبتة
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه كما ترى دعاوي وخرافات بلا دليل وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب قالوا فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار والمسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها شراً لا خير فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الشياطين وقال أحمد بن حابط أنها تنتقل إلى جهنم فتعذب بالنار أبد الأبد واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها خيراً لا شر فيها فقال بعضهم أرواح هذه الطبقة هي الملائكة وقال أحمد بن حابط إنها لاشك أنها تنتقل إلى الجنة فتنعم فيها أبد الأبد واحتجت هذه الطائفة المرتسمة بالإسلام أعني أحمد بن حابط وأ مد بن نانوس بقول الله تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك وبقوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه واحتج من هذه الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا إن النفس لا تتناهى والعالم لا يتناهى لأمد فالنفس منتقلة أبداً وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها
قال أبو محمد رضي الله عنه : وذهبت الفرقة الثانية إلى أن منعت من انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيءٍ من الشرائع وهم من الدهرية وحجتهم هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها القائلة أنه لا تناهي للعالم فوجب أن تتردد النفس في الأجساد أبداً قالوا ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلقها به
قال أبو محمد رضي الله عنه : أما الفرقة المرتسمة باسم الإسلام فيكفي من الرد عليهم إجماع جميع أهل الإسلام على تكفيرهم وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام وأن النبي ﷺ أتى بغير هذا وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعيم قبل يوم القيامة ثم بالجنة أو بالنار في موقف الحشر فقط إذا جمع أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها.
وأما احتجاجهم بالآيتين فكفى من بطلان قولهم أيضاً ما ذكرناه من الإجماع وأن الأمة كلها مجمعون بلا خلاف على أن المراد بهاتين الآيتين غير ما ذكر هؤلاء الملحدون وأن المراد بقوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك أنها الصورة التي رتب الإنسان عليها من طول أو قصر أو حسن أو قبح أو بياض أو سواد وما أشبه ذلك وأما الآية الأخرى فإن معناها أن الله تعالى امتن علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجاً نتولد منها ثم امتن علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا فتبين ذلك بياناً ظاهراً لا خفاء به أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا إنما هي من أنفسنا ثم فرق بين أنفسنا وبين الأنعام فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها من غير أنفسنا ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان وإنما رتبوه على أصلهم في العدل فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان وكل قول لم يوجبه برهان فهو باطل ولم يأت هذا القول قط على أحد من الأنبياء وهؤلاء القوم مقرون بالأنبياء عليهم السلام فلاح يقيناً فساد قولهم.
وأما الفرقة الثانية القائلة بالدهر فإننا نقول وبالله التوفيق.
إنه يكفي من فساد قولهم هذا أنه دعوى بلا برهان لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا شك فيه لكننا لا نقنع بهذا بل نبين عليهم بياناً لائحاً ضرورياً بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نستعين إن الله تعالى خلق الأنواع والأجناس ورتب الأنواع تحت الأجناس وفصل كل نوع من النوع الآخر بفصله الخاص له الذي لا يشاركه فيه غيره وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي لأنفسها التي هي أرواحها فنفس الإنسان حية ناطقة ونفس الحيوان حية غير ناطقة هذا هو طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالته عنه فلا سبيل إلى أن يصير غير الناطق ناطقاً ولا الناطق غير ناطق ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات وما أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة لانقسام الأشياء على حدودها.
وأما الفرقة الثالثة.
التي قالت أن الأرواح تنتقل إلى أجساد نوعها فيبطل قولهم بحول الله تعالى وقوته بطلاناً ضرورياً بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم ووجوب الابتداء له والنهاية من أوله وبما كتبناه في إثبات النبوة وإن جميع النبوات وردت بخلاف قولهم وببرهان ضروري عليهم وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما اشتباهاً تاماً من كل وجه يعلم هذا من تدبر اختلاف الصور واختلاف الهيآت وتباين الأخلاق وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها ولو لم يكن ما قلنا ما فرق أحد بينهما ألبتة وقد علمنا بالمشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيآن المشتبهان تكرراً كثيراً متصلاً أنه لابد أن يفصل بينهما وأن يميز أحدهما من الثاني وأن يجد في كل واحد منهما أشياء بان بها عن الآخر لا يشبهه فيها فصح بهذا أنه لا سبيل إلى وجود شخصين يتفقان في أخلاقهما كلها حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها وقد علمنا بيقين أن الأخلاق محمولة في النفس فصح بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أي نوع كانت غير النفس التي في غيره من الأجساد كلها ضرورة وقال أيضاً بعض من ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء أن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم فإذ هو كذلك فمحال أن يعذب من لا ذنب له قال فلما وجدناه تعالى يقطع أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا ذنب له وبطبخه وأكله ويسلط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ولا ذنب له علمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتعذب فيها
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد تكلمنا على إبطال هذا الأصل الفاسد في غير هذا المكان في باب الكلام على البراهمة في كتابنا هذا بما يكفي وقد رددنا الكلام أيضاً في بيان بطلانه في غير ما موضع من كتابنا وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة في كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين.
ويكفي من بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم إن طردتم هذا الأصل وقعتم في مثل ما أنكرتم ولا فرق وهوان الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه وقد كان قادراً على أن يطهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ويلطف بها ألطافاً فيصلحها بها حتى تستحق كلها إحسانه والخلود في النعيم وما كان ذلك ينقص شيئاً من ملكه فإن كان عاجزاً عن ذلك فهذه صفة نقص ويلزم حاملها أن يكون من أجل نقصه محدثاً مخلوقاً فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول المانوية في أن للأشياء فلاعلين وقد تقدم إبطالنا لقولهم وبالله تعالى التوفيق وبينا أن الذي لا آمر فوقه ولا مرتب عليه فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة وإذ قد تعلق هؤلاء القوم بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأت عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية فإذ لم يأت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام القول بتناسخ الأرواح فقد صار قولهم به خرافة وكذباً وباطلاً وبالله تعالى التوفيق
فصل في الكلام على من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد الناس عن العلم بها جملة
قال أبو محمد رضي الله عنه : نبين في هذا الفصل بحول الله تعالى وقوته وجوب صحة الشرائع على ما توجبه أصول الفلاسفة على الحقيقة أولهم عن آخرهم على اختلاف أقوالهم في غير ذلك إن شاء الله تعالى
قال أبو محمد رضي الله عنه : الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد وحسن السياسة للمنزل والرعية وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها أليست الفلسفة بإجماع من الفلاسفة مبينة للفضائل من الرذائل موقفة على البراهين المفرقة بين الحق والباطل فلا بد من نعم ضرورة فيقال له أليس الفلاسفة كلهم قد قالوا صلاح العالم بشيئين أحدهما باطن والآخر ظاهر فالباطن هو استعمال النفس للشرائع الزاجرة عن تظالم الناس وعن القبائح والظاهر هو التحصين بالأسوار واتخاذ السلاح لدفع العدو الذي يريد ظلم الناس والإفساد ثم أضافوا إلى إصلاح النفوس بما ذكرنا إصلاح الأجساد بالطب فلابد من نعم ضرورة فيقال لهم فهل صلاح العالم وانكفاف الناس عن القتل الذي فيه فناء الخلق وعن الزنا الذي فيه فساد النسل وخراب المواريث وعن الظلم الذي فيه الضرر على الأنفس والأموال وخراب الأرض وعن الرذائل من البغي والحسد والكذب والجبن والبخل والنميمة والغش والخيانة وسائر الرذائل إلا بشرائع زاجرة للناس عن كل ذلك فلابد من نعم ضرورة وإلا وجب الإهمال الذي فيه فساد كل ما ذكرنا فإذا لابد من ذلك ولولا ذلك لفسد العالم كله ولفسدت العلوم كلها ولكان الإنسان قد بطلت فضيلة الفهم والنطق والعقل الذي فيه وصار كالبهائم فلا تخلو تلك الشرائع من أحد وجهين إما أن تكون صحاحاً من عند الله عز وجل الذي هو خالق العالم ومدبره كما يقول أصحاب الشرائع وإما أن تكون موضوعة باتفاق من أفاضل الحكماء لسياسة الناس بها وكفهم عن التظالم والرذائل فإن كانت موضوعة كما يقول هؤلاء المخاذيل فقد تيقنا أن ما ألزموا الناس من ذلك كذب لا أصل له وزور مختلق وإيجاب لما لا يجب وباطل لا حقيقة له ووعيد ووعد كلاهما كذب فإن كان ذلك كذلك فقد صار الكذب الذي هو أرذل الرذائل وأعظم الشر لا يتم صلاح العالم الذي هو الغرض من طلب الفضائل إلا به وإذ ذلك كذلك فقد صار الحق باطلاً والصدق رذيلة وصار الباطل حقاً وصدقاً والكذب فضيلة وصار لا قوام للعالم أصلاً إلا بالباطل وصار الكذب نتيجة الحق وصار الباطل ثمرة الصدق وصار الغرور والغش والخديعة فضائل ونصيحة وهذا أعظم ما يكون من المحال والممتنع والخلف الذي لا مدخل له في العقل فإن قالوا أنه لو كشف السر في ذلك أتى العامة لم ترغب في الفضائل فوجب لذلك أن يؤتي بما ترهبه وتتقيه فاضطر في ذلك إلى الكذب لهم كما يفعل بالصبيان وكما أبحتم أنتم في شرائعكم كذب الرجل لامرأته ليستصلحها بذلك وفي دفاع الظالم على سبيل التقية وفي الحرب كذلك فيلزمكم في هذا ما ألزمتموه إيانا من أن الكذب صار حقاً وفضيلة
قال أبو محمد رضي الله عنه : فيقال لهم وبالله التوفيق أما نحن فقولنا أنه ليس كما ذكرتم قبيحاً إذ أباحه الله عز وجل الذي لا حسن إلا ما حسن وما أمر به ولا قبيح إلا ما قبح وما نهي عنه ولا آمر فوقه فلا يلزمه ما أردتم إلزامنا إياه ثم أيضاً على أصولكم فإنه ليس ما ذكرتم معارضة ولا ما شبهتم به مشبهاً لما شبهتموه به لأننا إنما أبحنا الكذب في الوجوه التي ذكرتم للضرورة الدافعة إلى ذلك بالنصر الوارد علينا بذلك كما جاز بالنص عند الضرورة دفع القتل عن النفس بقتل المريد لقتلها ولو أمكننا كف الصبي والمرأة بغير ذلك لما جاز الكذب أصلاً فإذا ارتفعت الضرورة وجب الرجوع إلى استعمال الصدق وعلى كل حال ولولا النص لم نبح شيئاً من ذلك ولا حرمناه وأنتم فيما تدعونه من مداراة الناس كلهم مبتدؤن لاختيار الكذب دون أن يأمركم به من يسقط عنكم اللوم بطاعته فأنتم لا عذر لكم على خلاف حكمنا في ذلك ثم إنكم لا تخلون من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن تطووا هذا السر عن كل أحد فتصيرون إلى ما ألزمناكم من أن قطع الصدق جملة فضيلة وأن الكذب على الجملة حق واجب وهذا هو الذي ألزمناكم ضرورة وإما أن تبوحوا بذلك لمن وثقتم به فهذا إن قلتم به يوجب ضرورة كشف سركم في ذلك لأنه لا يجوز البتة أن ينكتم أصلاً على كثرة العارفين به هذا أمر يعلم بالضرورة أن الشيء إذا كثر العارفون به فبالضرورة لابد من انتشاره فإن كنتم تقولون أن طيه واجب إلا عمن يوثق به وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به فقد رجعتم إلى وجوب كشفه لأن كشفه البتة هو نتيجة كشفه إلى خاص دون عام وفي كشفه بطلان ما دبرتموه صلاحاً فقد بطل حكمكم بالضرورة لاسيما والقائلون بهذا القول مجدون في كشف سرهم هذا إلى الخاص والعام فقد أبطلوا علتهم جملة وتناقضوا قبح تناقض وعلى كل ذلك فقد صار الباطل والكذب لا يتم الخير والفضائل البتة في شيء من الأشياء إلا بهما وهذا خلاف الفلسفة جملة وأيضاً فإن كانت الشرائع موضوعة فليس ما وضعه واضع ما بأحق بأن يتبع مما وضعه واضع آخر هذا أمر يعلم بالضرورة وقد علمنا بموجب العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلا في واحد وسائرها باطل فإذ لا شك في هذا فأي تلك الموضوعات هو الحق أم أيها هو الباطل ولا سبيل إلى أن يأتوا بما يحق منها شيئاً دون سائرها أصلاً فإذ لا دليل على صحة شيء منها بعينه فقد صارت كلها باطلة إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل وليس لأحد أن يأخذ بقول ويترك غيره بلا دليل فبطل بهذا بطلاناً ضورياً كل ما تعلقوا به والحمد لله رب العالمين.
وبطل بهذا البرهان الضروري ما توهمه هؤلاء الجهال المجانين وصح يقيناً أن الشرائع صحاح من عند منشىء العالم ومدبره الذي يريده بقأه إلى الوقت الذي سبق في علمه تعالى أنه يبقيه إليه كما هو وإذ ذلك كذلك ضرورة لا يخلو الحكم في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما ما أن تكون الشرائع كلها حقاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد رأيت منهم من يذهب إلى هذا وإما أن يكون بعضها حقاً وبعضها باطلاً لابد من أحد هذين الوجهين ضرورة فإن كانت كلها حقاً فهذا محال لا سبيل إليه لأنه لا شريعة منها إلا وهي تكذب سائرها وتخبر بأنها باطل وكفر وضلال وإلحادٌ فوجدنا هذا المخذول الذي أراد بزعمه موافقة جميع الشرائع قد حصل على خلاف جميعها أولها عن آخرها وحصل على تكذيب جميع الشرائع له كلها بلا خلاف وعلى تكذيبه هو لجميعها وما كان هكذا وهو يقول إنها كلها حق وهي كلها مكذبة له وهو مصدق لها كلها فقد شهد على نفسه بالكذب وبطلان قوله وصح باليقين أنه كاذب فيه وأيضاً فإن كل شريعة فهي مضادة في أحكامها لغيرها تحرم هذه ما تحل هذه وتوجب هذه ما تسقط هذه ومن المحال الفاسد أن يكون الشيء وضده حقاً معاً في وقت واحد حراماً حلالاً في حين واحد على إنسان واحد ووجه واحد واجباً كذلك وهذا أمر يعلمه باطلاً كل ذي حس سليم وليس في العقل تحريم شيء مما جاء فيها تحريمه ولا إيجاب شيء مما جاء فيها إيجابه فبطل أن يرجح بما في العقل إذ كل ذلك في حد الممكن في العقل فإذ قد بطل هذا الوجه ضرورة وهو أن الشرائع شريعة واحدة صحيحة من عند الله عز وجل وإن سائر الشرائع كلها باطل فإذ ذلك كذلك ففرض على كل ذي حس طلب تلك الشريعة وإطراح كل شريعة دون ذلك وإن جلت حتى يوقف عليها بالبراهين الصحاح إذ بها يكون صلاح النفس في الأبد وبجهلها يكون هلاك النفس في الأبد فالحمد لله الذي وفقنا لتلك الشريعة ووقفنا عليها وهدانا إلى طريقها وعرفناها حمداً كثيراً طيباً كما هو أهله ونحن نسأله تعالى أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن من أهلها وحملتها آمين رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسلم تسليماً كثيراً فمن نازعنا في هذا القول وادعاه لنفسه فنحن في ميدان النظر وحمل الأقوال على السير بالبراهين فسنزيف الباطل والدعاوي التي لا دليل عليها حيثما كانت وبيد من كانت ويلوح الحق ثابتاً حيثما كان وبيد من كان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الكلام على اليهود
وعلى من أنكر التثليث من النصارى ومذهب الصابئين وعلى من أقر بنبوة زرادشت من المجوس
قال أبو محمد رضي الله عنه : إن أهل هذه الملة يعني اليهود وأهل هذه النحلة يعني من أنكر التثليث من النصارى موافقون لنا في الإقرار بالتوحيد ثم بالنبوة وبآيات الأنبياء عليهم السلام دون بعض وكذلك وافقتنا الصابئة والمجوس على الإقرار ببعض الأنبياء فأما اليهود فإنهم قد افترقوا على خمس فرق وهي السامرية وهم يقولون إن مدينة القدس هي نابلس وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلاً ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه ولهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود ويبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وبعد يوشع عليه السلام فيكذبون بنبوة شمعون وداود وسليمان واشعيا واليسع والياس وعاموص وحبقوق وزكريا وارميا وغيرهم ولا يقرون بالبعث ألبتة وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها والصدوقية ونسبوا إلى رجل يقال له صدوق وهم يقولون من بين سائر اليهود أن العزير هو ابن الله تعالى الله عن ذلك وكانوا بجهة اليمن والعنانية وهم أصحاب عانان الداودي اليهودي وتسميهم اليهود العراس والمس وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة وما جاء في كتب الأنبياء عليهم السلام ويتبرؤن من قول الأحبار ويكذبونهم وهذه الفرقة بالعراق ومصر والشام وهم من الأندلس بطليطله وطليبره والربانية وهم الأشعنية وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم وهم جمهور اليهود والعيسوية وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني رجل من اليهود كان بأصبهان وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى وهم يقولون بنبوة عيسى بن مريم ومحمد ﷺ ويقولون أن عيسى بعثه الله عن وجل إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل وأنه أحد أنبياء بني إسرائيل ويقولن أن محمداً ﷺ نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل عليهم السلام وإلى سائر العرب كما كان أيوب نبياً في بني عيص وكما كان بلعان نبياً في بني مواب بإقرار من جميع فرق اليهود
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولقد لقيت من ينحو إلى هذا المذهب من خواص اليهود كثيراً وقرأت في تاريخ لهم جمعه رجل هاروني كان قديماً فيهم ومن كبارهم وأئمتهم وممن عصيت به ثلث بلدهم وثلث حروبهم وثلث جيوشهم أيام حرب طيطوس وخراب البيت وكان له في تلك الحروب آثار عظيمة وكان قد أدرك أمر المسيح عليه السلام واسمه يوسف ابن هارون فذكر ملوكهم وحروبهم إلى أن وصل إلى قتل يحيى بن زكريا عليه السلام فذكره أجمل ذكر وعظم شأنه وأنه قتل ظلماً لقوله الحق وذكر أمر المعمودية ذكراً حسناً لم ينكرها ولا أبطلها ثم قال في ذكره لذلك الملك هردوس بن هردوس وقبل هذا الملك من حكماء بني إسرائيل وخيارهم وعلمائهم جماعة ولم يذكر من شأن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام أكثر من هذا
قال أبو محمد رضي الله عنه : وإنما ذكرت هذا الكلام لأرى إن هذا المذهب كان فيه ظاهراً فاشياً في أئمتهم من حينئذ إلى الآن ثم انقسم اليهود جملة على قسمين فقسم أبطل النسخ ولم يجعلوه ممكناً والقسم الثاني أجازوه إلا أنهم قالوا لم يقع وعمدة حجة من أبطل النسخ أن قالوا إن الله عز وجل يستحيل منه أن يأمر بالأمر ثم ينهى عنه ولو كان كذلك لعاد الحق باطلاً والطاعة معصية والباطل حقاً والمعصية طاعة
قال أبو محمد رضي الله عنه : لا نعلم لهم حجة غير هذه وهي من أضعف ما يكون من التمويه الذي لا يقوم على ساق لأن من تدبر أفعال الله كلها وجميع أحكامه وآثاره تعالى في هذا العالم تيقن بطلان قولهم هذا لأن الله تعالى يحيي ثم يميت ثم يحيي وينقل الدولة من قوم أعزة فيذلهم إلى قوم أذلة فيعزهم ويمنح من شاء ما شاء من الأخلاق الحسنة والقبيحة لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ثم نقول لهم وبالله التوفيق ما تقولون فيمن كان قبلكم من الأمم المقبول دخولها فيكم إذا غزوكم أليس دماؤهم لكم حلالاً وقتلهم حقاً وفرضاً وطاعة ولابد من نعم فنقول لهم فإن دخلوا في شريعتكم أليس قد حرمت دماؤهم وصار عندكم قتلهم حراماً وباطلاً ومعصية بعد أن كان فرضاً وحقاً وطاعة فلا بد من نعم ثم إن عدوا في السبت وعملوا ليس قد عاد قتلهم فرضاً بعد أن كان حراماً فلا بد من نعم فهذا إقرار ظاهر منهم ببطلان قولهم وإثبات منهم لما أنكروه من أن الحق يعود باطلاً والأمر يعود نهياً وأن الطاعة تعود معصية وهكذا القول في جميع شرائعهم لأنها إنما هي أوامر في وقت محدود بعمل محدود فإذا خرج ذلك الوقت عاد ذلك الأمر منهياً عنه كالعمل هو عندهم مباح في الجمعة محرم يوم السبت ثم يعود مباحاً يوم الأحد وكالصيام والقرابين وسائر الشرائع كلها وهذا بعينه هو نسخ الشرائع الذي أبوه وامتنعوا منه إذ ليس معنى النسخ إلا أن يأمر الله عز وجل بأن يعمل عمل ما مدة ما ثم ينهى عنه بعد انقضاء تلك المدة ولا فرق في شيء من العقول بين أن يعرف الله تعالى ويخبر عباده بما يريد أن يأمرهم به قبل أن يأمرهم به ثم بأنه سينهى عنه بعد ذلك وبين أن لا يعرفهم به إذ ليس عليه تعالى شرط أن يعرف عباده بما يريد أن يأمرهم قبل أن يأتي الوقت الذي يريد إلزامهم فيه الشريعة وأيضاً فإن جميعهم مقربان شريعة يعقوب عليه السلام كانت غير شريعة موسى عليه السلام وإن يعقوب تزوج ليا وراحيل ابنتي لابان وجمعهما معاً وهذا حرام في شريعة موسى عليه السلام هذا مع قولهم أن موسى عليه السلام كانت عمة أبيه أخت جده وهي يوحانذا بنت لاوي وهذا في شريعة موسى حرام ولا فرق في العقول بين شيء أحله الله تعالى ثم حرمه وبين شيء حرمه الله ثم أحله والمفرق بين هذين مكابر للعيان مجاهر بالقحة ولو قلب عليه قالب كلامه ما كان بينهما فرق وفي توراتهم أن الله تعالى افترض عليهم بالوحي إلى موسى عليه السلام وأمرهم موسى بذلك في نص توراتهم أن لا يتركوا من الأمم السبعة الذين كانوا سكاناً في فلسطين والأردن أحداً أصلاً إلا قتلوه ثم أنه لما اختدعتهم الأمة التي يقال لها عباوون وهي إحدى تلك الأمم التي افترض عليهم قتلهم واستئصالهم فتحيلوا عليهم وأظهروا لهم أنهم أتوا من بلاد بعيدة حتى عاهدوهم فلما عرفوا بعد ذلك أنهم من السكان في الأرض التي أمروا بقتل أهلها حرم الله عز وجل عليهم قتلهم على لسان يوشع النبي بنص كتاب يوشع عندهم فأبقوهم ينقلون الماء والحطب إلى مكان التقديس وهذا هو النسخ الذي أنكروا بلا كلفة.
وفي توراتهم البداء الذي هو أشد من النسخ وذلك أن فيها أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام سأهلك هذه الأمة وأقدمك على أمة أخرى عظيمة فلم يزل موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه وأمسك عنهم وهذا هو البداء بعينه والكذب المنفيان عن الله تعالى لأنه ذكر أن الله تعالى أخبر أنه سيهلكهم ويقدمه عى غيره ثم لم يفعل فهذا هو الكذب بعينه تعالى الله عنه وفي سفر اشعيا أن الله تعالى سيرتب في آخر الزمان من الفرس خداماً لبيته
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو النسخ بعينه لأن التوراة موجبة أن لا يخدم في البيت المقدس أحد غير نبي لاوي بن يعقوب على حسب مراتبهم في الخدمة فعلى أي وجه أنزلوا هذا القول من اشعيا فهو نسخ لما في التوراة على كل حال وأما في الحقيقة فهو إنذار بالملة الإسلامية التي صار فيها الفرس والعرب وسائر الأجناس في المساجد ببيت المقدس وغيره التي هي بيوت
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما الطائفة التي أجازت النسخ إلا أنها أخبرت أنه لم يكن فإنه يقال لهم وبالله تعالى التوفيق بأي شيء علمتم صحة نبوة موسى عليه السلام ووجوب طاعته فلا سبيل إلى أن يأتوا بشيء غير إعلامه وبراهينه وإعلامه الظاهرة فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق إذا وجب تصديق موسى والطاعة لأمره لما ظهر من أحالة الطبائع على ما بيناه في باب الكلام في بيان إثبات النبوات فلا فرق بينه وبين من أتى بمعجزات غيرها وبإحالة لطبائع أخر وبضرورة العقل يعلم كل ذي حس أن ما أوجبه لنوع فإنه واجب لأجزائه كلها فإذا كانت إحالة الطبائع موجبة تصديق من ظهرت عليه فوجوب تصديق موسى وعيسى ومحمد ﷺ واجب وجوباً مستوياً ولا فرق بين شيء منه بالضرورة ويقال لهم ما الفرق بينكم في تصديقكم بعض من ظهرت عليه المعجزات وتكذيبكم بعضهم وبين من صدق من كذبتم وكذب من صدقتم كالمجوس المصدقين بنبوة زرادشت المكذبين بنبوة موسى وسائر أنبيائكم أو المانوية المصدقة بنبوة عيسى وزرادشت المكذبة بنبوة موسى أو الصابئين المكذبين بنبوة إبراهيم عليه السلام فمن دونه المصدقين بنبوة إدريس وغيره وكل هذه الفرق والملل تقول في موسى عليه السلام وفي سائر أنبيائكم أكثر مما تقولون أنتم في عيسى ومحمد عليهما السلام تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم وهي موجودة مشهورة وأقرب ذلك السامرية الذين ينكرون نبوة كل نبي لكم بعد موسى عليه السلام ولا سبيل إلى أن تأتوا على جميع من ذكرنا بفرق إلا أتوكم بمثله ولا تدعوا عليهم دعوى إلا ادعوا عليكم بمثلها ولا أن تطعنوا في نقلهم بشيء إلا أروكم في نقلكم مثله سواء بسواء وقد نبه الله تعالى على هذا البرهان بقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد فنص تعالى على أن طريق الإيمان بما آمنوا به من النبوة وطريق ما آمنا به نحن منها واحد وأنه لا فرق بين شيء من ذلك وأن الإيمان بالإله الباعث لموسى هو الإيمان بالإله الباعث لمحمد صلى الله عليهما وسلم وأن طريق كل ذلك طريق واحدة لا فرق فيها وبالله التوفيق
وأما شغب من شغب منهم بأننا نؤمن بموسى وهم لا يؤمنون بمحمد ﷺ فهو شغب ضعيف بارد لأنهم لا يخلون من أن يكونوا إنما صدقوا بنبوة موسى من أجل تصديقنا نحن ولولا ذلك لم يصدقوا به ويكون إنما صدقوا به لما أظهر من البرهان فقط فإن كانوا إنما صدقوا به من أجل تصديقنا نحن فواجب عليهم أن يصدقوا بمحمد ﷺ من أجل تصديقنا نحن به وإلا فقد تناقضوا وإن كان إنما صدقوا به لما أظهر من الآيات فلا معنى لتصديق من صدقه ولا لتكذيب من كذبه والحق حق صدقه الناس أو كذبوه والباطل باطل صدقه الناس أم كذبون ولا يزيد الحق درجة في أنه حق إطباق الناس كلهم على تصديقه ولا يزيده مرتبة في أنه باطل تكذيب الناس كلهم له ولا يظن ظان أننا في مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا المخالفين لنا في بعض أقوالنا بالإجماع وقد نقضنا كلامنا في هذا المكان فليعلم أننا لام ننقضه لأن الإجماع حجة قد قام البرهان على صحتها في الفتيا في دين الإسلام وما قام على صحته البرهان فهو حجة قاطعة على من خالفه وعلى من وافقه وأما إن نحتج على مخالفنا بأنه موافق لنا في بعض ما نختلف فيه فليس حجة علينا فإن وجد لنا يوماً من الأيام فإنما نخاطب به جاهلاً نستكف تخليطه بذلك أو نبكته لنريه تناقضه فقط وأيضاً فإنا إنما آمنا بنبوة موسى الذي أنذر بنبوة محمد ﷺ وبالتوراة التي فيها الإنذار برسالة محمد ﷺ باسمه ونسبه وصفة أصحابه رضي الله عنهم وهكذا نقول في عيسى والإنجيل حرفاً حرفاً لا بنبوة من لم ينذر بنبوة النبي ﷺ ولا نؤمن بموسى وعيسى ولا نؤمن بتوراة ولا إنجيل ليس فيهما الإنذار برسالة محمد ﷺ وصفة أصحابه بل نكفر بكل ذلك ونبرأ منهم فلم نوافقهم قط على ما يدعونه فبطل شغبهم الضعيف وبالله تعالى التوفيق وجملة القول في هذا أن نقل اليهود والنصارى فاسد لما ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى من عظيم الداخلة في كتبهم المبينة أنها مفتعلة وفساد نقلهم فإنما صدقنا بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام لأن محمداً ﷺ صدقهما وأخبرنا عنهما وعن أعلامهما ولولا ذلك لما صدقنا بهما ولكانا عندنا بمنزلة إلياس واليسع ويونس ولوط في ذلك كما أننا لا نقطع بصحة نبوة سموال وحقاي وحبقوق وسائر الأنبياء الذين عندهم كموسى وسائر من ذكرنا ولا فرق ولكن نقول آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان المذكورون أنبياء فنحن نؤمن بهم وإن لم يكونوا أنبياء فلا ندخل في أنبياء الله تعالى من ليس منهم بأخبار اليهود والنصارى الكاذبة التي لا أصل لها الراجعة إلى قوم كفار كاذبين وبالله تعالى نتأيد وقال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقال تعالى في الرسل منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فنحن نؤمن بالأنبياء جملة ولا نسمي منهم إلا من يسمي محمد ﷺ فقط
قال أبو محمد رضي الله عنه : ويقال لسائر فرق اليهود حاشا السامرية ما الفرق بينكم وبين السامرية الذين كذبوا بنبوة كل نبي صدقتم أنتم به بعد يوشع بمثل ما كذبتم أنتم به عيسى ومحمداً ﷺ لم يأتيا بالمعجزات بأن كذبهم ومجاهرتهم إذ قد نقلت الكواف عن النبي ﷺ أنه سقى العسكر في تبوك وهم ألوف كثيرة من قدح صغير نبع فيه الماء من بين أصابعه عليه السلام وفعل أيضاً مثل ذلك بالحديبية وأنه أطعم عليه السلام في منزل أبي طلحة أهل الخندق حتى شبعوا وفي منزل جابر أيضاً ورمى هوازن في جيش فعمت عيون جميعهم بتراب يده وفيها أنزل الله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وشق القمر وسأله قومه آية فأنزل الله تعالى في ذلك اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر وكذلك حنين الجذع الذي سمعه كل من حضره من الصحابة رضوان الله عنهم ومن أبهر ذلك وأعظمه قوله لليهود الذين كانوا معه في وقته وهم زيادة على ألف بلا شك ولعلهم كانوا ألوفاً وهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو أهدل وبنو قينقاع أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في تكذيبهم نبوته وأعلمهم أنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً فعجزوا عن ذلك أي عن تمني الموت وحيل بينهم وبين النطق بذلك وهذه قصة منصوصة في صورة الجمعة يقرأ بها كل يوم جمعة في جميع جوامع المسلمين من شرق الدنيا إلى غربها وقد كان أسهل الأمور عليهم أن يكذبوا بأن يتمنوا الموت لو استطاعوا وهم يسمعونه يقول فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا أمر لايدفعه إلا وقاح جاهل مكابر للعيان لأن القرون والاعصار نقلت هذه الآيات جيلاً جيلاً يخاطبون بها فكل أذعن وأقر ولم يمكن أحداً دفعه ودعا عليه السلام من حين مبعثه العرب كلهم على فصاحة ألسنتهم وكثرة استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز والتصرف في أفانين البلاغة والألفاظ المركبة على وجوه المعاني إلى أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثم ردهم إلى سورة فعجزوا كلهم عن ذلك على سعة بلادهم طولاً وعرضاً وأنه ﷺ أقام بين أظهرهم ثلاثة وعشرين عاماً يستسهلون قتاله والتعرض لسفك دمائهم واسترقاق ذراريهم وقد أضربوا عما دعاهم إليه من المعارضة للقرآن جملة
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا لا يخفى على من له أقل فهم أنه إنما حملهم على ذلك العجز عما كلفهم من ذلك وارتفاع قوتهم عنه وأنه قد حيل بينهم وبين ذلك ثم عم الدنيا من البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل الناقد ويطيلون في المعنى التافة إظهاراً لاقتدارهم على الكلام جماعات لا بصائر لهم في دين الإسلام منذ أربعمائة عام وعشرين عاماً فما منهم أحد يتكلف معارضته إلا افتضح وسقط وصار مهزأة ومعيرة يتماجن به وبما أتى به ويتطائب عليه منهم مسيلمة بن حبيب الحنفي لما رام ذلك لم ينطق لسانه إلا بما يضحك الثكلى وقد تعاطى بعضهم ذلك يوماً في كلام جرى بيني وبينه فقلت له اتق الله على نفسك فإن الله تعالى قد منحك من البيان والبلاغة نعمة سبقت بها ووالله لئن تعرضت لهذا الباب بإشارة ليسلبنك الله هذه النعمة وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة كما فعل بمن رام هذا من قبلك فقال لي صدقت والله وأظهر الندم والإقرار بقبحه
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الذي ذكرنا مشاهد وهي آية باقية إلى اليوم وإلى انقضاء
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد ظن قوم إن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن في أعلا طبقات البلاغة
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا خطأ شديد ولو كان ذلك وقد أبى الله عز وجل أن يكون لما كان حينئذٍ معجزة لأن هذه صفة كل باسق في طبقته والشيء الذي هو كذلك وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أن الله عز وجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله ورفع عنهم القوة في ذلك جملة وهذا مثل لو قال قائل إني أمشي اليوم في هذه الطريق ثم لا يمكن أحداً بعدي أن يمشي فيها وهو ليس بأقوى من سائر الناس وأما لو كان العجز عن المشي لصعوبة الطريق وقوة هذا الماشي لما كانت آية ولا معجزة وقد بينا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس لأن فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة وقد روينا عن أنيس أخي أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما أنه سمع القرآن فقال لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء وألسنة الشعراء فلم أجده يوافق ذلك أو كلاماً هذا معناه فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله ولنا في هذا رسالة مستقصاة كتبنا بها إلى أبي عامر أحمد بن عبد الملك ابن شهيد وسنذكر منها هنا إن شاء الله تعالى ما فيه كفاية في كلامنا مع المعتزلة والأشعرية في خلق القرآن من ديواننا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال أبو محمد رضي الله عنه : فإن قال قائل أنه منع المعارضون حينئذٍ من المعارضة أو عارضوا فستر ذك قيل له وبالله التوفيق لو أمكن ما تقول لأمكن لغيرك أن يدعي في آيات موسى عليه السلام مثل ذلك بل كان يكون أقرب إلى التلبيس لأن في توراتكم أن السحرة عملوا مثل ما عمل موسى عليه السلام حاشا البعوض خاصة فإنهم لم يطيقوه
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو الباطل والتبديل الظاهر لأن السحر لا يحيل عيناً ولا يقلبها ولا يحيل طبيعة إنما هو حيل قد بينا الكلام فيها بعون الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب وفي غيره
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا الاعتراض هو على سبيل إبطال الكواف لا سبيل من أقر بشيء منها ثم يقال كل من ولي الأمر بعده عليه السلام معروف ليس منهم أحد إلا وله أعداء يخرجون من عداوته إلى أبعد الغايات من الحنق والغيظ فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما تعاديهما الرافضة وتبلغ عداوتهما وتكفيرهما أقصى الغايات وما قال قط أحد مؤمن ولا كافر عدو لهما ولا ولي أن أحداً منهما أجبر أحداً على الإقرار بآيات محمد ﷺ ولا على ستر شيء عورض به ولا قدر أن يقول هذا أيضاً يهودي ولا نصراني وكذلك عثمان أيضاً وعلي تعاديهما الخوارج وتخرج في عداوتهما وتكفيرهما إلى أبعد الغايات ما قال قط قائل في أحدهما شيئاً من هذا وحتى لو رام أحد من الملوك ذلك لما قدر عليه لأنه لا يملك أيدي الناس ولا ألسنتهم يصنعون في منازلهم ما أحبوا وينشرونه عند من يثقون به حتى ينتشر وهذا أمر لا يقدر على ضبطه والمنع منه أحد لاسيما مع انخراق الدنيا وسعة أقطارها من أقصى السند إلى أقصى الأندلس فلو أمكنت معارضته ما تأخر عن ذلك من له أدنى حظ من استطاعة عند نفسه على ذلك ممن لا بصيرة له في الإسلام في شرق الأرض وغربها فإن قال قائل من اليهود أن موسى عليه السلام قال لهم في التوراة لا تقبلوا من نبي أتاكم بغير هذه الشريعة
قال أبو محمد رضي الله عنه : قلنا له وبالله تعالى التوفيق لا سبيل إلى أن يقول موسى عليه السلام هذا بوجه من الوجوه لأنه لو قال ذلك لكان مبطلاً لنبوة نفسه وهذا كلام ينبغي أن يتدبر وذلك أنه لو قال لهم لا تصدقوا من دعاكم إلى غير شريعتي وإن جاء بآيات فإنه يلزمه إذا كانت الآيات لا توجب تصديق غيره إذا أتى بها في شيء دعا إليه فهي غير موجبة تصديق موسى عليه السلام فيما أتى به إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره إذ بالآيات صحت الشرائع ولم تصح الآيات بالشرائع لأن تصديق الشريعة موجبة للآية والآية موجبة تصديق الشريعة ومن قال
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأيضاً فإن هذا القول المنسوب إلى موسى عليه السلام كذب موضوع ليس في التوراة شيء منه وإنما فيها من أتاكم يدعي نبوة وهو كاذب فلا تصدقوه فإن قلتم من أين نعلم كذبه من صدقه فانظروا فإذا قال عن الله شيئاً ولم يكن كما قال فهو كاذب هذا نص ما في التوراة فصح بهذا أنه إذا أخبر عن الله تعالى بشيء فكان كما قال فهو صادق وقد وجدنا كلما أخبر به النبي ﷺ في غلبة الروم على كسرى وإنذاره بقتل الكذاب العنسي ويوم ذي قار وبخلع كسرى وبغير ذلك فإن قالوا إن في التوراة أن هذه الشريعة لازمة لكم في الأبد قلنا هذا محال في التأويل لأنه كذلك أيضاً فيها أن هذه البلاد يسكنونها أبداً وقد رأيناهم بالعيان خرجوا عنها
قال أبو محمد رضي الله عنه : فإن قال قائل فقد قال لكم محمد ﷺ لا نبي بعدي قيل لهم وبالله تعالى نتأيد ليس هذا الكلام مما ادعيتموه على موسى عليه السلام لأننا قد علمنا من أخباره عليه السلام أنه لا سبيل إلى أن يظهر أحد آية بعده أبداً ولو جاز ظهورها لوجب تصديق من أظهرها ولكنا قد أيقنا أنه لا تظهر آية على أحد بعده عليه السلام بوجه من الوجوه فإن قال قائل وكيف تقولون في الدجال وأنتم ترون أنه يظهر له عجائب فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن المسلمين فيه على أقسام فأما ضرار ابن عمرو وسائر الخوارج فإنهم ينفون أن يكون الدجال جملة فكيف أن يكون له آية وأما سائر فرق المسلمين فلا ينفون ذلك والعجائب المذكورة عنه إنما جاءت بنقل الآحاد وقال بعض أصحاب الكلام أن الدجال إنما يدعي الربوبية ومدعي الربوبية في نفس قوله بيان كذبه قالوا فظهور الآية عليه ليس موجباً لضلال من له عقل وأما مدعي النبوة فلا سبيل إلى ظهور الآيات عليه لأنه كان يكون ضلالاً لكل ذي عقل
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما قولنا في هذا فهو أن العجائب الظاهرة من الدجال إنما هي حيل من نحو ما صنع سحرة فرعون ومن باب أعمال الحلاج وأصحاب العجائب يدل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة إذ قال للنبي ﷺ أن معه نهر ماء ونهر خبز فقال له رسول الله ﷺ هو أهون على الله من ذلك حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث حدثنا أحمد بن عبد الرحيم حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد بن بشار بندار حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا هشام بن حسان الفردوسي حدثنا حميد بن هلال عن أبي الدهماء عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال من سمع من أمتي الدجال فلينأ عنه فإن الرجل يأتيه وهو يحسبه مؤمن فيتبعه مما يرى من الشبهات
قال أبو محمد رضي الله عنه : فصح بالنص أنه صاحب شبهات
قال أبو محمد رضي الله عنه : وبهذا تتألف الأحاديث وقد بين رسول الله ﷺ في هذا الحديث أن ما يظهر الدجال من نهر ماء ونار وقتل إنسان وإحيائه أن ذلك حيل ولكل ذلك وجوه إذا طلبت وجدت فقد تحيل ببعض الأجساد المعدنية إذا أذيب أه ماء وتحيل بالنفظ الكاذب أنه نار ويقتل إنسان ويغطي وآخر معدٌّ مخبو فيظهر ليرى أنه قنل ثم أحيي كما فعل الحسين بن منصور الحلاج في الجدي الأبلق وكما فعل الشريعي والنميري بالبغلة وكما فعل زبزن بالزرزور وأنا أدري من يطعم الدجاج الزرنيخ فتخدر ولا يشك في موتها ثم يصب في حلوقها الزيت فتقوم صحاحاً وإنما كانت تكون معجزة لو أحيى عظاماً قد أرمت فيظهر نبات اللحم عليها فهذه كانت تكون معجزة ظاهرة لا شك فيها ولا يقدر غير نبي عليها ألبتة وقد رأينا الدبر يلقى في الماء حتى لا يشك أحد أنها ميتة ثم كنا نضعها للشمس فلا تلبث أن تقوم وتطير وقد بلغنا مثل ذلك في الذباب المسترخي في الماء إذا ذر عليه سحق الآجر الجديد وآيات الأنبياء عليهم السلام لا تكون من وراء حائط ولا من مكان بعينه ولا من تحت ستارة ولا تكون إلا بادية مكشوفة وقد فضحت أنا حيلة أبي محمد المعروف بالحرق في الكلام المسموع بحضرته ولا يرى المتكلم وسمت بعض أصحابه أن يسمعني ذلك في مكان آخر أو بحيث الفضاء دون بنيان فامتنع من ذلك فظهرت الحيلة وإنما هي قصبة مثقوبة توضع وراء الحائط على شق خفي ويتكلم الذي طرف القصبة على فيه على حين غفلة ممن في المسجد كلمات يسيرة الكلمتين والثلاث لا أكثر من ذلك فلا يشك من في البيت مع المحرق الملعون في أن الكلام اندفع بحضرتهم وكان المتكلم في ذلك محمد بن عبد الله الكاتب صاحبه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون قيل وبالله تعالى التوفيق هذا يخرج على وجهين أحدهما أن معنى قوله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون إنما هو على معنى التبكيت لمن قال ذلك وأورد تعالى كلامهم وحذف ألف الاستفهام وهذا موجود في كلام العرب كثيراً والثاني أنه إنما عنى تعالى بذلك الآيات المشترطة في الرقا إلى السماء وأن يكون معه ملك وما أشبه هذا وليس على الله تعالى شرط لأحد
قال أبو محمد رضي الله عنه : والقول الأول هو جوابنا لأن الله تعالى لا شيء يمنعه عنما يريد وكذلك إن اعترض معترض بقول النبي ﷺ ما من الأنبياء إلا من قد أوتي ما على مثله آمن البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة قيل لهم وبالله التوفيق إنما عنى رسول الله ﷺ هذا القول آيته الكبرى الثابتة الباقية أبد الآباد التي هي أول معجزته حين بعث وهي القرآن لبقاء هذه الآية على الآباد وإنما جعلها عليه السلام بخلاف سائر آيات الأنبياء عليهم السلام لأن تلك الآيات يستوي في معرفة إعجازها العالم والجاهل وأما إعجاز القرآن فإنما يعرفه العلماء بلغة العرب ثم يعرفه سائر الناس بأخبار العلماء لهم بذلك مع ما في التوراة من الإنذار البين برسول الله ﷺ من قوله تعالى فيها سأقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم أجعل على لسانه كلامي فمن عصاه انتقمت منه
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولم تكن هذه الصفة لغير محمد ﷺ وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وقوله في السفر الخامس منها جاء الله من سينا والشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران
قال أبو محمد رضي الله عنه : وسيناء هو موضع مبعث موسى عليه السلام بلا شك وساعير هو موضع مبعث عيسى عليه السلام وفاران بلا شك هي مكة موضع مبعث محمد ﷺ بيان ذلك أن إبراهيم عليه السلام أسكن إسماعيل فاران ولا خلاف بين أحد في أنه إنما أسكنه مكة فهذا نص على مبثع النبي ﷺ والرؤيا التي فسرها دانيال في أمر الحجر الذي رأى الملك في نومه الذي دق الصنم الذي كان بعضه ذهباً وبعضه فضة وبعضه نحاساً وبعضه حديد أو بعضه فخار وخلطه كله وطحنه وجعله شيئاً واحداً ثم ربى الحجر حتى ملأ الأرض ففسره دانيال أنه نبي يجمع الأجناس ويبلغ ملك أمره ملء الآفاق فهل كان نبي قط غير محمد ﷺ جمع الأجناس كلها على اختلافها واختلاف لغاتها وأديانها وممالكها وبلادها فجعلهم جنساً واحداً ولغة واحدة وأمة واحدة ومملكة واحدة وديناً واحداً فإن العرب والفرس والنبط والأكراد والترك والديلم والجيل والبربر والقبط ومن أسلم من الروم والهند والسودان على كثرتهم كلهم ينطقون بلغة واحدة وبها يقرؤن القرآن وقد صار كل من ذكرنا أمة واحدة والحمد لله رب العالمين فصحت النبوة المذكورة بلا أشكال والحمد لله رب العالمين وكل ما ذكرنا في هذا الباب أنه يدخل على النصارى الذين يقولون بنبوة عيسى عليه السلام فقط من الأريوسية والمقدونية والبولقانية سواء سواء مع ما في الإنجيل من دعاء المسيح عليه السلام في قوله اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن البشر إنسان
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا غاية البيان لمن عقل لأن المسيح عليه السلام علم أنه سيغلوا قومه فيه فيقولون أنه الله وأنه ابن الله فدعا الله في أن يبعث الذي يبين للناس أنه ليس إلهاً ولا ابن إله وإنما هو إنسان من ولد امرأة من البشر فهل أتي بعده نبي يبين هذا إلا محمد ﷺ وهذا لا يحيل بيانه على ذي حس سليم وإنصاف ونسأل الله إيزاع الشكر على ما وفق له من الهدى فإن قال قائل فإن المجوس تصدق بنبوة زرادشت وقوم من اليهود بنبوة أبي عيسى الأصبهاني وقوم من كفرة الغالية يصدقون بنبوة يزيع الحائك والمغيرة بن سعيد وبنان بن سمعان التميمي وغيرهم من كلاب الغالية فالجواب وبالله تعالى التوفيق.
أن أبا عيسى وبنان ويزيعاً وسائر من تدعي له الغالية بنبوة أو إلهية من خيار الناس وشرارهم لم تظهر لواحد منهم آية بوجه من الوجوه والآيات لا تصح إلا بنقل الكواف وكل هؤلاء كان بعد رسول الله ﷺ وقد أخبر الذي جاءت البراهين بصدقه ﷺ أنه لا نبي بعده فقد صح البرهان ببطلان ما ادعى لهؤلاء من النبوة وأما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته
قال أبو محمد رضي الله عنه : ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله ﷺ لمن صحت عنه معجزة قال الله عز وجل وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقال عز وجل ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وقالوا إن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفتري منهم وبرهان ذلك أن المنانية تنسب إليه مقالتهم وأقوال هؤلاء كلهم متضادة لا سبيل إلى أن يقول بها قائل واحد صادق ولا كاذب في وقت واحد وكذا المسيح عليه السلام ينسب إليه الملكانية قولهم في التثليث وتنسب إليه النسطورية قولهم أيضاً وكذلك اليعقوبية وتنسب إليه المنانية أيضاً قولهم وكذلك المزقونية وهذا برهان ظاهر على كذب جميعهم عليهما بلا شك وقد رامت الغالية مثل هذا في القرآن ولكن قد تولى الله حفظه وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ وعند ثلاثة وشعرين هربذاً لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ولا يباح بشيءٍ من ذلك لأحد سواهم ثم دخل فيه الخرم يا حراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبتهم لدار ابن دارا وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم وكذلك التوراة إنما كانت طول مدة ملك بني إسرائيل عند الكوهن الأكبر الهاروني وحده لا ينكر ذلك منهم إلا كذاب مجاهر وكذلك الإنجيل إنما هي كتب أربعة مختلفة من تأليف أربعة رجال فأمكن في كل ذلك التبديل وقد نقلت كواف المجوس الآيات المعجزات عن زرادشت كالصفر الذي أفرغ وهو مذاب على صدره فلم يضره وقوائم الفرس التي غاصت في بطنه فأخرجها وغير ذلك وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه والحمد لله رب العالمين ويكفى من ذلك صحة أخذ رسول الله ﷺ الجزية منهم وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما العيسوية من اليهود فإنه يقال لهم إذا صدقتم الكافة في نقل القرآن عن النبي ﷺ من أنه عليه السلام بعث إلى الناس كافة بقوله تعالى فيه آمراً لرسوله ﷺ أن يقول يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقوله تعالى فيه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وما فيه من دعاء اليهود إلى ترك ما هم عليه والرجوع إلى شريعته عليه السلام وهذا ما لا مخلص منه فإن اعترضوا بما في القرآن مما حرم عليهم يعني اليهود وحضهم على التزام السبت.
فإنما هو تبكيت لهم فيما سلف من أسلافهم الذين قفواهم آثارهم يبين هذا نص القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه رسول الله ﷺ إلى بني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وهذا نص جلي على نسخ شريعتهم وبطلانها ثم ما لم ينكره أحد من مؤمن ولا كافر من أنه عليه السلام حارب يهود بني إسرائيل من بني قريظة والنضير وهذل وبين قينقاع وقتلهم وسباهم وألزمهم الجزية وسماهم كفاراً إذ لم يرجعوا إلى الإسلام وقبل إسلام من أسلم منهم فلو لم يكن نسخ دينهم ما حل له إجبارهم على تركه أو الجزية والصغار ولا جاز له قبول ترك ما ترك منهم بدين بني إسرائيل ومن المحال الممتنع أن يكون عند العيسويين رسولاً صادقاً نبياً ثم يجور ويظلم ويبدل دين الحق فوضح فساد قولهم وتناقضه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين وهكذا يقال لمن أقر بنبوة بعض الأنبياء عليهم السلام من فرق الصابئين كإدريس وغيره ممن لا يوقن بصحة قولهم فيه كعادمون واسقلابيوس وايلون وغيرهم وللمجوس المقتصرين على زرادشت فقط أخبرونا بأي شيء صحت نبوة من تدعون له النبوة فليس ههنا إلا صحة ما أتوا به من المعجزات فيقال لهم فإن النقل إلى محمد ﷺ في معجزاته أقرب عهداً وأظهر صحة وأكثر عدداً ناقلين وأدخل في الضرورة ولا فرق ولا مخلص لهم من هذا أصلاً لأنه نقل ونقل إلا أن نقلنا أفشى وأظهر وأقوى انتشاراً ومبدأ هذا مع ذهاب دين الصابئين وانقطاعهم ورجوع نقلهم إلى من لا يقوم بهم حجة لقلتهم ولعلهم اليوم في جميع الأرض لا يبلغون أربعين وأما المجوس فإنهم معترفون مقرون بأن كتابهم الذي فيه دينهم أحرقه الإسكندر إذ قتل دارا بن دارا وأنه ذهب منه الثلثان وأكثر وأنه لم يبق منه إلا أقل من الثلث وأن الشرائع كانت فيما ذهب فإذ هذا صفة دينهم فقد بطل القول به جملة لذهاب جمهوره وأن الله تعالى لا يكلف أحداً ما لا يتكفل بحفظه حتى يبلغ إليه وفي كتاب لهم اسمه خذاي بأنه يعظمونه جداً أن أنوشروان الملك منع من أن يتعلم دينهم في شيء من البلاد إلا في أزدشير خرة وفشا من داتجرد فقط وكان قبله لا يتعلم إلا باصطخر فقط وكان لا يباح إلا لقوم خصائص وكتابهم الذي بقي بعد ما أحرق الإسكندر ثلاثة وعشرون سفراً فلهم ثلاثة وعشرون هربذاً لكل هربذ سفر لا يتعداه إلى غيره وموبذ موبذ أن يشرف على جميع تلك الأسفار وما كان هكذا فمضمون تبديله وتحريفه وكل نقل هكذا فهو فاسد لا يوجب القطع بصحته هذا إلى ما في كتبهم التي لا يصح دينهم إلا بالإيمان بها من الكذب الظاهر كقولهم أن جرم الملك كان يركب إبليس حيث شاء وإن مبدأ الناس من بقلة الريباس وهي الشرالية ومن ولادة بيروان سياوش بن كيفاوش نبي مدينة كنكدر بين السماء والأرض وأسكنها ثمانين ألف راجل من أهل البيوتات هم فيها إلى اليوم فإذا ظهر بهرام هماوند على البقرة ليرد ملكهم نزلت تلك المدينة إلى الأرض ونصروه وردوا دينهم وملكهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : وكل كتاب دون فيه الكذب فهو باطل موضوع ليس من عند الله عز وجل فظهر من فساد دين المجوس كالذي ظهر من فساد دين اليهود والنصارى سواء سواء والحمد لله رب العالمين
فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة
في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة وفي سائر كتبهم وفي الأناجيل الأربعة يتيقن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير الذي أنزل الله عز وجل
قال أبو محمد رضي الله عنه : نذكر إن شاء الله تعالى ما في الكتب المذكورة من الكذب الذي لا يشك كل ذي مسكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى وعلى الملائكة عليهم السلام وعلى الأنبياء عليهم السلام إلى أخبار أوردوها لا يخفي الكذب فيها على أحد كما لا يخفى ضوء النهار على ذي بصر وقد كنا نعجب من إطباق النصارى على تلك الأقوال الفاسدة المتناقضة التي لا يخفى فسادها على أحد به رمق إلى أن وقفنا على ما بأيدي اليهود فرأينا أن سبيلهم وسبيل النصارى واحدة كشق الأنملة وثبت بذلك عند كل منصف من المخالفين صحة قولنا أن كل من خالف دين الإسلام ونحلة السنة ومذهب أصحاب الحديث فإنه عارف بضلال ما هم عليه إلا أنهم بخذلان الله تعالى إياهم مكابرون لعقولهم مغلبون لأهوائهم وظنونهم على يقينهم تقليداً لأسلافهم وعصبية واستدامة لرياسة دنيوية وهكذا وجدنا أكثر من شاهدناه من رؤسائهم فنحمد الله كثيراً على ما هدانا له من الإسلام ونحلة السنة واتباع الآثار الثابتة ونسأله تثبيتنا على ذلك وأن يجعلنا من الدعاة إليه حتى يدعونا إلى رحمته ورضوانه عند لقائه آمين
قال أبو محمد رضي الله عنه : وليعلم كل من قرأ كتابنا هذا أننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئاً يمكن أن يخرج عل وجه ما وإن دق وبعد فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له وكذلك أيضاً لم نخرج منه كلاماً لا يفهم معناه وإن كان ذلك موجوداً فيها لأن للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيه ولا وجه أصلاً إلا الدعاوي الكاذبة التي لا دليل عليها أصلاً لا محتملاً ولا خفياً
فصل أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود
قال أبو محمد رضي الله عنه : أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود يزعمون أنها المنزلة ويقطعون أن التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة وسائر اليهود يقولون أن التي بأيدي السامرية محرفة مبدلة ولم إلى آخره ولم يقع إلينا توراة السامرية لأنهم لا يستحلون الخروج عن فلسطين والأردن أصلاً إلا أننا قد أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السامرية أيضاً محرفة مبدلة عندما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربانيهم وعانانيهم وعيسويهم
في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربانيهم وعانانيهم وعيسويهم حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها لا يختلفون فيها على صفة واحدة لو رام أن يزيد فيها لفظة أو ينقص أخرى لافتضح عند جميعهم مبلغة ذلك إلى أحبارهم الذين كانوا أيام ملك الهارونية لهم قبل الخراب الثاني بدهر يذكرون أنها مبلغة ذلك من أولئك إلى عذراء الوراق الهاروني ففي صدرها قال الله تعالى اصنع بناء آدم كصورتنا كشبهنا
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولو لم يقل إلا كصورتنا لكان له وجه حسن ومعنى صحيح وهو أن نضيف الصورة إلى الله تعالى إضافة الملك والخلق كما تقول هذا عمل الله وتقول للقرد والقبيح والحسن هذه صورة الله أي تصوير الله والصفة التي انفرد بملكها وخلقها لكن قوله كشبهنا منع التأويلات وسد المخارج وقطع السبل وأوجب شبه آدم لله عز وجل ولابد ضرورة وهذا يعلم بطلانه ببديهة العقل إذ الشبه والمثل معناهما واحد وحاشى لله أن يكون له مثل أو شبه فصل وبعد ذلك قال ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان ومن ثم يفترق فيصير أربعة رؤس.
اسم أحدها النيل وهو محيط بجميع بلاد زويله الذي به الذهب وذهب ذلك البلد جيد وبها اللؤلؤ وحجارة البلور.
واسم الثاني جيجان وهو محيط بجميع بلاد الحبشة.
واسم الثالث الدجلة وهو السائر شرق الموصل.
واسم الرابع الفرات وأخذ الله آدم ووضعه في جنات عدن
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الكلام من الكذب وجوه فاحشة قاطعة بأنها من توليد كذاب مستهزأ أول ذلك أخباره أن هذه الأربعة تفترق من النهر الذي يخرج من جنات عدن التي أسكن الله فيها آدم غذ خلقه ثم أخرجه منها إذ أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن أكلها وكل من له أدنى معرفة بالهيئة وبنصبة الربع المعمور من الأرض الذي هو في سماك الأرض أو من مشى إلى مصر والشام والموصل يدري أن هذا كله كذب فاضح وأن مخرج النيل من عين الجنوب من خارج المعمور ومصبه قبالة تنيس وقبالة الإسكندرية في آخر أعمال مصر في البحر الشامي وأن مخرج الدجلة والفرات وجيجان من الشمال.
فأما جيجان فيخرج من بلاد الروم ويمر ما بين المصيصة وربضها المسمى كفرينا حتى يصب في البحر الشامي على أربعة أميال من المصيصة وأما دجلة فمخرجها من أعين بقرب خلاط من عمل أرمينية بقرب آمد من ديار بكر وتصب مياهها في البطائح المشهورة بقرب البصرة في أرض العراق متأخمه أرض العرب.
وأما الفرات فمخرجه من بلاد الروم على يوم من قالى قلا قرب أرمينيه ثم يخرج إلى ملطيه ثم يأخذ على أعمال الرقه إلى العراق وينقسم إلى قسمين كلاهما يقع في دجلة فهذه كذبة شنيعة كبيرة لا مخلص منها والله تعالى لا يكذب وأخرى وهي قوله إن النيل محيط ببلد زويلة.
وجيجان محيط ببلد الحبشة وهذه كذبة شنيعة فاحشة ما في جميع أرض السودان الحبشة وغير الحبشة نهر غير النيل أصلاً ويتفرع سبعة فروع كلها مخرج واحد ثم يجتمع فوق بلاد النوبة.
وكذبة ثالثة وهي قوله أن ببلد زويلة اللؤلؤ الجيد وهذا كذب ما للؤلؤ بها مكان أصلاً إنما اللؤلؤ في مغاصاته في بحر فارس وبحر الهند وأنهار بالهند والصين وهذه فضايح لا خفاء بها لم يقلها الله تعالى قط ولا إنسان يهاب الكذب.
فإن قال قائل فقد صح عن نبيكم ﷺ أنه قال النيل والفرات وسيحان وجيجان من أنهار الجنة قلنا نعم هذا حق لاشك فيه ومعناه هو على ظاهره بلا تكليف تأويل أصلاً وهي أسماء لأنهار الجنة كالكوثر والسلسبيل.
فإن قيل قد صح عنه عليه السلام أنه قال ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة وروي عنه مقبري ومنبري روضة من رياض الجنة.
قلنا هذا حق وهو من أعلام نبوته لأنه أنذر بمكان قبره فكان كما قال وذلك المكان لفضله وفضل الصلاة فيه يؤدي العمل فيه إلى دخول الجنة فهي روضة من رياضها وباب من أبوابها ومعهود اللغة أن كل شيء فاضل طيب فإنه يضاف إلى الجنة ونقول لمن بشرنا بخبر حسن هذا من الجنة وقال الشاعر : روائح الجنة في الشباب.
وليس كذلك هذا الذي في توراة اليهود لأن واضعها لم يدعلها في لبس من كذبه بل بين أنه عنى النيل المحيط بأرض زويلة بلد الذهب الجيد ودجلة التي بشرقي الموصل وجيجان المحيط ببلد الحبشة التي لم تخلق بعد فلم يدع لطالب تأويل لكلامه حيلة ولا مخرجاً وأيضاً فإنهم لا يمكنهم ألبتة تخريج ما في توراتهم المكذوبة على ما وصفنا نحن الآن في نص توراتهم أن الجنة التي أخرج منها آدم لأكله من الشجرة التي فيها إنما هي هي شرقي عدن في الأرض لا في السماء كما نقول نحن فثبتت الكذبة لا مخرج منها أصلاً ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في بيان أنها موضوعة لم يأت بها موسى قط ولا هي من عند الله تعالى فكيف ولها نظائر ونظائر ونظائر.
فإن قيل في القرآن ذكر سد يأجوج ومأجوج ولا يدري مكانه ولا مكانهم قلنا مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمور منه.
وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد ارسطاطاليس في كتابه في الحيوان عند كلامه على الغرانيق وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى جغرافيا.
وذكر طول بلادهم وعرضها وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس فهيهات خبر من خبر وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيءٍ من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة الشمالية بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل.
واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان فادخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل أو مجاهل لاسيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره وإنما الشأن في المحال الممتنع التي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر ونعوذ بالله من البلاء
فصل وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر
ثم قال وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر والآن كيلا يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيى إلى الدهر فطرده الله من جنات عدن
قال أبو محمد رضي الله عنه : حكايتهم عن الله تعالى أنه قال هذا آدم قد صار كواحد منا مصيبة من مصائب الدهر وموجب ضرورة أنهم آلهة أكثر من واحد ولقد أدى هذا القول الخبيث المفتري كثيراً من خواص اليهود إلى الاعتقاد أن الذي خلق آدم لم يكن إلا خلقاً خلقه الله تعالى قبل آدم وأكل من الشجرة التي أكل منها آدم فعرف الخير والشر ثم أكل من شجرة الحياة فصار إلهاً من جملة الآلهة نعوذ بالله من هذا الكفر الأحمق ونحمده إذ هدانا للملة الزهراء الواضحة التي تشهد سلامتها من كل دخل بأنها من عند الله تعالى
فصل وبعد ذلك وأسكن في شرقي جنة عدن
وبعد ذلك وأسكن في شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب بحراسة شجرة الحياة ورأيت في نسخة أخرى منها ووكل بالجنان المشتهر إسرافيل ونصب بين يديه رمحاً نارياً ليحفظ طريق شجرة الحياة
قال أبو محمد رضي الله عنه : إن لم يكن أحدهما خطأ من المترجم وإلا فلا أدري كيف هذا
فصل وبعد ذلك قال الله تعالى كل من قتل قابيل نفاديه إلى سبعة
وبعد ذلك قال الله تعالى كل من قتل قابيل نفاديه إلى سبعة ولاتنا كربين جميعهم في أن لامك بن متوشائيل بن محويائيل ابن عيراد بن حنوك بن قابين هو الذي قتل قابين جد جد أبيه وأ ه لم يقل به فنسبوا إلى الله تعالى الكذب لأنه وعده أن يفديه إلى السبعة ولم يفده وأيضاً فإن ذكر السبعة هنا حمق لأن لامك الذي قتله هو الخامس من ولد قابين وقابين هو الخامس من آباء لامك فلا مدخل للسبعة ههنا
فصل وقبل هذا ذكر هابيل بن آدم وأنه راعي غنم
وقبل هذا ذكر هابيل بن آدم وأنه راعي غنم ثم قال قبل ذلك بنحو ورقتين أن لامك المذكور آنفاً اتخذ امرأتين اسم إحداهما عادة والثانية صلة وولدت عادة يابال وهو أول من سكن الأخبية وملك الماشية وهاتان قضيتان تكذب إحداهما الأخرى ولابد
فصل وبعد ذلك قال فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض
وبعد ذلك قال فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض وولد لهم البنات فلما رأى أولاد الله بنات آدم أنهن حسان اتخذوا منهن نساءً وقال بعد ذلك كان يدخل بنو الله إلى بنات آدم ويولد لهم حراماً وهم الجبابرة الذين على الدهر لهم أسماء وهذا حمق ناهيك به وكذب عظيم إذ جعل الله أولاداً ينكحون بنات آدم وهذه مصاهرة تعالى الله عنها حتى أن بعض أسلافهم قال إنما عني بذلك الملائكة وهذه كذبة إلا أنها دون الكذب في ظاهر اللفظ
فصل وفي خلال هذا قال لا يدين روحي في الإنسان إلى الدهر
وفي خلال هذا قال لا يدين روحي في الإنسان إلى الدهر إذ هم منتشرون لزيغانه هو بشر فتكون أعمارهم مائة وعشرين سنة وهذا كذب فاحش ومصيبة الأبد لأنه ذكر بعد هذا القول أن سام بن نوح عاش بعد ذلك ستمائة سنة وارفحشاذ ابن سام عاش أربعمائة وخمساً وستين سنة وشالخ ابن ارفحشاذ عاش أربعمائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وعار بن شالخ عاش أربعمائة سنة وأربعاً وستين سنة وفالغ بن عار عاش مائتي سنة وسبعاً وثلاثين سنة رعو بن فالغ عاش مائتي سنة وتسعاً وعشرين سنة وسروغ بن رعو عاش مائتي سنة وثلاثين سنة وناحور بن سروغ عاش مائة وثمان وأربعين سنة وتارح بن ناحور عاش مائتي سنة وخمسين سنة وإبراهيم بن تارح عاش مائة سنة وخمساً وسبعين سنة وإسحاق بن إبراهيم عاش مائة سنة وثمانين سنة وإسماعيل ابن إبراهيم عاش مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة ويعقوب بن إسحاق عاش مائة سنة وسبعاً وأربعين سنة ولاوي بن يعقوب عاش مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وعمران بن فهث عاش كذلك أيضاً وفهث بن لاوي عاش مائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وإن سارح بنت أشر ومريم بنت عمران وهارون بن عمران عاش كل واحد منهم أزيد من مائة وعشرين سنة بسنيهم فأعجبوا لهذه الفضائح ولعقول تتابعت على التصديق والتدين بمثل هذا الإفك الذي لا خفاء به
فصل وبعد ذلك ذكر أن متوشالح بن حنوك بن مارد عاش تسعمائة سنة وتسعاً وستين سنة
وبعد ذلك ذكر أن متوشالح بن حنوك بن مارد عاش تسعمائة سنة وتسعاً وستين سنة وأنه ولد له لامك وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة وأن لامك المذكور إذ بلغ مائة سنة واثنين وثمانين سنة ولد له نوح عليه السلام فلا شك من أن متوشالح كان إذ ولد له نوح بن ثلاثمائة سنة وتسع وستين سنة فوجب من هذا ضرورة أن نوحاً عليه السلام كان ابن ستمائة سنة إذ مات متوشالح فاضبطوا هذا ثم قال إن في اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من سنة ستمائة من عمر نوح اندفعت المياه بالطوفان ثم قال إن في اليوم سبعة وعشرين يوماً من الشهر الثاني من سنة إحدى وستمائة لنوح خرج نوح من التابوت يعني السفينة هو ومن كان معه فوجب من هذا ضرورة لا محيد عنها أن متوشالح بن حنوك دخل السفينة وأنه فيها مات قبل خروجهم منها بشهرين غير ثلاثة أيام وقد قطع فيها وبت على أنه لم يدخل التابوت أحد من الناس إلا نوح وبنوه الثلاثة وامرأة نوح وثلاثة نساء لأولاده وقد قطع فيها وبت على أنه لم ينج من الغرق إنسي أصلاً ولا حيوان في غير التابوت وهذه كذبات تفواضح نعوذ بالله من مثلها لأن في نصوص توراتهم كما أوردنا أن متوشالح لم يغرق لأنه لو غرق لم يستوف تمام السنة الموفية ستماية سنة لنوح وفي نصها أنه استوفاها وأيضاً فإنه عندهم محمود ممدوح لم يستحق الهلاك قط وأبطلوا أن يكون دخل التابوت إذ قطعوا بأنه لم يدخلها إنسي إلا نوح وبنوه الثلاثة ونساؤهم وأبطلوا أن ينجو في غير التابوت بقطعهم أنه لم ينج إنس ولا حيوان في غير التابوت ولابد لمتوشالح من أحد هذه الوجوه الثلاثة فلاح الكذب البحت في نقل توراتهم ضرورة وتيقن كل ذي عقل أنها غير منزلة من الله تعالى ولا جاء بها نبي أصلاً لأن الله تعالى لا يكذب والأنبياء لا تأتي بالكذب فصح يقيناً أنها من عمل زنديق جاهل أو مستخف متلاعب بهم ونعوذ بالله من مثل مقامهم وفي هذا الفصل كفاية فكيف ومعه أمثاله كثيرة
فصل وبعد ذلك أن نوحاً إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان
وبعد ذلك أن نوحاً إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان قال ملعون أبو كنعان عبد العبيد يكون لإخوته مستعبداً يكون لأخويه.
يبارك الإله ساماً ويكون أبو كنعان عبداً لهم.
إحسان الله ليافث ويسكن في أخبية سام ويكون أبو كنعان عبداً لهم ثم نسي نفسه المحرف أو تعاظم استخفافاً بهم فلم يطل لكنه بعد ستة أسطر قال إذ ذكر أولاد حام فقال بنو حام كوش ومصرايم وفوحا وكنعان وبنو كوش وصبان وزويلة ورغاوة ورعمة وسفتخا وبنور عمة السند والهند وكوش ولد نمردود الذي ابتدأ يكون جبارً في الأرض الذي كان جبار صيد بين يدي الله عز وجل وكان أول مملكته بابل فحصل من هذا الخبر تكذيب نوح في خبره وهو بإقرارهم نبي معظم جداً وإذ وصف أن ولد أبي كنعان صاروا ملوكاً على إخوة بني كنعان وعلى بنيهم ثم العجب كله أن على ما توجبه توراتهم كان ملك نمرود بن كوش بن كنعان بن حام على جميع الأرض ونوح حيوسام بن نوح حي لأن في نص توراتهم أن نوحاً عاش إلى أن بلغ إبراهيم بن تارح عليه السلام ثمانية وخمسين عاماً وأن سام بن نوح عاش إلى أن بلغ يعقوب وعيصا ابنا إسحق بن إبراهيم عليهما السلام خمساً وأربعين سنة على ما ذكره من مواليدهم أبا فأبا فمالنا نرى خبر نوح معكوساً فإن قالوا إن السودان تملكوا اليوم قلنا وفي السودان ملك عظيم جداً وممالك شتى كعانة والحبشة والنوبة والهند والتبت والأمر بينهم سواء يملكون طوايف من بني سام كما يملك بنو سام طوايف منهم وحاش لله أن يكذب نبي
فصل وقال توراتهم أن نوحاً لما بلغ خمسمائة سنة ولد له يافث وسام وحام
وقال توراتهم أن نوحاً لما بلغ خمسمائة سنة ولد له يافث وسام وحام ثم ذكر أن نوحاً إذ بلغ ستمائة سنة كان الطوفان ولسام يومئذ مائة سنة وقال بعد ذلك أن سام بن نوح لما كان ابن مائة سنة ولد ارقكشاد لسنتين بعد الطوفان وهذا كذب فاحش وتلون سمج وجهل مظلم لأنه إذا كان نوح إذ ولد له سام ابن خمسمائة سنة وبعد مائة سنة كان الطوفان فسام حينئذ ابن مائة سنة وإذ ولد له بعد الطوفان بسنتين ارفحشاد ابن مائة سنة وسنتين وفي نص توراتهم أنه كان ابن مائة سنة وهذا كذب لا خفاء به حاش لله من مثله
فصل وبعد ذلك أن الله تعالى قال لإبراهيم اعلم علماً أنه سيكون نسك غريباً في بلد
وبعد ذلك أن الله تعالى قال لإبراهيم اعلم علماً أنه سيكون نسك غريباً في بلد ليس له ويستعبدونهم ويعذبونهم أربعماية سنة وأيضاً القوم الذين يعذبونهم يحكم لهم وبعد ذلك بشرح عظيم وأنت تسير لآبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة والجيل الرابع من البنين يرجعون إلى ههنا
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل على قلته كذبتان فاحشتان شنيعتان منسوبتان إلى الله تعالى وحاش لله الكذب والخطأ فأحدهما قوله والجيل الرابع من البنين يرجعون إلى ههنا وهذا كذب لا خفاء به لأن الجيل الأول من بني إبراهيم عليه السلام وهم إسحاق وإخوته عليهم السلام والجيل الثاني هم يعقوب وعيصا وبنو أعمامهما والجيل الثالث أولاد يعقوب لصلبه وهم دوبان وشمعون ويهوذا ولاوي وساخار وزابلون ويوسف وبنيامين وادي وهباد وعاذ واشاد وأولاد عيصا ومن كان في تعدادهما من سائر عقب إبراهيم والجيل الرابع هم أولاد هؤلاء المذكورين وهم والجيل الثالث آباؤهم ويعقوب جدهم هم الداخلون مصر لا الخارجون منها بنص توراتهم وإجماعهم كلهم بلا خلاف من أحد منهم وإنما رجع إلى الشام بنص توراتهم وإجماعهم كلهم الجيل السادس من أبناء إبراهيم وهم أولاد الجيل الرابع المذكور وما رجع من الجيل الرابع ولا من الجيل الخامس ولا واحد إلى الشام وحاشى لله من أن يكذب في خبره.
فإن قيل إنما تعد الأجيال من الجيل المعذب قلنا هذا خلاف نص توراتهم لأن نصها الجيل الرابع من الأبناء وأيضاً فإنه لم يعذب أحد من أولاد يعقوب بل كانوا مبرورين وهم الجيل الثالث بنص توراتهم حرفاً حرفاً على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى فإنما ابتدأ التعذيب في أبناء يعقوب وهم الداخلون مع آبائهم وهم الجيل الرابع فعد من حيث شئت لست تخرج من شرك الكذب الفاضح وفي هذا كفاية والكذبة الثانية طامة من الطمات وهي قوله لإبراهيم أن نسلك سيكون غريباً في بلد ليس له ويستعبدونهم ويعذبونهم أربعمائة سنة من وقت بدإِ بتعذيب بني إسرائيل بمصر فإنما ذلك بعد موت يوسف عليه السلام إلى أن خرج بهم موسى عليه السلام نصاً إذ في سياق توراتهم ولما مات يوسف وجمع إخوته وذلك الجيل كله كثير بنو إسرائيل وتكاثروا وتقووا فملكوا الأرض وولى عند ذلك بمصر ملك جديد لم يعرف يوسف فقال لأهل مملكته إن بني إسرائيل قد كثروا وصاروا أقوى منا فإذ دلوهم بيننا نعماً لئلا يزدادوا كثرة ويكونوا عوناً لمن رام محاورتنا فقدم عليهم أصحاب صناعته لسخرتهم هذا نص توراتهم شاهدة بما قلنا وقد ذكر في توراتهم إذ ذكر من دخل مع يعقوب من ولده وولد ولده أن فاهث بن لاوي بن يعقوب والد عمران بن فاهاث وهو جد موسى عليه السلام وكان ممن ولد بالشام ودخل مصر مع أبيه لاوي وجده يعقوب وذكر فيها أيضاً أن جميع عمر فاهاث المذكور ابن لاوي وكان مائة سنة وثلاثاً وثلاثين سنة وأن جميع عمر عمران بن فاهاث المذكور كان مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وذكر فيها نصاً أن موسى عليه السلام كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر ابن ثمانين سنة هكذا كله نص توراتهم حرفاً بحرف بإجماع منهم أولهم عن آخرهم فهبك أن فاهاث كان إذ دخلها ابن أقل من شهر وأن عمران ولد له سنة موته وأن موسى ولد لعمران سنة موته فالمجتمع من هذا العدد كله ثلاثمائة سنة وخمسون سنة وهذه كانت مدتهم بمصر من يوم دخولها إلى أن خرجوا عنها على هذا الحساب فأين الأربعماية سنة فكيف ولا بد أن يسقط سن فاهاث إذ دخل مصر مع أبيه لاوي المدة التي كانت من ولادة عمران لفاهث إلى موت فاهاث والمدة التي كانت من ولادة موسى عليه السلام إلى موت ابنه عمران وفي كتب اليهود أن فاهاث دخل مصر وله ثلاث سنين وأنه كان إذ ولد له عمران ابن ستين سنة وأن عمران كان إذ ولد له موسى عليه السلام ابن ثمانين سنة فعلى هذا لم يكن بقاء بني إسرائيل بمصر مذ دخلوها مع يعقوب إلى أن خرجوا منها مع موسى إلا مائتي عام وسبعة عشر عاماً فأين الأربعمائة عام فكيف ولابد أن يسقط من هذا العدد الأخير مدة حياة يوسف مذ دخل إخوته وأبوهم وبنوهم مصر إلى أ مات يوسف عليه السلام فطول هذا الأمد لم يكونوا مستخدمين ولا معذبين ولا مستعبدين بل كانوا أعزاء مكرمين وفي نص توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل على فرعون ابن ثلاثين سنة ثم كانت سنو الخطب سبع سنين وبدأت سنو الجوع ودخل يعقوب ونسله مصر بعد سنتين من سني الجوع فليوسف حينئذ تسع وثلاثون سنة وفي نص توراتهم أن يوسف كان إذ مات ابن ماية سنة وعشر سنين فصح أن مدتهم مذ دخلوا مصر إلى أن مات يوسف عليه السلام كانت إحدى وسبعين سنة فقط ولابد فالباقي مائة سنة وست وأربعون سنة يسقط منها ولابد بنص توراتهم مدة بقاء من بقي من إخوة يوسف بعده ولم نجد من ذلك إلا عمر لاوي فقط فإنه على نص التوراة كان يزيد على يوسف ثلاثة أعوام أو أربعة فعاش بعد يوسف ثلاثة وعشرين عاماً فقط ولابد من هذا العدد فالباقي ماية سنة وثلاث وعشرون سنة هذه مدة عذابهم واستخدامهم واستعبادهم على أبعد الأعداد وقد تكون أقل فأين الأربعمائة سنة ولعل وقاح الوجه أن يقول ما أعد ذلك إلا من دخول يوسف مصر مستعبداً مستخدماً معذباً ثم مسجوناً فاعلم أنه لا يزيد على المأتي عام وسبعة عشر عاماً التي ذكرنا قبل اثنين وعشرين عاماً فقط فذلك مائتا عام وتسعة وثلاثون عاماً فأين الأربعمائة سنة فظهر الكذب المفضوح الذي لا يدري كيف خفي عليهم جيلاً بعد جيل ورأيت لنزل منهم مقالة ظريفة وهي انه ذكر هذه القصة وقال إنما ينبغي أن تعد هذه الأربعماية سنة من حين خاطب الله عز وجل إبراهيم بهذا الكلام
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأراد هذا الساقط الخروج من مزبلة فوقع في كنيف عذرة لأنه جاهر بالباطل وتعجل الفضيحة ونسبة الكذب إلى الله تعالى إذ نص ما حكوه عن الله تعالى أنه قال لإبراهيم أن نسلك يستعبد أربعمائة سنة ولم يقل له قط من الآن إلى انقضاء استخدامهم أربعمائة سنة وأيضاً فإن نص توراتهم أن الله تعالى إنما قال هذا الكلام لإبراهيم قبل ولادة إسماعيل هذا أيضاً فكان إبراهيم حينئذ ابن أقل من ستة وثمانين عاماً ثم عاش بعد ذلك أربعة عشر عاماً وولد له إسحاق وعاش إسحاق مائة وثمانين وسنة ومات إسحاق وليعقوب ماية وعشرون سنة ودخل يعقوب مصر وله ماية وثلاثون سنة كل هذا نصوص توراتهم بلا اختلاف منهم ممات إسحاق قبل دخول يعقوب مصر بعشرة أعوام فمن حين ادعوا أن الله تعالى قال هذا الكلام لإبراهيم إلى دخول يعقوب مصر مايتا عام وأربعة أعوام ومن دخول يعقوب مصر إلى خروج موسى عنها كما ذكرنا مائة عام وسبعة عشر عاماً فحصنا على أربعمائة عام وأربعة وعشرين عاماً فلا منجا من الكذب إما بزيادة أو نقصان وحاش لله أن يكذب في حساب بدقيقة فكيف بأعوام والله خالق الحساب ومعلمه عباده ومعاذ الله أن يكذب موسى عليه السلام أو يخطىء فيما أوحى الله تعالى إليه فوضح يقيناً لكل من له أدنى فهم يقيناً كما أن أمس قبل اليوم أنها ليست من عند الله تعالى ولا من أخبار نبي ولا من تأليف عالم يتقي الكذب ولا من عمل من يحسن الحساب ولا يخطىء فيما لا يخطي فيه صبي بحسن الجمع والطرح والقسمة والتسمية ولكنها بلا شك من عمل كافر مستخف ماجن سخر بهم وتطايب منهم وكتب لهم ماسخهم الله به وجوههم عاجلاً في الدنيا بالفضيحة وآجلاً في الآخرة بالنار والخلود فيها أو من عمل تيس أرعن تكلف إملاء ما لم يقم بحفظه جاهل مع ذلك مظلم الجهل بالهيئة وصفة الأرض وبالحساب وبالله تعالى وبرسله صلى الله عليهم وسلم فأملى ما خرج إلى فهمه من خبيث وطيب ولقد كان في هذا الفصل كفاية لمن نصح نفسه لو لم يكن غيره فكيف ومعه عجائب جمة ونحمد الله تعالى على نعمة الإسلام كثيراً
فصل وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال لإبراهيم لنسلك أعطي هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات
وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال لإبراهيم لنسلك أعطي هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات وهذا كذب وشهرة من الشره لأنه إن كان عني بني إسرائيل وهكذا يزعمون فما ملكوا قط من نهر مصر ولا على نحو عشرة أيام منه شبراً مما فوقه وذلك من موقع النيل إلى قرب بيت المقدس وفي هذه المسافة الصحاري المشهورة الممتدة والحضار ثم دفج وغزة وعسقلان وجبال الشراه التي لم تزل تحاربهم طول مدة دولتهم وتذيقهم الأمرين إلى انقضاء دولتههم ولا ملكوا قط من الفرات ولا على عشرة أيام منه بل بين أخر حوز بني إسرائيل إلى أقرب مكان من الفرات إليهم نحو تسعين فرسخاً فيها قنسرين وحمص التي لم يقبوا منها قط ثم دمشق وصور وصيدا التي لم يزل أهلها يحاربونهم ويسومونهم الخسف طول مدة دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهم وحاش لله عز وجل أن يخلف وعده في قدر دقيقة من سرابة فكيف في تسعين فرسخاً في الشمال ونحوها في الجنوب ثم قوله النهر الكبير وما في بلادهم التي ملكوا نهر يذكر إلا الأردن وحده وما هو بكبير إنما مسافة مجراه من بحيرة الأردن إلى مسقطه في البحيرة المتنتة نحو ستين ميلاً فقط فإن قال قائل إنما عنى الله بهذا الوعد بني إسماعيل عليه السلام قلنا وهذا أيضاً خطأ لأن هذا القدر المذكور ههنا من الأرض أقل من جزء من مائة جزء مما ملك الله عز وجل بني إسماعيل عليه السلام وأين يقع ما بين مصب النيل عند تنيس وبين الفرات من آخر الأندلس على ساحل البحر المحيط وبلاد البربر كذلك إلى آخر السند وكابل مما يلي بلاد الهند ومن ساحل اليمن إلى ثغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك والحمد لله رب العالمين فكيف وهذه الدعوى باطلة لأن ذلك الكلام بعضه معطوف على بعض فالموعودون بملك ذلك البلد هم المتوعدون بأنهم يتملكون ويعذبون في البلد الآخر وقد أكرم الله تعالى بني إسماعيل وصانهم عن ذلك فوضح الكذب الفاحش في الأخبار المذكورة وصح أنه ليس من عند الله عز وجل ولا من كلام نبي أصلاً بل من تبديل وغد جاهل كالحمار بلادة أو متلاعب بالدين وفاسد المعتقد ونعوذ بالله من الخذلان
فصل ومنها أن الله تعالى قال لإبراهيم أنا الله الذي أخرجتك من أتون
ومنها أن الله تعالى قال لإبراهيم أنا الله الذي أخرجتك من أتون الكردانيين لأعطيك هذا البلد حوراً فقال له إبراهيم يا رب بماذا أعرف أني أرث هذا البلد
قال أبو محمد رضي الله عنه : حاشى لله أن يقول إبراهيم ﷺ لربه هذا الكلام فهذا كلام من لم يثق بخبر الله عز وجل حتى طلب على ذلك برهاناً فإن قال قائل جاهل ففي القرآن أنه قال رب أرني كيف تحيي الموتى وأن زكريا قال لله تعالى إذ وعده بابن يسمى يحيى رب اجعل لي آية قلنا بين المراجعات المذكورة فرق كما بين المشرق والمغرب أما طلب إبراهيم عليه السلام رؤية إحياء الموتى فإنما طلب ذلك ليطمئن قلبه المنازع له إلى رؤية الكيفية في ذلك فقط.
بيان ذلك قوله تعالى له أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فوضح أن إبراهيم لم يطلب ذلك برهاناً على شك أزاله عن نفسه لكن ليرى الهيئة فقط وأما زكريا عليه السلام فإنما طلب آية تكون له عند الناس لئلا يكذبوه هذا نص كلامه والذي ذكروه عن إبراهيم عليه السلام كلام شاك يطلب برهاناً يعرف به صحة وعد ربه له تعالى الله عن ذلك وحاشى لإبراهيم منه
فصل وبعد ذلك قال وتجلى الله لإبراهيم عند بلوطات ممرأ وهو جالس عند باب الخباء
وبعد ذلك قال وتجلى الله لإبراهيم عند بلوطات ممرأ وهو جالس عند باب الخباء عند حمي النهار ورفع عينيه ونظر فإذا بثلاثة نفر وقوف أمامه فنظر وركض لاستقبالهم عند باب الخباء وسجد على الأرض وقال يا سيدي إن كنت قد وجدت نعمة في عينك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل من ماء واغسلوا أرجلكم واستندوا تحت الشجرة وأقدم لكم كسرة من الخبز تشتد بها قلوبكم وبعد ذلك تمضون فمن أجل ذلك مررتم على عبدكم فقالوا اصنع كما قلت فأسرع إبراهيم إلى الخباء إلى سارة وقال لها اصنعي ثلاث صيعان من دقيق سميذ اعجنيه واصنعي خبز ملة وحضر إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلاً رخصاً سميناً ودفعه للغلام واستعجل بإصلاحه وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنعوه وقدم بين أيديهم وهو واقف عليهم تحت الشجرة وقال كلوا
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آيات من البلاء شنيعة نعوذ بالله من قليل الضلال وكثيره فأول ذلك إخباره أن الله تعالى تجلى لإبراهيم وأنه رأى الثلثة النفر فأسرع إليهم وسجد وخاطبهم بالعبودية فإن كان أولئك الثلاثة هم الله فهذا هو التثليث بعينه بلا كلفة بل هو أشد من التثليث لأنه إخبار بشخوص ثلاثة والنصارى يهربون من التشخيص وقد رأيت في بعض كتاب النصارى الاحتجاج بهذه القضية في إثبات التثليث وهذا كما ترى في غاية الفضيحة فإن كان أولئك الثلاثة ملائكة وهكذا يقولون فعليهم في ذلك أيضاً فضائح عظيمة وكذب فاحش من وجوه أولها من المحال والكذب أن يخبر بأن الله تعالى تجلى له وإنما تجلى له ثلاثة من الملائكة وثانيها أن يخاطب أولئك الملائكة بخطاب الواحد وهذا مما يزيد في ضلال النصارى في هذا الفصل وهذا أيضاً محال في الخطاب وثالثها سجوده للملائكة فإن من الباطل أن يسجد رسول الله ﷺ وخليله لغير الله تعالى ولمخلوق مثله فهذه كذبة وإن قالوا بل لله سجد فهذه كذبة ولابد وأن يكون الله عندهم هم الثلاثة المتجلون لابد من إحداها وعادة البلية أشد ما كانت ورابعها خطابه لهم بأنه عبدهم فإن كان المخاطب بذلك هو الله تعالى وهو المتجلي له فقد عادت البلية وإن كان المخاطبون بذلك الملائكة فحاشى لله أن يخاطب إبراهيم عليه السلام بالعبودية غير الله تعالى ومخلوقاً مثله مع أن من المحال أن يخاطب ثلاثة بخطاب واحد وخامسها قوله يؤخذ قليل من ماء ويغسل أرجلكم وأقدم كسرة من الخبز تشتد بها قلوبكم فهذه الحالة لئن كان خاطب بهذا الخطاب الله تعالى فهي التي لا سوي لها ولا بقية بعدها والتي تملأ الفم وإن كان خاطب بذلك الملائكة فهذا أكذب لأن إبراهيم عليه السلام لا يجهل أن الملائكة لا تشتد قلوبهم بأكل كسر الخبز فهذه على كل حال كذبة باردة سمجة فإن قالوا ظنهم ناساً قلنا هذا أكذب لأن في أول الخبر يخبر أن الله تجلى له وكيف يسجد إبراهيم ويتعبد لخاطر طريق حاش له من هذا الضلال وسادسها إخباره أنهم أكلوا الخبز والشوى والسمن واللبن وحاشى له أن يكون هذا خبراً عن الله تعالى لا ولا عن الملائكة أين هذا الكذب البارد الفاضح الذي يشبه عقول اليهود المصدقين به من الحق المنير الواضح عليه ضياء اليقين من قول الله عز وجل في هذه القضية نفسها ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآيات هيهات نور الحق من ظلمات الكذب والحمد لله رب العالمين كثيراً وفيها أيضاً وجه سابع ليس كهذه الوجوه في الشناعة وهو إقرارهم بأن إبراهيم أطعم الملائكة اللحم واللبن والسمن معاً والربانيون منهم يحرمون هذا اليوم فأقل ما فيه النسخ على أن يكون سلامته من أطم الدواهي والسلامة والله منهم بعيدة
فصل ثم قال متصلاً بهذا الفصل وقالوا له أين سارة زوجتك فقال ها هي ذه في الخباء
ثم قال متصلاً بهذا الفصل وقالوا له أين سارة زوجتك فقال ها هي ذه في الخباء قال سأرجع إليك مثل هذا الوقت من قابل ويكون لها ابن وسارة تسمع في الخباء وهو وراءها وكان إبراهيم وسارة شيخين قد طعنا في السن وانتهى لسارة أن لا يكون لها عادة كالنساء فضحكت سارة في نفسها قائلة أبعد أن نليت يصير لي ذا وسيدي شيخ قال الله لإبراهيم لماذا ضحكت سارة قائلة هل لي أن ألد وأنا عجوز وهل يخفى عن الله أمري في هذا الوقت إذ قال عز من قائل يكون لسارة ابن فجحدت سارة وقالت لم أضحك لأنها خافت وقال السيد ليس كما تقولين بل قد ضحكت فقام القوم من ثم
قال أبو محمد رضي الله عنه : عاد الخبر بين سارة وإبراهيم وبين الله عز وجل وعاد الحديث الماضي ثم في هذا زيادة أن الله تعالى قال أن سارة ضحكت وقالت سارة لم أضحك فقال الله بلى قد ضحكت فهذه مراجعة الخصوم وتعارض الأكفاء وحاش لسارة الفاضلة المنبأة من الله عز وجل بالبشارة من أن تكذب الله عز وجل فيما يقول وتكذب هي في ذلك فتجحد ما فعلت فتجمع بين سوأتين إحداهما كبيرة من الكبائر قد نزه الله عز وجل الصالحين عنها فكيف الأنبياء والأخرى أدهى وأمر وهي التي لا يفعلها مؤمن ولو أنه أفسق أهل الأرض لأنها كفر ونعوذ بالله من الضلال
فصل وبعد ذلك وصف أن الملكين باتا عند لوط وأكلا عنده الخبز
وبعد ذلك وصف أن الملكين باتا عند لوط وأكلا عنده الخبز الفطير وأن لوطاً سجد لهما على وجه الأرض وتعبد لهما وقد مضى مثل هذا وأنه كذب وأن الملائكة لا تأكل فطيراً ولا مختمراً وأن الأنبياء عليهم السلام لا يسجدون لغير الله تعالى ولا يتعبدون لسواه
فصل وذكر أن إبراهيم عليه السلام قال لله عز وجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط
وذكر أن إبراهيم عليه السلام قال لله عز وجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط في كلام كثير أنت معاذ من أن تصنع هذا الأمر لا تقتل الصالح مع الطالح فأنت معاذ يا حاكم جميع العالم من هذا ولم ينكر الله تعالى عليه هذا القول وقال بعد ذلك إن لوطاً كلم أصحابه المتزوجين بناته وقال لهم اخرجوا من هذا الموضع فإن الله مهلكهم وأنه صار عندهم كاللاعب ثم قال بعد ذلك إن الملائكة أمسكوا بيد لوط وبيد زوجته وابنتيه لشفقة الله عليهم وأخرجوهم خارج القرية ثم ذكر هلاك القرية بكل ما فيها
قال أبو محمد رضي الله عنه : لا تخلو أصهار لوط وبنوه وبناته الناكحات من أن يكونوا صالحين أو طالحين فإن كانوا صالحين فقد هلكوا مع الطالحين وبطل عقد الله تعالى مع إبراهيم في ذلك وحاشى لله من هذا وإن كانوا طالحين فكيف تأمر الملائكة بإخراج الطالحين وهم كانوا مبعوثين لهلاكهم فلابد من الكذب في أحد الوجهين وبالجملة فأخبارهم معفونة جداً
فصل وبعد ذلك قال وأقام لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى
وبعد ذلك قال وأقام لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى أبونا شيخ وليس في الأرض أحد يأتينا كسبيل النساء تعالي نسق أبانا الخمر ونضاجعه ونستبق منه نسلاً فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة فأتت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنومها ولا بقيامها فلما كان من الغد قالت الكبرى للصغرى قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الخمر هذه الليلة وضاجعيه أنت ونستبقي من أبينا نسلاً فسقتاه تلك الليلة خمراً وأتت الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا بقيامها وحملت ابنتا لوط من أبيهما فولدت الكبرى ابناً وسمته مواب وهو أبو الموابين إلى اليوم وولدت الصغيرة ابناً سمته ابن عمي وهو أبو العمونيين إلى اليوم وفي السفر الخامس من التوراة بزعمهم أن موسى قال لبني إسرائيل إن الله تعالى قال لما انتهينا إلى صحراء بني مواب قال لي لا تحارب بني مواب ولا تقاتلهم فإني لم أجعل لكم فيما تحت أيديهم سهماً لأني قد ورثت بني لوط أدوا وجعلتها مسكناً لهم ثم ذكر أن موسى قال لهم إن الله تعالى قال له أيضاً أنت تخلف اليوم حوز بني مواب المدينة التي تدعي عاد وتنزل في حوز بني عمون فلا تحاربهم ولا تقاتل أحداً منهم فإني لم أجعل لكم تحت أيديهم سهماً لأنهم من بني لوط وقد ورثتهم تلك الأرض
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذه الفصول فضائح وسوآت تقشعر من سماعها جلود المؤمنين بالله تعالى العارفين حقوق الأنبياء عليهم السلام فأولها ما ذكر عن بنتي لوط عليه السلام من قولهما ليس أحد في الأرض يأتينا كسبيل النساء تعالي نسق أباناً خمراً ونضاجعه ونستبق منه نسلاً فهذا كلام أحمق في غاية الكذب والبرد أترى كان انقطع نسل ولد آدم كله حتى لم يبق في الأرض أحد يضاجعهما إن هذا لعجب فكيف والموضع معروف إلى اليوم ليس بين تلك المغارة التي كان فيها لوط عليه السلام مع بنتيه وبين قرية سكنى إبراهيم عليه السلام إلا فرسخ واحد لا يزيد وهو ثلاثة أميال فقط فهذه سوأة والثانية إطلاق الكذاب الواضع لهذه الخرافة لعنه الله هذه الطومة على الله عز وجل من أنه أطلق نبيه ورسوله ﷺ على هذه الفاحشة العظيمة من وطء ابنتيه واحدة بعد أخرى فإن قالوا لا ملامة عليه في ذلك لأنه فعل ذلك وهو سكران وهو لا يعلم من هما قلنا فكيف عمل إذ رآهما حاملتين وإذ رآهما قد ولدتا ولدين لغير رشدة وإذ رآهما تربيان أولاد الزنا هذه فضائح الأبد وتوليد الزنادقة المبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهم السلام والثالثة إطلاقهم على الله تعالى أنه نسب أولاد ذينك الزنيمين فرخي الزنا إلى ولادة لوط عليه السلام حتى ورثهما بلدين كما ورث بني إسرائيل وبني عيسو ابني إسحاق سواء سواء تعالى الله عن هذا علواً كبيراً فإن قالوا كان مباحاً حينئذ قلنا فقد صح النسخ الذي تنكرونه بلا كلفة وقال قبل هذا إن إبراهيم إذ أمره الله تعالى بالمسير من حران إلى أرض كنعان أخذ مع نفسه امرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران وذكروا في بعض توراتهم أنه كلمته الملائكة وأن الله تعالى أرسلهم إليه فصح بإقرارهم أنه نبي الله عز وجل وهم يقولون أنه بقي في تلك المغارة شريداً طريداً فقيراً لا شيء له يرجع إليه فكيف يدخل في عقل من له أقل إيمان أن إبراهيم عليه السلام يترك ابن أخيه الذي تغرب معه وآمن به ثم تنبأ مثله يضيع ويسكن في مغارة مع ابنتيه فقيراً هالكاً وهو على ثلاثة أميال منه وإبراهيم على ما ذكر في التوراة عظيم المال مفرط الغنى كثير اليسار من الذهب والفضة والعبيد والإماء والجمال والبقر والغنم والحمير ويقولون في توراتهم أنه ركب في ثلاثمائة مقاتل وثمانية عشر مقاتلاً لحرب الذين سبوا لوطاً وماله حتى استنقذوه وماله فكيف يضيعه بعد ذلك هذا التضييع ليست هذه صفات الأنبياء ولا كرامة ولا صفات من فيه شيءٌ من الخير لكن صفات الكلاب الذين وضعوا لهم هذه الخرافات الباردة التي لا فائدة فيها ولا موعظة ولا عبرة حتى ضلوا بها ونعوذ بالله من الخذلان
فصل وفي موضعين من توراتهم المبدلة أن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام
وفي موضعين من توراتهم المبدلة أن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام أخذها فرعون ملك مصر وأخذها ملك الخلص أبو مالك مرة ثانية وأن الله سبحانه وتعالى أرى الملكين في منامهما ما أوجب ردها إلى إبراهيم عليه السلام وذكر أن سن إبراهيم عليه السلام إذ انحدر من حران خمسة وسبعون عاماً وأن إسحق ولد له وهو ابن مائة سنة ولسارة إذ ولد تسعون عاماً فصح أنه كان يزيد عليها عشر سنين وذكر أن ملك الخلص أخذها بعد أن ولدت إسحاق وهي عجوز مسنة بإقرارها بلسانها إذ بشرت بإسحاق فكيف بعد أن ولدته وقد جاوزت تسعين عاماً ومن المحال أن تكون في هذا السن تفتن ملكاً وأن إبراهيم قال في كلتا المرتين هي أختي وذكر عن إبراهيم أنه قال للملك هي أختي بنت أبي لكن ليست من أمي فصارت لي زوجة فنسبوا في نص توراتهم إلى إبراهيم عليه السلام أنه تزوج أخته وقد وقفت على هذا الكلام من بعض من شاهدناه منهم وهو إسماعيل بن يوسف الكاتب المعروف بابن النغزالي فقال لي إن نص اللفظة في التوراة أخت وهي لفظة تقع في العبرانية على الأخت وعلى القريبة فقلت يمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة ههنا قوله لكن ليست من أمي وإنما هي بنت أبي فوجب أنه أراد الأخت بنت الأب وأقل ما في هذا إثبات النسخ الذي تفرون منه فخلط ولم يأت بشيء
فصل ثم ذكر موت سارة وقال تزوج إبراهيم عليه السلام امراة اسمها قطورة
ثم ذكر موت سارة وقال تزوج إبراهيم عليه السلام امراة اسمها قطورة وولدت له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبق وشوحا وأعطى إبراهيم جميع ماله لإسحاق وأعطى بني الإماء عطايا وأبعدهم عن إسحاق
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا نص الكلام كله متتابعاً مرتباً ولم يذكر له زوجة في حياة سارة ولا أمة لها ولد إلا هاجر أم إسماعيل عليه السلام ولا ذكر له بعد سارة زوجة ولا أمة ولا ولداً غير قطورة وبنيها وفي كتبهم أن قطورة هذه بنت ملك الربذ وهو موضع عمان اليوم بقرب البلقا وهذه أخبار يكذب بعضها بعضاً
فصل ثم ذكر أن رفعة بنت بتوئيل بن تارخ زوجة إسحاق عليه السلام
ثم ذكر أن رفعة بنت بتوئيل بن تارخ زوجة إسحاق عليه السلام كانت عاقراً قال فشفعه الله وحملت وازدحم الولدان في بطنها وقالت لو علمت أن الأمر هكذا كان يكون ما طلبته ومضت لتلتمس علماً من الله عز وجل فقال لها الله في بطنك أمتان وحزبان يفترقان منه أحدهما أكبر من الآخر والكبير يخدم الصغير فلما كانت أيام الولادة إذا بتؤمين في بطنها وخرج الأول أحمر كله كفروة من شعر فسمي عيسو وبعد ذلك خرج أخوه ويده ممسكة بعقب عيسو فسماه يعقوب
قال أبو محمد رضي الله عنه : لا مؤنة على هؤلاء السفلة في أن ينسبوا الكذب إلى الله عز وجل وحاش لله أن يكذب ولا خلاف بينهم في أن عيسو لم يخدم قط يعقوب وأن بني عيسو لم تخدم قط بني يعقوب بل في التوراة نصاً أن يعقوب سجد على الأرض سبع مرات لعيسو إذ رآه وأن يعقوب لم يخاطب عيسو إلا بالعبودية والتذلل المفرط وأن جميع أولاد يعقوب حاشا بنيامين الذي لم يكن ولد بعد كلهم سجدوا لعيسو وأن يعقوب أهدى لعيسو مداراة له خمسمائة رأس وخمسين رأساً من إبل وبقر وحمير وضأن ومعز وأن يعقوب رآها منة عظيمة إذ قبلها منه وأن بني عيسو لم تزل أيديهم على إقفاء بني إسرائيل من أول دولتهم إلى انقطاعها إما يتملكون عليهم أو يكونون على السواء معهم وأن بني إسرائيل لم يملكوا قط أيام دولتهم بني عيسو فأعجبوا لهذه الفضائح أيها المسلمون واحمدوا الله على السلامة مما ابتلي به غيركم من الضلال والعمى
فصل ثم ذكر أن إسحاق قال لابنه عيسو يا بني ق
ثم ذكر أن إسحاق قال لابنه عيسو يا بني ق شخت ولا أعلم يوم موتي فاخرج وصد لي صيداً واصنع لي منه طعاماً كما أحب وائتني به لآكله كي تباركك نفسي قبل أن أموت وإن رفقة أم عيسو ويعقوب أمرت يعقوب ابنها أن يأخذ جديين وتصنع هي منهما طعاماً ويأتي يعقوب إلى إسحاق أبيه ليأكله ويبارك عليه وأن يعقوب قال لأمه أن عيسو أخي أشعر وأنا أجرد لعل أبي أن يحس بي وأكون عنده كاللاعب وأجلب على نفسي لعنة لا بركة فقالت له أمه علي استدفاع لعنتك وإن يعقوب فعل ما أمرته به أمه فأخذت هي ثياب عيسو ابنها الأكبر وألبستها يعقوب وجعلت جلود الجديين على يديه وعلى حلقه وأعطته الطعام وجاء به إلى أبيه فقال له يا أبي فقال له إسحاق من أنت يا ولدي قال يعقوب أنا ابنك عيسو بكرك صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وتأكل من صيدي لتبارك علي وأن إسحاق قال ليعقوب تقدم حتى أجسك يا بني هل أنت ابني عيسو أم لا فتقدم يعقوب فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب واليدان يدا عيسو وقال هل أنت هو ابن عيسو فقال أنا فبارك عليه وقال له في بركتك تلك.
تخدمك الأمم وتخضع لك الشعوب وتكون مولي إخوتك وتسجد لك بنوا أمك ثم ذكر أن عيسو أتى بالصيد إلى إسحاق فلما عرف إسحاق القصة قال لعيسو عن يعقوب قد صيرته سلطاناً وجعلت جميع إخوته عبيداً فرغب إليه عيسو أن يباركه أيضاً ففعل وقال في بركته هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك وبلا ندى السماء من فوق وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك
قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات فأول ذلك إطلاقهم على نبي الله يعقوب عليه السلام أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء فكيف من نبي مع أبيه نبي أيضاً هذه سوآت مضاعفات أين ظلمة هذا الكذب من نور الصدق في قول الله تعالى يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وثانية وهي أخبارهم ان بركة يعقوب إنما كانت مسروقة مأخوذة بغش وخديعة وتخابث وحاش للأنبياء عليهم السلام من هذا ولعمري أنها لطريقة اليهود فما تلقى منهم إلا الخبيث المخادع إلا الشاذ وثالثة وهي إخبارهم أن الله تعالى أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة وحاش لله من هذا ورابعة وهي التي لا يشك أحد في أن إسحاق عليه السلام إذ بارك يعقوب إذ خدعه بزعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس إنما قصد بتلك البركة عيسو وله دعا لا ليعقوب فأي منفعة للخديعة ههنا لو كان لهم عقل وما أشبه هذه القضية إلا بحمق الغالية من الرافضة القائلين أن الله تعالى بعث جبريل إلى عليٍّ فأخطأ جبريل وأتى إلى محمد وهكذا بارك إسحاق على عيسو فأخطأت البركة ومضت إلى يعقوب فعلى كلتا الطائفتين لعنة الله فهذه وجوه الخبث والغش في هذه القضية.
وأما وجوه الكذب فكثيرة جداً من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب عليه السلام وهو نبي الله تعالى ورسوله في أربعة مواضع أولها قوله لأبيه إسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك فهذه كذبتان في نسق لأنه لم يكن ابنه عيسو ولا كان بكره وثالثة قوله لأبيه صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي فهذه كذبتان في نسق لأنه لم يكن قال له شيئاً ولا أطعمه من صيده وكذبات أخر وهي بطلان بركة إسحاق إذ قال له تخدمك الأمم وتخضع الشعوب وتكون مولي إخوتك ويسجد لك بنو أمك وقوله لعيسو ولأخيك تستعبد وهذه كذبات متواليات والله ما خدمت الأمم قط يعقوب ولا بنيه بعده ولا خضعت لهم الشعوب ولا كانوا موالي إخوتهم ولا سجد لهم ولا له بنوا أمه بل بنوا بني إسرائيل خدموا الأمم في كل بلدة وفي كل أمة وهم خضوا للشعوب قديماً وحديثاًُ في أيام دولتهم وبعدها فإن قالوا سيكون هذا قلنا لهم قد حصلتم على الصغار يقيناً والأماني بضائع السخفاء هيهات ترجى ربيع أن تحيي صغارها بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها لاسيما مع تقصي جميع الآماد التي كانوا ينبون بأنها لا تنقضي حتى يرجع أمرهم واعلموا أن كل أمة أدبرت فإنهم ينتظرون من العودة ويمنون أنفسهم من الرجعة بمث ما تمنى به بنوا إسرائيل أنفسها ويذكرون في ذلك مواعيد كمواعيدهم فأملٌ كاملٍ ولا فرق كانتظار مجوس الفرس بهرام هماوند راكب البقرة وانتظار الروافض للمهدي وانتظار النصارى الذين ينتظرون في السحاب تمن يلذ المستهام بمثله وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ولكنه غيظ الأسير على الجد وأما قوله تكون مولي إخوتك ويسجد لك بنو أمك فلعمري لقد صح ضد ذلك جهاراً إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعي ابن عمه لابان ابن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده حاشا من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه عيسو مراراً كثيرة وما سجد عيسو قط ليعقوب قط ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو وأن يعقوب تعبد لعيسو في جميع خطابه له وما تبعد قط عيسو ليعقوب وسأله عيسو عن أولاده فقال له يعقوب هم أصاغر من الله بهم على عبدك وأن يعقوب طلب رضاء عيسو وقال له إني نظرت إلى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله فارض عني واقبل ما أهديت إليك وأن عيسو بالحرا قبل هدية يعقوب حينئذٍ فما نرى عيسو وبنيه إلا موالي يعقوب وبنيه وكذلك ملك بنوا عيسوا بإقرار توراتهم ميراثهم لساعير وهي جبال الشراة وبنوا لوط ميراثهم بمواب وعمان قبل أن يملك بنو إسرائيل ميراثهم بفلسطين والأردن بدهر طويل ثم لم يزالوا يتغلبون على بني إسرائيل أو يساوونهم طول دولة بني إسرائيل بإقرار كتبهم وما ملك بنو إسرائيل قط بني عيسو ولا بني لوط ولا بني إسماعيل بإقرارهم ولقد بقي بنوا عيسو وبنوا لوط بإقراركتبهم في ميراثهم بساعير ومواب وعمان بعد هلاك دولة إسرائيل واخروجهم عن ميراثهم ثم ملكهم بنوا إسماعيل إلى اليوم فما نرى تلك البركة كانت إلا معكوسة ونعوذ بالله من الخذلان ولكن حق البركة المسروقة المأخوذة بالخبث في زعمهم أن تخرج معكوسة منكوسة
فصل ثم ذكر أن يعقوب إذ مضي إلى خله لابان بن نثوال خطب إليه ابنته راحيل
ثم ذكر أن يعقوب إذ مضي إلى خله لابان بن نثوال خطب إليه ابنته راحيل وقال له أخدمك سبع سنين في راحيل ابنتك الصغرى فقال له لابان إن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها رجلاً آخر أقم عندي وخدم يعقوب في راحيل سبع سنين وصارت عنده أياماً يسيرة في محبته لها وقال يعقوب للابان أعطني زوجتي إذ قد كملت أيامي فأدخل بها وجمع لابان جميع أهل الموضع وصنع وليمة فلما كان بالعشي أخذ ليئة ابنته وزفها إليه ودخل بها فلما كان بالغد ورأى أنها ليئة قال للابان ماذا صنعت أليس في راحيل خدمتك فلم خدعتني فقال لابان لا نصنع هذا في موضعنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى أكمل أسبوع هذه وأعطيك أيضاً هذه بخدمة تخدمها سبع سنين أخرى وصنع يعقوب كذلك وأكمل أسبوع ليئة وأعطى راحيل ابنته لتكون له زوجة
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آبدة الدهر وهي إقرارهم أن يعقوب عليه السلام تزوج راحيل فأدخلت عليه غيرها فحصلت ليئة إلى جنبه بلا نكاح وولد لها منه ستة ذكور وابنة وهذا هو الزنا بعينه أخذ امرأة لم يتزوجها بخديعة وقد أعاذ الله نبيه من هذه السوءة وأعاذ أنبياءه عليهم السلام موسى وهارون وداود وسليمان من أن يكونوا من مثل هذه الولادة وهذا يشهد ضرورة أنها من توليد زنديق متلاعب بالديانات.
فإن قالوا لابد أنه قد تزوجها إذ علم أنها ليست التي تزوج.
قلنا فعلي أن نسمح لكم بهذا فالنسخ ثابت ولابد لأن نكاح أختين معاً حرام في توراتكم وقد قال لي بعضهم في هذا لم تكن الشرائع نازلة من الله تعالى قبل موسى فقلت هذا كذب أليس في نص توراتكم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام كل دبيب حي يكون لكم أكله كخضراء العشب أعطيتكم لكن اللحم بدمه لا تأكلوه وأما دماؤكم في أنفسكم فسأطلبها فهذه شريعة إباحة وتحريم قبل موسى عليه السلام
فصل وبعد ذلك ذكر أن يعقوب رجع من عند خاله لابان نسائه وأولاده
وبعد ذلك ذكر أن يعقوب رجع من عند خاله لابان نسائه وأولاده قال ولما أصبح أجاز امرأتيه وجارتيه وأحد عشر من ولده المخاضة وبقي وحده وصارعه رجل إلى الصبح فلما عجز عنه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه وقال له خلني لأنه قد طلع الفجر قال لست أدعك حتى تبارك علي فقال له كيف اسمك قال يعقوب قال له لست تدعى من اليوم يعقوب بل إسرائيل من أجل أنك كنت قوياً على الله فكيف على الناس فقال له يعقوب عرفني باسمك فقال له لم تسألني عن اسمي وبارك عليه في ذلك الموضع فسمي يعقوب ذلك الموضع فنيئيل وقال رأيت الله تعالى مواجهة وسلمت نفسي وبزغت له الشمس بعد أن جاوز فنيئيل وهو يعرج من رجله ولهذا لا يأكل بنوا إسرائيل العقب الذي على حق الفخذ إلى اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب لمس الله وانقباضه
قال أبو محمد في هذا الفصل شنعة عفت على كل ما سلف يقشعر منها جلود أهل العقول وبالله العظيم لولا أن الله عز وجل قص علينا كفرهم بقولهم يد الله مغلولة وبقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء لما نطقت ألسنتنا بحكاية هذه العظائم لكنا نحكيه منكرين له كما نتلوه فيما نصه عز وجل لنا تحذيراً من إفكهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : ذكر في هذا المكان أن يعقوب صارع الله عز وجل تعالى الله عن ذلك وعن كل شبه لخلقه فكيف عن لعب الصراع الذي لا يفعله إلا أهل البطالة وأما أهل العقول فلا لغير ضرورة ثم لم يكتفوا بهذه الشهرة حتى قالوا إن الله عز وجل عجز عن أن يصرع يعقوب بنص كلام توراتهم وحقق ذلك قولهم عن الله تعالى أنه قال كنت قوياً على الله تعالى فكيف على الناس ولقد أخبرني بعض أهل البصر بالعبرانية أنه لذلك سماه إسرائيل وإيل بلغتهم هو اسم الله تعالى بلا شك ولا خلاف فمعناه أسر الله تذكيراً بذلك الضبط الذي كان بعد المصارعة إذ قال له دعني فقال له يعقوب لا أدعك حتى تبارك علي ولقد ضربت بهذا الفصل وجوه المتعرضين منهم للجدال في كل محفل فثبتوا على أن نص التوراة أن يعقوب صارع الوهيم وقال أن لفظ الوهيم يعبر بها عن الملك فإنما صارع ملكاً من الملائكة فقلت لهم سياق الكلام يبطل ما تقولون ضرورة فيه كنت قوياً على الله فكيف على الناس وفيه أن يعقوب قال رأيت الله مواجهة وسلمت نفسي ولا يمكن البتة أن يعجب من سلامة نفسه إذ رأى الملك ولا يبلغ من مس الملك لما نص يعقوب أن يحرم على بني إسرائيل أكل عروق الفخذ في الأبد من أجل ذلك وفيه أنه سمي الموضع بذلك فنيئيل لأنه قابل فيه إيل وهو الله عز وجل بلا احتمال عندكم ثم لو كان ملكاً كما تدعون عند المناظرة لكان أيضاً من الخطاء تصارع نبي وملك لغير معنى فهذه صفة المتحدين في العنصر لا صفة الملائكة والأنبياء فإن قيل قد رويتم أن نبيكم صارع ركانة بن عبد يزيد قلنا نعم لأن ركانة كان من القوة بحيث لا يجد أحداً يقاومه في جزيرة العرب ولم يكن رسول الله ﷺ موصوفاً بالقوة الزائدة فدعاه إلى الإسلام فقال له إن صرعتني آمنت بك ورأى إن هذا من المعجزات فأمره عليه السلام بالتأهب لذلك ثم صرعه للوقت وأسلم ركانة بعد مدة فبين الأمرين فرق كما بين العقل والحمق ولكن لكل مقام مقال ولكن إذا أكل الملائكة عندكم كسور الخبز حتى تشتد بها قلوبهم والشاي واللبن والسمن والفطاير فما ينكر بعضهم للصراع مع الناس في الطرقات وهذه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم وصحة فصل وفي الفصل المذكور أن الله تعالى قال ليعقوب لست تدعي من اليوم يعقوب لكن إسرائيل ثم في السفر الثاني من توراتهم قال الله تعالى قل لآل يعقوب وعرف بني إسرائيل فقد سماه بعد ذلك يعقوب وهذه نسبة الكذب إلى الله تعالى
فصل ثم قال وبينا إسرائيل بذلك الموضع ضاجع رأوا بين ابن ليئة سرية أبيه بلهة وهي
ثم قال وبينا إسرائيل بذلك الموضع ضاجع رأوا بين ابن ليئة سرية أبيه بلهة وهي أم دان ونفتالي وهما أخواه وابنا يعقوب ثم أكد هذا بأن ذكر في قرب آخر السفر الأول ذكر موت يعقوب عليه السلام ومخاطبته لبنيه ابناً ابناً أن يعقوب قال لرؤابين ابنه أنك صعدت على سرير أبيك ووسخت فراشه وليس مما ابتذلت فراشي تخلص بعد أن ذكر في توراتهم أن شكيم بن حمور الحوى أخذ دينة بنت يعقوب عليه السلام واضطجع معها وأذلها ثم بعد ذلك خطبها إلى يعقوب أبيها إلى أن ذكر قتل لاوي وشمعون لحمور وشكيم ابنه وجميع أهل مدينته وإنكار يعقوب على ابنيه قتلهما لهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : معاذ الله أن يخذل الله نبيه ولا يعصمه في حرمة امرأته وابنته من هذه الفضائح ثم لا ينكر ذلك بأكثر من التعزير الضعيف فقط
فصل وبعد ذلك قال وأولاد يعقوب اثنا عشر
وبعد ذلك قال وأولاد يعقوب اثنا عشر فأولاد ليئة رؤابين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وأبناء راحيل يوسف وبنيامين وابنا بلهة أمة راحيل دان ونفتالي وابنا
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كذب ظاهر لأنه ذكر قبل أن بنيامين لم يولد ليعقوب إلا باقراشا بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحيله من فدان ارام بدهر والله تعالى لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان
فصل وبعد ذلك قال وكان إسرائيل يحب يوسف لأنه كان ولد له في شيخوخته
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه العلة توجب محبة بنيامين لأنه ولد له بعد يوسف بازيد من ست سنين بنص توراتهم وتوجب مشاركة يساكر وزبولون في المحبة ليوسف لأنه ذكر قبل هذا أن يعقوب قال للابان خاله خدمتك عشرين سنة من ذلك أربع عشرة سنة لابنتيك وست سنين لأدواتك وذكر أن بعد سنين أعطاه ليئة فقط وأن ليئة ولدت له روابين ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا ثم قعدت عن الولد وأن راحيل أعطت بعد ذلك يعقوب أمتها بلهة فتزوجها فولدت له دانا ثم نفتالي ثم أعطت ليئة أمتها زلفة ليعقوب فتزوجها فولدت له جاداً ثم أشير ثم أطلقت له راحيل مماسة ليئة في لقاح أخذتها منها فولدت له راحيل يوسف ثم بعد ولادة يوسف ابتدأ يعقوب بمعاملة خاله لابان على أجرة ذكرها لرعاية غنمه فرعاها له ست سنين هذا كله نص توراتهم فصح أن يسوف كان له عند تمام الست سنين ست سنين فقط بلا شك وإن جميع اولاد يعقوب حاشا بنيامين فإنما ولدوا ولابد في السبع سنين التي كانت قبل الست سنين المذكورة بلا شك والأولاد سبعة ففي كل عشرة أشهر ولدت ولداً لا يمكن أقل من هذا فلا شك في أن زابولون لا يزيد على يوسف إلا سنة واحدة فقط ولا يزيد عليه يساكر إلا سنتين فقط وأقل هذا على أ تلفي المدة التي ذكرنا أن ليئة قعدت فيها عن الولد والمدة التي اعتزلها فيها يعقوب ولابد أن لها مقداراً ما فعلى هذا فزابلون ويوسف ولدا معاً والمدة تضييق عن هذه القسمة ففي هذا الخبر كذب مقطوع به ضرورة ولابد ولا يجوز قليل الكذب ولا كثيره على الله تعالى ولا على نبي من الأنبياء فصح أنها مفتعلة مبدلة ولو كان لهذا الخبر وجه وإن غمض ومخرج وإن بعد أو أمكنت فيه حيلة أو ساغ فيه تأويل ما ذكرناه ونسأل الله العافية.
وفي توراتهم عند ذكر أولاد عيسو خبال شديد وتخليط في الأسماء والوالدات إلا أنه ربما خرج على وجوه بعيدة ضعيفة فلم نعتن بإيراده لذلك ولكن نبهنا عليه فالأظهر الأغلب فيه الكذب وأنه إيراد جاهل بتلك القضية بلا شك
فصل ثم ذكر بيع إخوة يوسف ليوسف
وأن إخوته كانوا مجتمعين حينئذ يرعون إذ وادهم ثم قال وفي ذلك الزمان اعتزل يهوذا عن إخوته وكان مع رجل من أهل عدلام يدعي اسمه حيرة فبصر في ذلك الموضع بابنة رجل كنعاني اسمه شوع فتزوجها وضاجعها فحملت وولدت ولداً اسمه عيرا ثم حملت ووضعت ثانياً وسماه أونان ثم حملت ووضعت وسمته شيلة ثم أمسكت عن الولد فزوج يهوذا عير بكر ولده امرأة وكان عير بكر يهوذا مذنباً بين يدي السيد ولذلك قتل فقال يهوذا لابنه أونان أدخل إلى امرأة أخيك وضاجعها لتحيي نسله فلما علم أنه لا ينسب إليه من ولد له منها دخل إلى امرأة أخيه وكان يعزل عنها لئلا يولد لأخيه منه ولذلك أهلكه السيد للفاحشة التي اطلع عليها منه فعند ذلك قال يهوذا لثامار كنته كوني أرملة في بيت أبيك إلى أن يكبر ابني شيلة وكان يتوقع أن يصيبه من الموت ما أصاب أخاه إن ضاجعها فسكنت في بيت أبيها وبعد أيام كثيرة توفيت بنت شوع امرأة يهوذا فصبر يهوذا وتسلى عنه حزنها وتوجه إلى جزاز غنامه مع حيرة صديقه العدلامي إلى تمنة وقيل لثامار إن خنتك صاعد إلى تمنة ليجزأ غنامه فألقت عن نفسها ثياب الأرامل وتقنعت وقعدت في مجمع الطرق المسلوكة التي تمنة فعلت ذلك مذ كبر شيلة ولم تزوج منه فلما رآها يهوذا ظنها زانية وكانت غطت وجهها لئلا تعرف فمال إليها وقلا ائذني لي في مضاجعتك وكان يجهل أنها كنته فقالت له ماذا تعطيني إن أمكنتك من مضاجعتي قال لها أبعث إليك جدياً من الغنم فقالت نعم إن أعطيتني رهناً إلى أن تبعث ما وعدت فقال لها يهوذا وما أرهنه لك قالت أرهن لي خاتمك وحزامك والعصا التي بيدك فحبلت من مضاجعة واحدة ثم انطلقت وألقت الشكل التي كانت فيه وعادت إلى شكل الأرامل وبعث يهوذا الجدي مع صديقه العدلامي ليأخذ من المرأة الرهن الذي وضعه عندها فسأل عنها إذ لم يجدها من سكان ذلك الموضع فقال أين المرأة القاعدة في مجمع الطرق فقالوا له لم تكن في هذا الموضع زانية فانصرف إلى يهوذا فقال له لم أجدها وقال لي سكان ذلك الموضع لم تكن ههنا زانية فقال له يهوذا تأخذ ما عندها مخافة ان تكون ضحكة فإني قد أرسلت الجدي إليها وأنت تقول لم أجدها وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إن كنتك ثامار قد زنت وقد بدا بطنها يظهر فقال يهوذا أخرجوها لتحرق فلما أخرجت بعثت إلى يهوذا إنما حبلت من الذي له هذا فاعرف هذا الخاتم والزنار والعصا فلما عرف قال هي أعدل مني إذ منعتها شيلة ولدي ولم يضاجعها بعد ذلك فلما أدركتها الولادة ظهر فيها تؤمان ففي وقت خروجهما بدر أحدهما وأخرج يده فربطت القابلة في يده خيطاً أرجواناً وقالت هذا يخرج أولاً فأدخل يده إلى نفسه وأخرج الولد الآخر فقالت له القابلة لم افترصت أخاك فسمي فارصاً وبعده خرج الذي ربط في يده الخيط الأرجوان وسمي زارح ثم الفصل
قال أبو محمد رضي الله عنه : ثم بعد فصول وقصص ذكر أولاد يعقوب المولودين بالشأم الذين دخلوا معه مصر إذ بعث يوسف عليه السلام فيهم كلهم فذكر يهوذا وبنيه الثلاثة الأحيأ شيلة وفارص وزارح وذكر لفارص هذا نفسه اثنين وهما حصرون وحامول ابنا فارص بن يهوذا المذكور
قال أبو محمد رضي الله عنه : ففي هذا الكلام عار وفضيحة مكذوبة وكذب فاحش مفرط القبح فأما العار فالذي ذكر عن يهوذا من طلبه الزنا بامرأة لقيها في الطريق على أن يعطيها جدياً ثم جوره في الحكم عليها بالحرق فلما علم أنه صاحب الخصلة أسقط الحكم عن نفسه وعنها ثم شنعة أخرى وهي قوله أن أونان بن يهوذا لما عرف أنه لا ينسب إليه من يولد له من امرأته التي تزوجها بعد موت أخيه جعل يعزل عنها وهذا عجب جداً أن تلد امرأة من رجل من زوجها من لا ينسب إليه لكن إلى غيره ممن قد مات قبل أن يتزوجها هذا فلعل فيهم الآن ولادات وأنسان في كتبهم مثل هذه فهذه والله أمور سمجة ثم دع يهوذا فليس نبياً ولا ينكر ممن ليس نبياً مثل هذا إنما الشأن كله والعجب في أنهم مطبقون بأجمعهم قطعاً على أن سليمان بن داود عليهما السلام بن أشماي بن عونين بن يوغز بن بشاي بن مخشون ابن عمينا ذاب بن نورام بن حصرون بن فارص المذكور بن يهوذا فجعلوا الرسولين الفاضلين مولودين من تلك الولادة الخبيثة راجعين إلى ولادة الزنا ثم أقبح ما يكون من الزنا رجل مع امرأة ولده حاش لله من هذا الإفك المفتري
ولقد قال لي بعضهم إذ قررته على هذا الفصل إن هذا كان مباحاً حينئذ فقلت له فلم امتنع من مضاجعتها بعد ذلك وكيف يكون مباحاً وهي لم تعرفه بنفسها ولا عرفها عند تلك المعاملة الخبيثة بالجدي المسخوط والرهن الملعون وإنما وطئها على أنها زانية إذ اغتلم إليها لا على أنها امرأة الميت ولده إلا إن قلتم إن الزنا جملة كان مباحاً حينئذ فقد قرت عيونكم فسكت خزيان كالحاً وتالله ما رأيت أمة تقر بالنبوة وتنسب إلى الأنبياء ما ينسبه هؤلاء الكفرة فتارة ينسبون إلى إبراهيم عليه السلام أنه تزوج أخته فولدت له إسحق عليهما السلام ثم ينسبون إلى يعقوب أنه تزوج إلى امرأة فدست إليه أخرى ليست امرأته فولدت له أولاداً منهم انتسل موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام ثم ينسبون إلى روبان بن يعقوب أنه زنى بربيبته زوج النبي أبيه وأم أخويه ثم ينسبون إلى نبيه يعقوب عليه السلام أنه فسق بها كرهاً وافتضها غلبة ثم ينسبون إلى يهوذا ما ذكرنا من زناه بامرأة ولديه فحبلت وولدت من الزنا ولداً منه انتسل داود وسليمان عليهما السلام ثم ينسبون إلى يوشع بن نون أنه تزوج رحب الزانية المشهورة الموقفة نفسها للزنا لكل من دب وهب في مدينة أريحا ثم ينسبون إلى عمران ابن فهث بن لاوي أنه تزوج عمته أخت والده واسمها يوحانذ ولدت لجده بمر فولد له منها هارون وموسى عليهما السلام هكذا ذكر نسبها في قرب آخر السفر الرابع ثم ينسبون إلى داوود عليه السلام أنه زنى جهاراً بامرأة رجل من جنده محصنة وزوجها حي وأنها ولدت منه من ذلك الزنا ابناً ذكراً ثم مات ذلك الفرخ الطيب ثم تزوجها وهي أم سليمان بن داوود عليهما السلام ثم ينسبون إلى أمثون بن داود عليهما السلام أنه فسق بسراري أبيه علانية أمام الناس ثم ينسبون إلى سليمان عليه السلام العهر وأنه تزوج نساءً لا يحل له زواجهن وأنه بنى لهن بيوت الأوثان وقرب لهن القرابين للأوثان مع ما ذكرنا قبل ونذكر إن شاء الله تعالى من نسبتهم الكذب إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف عليهم السلام ولكن أين هذا مما في توراتهم من نسبتهم لعب الصراع إلى الله تعالى مع يعقوب والكذب المفضوح فيما وعده وأخبر به فعلى من يصدق بشيءٍ من كل هذا الإفك لعنة الله وغضبه فأعجبوا لعظيم كفر هؤلاء القوم وما افتراه الكفرة أسلافهم الإنتان على الله تعالى وعلى رسله عليهم السلام ثم على كل كتاب حقق فيه شيءٌ من هذا وعلى كاتبه لعنة الله وغضبه عدد كل شيءٍ خلق الله فأحمدوا الله معاشر المسلمين على ما هداكم له من الملة الزهراء التي لم يشبها تبديل ولا تحريف والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد رضي الله عنه : وأما الكذبة الفاحشة المفضوحة التي هي من المحال المحض والافتراء المجرد فهو ما أذكره إن شاء الله تعالى فتأملوه تروا عجباً ذكر في توراتهم نصاً أن يهوذا بن يعقوب كان مع إخوته يرعون إذ وادهم إذ باعوا أخاهم يوسف وأن يهوذا أشار عليهم ببيعه وإخراجه من الجب ليخلصه بذلك من الموت ثم ذكر بعد ذلك أن يهوذا اعتزل عن إخوته وصار مع حيرة العدلامي ورأى ابنة رجل كنعاني اسمه شوع فتزوجها وولدت له ولداً اسمه عير ثم ولداً آخر اسمه أونان ثم ولداً آخر اسمه شيلة كما ذكرنا آنفاً حرفاً حرفاً وذكر بعد ذلك أن عير تزوج امرأة اسمها ثامار ودخل بها وكان مذنباً ولذلك قتله الله تعالى فزوجها من أخيه أونان فكان يعزل عنها فمات لذلك وبقيت أرملة ليكبر شيلة وتزوج منه وأن شيلة كبر ولم تزوج منه وقد اعترف بذلك يهوذا إذ قال هي أعدل مني إذ منعتها شيلة ابني وذكر بعد ذلك أنها تحيلت حتى زنت بيهوذا نفسه والد زوجها وحبلت منه وولدت منه تؤامين فارص وزارح كما ذكرنا قبل ثم ذكر بعد ذلك نسل يعقوب وأولاد أولاده المولودين بالشام ودخلوا معه مصر فذكر فيهم حصرون وحامول ابني فارص بن يهوذا فاضبطوا هذا وذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام إذ بلغ ست عشرة سنة كان يرعى ذوداً مع إخوته عند أبيه وأنهم باعوه فصح أنه كان ابن سبع عشرة سنة إذ باعوه وهكذا ذكر في توراتهم ثم ذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل على فرعون
وفسر له رؤياه في البقرات والسنابل وولاه أمر مصر ابن ثلاثين سنة ثم ذكر في توراتهم أن يوسف عليه السلام كان إذ دخل أبوه مصر مع جميع أهله ابن تسع وثلاثين سنة هذا منصوص فيها بلا خلاف من أحد منهم فصح يقيناً أنه لم يكن بين دخول يعقوب مع نسله مصر وبين بيع يوسف إلا اثنان وعشرون سنة وربما أشهر يسيرة زايدة لا أقل ولا أكثر هذا حساب ظاهر لا يخفى على جاهل ولا عالم وقد ذكر في توراتهم أن في هذه المدة تزوج يهوذا بنت شوع وولدت له ولداً ثم ثانياً ثم ثالثاً وأن الأكبر بلغ فزوج زوجة ثم مات بعد دخوله بها فزوجت بعده من أخيه فكان يعزل عنها فمات وبقيت مدة حتى كبر الثالث ولم تزوج منه فزنت بيهوذا والد زوجها فولد له منها تؤامان ثم ولد لأحد ذينك التؤمين ابنان وهذا محال ممتنع لا خفاء به لا يمكن البتة في طبيعة بشر ولا سبيل إليه في الجبلة والبنية بوجه من الوجوه هبك أن يهوذا اعتزل عن إخوته وتزوج بنت شوع باثر بيع يوسف بيوم وحبلت زوجته وولدت له الولد الأكبر في عامها الثاني ثم الثاني في عام آخر ثم الثالث في عام ثالث وهبك أن الأكبر زوج وله اثنا عشر عاماً من جملة اثنين وعشرين عاماً وبقي معها ما بقي معها ما بقي ثم زوجت من الثاني وله اثنا عشر عاماً فبقي يعزل عنها لئلا ينسب إلى أخيه من يولد له منها ثم مات وبقيت تنتظر أن يكبر شيلة وتزوج منه حتى طال عليها ورأت أنه قد كبر ولم تزوج منه وهذا لا يكون البتة في أقل من عام فهذه أربعة عشر عاماً ثم زنت بيهوذا فحملت فولدت فهذا عام أو أقل بيسير فلم يبق من الاثنين وعشرين عاماً إلا سبعة أعوام إلى ثمانية أعوام لا أكثر البتة فمن المحال الممتنع في العقل أن يوجد لرجل ابن ثمان سنين أو سبع سنين ولدان ما رأيت أجهل بالحساب من الذي عمل لهم التوراة وحاش لله أن يكون هذا الخبر البارد الكاذب عن الله تعالى أو عن موسى عليه السلام ولا عن إنسان يعقل ما يقول ويستحي من تعمد الكذب الفاضح ونسأل الله تعالى العافيةت
فصل وبعد ذلك ذكر عدد بني يعقوب المولودين بالشام عند خاله لابان الداخلين معه مصر
فذكر الذين ولدت له ليئة وهم ست ذكور وابنة واحدة وذكر أولاد هؤلاء الستة وسماهم فذكر لرأو بين أربعة ذكور ولشمعون ستة ذكور وللاوي ثلاثة ذكور وليهوذا ثلاثة ذكور وابني ابن له فهم خمسة وليساخر أربعة ذكور ولزابلون ثلاثة ذكور المجتمع من بني ليئة في نص توراتهم بعق تسميتهم.
هؤلاء بنو ليئة وعدد أولادها وبناتها ثلاثة وثلاثون هكذا نص توراتهم وهذا خطأٌ في الحساب تعالى الله عن أن يخطىء في الحساب أو يخطىء فيه موسى عليه السلام فصح أنها من توليد جاهل غث أو من عابث سخر بهم وكشف سوآتهم
فصل ثم ذكر بعد هذا أولاد راحيل
فذكر يوسف وبنيامين وبنيهما قال وهم أربعة عشر ذكراً أولاد زلفي عاد وأشار وبنيهما وهم ستة عشر وذكر أولاد بلهة دان ونفتالي وبنيهما قال وهم سبعة ثم وصل ذلك بأن قال وعدد نسل يعقوب الذين دخلوا معه مصر سوى نساء أولاده ستة وستون وأبناء يوسف اللذان ولدا له بمصر اثنان فجميع الداخلين إلى مصر سبعون
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا خطأ فاحش لأن المجتمع من الأعداد المذكورة تسعة وستون فإذا أسقطت منهم ولدي يوسف اللذان ولدا له بمصر بقي سبعة وستون وهو يقول ستة وستون فهذه كذبة ثم قال فجميع الداخلين معه إلى مصر سبعون فهذه كذبة ثانية وقد قدمنا أن الذي عمل لهم التوراة كان ضعيف البصارة بالحساب وليست هذه صفة الله عز وجل ولا صفة من معه مسكة عقل تردعه عن الكذب وتعمده على الله تعالى وعن تكلف ما يحسن ولا يقوم به وذكر في هذا الفصل قصة أخرى فيها الاعتراض إلا أنها تخرج على وجه ما فلذلك لم نفرد لها فصلاً وهي أنه ذكر أولاد بنيامين فقال بالع وباكر واشبيل وجير ونعمان وابجي وروش ومفيم وحفيم وارد ثم ذكر في السفر الرابع من توراتهم فذكر بالع واشبيل واجير ومفيم وحفيم فقط ثم قال وأبناء بالع ازد ونعمان ابني بالع فإن لم يكن هذا على أنه لم ينسل من أولئك العشرة إلا خمسة الذين ذكرهم في الرابع وإن ازد ونعمان ابني بالع هما غير ازد ونعمان ابني بنيامين وإلا فهي كذبة وقد قلنا إن كل ما يمكن تخريجه بوجه وإن بعد فلسنا نخرجه في فضائح كتابهم المكذوب
فصل ثم ذكر بركة يعقوب عليه السلام على بنيه
وأنه وضع يده اليمنى على رأس افرايم بن يوسف واليسرى على رأس منسي بن يوسف وإن ذلك شق على يوسف عليه السلام وقال لا يحسن هذا يا أبت لأن هذا بكر ولدي فاجعل يمينك على رأسه يعني منسي فكره ذلك يعقوب وقال علمت يا بني علمت وستكثر ذرية هذا وتعظم ولكن أخوه الأصغر يكون أكثر منه نسلاً وعدداً يعني أن افرايم يكون عدد نسله أكثر من عدد نسل منسي ثم ذكر في مصحف يوشع أن بني منسي كانوا إن دخلوا الشام وقسمت عليهم الأرض اثنين وخمسين ألف مقاتل وسبعماية وإن بني أفرايم كانوا حينئذ اثنين وثلاثين ألفاً وخمسمائة وذكر في كتاب لهم معظم عندهم اسمه سفطيم أنه ذكر بني إسرائيل قبل داود عليه السلام أربعة من ملوك بني منسي وأربعة من بني أفرايم وأن من جملة بني منسي المذكورين رجلاً اسمه مفتاح بن علفاذ قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف مقاتل حتى كاد يستأصلهم وفي كتاب لهم آخر معظم عندهم أيضاً اسمه ملاخيم أنه ملك عشرة أسباط من بني إسرائيل بعد سليمان عليه السلام إلى أن ذهب الأسباط المذكورون وسبوا من بني أفرايم ملكين كانت مدتهما جميعاً ستة وعشرين سنة فقط وهما باريعام وابنه باباط ووليهم من بني منسي خمسة ملوك واتصلت دولتهم مائة عام وعامين وهما زحر بابن باريعام بن نواس بن نهر باحار بن بهو كلهم ملك بن ملك بن ملك بن ملك بن ملك ولم يكن فيمن ملك الأسباط العشرة أقوى ملكاً من هؤلاء المنسانين وهذا ضد قول يعقوب الذي حكوه عنه وحاش لله أن يكذب نبي فيما ينذر به من الله عز وجل فإن قالوا إن يوشع بن نون وربورانسه وملحي المورشي النبي كلهم كان من بني أفرايم وكان بنو أفرايم إذ أخرجوا من مصر أربعين ألف مقاتل وخمسمائة مقاتل ومائتي مقاتل وكان بنو منسي يومئذ اثنين وثلاثين ألف مقاتل ومائتي مقاتل قلنا لم تذكروا أن يعقوب قال يكون الشرف في نسل أفرايم إنما حكيتم أنه قال إن أفرايم يكون أكثر نسلاً وعدداً من منسي على التأبيد والعموم وإيصال البركة لا على وقت خاص قليل ثم يعود الأمر بخلاف ذلك فتبطل البرطة ويصير
فصل ثم ذكر عن يعقوب عليه السلام أنه قال لرأوبين في ذلك الوقت
أنت أول المواهب مفضل في الشرف مفضل في العز ولا تفضل منهملة ماء
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كلام يكذب أوله آخره
فصل ثم ذكر أنه عليه السلام قال ليهوذا حينئذ لا تنقطع من يهوذا المخصرة
ولا من نسله قائد حتى يأتيني المبعوث الذي هو رجاء الأمم
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا كذب قد انقطعت من ولد يهوذا المخصرة وانقطعت من نسله القواد ولم يأت المبعوث الذي هو رجاؤهم وكان انقطاع الملك من ولد يهوذا من عهد بخت نصر مذازيد من ألف عام وخمسمائة عام إلا مدة يسيرة وهي مدة زربائيل بن صلثائيل فقط وقد قررت على هذا الفصل أعلمهم وأجدلهم وهو أشموال بن يوسف اللاوي الكاتب المعروف بابن النفرال في سنة أربع وأربعمائة فقال لي لم تزل رؤس الجواليت ينتسلون من ولد داوود وهم من بني يهوذا وهي قيادة وملك ورياسة فقلت هذا خطأ لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم وإنما هي تسمية لا حقيقة لها ولا له قيادة ولا بيده مخصرة فكيف وبعد احرب بابن برام لم يكن من بني يهوذا وال أصلاً مدة من ستة أعوام ثم بعده نشأ الملقب صدقيا بن يوشيا لم يكن منهم لأحد له معين ولا من يملك على أحد اثنين وسبعين عاماً متصلة حتى ولي زرباييل ثم انقطع الولاة منهم جملة لا رأس جالوت ولا غيره مدة ولات الهارونيين ملكاً ملكاً مئين من السنين ليس لأحد من يهوذا في ذلك أمر إلى دولة المسلمين أو قبلها بيسير فلوقعوا اسم رأس الجالوت على رجل من بني داود إلى اليوم إلا أن بعض المؤرخين القدما كذر أن هردوس وابنيه وابن ابنه اعريفاس بن اعريفاس كانوا من بني يهوذا والأظهر أنهم من الروم عند كل مؤرخ فظهر كذب هؤلاء الأنزال بيقين وحاش لله أن يكذب نبي
فصل ثم ذكر أن يعقوب عليه السلام قال للاوي وشمعون سأبددهما في يعقوب وأفرقهما في إسرائيل
قال أبو محمد رضي الله عنه : أما لاوي فكان نسله مبدداً في بني إسرائيل كما ذكر وأما بنو شمعون فلا بل كانوا مجتمعين في البلد الذي وقع لهم كسائر الأسباط ولا فرق وليس إنذار النبوة مما يكذب في قصة ويصدق في أخرى هذه صفات إنذارات الحساب القاعدين على الطرق للنساء ولمن لا عقل له
فصل وقال في السفر الثاني من توراتهم أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام قل لفرعون السيد يقول الأسرائيل
بكر ولدي ويقول لك ائذن لولدي ليخدمني وإن كرهت الآن سأهلك بكر ولدك
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا عجب ناهيك به ليت شعري ماذا ينكرون على النصارى بعد هذا وهل طرق للنصارى سبيل الكفر في أن يجعلوا لله ولداً ونهج لهم طريق التثليث على ما ذكرنا قبل هذا إلا هذه الكتب الملعونة المبدلة إلا أن النصارى لم يدعوا بنوة لله تعالى إلا لواحد أتى بمعجزات عظيمة وأما هذه الكتب السخيفة وكل من تدين بها فإنهم ينسبون بنوةً لله إلى جميع بني إسرائيل وهم أوسخ الأمم وأرذلهم وكفرهم أوحش وجعلهم أفحش
فصل ثم ذكر أن هارون ألقى العصا بين يدي فرعون وعبيده فصارت حية
فدعى فرعون بالعلماء والسحرة وفعلوا بالرقى المصري مثل ذلك ولكن عصى موسى ازدرت عصيهم.
ثم ذكر أن موسى وهارون فعلا ما أمرهما السيد فرفع العصا وضرب بها ماء النهر بين يدي فرعون وعبيده فعاد دماً ومات كل حوت فيه ونتن النهر ولم يجد المصريون سبيلاً إلى الشرب منه وصار الماء في جميع أرض مصر دماً ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم.
ثم ذكر أن هارون مد يده على مياه مصر وخرجت الضفادع منها وغطت أرض مصر ففعل السحرة برقاهم مثل ذلك وأقبلوا بالضفادع على أرض مصر ثم ذكر أن هارون مد يده بالعصا وضرب بها غبار الأرض فتخلق منها بعوض في الآدميين والأنعام وعاد جميع الغبار بعوضاً في جميع أرض مصر فلم يفعل السحرة مثل ذلك برقاهم وراموا اختراع البعوض فلم يقدروا عليه فقال السحرة لفرعون هذا صنع الله
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه الآبدة المصمئلة والصيلم المطبقة ولو صح هذا لبطلت نبوة موسى عليه السلام بل نبوة كل نبي ولو قدر السحرة على شيءٍ من جنس ما يأتي به النبي لكان باب السحرة وباب مدعي النبوة واحداً ولما انتفع موسى بازدراه عصاه لعصيهم ولا بعجزهم عن البعوض وقد قدروا على قلب العصي حيات وعلى إعادة الماء دماً وعلى المجيء بالضفادع ولما كان لموسى عليه السلام عليهم بنبوته أكثر من أنه أعلم بذلك العمل منهم فقط ولو كان كما قال هؤلاء الكذابون الملعونون لكان فرعون صادقاً في قوله إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ولا منفعة لهم في قول السحرة في البعوض هذا صنع الله لأنه يقال لبني إسرائيل فعلى موجب قول السحرة لم يكن من صنع الله قلب العصا حية والماء دماً والمجيء بالضفادع بل من غير صنع الله وهذه عظيمة تقشعر منها الجولد أين هذا الإفك المفترى البارد من نور الحق الباهر إذ يقول الله عز وجل " إنما صنعوا كيد ساحر " وإذ يقول تعالى " وجاء السحرة فرعون قالوا أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " وإذ يقول تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فأخبر عز وجل أن الذي عمل موسى حق وأن عصاه صارت ثعباناً على الحقيقة بقوله تعالى " فإذا هي ثعبان مبين " فصح أنه تبين ذلك لكل من رآه يقيناً وأخبر أن الذي عمل السحرة إنما هو إفك وتخييل وكيد وهذا هو الحق الذي تشهد به العقول لا في الكتاب المبدل المحرف.
فصح أن فعل السحرة حيلة مموهة لا حقيقة لها وهذا الذي يصححه البرهان إذ لا يحيل الطبائع إلا خالقها شهادة لرسله وأنبيائه وفرقاً بين الصدق والكذب لا قولهم عمل السحرة مثل ما عمل موسى في وقت تكليفه برهانٌ على صدق قوله وعند تحديه لهم على أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين وهو كاذب فأتوا بمثله فانظروا النتيجة يرحمكم الله.
هذه سوءة تشهد شهادة قاطعة صادقة بأن صانع ذلك الكتاب الملعون المكذوب الذي يسمونه الحماس ويدعون أنه توراة موسى عليه السلام إنما كان زنديقاً مستخفاً بالباري تعالى ورسله وكتبه وحاش لموسى ﷺ منه وأنهم إلى الآن يزعمون أن إحالة الطبائع وقلب الأجناس عن صفاتها الذاتية إلى أجناس أخر واختراع الأمور والمعجزات في البنية يقدر على ذلك بالرقى والصناعات.
واعلموا أن من صدق بهذا مبطل للنبوة بلا مرية إذ لا فرق بين النبي وغيره إلا في هذا الباب فإذا أمكن لغير النبي فلم يبق إلا دعوى لا برهان عليها ونعوذ بالله من الضلال.
ولقد شاهدناهم متفقين إلى اليوم على أن رجلاً من علمائهم ببغداد دخل من بغداد إلى قريظة في يوم واحد وأنبت قرنين في رأس رجل من بني الإسكندراني كان ساكناً بقرب دار اليهود عند فندق الحرقة كان يؤذي يهود تلك الجهة ويسخر منهم وهذه كذبة وفضيحة لا نظير لها والموضع مشهور عندنا بقرطبة داخل المدينة وبنو عبد الواحد بن يزيد الإسكندري من بيته رفيعة مشهورة أدركنا آخرهم كانت فيهم وزارة وعمالة ليس فيهم مغمور ولا خفي إلى أن بادوا ما عرف قط أحد منهم هذه إلا حموقة مختلفة.
والقوم بالجملة أكذب البرية أسلافهم وأخلافهم وعلى كثرة ما شاهدنا منهم ما رأيت فيهم قط متحرياً للصدق إلا رجلين فقط
فصل قصة قلب الماء دماً فضيحة أخرى ظاهرة الكذب
قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي قصة قلب الماء دماً فضيحة أخرى ظاهرة الكذب وهي أن في نص الكلام الذي يزعمونه التوراة ثم قال السيد لموسى قل لهارون مد يدك بالعصا على مياه مصر وأنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها لتعود دماً وتصير ماء في آنية التراب والخشب دماً ففعل موسى وهارون كما أمرهما به السيد إلى قوله وصار الماء في جميع أرض مصر دماً ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم واشتد قلب فرعون ولم يسمع لهما على حال ثم انصرف فرعون ودخل بيته ولم يوجه قلبه إلى هذا أيضاً وحفر جميع المصريين حوالي النهر ليصيبوا الماء منها لأنهم لا يقدرون على شرب الماء من النهر
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا نص كتابهم فأخبر أن كل ماء كان بمصر في أنهارها وأوديتها ومروجها وجناتها وأواني الخشب والتراب والماء كله في جميع أرض مصر صار دماً فأي ماء بقي حتى تقلبه السحرة دماً كما فعل موسى وهارون أبى الله إلا فضيحة الكذابين وخزيهم فإن قالوا قلبوا ماء الآبار التي حفرها المصريون حول النهر قلنا لهم فكيف عاش الناس بلا ماء أصلاً أليس هذه فضائح مرددة وهل يخفى أن هذا من توليد ضعيف العقل أو زنديق مستخف لا يبالي بما أتى به من الكذب ونعوذ بالله من الضلال
فصل وبعد ذلك ذكر الله تعالى أمر موسى أن يقول لفرعون ستكون يدي على مكسبك الذي لك
في الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شديد ويظهر السيد هذا في الأرض ففعل السيد ذلك في يوم آخر وماتت جميع دواب المصريين ولم يمت لبني إسرائيل دابة فاشتد قلب فرعون ولم يأذن لهم.
ثم ذكر بعد ذلك أمر الله تعالى موسى بأن يأخذ ما حملت الكف من رماد الكانون ويلقيه إلى السماء بين يدي فرعون ليصير غباراً في جميع أرض مصر فيكون في الآدميين والأنعام خراجات ونفاطات فأخذ رماداً من كانون ووقف بين يدي فرعون ورماه موسى إلى السماء وصارت منه نفاطات في الآدميين والأنعام ولم تقدر السحرة على الوقوف عند موسى لما كان أصابهم من ألم النفاطات وكان مثل ذلك في جميع أرض مصر والسحرة فشدد الله قلب فرعون ولم يسمع لهما على حال ما عهد السيد إالى موسى.
وبعد ذلك قال إن الله أمر موسى أن يقول لفرعون غداً هذا الوقت أمطر برداً كثيراً جداً لم ينزل مثله على مصر من اليوم الذي أسست فيه إلى هذا الوقت فابعث واجمع أنعامك وكل من تملكه في الفدان فكل ما أدركه البرد في الفدان ولم يدخل البيوت فمن خاف وعيد السيد من عبيد فرعون أدخل عبيده وأنعامه في البيوت ومن استهان بوعيد السيد أبقى عبيده وأنعامه في الفدان.
وقال السيد لموسى مد يدك إلى السماء لينزل البرد في جميع أرض مصر فمد موسى يده بالعصا فأتى السيد بالرعد والبرد المختلف على الأرض ثم أمطر السيد البرد في جميع أرض مصر مخلوطاً بنار ولم ينزل بعظمة في تلك الأرض من حين سكن ذلك الجنس فأهلك البرد في جميع أرض مصر كلما ظهر به في الفدادين من الآدميين والأنعام وجميع عشبهما وكسر جميع شجرها ولم ينزل منه شيء في أرض قوس حيث كان بنو إسرائيل
قال أبو محمد رضي الله عنه : تأملوا هذا الكذب الهجين اللائح.
ذكر أولاً أن موسى أتى بالوباء وأخبر عن الله تعالى أنه قال لفرعون سأهلك مكسبك الذي في الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك فعمم جميع الناس ما أدخل في البيوت وما لم يدخل يعم جميع الحيوان صنفاً صنفاً ثم أخبر أن جميع دواب المصريين ماتت ولم تمت لبني إسرائيل ولا دابة ثم ذكر أمر النفاطات ثم ذكر أمر البرد وأن موسى أنذر فرعون من الله تعالى وأمره بإدخال أنعامه في البيوت وأن ما أدرك البرد منها في الفحص يهلك فليت شعري أي دابة بقيت لفرعون وأهل مصر وقد ذكر أن الوباء أهلك جمعيها وبين الإبل والحمير والخيل والغنم والبقر أليس هذا عجباً وليس يمكن أن يقول إن دواب بني إسرائيل هلكت آخراً إذ سلمت أولاً لأنه قد بين أنه لم يقع من البرد شيءٌ في أرض قوس حيث سكنى بني إسرائيل ولم يكن بين آية وآية بإقرارهم وقت يمكن فيه جلب أنعام إليهم من بلد آخر لأنه لم يكن بين الآية والآية إلا يوم أو يومان أو قريب من ذلك ومصر واسعة الأعمال ولا تتصل بشيءٍ من العماير بل بين جميع انتهاء أقطارها من كل جهة وبين أقرب العماير إليها مسيرة أيام كثيرة كالشام وبلاد الغرب وأرض النوبة والسودان وأفريقة فظهر كذب من عمل ذلك الكتاب المبدل المحرف المفترى الذي يزعمونه التوراة وحاش لله من ذلك والحمد لله على السلامة من مثل عملهم وضلالهم كثيراً
فصل وبعد ذلك قال وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة
فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معسكر السيد من أرض مصر
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه فضيحة الدهر وشهرة الأبد وقاصمة الظهر يقول هاهنا أن مسكن بني إسرائيل بمصر أربع ماية سنة وثلاثون سنة وقد ذكر قبل أن فاهاث بني لاوي دخل مصر مع جده يعقوب ومع أبيه لاوي ومع سائر أعمامه وبني أعمامه وإن عمر فاهاث بن لاوي المذكور كان مائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة وأن عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان عمره مائة سنة وسبعاً وثلاثين سنة وأن موسى بن عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة هذا كله منصوص كما نذكره في الكتاب الذي يزعمون أنه التوراة فهبك أن فاهاث دخل مصر ابن شهر أو أقل وأن عمران ابنه ولد بعد موته وأن موسى بن عمران ولد بعد موت أبيه ليس يجتمع من كل ذلك إلا ثلاث مائة عام وخمسون عاماً فقط فأين الثمانون عاماً الباقية من جملة أربع مائة سنة وثلاثين سنة.
فإن قالوا نضيف إلى ذلك مدة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته قلنا قد بين في التوراة أنه كان إذ دخله ابن سبع عشرة سنة وأنه كان إذ دخلها أبوه وإخوته ابن تسع وثلاثين سنها فأما كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين وعشرين سنة ضمها إلى ثلثماية سنة وخمسين سنة يقوم من الجميع بلا شك ثلاثمائة واثنان وسبعون سنة أين الثماني والخمسون الباقية من أربعماية وثلاثين سنة هذه شهرة لا نظير لها وكذب لا يخفى على أحد وباطل يقطع بأنه لا يمكن البتة أن يعتقده أحد في رأسه شيءٌ من دماغ صحيح لأنه لا يمكن أن يكذب الله تعالى في دقيقة ولا أن يكذب رسوله ﷺ عامداً ولا مخطئاً في دقيقة فيقره الله تعالى على ذلك فكيف ولابد أن يسقط من هذه المدة سن فاهاث إذ ولد له عمران وسن عمران إذ ولد له موسى عليه السلام والصحيح الذي يخرج على نصوص كتبهم أن مدة بني إسرائيل مذ دخل يعقوب وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام لم تكن إلا مائتي عام وسبعة عشر عاماً فهذه كذبة في مائتي عام وثلاثة عشر عام ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدلة من حمار في جهله أو مستخف سخر بهم ولابد
فصل وبعد ذلك قال وعند ذلك مجد موسى وبنو إسرائيل بهذه السورة
وقالوا مجد بنا السيد فإنه يعظم ويشرف وأغرق في البحر الفرس وراكبه قوتي ومديحي للسيد وقد صار خلاصي هذا إلهي أمجده وإله أبي أعظمه السيد قاتل كالرجل القادر وفي السفر الخامس اعلموا أن السيد إلهكم الذي هو نارٌ أكول
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه سؤة من السوآت لتشبيه الله عز وجل بالرجل القادر ويخبر بأنه نار.
هذه مصيبة لا تجبر ولقد قال بعضهم أليس الله تعالى يقول عندكم " الله نور السماوات والأرض " قلت نعم وقد قال رسول الله ﷺ إذ سأله أبو ذر.
هل رأيت ربك فقال نورٌ أنى أراه.
وهذا بين ظاهر أنه لم يعن النور المرئي لكن نور لا يرى.
فلاح أن معنى نور السماواتوالأرض إذ ثبت أنه ليس هو النور المرئي الملون أنه الهادي لأهلهما فقط وأن النور اسم من أسماء الله تعالى فقط وأما قوله تعالى " مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة إلى قوله ولو لم تمسسه نار " فإنه شبه نوره الذي يهدي به أولياءه بالمصباح الذي ذكر فإنه شبه مخلوقاً بمخلوق.
وبيان ذلك قوله تعالى متصلاً بالكلام المذكور في الآية نفسها " نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء " فصح ما قلناه يقيناً من أنه تعالى إنما عنى بنوره هداه للمؤمنين فقط وهذا أصح تشبيه يكون لأن نور هداه في ظلمة الكفر كالمصباح في ظلمة الليل
فصل ثم وصف المن النازل عليهم من السماء فقال وكان أبيض شبيهاً بزريعة الكزبر ومذاقهه كالسميد المعل
ثم قال في السفر الرابع كان المن شبيهاً بزريعة الكزبر ولونه إلى الصفرة وكان طعمه كطعم الخبز المعجون بالزيت
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا تناقض في الصفة واللون والطعم وإحدى الصفتين تكذب الأخرى بلا شك
فصل وبعد ذلك قال إن الله عز وجل قال لبني إسرائيل لقد رأيتموني كلكم من السماء فلا تتخذوا معي آلهة الفضة
ثم قال بعد ذلك ثم صعد موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعون رجلاً من المشايخ ونظروا إلى إله إسرائيل وتحت رجليه كلبنة من زمرد فيروزي وكسماء صافية ولم يمد الرب يده إلى خيار بني إسرائيل الذين نظروا إلى الله وأكلوا وشربوا وقال بمقربة من ذلك وكان منظر عظمة السيد كنار آكلة في قرن الحيل يراه جماعة من بني إسرائيل
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا تجسيم لا شك فيه وتشبيه لا خفاء به وليس هذا كقول الله تعالى " وجاء ربك والملك صفاً صفاً " ولا كقوله تعالى " إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " ولا كقول رسول الله ﷺ.
ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة في ثلث الليل الباقي إلى سماء الدنيا.
لأن هذا كله على ظاهره بلا تكلف تأويل إنما هي أفعال يفعلها الله عز وجل تسمى مجيئاً وإتياناً وتنزلاً ولا مثل قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم " " ويبقى وجه ربك " وسائر ما في القرآن من مثل هذا فكله ليس بمعنى الجارحة لكن على وجوه ظاهرة في اللغة قد بيناها في غير هذا المكان عمدتها إن كل ذلك خبر عن الله تعالى لا يرجع بشيء من ذلك إلى سواه أصلاً ثم كيف يجتمع ما ذكرنا عن توراتهم مع قوله في السفر الخامس كلمكم الله من وسط اللهيب فسمعتم صوته ولم تروا له شخصاً وهاتان قضيتان تكذب كل واحدة منهما الأخرى ولابد
فصل وبعد ذلك قال فلما أطال موسى المقام اجتمع بنو إسرائيل إلى هارون
وقالوا قم واعمل لنا إلهاً يتقدمنا فإننا لا ندري ما أصاب موسى الرجل الذي أخرجنا من مصر فقال لهم هارون اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم وأولادكم وبناتكم وائتوني بها ففعلوا ما أمرهم به وأتوه بالأقراط فلما قبضها هارون أفرغها وعمل لهم منها عجلاً وقال هذا إلهكم يا بني إسرائيل الذي أخرجكم من مصر فلما بصر بها هارون بنى مذبحاً بين يدي العجل وبرح مسمعاً غداً عيد السيد فلما قاموا صباحاً قربوا له قرباناً وأهدوا له هدايا وقعدت العامة تأكل وتشرب وقاموا للعب.
ثم ذكر إقبال موسى وأنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تنثني وبعد ذلك ذكر أنه قال لهارون ماذا فعلت بك هذه الأمة إذ جعلتم تذنبون ذنباً عظيماً فقال له هارون لا تغضي سيدي فإنك تعرف رأي هذه الأمة في الشر قالوا لي اعمل لنا إلهاً يتقدمنا لأننا نجهل ما أصاب موسى الذي أخرجنا من مصر فقلت لهم من كان عنده منكم ذهب فليقبل به إلي وألقيته في النار وخرج لهم منه هذا العجل فلما رأى موسى القوم قد تعروا وكان هارون قد عراهم بجهالة قلبه وصيرهم بين يدي أعداهم عراة
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا الفصل عفا على ما قبله وطم عليه أن يكون هارون وهو نبي مرسل يتعمد أن يعمل لقومه إلهاً يعبدونه من دون الله عز وجل وينادي عليه غداً عيد السيد ويبني للعجل مذبحاً ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ثم يجردهم ويكشف استاههم للرقص وللغناء أمام العجل إلا أن تكون أحق استاه كشفت إن هذا لعجبٌ نبي مرسل كافر مشرك يعمل لقومه إلهاً من دون الله أو يكون العجل ظهر من غير أن يتعمد هارون عمله فهذه والله معجزة كمعجزات موسى ولا فرق إلا أن هذا هو الضلال والتلبيس والإشكال والتدليس المبعد عن الله تعالى إذ لو كان هذا لما كان موسى أولى بالتصديق من عابد العجل الملعون أترى بعد استخفاف النذل الذي عمل لهم هذه الخرافة بالأنبياء عليهم السلام استخفافاً حاش لله من هذا أو ترون بعد حمق من يؤمن بأن هذا من عند موسى رسول الله وكليمه عن الله تعالى حمقاً نحمد الله على العافية أين هذا الهوس البارد والكذب المفترى من نور الحق الذي يشهد له العقل بالصحة الذي جاء به محمد رسول الله ﷺ عن الله عز وجل حقاً إذ يقول في هذه القصة نفسها ما لا يمكن سواه " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوارٌ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين " وقوله عز وجل " فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ َفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا َلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي " وقوله " قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي" فهذا هو الصدق حقاً إنما عمل لهم العجل الكافر الضال السامري وأما هارون فنهاهم عنه جهده وإنهم عصوه وكادوا يقتلونه وقد بين الصبح لذي عينين ولاح صدق قوله تعالى من كذب الآفكين.
وأما الخوار فقد صح عن ابن عباس ما لا يجوز سواه وأنه إنما كان دوي الريح تدخل من قبله وتخرج من دبره وهذا هو الحق لأنه تعالى أخبر أنه لا يكلمهم ولو خار من عند نفسه لكان ضرباً من الكلام ولكانت حياة فيه وهو محال إذ لا تكون معجزة ولا إحالة لغير نبي أصلاً وبالله تعالى التوفيق
فصل وفي خلال هذه الفصول ذكر أن الله عز وجل قال لموسى دعني أغضب عليهم وأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة
وأن موسى رغب إليه وقال له تذكر إبراهيم وإسرائيل وإسحاق عبيدك الذين خلقتهم بيدك وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى يكونوا كنجوم السماء وأورثتهم جميع هذه الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها فحن السيد ولم يتم ما كان أراد إنزاله من المكروه بأمته
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل عجايب.
أحدها إخباره بأن الله تعالى لم يتم ما أراد إنزاله من المكروه بهم وكيف يجوز أن يريد الله عز وجل إهلاك قوم قد تقدم وعده لهم بأمور ولم يتمها لهم بعد وحاش لله من أن يريد إخلاف وعده فيريد الكذب.
وثانيها نسبتهم البدآء إلى الله عز وجل وحاش لله من ذلك والعجب من إنكار من أنكر منهم النسخ بعد هذا ولا نكرة في النسخ لأنه فعل من أفعال الله أتبعه بفعل آخر من أفعاله مما قد سبق في علمه كونه كذلك وهذه صفة كل ما في العالم من أفعاله تعالى وأما البدآ فمن صفات من يهم بالشيء ثم يبدو له غيره وهذه صفة المخلوقين لا صفة من لم يزل لا يخفى عليه شيء يفعله في المستأنف.
وثالثها قوله فيها ويمكلونها وهذا كذب ظاهر ما ملكوها إلا مدة ثم خرجوا عنها إلى الأبد والله تعالى لا يكذب ولا يخلف وعده
فصل وبعد هذا ذكر أن الله تعالى قال لموسى اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك
التي أخرجت من مصر إلى الأرض التي وعدت بها مقسماً إبراهيم وإسحاق ويعقوب لا ورثها نسلهم وابعث بين يديك ملكاً لإخراج الكنعانيين والأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين تدخل في أرض تفيض لبناً وعسلاً لست أنزل معكم لأنكم أمة قساة الرقاب لئلا تهلك بالطريق فلما سمعت العامة هذا الوعيد الشديد عجبت ولم تأخذ زينتها فقال السيد لموسى قل لبني إسرائيل أنتم أمة قد قست رقابكم سأنزل عليكم مرة وأهلكم فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعل بكم وبعد ذلك بفصول قال إن موسى قال لله تعالى إن كنت سيدي عني راضياً فأنا أرغب إليك أن تذهب معنا وبعد ذلك إن الله تعالى قال لموسى سأخرج بنفسي بين يديك
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل كذبتان وتشبيه محقق أما الكذبتان.
فأحدهما قوله أنه سيبعث بين يدي موسى ملكاً لإخراج الأعداء وأما هو تعالى فليس ينزل معهم ثم نزل معهم وهذا كذب لا مخلص منه تعالى الله عن هذا وحاش له من أن يقول سأفعل ثم لا يفعل وأن يقول لا أفعل ثم يفعل.
والثانية قوله إني سأنزل إليكم مرة وأهلككم ثم لم يفعل حاش لله من هذا وأما التشبيه المحقق فامتناعه من أن ينزل بنفسه واقتصاره على أن يبعث ملكاً لنصرتهم ثم أجاب إلى النزول معهم وهذا ما لا يسوغ فيه ما يسوغ فمن حديث التنزيل من أنه فعل بفعله تعالى لأنه لو كان هذا لكان إرسال الملك أقوى ما يوجد في العالم فإذ قد بطل فقد صح أنه نزول نقلة ولابد
فصل وفي خلال هذه الفصول قال وكان السيد يكلم موسى مواجهة فماً بفم كما يكلم المرء صديقه
وإن موسى رغب إلى الله تعالى أن يراه وأن الله تعالى قال له سأدخلك في حجر وأحفظك بيميني حتى أجتاز ثم أرفع يدي وتبصر ورائي لأنك لا تقدر أن ترى وجهي ففي هذين الفصلين تشبيه شنيع قبيح جداً من إثبات آخر بخلاف الوجه وهذا ما لا مخرج منه
فصل وفي السفر الثالث أن الباري تعالى قال له من ضاجع امرأة عمه أو خاله أو كشف عورة بنته فيحملان جميعاً ذنوبهما ويموتان من غير أولاد
قال أبو محمد رضي الله عنه : كنا ذكرنا أننا لا نخرج عليهم من توراتهم كلاماً لا يفهم معناه إذ للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد لكن هذا المكان لم يتخلف فيه وعدنا لأنها شريعة
فصل وفي السفر الرابع ذلك أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر القادرين على القتال
خاصة من كان ابن عشرين سنة فصاعداً كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل وخمسين مقاتل وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين ولا من لا يطيق القتال ولا النساء جملة وإن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ست مائة ألف رجل والف رجل وسبع مائة رجل وثلاثون رجلاً لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وأن على هؤلاء قسمت الأرض المغنومة وعلى النساء وعلى من كان دون العشرين أيضاً.
وفي كتبهم أن داود عليه السلام أحصى في أيامه بني إسرائيل فوجد بني يهوذا خاصة خمسماية ألف مقاتل ووجد التسع الأسباط الباقية حاش بني لاوي وبني بنيامين فلم يحصهما ألف ألف مقاتل غير ثلاثين ألفاً وسوى من لا يقدر على القتال من صبي أو شيخ أو معذور وكل هؤلاء إنما كانوا في فلسطين والأردن وبعض عمل الغور فقط والبلد المذكور بحالته كما كان لم يزد بالاتساع ولا نقص وفي كتبهم أيضاً أن ابنا ابن ربعام بن سليمان بن داود قتل من العشرة الأسباط من بني إسرائيل خمس مائة ألف رجل وأن ابنا قتل اثنين وخمسين ألف مقاتل
قال أبو محمد رضي الله عنه : البلد المذكور باق لم ينقض ولا صغرت أرضه وحده بإقرارهم في الجنوب غزة وعسقلان ورجح وطرق من جبال الشراة بلد عيسو ولا خلاف بينهم في أنهم لم يملكوا قط قرية فما فوقها من هذه البلاد وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين مرة لبني إسرائيل ومراراً عليهم وحد ذلك البلد في القرب البحر الشامي وحده في الشمال صور وصيدا وأعمال دمشق التي لا يختلفون في انهم لم يملكوا قط منها مضرب وتدوانهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين لهم فمرة عليهم ومرة لهم وفي أكثر ذلك يملكون بني إسرائيل ويسومونهم سوء العذاب ومرة يخرج بنو إسرائي عن ملكهم فقط وحد البلد المذكور في الشرق بلاد مواب وعمون وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال.
ولا خلاف بينهم في ان نص توراتهم أن الله تعالى قال لموسى وبني إسرائيل إلى هنا لا تحاربوا بني عيسو ولا بني مواب ولا بني عمون فإني لم أورثكم من بلادهم وطأة قدم فما فوقها لأني قد ورثت بين عيو وبني لوط هذه البلاد كما ورثت بني إسرائيل تلك التي وعدتهم بها وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها يحاربونهم فمرة يملكهم بنو عمون وبنو مواب ومرة يخرجون عن رقهم فقط وطول بلاد بني إسرائيل المذكورة بمساحة الخلفاء المحققة من عقبة أنيق وهي على أربعة وخمسين ميلاً من دمشق إلى طبرية ثمانية أميال وهي جبل أفرايم إلى الطور اثني عشر ميلاً وإلى اللجون اثني عشر ميلاً إلى علمين عندهما ينقطع عمل الأردن ومبدأ عمل فلسطين ميل واحد إلى الرملة نحو أربعين ميلاً إلى عسقلان ثمانية عشر ميلاً وموضع الرملة هو كان آخر عمل بني إسرائيل فذلك ثلاثة وسبعون ميلاً وعرضه من البحر الشامي إلى أول عمل جبل الشراة وأول عمل مواب وأول عمل عمان نحو ذلك أيضاً وعمل صغير شرقي الأردن يسمى الغور فيه مدينة بيسان تكون أقل من ثلاثين ميلاً ولا يزيد وكان هذا العمل الذي بشرقي الأردن بزعمهم وقع لبني رؤابين وبني جاد ونصف بني منسي بن يوسف عليه السلام لأنه كان يصلح لرعي المواشي
وكان هؤلاء أصحاب بقر وغنم فأعجبوا لهذا الكذب المفضوح وهذا المحال الممتنع أن تكون المسافة المذكورة تقسم أرضها على عدد يكون أبناء العشرين منهم فصاعداً خاصة أزيد من ستماية ألف فأين من دون العشرين وأين النشأ والكل بزعمهم أخذ سهمه من الأرض المذكورة ليعيش من زرعها وثمرتها واعلموا أنه لا يمكن البتة أن يكون في المساحة المذكورة على أن تكون مساحة كل قرية ميلاً في ميل مزارعها ومشاجرها إلا ستة آلاف قرية ومائتا قرية هذا على أن يكون جميع العمل المذكور عمراناً متصلاً لا مرج فيه ولا شجر أولاً أرض محجرة لا تعمر ولا أرض مرملة كذلك ولا سبخة ملح كذلك وهذا محال أن يكون فعلي هذا يقع لكل قرية من الرجال المذكورين مائة رجل أو نحو ذلك سوى من هو دون العشرين بينهم وسوى النساء ولا سبيل البتة على هذا أن يدركوا فيها المعاش وهذا كذب لا خفاء به لاسيما إذ بلغوا ألف ألف مقاتل وخمس مائة مقاتل سوى من لا يقاتل وسوى النساء أين هذا الكذب البارد من الحق الواضح في قول الله تعالى حاكياً عن فرعون أنه قال إذ تبع بني إسرائيل " إن هؤلاء لشرذمة قليلون " هذا الذي لا يجوز غيره ولا يمكن سواه أصلاً وكذبة أخرى وهي أنهم ذكروا في كتاب يوشع أن البلد المذكور كان فيه من المدن في سهم بني يهوذا مائة مدينة وأربعة مدن وفي سهم بني شمعون سبع عشرة مدينة وفي سهم بنيامين ثمان وعشرون مدينة وفي سهم بني زبلون اثني عشر مدينة وفي سهم بني نفتالي تسع عشرة مدينة وفي سهم بني دان ثمان عشرة مدينة فذلك مائتا مدينة واثنتان وست وثلاثون مدينة
قال في الكتاب المذكور سوى قراها لا يحصيها إلا الله عز وجل وذكر فيه أنه وقع لنصف بني منسي بن يوسف بشرقي الأردن باشان وعملها وأن مدائنهم المحصنة ستون مدينة سوى قارها لا يحصيها إلا الله فالمجتمع من هذا المدن المذكورة ثلاث مائة مدينة غير أربع مدن ولم يذكر عدد مدائن بني رؤابين ولا عدد مدائن بني عاد ولا عدد مدائن نصف بني منسي الذي بغرب الأردن ولا مدائن بني أفرايم وهذه الأسباط التي لم تذكر مدنها تقع على ما توجبه توراتهم في الربع من جميع بني إسرائيل يقع لهم على هذا الحساب نحو مائة مدينة إذا ضمت إلى العدد الذي ذكرنا فتمام الجميع نحو أربعمائة مدينة فأعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة التي قد ذكرنا مساحتها على قلتها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن وقد ذكر أن نصف سبط بني منسي الذين وقعوا بشرقي الأردن ووقع في خطهم ستون مدينة كانوا ستة وعشرين ألف رجل مقاتلين كلهم ليس فيهم ابن أقل من عشرين سنة والعمل باق إلى اليوم لعله اثني عشر ميلاً في مثلها ما رأيت أقل حياً من الذي كتب لهم تلك الكتب المرذولة وسخم بها وجوههم ونعوذ بالله من الضلال
فصل ويتصل بهذا الفصل فصل آخر هو أشنع منه في شهرة الكذب وشنعة المحال وظهور التوليد وبشاعة الافتعال
ذكر في صدر السفر الثاني إذ ذكر خروج بني إسرائيل عن مصر مع موسى عليه السلام أن الله تعالى أمر موسى أن يعد بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر بسنة واحدة وشهر واحد فقد فعد جميع قبائلهم فقال هؤلاء أكابر البيوت في قبائلهم حنوك وفلو وحصرون وكرمي وهم بنو رؤابين بكر ولد إسرائيل هذه قبائل روابين.
وذكر في أول السفر الرابع أن مقدمهم كان اليصور بن شديئور وأن عددهم كان ستة وأربعين ألف رجل لم يعد منهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب وذكر في صدر السفر الثاني فقال وبنو شمعون يموئيل ويامين وأوهد وياكين وصوحر وشأول بن الكنعانية هذه قبائل شمعون.
وذكر في أول السفر الرابع أن مقدمهم كان شلوميئيل بن صور يشداي وأن عددهم كان تسعة وخمسين ألف رجل لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب.
وقال في صدر السفر الثاني هذه تسمية بني لاوي في قبائلهم جرشون وقهات ومراري وابنا جرشون لبني وشمعي في قبائلهما وبنوقهات عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل وابنا مراري محلى وموشي هذه أنساب بني لاوي في قبائلهم فتزوج عمران يوكابد عمته فولدت له موسى وهارون وبنو يصهار قورح ونافج وذكري وبنو قورح أسير والقانة وابياساف وبنو عزيئيل ميشائيل والصافان وستري فتزوج هارون إلى اليشابع بنت عمينا داب أخت نحشون فولدت له ناداب وابيهو العازار وايثامار فتزوج العازار بن هارون في بنات بني فوطيئيل فولدت فيخاس وقال في صدر السفر الرابع فكلم السيد موسى في مغازسينا وقال له عد بني لاوي في بيوت آبائهم وأهاليهم فكل ذكر ابن شهر فصاعداً حسبهم موسى كما عهد إليه السيد فوجد ولد لاوي على أسمائهم مسمين جرشون وقهات ومراري وولد جرشون لبني وشمعي وولد قهات عمرام ويصهار وعزيئيل وولد مراري محلي وموشي وأنه عد عامة ذكور بني جرشون ابن شهر فصاعداً فكانوا ستة آلاف وخمس مائة كانوا في ساقة القبة في الغرب تحت أيدي الياساف بن لا يل وبعد ذلك ذكر أنه حسب ألفي رجل وستماية رجل وثلاثين رجلاً ثم قال هذه نسبة قهات خرج منه رهط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فحسب من كان منهم ذكراً ابن شهر فصاعداً فوجدهم ثمانية آلاف رجل وستمائة ذكر مقدمهم ليصافان بن عزيئيل المذكور وأمرهم أن يكونوا في جنوب القبة حاشا موسى وهارون وأولادهما فإنهم يكونون أمام القبة في الشرق وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة فقط فوجدهم ألفي رجل وسبعمائة رجل وخمسين رجلاً وذكر أنه حسب بني مراري محلي وموشي بني مراري ومن كان منهم ابن شهر فصاعداً من الذكور فوجدهم ستة آلاف ومائتين مقدمهم صوريئيل ابن أبيحايل وأمرهم أن يكونوا في شمال القبة وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة فصاعداً إلى خمسين سنة فوجدهم ثلاثة آلاف رجل ومائتي رجل وبعد أن ذكر من كان من بني لاوي ابن شهر فصاعداً من الذكور كما أوردنا قال فجميع اللاوايين الذين حسب موسى وهارون من كل ذكر من ابن شهر فصاعداً اثنان وعشرون ألفاً.
وأن السيد أوحى إلى موسى أحسب بكور ذكور ولد إسرائيل المذكور من ابن شهر فصاعداً وتأخذ لي اللاويين عن بكور جميع ولد إسرائيل فعد موسى بكور ولد بني إسرائيل المذكور من ابن فصاعداً فوجدهم اثنين وعشرين ألفاً ومائتين وثلاثة وسبعين فقال السيد لموسى خذ بني لاوي عن بكور ذكور ولد إسرائيل ليكون بنو لاوي لي وعن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين عن عدد بني لاوي تأخذ عن كل واحد خمسة أثقال بوزن الهيكل فأخذ موسى دراهم الزائدين فبلغت ألفاً وثلاثمائة وخمسة وستين ثقلاً وأعطاها لهارون وولده على ما عهد عليه السيد.
ثم ذكر في سفر يوشع أن العازار بن هارون بنفسه أتى إلى يوشع بن نون إذ فتحت الأرض المقدسة وكلمه في أن يعطي بني لاوي مدائن للسكنى ففعل وأنه وقع لبني هارون خاصة ثلاثة عشرة مدينة من مدائن بني يهوذا وبنيامين وشمعون وأنه وقع لسائر بني فاهاث بن لاوي عشر مدائن بني يهوذا وبنيامين وشمعون وأنه وقع لسائر بني فاهاث بن لاوي عشر مدائن بني دان وبني أفرايم ونصف سبط منسي الذين مع سائر الأسباط وأنه وقع لبني جرشون بن لاوي ثلاث عشرة مدينة من مدائن يساخار وأشير ونفتالي ونصف سبط منسي الذي بشرقي الأردن وأنه وقع لبني مراري بن لاوي ثنتي عشرة مدينة من مدائن بني زابلون وبني روأبين وجاد بن يعوقب بشرقي الأردن فذلك لبني لاوي ثمان وأربعون مدينة وذكر في السفر الرابع أنه أحصى أيضاً بني جاد بن يعقوب الرجال خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزني للحرب فوجدهم خمسة وأربعين ألف رجل وخمسين رجلاً مقدمهم الياساف بن رعوئيل.
وأ ه أحصى بني يهوذا الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وسبعين ألفاً وستمائة رجل وقد ذكر قبل وبعد أ هذا العدد كله إنما هم من ولد شيلة وفارص وزارح بني يهوذا فقط مقدمهم نحشون بن عميناداب ابن أرام بن حصرون ابن فارص بن يهوذا بن إسرائيل.
وأنه أحصى بني يساكر الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم نثنائيل بن صوغر وأنه أحصى بني زبلون الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم سبعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم الياب بن حيلون وأنه حسب بني يوسف عليه السلام الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فوجدهم اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل منهم من ولد أفرايم بن يوسف أربعون ألف رجل وخمسمائة رجل ومقدمهم اليشمع بن عميهود ومن ولد منسي بن يوسف اثنان وثلاثون ألف رجل ومائتا رجل مقدمهم جمليئيل بن فدهصور وأنه حسب بني بنيامين الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعداً المبارزين للحرب خاصة فكانوا خمسة وثلاثين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم ابيدن بن جدعوني وأنه حسب بني دان الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فكانوا اثنين وستين ألف رجل وسبعمائة رجل مقدمهم أخيعزر بن عميشداي وكلهم من ولد حوشيم بن دان وأنه حسب بني أشير الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فوجدهم واحد وأربعين ألف رجل وخمسمائة رجل مقدمهم فجعيئيل ابن عكرن وأنه حسب بني نفتالي من كان منهم من الذكور خاصة ابن عشرين فصاعداً من المبارزين للحرب خاصة فوجدهم ثلاثة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل مقدمهم أخيرع ابن عينن وأن هذا الحساب كان بعد عام واحد وشهر واحد من خروجهم من مصر حاشا قسمة المدائن المذكورة وأنها بعد دخولهم فلسطين والأردن.
فليتأمل كل ذي تمييز صحيح من الخاصة والعامة هذا الكذب الفاحش الذي لا خفاء به والمحال الممتنع والجهل المفرط الموجب كل ذلك ضرورة أنها كتب محرفة مبدلة من تحريف فاسق سخر بهم وأنها لا تمكن وأنها ألبتة أن تكون من عند الله ولا من عند نبي ولا من عمل صادق اللهجة.
فمن ذلك أخباره بأن رجال بني دان كانوا إذا خرجوا من مصر اثنتين وسبعين ألفاً وسبعمائة رجل لم يعد فيهم من كان منهم ابن أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق البروز للحرب ولا النساء وأنهم كلهم راجعون إلى حوشيم بن دان وحده ولم يكن لدن بإقرارهم ولد غير حوشيم مع قرب أنسابهم من حوشيم لأن في نص توراتهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام فاضبطوا هذا يظهر لكم الكذب علانية لا خفاء به وأن بني يهوذا كانوا أربعة وسبعين ألفاً وستمائة رجل ليس يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجعون كما ذكرنا إلى ثلاثة أولاد ليهوذا لم يعقب له غيرهم وفي الحياة يومئذ رئيسهم نحشون بن عمينا داب بن أرام ابن حصرون بن فارص بن يهوذا وأن بني يوسف عليه السلام كانوا اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل ليس يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجع إلى أفرايم ومنسي لم يعقب ليوسف غيرهما وفيهم يومئذ في الحياة صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منسي بن يوسف عليه السلام وقد ذكر أيضاً في توراتهم أولا أفرايم فلم يجعل له ثلاثة ذكور ولم يجعل لمنسي إلا ولدين وذكر أولاد جلعاد المذكور بن منسي ولم يجعل له إلا ستة ذكور فقط.
فاجعلوا لمنسي وأفرايم أقصى ما يمكن أن يكون للرجل من الأولاد ثم لجلعاد وإخوته وبني عمه مثل ذلك ثم لحافر وطبقته مثل ذلك وانظروا هل يمكن أن يبلغ ذلك ثلث هذا العدد والأمر في ولد دان أفحش من سائر ما في ولد إخوته وإن كان الكذب في كل ذلك فاحشاً لأن البضع والسبعين ألف رجل وزيادة لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة يرجعون إلى ثلاثة من ولد يهوذا واثنين من ولد يوسف وأما الاثنان وستون ألف رجل ونيف لا يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة فإنما يرجع إلى واحد فقط لم يمكن لدان غيره بلا خلاف منهم فكيف إذا أضيف إلى هذا العدد من له أقل من عشرين سنة من الرجال والأغلب أنهم قريب من عدد المتجاوزين عشرين سنة أو أقل بيسير وجميع النساء والأغلب أنهن في عدد الرجال أو قريباً من ذلك فيجتمع من ولد حوشيم بن دان وحده في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاماً نحو مائة ألف وستين ألف إنسان هذا المحال الممتنع الذي لم يكن قط في العالم على حسب بنيته وتربيته ويجتمع من ولد يوسف عليه السلام على هذا أرجح من مائتي ألف إنسان ومن ولد يهوذا نحو ذلك وليس يمكنهم أن يقولوا أن الطبقات من الولادات كانت كثيرة جداً الوجهين أحدهما قوله في توراتهم أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام
والثاني أن الذي ذكر أنسابهم من بني لاوي وبني يهوذا وبني يوسف وبني رأوبين كانوا متقاربين في التعدد كموسى وهارون ومريم بني عمران بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل واليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل وقورح وإخوته بنو يصهار بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل ونحشون وإخوته بنو عمينا داب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل وأحار بن كرمي بن سيداي بن شيلة بن يهوذا بن إسرائيل ودابان وأبيرام ابنا الباب بن ملوكن بن روبان بن إسرائيل وإخوتهم وأولادهم وأولاد أولادهم هذا نص ذكر أنسابهم في توراتهم فوضح أن الأمر متقارب في تعددهم وظهر بهذا عظيم الكذب الفاحش في الأعداد التي ذكروا ولا يمكنهم البتة أن يقولوا أنه كان لإسرائيل غير من سمينا من الأولاد الاثني عشر ولا أنه كان لأولاد إسرائيل المذكورين غير من سمينا من الأولاد وعددهم أحد وخمسون رجلاً فقط لبنيامين عشرة ولجاد سبعة ولشمعون ستة ولرؤبين وأشير وليساكر ونفتالي لكل واحد منهم أربعة أربعة وليهوذا وللاوي وزبلون لكل واحد منهم ثلاثة ثلاثة وليوسف اثنان ولدان واحد فيا للناس كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلاً فقط في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاماً فقط أزيد من ألفي ألف إنسان هذا غاية المحال الممتنع لأنه نص في توراتهم أنه انتسل نهم ستماية ألف وثلاثة آلاف رجال كلهم لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ولعل من دون العشرين عاماً منهم يقاربون هذا العدد ثم النساء ولعلهن نحو هذا العدد فأعجبوا لهذه الفضائح.
وقد رام بعض من صككت وجهه من علمائهم بهذه الفضيحة أن يلود بهذا السقب فقلت دع عنك هذا التمويه فقد سدت عليك توراتك كل المذاهب لأن فيها بعلمك حيث ذكر خروجهم من مصر وحيث ذكر دخولهم إلى الشام وحيث ذكر قسمة الأرض عليهم في سفر يوشع ذكر أفخاذ قبائلهم وتسمية أسباطهم اسماً اسماً فلم يزد على من سمينا ولا واحداً فلو كان ما تقول لكانت أيضاً قد كذبت في هذا الموضع إذ ذكرت بزعمك هذا قسمة الأرض وربتة الجيوش وأعداد الأسباط بخلاف ما تزعم فلا بد فيها من الكذب المتيقن كيفما تصرفت الحال فسكت خاسئاً.
فإن قيل ألم يقل يعقوب إذ عرض عليه يوسف ابنه أفرايم ومنسي فقال له يعقوب أفرايم ومنسي يكونان لي وينسبان إلي ومن ولد لك بعدهما ينسبان إليك.
قلنا لا يخلو يوسف عليه السلام من أن لا يكون له ولد غيرهما ممن أعقب خاصة كما نقول نحن وتشهد به نصوص توراتكم وجميع كتبكم أو يكون ليوسف ولدأعقب غير أفرايم ومنسي فلو كان ذلك فكتبكم كلها كاذبة أولها عن آخرها من التوراة فما ورآها لأنه في كل مكان ذكر فيه رتبة معسكر الأسباط سبطاً سبطاً وعددهم إذ خرجوا من مصر وعددهم إذ دخلوا الشام وعددهم إذ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذهب وعددهم إذ وقفوا على الجبلين للبركة واللعنة وعددهم إذ نقشت أسماؤهم في الفصوص المرتبة على صدر هارون في أزيد من ألف موضع في سائر كتبهم ولم يذكر ليوسف الإسبطين فقط سبط منسي وسبط أفرايم فبطل الاعتراض بذلك الكلام المذكور وبالله التوفيق.
وقد علم كل من يميز م الرجال والنساء أن الكثرة الخارجة من الأولاد لم توجد في العالم لصعوبة الأمر في تربية أطفال الناس ولكون الإسقاط في الحوامل ولإبطاء حمل المرأة بين بطن وبطن ولكثرة الموت في الأطفال فهذه أربع عوارض قواطع دون الكثرة الخارجية في الأولاد للناس ثم كون الإناث في الولادات أيضاً ولو طلبنا أن نعد من عاش له عشرون ولداً فصاعداً من الذكور وبلغوا الحلم فما وجدناهم إلا في الندرة ثم في القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط الذين تنطلق أيديهم عن الكثير من النساء والإماء ثم على الخدام اللواتي هن العون على التربية والكفاية وعلى كثرة المال الذي لا يكون المعاش إلا به وأما من لا يجد إلا الكتاب وفوقه مما لا يبلغ الإكثار من الوفر ولا يقدر إلا على المرأة والمرأتين ونحو ذلك فلا يوجد هذا فيهم البتة بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلاً لهم لما ذكرنا آنفاً من القواطع الموانع وقد شاهدنا الناس وبلغتنا أخبار أهل البلاد البعيدة وكثر بحثنا عما غاب عنا منا ووصلت إلينا التواريخ الكثيرة المجموعة في أخبار من سلف من عرب وعجم في كثير من الأمم فما وجدنا في ذلك المعهود من عدد أولاد الذكور في المكثرين الذين يتحدث بهم عند كثرة الولد إلا من أربعة عشر ذكراً فأقل وأما ما زاد إلى العشرين فنادر جداً هذه الحال في جميع بلاد أهل الإسلام والذي بلغنا عن ممالك النصارى إلى أرض الروم وممالك الصقالية والترك والهند والسودان قديماً وحديثاً وأما الثلاثون فأكثر فما بلغنا ذلك إلا عن نفر يسير عمن سلف.
منهم أنس بن مالك الأنصاري وخليفة بن أبي السعدي وأبو بكرة فإن هؤلاء لم يموتوا حتى مشي بين يدي كل واحد منهم مائة ذكر من ولده وعمر بن عبد الملك فإنه كان يركب معه ستون رجلاً من ولده وجعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس فإنه عاش له أربعون ذكراً من ولده سوى أبنائهم وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية فإنه ولد له خمسة وأربعون ذكراً عاش منهم نيف وثلاثون وموسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فإنه بلغ له منهم مبلغ الرجال واحد وثلاثون ابناً ذكوراً كلهم وكان أبوه أميراً على اليمن مرة قائماً ومرة والياً للمأمون ووصيف مولى المعتصم التركي كان له خمسة وخمسون ذكراً بالغون من ولده الأدنين وتامرت مولي بني مناد صاحب طرابلس فإنه كان يركب ومعه ثمانون ذكراً من أولاده الأدنين إلا أن هذا كان يغتصب كل امرأة أعجبته من أمة أو حرة بولدها ورجل من ملوك البربر من بني دمر معتزلي كان يركب معه مائتا فارس من ولده وولد ولده وتميم بن يزيد بن يعلي بن محمد العرني فإنه بلغنا أنه كان له نيف وخمسون ذكراً بالغون وكان ملك بني نفر من ملك بلاداً عظيمة وأبو البهار بن زيري ابن منكاد فكان يركب معه ثلاثون ذكراً من ولده الأدنين ومرزوق بن أشكر بن الثغري بجهة لارده فكان يركب معه ثلاثون فارساً من ولده الأدنين وبلغنا عن ملك من ملوك الهند أنه كان له ثمانون ولداً ذكوراً بالغون.
وتذكر اليهود في تواريخهم أن رئيساً كان يدبر أمرهم كلهم يسمى جدعون ابن بواش من بني منسي بن يوسف عليه السلام كان له سبعون ولداً ذكوراً وإن آخر منهم أيضاً من سبط منسي يسمى بابين بن جلعاد كان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً وآخر من مدبريهم اسمه عبدون بن هلال من بني أفراييم بن يوسف كان له أربعون ابناً ذكوراً بالغون وآخر من مدبريهم من سبط يهوذا اسمه افصان من سكان بيت لحم كان له ثلاثون زوجة وثلاثون ابناً ذكوراً وثلاثون بنتاً وتزعم الفرس أن جودرز الملك علي كرمان كان له تسعون ابناً ذكوراً بالغون فإذا كانت هذه الصفة لم نجدها منذ نحو ثلاثة آلاف عام إلا في أقل من عشرين إنساناً في مشارق الأرض ومغاربها في الأمم السالفة والخالفة ممن علت حاله وامتد عمره وكثرت أمواله وعياله فكيف يتأتى من هذا العدد ما لم يسمع بمثله قط في الدهر لا في نادر ولا في شاذ لبني إسرائيل كافة بمصر وحالهم فيها معروفة مشهورة لا يقدر أحد على إنكارها وهي أنهم كانوا في حياة يوسف عليه السلام في كفاف من العيش أصحاب غنم فقط ولم يكونوا في يسار فائض ثم كانوا بعد موت يوسف وإخوته عليه السلام في فاقة عظيمة وعذاب ونصب وسخرة متصلة وذل رابت وبلاءٍ دائب وتعب زاهق يكاد يقطع عن الشبع فكيف عن الاتساع في العيال والأشرفي الاستكثار من الولد فهذه كذبة عظيمة مطبقة فاضحة.
وثانية وهي أن في توراتهم أنهم كانوا ساكنين في أرض قوس فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط.
وذكر في توراتهم أنهم إذ خرجوا من مصر خرجوا بجميع مواشيهم.
فاعجبوا أيها السامعون وتفكروا ما الذي يكفي ستمائة ألف وثلاثة آلاف لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة سوى النساء للقوت والكسوة من المواشي ثم اعلموا يقيناً أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا المقدار من المواشي فكيف أرض قوس وحدها وهم يقولون في توراتهم أن إبراهيم ولوطاً عليهما السلام لم يحمل كثرة مواشيهم أرض واحدة ولا أمكنهما أن يسكنا معاً فكيف بمواش تقوم بأزيد من ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان لقد كان الذي عمل لهم هذه اكتب الملعونة المكذوبة ضعيف العقل قليل الفكرة فيما يطلق به قلمه فهذه كذبة فاحشة ثانية عظيمة جداً.
وثالثة أنه ذكر في توراتهم أنهم كانوا كلهم يسخرون في عمل الطوب وتالله إن ستمائة ألف طواب لكثير جداً لاسيما في قوس وحدها وليس يمكنهم أن يقولوا أنهم كانوا متفرقين فإن توراتهم تقول غير هذا وتخبر أنهم كانوا مجتمعين ذكر ذلك في مواضع جمة منها حيث أمرهم بذبح الخرفان ومس العنب بالدم ومنها حيث أباح لهم فرعون الخروج مع موسى عليه السلام فكانوا كلهم مجتمعين بمواشيهم يوم خروجهم وهذه كذبة عظيمة ثالثة لا خفاء بها.
والرابعة أنه ذكر بني لاوي ثلاثة رجال فقط قهات وجرشون ومراري وأن ذكور نسل هؤلاء الثلاثة فقط كانوا اثنين وعشرين ألفاً من الذكور خاصة من ابن شهر فصاعداً من جملتهم ثمانية آلاف رجل وخمسمائة رجل وثمانون رجلاً ليس فيهم ابن أقل من ثلاثين سنة ولا ابن أكثر من خمسين سنة ثم ذكر أولاد مراري فلم يذكر له إلا ولدين محلي وموشي فقط وذكر أولاد جرشون بن لاوي فلم يذكر له إلا ولدين لبني وشمعي وذكر أولاد قهات بن لاوي فلم يذكر إلا أربعة فقط عمرام ويصهار وحبرون وعزيئيل فرجع نسل لاوي كله إلى هؤلاء الثمانية فقط ثم لم يجعلوا لتوجيه التأويل في كذبهم مساغاً بل عد أولاد عمرام بأنهم موسى وهارون عليهما السلام فقط والعازار وفرصوم ابني موسى عليه السلام وكانا صغيرين حينئذ جداً وأربعة أولاد لهارون عليه السلام وعد أولاد يصهار فذكر قورح وإخوته وثلاثة أولاد لقورح وبقي سائر العدد المذكور من الألوف وهي ثمانية آلاف رجل وستمائة رجل لا يعد فيهم ابن أقل من شهر من بني قهات خاصة راجعاً إلى أولاد حبرون وعزيئيل وأخوي قورح فقط هذا والصافان بن عزيئيل حي مقدم طبقته سوى النساء ولعل عددهن كعدد الرجال وهذا من الحمق الذي لا نظير له ومن قلة الحياء في الدرجة العليا ومن الكذب البحث في المقدمة ومن المحال في المحل الأقصى وجار مجرى الخرافات التي تقال عند السمر بالليل ولعمري لو ضل بتصديق هذا الهوس الفاجر واحد واثنان لكان عجباً فكيف أن يضل به عالم عظيم وجيل بعد جيل مذ أزيد من ألف وخمسمائة عام مذ كتب لهم عزر الوراق هذا السخام الذي أضلهم به ونحمد الله على عظيم نعمته علينا كثيراً ونسأله العصمة في باقي أعمارنا مما امتحن به من شاء ضلاله آمين آمين.
والخامسة قوله في سفر يوشع أنه وقع لبني هارون ثلاث عشر مدينة والعازار بن هارون حي قائم فيا للناس أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحد أن نسل هارون بعد موته بسنة وأشهر يبلغ عدد الأيسعة للسكنى إلا ثلاث عشرة مدينة هل لهذا الحمق دواء إلا الغل والقيد والمجمعة وما يتبع ذلك من الكي والسوط ونعوذ بالله من الخذلان.
وكذبة سادسة ظريفة جداً وهي أنه ذكر في توراتهم أن عدد ذكور بني جرشون بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ستة آلاف وخمسمائة وإن عدد ذكور بني قهات بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ثمانية آلاف وستمائة وإن عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعداً كانوا ستة آلاف ومائتين ثم قال فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعداً اثنان وعشرون ألفاً فكان هذا ظريفاً جداً وشيئندي منه الاباط وهل يجهل أحد أن الأعداد المذكورة إنما هي يجتمع منها واحد وعشرون ألفاً وثلاث مائة.
هذا أمر لا ندري كيف وقع أتراه بلغ المسخم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب هذا المبلغ أن هذا لعجب ولقد كان الثور أهدي منه والحمار أنبه منه بلا شك أترى لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبين له أن هذا خطاء وباطل ولا يمكن أن يدعي هنا غلط من الكتاب ولا وهم من الناسخ في بعض النسخ لأنه لم يدعنا في لبس من ذلك ولا في شك من فساد ما أتى به بل أكد ذلك وبينه وفضحه وأوضحه بأن قال إن بكور ذكور بني إسرائيل كانوا اثنين وعشرين ألفاً ومائتين وثلاثة وسبعين وإن الله تعالى أمر موسى أن يأخذ بني لاوي الذكور عن بكور ذكور بني إسرائيل وأن يأخذ عن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين من بكور ذكور بني إسرائيل عن الاثنين وعشرين ألفاً من بني لاوي عن كل رأس خمسة أشقال فضة فاجتمع من ذلك ألف شقل وثلمثائة شقل وخمسة وستون شقلاً فارتفع الأشكال جملة وبالله التوفيق.
وتالله ما سمعنا قط بأخبث طينة ولا أفسد جبلة ممن كتب لهم هذا الضلال إلا من اتبعه وصدق بضلاله فهذه ست كذبات في نسق لو لم يكن في توراتهم منها إلا واحدة لكان برهاناً قاطعاً موجباً لليقين بأنها كتاب موضوع بلا شك مبدل محرف صغير مكذوب فكيف بجميع ما أوردنا من ذلك ونورد إن شاء الله ونعوذ بالله من الخذلان ويتلو هذا كذبة شائعة بشيعة شنيعة وهي أنهم لا يختلفون في أن داود عليه السلام هو ابن ابشباي بن عونيذ بن بوعز بن اشلومون بن نحشون بن عمينا داب بن ارام بن حصرون لا يختلفون في أن عونيذ المذكور جد داوود أبا أبيه كانت أمه روث العمونية التي لها كتاب مفرد من كتب النبوة ولا يختلفون في أن من خروجهم من مصر إلى ولاية داود عليه السلام كانت ستمائة سنة وست وستين.
وفي نص التوراة عندهم وبلا خلاف منهم أن مقدمهم بني يهوذا إذ خرجوا من مصر كان نحشون بن عمينا داب المذكور وأنه أخو امرأة هارون عليه السلام.
وفي نص توراتهم أنهم قالوا قال الله تعالى أنه لا يدخل الأرض المقدسة من خرج من مصر وله عشرون سنة فصاعداً لا يهوشع بن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني فصح ضرورة أن نحشون مات في التيه وأن الداخل في أرض الشام هو ابنه سلومان.
فأقسموا الآن ستمائة وستين على أربع ولادات فقط وهذه ولادة بوعز بن شلومون الداخل ثم ولادة عونيذ بن بوعز بن روث العمونية ثم ولادة ابشاي بن عونيذ ثم ولادة داود عليه السلام ثم أبشاي ثم لا تختلف كتبهم في أن داود عليه السلام ولي ثلاث وثلاثون سنة عند تمام الستمائة سنة وست وستين فينبغي أن تسقط سنو داود إذ ولي من العدد المذكور يكون الباقي خمسمائة سنة وثلاثاً وسبعون سنة لثلاث ولادات وهي ولادة أبشاي وولادة عونيذ وولادة بوعز.
فتأملوا بن كم كان واحد منهم إذ ولد له ابنه المذكور تعلموا أنه كذب مستحيل في نسبة ذلك من أعمارهم يومئذ لأن في كتبهم نصاً أنه لم يعش أحد بعد موسى عليه السلام في بني إسرائيل مائة وثلاثين سنة إلا يهوباراع الكوهن الهاروني وحده وبالضرورة يجب أن كل واحد ممن ذكرنا كان له أزيد من مائة ونيف وأربعين إذ ولد له ابنه المذكور وهذه أقوال يكذب بعضها بعضاً فصح ضرورة لا محيد عنها أنها كلها مبدلة مستعملة محرفة مكذوبة ملعونة وثبت أن ديانتهم المأخوذة من هذه الكتب ديانة فاسدة مكذوبة من عمل الفساق ضرورة كالشيء المدرك بالعيان واللمس ونحمد الله على السلامة
فصل ثم وصف قيام بني إسرائيل على موسى عليه السلام وطلبهم منه اللحم للأكل
وذكروا أشواقهم إلى القرع والقثاء والبصل والكراث والثوم الذي تشبه رائحته في الروائح عقولهم في العقول وذكروا ضجرهم من المن والله عز وجل قال لموسى عليه السلام تقول للعامة تقدسوا غداً تأكلوا اللحم ها أنا أسمعكم قائلين من ذا يطعمنا أكل اللحم قد كنا بخير بمصر ليعطينكم السيد اللحم فتأكلون ليس يوماً واحداً ولا يومين ولا خمسة ولا عشرة حتى تكمل أيام الشهر حتى يخرج على مناخركم ويصيبكم التخم لما تخليتم عن السيد الذي هو في وسطكم ويكون قدامه قائلين لماذا أخرجنا من مصر فقال موسى لله تعالى ستمائة ألف رجل وأنت تقول أنا أعطيهم اللحوم شهراً طعماً أترى تكثير بذبائح البقر والغنم فيقتاتون بها أم تجتمع حيتان البحر معاً لتشبعهم فقال له الرب أترى يد السيد عاجزة سترى أن يوافيك كلامي أم لا ثم ذكر أن الله تعالى أرسل ريحاً فأتت بالسماني من خلف البحر إلى بني إسرائيل فأكلوها ودخل اللحم بين أضراسهم وأصابتهم التخم وأخذها وباء شديد مات منهم به كثير وإن هذا كان في الشهر الثاني من خروجهم من مصر
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل آيات من الله رب العالمين وما تأتي له طامة ألا تكاد تنسي ما قبلها فأول ذلك إخبار اللعين المبدل للتوراة بأن الله تعالى إذ قال لموسى غداً تأكلون اللحم إلى تمام الشهر قال له موسى هم ستمائة ألف رجل وأنت تقول أنا أعطيهم اللحوم طعاماً شهياً أترى تكثر بذبائح البقر والغنم يقتاتون بها أو تجتمع حيتان البحر معاً لتشبعهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : حاش لله أن يراجع رجل له من العقل مسكة ربه عز وجل هذه المراجعة وأن يشك في قوته على ذلك وعلى ما هو أعظم منه فكيف رسول نبي أترى موسى عليه السلام دخله قط شك في أن الله تعالى قادر على أن يكثر بذبائح البقر والغنم حتى يشبعهم أو على أن يأتيهم من حيتان البحر بما يشبعهم منه حاش لله من ذلك أتراه خفي على موسى عليه السلام أن الله تعالى هو الذي يرزق جميع بني آدم في شرقي الأرض وغربها اللحم وغير اللحم وأنه تعالى رازق سائر الحيوانات كلها من الطائر والعائم والمنساب والماشي على رجلين وأربع وأكثر حتى يستنكر أن يشبع شرذمة قليلة لا قدر لها من اللحم حاش له من ذلك فكيف يقول موسى عليه السلام هذا الكلام الأحمق حاش له من ذلك وقبل ذلك بعام وشهر وبعض آخر طلبوا اللحم فأتاهم بالسماني والمن وأكلوا ذلك بنص توراتهم أتراه نسي ذلك في هذه المدة اليسيرة أو يظن أنه قدر على الأولى ويعجز عن الثانية حاشا له من هذا الهوس.
ثم زيادة في بيان هذا الكذب في توراتهم أن بني إسرائيل إذ خرجوا من مصر مع موسى خرجوا بجميع مواشيهم من البقر والغنم وأن أهل بيت منهم ذبحوا جدياً أو خروفاً في تلك الليلة.
وذكر في مواضع منها أنهم أهدوا الكباش والتيوس والخرفان والجديان والبقر والعجول إلى قبة العهد.
وذكروا في آخرها أن بني روابين وبني جاد ونصف سبط بني منسي كان معهم غنم كثير ومن البقر عدد لا يحصى في حين ابتداء قتالهم وفتحهم لأرض الشام فأي عبرة في إشباعهم من اللحم واللحم حاضر معهم كثير لا قليل ثلاثة من الغنم كانت تكفي الواحد منهم شهراً كاملاً وثور واحد كان يكفي أربعة منهم شهراً كاملاً على أن يأكلوا اللحم قوتاً حتى يشبعوا بلا خبز فكيف إذا تأدموا به فأي عجب في إشباعهم باللحم حتى يراجع موسى ربه تعالى بإنكار ذلك من قوة ربه عز وجل فهل في العالم أحمق ممن كتب هذه الكذبة الشنيعة الباردة السخيفة الممزوجة بالكفر اللهم لك الحمد على تسليمك لنا مما امتحنتهم به.
فإن قالوا إن في كتابكم أن الله تعالى قال لزكريا " إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى " الآية وأن زكريا قال لربه تعالى " أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً قال كذلك قال ربك هو علي هين " الآية " قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً ".
وفي كتابكم أيضاً أن الملك قال لمريم " أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً قالت رب أنى يكون لي غلام " الآية " قال كذلك قال ربك هو علي هين " الآية.
قلنا ليس في جواب زكريا ومريم عليهما السلام اعتراض على بشرى الباري عز وجل لهما كما في كتابكم عن موسى عليه السلام ولا في كلام زكريا ومريم عليهما السلام إنكار على أن يعطيهما ولدين وهما عقيم وبكر إنما سألا أن يعرفا الوجه الذي منه يكون الولد فقط لأن إني في اللغة العربية التي بها نزل القرآن بلا خلاف أن معناها من أين فصح ما قلنا من أنهما سألاه أن يعرفهما الله تعالى من أن يكون لهما الولدان أو من أي جهة بنكاح زكريا لامرأة أخرى أم نكاح رجل لمريم أم من اختراعه تعالى وقدرته فإنما سأل زكريا الآية ليظهر صدقه عند قومه ولئلا يظن أنهما أخذاه وادعياه هذا هو ظاهر الآيتين اللتين ذكرنا من القرآن دون تكلف تأويل بنقل لفظ أو زيادة أو حذف بخلاف ما حكيتم عن موسى من الكلام الذي لا يحتمل إلا التكذيب فقط
فصل وبعد ذلك ذكر قيام مريم وهارون أخو موسى عليه السلام معاندين لموسى من أجل امرأته الحبشية
قال أبو محمد رضي الله عنه : وكيف تكون حبشية وقد قال في أول توراتهم أنها بنت يثرون المدياني وهو بلا شك من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام فأحد هذين القولين يكذب الآخر
فصل ذكر كما ذكرنا أن في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر
كان طلبهم اللحم كما ذكرنا وأنه بعد ذلك وقع لهارون ومريم الشغب مع موسى أخيهما عليه السلام كما ذكرنا وأن مريم مرضت وأخرجت من المعسكر سبعة أيام حتى برئت ثم رجعت وأن بعد ذلك وجه موسى الله تعالى الاثني عشر رجلاً الذين كان من جملتهم هوشع ابن نون الافرايمي وكالب بن يفنة اليهوذاني ليروا الأرض المقدسة وذكر أنهم طافوها في أربعين يوماً ثم رجعوا وخوفوا بني إسرائيل حاشا كالب وهوشع وأن الله تعالى سخط عليهم وأهلكهم وأوحى إلى موسى أما جيفكم فستكون ملقاة في المفاز ويكون أولادكم سابحين في المفاز أربعين سنة على عدد الأربعين يوماً التي دوختم فيها البلد اجعل لكم كل يوم سنة وتكافئون أربعين سنة بخطاياكم وأنهم بقوا في التيه أربعين سنة فلما أتموها أمرهم الله عز وجل بالحركة فتحركوا ثم ماتت مريم أخت موسى عليها السلام ثم مات هارون عليه السلام ثم حارب موسى عوج وسحون الملكين وأخذ بلادهما وأعطى بلادهما لبني روابين وبني جاد ونصف سبط منسي ثم حارب المدينتين وقتل ملوكهما ثم إنه عليه السلام مات وله مائة سنة وعشرون سنة وفي صدر توراتهم أنه عليه السلام
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كذب فاحش وقد قلنا أن الذي عمل لهم التوراة التي بأيديهم كان قليل العلم بالحساب ثقيل اليد فيه جداً أو عياراً ماجناً مستخفاً لا دين له سخر منهم بأمثال التيوس والحمير لأنه إذا خرج وله ثمانون سنة وبقي بعد خروجه سنة أو شهر ثم تاهوا أربعين سنة ثم قاتلوا ملوكاً عدة وقتلوهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فقد اجتمع من ذلك ضرورة زيادة على المائة وعشرين سنة أكثر من سنة ولابد والأغلب أنهما سنتان زائدتان فكذب ولابد في سن موسى إذ مات أو كذب الوعد الذي أخبر عن الله تعالى بتيههم أربعين سنة حاشا للباري تعالى أن يكذب أو أن يغلط في دقيقة أو أقل وحاشا لنبيه ﷺ من مثل ذلك وصح أنها مولدة موضوعة
فصل ثم ذكر في السفر الخامس فقال إن طلع فيكم نبي
وادعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون وكان ما وصفه ثم قال لكم بعد ذلك اتبعوا أبناء إلهة الأجناس فلا تسمعوا له
قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل شنعة من أشنع الدهر وتدسيس كافر مبطل للنبوات كلها لأنه أثبت النبوة بقوله إن طلع فيكم نبي ويصدقه في الأخبار بما يكون ثم أمرهم بمعصيته إذا دعاهم إلى اتباع آلهة الأجناس وهذا تناقض فاحش ولئن جاز أن يكون نبي يصدق فيما ينذر به يدعو إلى الباطل والكفر فلعل صاحب هذه الوصية من أهل هذه الصفة وما الذي يؤمننا من ذلك وها هنا شيء يوجب تصديقه واتباعه ويبينه من الكاذبين إلا ما صحح نبوته من المعجزات فلما لزمت معصيته إذا أمر بباطل فإن معصية موسى لازمة وغير جائزة في شيء مما أمر به إذ لعله أمر بباطل إذ كان في الممكن أن يكون نبي يأتي بالمعجزات يأمر بباطل وحاش لله من أن يقول موسى عليه السلام هذا الكلام والله ما قاله قط ولقد كذب عليه الكذب المبدل للتوراة وكذلك حاش لله أن يظهر آية على يدي من يمكن أن يكذب أو يأمر بباطل هذا هو التلبيس من الله على عباده ومزج الحق بالباطل وخلطهما حتى لا يقوم برهان على تحقيق حق ولا إبطال باطل.
واعلموا أن هذا الفصل من توراتهم والفصل الملعون الذي فيه أن السحرة عملوا مثل بعض ما عمل موسى عليه السلام فإنهما مبطلان على اليهود المصدقين بهما نبوة كل نبي يقرون له بنبوة قطعاً لأنه لا فرق فيهما بين موسى وسائر أنبيائهم وبين الكذابين والسحرة وحاش لله من هذا وبه تعالى نعوذ من الخذلان.
هذا مع قوله بعد ذلك وأيما نبي أحدث فيكم من ذاته نبوة مما لم نأمر به ولم أعهد إليه به أو تنبأ فيكم يدعو للآلهة والأوثان فاقتلوه فإن قلتم في أنفسكم من أين يعلم أنه من عند الله أو من ذاته فهذا علمه فيكم إذا أنبأ بشيء ولم يكن فاعلموا أنه من ذاته
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كلام صحيح وهذا مضاد للذي قبله من أنه ينبىء بالشيء فيكون كما قال وهو مع ذلك يدعو إلى عبادة غير الله والقوم مخذولون نقلوا دينهم عن زنادقة مستخفين لا مؤنة عليهم أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهم السلام الكفر والضلال والكذب والعمد كالذي ذكرنا قبل وكنسبتهم إلى هارون عليه السلام أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وبنى له مذبحاً وقرب له القربان وجرد استاه قومه للرقص والغناء قدام العجل عراة وكما نسبوا إلى سليمان عليه السلام أنه قرب القرابين للأوثان على الكدي وأنه قتل يواب بن صوريا صبراً وهو نبي مثله وكما نسبوا إلى شاول وهو نبي عندهم يوحي إليه قتل النفوس ظلماً ونسبوا إلى بلعام بن باعورا وهو نبي عندهم يوحي الله تعالى إليه مع الملائكة العون على الكفر وأن موسى وجيشه قتلوه ثم نسبوا النبوة إلى منسي بن حزقيا الملك وهو بإقرارهم كافر ملعون يعبد الأوثان ويقتل الأنبياء وينسبون المعجزات إلى شمسون الدابي وهو عندهم فاسق مشهور بالفسق متعشق للفواسد ملمٌّ بهن وينسبون المعجزات إلى السحرة فأعجبوا لعظيم بليتهم واحمدوا الله على السلام واسألوه العافية لا إله إلا هو
فصل ثم قال في آخر توراتهم فتوفي موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض مواب مقابل بيت فغور
ولم يعرف آدمي موضع قبره إلى اليوم وكان موسى يوم توفي ابن مائة وعشرين سنة لم ينقص بصره ولا تحركت أسنانه فنعاه بنو إسرائيل في أوطنة مواب ثلاثين يوماً وأكملوا نعيه ثم إن يشوع ابن نون امتلأ من روح الله إذ جعل موسى يديه عليه وسمع له بنو إسرائيل وفعلوا ما أمر الله به موسى ولم يخلف موسى في بني إسرائيل نبي مثله ولا من يكلمه الله مواجهة في جميع عجائبه التي فعل على يديه بأرض مصر في فرعون مع عبيده وجميع أهل مملكته ولا من صنع ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا آخر توراتهم وتمامها وهذا الفصل شاهد عدل وبرهان تام ودليل قاطع وحجة صادقة في أن توراتهم مبدلة وأنها تاريخ مؤلف كتبه لهم من تحرض بجهله أو تعمد بفكره وأنها غير منزلة من عند الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزلاً على موسى في حياته فكان يكون أخباراً عنهما لم يكن بمساق ما قد كان وهذا هو محض الكذب تعالى الله عن ذلك وقوله لم يعرف قبره آدمي إلى اليوم بيان لما ذكرنا كاف وأنه تاريخ ألف بعد دهر طويل ولابد
قال أبو محمد رضي الله عنه : ها هنا انتهى ما وجدنا من التوراة لليهود التي اتلق عليها الربانيون والعانانيون والعيسويون والصدوقيون منهم مع النصارى أيضاً بلا خلاف منهم فيها من الكذب الظاهر في الأخبار وفيما يخبر به عن الله تعالى ثم عن ملائكته عن رسله عليهم السلام من المناقضات الظاهرة والفواحش المضافة إلى الأنبياء عليهم السلام ولو لم يكن فيها إلا فصل واحد من الفصول التي ذكرنا لكان موجباً ولابد لكونها موضوعة محرفة مبدلة مكذوبة فكيف وهي سبعة وخمسون فصلاً من جملتها فصول تجمع الفصل الواحد منها سبع كذبات أو مناقضات فأقل سوى ثمانية عشر فصلاً تتكاذب فيها نص توراة اليهود مع نص تلك الأخبار بأعيانها عند النصارى والكذب لائح ولابد في إحدى الحكايتين فما ظنكم بمثل هذا العدد من الكذب والمناقضة في مقدار توراتهم وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها من ثلاثة وعشرين سطراً إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب يكون في السطر بضع عشرة كلمة
قال أبو محمد رضي الله عنه : ونحن نصف إن شاء الله تعالى حال كون التوراة عند بني إسرائيل من أول دولتهم إثر موت موسى عليه السلام إلى انقراض دولتهم إلى رجوعهم إلى بيت المقدس إلى أن كتبها لهم عزرا الوراق بإجماع من كتبهم واتفاق من علمائهم دون خلاف يوجد من أحد منهم في ذلك وما اختلفوا فيه من ذلك نبهنا عليه ليتيقن كل ذي فهم أنها محرفة مبدلة وبالله تعالى نستعين
قال أبو محمد رضي الله عنه : دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع يوشع بن نون مدبر أمرهم عليه السلام إثر موت موسى عليه السلام ومع يوشع العازار بن هارون عليه السلام صاحب السرادق بما فيه وعنده التوراة لا عند أحد غيره بإقرارهم فدبر يوشع عليه السلام أمرهم في استقامة وألزمهم للدين إحدى وثلاثين سنة مذ مات موسى عليه السلام إلى أن مات يوشع ثم دبرهم فيخاس بن العازار بن هارون وهو صاحب السرادق والكوهن الأكبر والتوراة عنده لا عند أحد غيره خمساً وعشرين سنة في استقامة والتزام للدين ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حي إلى اليوم وثلاثة أنفس إليه وهم الياس النبي الهاروني عليه السلام ومليكصيذق بن فالج بن عابر بن ارفحشاذ بن سام بن نوح عليه السلام والعبد الذي بعثه إبراهيم عليه السلام فلما انقضت المدة المذكورة لفيخاس بن العزار كفر بنو إسرائيل وارتدوا كلهم وعبدوا الأوثان علانية فملكهم كذلك ملك صور وصيدا مدة ثمانية أعوام على الكفر.
ثم دبر أمرهم عسال بن كنار بن أخي كالب بن يفنة بن يهوذا أربعين سنة على الإيمان ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان علانية فملكهم كذلك عقلون ملك بني مواب ثمان عشرة سنة على الكفر ثم دبر أمرهم أهوذ بن قاراقيل أنه من سبط أفرايم وقيل من سبط بنيامين واختلف أيضاً في مدة رئاسته فقيل ثمانون سنة وقيل وخمس وخمسون سنة على الإيمان إلى أن مات ثم دبرهم سمعان بن غاث بن سبط أشار خمساً وعشرين سنة على الإيمان ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم كذلك مراش الكنعاني عشرين سنة على الكفر ثم دبرت أمرهم دبورا النبتية من سبط يهوذا وكان زوجها رجلاً يسمى السدوث من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان فكان مدة تدبيرها لهم أربعون سنة فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم عوزيب وزاب ملك بني مدين سبع سنين على الكفر ثم دبر أمرهم جدعون بن بواس من سبط أفرايم وقيل بل من سبط منسي وهم يصفون أنه كان نبياً وكان له واحد وسبعون ابناً ذكوراً فملكهم على الإيمان أربعين سنة ثم مات وولي ابنه أبو ملك ابن جدعون وكان فاسقاً خبيث السيرة فارتد جميع بني إسرائيل وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً وأعانه أخواله من أهل نابلس من بني إسرائيل من سبط يوسف بتسعين ديراً من بيت ماعل الصنم ومضوا معه فقتل جميع إخوته حاشا واحداً منهم أفلت
وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل ودبرهم بعده مولع بن قوامن سبط يساخر ولم نجد بياناً هل كان على الإيمان أو على الكفر خمساً وعشرين سنة ثم مات ثم دبر أمرهم بعدها بابين بن جلعاد من سبط منسي اثنين وعشرين عاماً على الإيمان إلى أن مات وكان له اثنان وثلاثون ولداً ذكوراً قد ولي كل واحد منهم مدينة من مدائن بني إسرائيل فارتد بنو إسرائيل كلهم بعد موته وعبدوا الأوثان جهاراً وملكهم بنوا عمون ثلاث عشرة سنة متصلة على الكفر ثم قام فيهم رجل من سبط منسي اسمه هيلع بن جلعاد ولا يختلفون في أنه كان ابن زانية وكان فاسقاً خبيث السيرة نذران أظفره الله بعدوه أن يقرب لله سبحانه أول من يلقاه من منزله فأول من لقيه ابنته ولم يكن له ولد غيرها فوفي بنذره وذبحها قرباناً وكان في عصره نبي فلم يلتفت إليه وأنه قتل من بني أفرايم اثنين وأربعين ألف رجل فملكهم ست سنين ثم مات فوليهم بعده أفصات من سبط يهوذا من سكان بيت لحم وكان له ثلاثون ابناً ذكوراً فوليهم سبع سنين وقيل ست سنين ثم مات والأظهر من حاله على ما توجبه أخبارهم الاستقامة ووليهم بعده إيلون من سبط زبلون عشر سنين إلى أن مات.
وولي بعده عبدون بن هلال بن سبط أفرايم ثماني سنين على الإيمان وكان له أربعون ولداً ذكوراً فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم وكفروا وعبدوا الأوثان جهاراً فملكهم الفلسطينيون وهم الكنعانيون وغيرهم أربعين سنة على الكفر ثم دبرهم شمشون ابن مانوح من سبط داني وكان مذكوراً عندهم بالفسق واتباع الزواني فدبرهم عشرين سنة وينسبون إليه المعجزات ثم أسر ومات فدبر بنو إسرائيل بعضهم بعضاً في سلامة وإيمان أربعين سنة بلا رئيس يجمعهم ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات ثم دبرهم مشموال بن فتان النبي من سبط أفرايم قبل عشرين سنة وقيل أربعين سنة كل ذلك في كتبهم على الإيمان وذكروا أنه كان له ابنان قوهال وببايجوران في الحكم ويظلمان الناس وعند ذلك رغبوا إلى شموال أن يجعل لهم ملكاً فولى عليهم شاول الدباغ بن قيش بن انيل بن شارون بن بورات بن آسيا بن خس من سبط بنيامين وهو طالوت فوليهم عشرين سنة وهو أول ملك كان لهم ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم والمعاصي معاً وأنه قتل من بني هارون نيفاً وثمانين إنساناً وقتل نسائهم وأطفالهم لأنهم أطعموا داود عليه السلام خبزاً فقط فاعلموا الآن أنه كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت موسى عليه السلام إلى ولاية أول ملك لهم وهو شاول المذكور سبع ردات فارقوا فيها الإيمان وأعلنوا بعبادة الأصنام فأولها بقوا فيها ثمانية أعوام والثانية ثمانية عشر عاماً والثالثة عشرين عاماً والرابعة سبعة أعوام والخامسة ثلاثة أعوام وربما أكثر والسادسة ثمانية عشر عاماً والسابعة أربعين عاماً.
فتأملوا أي كتاب يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام في مثلها فقط ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم.
ثم مات شاول المذكور مقتولاً وولى أمرهم داود عليه السلام وهم ينسبون إليه الزنا علانية بأم سليمان عليه السلام وأنها ولدت منه من الزنا ابناً مات قبل ولادة سليمان فعلى من يضيف هذا إلى الأنبياء عليهم السلام ألف ألف لعنة وينسبون إليه أنه قتل جميع أولاد شاول لذنب أبيهم حاشا صغيراً مقعداً كان فيهم فقط وكانت مدته عليه السلام أربعين سنة.
ثم ولي سليمان عليه السلام وقد وصفوه بما ذكرنا قبل وذكروا عنه أن نفقته فرضها على الأسباط لكل سبط شهر من السنة وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل وأربعين ألفاً على الرمك خلافاً لما في التوراة أن لا يكثروا من الخيل وهو بني الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان والتوراة والتابوت وسكينة بني هارون فكانت ولايته أربعين سنة ثم مات عليه السلام فافترق أمر بني إسرائيل فصار بنو يهوذ وبنو بنيامين لبني سليمان بن داود عليه السلام في بيت المقدس وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك آخر منهم يسكن بنابلس على ثمانية عشر ميلاً من بيت المقدس وبقوا كذلك إلى ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى فنذكر بحول الله تعالى وقوته أسماء ملوك بني سليمان عليه السلام وأديانهم ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة وبالله عز وجل نتأيد ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة والديانة في أيام دولتهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولي أثر موت سليمان بن داود عليه السلام ابنه رحبعام بن سليمان وله ست عشرة سنة وكانت ولايته سبعة عشر عاماً فأعلن الكفر طول ولايته وعبد الأوثان جهاراً هو وجميع رعيته وجنده بلا خلاف منهم ويقولون أن جنده كانوا مائة ألف وعشرين ألفاً مقاتلاً وفي أيامه غزي ملك مصر في سبعة آلاف فارس وخمسة عشر ألف رجل إلى بيت المقدس فأخذها عنوة بالسيف وهرب رحبعام وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما فيها ورجع إلى مصر سالماً غانماً ثم مات رحبعام على الكفر فولي مكانه ابنه أبياوهل ثمان عشرة سنة فبقي على الكفر هو وجنده ورعيته وعلى عبادة الأوثان علانية وكانت ولايته ست سنين ويقولون قتل من الأسباط العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان ثم ولي بعد موته ابنه اشا بن ابيا وله عشر سنين وكان مؤمناً فهدم بيوت الأوثان وأظهر الإيمان وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان وذكروا أن جنده كانوا ثلاثمائة ألف مقاتل من بني يهوذا واثنين وخمسين ألفاً من بني بنيامين ومات وولي بعده ابنه يهوشافاط بن اشا وهو ابن خمس وثلاثين سنة فكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات فولي ابنه يهورام بن يهوشافاط ولم نجد أمر سيرته ودينه إلا أنه كان مؤلفاً العبادة الأوثان من ملوك سائر الأسباط وولي له اثنان وثلاثون سنة وكانت ولايته ثمانية أعوام ومات فولي مكانه ابنه اخزيا وله اثنان وعشرون سنة فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته وكانت ولايته سنة وقتل فوليت أمه عثليا بنت عمري ملك العشرة الأسباط فتمادت على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان وقتلت الأطفال وأمرت بإعلان الزنا في البيت المقدس وجميع عملها وعهدت أن لا تمنع امرأة ممن أراد الزنا معها وعهدت أن لا ينكر ذلك أحد فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت فولي ابن ابنها يواش بن اخزيا وله سبع سنين فاتصلت ولايته أربعين سنة وأعلن الكفر وعبادة الأوثان وقتل زكريا النبي عليه السلام بالحجارة ثم قتله غلمانه فولي بعده ابنه امصيا بن يواش وله خمس وعشرون سنة
فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته فبقي كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة وفي أيامه انتهب ملك الأسباط العشرة البيت المقدس وأغاروا على كل ما فيه مرتين ثم ولي بعده عزيا بن امصيا وله ست عشرة سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى أن مات وكانت ولايته اثنين وخمسين سنة وهو قتل عاموص النبي عليه السلام الداوودي فولي بعده ابن يوثام بن عزيا وله خمس وعشرون سنة ولم نجد له سيرة وكانت ولايته ست عشرة سنة فمات فولي مكانه ابنه احاز بن يوثام وله عشرون سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان وكانت ولايته ست عشرة سنة فأعلن الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات فولي بعده ابنه حزقيا بن اجاز وله خمس وعشرون سنة وكانت ولايته تسعاً وعشرين سنة فأظهر الإيمان وهدم بيوت الأوثان وقتل خدمتهما وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل وغلب عليهم سليمان الأعسر ملك الموصل وسباهم ونقلهم إلى أمد وبلاد الجزيرة وسكن في بلاد الأسباط العشرة أهل أمد والجزيرة فأظهروا دين السامرة الذين هناك إلى إلى اليوم ثم مات حزقيا وولي بعده ابنه منسي بن حزقيا وله ثنتا عشرة سنة ففي السنة الثالثة من ملكه أظهر الكفر وبنى بيوت الأوثان وأظهر عبادتها هو وجميع أهل مملكته وقتل شعيا النبي قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة
وأن ملك بابل كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في ثور نحاس وأوقد النار تحته فدعا الله فأرسل إليه ملكاً فأخرجه من الثور ورده إلى بيت المقدس وأنه تمادى مع ذلك كله على كفره حتى مات وكانت ولايته خمساً وخمسين سنة فقولوا يا معشر السامعين بلد تعلن فيه عبادة الأوثان وتبني هياكلها ويقتل من وجد فيه من الأنبياء كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالماً أم كيف يمكن هذا فلما مات منسي ولي مكانه ابنه أمون بن منسي وهو ابن اثنين وعشرين عاماً فكانت ولايته سنتين على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات فولي مكانه ابنه يوشيا بن آمون وهو ابن ثمان سنين ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان وكسر الصلبان وأحرقها واستأصل هياكلها وقتل خدامها ولم يزل على الإيمان إلى أن قتل قتله ملك مصر وفي أيامه أخذ أرميا النبي السرداق والتابوت والنار وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم ثم ولي بعده ابنه يهوخار بن يوشيا وهو ابن ثلاث وعشرين سنة فرد الكفر وأعلن إلى عبادة الأوثان وأخذ التوراة من الكاهن الهاروني ونشر منها أسماء الله حيث وجدها وكانت ولايته ثلاثة أشهر وأسره ملك مصر فولي مكانه الياقيم بن يوشيا أخوه وهو ابن خمس وعشرين سنة فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان هو وجميع أهل مملكته وقطع الدين جملة وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار وقطع أثرها وكانت ولايته إحدى عشرة سنة ومات فولي مكانه ابنه يهوباكين بن الياقيم وتلقب نخيا وهو ابن ثمان عشرة سنة فأقام على الكفر وأعلن عبادة الأوثان وكانت ولايته ثلاثة أشهر وأسره بخت نصر فولي مكانه عمه متينا بن يوشيا وتلقب صدقيا وهو ابن إحدى وعشرين سنة فثبت على الكفر وأعلن عبادة الأوثان هو وجميع أهل مملكته وكانت ولايته إحدى عشر سنة وأسره بخت نصر وهدم البيت والمدينة واستأصل جميع بني إسرائيل وأخلى البلد منهم وحملهم مسبيين إلى بلاد بابل وهو آخر ملوك بني إسرائيل وبني سليمان جملة فهذه صفة ملوك بني سليمان بن داود عليهما السلام.
فاعلموا الآن أن التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده في الهيكل فقط وأما ملوك الأسباط العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه بل كانوا معلنين بعبادة الأوثان مخيفين للأنبياء مانعين القصد إلى بيت المقدس لم يكن فيهم نبي قط إلا مقتولاً أو هارباً مخافاً.
فإن قيل أليس قد قتل الياس جميع أنبياء بابل لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك والنخلة التي كانت تعبدها بني إسرائيل وهم ثمانمائة وثمانون رجلاً.
قلنا إنما كان ذلك بإقرار كتبهم في مشهد واحد ثم هرب ومن وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله وما بصره أحد فأول ملوك الأسباط العشرة يربعام بن نابطا الافرايمي وليهم إثر موت سليمان النبي ﷺ فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال هذان إلا إلاهاكم اللذان خلصاكم من مصر وبنى لهما هيكلين وجعل لهما سدنة من غير بني لاوي وعبدهما هو وجميع أهل مملكته ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس وهو كان شريعتهم لا شريعة لهم غير القصد إليه والقربان فيه فملك أربعاً وعشرين سنة ثم مات وولي ابنه ناداب بن يربعام على الكفر المعلن سنتين ثم قتل هو وجميع أهل بيته وولى بعشا بن ايلة من بني يساكر على عبادة الأوثان علانية أربع وعشرين سنة وولي ولده ايلة بن بعشا على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه زمري فقتله وجميع أهل بيته وولي زمري سبعة أيام فقتل وأحرق عليه داره وافترق أمرهم على رجلين أحدهما يسمى تبني بن جينة والآخر عمري فبقيا كذلك اثنتي عشرة عاماً ثم مات تبني وانفرد بملكهم عمري فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات وولي بعده ابنه اخاب بن عمري على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة وفي أيامه كان الياس النبي عليه السلام هارباً عنه في الفلوات وعن امرأته بنت ملك صيدا وهما يطلبانه للقتل ثم مات اخاب وولي ابنه اخزيا بن أخاب على الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين ثم مات وولي مكانه أخوه يهورام ابن أخاب على الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وفي أيامه كان اليسع عليه السلام
وولي مكانه ياهو بن نمشي من سبط منسي فكان أقلهم كفراً هدم هياكل ما على الوثن وقتل سدنته إلا أنه لم ينقص قطع عبادة الأوثان بل ترك الناس عليها ولم يظهر الإيمان فولي كذلك ثمانية وعشرين سنة ومات وولي مكانه ابنه يهواحاز بن ياهو سبع عشرة سنة فبنى بيوت الأوثان وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه حتى لم يكن معه من الجند إلا خمسون فارساً وعشرة آلاف رجل فقط لأن ملك دمشق غلب عليهم وقتلهم وولي مكانه ابنه يواش بن يهواحاز ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه وأخذ في عبادة الأوثان وهو الذي غزا بيت المقدس وأغار عليه وعلى الهيكل وأخذ كل ما فيه وهدم من سور المدينة أربعمائة ذراع وهرب عنه ملك يهوذا ثم مات وولي مكانه ابنه بارنعام بن يواش خمساً وأربعين سنة على مثل كفر أبيه وعبادة الأوثان وغزا أيضاً بيت المقدس وهرب أمامه ملكها الداوودي فأتبعه فقتله ثم مات وولي مكانه ابنه زخريا بن بارنعام بن يواش بن يهواحاز بن ياهو بن نمسي ستة أشهر على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وولي مكانه شلوم ابن نامس من سبط نفتالي فملك شهراً واحداً على الكفر وعبادة الأوثان ثم قتل وولي بعده مياخيم بن قارا من سبط يساكر عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات.
وولي مكانه ابنه محيا بن مياخم على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته وولي مكانه ناجح بن مليا من سبط داني فملك ثمانياً وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.
وفي أيامه أجلي تباشر ملك الجزيرة بني روأبين وبني جاد ونصف سبط منسي من بلادهم بالغور وحملهم إلى بلاده وسكن بلادهم قوماً من بلادهم ثم ولي مكانه هوسيع بن إيلا من سبط جاد على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين إلى أن أسره كما ذكرنا سليمان الأعسر ملك الموصل وحمله والتسعة الأسباط ونصف سبط منسي إلى بلاده أسرى وسكن بلادهم قوماً من أهل بلده وهم السامرية إلى اليوم وهوسيع هذا آخر ملوك الأسباط العشرة وانقضى أمرهم فبقايا المنقولين من أمد والجزيرة إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة وعندهم نزراة أخرى غير هذه التي عند اليهود ولا يؤمنون بنبي بعد موسى عليه السلام ولا يقولون بفضل بيت المقدس ولا يعرفونه ويقولون أن المدينة المقدسة هي نابلس فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء لأنهم لا يرجعون فيها إلى نبي أصلاً ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل وإنما عملها لهم رؤساهم أيضاً.
فقد صح يقيناً أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط يهوذا وبنيامين ومن كان بينهم من بني هارون بعد سليمان عليه السلام مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاماً لم يظهر فيهم قط إيمان ولا يوماً واحداً فما فوقه وإنما كانوا عباد أوثان ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ولا رسم ولا أثر ولا كان عندهم شيءٌ من شرائعها أصلاً مضى على ذلك جميع عامتهم وجميع ملوكهم وهم عشرون ملكاً قد سميناهم إلى أن أوجلوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين وانقطع رسم رميمهم إلى الأبد فلا يعرف منهم عين أحد وظهر يقيناً أن بني يهوذا وبني بنيامين كانت مدة ملكهم بعد موت سليمان عليه السلام أربعمائة سنة على أعوام على اختلاف من كتبهم في ذلك في بضعة عشر عاماً وقد قلنا أنها كتب مدخولة فاسدة ملك هذين السبطين في هذه المدة من بني سليمان بن داود عليهما السلام تسعة عشر رجلاً ومن غيرهم امرأة تموا بها عشرين ملكاً قد سميناهم كلهم آنفاً كانوا كفاراً معلنين بعبادة الأوثان حاشا خمسة منهم فقط كانوا مؤمنين ولا مزيد وهم اشا بن أسا ولي إحدى وأربعين سنة وابنه يهوشافاط بن اشا ولي خمساً وعشرين سنة فهذه ستة وستون اتصل فيهم الكفر ظاهراً وعبادة الأوثان ثم ثمانية أعوام ليورام بن يهوشافاط لم نجد له حقيقة دين فحملناه على الإيمان لسبب أبيه ثم اتصل الكفر ظاهراً وعبادة الأوثان في ملوكهم وعامتهم مائة عام وستين عاماً مع كفر سائر أسباطهم فعمهم الكفر وعبادة الأوثان في أولهم وآخرهم فأي كتاب أو أي دين يبقى مع هذا ثم ولي حزقياً المؤمن تسعاً وعشرين سنة ثم اتصل الكفر بعد في عامتهم وملوكهم وعبادة الأوثان سبعاً وخمسين سنة
ثم ولي يوشا المؤمن الفاضل إحدى وثلاثين سنة ثم لم يل بعده إلا كافر معلن بعبادة الأوثان مدة اثنين وعشرين عاماً وستة أشهر منهم من نشر أسماء الله من التوراة ومنهم من أحرقها وقطع أثرها ولم نجد بعد هؤلاء ظهر فيهم إيمان إلا الكفر وقتل الأنبياء عليهم السلام إلى أن انقطع أمرهم جملة بغارة بخت نصر وسبوا كلهم وهدم البيت واستأصل أثره إلى غاراة كانت على مدينة بيت المقدس وهيكلها الذي لم يكن التوراة عند أحد إلا فيه لم يترك فيها شيء مرة أغار عليهم صاحب مصر أيام رحبعام بن سليمان ومرتين في أيام امصيا الملك من قبل صاحب العشرة الأسباط إلى أن أملها عليهم من حفظة عزرا الوراق الهاروني وهم مقرون أنه وجدها عندهم وفيها خللٌ كثير فأصلحه وهذا يكفي وكان كتابة عزرا للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس وكتبهم تدل على أن عزرا لم يكتبها لهم ويصلحها إلا بعد نحو أربعين عاماً من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاماً التي كانوا فيها خالين ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلاً ولا القبة ولا التابوت واختلف في النار كانت عندهم أم لا ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونسخت وظهرت ظهوراً ضعيفاً أيضاً ولم تزل تتداولها الأيدي مع ذلك إلى أن جعل أنطاكيوس الملك الذي بنى أنطاكية وثناً للعبادة في بيت المقدس وأخذ بني إسرائيل بعبادته وقربت الخنازير على مذبح البيت ثم تولى أمرهم قوم من بني هارون بعد مئين من السنين وانقطعت القرابين فحينئذ انتشرت نسخ التوراة التي بأيديهم اليوم وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلاً من القرابين وعملوا لهم ديناً جديداً ورتبوا لهم الكنائس في كل قرية بخلاف حالهم طول دولتهم
وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام وأحدثوا لهم اجتماعاً في كل سبت على ما هم عليه اليوم بخلاف ما كان طول دولتهم فإنه لم يكن لهم في شيءٍ من بلادهم بيت عبادة ولا مجمع ذكر وتعلم ولا مكان قربان قربة البتة إلا بيت المقدس وحده وموضع السرادق قبل بنيان بيت المقدس فقط وبرهان هذا أن في سفر يوشع بن نون بإقرارهم أن بني رأوبين وبني جاد ونصف سبط منسي إذ رجعوا بعد فتح بلاد الأردن وفلسطين إلى بلادهم بشرقي الأردن بنوا مذبحاً فهم يوشع بن نون وسائر بني إسرائيل بغزوهم من أجل ذلك حتى أرسلوا إليه أننا لم نقمه لا لقربان ولا لتقديس أصلاً ومعاذ الله أن نتخذ موضع تقديس غير المجتمع عليه الذي في السرادق وبيت الله فحينئذ كف عنهم ففي دون هذا كفاية لمن عقل في أنها كتاب مبدل مكذوب موضوع ودين معمول خلاف الدين الذي يقرون أن موسى عليه السلام أتاهم به وما يزيد الشيطان منهم أكثر من هذا ولا في الضلال فوق هذا ونعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن في التوراة التي ترجمها السبعون شيخاً لبطليموس الملك بعد ظهور التوراة وفشوها هي مخالفة للتي كتبها لهم عزرا الوراق وتدعي النصارى أن تلك التي ترجم السبعون شيخاً في اختلاف أسنان الآباء بين آدم ونوح عليهما السلام التي من أجل ذلك الاختلاف تولد بين تاريخ اليهود وتاريخ النصارى زيادة ألف عام ونيف على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى فإن كان هو كذلك فقد وضح اليقين وكذب السبعين شيخاً وتعمدهم لنقل الباطل وهم الذين عنهم أخذوا دينهم وأفٍ أفٍ لدين أخذ عن متيقن كذبه.
وايضاً فإن في السفر الخامس من أسفار التوراة الذي يسمونه التكرار أن الله تعالى قال لموسى اصنع لوحين على حال الأولين واصعد إلى الجبل واعمل تابوتاً من خشب لأكتب في اللوحين العشر كلمات التي أسمعكم السيد في الجبل من وسط اللهيب عند اجتماعكم إليه وبري بهما إلي فانصرفت من الجبل وجعلتهما في التابوت وهما فيه إلى اليوم وفي السفر المذكور أيضاً بعد هذا الفصل قال ومن بعد أن كتب موسى هذه العهود في مصحف واستوعبها أمر بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب وقال لهم خذوا هذا المصحف واجعلوه في المذبح واجعلوا عليه تابوت عهد الرب إلهكم ليكون عليكم شاهداً وقال قبل ذلك في السفر المذكور أيضاً إذا استجمعتم على تقديم ملك عليكم على حال ملوك الأجناس فلا تقدموا إلا من ارتضاه الرب من عدد إخوتكم ولا تقدموا أجنبياً على أنفسكم إلى أن قال فإذا قعد على سرير ملكه فليكتب من هذا التكرار في مصحف ما يعطيه الكوهن المتقدم من بني لاوي بما يشاكله ويكون ذلك معه فيقرأه كل يوم طول ولايته ليخاف الرب إلهه ويذكر كتابه وعهده فهذا كله بيان واضح بصحة ما قلنا من أن العشر كلمات ومصحف التوراة إنما كان في الهيكل فقط تحت تابوت العهد وفي التابوت فقط عند الكوهن الأكبر وحده لأنه بإجماعهم لم يكن يصل إلى ذلك الموضع أحد سواه وفيه أيضاً أنه أمر أن يكتب الكوهن المذكور من السفر الخامس فقط شيئاً يمكن أن يقرأه الملك كل يوم ومثل هذا لا يكون إلا يسيراً جداً ورقة أو نحو ذلك مع أنهم لا يختلفون في أنه لم يلتفت إلى ذلك ألبتة بعد سليمان عليه السلام أحد من ملوكهم إلا أربعة أو خمسة كما قدمنا فقط من جملة أربعين ملكاً وأيضاً فإنه قال في السفر المذكور ثم كتب موسى هذا الكتاب وبري به إلى الكهنة من بني لاوي الذين كانوا يحسنون عهد الرب وقال لهم موسى إذا اجتمعتم للتقديس بين يدي الرب إلهكم في الموضع الذي تخيره الرب فاقرؤا ما في هذا المصحف في جماعة بني إسرائيل عند اجتماعهم فقط يسمعوا ما يلزمهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : وفي نص توراتهم أنهم كانوا لا يلزمهم المجيء إلى بيت المقدس إلا ثلاث مرات في كل سنة فقط فإنما أمر بنص التوراة كما أوردنا أن يقرأها عليهم الكوهن الهاروني عند اجتماعهم فقط فثبت أنها لم تكن إلا في الهيكل فقط عند الكوهن الهاروني فقط لا عند أحد سواه وقد أوضحنا قبل أن العشرة الأسباط لم يدخل قط بيت المقدس منهم أحد بعد موت سليمان عليه السلام إلى أن انقطعوا وأن بني يهوذا وبنيامين لم يجتمعوا إليه إلا في عهد الملوك الخمسة المؤمنين فقط فظهر بهذا كلما قلنا وصح تبديلها بيقين ولاشك في أن تلك المدة الطويلة التي هي أربعمائة سنة غير شيء قد كان في الكهنة الهارونيين ما كان في غيرهم في الكفر والفسق وعبادة الأوثان كالذي يذكرون عن ابني علي الهاروني وغيرهما ممن يقرؤن في كتبهم أنهم خدموا الأوثان وبيوتها من بني هارون وبني لاوي ومن هذه صفته فلا يؤمن عليه تغيير ما ينفرد به وهذه كلها براهين أضوء من الشمس على صحة تبديل توراتهم وتحريفها
قال أبو محمد رضي الله عنه : إلا سورة واحدة ذكر في توراتهم أن موسى عليه السلام أمر بأن تكتب وتعلم جميع بني إسرائيل ليحفظوها ويقوموا بها ولا يمتنع أحد من نسلهم من حفظها وهذا نصها حرفاً بحرف اسمعي يا سموات قولي وتسمع الأرض كلامي يكثر كالمطر وبل كالرذاذ كلامي ويكون كالمطر على العشب وكالرذاذ على الخصب لأني أنادي باسم الرب فيعظمه الرب الهنا الذي أكمل خلقته واعتدلت أحكامه الله الأمين الذي لا يجوز العدل القيوم أذنب لديه غير أوليائه ومحت الأمة العاصية المستحيلة وهذا شكر للرب يا أمة جاهلة قيمة أما هو أبوكم الذي خلقكم ومليكم فتذكروا القديم وفكروا في الأجناس وسلوا ىباكم فيعلمونكم وأكابركم فيعرفونكم إذا كان يقسم العلي الأجناس ويميز بين يد آدم جعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل فهم الرب أمته ويعقوب قسمته وجده في الأرض المقفرة وفي موضع قبيح غير مسلوك فأطلقه وأقبل به وحفظه كحفظ الشعر للعين وأطارهم كما يستطير العقاب بفراخها وتحوم عليها وتبسط جناحها حفظاً لها فأقبل بهم وحملهم على منكبيه فالرب وحده كان قائدهم ولم يكن معه إله غيره فجعلهم في أشرف أرضه ليأكلوا خبزها ويصيبوا عسل حجارتها وزيت جنادلها وسمن مواشيها ولبن ضأنها وشحوم خرفانها وكباش بني بلسان ولحوم التيوس لبان البر ودم العنب وتعاصوا سمنوا ودبروا وأشعوا ثم تخلوا من الله خالقهم وكفروا بالله مسلمهم فألجوه لعبادتهم الأوثان إلى أن سخط عليهم ولسجودهم للشيطان لا لله ولسجودهم لإلهه الأجناس كانوا يجهلونها
ولم يعدها قبلهم آباؤهم فتخلوا من الله الذي ولدهم فنسبو الرب خالقهم فبصر الرب بهذا وغضب له إذ تحلى بنوه وبناته فقال اخفي وجهي عنهم حتى أعلم آخر أمرهم فإنها أمة كافرة عاصية وقد أسخطوني بعبادة من ليس إلهاً وأغضبوني بفواحشهم وسأغيرهم على يدي أمة ضعيفة وأخف بهم على يدي أمة جاهلة ويتقدم غضبي نار تحرق إلى الهواء فتأتي على الأرض بمعاتسته وتذهب أصول الجبال فأجمع عليهم بأس وأثقبهم بنبلي وأهلكهم جوعاً وأجعلهم طعماً للطير وأسلط عليهم أنياب السباع وأعصب عليهم الحياة فإن برزوا أهلكتهم رماحاً وإن تحصنوا أهلكت الشاب منهم والعذار والطفل والشيخ رعباً حتى أقول أين هم فأقطع من الأرض ذكرهم لكني رفهت عنهم لشدة حرد أعدائهم لئلا يزهوا ويقولوا أيدينا القوة فعلت لا الرب فهذه الأمة لا أرى لها ولا تمييز فليتها عرفت وفهمت وأبصرت ما يدركها في آخر أمرها كيف يتبع واحد منهم ألفاً ويفر عن اثنين عشرة آلاف أما هذا بأن ربهم أسلمهم وربهم أعلق فيهم ليس إلهنا مثل آلهتهم وصار حكماً كرمهم من كرم سدوم وعناقيدهم من أرباض عامورا فعناقيدهم عناقيد المرارة وشرابهم مرارة الثعابيبن ومن السم الذي لا دواء له أما هذا في علمي ومعروف في خزائني لي الانتقام وأنا أكافىء في وقته فترهق أرجلكم فكان قد حان وقت خرابهم وإلى ذلك تسرع الأزمنة سيحكم الرب على أمته ويرحم عبيده إذا أبصرهم قد ضعفوا وأغلق عليهم وذهبوا وذهب أواخرهم وقال أين آلهتهم التي يتقون ويأكلون من قربانهم ويشربون منه فليقوموا وليغيثوهم في وقت حاجتهم.
فتبصروا تبصروا أنا وحدي ولا إله غيري أنا أميت وأنا أحيي وأنا أمرض وأنا أبري ولا يتخلص شي من يدي فأرفع إلى السماء يدي وأقول بحياتي الدائمة لئن حددت رمحي كالصاعقة وابتدأت يميني بالحكم لا كافاني أعدائي وأهل السنان ولأسكرن نبلي دماً ولأقطعن برمحي لحوماً فأمد حوايا معشر الأجناس أمة فإنه سيأخذ بدماء عبيده وينتقم من أعدائهم ويرحم أرضهم
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه السورة التي أبيحت لهم وأمروا بحفظها وكتابتها لا ما سواها بنص توراتهم بزعمهم وقد بينا قبل أنهم لم يشتغلوا بعد موت سليمان عليه السلام لا بهذه السورة ولا بغيرها إلا مدة الملوك الخمسة فقط لاقدانهم عبدوا كلهم الأوثان وقتلوا الأنبياء وأخافوهم وشردوهم هذا ما لا يشك فيه كافر ولا مؤمن.
على أن هذه في السورة من الفضائح ما لا يجوز أن ينسب إلى الله عز وجل مثل قوله إن الله تعالى هو أبوهم الذي ولدهم وأنهم بنوه وبناته حاش لله من هذا وهل طرق للنصارى وسهل عليهم أن يجعلوا لله ولداً إلا ما وجدوا في هذه الكتب الملعونة المكذوبة المبدلة بأيدي اليهود وليس في العجب أكثر من أن يجعلهم أنفسهم أولاد الله تعالى وكل من عرفهم يعرف أنهم أو ضر الأمم وأبردهم طلعة وأغثهم مفاظع وأتمهم خبثاً وأكثرهم غشاً وأجبنهم نفوساً وأشدهم مهانة وأكذبهم لهجة وأضعفهم همة وأرعنهم شمائل بل حاش لله من هذا الاختيار الفاسد.
ومثل قوله في هذه السورة أنه تعالى حملهم على منكبيه.
ومثل قوله أنه قد قسم الأجناس من بني آدم وجعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل وجعلهم سهمه فهذا كذب ظاهر حاش لله منه لأن أولاد بني إسرائيل ثنتا عشر فعلى هذا يجب أن يكون أجناس بني آدم اثنتي عشر وليس الأمر كذلك فإن كان عني من تناسل من بني إسرائيل فكذب حينئذ أشنع وأبشع لأن عددهم لا يستقر على قدر واحد بل كل يوم يزيدون وينقصون بالولادة والموت هذا ما لا شك فيه فكل هذه براهين واضحة بأنها محرفة مبدلة مكذوبة فإن هي كذلك فلا يجوز البتة في عقل أحد أن يشهد في تصحيح شريعة ولا في نقل معجزة ولا في إثبات نبوة وبنقل مكذوب مفتري موضوع هذا ما لا شك فيه وقد قلنا أو نقول إن نقل اليهود فاسد مدخول لأنه راجع إلى قوم أتبعوا من أخرجهم من الذل والبلاء والسخرة والخدمة في عمل الطوب وذبح أولادهم عند الولادة وحال لا يصبر عليها كلب مطلق ولا حمار مسيب إلى العز والراحة والعافية والتملك للأموال وأن يكونوا آمرين مخدومين آمنين على أولادهم وأنفسهم ولا ينكر في مثل هذا الحال أن يشهد المخلص للمخلص بكل ما يريد منه ومع هذا كله فإن اتباعهم لموسى عليه السلام الذي أخرجهم من تلك الحالة إلى هذه الأخرى وطاعته له كانت مدخولة ضعيفة مضطربة.
وقد ذكر في نص توراتهم إذ عملوا العجل نادوا هذا إله موسى الذي يخلصهم من مصر ومرة أخرى أرادوا قتله وتصايحوا قدم على أنفسنا قائداً ونرجع إلى مصر ومع هذا كله قولهم إن السحرة عملوا مثل كثير مما عمل موسى وإن كل ذلك بيان ممكن بصناعة معروفة وفي هذا كفاية وهم مقرون بلا خلاف من أحد منهم أنه لم يتبع موسى أمة سواهم ولا نقلت لهم معجزة طائفة غيرهم وأما النصارى فعنهم أخذوا نبوة موسى ومعجزاته وأما سائر الأمم والملل كالمجوس والفرس والصابئين والسريانين والمنانية والسمنية والبراهمة والهند والصين والترك فلا أصلاً ولا على أديم الأرض مصدق بنبوة موسى وبالتوراة التي بأيديهم إلا هم ومن هو شعبة منهم كالنصارى.
وأما نحن المسلمون فإنما قبلنا نبوة موسى وهارون وداود وسليمان والياس واليشع عليهم السلام وصدقنا بذلك وآمنا بهم وإن موسى الذي أنذر بمحمد ﷺ لأخبار رسول الله ﷺ بصحة نبوتهم ومعجزاتهم فقط ولولا إخباره عليه السلام بذلك ما كانوا عندنا إلا كشموال وايراث وحداث وحقاي وحبقون وعدوا ويؤال وعاموص وعوبديا وميسخا وناحوم وصفينا وملاخي وسائر من تقر اليهود بنبوته كإقرارهم بنبوة موسى سواء بسواء ولا فرق بين طرق نقلهم لنبوة جميعهم ونحن لا نصدق نقل اليهود في شيء من ذلك بل نقول إنه قد كان لله تعالى أنبياء في بني إسرائيل أخبر بذلك الله تعالى في كتابه المنزل على نبيه الصادق المرسل فنحن نقطع بنبوة من سمي لنا منهم ونقول في هؤلاء الذين لم يسم لنا محمد ﷺ أسماءهم.
الله عز وجل أعلم إن كانوا أنبياء فنحن نؤمن بهم وإن لم يكونوا أنبياء فلسنا نؤمن بهم.
آمنا بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.
وهكذا نقر بنبوة صالح وهود وشعيب وإسماعيل وبأنهم رسل الله يقيناً ولا نبالي بإنكار اليهود لنبوتهم ولا بجهلهم بهم لأن الصادق عليه السلام شهد برسالتهم وأما التوراة فما وافقنا قط عليها لأننا نحن نقر بتوراةٍ حقٍ أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وأصحابه لأنه تعالى أخبرنا بذلك في كتابه الناطق على لسان رسول الله ﷺ الصادق ونقطع على أنها ليست هذه التي بأيديهم بنصها بل حرف كثيرم منهم وبدل وهم يقرون بهذه التي بأيديهم ولا يعرفون التي نؤمن نحن بها وكذلك لا نصدق بشريعتهم التي هم عليها الآن بل نقطع بأنها محرفة مبدلة مكذوبة وهم لا يؤمنون بموسى الذي بشر بمحمد ﷺ وبرسالته وبأصحابه.
فاعلموا أننا لم نوافقهم قط على التصديق بشيء من دينهم ولا مما هم عليه ولا مما بأيديهم من الكتاب ولا بالنبي الذي يذكرونه لما قد أوضحناه من فساد نقلهم ووضوح الكذب فيه وعموم الدواخل فيه
قال أبو محمد رضي الله عنه : ونذكر إن شاء الله تعالى طرفاً مما في سائر الكتب التي عندهم التي يضيفونها إلى الأنبياء عليهم السلام من الفساد كالذي ذكرنا في توراتهم ولا خلاف في أن اهتبالهم بالتوراة كان أشد وأكثر أضعاف مضاعفة من اهتبالهم بسائر كتب أنبيائهم.
أما كتاب يوشع فإن فيه براهين قاطعة بأنه أيضاً تاريخ ألفه لهم بعض متأخريهم بيقين وأن يوشع لم يكتبه قط ولا عرفه ولا أنزل عليه.
فمن ذلك أن فيه نصاً فلما انتهى ذلك إلى دوسراق ملك بيوس التي بنى فيها سليمان بن داود بيت المقدس فعل أمراً ذكره
قال أبو محمد رضي الله عنه : ومن المحال الممتنع أن يخبر يوشع أن سليمان بنى بيت المقدس ويوشع قبل سليمان بنحو ستمائة سنة ولم يأت هذا النص في كتاب يوشع المذكور على سبيل الإنذار أصلاً إنما مساقه بلا خلاف منهم مساق الأخبار عنما قد مضوا.
وفيه قصة بشيعة جداً وهي أن عخار بن كرمي بن سذان بن شيلة بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام غل من المغنم خيطاً أرجواناً وحق ذهب فيه خمسون مثقالاً ومائتا درهم فضة فأمر يوشع برجمه ورجم بنيه ورجم بناته حتى يموتوا كلهم بالحجارة وأمر بإحراق مواشيه كلها وحاش لله أن يحكم نبي بهذا الحكم فيعاقب بأغلظ العقوبة من لا ذنب له من ذرية لم تجن شيئاً بجناية أبيهم مع أن نص التوراة لا يقتل الأب بذنب الابن ولا الابن بذنب الأب.
فلابد ضرورة من أن يقولوا نسخ يوشع هذا الحكم فيثبتوا النسخ من نبي لشريعة نبي قبله وفي شريعة موسى أيضاً أو ينسبوا الظلم وخلاف أمر الله إلى يوشع فيجعلوه ظالماً عاصياً لله مبدلاً لأحكامه وما فيها حظ لمختار منهم وبالله تعالى التوفيق.
وفيه أن كل من دخل من بني إسرائيل الأرض المقدسة فإنهم كانوا مختونين وفيه أبناء تسعة وخمسين عاماً وأقل وإن موسى عليه السلام لم يختن ممن ولد بعد خروجه من مصر أحداً هذا مع إقرارهم أن الله تعالى شدد في الختان وقال من لم يختتن في يوم أسبوع ولادته فلتنف نفسه من أمته بمعنى فليقتل فكيف يضيع موسى هذه الشريعة الوكيدة حتى يختنهم كلهم يوشع بعد موت موسى بدهر.
ولقد فضحت بهذا وجه بعض علمائهم فقال لي كانوا في التيه في حل وارتحال فقلت له فكان ماذا فكيف وليس كما تقولون بل كانوا يبقون المدة الطويلة في مكان واحد.
وفي نص كتاب يوشع بزعمكم أنه إنما ختنهم إذ جازوا الأردن قبل الشروع في الحرب وفي أضيق وقت وختنهم كلهم حينئذ وهم رجال كهول وشبان وتركوا الختان إذ لا مؤنة في ختانهم أطفالاً تحمله أمه مختوناً كما تحمله غير مختون ولا فرق فسكت منقطعاً وأما الكتاب الذي يسمونه الزبور ففي المزمور الأول منه قال لي الرب أنت ابن اليوم ولدتك
قال أبو محمد رضي الله عنه : فأي شيء تنكرون على النصارى في هذا الباب ما أشبه الليلة بالبارحة.
وفيه أيضاً أنتم بنو الله وبنو العلي كلكم وهذه أطم من التي قبلها ومثل ما عند النصارى أو أنتن.
وفيه في المزمور الرابع وأربعين منه عرشك يا الله في العالم وفي الأبد قضيت العدل قضيت ملكك أحببت الصلاح وأبغضت المكروه وكذلك دهنك إلهك بزيت القرح بين إشراكك
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه سوأة الأبد ومضيعة الدهر وقاصمة الظهر وإثبات إله آخر على الله تعالى دهنه بالزيت إكراماً له ومجازاة على محبته الصلاة وإثبات إشراك الله تعالى وهذا دين النصارى بلا مؤنة ولكن إثبات إلهٍ دون الله وقد ظهر عند اليهود هذا علانية على ما نذكر بعد أن شاء الله تعالى وبعده بيسير يخاطب الله تعالى وقفت زوجتك عن يمينك وعقاصها من ذهب أيتها الابنة اسمعي وميلي بأذنيك وأبصر وآنسي عشيرتك وبيت أبيك فيهواك الملك وهو الرب والله فاسجدي له طوعاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : ما شاء الله كان أنكرنا الأولاد فأتونا بالزوجة والأختان تبارك الله فما نرى لهم على النصارى فضلاً أصلاً ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه في المزمور الموفي مائة وسبعاً قال الرب لربي اقعد على يميني حتى أجعل أعداك كرسي قدميك
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا كالذي قبله في الجنون والكفر رب فوق رب ورب يقعد عن يمين رب ورب يحكم على رب ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه في المزمور السادس وثمانين منه يقول روح القدس لصيهون يقال رجل ورجل ولد فيها وهو الذي أسسها الرب العلي الذي خلقها عند مكتنه الأمة
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا دين النصارى الذي يشنعون به عليهم من أن الله ولد صهيون لو انهدمت الجبال من هذا ما كان عجباً.
وفيه في المزمور السابع وسبعين منه الرب قام كالمنتبه من نومه كالجبار الذي يقر به إثر الخمار كما يقوم الجريش وفيه اتقوا ربكم الذي قوته كقوة الجريش
قال أبو محمد رضي الله عنه : ما سمع في الحمق اللفيف ولا في الكفر السخيف بمثل هذا الفعل مرة يشبه قيام الله تعالى بالمنتبه من نومه وقد علمنا أنه لا يكون المرأ أكسل ولا أحوج إلى التمدد ولا أثقل حركة منه حين قيامه منه ومرة يشبهه بجبار ثمل وما عهد للمرأ وقت يكون فيه أنكد ولا أثقل عينين ولا أخبث نفساً ولا آلم صداعاً ولا أضعف عويلاً منه في حان الخمار ومرة يمثله بالجريش وما الجريش والله ما هو إلا ثور من الثيران بقرن في وسط رأسه حاش لله من هذه النحوس التي حق من يؤمن بها السوط حتى يعتدل دماغه ويحمق بالكل ويقذف الناس بالحجارة ويسقط عنه الخطاب ونعوذ بالله من البلاء.
وفيه من المزمور الحادي وثمانين قام الله في مجتمع الآلهة وقف آله العزة وسطهم.
وهذه حماقة ممزوجة بكفر سمج مجتمع الآلهة وقيام الله بينهم ووقوفه في وسط أصحابه ما شاء الله كان إلا أن هذا أخبث من قول النصارى لأن الآلهة عند النصارى من ثلاثة وهم عند هؤلاء السفلة الأراذل جماعة ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه في المزمور الثامن والثمانين من ذا يكون مثل الله في جميع بني الله.
وبعده يقول إن داود يدعوني والداً وأنا جعلته بكر بني وبعده إن عرش داود يبقى ملكه سرمداً أبداً
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه كالتي قبلها صارت الآلهة قبيلة وبنوا أب وكان فيهم واحد هو سيدهم ليس فيهم مثله والآخرون فيهم نقص بلا شك تعالى الله عن ذلك ونحمده كثيراً على نعمة الإسلام ملة التوحيد الصادقة التي تشهد العقول بصحتها وصحة كل ما فيها مع كذب الوعد في بقاء ملك داود سرمداً.
وفيها مما يوافق قول الملحدين الدهرية الناس كالعشب إذا خرجت أرواحهم نسوا ولا يعلمون مكانهم ولا يفهمون بعد ذلك
قال أبو محمد رضي الله عنه : وإن دين اليهود ليميل إلى هذا ميلاً شديداً لأنه ليس في توراتهم ذكر معاد أصلاً ولا لجزاء بعد الموت وهذا مذهب الدهرية بلا كلفة فقد جمعوا الدهرية والشك والتشبيه وكل حمق في العالم على أن فيه بما لم يطلقهم الله على تبديله وأبقاه حجة لنا عليهم ومعجزة لنبينا ﷺ.
وفي المزمور الحادي وستين منه أن العرب وبني سبا يؤدون إليه المال ويتبعونه وإن الدم يكون له عنده ثمن وهذه صفة الدية التي ليست إلا في ديننا وفيه أيضاً ويظهر من المدينة هكذا نصاً وهذا إنذار بين برسول الله ﷺ وأما الكتب التي يضيفونها إلى سليمان عليه السلام فهي ثلاثة واحدها يسمى شارهسير ثم معناه شعر الأشعار وهو على الحقيقة هوس الأهواس لأنه كلام أحمق لا يعقل ولا يدري أحد منهم مراده إنما هو مرة يتغزل بمذكر ومرة يتغزل بمؤنث ومرة يأتي منه بلغم لزج بمنزلة ما يأتي به المصدوع والذي فسد دماغه وقد رأيت بعضهم يذهب إلى أنه رموز على الكيميا وهذا وسواس آخر ظريف والثاني يسمى مثلاً معناه الأمثال فيه مواعظ وفيه أن قال قبل أن يخلق الله شيئاً في البدء من الأبد أنا صرت ومن القديم قبل أن تكون الأرض وقبل أن تكون النجوم أنا قد كنت استلمت وقد كنت ولدت وليس كان خلق الأرض بعد ولا الأنهار وإذ خلق الله السماواتقد كنت حاضراً وإذ كان يجعل للنجوم حداً صحيحاً ويدق بها وكان يوثق السماوات في العلو ويقدر عيون المياه وإذ كان يحدق على البحر تنجمه ويجعل للمياه نحى لئلا تجاوز جوزها وإذ كان يعلق أساسات الأرض أنا معه كنت مهيئاً للجميع
قال أبو محمد رضي الله عنه : فهل في الملحنة أكثر من هذا وهل يضاف هذا الحمق إلى رجل معتدل فكيف إلى بني إسرائيل وهل هذا الإشراك صحيح وحاش لله أن يقول سليمان عليه السلام هذا الكلام تالله ما عبط أهل الإلحاد بإلحادهم إلا هذا ومثله ورأيت بعضهم يخرج هذا على أنه إنما أراد علم الله تعالى
قال أبو محمد رضي الله عنه : ولا يعجز من لا حيأ له عن أن يقلب كل كلام إلى ما اشتهى بلا برهان ووصف الكلام عن موضعه ومعناه إلى معنى آخر لا يجوز إلا بدليل صحيح غير ممتنع المراد في اللغة والثالث يسمى فوهلث معناه الجوامع فيه إن قال مخاطباً لله تعالى اخترني أمير إلا أمتك وحاكماً على بنيك وبناتك وهذا كالذي سلف وحاش لله أن يكون له بنات وبنون لاسيما مثل بني إسرائيل في كفرهم في دينهم وضعفهم في دنياهم ورذالتهم في أحوالهم النفسية والجسدية.
وفي كتاب حزقيا يقول السيد سأمد يدي على بني عيسو وأذهب عن أرضهم الآدميين والأنعام وأفقرهم وأنتقم منهم على يدي أمتي بني إسرائيل
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا ميعاد قد ظهر كذبه يقيناً لأن بني إسرائيل قد بادوا جملة وبنو عيسو باقون في بلادهم بنص كتبهم ثم بعد ذلك باد بنو عيسو فما على أديم الأرض منهم أحد يعرف أنه منهم وصارت بلادهم للمسلمين وسكانها لخم وغيرهم من العرب وبطل بذلك أن يدعوا أن هذا يكون في المستأنف وفي كتاب لشعيا أنه رأى الله عز وجل شيخاً أبيض الرأس واللحية وهذا تشبيه حاشا لنبي أن يقوله.
وفيه قال الرب من سمع قط مثل هذا أنا أعطي غيري أن يلد ولا ألد أنا وأنا الذي أرزق غيري أفأكون أنا بلا ابن
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا أطم ما سمع به أن يقيس الله عز وجل نفسه في كون البنين على خلقه وكل هذا أشنع من قول النصارى في إضافة الشرك والولد والزوجة إلى الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان
قال أبو محمد رضي الله عنه : لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء عليهم السلام إلا طرفاً يسيراً دالاً على فضيحتها أيضاً وتبديلها وقد قلنا إنهم كانوا في بلد صغير محاط به ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيءٍ من ذلك إلى نبي من أنبيائهم لاسيما من لم يكن إلا في أيام كفرهم مخافاً ومقتولاً فصح بلا شك أنها من توليد من عمل لهم الصلوات التي هم عليها والشرائع التي يقرون أنها من عمل أحبارهم الثابتة إذ ظهر دينهم وانتشرت بيوت عبادتهم فصارت لهم مجامع يتعلمون فيها دينهم وعلماء يعلمونهم في كل بلد بخلاف ما أوضحنا أنهم كانوا عليه أيام دولتهم الأولى من كونهم كلهم كفاراً أميين من السنين وكونهم لا مسجد لهم أصلاً إلا بيت المقدس ولا مجمع بعلم لهم أصلاً ولا عالماً يعلمهم بوجه من الوجوه ولا جامع لشيءٍ من كتبهم والحمد لله رب العالمين ولو تقصينا ما في كتب أنبيئاهم من المناقضات والكذب لكثر ذلك جداً وفيما أوردناه كفاية
قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد اعترض بعضهم فيما كان يدعي عليهم من تبديل التوراة وكتبهم والمضافة إلى الأنبياء قبل أن يبين لهم أعيان ما فيها من الكذب البحت فقال قد كان في مدة دولتهم أنبياء وبعد دولتهم ومن المحال أن يقر أولئك الأنبياء على تبديلها
قال أبو محمد رضي الله عنه : فجواب هذا القول أن يقال إن كان يهودياً كذبت ما في شيءٍ من كتبكم أنه رجع إلى البيت مع زربائيل بن صيلئال بن صدقياً الملك نبني أصلاً ولا كان معه في البيت نبي بإقرارهم أصلاً وكان ذلك قبل أن يكتبها لهم عزرا الوراق بدهر وقبل رجوعهم إلى البيت مع زربائيل مات دانيال آخر أنبيائهم في أرض بابل وأما الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل بعد سليمان فكلهم كما بينا إما مقتول بأشنع القتل أو مخاف مطرود منفي لا يسمع منهم كلمة إلا خفية حاشا مدة الملوك المؤمنين الخمسة في بني يهوذا أو بني بنيامين خاصة وذلك قليل تلاه ظهور الكفر وحرق التوراة وقتل الأنبياء وهو كان خاتمة الأمر وعلى هذا الحال وافاهم انقراض دولتهم أيضاً فليس كل نبي يبعث بتصحيح كتاب من قبله فبطل اعتراضهم بكون الأنبياء فيهم جملة.
وإن كان نصرانياً يقر بالمسيح وزكريا ويحيى عليهم السلام قيل له إن المسيح بلا شك كانت عنده التوراة المنزلة كما أنزلها الله تعالى وكان عنده الإنجيل المنزل قال الله تعالى " ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولاً إلى بني إسرائيل " إلا أنه عرض في النقل عنه بعد رفعه عارض أشد وأفحش من العارض في النقل إلى موسى عليه السلام فلا كافة في العالم متصلة إلى المسيح عليه السلام أصلاً والنقل إليه راجع إلى خمسة فقط وهم متى وباطره بن نونا ويوحنا ابن سبذاي ويعقوب ويهوذا أبناء يوسف فقط ثم لم ينقل عن هؤلاء إلا ثلاثة فقط وهو لوقا الطبيب الأنكاكي ومارقس الهاروني وبولس البنياميني وهؤلاء كلهم كذابون وقد وضح عليهم الكذب جهاراً على ما نوضحه بعد هذا إن شاء الله تعالى وكل هؤلاء مع ما صح من كذبهم وتدليسهم في الدين فإنما كانوا منتشرين بإظهار دين اليهود ولزوم السبت بنص كتبهم ويدعون إلى التثليث سراً وكانوا مع ذلك مطلوبين حيث ما ظفروا بواحد منهم ظاهراً قتل فبطل الإنجيل والتوراة برفع المسيح عليه السلام بطلاناً كلياً وهذا الجواب إنما كان يحتاج إليه قبل أن يظهر من كذب توراتهم وكتبهم ما قد أظهرنا وأما بعد ما أوضحنا من عظيم كذب هذه الكتب بما لا حيلة فيه فاعتراضهم ساقط لأن يقين الباطل لا يصححه شيءٌ أصلاً كما أن يقين الحق لا يفسده شيءٌ أبداً.
فاعلموا الآن أن ما عورض به الحق المتيقن ليبطل به أو عورض به دون الكذب المتيقن ليصحح به فإنما هو سغب وتمويه وإيهام وتخييل وتحيل فاسد بلا شك لأن يقينين لا يمكن البتة في البنية أن يتعارضا أبداً وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل فإنكم تقرون بالتوراة والإنجيل وتشهدون على اليهود والنصارى بما فيها من ذكر صفات نبيكم وقد استشهد نبيكم عليهم بنصها في قصة الراجم للزاني المحصن.
وروي أن عبد الله بن سلام ضرب يد عبد الله بن صوريا إذ وضعها على آية الرجم.
وروي أن النبي ﷺ أخذ التوراة وقال آمنت بما فيك.
وفي كتابكم " يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ".
وفيه أيضاً " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " وفيه أيضاً " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " وفيه " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " وفيه " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " وفيه " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم ".
قلنا وبالله التوفيق كل هذا حق حاشا قوله عليه السلام آمنت بما فيك فإنه باطل لم يصح قط وكله موافق لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما وليس شيء منه حجة لمن ادعى أنهما
قال أبو محمد رضي الله عنه : أما إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم وأي معنى لتمويهكم بهذا ونحن لم ننكرهما قط بل نكفر من أنكرهما إنما قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام حقاً وأنزل الزبور على داود عليه السلام حقاً وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام حقاً وأنزل الصحف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقاً وأنزل كتباً لم يسم لنا على أنبياء لم يسموا لنا حقاً نؤمن بكل ذلك قال تعالى " صحف إبراهيم وموسى " وقال تعالى " وإنه لفي زبر الأولين " وقلنا ونقول إن كفار بني إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضه حجة عليهم كما شاء " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " " لا معقب لحكمه " وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم كما شاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
فدرس ما بدلوا من الكتب المذكورة ورفعه الله تعالى كما درست الصحف وكتب سائر الأنبياء جملة فهذا هو الذي قلنا وقد أوضحنا البرهان على صحة ما أوردنا من التبديل والكذب في التوراة والزبور ونورد إن شاء الله تعالى في الإنجيل وبالله تعالى نتأيد.
فظهر فساد تمويههم بأننا نقر بالتوراة والإنجيل والزبور ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدلة والحمد لله رب العالمين.
وأما استشهادنا على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار بنبينا ﷺ فحق وقد قلنا آنفاً أن الله تعالى أطلعهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المثل وكف أيديهم عما شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم كما كلف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضاً كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم.
وقد أغرق الله تعالى قوم نوح عليه السلام وقوم فرعون نكالاً لهم وأغرق آخرين شهادة لهم وأملى لقوم ليزدادوا فضلاً.
هذا ما لا ينكره أحد من أهل الأديان جملة وكان ما ذكرنا زيادة في أعلام النبي ﷺ الواضحة وبراهينه اللائحة والحمد لله رب العالمين.
فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا رسول الله ﷺ بالتوراة في أمر رجم الزاني المحصن وضرب بن سلام رضي الله عنه يد ابن صوريا إذ جعلها على آية الرجم فحق وهو مما قلنا آنفاً إن الله تعالى أبقاه خزياً لهم وحجة عليهم وإنما يحتج عليهم بهذا كله بعد إثبات رسالته ﷺ بالبراهين الواضحة الباهرة بالنقل القاطع للعذر على ما قد بينا ونبين إن شاء الله تعالى ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرفة من ذكره عليه السلام إخزاء لهم وتبكيتاً وفضيحة لضلالهم لا لحاجة منا إلى ذلك أصلاً والحمد لله رب العالمين.
وأما الخبر بأن النبي عليه السلام أخذ التوراة وقال آمنت بما فيك.
فخبر مكذوب موضوع لم يأت قط من طرق فيها خير ولسنا نستحل الكلام في الباطل لو صح فهو من التكلف الذي نهينا عنه كما لا يحل توهين الحق ولا الاعتراض فيه.
وأما قول الله عز وجل " يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " فحق لا مرية فيه وهكذا نقول ولا سبيل لهم إلى إقامتها أبداً لرفع ما أسقطوا منها فليسوا على شيء إلا بالإيمان بمحمد ﷺ فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل كلهم يؤمنون حينئذ بما أنزل الله منهما وجداؤ عدم ويكذبون بما يدل فيهما مما لم ينزله الله تعالى فيهما وهذه هي إقامتهما حقاً فلاح صدق قولنا موافقاً لنص الآية بلا تأويل والحمد لله رب العالمين.
وأما قوله تعالى " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فنعم إنما هو في كذب كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم فبكتهم عليه السلام في ذلك الكذب المحدث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فظهر كذبهم.
وكم عرض لنا هذا مع علمائهم في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة فالقوم لا مؤنة عليهم من الكذب حتى الآن إذا طعموا بالتخلص من مجلسهم لا يكون ذلك إلا بالكذب وهذا خلق خسيس وعار لا يرضى به مصحح ونعوذ بالله من مثل هذا.
وأما قوله تعالى " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله " فنعم هذا حق على ظاهره كما هو وقد قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة وحكم بها النبيون الذين أسلموا كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار الذين لم يكونوا أنبياء بل كانوا حكاماً من قبل الأنبياء عليهم السلام ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار قبل حدوث التبديل.
هذا نص قولنا وليس في هذه الآية أنها لم تبدل بعد ذلك أصلاً لا بنص ولا بدليل.
وأما من ظن لجهله من المسلمين أن هذه الآية نزلت في رجم النبي ﷺ لليهوديين اللذين زنيا وهما محصنان فقد ظن الباطل وقال بالكذب وتأول المحال وخالف القرآن لأن الله تعالى قد نهى نبينا عليه السلام عن ذلك نصاً بقوله " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً " وقال عز وجل " ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "
قال أبو محمد رضي الله عنه : فهذا نص كلام الله عز وجل الذي ما خالفه فهو باطل.
وأما قوله تعالى " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " فحق على ظاهره لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد ﷺ واتباع دينه ولا يكونون أبداً حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلا باتباعهم دين محمد ﷺ فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه فهم أهله ولم يأمرهم قط تعالى بما يسمى إنجيلاً وليس بإنجيل ولا أنزله الله تعالى كما هو قط والآية موافقة لقولنا وليس فيها أن الإنجيل لم يبدل لا بنص ولا بدليل إنما فيه إلزام النصارى الذين يتسمون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه وهم على خلاف ذلك.
وأما قوله تعالى " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " فحق كما ذكرناه قبل ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزلين بعد تبديلهما إلا بالإيمان بمحمد ﷺ فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل حقاً لإيمانهم بالمنزل فيهما وجحدهم ما لم ينزل فيهما وهذه هي إقامتهما حقاً.
وأما قوله تعالى " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم " فنعم هذا عموم قام البرهان على أنه مخصوص وأنه تعالى إنما أراد مصدقاً لما معكم من الحق لا يمكن غير هذا لأننا بالضرورة ندري أن معهم حقاً وباطلاً ولا يجوز تصديق الباطل ألبتة فصح أنه إنما أنزله تعالى مصدقاً لما معهم من الحق وقد قلنا أن الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقاً ليكون حجة عليهم وزائداً في خزيهم وبالله تعالى التوفيق فبطل تعلقهم بشيءٍ مما ذكرنا والحمد لله رب العالمين
قال أبو محمد رضي الله عنه : وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون بجهلهم القول بأن التوراة والإنجيل اللذين بأيدي اليهود والنصارى محرفان وإنما حملهم على هذا قلة اهتبالهم بنصوص القرآن والسنن أترى هؤلاء ما سمعوا قول الله تعالى " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " وقوله تعالى " وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " وقوله تعالى " وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " إلى آخر الآية وقوله تعالى " يحرفون الكلم عن مواضعه " ومثل هذا في القرآن كثير جداً.
ونقول لمن قال من المسلمين إن نقلهم نقل تواتر يوجب العلم وتقوم به الحجة لاشك في أنهم لا يختلفون في أن ما نقلوه من ذلك عن موسى وعيسى عليهما السلام لا ذكر فيه لمحمد ﷺ أصلاً ولا إنذاراً بنبوته فإن صدقهم هؤلاء القائلون في بعض نقلهم فواجب أن يصدقهم في سائره أحبوا أم كرهوا وإن كذبوهم في بعض نقلهم وصدقوهم في بعض فقد تناقضوا وظهرت مكابرتهم ومن الباطل أن يكون نقل واحدٌ جاء مجيئاً واحداً بعضه حق وبعضه باطل فقد تناقضوا وما ندري كيف يستحل مسلم إنكار تحريف التوراة والإنجيل وهو يسمع كلام الله عز وجل " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " وليس شيءٌ من هذا فيما بأيدي اليهود والنصارى مما يدعون أنه التوراة والإنجيل فلابد لهؤلاء الجهال من تصديق ربهم جل وعز أن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل فيرجعون إلى الحمق ويكذبوا ربهم جل وعز ويصدقوا اليهود والنصارى فيلحقوا بهم ويكون السؤال عليهم كلهم حينئذ واحداً فيما أوضحناه من تبديل الكتابين وما أوردناه مما فيهما من الكذب المشاهد عياناً مما لم يأت نص بأنهم بدلوهما لعلمنا بتبديلهما يقيناً كما نعلم ما نشهده بحواسنا مما لا نص فيه.
وقد اجتمعت المشاهدة والنص.
حدثنا أبو سعيد الجعفري.
حدثنا أبو بكر الأرفوي محمد بن علي المصري.
ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس.
ثنا أحمد بن شعيب عن محمد بن المثني عن عثمان بن عمر.
ثنا علي هو ابن المبارك.
ثنا يحيى بن أبي كثير عن سلمة عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال.
كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية فقال رسول الله ﷺ لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين. ما نزل القرآن والسنة عن النبي ﷺ بتصديق صدقا به.
وما نزل النص بتكذيبه أو ظهر كذبه كذبنا به.
وما لم ينزل نص بتصديقه أو تكذيبه وأمكن أن يكون حقاً أو كذباً لم نصدقهم ولم نكذبهم وقلنا ما أمرنا رسول الله ﷺ أن نقوله كما قلنا في نبوة من لم يأتنا باسمه نص والحمد لله رب العالمين.
حدثنا البخاري. ثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. أنا ابن شهاب بن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود قال ابن عباس. كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله ﷺ حدث تقرؤنه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقد قالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً
قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا أصح إسناد عن ابن عباس رضي الله عنه عنه وهو نفس قولنا وماله في ذلك من الصحابة مخالف.
وقد روينا أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه أتاه كعب الحبر بسفر وقال له هذه التوراة أفأقرؤها فقال له عمر بن الخطاب إن كنت تعلم أنها التي أنزل الله على موسى فاقرأها آناء الليل والنهار فهذا عمر لم يحققها
قال أبو محمد رضي الله عنه : ونحن إن شاء الله تعالى نذكر طرفاً يسيراً من كثير جداً من كلام أحبارهم الذين عنهم أخذوا كتابهم ودينهم وإليهم يرجعون في نقلهم لتوراتهم وكتب الأنبياء وجميع شرائعهم ليرى كل ذي فهم مقدارهم من الفسق والكذب فيلوح أنهم له كانوا كذابين مستخفين بالدين وبالله تعالى التوفيق.
ولقد كان يكفي من هذا إقرارهم بأنهم عملوا لهم هذه
قال أبو محمد رضي الله عنه : ذكر أحبارهم وهو في كتبهم مشهور لا ينكرونه عند من يعرف كتبهم أن إخوة يوسف إذ باعوا أخاهم طرحوا اللعنة على كل من بلغ إلى أبيهم حياة ابنه يوسف ولذلك لم يخبره الله عز وجل بذلك ولا أحد من الملائكة.
فأعجبوا لجنون أمة تعتقد أن الله خاف أن يقع عليه لعنة قوم باعوا النبي أخاهم وعقوا النبي أباهم أشد العقوق وكذبوا أعظم الكذب فوالله لو لم يكن في كتبهم إلا هذا الكذب وهذا الحمق وهذا الكفر لكانوا به أحمق الأمم وأكفرهم وأكذبهم فكيف ولهم ما قد ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى.
وفي بعض كتبهم أن هارون عليه السلام قال لله تعالى إذ أراد أن يسخط على بني إسرائيل يا رب لا تفعل فلنا عليك ذمام وحق لأن أخي وأنا أقمنا لك مملكة عظيمة
قال أبو محمد رضي الله عنه : وهذه طامة أخرى حاشا لهارون عليه السلام أن يقول هذا الجنون أين هذا الهوس وهذه الرعونة من الحق النير إذ يقول تعالى " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " وفي بعض كتبهم أن الصورتين اللتين أمر الله تعالى موسى أن يصورهما على التابوت خلف الحجلة في السرادق إنما كانتا صورة الله وصورة موسى عليه السلام معه تعالى الله عن كفرهم علواً كبيراً.
وفي بعض كتبهم أن الله تعالى قال لبني إسرائيل من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عيني.
وفي بعض كتبهم أن علة تردد بني إسرائيل مع موسى في التيه أربعين سنة حتى ماتوا كلهم إنما كانت لأن فرعون كان بنى على طريق مصر إلى الشام صنماً سماه باعل صفون وجعله طلسماً لكل من هرب من مصر يحيره ولا يقدر على النفاد.
فأعجبوا لمن يجيز أن يكون طلسم فرعون يغلب الله تعالى ويجيز بتيه موسى ومن معه حتى يموتوا فأين كان فرعون عن هذه القوة إذ غرق في البحر.
وفي بعض كتبهم أن دينة بنت يعقوب عليها السلام إذ غصبها شكيم بن حمور وزنا بها حملت وولدت ابنة وأن عقاباً خطف تلك الفرخة الزنا وحملها إلى مصر ووقعت في حجر يوسف فرباها وتزوجها وهذه تشبه الخرافات التي يتحدث بها النساء بالليل إذا غزلن.
وفي بعض كتبهم أن يعقوب إنما قال في ابنه نفتال ايل مطلق لأنه قطع من قرية إبراهيم عليه السلام التي بقرب بيت المقدس إلى منف التي بمصر ورجع إلى قرية الخليل في ساعة من النهار لشدة سرعة لا لأن الأرض طويت له ومقدار ذلك مسيرة نيف وعشرين يوماً.
وفي بعض كتبهم مما لا يختلفون في صحته أن السحرة يحيون الموتى على الحقيقة وأن ههنا أسماءً لله تعالى ودعاء وكلاماً ومن عرفه من صالح أو فاسق أحال الطبائع وأتى بالمعجزات وأحيى الموتى وإن عجوزاً ساحرة أحيت لشاول الملك وهو طالوت شمؤال النبي بعد موته فليت شعري إذا كان هذا حقاً فما يؤمنهم أن موسى وسائر من يقرون بنبوته كانوا من أهل هذه الصفة ولا سبيل إلى فرق بين شيء من هذا أبداً.
وفي بعض كتبهم أن بعض أحبارهم المعظيمن عندهم ذكر لهم أنه رأى طائراً يطير في الهواء وأنه باض بيضة وقعت على ثلاث عشرة مدينة فهدمتها كلها.
وفي بعض كتبهم أن المرأة المدينة التي ذكر في التوراة التي زنى بها زمري بن خالو من سبط شمعون طعنه فنخاس بن العزار بن هارون برمحه فنفذه ونفذ المرأة تحته ثم رفعهما في رمحه إلى السماء كأنهما طائران في سفود وقال هكذا نفعل بمن عصاك قال كبير من أحبارهم معظم عندهم أنه كان تكسير عجز تلك المرأة مقدار مزرعة مدى خردل وفي كتبهم أن طول لحية فرعون كان سبعماية ذراع وهذه والله مضحكة تسلي الثكالى وترد الأحزان
قال أبو محمد رضي الله عنه : عن مثل هؤلاء فلينقل الدين وتباً لقوم أخذوا كتبهم ودينهم عن مثل هذا الرقيع الكذاب وأشباهه.
وفي بعض كتبهم المعظمة أن جباية سليمان عليه السلام في كل سنة كانت ستمائة ألف قنطار وستة وثلاثين ألف قنطار من ذهب وهم مقرون أنه لم يملك قط إلا فلسطين والأردن والغور فقط وأنه لم يملك قط رفج ولا غزة ولا عسقلان ولا صور ولا صيدا ولا دمشق ولا عمان ولا البلقا ولا مواب ولا جبال الشراة فهذه الجباية التي لو جمع كل الذهب الذي بأيدي الناس لم يبلغها من أين خرجت وقد قلنا أن الأحبار الذين عملوا لهم هذه الخرافات كانوا ثقالاً في الحساب وكان الحياء في وجوههم قليلاً جداً.
وذكورا أنه كان لمائدة سليمان عليه السلام في كل سنة إحدى عشر ألف ثور وخمسمائة ثور وزيادة وستة وثلاثين ألف شاة سوى الإبل والصيد فانظروا ماذا يكفي لحوم من ذكرنا من الخبز وقد ذكروا عدداً مبلغه ستة آلاف مدى في العام لمائدته خاصة واعلموا أن بلاد بني إسرائيل تضيق عن هذه النفقات هذا مع قولهم أنه عليه السلام كان يهدي كل سنة ثلثي هذا العدد من برٍ ومثله من زيت إلى ملك صور فليت شعري لأي شيء كان يهاديه بذلك هل ذلك إلا لأنه كفؤه ونظيره في الملك وهذه كلمات كذبات ورعونة لا خفاء بها وأخبار متناقضة.
وذكروا أنه كانت توضع في قصر سليمان عليه السلام كل يوم مائة مائدة ذهب على كل مائدة مائة صفحة ذهب وثلاثمائة طبق ذهب على كل طبق ثلاثمائة كأس ذهب فأعجبوا لهذه الكذبات الباردة.
واعلموا أن الذي عملها كان ثقيل الذهن في الحساب مقصراً في علم المساحة لأنه لا يمكن أن يكون قطر دائرة الصفحة أقل من شبر وإن لم تكن كذلك فهي صحيفة لا صحفة طعام ملك فوجب ضرورة أن تكون مساحة كل مائدة من تلك الموائد عشرة أشبار في مثلها لا أقل سوى حاشيتها وأرجلها.
واعلموا أن مائدة من ذهب هذه صفتها لا يمكن ألبتة أن يكون في كل مائدة من تلك الموائد أقل من ثلاثة آلاف رطل ذهب فمن يرفعها ومن يضعها ومن يغسلها ومن يمسحها ومن يديرها فهذا الذهب كله وذا الأطباق من أين.
فإن قيل أنتم تصدقون بأن الله تعالى أتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وأن الله سخر له الريح والجن والطير وعلمه منطق الطير والنمل وأن الريح كانت تجري بأمره وأن الجن كانوا يعملون له المحاريب والتماثيل والجفان والقدور.
قلنا نعم ونكفر من لم يؤمن بذلك وبين الأمرين فرق واضح وهو أن الذي ذكرت مما نصدق به نحن هو من المعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء عليهم السلام داخل كله تحت الممكن في بنية العالم والذي ذكروه هو خارج عن هذا الباب داخل في حد الكذب والامتناع في بنية العالم.
وفي بعض كتبهم المعظمة عندهم إن زارح ملك السودان غزا بيت المقدس في ألف ألف مقاتل وأن اسابن ابنا الملك خرج إليه في ثلاثمائة ألف مقاتل من بين يهوذا وخمسين ألف مقاتل من بني بنيامين فهزم السودان.
وهذا كذب فاحش ممتنع لأن من أقرب موضع من بلد السودان وهم النوبة إلى مسقط النيل في البحر نحو مسيرة ثلاثين يوماً.
ومن مسقط النيل إلى بيت المقدس نحو عشرة أيام صحارى ومفاوز ألف ألف مقاتل لا تحملهم إلا البلاد المعمورة الواسعة وأما الصحارى الجرد فلا ثم في مصر جميع أعمال مصر فكيف يخطوها إلى بيت المقدس هذا ممتنع في رتبة الجيوش وسيرة الممالك ومن البعيد أن يكون عند ملك السودان حيث يتسع بلدهم ويكثر عددهم اسم بيت المقدس فكيف أن يتكلفوا غزوها لبعد تلك البلاد عن النوبة وأما بلد النوبة والحبشة والبجاة فصغير الخطة قليل العدد وإنما هي خرافات مكذوبة باردة وفي كتاب لهم يسمى شعر توما من كتاب التلموذ والتلموذ هو معولهم وعمدتهم في فقههم وأحكام دينهم وشريعتهم وهو من أقوال أحبارهم بلا خلاف من أحد منهم ففي الكتاب المذكور أن تكسير جبهة خالقهم من أعلاها إلى أنفه خمسة آلاف ذراع حاش لله من الصور والمساحات والحدود والنهايات.
وفي كتاب آخر من التلموذ يقال له سادرناشيم ومعناه تفسير أحكام الحيض أن في رأس خالقهم تاجا فيه ألف قنطار من ذهب وفي اصبعه خاتم تضيء منه الشمس والكواكب وأن الملك الذي يخدم ذلك التاج اسمه صندلفوت تعالى الله عن هذه الحماقات.
ومما أجمع عليه أحبارهم لعنهم الله أن من شتم الله تعالى وشتم الأنبياء يؤدب ومن شتم الأحبار يموت أي يقتل.
فاعجبوا لهذا واعلموا أنهم ملحدون لا دين لهم يفضلون أنفسهم على الأنبياء عليهم السلام وعلى الله عز وجل ومن الأحبار فعليهم ما يخرج من أسافلهم وفيما سمعنا علماءهم يذكرونه ولا يتناكرونه معنى أن أحبارهم الذين أخذوا عنهم دينهم والتوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام اتفقوا على أن رشوا بولس البنياميني لعنه الله وأمروه بإظهار دين عيسى عليه السلام وأن يضل أتباعهم ويدخلهم إلى القول بالإهيته وقالوا له نحن نتمحل إثمك في هذا ففعل وبلغ من ذلك حيث قد ظهر.
واعلموا يقيناً أن هذا عمل لا يستسهله ذو دين أصلاً ولا يخلو أتباع المسيح عليه السلام عند أولئك الأحبار لعنهم الله من أن يكونوا على حق أو على باطل لابد من أحدهما.
فإن كانوا عندهم على حق فكيف استحلوا ضلال قوم محقين وإخراجهم عن الهدى والدين إلى الضلال المبين هذا والله لا يفعله مؤمن بالله تعالى أصلاً.
وإن كانوا عندهم على ضلال وكفر فحسبهم ذلك منهم وإنما يسعى المؤمن ليهدي الكافر والضال وإما أن يقوي بصيرته في الكفر ويفتح له فيه أبواباً أشد وأفحش مما هو عليه فهذا لا يفعله أيضاً من يؤمن بالله تعالى قطعاً ولا يفعله إلا ملحد يريد يسخر بمن سواه فعن هؤلاء أخذوا دينهم وكتب أنبيائهم بإقرارهم.
فأعجبوا لهذا وهذا أمر لا نبعده عنهم لأنهم قد راموا ذلك فينا وفي ديننا فبعد عليهم بلوغ إربهم من ذلك وذلك بإسلام عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوء اليهودي الحميري لعنه الله ليضل من أمكنه من المسلمين فنهج لطائفة رذلة كانوا يتشيعون في علي رضي الله عنه أن يقولوا بإلهية علي ونهج بولس لاتباع المسيح عليه السلام من أن يقولوا بإلهيته وهم الباطنية والغالية إلى اليوم وأخفهم كفراً الإمامية على جميعهم لعائن الله تترى وأشنع من هذا كله نقلهم الذي لا تمانع بينهم فيه عن كثير من أحبارهم المتقدمين الذين عنهم أخذوا دينهم ونقل توراتهم وكتب الأنبياء بأن رجلاً اسمه إسماعيل كان إثر خراب البيت المقدس سمع الله تعالى يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول الويل لمن أخرب بيته وضعضع ركنه وهدم قصره وموضع سكينته ويلي على ما أخربت من بيتي ويلي على ما فرقت من بني وبناتي فأمتي منكسة حتى أبني بيتي وأردد إليه بني وبناتي.
قال هذا النذل الموسخ ابن الأنذال إسماعيل فأخذ الله تعالى بثيابي وقال لي أسمعتني يا بني يا إسماعيل قلت لا يا رب فقال لي يا بني يا إسماعيل بارك علي قال الجيفة المنتنة فباركت عليه ومضيت
قال أبو محمد رضي الله عنه : لقد هان من بالت عليه الثعالب والله ما في الموجودات أرذل ولا أنتن ممن احتاج إلى بركة هذا الكلب الوضر فأعجبوا لعظيم ما انتظمت هذه القصة عليه من وجوه الكفر الشنيع.
فمنها أخباره عن الله تعالى أن يدعو على نفسه بالويل مرة بعد مرة الويل حقاً على من يصدق بهذه القصة وعلى الملعون الذي أتى بها.
ومنها وصفه الله تعالى بالندامة على ما فعل وما الذي دعاه إلى الندامة أتراه كان عاجزاً هذا عجب آخر وإذا كان نادماً على ذلك فلم تمادى على تبديدهم وإلقاء النجس عليهم حتى يبلغ ذلك إلى إلقاء الحكة في أدبارهم كما نص في آخر توراتهم ما في العالم صفة أحمق من صفة من يتمادى على من يندم عليه هذه الندامة.
ومنها وصفه الله تعالى بالبكاء والأنين.
ومنها وصفه لربه تعالى بأنه لم يدر هل سمعه أم لا حتى سأله عن ذلك ثم أظرف شيء إخباره عن نفسه بأنه أجاب بالكذب وأن الله تعالى قنع بكذبه وجاز عنده ولم يدر أنه كاذب.
ومنها كونه بين الخرب وهي مأوى المجانين من الناس وخساس الحيوان كالثعالب والقطط البرية ونحوهما.
ومنها وصفه الله تعالى بتنكيس القامة.
ومنها طلبه البركة من ذلك المنتن ابن المنتنة والمنتن وبالله الذي لا إله إلا هو ما بلغ قط ملحد ولا مستخف هذه المبالغة الذي بلغها هذا اللعين ومن يعظمه وبالله تعالى نتأيد ولولا ما وصفه الله تعالى من كفرهم وقولهم يد الله مغلولة والله فقير ونحن أغنياء ما انطلق لنا لسان بشيء مما أوردنا ولكن سهل علينا حكاية كفرهم ما ذكره الله تعالى لنا من ذلك ولا أعجب من أخبار هذا الكلب لعنه الله عن نفسه بهذا الخبر فإن اليهود كلهم يعني الربانيين منهم مجمعون على الغضب على الله وعلى تلعيبه وتهوين أمره عز وجل فإنهم يقولون ليلة عيد الكبور وهي العاشرة من تشرين الأول وهي أكتوبر يقوم الميططرون ومعنى هذه اللفظة عندهم الرب الصغير تعالى الله عن كفرهم قال ويقول وهو قائم ينتف شعره ويبكي قليلاً قليلاً ويلي إذ خربت بيتي وأيتمت بني وبناتي فأمتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي وأردد إليه بني وبناتي ويردد هذا الكلام.
واعلموا أنهم أفردوا عشرة أيام من أول أكتوبر يعبدون فيه رباً آخر غير الله عز وجل فحصلوا على الشرك المجرد.
واعلموا أن الرب الصغير الذي أفردوا له الأيام المذكورة يعبدونه فيها من دون الله عز وجل هو عندهم صندلفون الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم وهذا أعظم من شرك النصارى.
ولقد وقفت بعضهم على هذا فقال ليس ميططرون ملك من الملائكة.
فقلت وكيف يقول ذلك الملك ويلي على ما خربت من بيتي وفرقت بني وبناتي وهل فعل هذا إلا الله عز وجل.
فإن قالوا تولى ذلك الملك ذلك الفعل بأمر الله تعالى.
قلنا فمن المحال الممتنع ندامة الملك على ما فعله بأمر الله تعالى هذا كفر من الملك لو فعله فكيف إن يحمد ذلك منه وكل هذا إنما هو تحيل منهم عند صك وجوههم بذلك.
وإلا فهم فيه قسمان.
قسم يقول أنه الله تعالى نفسه فيصغرونه ويحقرونه ويعيبونه.
وقسم يقول أنه رب آخر دون الله تعالى.
واعلموا أن اليهود يقومون في كنائسهم أربعين ليلة متصلة من إيلول وتشرين الأول وهما ستنبر وأكتوبر فيصيحون ويولولون بمصائب.
منها قولهم لأي شيءٍ تسلمنا يا الله هكذا ولنا الدين القيم والأثر الأول لم يا الله تتصمم عنا وأنت تسمع وتعمى وأنت مبصر هذا جزآ من تقدم إلى عبوديتك وبدر إلى الإقرار بك لم يا الله لا تعاقب من يكفر النعم ولا تجازي بالإحسان ثم تبخسنا حظنا وتسلمنا لكل معتد وتقول إن أحكامك عدلة.
فأعجبوا لوغادة هؤلاء الأوباش ولرذللة هؤلاء الأنذال الممتنين على ربهم عز وجل المستخفين به وبملائكته وبرسله وتالله ما بخسهم ربهم حظهم وما حقهم إلا الخزي في الدنيا والخلود في النار في الآخرة وهو تعالى موفيهم نصيبهم غير منقوص واحمدوا الله على عظيم منته علينا بالإسلام الملة الزهراء التي صححتها العقول وبالكتاب المنزل من عنده تعالى بالنور المبين والحقائق الباهرة نسأل الله تثبيتنا على ما منحنا من ذلك بمنه إلى أن نلقاه مؤمنين غير مغضوب علينا ولا ضالين
قال أبو محمد رضي الله عنه : هنا انتهى ما أخرجناه من توراة اليهود وكتبهم من الكذب الظاهر والمناقضات اللائحة التي لا شك معه في أنها كتب مبدلة محرفة مكذوبة وشريعة موضوعة مستعملة من أكابرهم ولم يبق بأيديهم بعد هذا شيء أصلاً ولا بقي في فساد دينهم شبهة بوجه من الوجوه والحمد له رب العالمين.
وإياكم أن يجوز عليكم تمويه من يعارضكم بخرافة أو كذبة فإننا لا نصدق في ديننا بشيء أصلاً إلا ما جاء في القرآن أو ما صح بإسناد الثقات ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى رسول الله ﷺ فقط وما عدا هذا فنحن نشهد أنه باطل واعلموا أننا لم نكتب من فضائحهم إلا قليلاً من كثير ولكن فيما كتبنا كفاية قاطعة في بيان فساد كل ما هم عليه وبالله تعالى التوفيق تم الجزء الأول من فصل الملل ويليه الجزء الثاني
تصنيف:
الفصل في الملل والأهواء والنحل
قائمة التصفح
غير مسجل للدخول
نقاش
مساهمات
إنشاء حساب
دخول
06:24:21
الصفحة
نقاش
اقرأ
عدل
تاريخ
بحث
الرئيسية
تصفح
الميدان
أحدث التغييرات
صفحة عشوائية
مؤلف عشوائي
مساعدة
تبرع
تصفح بدون إنترنت
اتصل بويكي مصدر
أدوات
ماذا يصل هنا
تغييرات ذات علاقة
الصفحات الخاصة
وصلة دائمة
معلومات عن هذه الصفحة
استشهد بهذه الصفحة
طباعة/تصدير
إنشاء كتاب
نسخة للطباعة
Download EPUB
Download MOBI
Download PDF
Other formats
لغات
أضف وصلات
آخر تعديل للصفحة في 23:26، 20 مايو 2018.
النصوص منشورة وفق هذه الرخصة وشروط الاستخدام.
سياسة الخصوصية
حول ويكي مصدر
إخلاء مسؤولية
نسخة للأجهزة المحمولة
مطورون
إحصائيات
بيان تعريف الارتباطات


2
==================
2-
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الثاني
< الفصل في الملل والأهواء والنحلاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
الفصل في الملل والأهواء والنحل
محتويات
1 الجزء الثاني
1.1 ذكر مناقضات الأناجيل الأربعة والكذب الظاهر الموضوع فيها
1.2 ذكر بعض ما في كتبهم غير الأناجيل من الكذب والكفر والهوس
1.3 ذكر فصول يعترض بها جهلة الملحدين على ضعفة المسلمين
1.3.1 مطلب بيان كروية الأرض
1.3.2 مطلب بيان كذب من ادعى المدة الدنيا عدداً معلوماً
1.3.3 القول في المكان والاستواء
1.3.4 الكلام في العلم
1.3.5 الكلام في الحياة
1.3.6 الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم والتنزل والعزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع
1.3.7 الكلام في المائية
1.3.8 مسائل في السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم وما يخبر عنه تعالى بالقدرة عليه وكيف يصح السؤال في ذلك كله
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو محمد وأما الإنجيل وكتب النصارى فنحن إن شاء الله تعالى موردون من الكذب المنصوص في أناجيلهم ومن التناقض الذي فيها أمراً لا يشك كل من رأه في أنهم لا عقول لهم وأنهم مخذولون جملة وأما فساد دينهم فلا إشكال فيه على من له مسكة عقل ولسنا نحتاج إلى تكلف برهان في أن الأناجيل وسائر كتب النصارى ليست من عند الله عز وجل ولا من عند المسيح عليه السلام كما احتجنا إلى ذلك في التوراة والكتب المنسوبة إلى الأنبياء عليهم السلام التي عند اليهود لأن جمهور اليهود يزعمون أن التوراة التي بأيديهم منزلة من عند الله عز وجل على موسى عليه السلام فاحتجنا إلى إقامة البرهان على بطلان دعواهم في ذلك وأما النصارى فقد كفونا هذه المؤنة كلها لأنهم لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله على المسيح ولا أن المسيح أتاهم بها بل كلهم أولهم عن آخرهم ريوسيهم ومليكهم ونسطوريهم ويعقوبهم ومارونيهم وبولقانيهم لا يختلفون من أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال معروفون في أزمان مختلفة فأولها تاريخ ألفه متى اللاواني تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح عليه السلام وكتبه بالعبرانية في بلد يهوذا بالشام يكون نحو ثمان وعشرين ورقة بخط متوسط والآخر تاريخ ألفه مارقش الهاروني تلميذ شمعون الصفا بن توما المسمى باطرة بعد اثنين وعشرين عاماً من رفع المسيح عليه السلام وكتبه باليونانية في بلد أنطاكية من بلاد الروم ويقولون أن شمعون المذكور هو ألفه ثم محى اسمه من أوله ونسبه إلى تلميذه مارقش يكون أربعاً وعشرين ورقة بخط متوسط وشمعون المذكور تلميذ المسيح. والثالث تاريخ ألفه لوقا الطبيب الأنطاكي تلميذ شمعون باطرة أيضاً كتبه باليونانية في بلد أقاية بعد تأليف مارقش المذكور يكون من قدر إنجيل متى. والرابع تاريخ ألفه يوحنا ابن سيذاي من تلميذ المسيح بعد رفع المسيح ببضع وستين سنة وكتبه باليونانية في بلد اشينية يكون أربعاً وعشرين ورقة بخط متوسط ويوحنا هذا نفسه هو ترجم إنجيل متى صاحبه من العبرانية إلى اليونانية ثم ليس للنصارى كتاب قديم يعظمونه بعد الأناجيل الأربعة إلا الافركسيس وهو كتاب ألفه لوقا الطبيب المذكور في أخبار الحواريين وأخبار صاحبه بولس البنياميني وسيرهم وقتلهم يكون نحو خمسين ورقة بخط مجموعة وكتاب الوحي والإعلان ألفه يوحنا ابن سيذاي المذكورو هو كتاب في غاية السخف والركاكة ذكر فيه ما رآه في الأحلام وإذ أسري به وخرافات باردة والرسائل القانونية وهي سبع رسائل فقط منها ثلاث رسائل ليوحنا ابن سيذاي المذكور ورسالتان لباطرة شمعون المذكور ورسالة واحدة ليعقوب ابن يوسف النجار والأخرى لأخيه يهوذا ابن يوسف تكون كل رسالة من ورقة إلى ورقتين في غاية البرد والغثاثة ورسائل بولس تلميذ شمعون باطرة وهي خمس عشرة رسالة تكون كلها نحو أربعين ورقة مملوءة حمقاً ورعونة وكفراً ثم كل كتاب لهم بعد ذلك فلا خلاف بينهم في أنه تأليف المتأخرين من أساقفتهم وبطارقتهم كمجامع البطارقة والأساقفة الكبار الستة وسائر مجامعهم الصغار وفقههم في أحكامهم الذي عمله ركديد الملك وبه يعمل نصارى الأندلس ثم لسائر النصارى أحكام أيضاً عملها لهم من شاء الله أن يعملها من أساقفتهم لا يختلفون في هذا كله أنه كما قلنا ثم أخبار شهدائهم فقط فجميع نقل النصارى أوله عن آخره حيث كانوا فهو راجع إلى الثلاثة الذي سمينا فقط وهم بولس ومارقش ولوقا وهؤلاء الثلاثة لا ينقلون إلا عن خمسة فقط وهم باطرة ومتى ويوحنا ويعقوب ويهوذا ولا مزيد وكل هؤلاء فأكذب البرية وأخبثهم على ما نبين بعد ذلك إن شاء الله تعالى على أن بولس حكى في الافركسيس وفي إحدى رسائله أنه لم يبق مع باطرة إلا خمسة عشر يوماً ثم لقيه مرة أخرى بقي معه أيضاً يسيراً ثم لقيه الثالثة فأخذا جميعاً وصلبا إلى لعنة الله إلا أن الأناجيل الأربعة والكتب التي ذكرنا أن عليها معتمدهم فإنها عند جميع فرق النصارى في شرق الأرض وغربها على نسخة واحدة ورتبة واحدة لا يمكن أحد أن يزيد فيها كلمة واحدة ولا ينقص منها أخرى إلا افتضح عند جميع النصارى مبلغة كما هي إلى مارقش ولوقا ويوحنا لأن يوحنا هو الذي نقل إنجيل متى عن متى ورسائل بولس مبلغة كذلك إلى بولس واعلموا أن أمر النصارى أضعف من أمر اليهود بكثير لأن اليهود كانت لهم مملكة وجمع عظيم مع موسى عليه السلام وبعده وكان فيهم أنبياء كثير ظاهرون آمرون مطاعون كموسى ويوشع وشموال وداود وسليمان عليهم السلام وإنما دخلت الداخلة في التوراة بعد سليمان عليه السلام إذ ظهر فيهم الكفر وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء وحرق التوراة ونهب البيت مرة بعد مرة فاتصل كفر جميعهم إلى أن تلفت دولتهم على ذلك وأما النصارى فلا خلاف بين أحد منهم ولا من غيرهم في أنه لم يؤمن بالمسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلاً فقط هكذا في الافركسيس ونسوة منهم امرأة وكيل هردوس وغيرها كن ينفقن عليه أموالهن هكذا في نص إنجيلهم وإن كل من آمن به فإنهم كانوا مستترين مخافين في حياته وبعده يدعون إلى دينه سراً ولا يكشف أحد منهم وجهه إلى الدعاء إلى ملته ولا يظهر دينه وكل من ظفر به منهم قتل إما بالحجارة كما قتل يعقوب ابن يوسف النجار واشطيبن الذي يسمونه بكر الشهداء وغيره وإما صلب كما صلب باطرة وأندرياس أخوه وشمعون أخو يوسف النجار وفليش وبولس وغيرهما أو قتلوا بالسيف كما قتل يعقوب أخو يوحنا وطومار وبرتلوما ويهوذا بن يوسف النجار ومتى أو بالسم كما قتل يوحنا ابن سيذاي فبقوا على هذه الحالة لا يظهرون البتة ولا لهم مكان يأمنون فيه مدة ثلاثماية سنة بعد رفع المسيح عليه السلام وفي خلال ذلك ذهب الإنجيل المنزل من عند الله عز وجل إلا فصولاً يسيراً أبقاها الله تعالى حجة عليهم وخزياً لهم فكانوا كما ذكرنا إلى أن تنصر قسطنطين الملك فمن حينئذ ظهر النصارى وكشفوا دينهم واجتمعوا وكان سبب تنصره أن أمه هلاني كانت بنت نصراني فعشقها أبوه وتزوجها فولدت له قسطنطين فربته على النصرانية سراً فلما مات أبوه وولي هو أظهر النصرانية بعد أعوام كثيرة من ولايته ومع ذلك فما قدر على إظهارها حتى رحل عن رومية مسيرة شهراً إلى القسطنطينية وبناها ومع ذلك فإنما كان أريوسياً هو وابنه بعده يقولان إن المسيح عبد مخلوق نبي لله تعالى فقط وكل دين كان هكذا فمحال أن يصح فيه نقل متصل لكثرة الدواخل الواقعة فيما لا يؤخذ إلا سراً تحت السيف لا يقدر أهله على حمايته ولا على المنع من تبديله ثم لما ظهر دينهم تنصر قسطنطين كما ذكرنا فشا فيهم دخول المنانية بغتة وكان فيهم غير منانية مدلسون عليهم فأمكنهم بهذا أن يدخلوهم من الضلال فيما أحبوا ولا تمكنوا البتة أن ينقل أحد عن شمعون باطرة ولا عن يوحنا ولا عن متى ولا عن مارقش ولا عن لوقا ولا عن بولس آية ظاهرة ولا معجزة باهرة لما ذكرنا من أنهم كانوا مستترين مختفين مظاهرين بدين اليهود من التزام السبت وغيره طول حياتهم إلى أن ظفر بهم فقتلوا فكلما تضيفه النصارى إلى هؤلاء من المعجزات فأكذوبات موضوعة لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد كالذي تدعي اليهود لأحبارهم ورؤس مثانيهم وكالذي تدعيه المنانية لماني سواء بسواء وكالذي تدعيه الروافض لمن يعظمون وكالذي تدعيه طوائف من المسلمين لقوم صالحين كإبراهيم ابن أدهم وأبي مسلم الخولاني وشيبان الراعي وغيرهم وكل هذا كذب وإفك وتوليد لأن كل من ذكرنا فإنما نقله راجع إلى من لا يدري ولا يقوم بكلامه حجة ولا صح برهان سمعي ولا عقلي بصدقه وهكذا كان أصحاب ماني مع ماني إلا أنه ظهر نحو ثلاثة أشهر إذ مكر به بهرام بن بهرام الملك وأوهمه أنه قد آمن به حتى ظفر بجميع أصحابه فصلب ماني وصلبهم كلهم إلى لعنة الله فكل معجزة لم تنقل نقلاً يوجب العلم الضروري كافة عن كافة حتى يبلغ إلى المشاهدة فالحجة لا يقوم بها على أحد ولا يعجز عن توليدها من لا يقوم له.
قال أبو محمد معتمد النصارى كله الذي لا معتمد لهم غيره من قولهم بالتثليث وأن المسيح إله وابن الله واتحاد اللاهوتية بالناسوتية والتحامه به إنما هو كله على أناجيلهم وعلى ألفاظ تعلقوا بها مما في كتب اليهود كالزبور وكتاب أشعيا وكتاب أرميا وكلمات يسيرة من التوراة وكتاب سليمان وكتاب زخريا قد نازعتهم اليهود في تأويلها فحصلت دعوى مقابلة لدعوى وما كان فهو باطل وموهوا بأن التوراة وكتب الأنبياء بأيديهم وبأيدي اليهود سواء لا يختلفون فيها ليصححوا نقل اليهود لسواد تلك الكتب ثم يجعلوا تلك الألفاظ التي فيها الحجة في دعواهم وتأويلهم ليس بأيديهم حجة غير هذا أصلاً ولا جملة سوى هذه وقد أوضحنا بحول الله تعالى وقوته فساد أعيان تلك الكتب وأوضحنا أنها مفتعلة مبدلة لكثرة ما فيها من الكذب وأوضحنا أيضاً فساد نقلها وانقطاع الطريق منهم إلى من نسب إليه تلك الكتب بما لا يمكن أحداً دفعه البتة بوجه من الوجوه وبينا آنفاً بحول الله تعالى وقوته فساد نقل النصارى جملة وإقرارهم بأن أناجيلهم ليست منزلة ولكنها كتب مؤلفة لرجال ألفوها فبطل كل تعلق لهم والحمد لله رب العالمين ثم نورد إنشاء الله تعالى تكذيبهم في دعواهم أن التوراة عند اليهود وعندهم سواء ونورد ما يخالفون فيه نص التوراة التي بأيدي اليهود حتى يلوح لكل أحد كذب دعواهم الظاهرة من تصديقهم لنصوص التوراة التي عند اليهود ونرى تكذيبهم لنصوصها فيبطل بذلك تعلقهم بما فيها وبما في نقل اليهود إذ لا يصح لأحد الاحتجاج بتصحيح ما يكذب ثم نذكر بعون الله عز وجل مناقضات الأناجيل والكذب الفاحش المفضوح الموجود في جميعها وبالله تعالى التوفيق فيرتفع الإشكال في ذلك جملة ويستوي في معرفة بطلان كل ما بأيدي الطائفتين كل من اغتر بكتمانهم لما فضحناه منا ومنهم من الخاصة والعامة ومن سائر الملل أيضاً ويصح عند كل من طالع كلامنا هذا أن الذين كتبوا الأناجيل وألفوها كانوا كذابين مجاهرين بالكذب لتكاذبهم فيما أوردوه فيها من الأخبار وأنهم كانوا مستخفين مهلكين لمن اغتر بهم والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته علينا بالإسلام السالم من كل غش البري من كل توليد الوارد من عند الله عز وجل لا من عند أحد دونه ذكر ما تثبته النصارى بخلاف نص التوراة وتكذيبهم لنصوصها التي بأيدي اليهود وادعاء بعض علماء النصارى أنهم اعتمدوا في ذلك على التوراة التي ترجمها السبعون شيخاً لبطليموس لا على كتب عزراء الوراق واليهود مؤمنون بكلتي النسختين والخلاف عند النصارى موجود فيها قال أبو محمد في توراة اليهود التي لا اختلاف فيها بين الربانية والعانانية والعيسوية منهم لما عاش آدم ثلاثين سنة ومائة سنة ولد له ولد كشبهه وجنسه وسماه شيث وعند النصارى بلا اختلاف بين أحد منهم ولا من جميع فرقهم لما أتى على آدم مائتان وثلاثون سنة ولد له شيث وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا لما عاش شيث خمس سنين ومائة سنة ولد أنيوش وعند النصارى كلهم لما عاش شيث مايتي سنة وخمس سنين ولد أنيوش وفي التوراة عند التي اليهود كما ذكرنا أن أنيوش لما عاش تسعين سنة ولد قينان وعند النصارى كلهم أن أنيوش لما عاش تسعين سنة وماية سنة ولد قينان وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا أن قينان لما عاش سبعين سنة ولد مهلال وعند النصارى كلهم أن قينان لما عاش ماية سنة وسبعين سلنة ولد مهلال وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا أن مهلال لما بلغ خمساً وستين سنة ولد يارد وعند النصارى كلهم أن مهلال لما بلغ مائة سنة وخمساً وستين سنة ولد يارد واتفقت الطائفتان في عمر يارد إذ ولد له خنوخ وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا أن خنوخ لما بلغ خمساً وستين سنة ولد متوشالخ وأن جميع عمر خنوخ كان ثلاثمائة سنة وخمساً وستين سنة وعند النصارى كلهم أن خنوخ لما بلغ مائة سنة وخمساً وستين سنة ولد متوشالخ وأن جميع عمر خنوخ كان خمس مائة سنة وخمساً وستين سنة ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين أحدهما سن خنوخ إذ ولد له متوشالخ والثانية كمية عمر خنوخ واتفقت الطائفتان على عمر متوشالخ إذ ولد له لامخ وعلى عمر لامخ إذ ولد له نوح وعلى عمر نوح إذ ولد له سام وحام ويافث وعلى عمر سام إذ ولد له أرفخشاذ وفي التوراة التي عند اليهود كما ذكرنا أن أرفخشاذ لما بلغ خمساً وثلاثين سنة ولد له شالخ وأن عمر أرفخشاذ كان أربعمائة سنة وخمساً وثلاثين سنة وعند النصارى كلهم أن أرفخشاذ لما بلغ مائة سنة وخمساً وثلاثين سنة ولد له قينان وأن عمر أرفخشاذ كان أربعمائة سنة وخمساً وستين سنة وأن قينان لما بلغ مائة سنة وثلاثين سنة ولد له شالخ فبين الطائفتين في هذا الفصل وحده اختلاف في ثلاثة مواضع أحدهما عمر أرفخشاذ جملة والثاني سن أرفخشاذ إذ ولد له ولده والثالث زيادة النصارى بين أرفخشاذ وشالخ قينان وإسقاط اليهود له وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن شالخ لما بلغ ثلاثين سنة ولد له عابر وأن عمر شالخ كان أربعمائة سنة وثلاثين سنة وعند النصارى كلهم أن شالخ لما بلغ مائة وثلاثين سنة ولد له عابر وأن عمر شالخ كله كان أربعمائة سنة وستين سنة ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين أحدهما سن شالخ إذ ولد له عابر والثاني كمية عمر شالخ وعند اليهود كما ذكرنا في التوراة أن فالغ إذ بلغ ثلاثين سنة ولد له راغوا وعند النصارى كلهم أن فالغ لما بلغ مائة وثلاثين سنة ولد له راغوا وفي توراة اليهود كما ذكرنا أن راغوا لما بلغ اثنين وثلاثين سنة ولد له شاروع وعند النصارى كلهم أن راغوا لما بلغ مائة سنة واثنين وثلاثين سنة ولد له شاروع وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن شاروع إذ بلغ ثلاثين سنة ولد له ناحور وكان عمر شاروع كله مائتي عام وثلاثين عاماً وعند النصارى كلهم أن شاروع إذ بلغ ثلاثين سنة ومائة سنة ولد له ناحور وأن عمر شاروع كله كان ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة ففي هذا الفصل بين الطائفتين تكاذب في موضعين أحدهما عمر شاروع جملة والثاني سن شاروع إذ ولد له ناحور وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن ناحور لما بلغ تسعاً وعشرين سنة ولد له تارخ وأن عمر ناحور كله كان مائة سنة وثمانياً وأربعين سنة وعند النصارى كلهم أن ناحور لما بلغ تسعاً وسبعين سنة ولد له تارخ وأن عمر ناحور كله كان مائتي عام وثمانية أعوام ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين أحدهما عمر ناحور كله والثاني سن ناحور إذ ولد له تارخ وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن تارخ كان عمره كله مائتي عام وخمسة أعوام وعند النصارى كلهم أن تارخ كان عمره كله مائتي عام وثمانية أعوام قال أبو محمد فتولد من الاختلاف المذكور بين الطائفتين زيادة عن ألف عام وثلاثمائة عام وخمسين عاماً عند النصارى في تاريخ الدنيا على ما هو عند اليهود في تاريخها وهي تسعة عشر موضعاً كما أوردنا فوضح اختلاف التوراة عندهم ومثل هذا من التكاذب لا يجوز أن يكون من عند الله عز وجل أصلاً ولا من قول نبي البتة ولا من قول صادق عالم من عرض الناس فبطل بهذا بلا شك أن تكون التوراة وتلك الكتب منقولة نقلاً يوجب صحة العلم لكن نقلاً فاسداً مدخولاً مضطرباً ولابد للنصارى ضرورة من أحد خمسة أوجه لا مخرج لهم عن أحدها إما أن يصدقوا نقل اليهود للتوراة وأنها صحيحة عن موسى عن الله تعالى ولكتبهم وهذه طريقتهم في الحجاج والمناظرة فإن فعلوا فقد أقروا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلهم عنهم دينهم بالكذب إذ خالفوا قول الله تعالى وقول موسى عليه السلام أو يكذبوا موسى عليه السلام فيما نقل عن الله عز وجل وهم لا يفعلون هذا أو يكذبوا نقل اليهود للتوراة ولكتبهم فيبطل تعلقهم بما في تلك الكتب مما يقولون أنه إنذار بالمسيح عليه السلام إذ لا يجوز لأحد أن يحتج بما لا يصح نقله أو يقولوا كما قال بعضهم إنهم إنما عولوا فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخاً الذين ترجموا التوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام لبطليموس فإن قالوا هذا فإنهم لا يخلون ضرورة من أحد وجهين إما أن يكونوا صادقين في ذلك أو يكونوا كاذبين في ذلك فإن كانوا كاذبين في ذلك فقد سقط أمرهم والحمد لله رب العالمين إذ لم يرجعوا إلا إلى المجاهرة بالكذب وإن كانوا صادقين في ذلك فقد حصلت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان توراة السبعين شيخاً وتوراة عزراء ومن الباطل الممتنع كونهما جميعاً حقاً من عند الله واليهود والنصارى كلهم مصدق مؤمن بهاتين التوراتين معاً سوى توراة السامرية ولابد ضرورة من أن تكون إحداهما حقاً والأخرى مكذوبة فأيهما كانت المكذوبة فقد حصلت الطائفتان على الإيمان بالباطل ضرورة ولا خير في أمة تؤمن بيقين الباطل وإن كانت توراة السبعين شيخاً هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ سوء كذابين ملعونين إذ حرفوا كلام الله تعالى وبدلوه ومن هذه صفته فلا يحل أخذ الدين عنه ولا قبول نقله وإن كانت توراة عزراء هي المكذوبة فقد كان كذاباً إذ حرف كلام الله تعالى ولا يحل أخذ شيء من الدين عن كذاب ولابد من أحد الأمرين أو يكون كلاهما كذباً وهذا هو الحق اليقين الذي لا شك فيه لما قدمنا مما فيها من الكذب الفاضح الموجب للقطع بأنها مبدلة محرفة وسقطت الطائفتان معاً وبطل دينهم الذي إنما مرجعه إلى تلك الكتب المكذوبة ونعوذ قال أبو محمد فتأملوا هذا الفصل وحده ففيه كفاية في تيقن بطلان دين الطائفتين فكيف بسائر ما أوردنا إذا استضاف إليه وفي التوراة عند اليهود وعند النصارى اختلاف آخر اكتفينا منه بهذا القدر والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته علينا بالإسلام المنقول نقل الكواف إلى رسول الله المعصوم ﷺ البريء من كل كذب ومن كل محال الذي تشهد له العقول بالصحة والحمد لله رب العالمين
ذكر مناقضات الأناجيل الأربعة والكذب الظاهر الموضوع فيها
قال أبو محمد أول ذلك مبدأ الخلق مبدأ إنجيل متى اللاواني الذي هو أول الأناجيل بالتأليف والرتبة مصحف نسبة يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم وإبراهيم ولد إسحق وإسحق ولد يعقوب ويعقوب ولد يهوذا وإخوته ويهوذا ولد من ثامان فارض وتارخ ثم إن فارض ولد حضروم وحضروم ولد آرام وآرام ولد عمينا ذاب وعمينا ذاب ولد بخشون الخارج من مصر أخو زوجة هارون وبخشون ولد أشلومون وأشلومون ولد له من راحاب بوعز وبوعز ولد له من روث عوبيذ وعوبيذ ولد له ايشاي وايشاي ولد له داود الملك وولد داود الملك أشلومون وأشلومون ولد رجيعام ورجيعام ولد البيوت والبيوت ولد أشا وأشا ولد يهوشافاظ ويهوشافاظ ولد يهورام ويهورام ولد أحزياهو وأحزياهو ولد يوثام ويوثام ولد أحاز وأحاز ولد أحزيا وأحزيا ولد منشا ومنشا ولد أمون وأمون ولد يوشياهو ويوشياهو ولد نحنيا وإخوته وقت الرحلة إلى بابل وبعد ذلك ولد لنحنيا صلتيايل وصلتيايل ولد روباييل وروباييل ولد أبيوث وأبيوث ولد ألياحيم وألياحيم ولد أزور وأزور ولد صدوق وصدوق ولد أحيم وأحيم ولد أليوث وأليوث ولد العزار والعزار ولد مثان ومثان ولد يعقوب ويعقوب ولد يوسف خطيب مريم التي ولدت يسوع الذي يدعى مسيحاً فصار من إبراهيم إلى داود أربعة عشر أباً ومن داود إلى وقت الرحلة أربعة عشر أباً ومن وقت الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أباً فجميع المواليد من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولوداً قال أبو محمد رضي الله عنه ففي هذا الفصل خلاف لما في التوراة وكتب اليهود التي هي عندهم في النقل كالتوراة وهما كتاب ملاخيم وكتاب وبراهياميم فقال هاهنا تارخ بن يهوذا وفي التوراة زارح بن يهوذا وهذا اختلاف في الاسم وكذب من أحد الخبرين والأنبياء لا يكذبون وقال ههنا أحزيا هو بن هورام وفي كتب اليهود أحزيا بن يورام وهذا اختلاف في الأسماء ووحي الله تعالى لا يحتمل هذا فأحد النقلين كاذب بلا شك وقال ههنا يوثام بن أحزيا هو وفي كتب اليهود المذكورة يوثام ابن عزريا بن أمصيا بن أش بن أحزيا فأسقط ثلاثة آباء مما في كتب اليهود وهذا عظيم جداً فإن صدقوا كتب اليهود وهم مصدقون بها فقد كذب متى وجهل وإن صدقوا متى فإن كتب اليهود كاذبة لابد من أحد ذلك فقد حصلوا على التصديق بالشيء وضده معاً وقال ههنا أحزياهو بن أحاز بن يوثام وفي كتب اليهود المذكورة حزقيا بن أحاز بن يوثام وهذا اختلاف في الاسم والوحي لا يحتمل هذا فأحد النقلين كاذب بلا شك وقال هاهنا نحليا بن يوشياهو بن أمون وفي كتب اليهود التي ذكرنا نحنيا بن الياقيم بن موشيا بن أموز فأسقط متى الياقيم وخالف في اسم يوشيا بن أمون وهذا عظيم وكما قدمنا من كذبهم ولابد إذ يصدقون بالشيء والضد له معاً وهم لا يختلفون في أن متى رسول معصوم أجل عند الله من موسى ومن سائر الأنبياء كلهم وهو قد قال في أول كلمة من إنجيله مصحف نسبة المسيح بن داود بن إبراهيم ثم لم يأت إلا بنسب يوسف النجار زوج مريم الذي عندهم هو ربيب إلههم زوج أمه فكيف يقول أنه يذكر نسبة المسيح ثم يأتي بنسبة يوسف النجار والمسيح عند هذا التيس البوال ليس هو ولد يوسف أصلاً فقد كذب هذا القذر كذباً لا خفاء به ولا مدخل للمسيح في هذا النسب أصلاً بوجه من الوجوه إلا أن يجعلوه ولد يوسف النجار وهم لا يقولون هذا ولا نحن ولا جمهور اليهود أما هم فيقولون أنه ابن الله من مريم وأنه إله وابن إله وامرأة تعالى الله عن هذا وأما نحن فنقول والعيسوية من اليهود معنا والأريوسية والبولقانية والمقدونية من النصارى أنه عبد آدمي خلقه الله تعالى في بطن مريم عليها السلام من غير ذكر وأما جمهور اليهود لعنهم الله فيقولون أنه لغير رشدة حاشى لله من ذلك بل إن طائفة قليلة من اليهود يقولون أنه ابن يوسف النجار وما نرى متى إلا شاهداً لقولهم ومحققاً له وإلا فكيف يبدأ بأنه يذكر نسب المسيح إلى داود ثم لا يذكر إلا يوسف النجار إلى داود ولو أنه ذكر نسب أمه مريم لكان لقوله مخرج ظاهر لكنه لم يذكر نسب مريم أصلاً ثم لم يستحي النذل من أن يحقق ما ابتدأ به فبعد أن أتم نسب يوسف النجار قال من الرحلة إلى المسيح أربعة عشر اباً فجميع المواليد من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولوداً فأكد هذا الملعون كذبه وأن المسيح ولد يوسف ولابد ضرورة من أحدهما وإلا فكيف يكون من الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أباً والمسيح ليس هو ابناً لأحدهم ولا هم آباء له فكيف يكون من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولوداً ولا مدخل للمسيح في تلك الولادات إلا كمدخله في ولادات أهل الصين وأهل الهند وأهل طلعة وسقر وسقرال ولا فرق.
هذه فضائح الدهر وما لا يأتي به إلا أنجس البرية ونعوذ بالله من الخذلان ثم كذب آخر وجهل زايد وهما قوله فبين إبراهيم إلى داود أربعة عشر أباً قال أبو محمد رضي الله عنه هذا كذب إنما هم على ما ذكر ثلاثة عشر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويهوذا وزارح وحضروم وآرام وعمينا ذاب وبخشون وأشلومون وبوعز وعوبيذ وايشاي فهؤلاء ثلاثة عشر اباً ثم داود ولا يجوز البتة أن يعد داود في آباء نفسه فيجعل أباً لنفسه فهذه ملحنة ثم قال ومن داود إلى الرحلة أربعة عشر اباً وليس كذلك لأن نحنيا هو الراحل بنص قول متى وأنه لم يولد له على قول صلتيايل إلا بعد الرحلة فهم أشلومون ورجيعام وأبيوث وأشا ويهوشافاظ ويهورام وأحزياهو ويوثام وأحاز وأحزياهو وميشا وأمون وبوشاهو ونحنيا وقد عد داود قبل فإن عده ههنا فقد حققوا الكذب في الفصل الذي قبله وإن عده هناك فقد كذبوا في العدد الثاني أو جعلوا نحنيا أباً لنفسه وهذا هوس ثم قال ومن الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أباً وهذا فصل جمع كذبتين عظيمتين أحدهما أنه إذا عد صلتيايل ثم من بعده إلى يوسف النجار فليسوا إلا اثني عشر رجلاً فقط وهم صلتيايل ووروباييل وأبيوث والياخيم وأزور وصدوق وأجيم وأليوث والعازر وماثان ويعقوب ويوسف فإن عد فيهم نحنيا كانوا ثلاثة عشر وهو يقول أربعة عشر فاعجبوا لهذا الحمق وهذا الضلال واعجبوا لرعونة من جاز هذا عليه واعتقده ديناً ثم إن كان عنى أنهم آباء المسيح فيوسف والد المسيح وكفي بهذا عندهم كفراً فقد كفر متى أو كذب وجهل لابد من أ د ذلك ثم قوله فمن إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولوداً فهذا كذب فاحش وجهل مفرط لأنه إذا عد إبراهيم ومن بعده إلى يوسف وعد يوسف أيضاً فإنما هم أربعون فقط فإن عد المسيح وجعله ولد يوسف لم يكونوا أيضاً إلا واحد وأربعين فقط فاعجبوا ممن يدين لله تعالى بهذا الحمق واحمدوه على السلامة هذا إلى الكذب المفضوح الذي في نسب داود عليه السلام إلى بخشون بن عمينا ذاب لأن بخشون بنص توراتهم هو الخارج من مصر وهو مقدم بني يهوذا ولم يدخل بنص التوراة أرض القدس لأن كل من خرج من مصر ابن عشرين سنة فصاعداً ماتوا كلهم في التيه بنص التوراة فإذا عدت الولادات من أشلومون ابن بخشون الذي دخل أرض المقدس إلى داود عليه السلام وجدوا أربعة فقط وهم داود بن أشاي ابن عوبيذ بن بوعر بن أشلمون الداخل مصر المذكور ولا يختلفون يعني اليهود والنصارى معاً من أن دخول أشلمون المذكور مع يوشع وبني إسرائيل الأرض المقدسة إلى مولد داود عليه السلام خمسمائة سنة وثلاثاً وسبعين سنة فيجب على هذا أن يقول أن أشلومون لم يدخل الأرض المقدسة إلا وهو أقل من سنة وأنه لم يولد لكل واحد منهم ولده المذكور إلا وله مائة سنة ونيف وأربعون سنة وكتبهم تشهد ككتاب ملاخيم وبراهياميم وغيرهما وتقطع أنه لم يعش أحد من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام مائة سنة وثلاثين سنة إلا يهوراع الكوهن الهاروني وحده فكم هذا الكذب وهذا الافتضاح فيه وهذه الشهرة العظيمة لا ينفكون من كذبة إلا إلى أخرى ومن سوأة إلا إلى سوأةٍ ونعوذ بالله من البلاء فاعجبوا لما افتتح به هذا الكذاب وأحسن ما في خالد وجهه فقس على الغائب بالشاهد ثم ذكر لوقا الطبيب في الباب الثالث منه نسب المسيح عليه السلام فقال أنه كان يظن أنه ابن يوسف النجار المنسوب إلى علي إلى ماثان إلى لاوي إلى ملكي إلى يمتاع إلى يوسف إلى متاتيا إلى حاموص إلى ماحوم إلى أشلا إلى أنحا إلى فاهاث إلى منيشا إلى صمغي إلى مصداق إلى يهندع إلى يوحنا إلى رشا إلى روباييل إلى صلتيايل إلى بادي إلى ملكي إلى مر إلى أريع إلى قرصام إلى اليران إلى هار إلى يشوع إلى لونا إلى الياخيم إلى ملكا اياز إلى يمتاع إلى متاتا إلى ناثان إلى داود النبي ﷺ ثم ذكر نسب داود كما ذكره متى حرفاً حرفاً قال أبو محمد رضي الله عنه فاعجبوا لهذه المصيبة الحالة بهم ما أفحشها وأوحشها وأقذرها وأوضرها وأرذلها وأنذلها متى الكذاب ينسب المسيح إلى يوسف النجار ثم ينسب يوسف إلى الملوك من ولد سليمان بن داود عليهما السلام أباً فأباً ولوقا ينسب يوسف النجار إلى آباء غير الذي ذكر متى حتى يخرجه إلى ناتان بن داود أخي سليمان بن داود ولابد ضرورة من أن يكون أحد النسبين كذباً فيكذب متى أو لوقا أو لابد أن يكون كلا النسبين كذباً فيكذب الملعونان جميعاً ولا يمكن البتة أن يكون كلا النسبتين حقاً ولوقا عندهم لوق الله صورهم والاق وجوههم ولقاهم البلاء وألقى عليهم الدمار واللعنة في الجلالة فوق جميع الأنبياء عليهم السلام فهذه صفة أناجيلهم فاحمدوا الله تعالى أيها المؤمنون على السلامة والعصمة وقال بعض أكابر من سلف منهم من مضليهم أن أحد هذين النسبين هو نسب الولادة والنسب الآخر نسب إلى إنسان تبناه على ما قد كان في قديم زمن بني إسرائيل من أن من مات ولا ولد له وتزوج آخر امرأته نسب إلى الميت من ولدت من هذا الحي فقلنا لمنا عارضنا منهم بهذا الهوس من لك بهذا وأين وجدته للوقا أو لمتى والدعوى لا يعجز عنها أحد وهي باطلة إلا أن يعضدها برهان وبعد هذا فأي النسبين هو نسب الولادة وأيهما هو نسب الإضافة لا الحقيقة فأيهما قال قلب عليه قوله وقيل له هذه دعوى بلا برهان فإن قال أن لوقا لم يقل أن فلاناً ولد فلاناً كما قاله متى لكن قال المنسوب إلى علي قلنا وهكذا قال في آباء علي أباً فأباً إلى داود ثم إلى إبراهيم ثم إلى نوح ثم إلى آدم سواءً بسواءٍ في اسم بعد اسم وفي أب بعد أب ولا فرق افترى نسب داود إلى إبراهيم وإبراهيم إلى نوح ونوح إلى آدم كان أيضاً على الإضافة لا على الحقيقة كما قلت في نسب يوسف إلى علي هذا عجب فإذ لا سبيل إلى تصحيح هذه الدعوى فهي كذب ووضح الكذب في أحد النسبين ضرورة عياناً والحمد لله رب العالمين.
فصل وفي الباب الثالث من إنجيل متى فلحق يسوع يعني المسيح بالمفاز وساقه الروح إلى هنالك ولبث فيه ليقيس إبليس نفسه فيه فلما أن مضى أربعين يوماً بلياليها جاع فوقف إليه الجساس وقال له إن كنت ولد الله فأمر هذه الجنادل تصير لك خبزاً فقال يسوع قد صار مكتوباً بأن عيش المرء ليس بالخبز وحده ولكن في كل كلمة تخرج من فم الله تعالى وبعد هذا أقبل إبليس في المدينة المقدسة وهو واقف في أعلى بنيانها وقال له إن كنت ولد الله فترام من فوق فإنه قد صار مكتوباً بأنه سبيعث ملائكة يرفدونك ويدفعون عنك حتى لا يصيب قدمك مكروه فأجابه يسوع وقال له قد صار مكتوباً أيضاً أن لا يقيس أحد العبيد إلهه ثم عاد إليه إبليس وهو في أعلى جبل منيف فأظهر له زينة جميع الدنيا وشرفها وقال له إني سأملكك كل ما ترى إن سجدت لي فقال له يسوع اذهب يا منافق مقهقراً فقد كتب أن لا يعبد أحد غير السيد إلهه ولا يخدم سواه فتأيس عنه إبليس عند ذلك وتنحى عنه وأقبلت الملائكة وتولت خدمته. وفي الباب الرابع من إنجيل لوقا فانصرف يسوع من الأردن محشواً من روح القدس وقاده الروح إلى القفار ومكث فيه أربعين يوماً وقايسه إبليس فيه ولم يأكل شيئاً في تلك الأربعين يوماً فلما أكملها جاع فقال له إبليس إن كنت ابن الله فأمر هذا الحجر أن يصير خبزاً فأجابه يسوع وقال له قد صار مكتوباً أنه ليس عيش الآدمي في الخبز وحده إلا في كل كلمة لله ثم قاده إبليس إلى جبل منيف عال وعرض عليه ملك جميع الدنيا من وقته وقال له سأملكك هذا السلطان وأنزلك بعظمته لأني قد ملكته وأنا أعطيه من وافقني فإن سجدت لي كان لك أجمع فأجابه يسوع وقال له قد صار مكتوباً أن تعبد السيد إلهك وتخدمه وحده ثم ساقه إلى بلاشلام وصعده ووقفه على صخرة البيت في أعلاه وقال له إن كنت ولد الله فتسبسب من ههنا لأنه مكتوب أن يبعث ملائكة لحرزك وحملك في الأكف حتى لا تعثر بقدمك في حجر ولا يصيبك مكروه فأجابه يسوع وقال له قد كتب أيضاً أن لا تقيس السيد إلهك قال أبو محمد رضي الله عنه في هذا الفصل عجائب لم يسمع بأطم منها أولها إقرار الصادق عندهم بأن إبليس قاد المسيح مرة إلى جبل منيف وانقاد له ومضى معه وقاده مرة أخرى إلى أعلى صخرة في بيت المقدس فما نراه إلا ينقاد لإبليس حيث قاده ولا يخلو من أن يكون قاده فانقاد له مطيعاً سامعاً فما نراه إلا منصرفاً تحت حكم الشيطان وهذه والله منزلة رذيلة جداً أو يكون قاده كرهاً فهذه منزلة المصروعين الذين يتخبطهم الشيطان من المس حاشى للأنبياء من كلتا الصفتين فكيف إله وابن إله بزعمهم وما سمع قط بأحمق من هذا الهوس ونحمد الله على عظيم منته ثم الطامة الأخرى كيف يطمع إبليس عند هؤلاء النوكي في أن يسجد له خالقه وفي أن يعبده ربه وفي أن يخضع له من فيه روح اللاهوت أم كيف يدعو إبليس ربه وإلهه إلى أن يعبده والله إني لأقطع أن كفر إبليس وحمقه لم يبلغا قط هذا المبلغ فهذه آبدة الدهر ثم عجب آخر كيف يمني إبليس رب الدنيا وخالقها ومالكها ومالكه وإلهنا وإلهه في أن يملكه زينة الدنيا فهذه كما تقول عامتنا أعطه من خبزه كسيرة ما هذه الوساوس التي لا ينطلق بها إلا لسان من حقه سكنى المارستان أو عيار كافر مستخف بقوم نوكي يوردهم ولا يصدرهم ما شاء الله كان فإن قالوا إنما دعا الناسوت وحده وإياه عنى إبليس وحده قلنا فإن اللاهوت والناسوت عندكم متحدان بمعنى أنهما صارا شيأ واحداً والمسيح عندكم إله معبود وقد قلتم هاهنا أن إبليس قاد المسيح فانقاد له المسيح ودعاه إبليس إلى عبادته والسجود له ومناه إبليس بملك الدنيا وقال للمسيح وقال له المسيح أو قال ليسوع وقال له يسوع وعلى قولكم أنه إنما خاطب الناسوت إنما دعا نصف المسيح ونصف يسوع وإنما مني بزينة الدنيا نصف المسيح فقد كذب لوقا ومتى على كل حال وأهل الكذب هما فكيف ونص كلامهما جزت ألسنتهما في لظى يمنع من هذا ويوجب أن إبليس إنما دعا اللاهوت لأنه قال له إن كنت ابن الله فافعل كذا ولو لم يكن من هذا في الأناجيل إلا هذا الفصل الأبخر وحده لكفى فكيف وله فيها نظائر جمة ونحمد الله على السلامة فصل قال أبو محمد رضي الله عنه وذكر في الفصل الذي تكلمنا عليه أن المسيح عليه السلام احتشى من روح القدس وفي أول باب من إنجيل لوقا أن يحيى بن زكريا احتشى من روح القدس في بطن أمه وأن أم يحيى احتشت أيضاً من روح القدس فما نرى للمسيح من روح القدس إلا كالذي ليحيى ولأم يحيى من روح القدس ولا فرق فأي فضل له عليهما فصل قال أبو محمد في الباب الثالث من إنجيل متى فلما بلغه حبس يحيى بن زكريا تنحى إلى جلجال وتخلى من مدينة ناصرة ورحل وسكن في كفر ناحوم على الساحل في رابلون وتفتالي ليتم قول شعيا النبي حيث قال أرض رابلون وتفتالي وطريق البحر خلف الأردن وجلجال الأجناس وكل من كان بها في ظلمة يبصرون نوراً عظيماً ومن كان ساكناً في ظلل الموت بها يطلع النور عليهم ومن ذلك الموضع ابتدأ يسوع بالوصية وقال توبوا فقد تدانى ملكوت السماء وبينا هو يمشي على ريف البحر بحر جلجال إذ بصر بأخوين أحدهما يدعى شمعون المسمى باطرة والآخر باطرة والآخر أندرياس وهما يدخلان شباكهما في البحر وكانا صيادين فقال لهما اتبعاني أجعلكما صيادي الآدميين فتخليا وقتهما ذلك من شباكهما واتبعاه ثم تحرك من ذلك الموضع وبصر بأخوين أيضاً وهما يعقوب ويوحنا بن سيذاي في مركب مع أبيهما يعدان شباكهما فدعاهما فتخليا ذلك الوقت من شباكهما ومن أبيهما ومتاعهما واتبعاه هذا نص كلام متى في إنجيله حرفاً حرفاً وفي أول باب من إنجيل مارقش قال فبعد أن بلي يحيى أقبل يسوع إلى جلجال ملك الله وقال إن الزمان قد تم وتدانى ملك الله فتوبوا وتقبلوا الإنجيل فلما خطر جوار بحر جلجال نظر إلى شمعون وأندرياس وهم يدخلان شبكتهما في البحر وكانا صيادين فقال لهما يسوع اتبعاني أجعلكما صيادين للآدميين فتركا ذلك الوقت الشبكة واتبعاه ثم تمادى قليلاً فأبصر يعقوب بن سيذاي وأخاه يوحنا وهما في المركب يهندمان شبكتهما فدعاهما فتركا والدهما مع العمالين بأجرة في المركب واتبعاه هذا نص كلام مارقش في إنجيله حرفاً حرفاً وقال في الباب الرابع من إنجيل لوقا وبينما الجماعات يوماً تزدحم عليه رغبة في استماع كلام الله وكان في ذلك الوقت واقفاً على ريف بحيرة بشيرات إذ بصر بمركبين في البحيرة قد نزل عنهما أصحابهما لغسل شباكهم فدخل يسوع أحدهما الذي كان لشمعون وسأله أن يتنحى به عن الريف قليلاً فقعد في المركب وجعل يوصي الجماعات منه فلما أمسك عن الوصية قال لشمعون لحج وألقوا جرافاتكم الصيد فقال له شمعون يا معلم قد عنينا طول الليل ولم نصب شيئاً ولكنا سنلقي الجرافة بأمرك وقولك فلما ألقاها قبضت على حيتان كثيرة جليلة فكادت تقطع الجرافة من كثرتها فاستعانوا بأصحاب المركب الثاني وسألوهم أن يعينوهم على إخراجهم لها فاجتمعوا عليها وشحنوا منها المركبين حتى كادا أن يغرقا فلما بصر بذلك شمعون الذي يدعى باطرة سجد ليسوع وقال اخرج عني يا سيدي لأني إنسان مذنب وكان قد حار وكل من كان معه لكثرة ما أصابوا من الحيتان وحار يعقوب ويوحنا ابنا سيذاي فقال يسوع لشمعون لا تخف فإنك ستصطادد من اليوم الآدميين فخرجوا إلى الريف الآخر مركبهم وتخلوا من جميع ما كان لهم واتبعوه هذا نص كلام لوقا في إنجيله حرفاً حرفاً وفي أول باب من إنجيل يوحنا بن سبذاي قال وفي يوم آخر كان يحيى بن زكريا المعمد واقفاً ومعه تلميذان من تلاميذه فبصر بيسوع ماشياً فقال هذا خروف الله فسمع ذلك منه التلميذان واتبعا يسوع فالتفت إليهما يسوع إذ رآهما يتبعانه وقال لهما ما الذي طلبتما قالا له يا معلم أين مسكنك فقال لهما أقبلا فأبصرا فتوجها معه ورأيا مسكنه وباتا عنده ذلك اليوم وكانا في الساعة العاشرة وكان أحد التلميذين اللذين اتبعاه أندرياش أخو شمعون المسمى باطره أحد الاثني عشر فلقي أخاه شمعون وهو أحد اللذين سمعا من يحيى واتبعاه إذ نظر إليه وقال له وجدنا المسيح ثم أقبل إليه به فلما بصر به المسيح قال له أنت شمعون بن يوثا وأنت تسمى كيفا وترجمته الحجر وهذا نص كلام يوحنا في إنجيله حرفاً حرفاً قال أبو محمد رضي الله عنه فاعجبوا لهذه الفضائح وتأملوها اتفق متى ومارقش على أن أول ما كانت صحبة شمعون باطره وأخيه أندرياش ابني يوثا للمسيح فإنها كانت بعد أن سجن يحيى بن زكريا إذ وجدهما المسيح وهما يدخلان شبكتهما في البحر للصيد وقال لوقا أنه وجدهما ما صحباه إذ وجدهما قد نزلا من المركب لغسل شباكهما وأنهما كانا قد تعبا طول الليل ولم يصيدا شيأ وقال يوحنا إن أول ما صحباه إذ رآه أندرياش أخو شمعون باطره وهو واقف مع يحيى بن زكريا وأنه كانت تلميذاً ليحيى وأن يحيى حينئذ كان يعمد للناس فلما سمع أندرياش قول يحيى إذ رأى المسيح هذا خروف الله ترك يحيى وصحب المسيح وذلك في الساعة العاشرة وبات عنده تلك الليلة ثم مضى إلى أخيه شمعون باطره وأخبره وأتى به إلى المسيح فصحبه وهي أول صحبته له فبعضهم يقول أول صحبة باطره وأخيه أندرياش للمسيح كانت بعد سجن يحيى بن زكريا وهو قول متى ومارقش وبعضهم يقول أن أول صحبة شمعون باطره وأندرياش للمسيح كانت قبل أن يسجن يحيى وهو قول يوحنا وبعضهم يقول أول صحبة باطرة وأندرياش للمسيح كانت إذ وجدهما يدخلان شبكتهما للصيد جميعأً فتركاها وصحباه من حينئذ وهو قول متى ومارقش وبعضهم يقول إن أول صحبة باطره وأندرياش للمسيح كانت إذ رآه أندرياش وهو واقف مع يحيى وهو تلميذ يحيى يومئذ فرأى المسيح ماشياً فقال يحيى هذا خروف الله فترك أندرياش يحيى وصحب المسيح من حينئذ ثم مضى إلى أخيه شمعون وعرفه أنه قد وجد المسيح وأتى به إليه فصحبه من حينئذ وهو قول يوحنا فهذه أربع كذبات في نسق إحداها في الوقت الذي كان ابتدأ صحبتهما للمسيح فيه والأخرى في الموضع الذي كانت أول صحبتهما للمسيح فيه والثالثة في رتبة صحبتهما للمسيح امعاً أم أحدهما قبل الثاني والرابعة في صفة الحال التي وجدهما عليها أول ما صحباه وبالضرورة ندري أن أحد هذه الاختلافات الأربعة كذب بلا شك ومثل هذا لا يمكن ألبتة أن يكون من عند الله عز وجل ولا من عند نبي ولا من عند صادق بل من كذاب عيار لا يبالي بما حدث وأغرب شيء في ذلك قولهم كلهم أن يوحنا بن سيذاي هو ترجم إنجيل متى من العبرانية إلى اليونانية فإذا رأى هذه القصص في إنجيل متى بخلاف ما عنده فلابد ضرورة من أن يكون عرف أن قول متى كذب أو عرف أنه حق لابد من أحدهما ضرورة فإن كان قول متى كذباً فقد استجاز يوحنا أن يورد الكذب عن صاحبه المقدس الذي هو عندهم أكبر من موسى ومن سائر الأنبياء وإن كان قول متى حقاً فقد قصد يوحنا لإيراد الكذب فيما أخبر هو به في إنجيله لابد من أحدهما ولقد كانت هذه وحدها تكفي في بيان أن الأناجيل من عمل كذا بين ملعونين شاهت وجوههم وحاقت بهم لعنة الله فصل وفي الباب الرابع من إنجيل متى أن المسيح قال لتلاميذه لا تحسبوا أني جئت لنقض التوراة وكتب الأنبياء إنما أتيت لإتمامها أمين أقول لكم إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد باء واحدة ولا حرف واحد من التوراة حتى يتم الجميع فمن حلل عهداً من هذه العهود الصغيرة وحمل الناس على تحليله فسيدعى في ملكوت السموات صغيراً ومن أتمه وحض الناس على إتمامه فسيدعى في ملكوت السموات عظيما وفي الباب السادس عشر من إنجيل متى ستحول السموات قال أبو محمد رضي الله عنه وهذه نصوص تقتضي التأبيد وتمنع من النسخ جملة ثم لم يمض بعد الفصل الأول المذكور إلا أسطار يسيرة حتى ذكر متى أنه قال لهم المسيح قد قيل من فارق امرأته فليكتب لها كتاب طلاق قال وأنا أقول لكم من فارق امرأته إلا لزنا فقد جعل لها سبيلاً إلى الزنا ومن تزوج مطلقة فهو فاسق وهذا نقض لحكم التوراة الذي ذكر أنه لم يأت لنقضها لكن لإتمامها ثم يحكون عن بولس الملعون أنه نهى عن الختان وهو من أوكد شرائع التوراة وعن شمعون باطرة المسخوط أنه أباح أكل الخنزير وكل حيوان وطعام حرمته التوراة ثم هم قد نقضوا شرائع التوراة كلها أولها عن آخرها من السبت وأعياد اليهود وغير ذلك وهم مع هذا العمل لا يختلفون في أن المسيح وجميع تلاميذه بعده لم يزالوا يتلزمون السبت وأعياد اليهود وفصحهم إلى أن ماتوا على ذلك وأن المسيح إنما أخذ ليلة الفصح وهو يفصح على سنة اليهود وشريعتهم فكيف هذا فلا بد لهم من أن يضيفوا الكذب إلى المسيح جهاراً إذ أخبر أنه لم يأت لنقض التوراة ثم نقضها فصح أنه أتى لما أخبر أنه لم يأت له من نقضها وهذا كذب لا مذحل عنه ولابد لهم من أن يقروا من أن المسيح مسخوط يدعى في ملكوت السموات صغيراً لا عظيماً لأنه هكذا أخبر هو عمن حلل عهداً صغيراً من عهودها وهو قد حل عهوداً كباراً من عهودها إذ حرم الطلاق وقد أباحته التوراة ونهى عن القصاص الذي جاءت به التوراة فقل قد قيل العين بالعين والسن والسن وأنا أقول لا تكافئوا أحداً بسيئة ولكن من لطم خدك الأيمن فانصب له الأيسر قال أبو محمد رضي الله عنه ولابد لهم من أن يشهدوا على أنفسهم أولهم عن آخرهم وسالفهم عن خالفهم بمعصية الله تعالى ومخالفة المسيح وأنهم يدعون في ملكوت السموات صغاراً إذ نقضوا حكم التوراة أولها عن آخرها ولا يمكنهم ههنا دعوى النسخ البتة لأنهم حكوا كما أوردنا عن المسيح أنه قال أقول لكم إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد باء واحدة ولا حرف واحد من التوراة حتى يتم الجميع فمنع من النسخ جملة وأن في هذا لعجباً لا نظير له وحمقاً وضلالاً ما كنا نصدق بأن أحداً يدين به لولا أنا شاهدناهم ونسأل الله السلامة ثم ذكر في الباب الثامن عشر من إنجيل متى أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر بأجمعهم ومن جملتهم يهوذا الأشكر يوطا الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهماً كل ما حرمتموه في الأرض يكون محرماً في السماء وكل ما حللتموه في الأرض يكون محللاً في السماء وفي الباب السادس عشر من إنجيل متى أنه قال هذا القول لباطره وحده قال أبو محمد رضي الله عنه وهذا تناقض عظيم كيف يكون التحليل والتحريم للحواريين أو لباطره مع قوله أنه لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها وأنه من نقض من عهودها عهداً صغيراً دعي في ملكوت السموات صغيراً وأن السماء والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة باء واحدة أو حرف واحد ولئن كان صدق في هذا فإن في نص التوراة أن الله تعالى قد لعن من صلب في خشبة وهم يقولون أنه صلب في خشبة ولاشك في أن باطرة شمعون أخا يوسف وأندرياش أخو باطرة وفليش وبولس صلبوا في الخشب فعلى قول المسيح لا يبيد شيء من التوراة حتى يتم جميعها فكل هؤلاء ملعونون بلعنة الله تعالى فاعجبوا لضلال هذه الفرقة المخذولة فما سمع بأطم من هذه الفضائح أبداً فصل وفي الرابع عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لهم أنا أقول لكم كل من سخط على أخيه بلا سبب فقد اتسوجب القتل وإ أضرت إليك عينك اليمنى فافقأها وأذهبها عن نفسك فذهابها عنك أحسن من إدخال جسدك الجحيم وإن أضرت إليك يدك اليمنى فابرأ منها فذهابها منك أحسن من إدخال جسدك النار قال أبو محمد رضي الله عنه وهذه شرائع يقرون أن المسيح عليه السلام أمرهم بها وكفهم عنها بلا خلاف بين أحد منهم ولا يرون القضاء بشيء منها فهم على مخالفة المسيح بإقرارهم وهم لا يرون الختان والختان كان ملة المسيح وكان مختوناً والمسيح وتلاميذه لم يزالوا إلى أ ماتوا يصومون صوم اليهود ويفصحون فصحهم ويلتزمون السبت إلى أن ماتوا وهم قد بدلوا هذا كله وجعلوا مكان السبت الأحد وأحدثوا صوماً آخر بعد أزيد من مائة عام بعد رفع المسيح فكفى بهذا كله ضلالاً وكفراً وليس منهم أحد يقدر على إنكار شيء من هذا فإن قالوا إن المسيح أمرهم باتباع أكابرهم قلنا لا عليكم أرأيتم لو أن بطارقتكم اليوم أجمعوا على إبطال ما أحدثه بطارقتكم بعد مائة عام من رفع المسيح وأحدثوا لكم صياماً آخر ويوماً آخر غير يوم الأحد وفصحاً آخر وردوكم إلى ما كان عليه المسيح من تعظيم السبت وصوم اليهود وفصحهم أكان يلزمكم اتباعهم فإن قالوا لا قلنا ولم وأي فرق بين اتباع أولئك وقد خالفوا ما نص عليه المسيح والحواريون وبين اتباع هؤلاء فيما أحدثوه آنفاً فإن قالوا إن أولئك لعنوا ومنعوا من تبديل ما شرعوا قلنا لهم وأي لعن وأي منع أعظم من منع المسيح من تبديل شيء من عهود التوراة ثم قد بدله من أطعتموه في تبديله له فقد صار منع من بعد المسيح أقوى من منع المسيح وإن قالوا نعم كنا نتبعهم أقروا أن دينهم لا حقيقة له وإنه إنما هو اتباع ما رع أكابرهم من تبديل ما كانوا عليه ويقال لهم أرأيتم إن أحدث بعض بطارقتكم شرائع وأحدث الآخرون منهم أخر ولعنت كل طائفة منهم من عمل بغير ما شرعت فكيف يكون الحال فأي دين أوسخ وأضل وأفسد من دين من هذه صفته ولقد كان لهم فيما أوردنا من هذا الفصل كفاية في بطلان كل ما هم عليه لو كان لهم مسكة عقل وحق لكل دين مرجعه إلى متى الشرطي ويوحنا المستخف ومارقش المرتد ولوقا الزنديق وباطره اللعين وبولس الموسوس الاضلال لهم في دينهم أن تكون هذه صفته والحمد لله على عظيم نعمته علينا فصل وفي الباب الخامس من إنجيل متى أن المسيح قال لهم ليكن دعاؤكم على ما أصف لكم أبانا السماوي تقدس اسمك ثم قال بعد ذلك وقد علم أبوكم أنكم ستحتاجون إلى جميع هذا وفي آخر الإنجيل أنه قال لهم أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم فما نرى للمسيح من البنوة لله تعالى إلا ما لسائر الناس ولا فرق فمن أين حصره بأنه ابن الله عز وجل دون سائرهم كلهم إلا أن كذبوه في هذا القول فليختاروا أحد الأمرين ولابد. من أين خصوا كل من سوى المسيح بأن الله تعالى إلهه ولم يقولوا أن الله إله المسيح كما قال هو بلسانه فلابد ضرورة من الإقرار بأن الله هو إله المسيح وأن سائر الناس أبناء الله تعالى أو يكذبوا المسيح في نصف كلامه وحسبك بهذا فساداً وضلالاً تعالى الله عن أن يكون أباً لأحد أو أن يكون له ابن لا المسيح ولا غيره بل هو تعالى إله المسيح وإله كل من هو غير المسيح أيضاً فصل وكثير ما يحكون في جميع الأناجيل في غير ما موضع أنه إذا أخبر المسيح عن نفسه سمي نفسه ابن الإنسان ومن المحال والحمق أن يكون الإله ابن إنسان أو أن يكون ابن إله وابن إنسان معاً وأن يلد إنسان إلهاً ما في الحمق والمحال والكفر أكثر من هذا ونعوذ بالله من الضلال فصل وفي الباب التاسع من إنجيل متى فبينا يسوع هذا إذ أقبل إليه أحد أشراف ذلك الموضع وقال له إن ابنتي توفيت وأنا أرغب إليك أن تذهب إليها وتمسها بيدك لتحيى ثم ذكر أنه لما دخل بيت القائد وأبصر بالنوايح والبواكي قال لهن اسكتن فإن الجارية لم تمت ولكنها راقدة فاستهزأت الجماعة به ولما خرجت الجماعة عنها دخل عليها وأخذ بيدها ثم أقامها حية وذكر هذه القصة نفسها في الباب السابع من إنجيل لوقا إلا أنه قال فيها إن أباها قال له قد أشرفت على الموت وأنه نهض معه فلقيه رسول يخبره بأن الجارية قد ماتت فلا تعنه وأن المسيح قال لأبيها لا تخف وآمن فتحيى فلما بلغا البيت لم يدخل مع نفسه في البيت إلا باطرة ويوحنا ويعقوب وأبو الجارية وكانت الجماعة تبكي وتلتدم فقال لهم لا تبكوا فإنها راقدة وليست ميتة فاستهزؤا به معرفة بموتها فأخذ بيدها ودعاها وقال يا جارية قومي فانصرف عنها زوجها وقامت من وقتها وأمر أن تطعم طعاماً وجاء أبواها وأمرهما أن لا يعلما أحداً بما فعل وذكر مثل هذا في الباب الخامس من إنجيل مارقش قال أبو محمد في هذا الفصل مصايب جمة أحدها كان يكفي في أنه إنجيل موضوع مكذوب أولها حكايتهم عن المسيح أنه كذب جهاراً إذ قال لهم لم تمت إنما هي حية راقدة ليست ميتة فإن كان صادقاً في أنها ليست ميتة فلم يأت بآية لا بعجيبة وحاشى لله أن يكذب نبي فكيف إله وليس لهم أن يقولوا أن الآية هي إبراؤها من الإغماء لأن في نص إنجيلهم أنه قال لأبيها آمن فتحيا بانتك فلابد من الكذب في أحد القولين والثانية أن متى ذكر أن أباها جاء إلى المسيح وهي قد ماتت وأخبره بموتها ودعاه ليحييها ولوقا يقول إن اباها أتى إلى المسيح وهي مريضة لم تمت وأتى به ليبريها بعد وأن الرسول لقيه في الطريق وقال له لا تعنه فقد ماتت فأحد النذلين كاذب بلا شك فعليهما لعاين الله وسخطه فلا يجوز أخذ الدين عن كذاب والثالثة انفراد المسيح عن الناس عند مجيئه بهذه الآية حاشى أبويها وثلاثة من أصحابه ثم استكتامه إياهم ذلك والآيات لا تطلب لها الخلوات ولا تستر عن الناس وفي الأناجيل من هذا كثير من أنه لم يقدر في بعض الأوقات على آية مرة بحضرة بلاطس ومرة بحضرة اليهود وأنه قال لمن طلب منه آية إنكم لا ترون آية إلا آية يونس إذ بقي في بطن الحوت ثلاثاً وما كان هكذا فإنما هي أخبار مسترابة وكذبات مفتعلة ونقل عمن لا خير فيه وبالله تعالى التوفيق فصل وفي الباب العاشر من إنجيل متى أن المسيح جمع إلى نفسه اثني عشر رجلاً من تلاميذه وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة ينفوها وأن يبرؤا من كل مرض وهذه أسماؤهم أولهم شمعون المسمى بباطرة وأندرياش أخوه ويعقوب ابن سيذاي ويوحنا أخوه وفيلبس وبرتلوما وطوما ومتى الجابي ويعقوب ويهوذا أخوه وشمعون الكنعاني ويهوذا الأشكريوطا الذي دل عليه بعد ذلك فبعث يسوع هؤلاء الاثني عشر وقال لهم لا تسلكوا في سبيل الأجناس ولا تدخلوا في مداين السامريين ولكن احتضروا إلى الضان التالفة من بني إسرائيل ففي هذا الفصل طامتان إحداهما قوله أنه أعطى أولئك الاثني عشر وسماهم بأسمائهم كلهم سلطاناً على الأرواح النجسة وأن يبرؤا من كل مرض وسمى فيهم يهوذا ولم يدع للانتكال وجهاً بل صرح بأنه هو الذي دل عليه بعد ذلك اليهود حتى أخذوه وصلبوه بزعمهم وضربوه بالسياط ولطموه واستهزؤا به وقد كذبوا لعنهم الله فكيف يجوز أن يقرب الله تعالى ويعطي السلطان على الجن والإبراء من كل مرض من يدري أنه هو الذي يدل عليه ويكفر بعد ذلك هذا مع قول يوحنا في إنجيله أن يهوذا المذكور كان سارقاً وأنه كان يخطف كل ما كان يهدى إلى المسيح ويذهب به فلابد ضرورة من أحد وجهين بلا ثالث أصلاً إما أن يكون المسيح اطلع على ما اطلع عليه يوحنا من سرقة يهوذا وخبث باطنه وأعطاه مع ذلك الآيات والمعجزات وجعله واسطة بينه وبين الناس وجعله أن يحرم ويحلل فيكون ما حرم وحلل محرماً ومحللاً في السموات فهذه مصيبة وتوقيع بالكفار وتقديم لمن لا يستحق وسخرية بالدين وليس هذه صفة الإله ولا من فيه خير أو يكون خفي على المسيح من خبث نية يهوذا ما عرف غيره فهذه عظيمة أن يكون الإله يجهل ما خلق فهل سمع قط بأحمق من هذه القصص وممن يعتقدها حقاً والثانية قوله لا تسلكوا في سبيل الأجناس ولا تدخلوا مداين السامريين واحتضروا إلى الضأن المبددة التالفة من نسل بني إسرائيل وأنه لم يبعث إلا إلى الضأن التالفة من بني إسرائيل وهذا إنما أمرهم بأن يكملوه بعد رفعه بإقرارهم كلهم أنه طول كونه في الأرض لم يفارقه أحد منهم ولا نهضوا داعين إلى بلد آخر البتة فقد خالفوه وعصوه لأنهم لم يذهبوا إلا إلى الأجناس فهم عصاة لله عز وجل فساق بإقرارهم فصل وفي هذا الباب نفسه بإقرارهم أن المسيح قال لتلاميذه وإذا طلبتم في هذه المدينة فاهربوا إلى أخرى أمين أقول لكم لا تستوعبون مداين بني إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان يعني رجوعه إلى الدنيا ظاهراً بعد رفعه إلى جميع الناس وفي الباب السابع من إنجيل مارقش وفي أول الباب التاسع من إنجيل لوقا أن المسيح قال لهم إن من هؤلاء الوقوف بعض قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ملك الله مقبلاً بقدرة قال أبو محمد وكذب هذا المقول قد ظهر علانية فقد استوعبوا مداين بني إسرائيل وغيرها ولم يروا ما وعدهم به من رجوعه بالقدرة علانية قبل أن يموت كل من بحضرته يومئذ وحاش لله أن يكذب نبي فكيف غله ففي هذا الفصل وحده كفاية لو كان ثم عاقل في أن الذين كتبوا هذه الأناجيل كانوا كذا بين قوم سوء فإن في صحيح حديثكم أن نبيكم ﷺ قال وأشار إلى ذلك الغلام في حد الصبا وأنه كان يقول للأعراب إذا سألوه متى تقوم الساعة فيشير إلى أصغرهم ويقول أن يستكمل هذا عمره لم يأته الموت حتى تقوم الساعة قلنا هذا لفظ غلط فيه قتادة ومعبد ابن هلال فحدثا به عن أنس على ما توهماه من معنى الحديث ورواه ثابت ابن أسلم البناني عن أنس كما قاله رسول الله ﷺ بلفظه فقال قامت عليكم ساعتكم وهكذا رواه الثقاة أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي ﷺ كما رواه ثابت عن أنس وقال أنه عليه السلام قال أن هذا لا يستوفي عمره حتى تقوم عليه ساعتكم يعني وفاة أولئك المخاطبين له وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ولا خلاف في أن ثابتاً البناني أثقف لألفاظ الأخبار من قتادة ومعبد فكيف وقد وافقته أم المؤمنين ونحن لا ننكر غلط الرواة إذا قام عليه البرهان أنه خطأ وقد صح في القرآن والأخبار الثابتة من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابنه وغيرهما عن النبي ﷺ أنه لا يدري متى تقوم الساعة أحد إلا الله ولو قال النصارى واليهود مثل هذا في نقلة كتبهم ما عنفناهم ولا أنكرنا عليهم وجود الغلط في نقلهم وإنما ننكر عليهم أن ينسبوا يعني اليهود والنصارى إلى الله تعالى الكذب البحت ويقطعون أنه من عند الله تعالى وننكر على النصارى أن يجعلوا من صح عنه الكذب معصوماً يأخذون عنه دينهم وأن يحققوا كل خبر متناقض وكل قضية يكذب بعضها بعضاً ونعوذ بالله من الخذلان فصل وفي هذا الباب نفسه أن المسيح قال لهم لا تحسبوا أني جئت لأدخل بين أهل الأرض الصلح لا السيف وإنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه وبين الابنة وأمها وبين الكنة وختنتها وأن يعادي المرء أهل خاصته وفي الباب الثاني عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال لهم إنما قدمت لألقي في الأرض ناراً وإنما أراد لي إشعالها والتعطش فيها جميعها وأنا بذلك منتصب إلى تمامه أتظنون أني أتيت لأصلح بين أهل الأرض لا ولكن لأفرق بينهم فيكون خمسة متفرقين في بيت ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة الأب على الولد والولد على الأب والابنة على الأم والأم على الابنة والختنة على الكنة والكنة على الختنة فهذان فصلان كما ترى وفي الباب التاسع من إنجيل لوقا أن المسيح قال لهم لم نبعث لنلف الأنفس لكن لسلامتها وفي الباب العاشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال من سمع كلامي ولم يحفظه فلست أحكم أنا عليه فإني لم آت لأحكم على الدنيا وأعاقبها لكن إلى تبليغ أهل الدنيا قال أبو محمد هذان الفصلان ضد الفصلين اللذين قبلهما وكل واحد من المعنيين يكذب الآخر صراحاً فإن قيل إنه إنما أراد أنه لم يبعث لتلف الأنفس التي آمنت به قلنا قد عم ولم يخص وبرهان بطلان تأويلكم هذا من أنه إنما عني أنه لم يبعث لتلف النفوس المؤمنة به إنما هو نص هذا الفصل في الباب التاسع من إنجيل لوقا هو وكما نورده إن شاء الله تعالى قال عن المسيح أ ه بعث بين يديه رسلاً وجعلوا طريقهم على السامرية ليعدوا له بها فلم يقبلوه لتوجهه إلى بلاشلام فلما رأى ذلك يوحنا ويعقوب قالا له يا سيدنا أيوافقك أن تدعو فتنزل عليهم ناراً من السماء وتحرق عامتهم كما فعل الياس فرجع إليهم وانتهرهم وقال الذي أنتم له أرواح لم يبعث الإنسان لتلف الأنفس لكن لسلامتها ثم توجهوا إلى حصن آخر قال أبو محمد فارتفع الإشكال وصح أنه لم يعن بالأنفس التي بعث لسلامتها بعض النفوس دون بعض ولكن عنى كل نفس كافرة به ومؤمنة بل لا كما يسمعون إنما قال ذلك إذ أراد أصحابه هلاك الذين لم يقبلوه فظهر تكاذب الكلام الأول وحاشى لله أن يكذب الرسول المسيح عليه السلام لكن الكذب بلا شك من الفساق الأربعة الذين كتبوا تلك الأناجيل المحرفة المبدلة ثم في هذا الفصل نص جلي على أنه مبعوث مأمور فصح أنه نبي كما يقول أهل الحق إن كانوا صدقوا في هذا الفصل وبالله تعالى التوفيق فصل وفي الباب المذكور نفسه أن المسيح قال من قبل نبياً على اسم نبي فإنه يكافأ بمثل أجر النبي قال أبو محمد وهذا كذب ومحال لأنه لا تفاضل للناس عند الله تعالى في الآخرة إلا بأجورهم التي يعطيهم الله تعالى فقط لا بشيء آخر أصلاً فمن كان أجره فوق أجر غيره فهو بالضرورة أفضل منه والآخر بلا شك دونه ومن كان أجره مثل أجر آخر فهما بلا شك سواء في الفضل هذا يعلم ضرورة بالحس فلو كان كل من اتبع نبياً له مثل أجر النبي لكان أهل الإيمان كلهم في الآخرة سواء لا فضل لأحد على أحد عند الله تعالى وهذا يعلم أنه كذب ومحال وبالضرورة ولو كان هذا لوجب أن يكون أجر كل من النصارى مثل أجر باطرة والتلاميذ وبولس ومارقش ولوقا وليس منهم أحد يقول بهذا ولا يدخله في الممكن فكلهم متفق على أن إلههم كذب وحاش لله من أن يكذب نبي من أنبيائه أو رجل صادق من أهل الإيمان وبالله تعالى التوفيق فصل وفي الباب الثاني عشر من إنجيل متى أن المسيح قال وقد ذكر يحيى بن زكريا أنا أقول لكم أنه أكثر من نبي وهو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك ليعدلك طريقك قال أبو محمد في هذا الفصل كذب في موضعين أحدهما قوله في يحيى أنه أكثر من نبي وهذا محال لأنه لا يخلو يحيى وغير يحيى من الناس من أن يكون أوحى إليه أو لم يوحي إليه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان أوحى إليه فهو نبي ولا يمكن وجود أكثر من نبي في الناس إلا أن يكون رسولاً نبياً ويحيى رسول الله بإجماعهم وإن كان لم يوح إليه فهذه منزلة يستوي فيها الكافر والمؤمن ولا يجوز أن يكون من لا يوحي الله إليه مثل من استخلصه الله عز وجل بالوحي إليه فكيف أن يكون أكثر منه والكذبة الثانية قوله أن يحيى هو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك لأن يحيى على هذا القول ملك وهذا كذب بحت لأنه إنسان ابن رجل وامرأة عاش إلى أن قتل وليس هذه صفة الملك ويحيى لم يكن ملكاً وفي هذا الفصل لكن بعد هذا أنه قال أن يحيى آدمي فهذا القول كذب على كل حال وحاشا لله أن يكذب نبي لا ولا رجل فاضل فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم أمين أقول لكم لم يولد من الآدميين أحد أشرف من يحيى المعمد ولكن من كان صغيراً في ملكوت السماء فهو أكبر منه قال أبو محمد تأملوا هذا الفصل تروا مصيبة الدهر فيهم وقرة عيون الأعداء وهو لا يمكن أن يقوله ولا ينطق به صبي يرجى فلاحه ولا أمة وكعاء إلا أن تكون مدخولة العقل أثبت أنه لم يولد في الآدميين أشرف من يحيى وغذا كان كما زعم أن الصغير في ملكوت السماء أكبر من يحيى فكل من يدخل ملكوت السماء ضرورة فهو أكبر من يحيى فوجب من هذا أن كل مؤمن من بني آدم فهو أفضل من يحيى وأن يحيى أرذل وأصغر من كل مؤمن فما هذا الهوس وما هذا الكذب وما هذه الغباوة السمجة في الدين وكم هذا التناقض والله ما قال المسيح قط شيئاً من هذه الرعونة وما قالها إلا الكذاب متى ونظراؤه عليهم لعنة الله ولقد كانوا في غاية الوقاحة والاستخفاف بالدين فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم كل كتاب ونوبة فإن منتهاها إلى يحيى قال أبو محمد رضي الله عنه وفي هذا الفصل على صغره كذبتان إحداهما قوله قيل أن يحيى أكبر من نبي مع ما في الإنجيل من أن يحيى سئل فقيل له أنبي أنت قال لا وقال ههنا إن كل نبوة منتهاها إلى يحيى فمرة ليس هو نبياً ومرة هو نبي آخر الأنبيا ومرة هو أكبر من نبي تبارك الله كم هذا التخليط والكذب الفاحش والأخرى قوله فيه إن كل نبوة فمنتهاها إلى يحيى وليس بعد النهاية شيء فهو على هذا آخر الأنبياء وفي الباب الرابع عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لهم إني باعث إليكم أنبياء وعلماء ستقتلون منهم وتصلبون فقد كذب القول بأن يحيى آخر الأنبياء ومنتهى النبوة إليه والنصارى مقرون بأنه قد كان بعده أنبياء وأن نبياً أتى إلى بولس فأنذره بأنه سيصلب ذكر ذلك لوقا في الافركسيس فقد حصلوا على تكذيب المسيح في قوله وفي بعض هذا كفاية فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم أتاكم يحيى وهو لا يأكل ولا يشرب فقلتم هو مجنون ثم أتاكم ابن الإنسان يعني نفسه يأكل ويشرب فقلتم هذا خواف شروب للخمر خليع صديق للمستخرجين والمذنبين قال أبو محمد رضي الله عنه في هذا الفصل كذب وخلاف لقول النصارى أما الكذب فإنه قال ههنا أن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب حتى قيل فيه أنه مجنون من أجل ذلك وفي الباب الأول من إنجيل مارقش أن يحيى ابن زكريا هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي وهذا تناقض وأحد الخبرين كذب بلا شك وأما خلاف قول النصارى فإنه ذكر أن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب وأن المسيح كان يأكل ويشرب وبلا شك إن من أغناه الله عز وجل عن الأكل والشرب من الناس فقد أبانه ورفع درجته عمن لم يغنه عن الأكل والشرب منهم فيحيى أفضل من المسيح بلا شك على هذا وقصة ثالثة وهي اعتراف المسيح على نفسه بأنه يأكل ويشرب وهو عندهم إله فكيف يأكل الإله ويشرب ما في الهوس أكثر من هذا فإن قالوا إن الناسوت منه هو الذي يأكل ويشرب قلنا وهذا كذب منكم على كل حال لأنه إذا كان المسيح عندكم لاهوتاً وناسوتاً معاً فهو شيئان فإن كان إنما يأكل الناسوت وحده فإنما أكل الشيء الواحد من جملة الشيئين ولم يأكل الآخر فقولوا إذا أكل نصف المسيح وشرب نصف المسيح وإلا فقد كذبتم بكل حال وكذب أسلافكم في قولهم أكل المسيح ونسبتم إلى المسيح الكذب بخبره عن نفسه أنه يأكل وإنما يأكل نصفه لا كله والقول أنذال بالجملة فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لا يعلم الولد غير الأب ولا يعلم الأب غير الولد قال أبو محمد رضي الله عنه هذا عجب جداً لأن المسيح عندهم ابن الله بلا خلاف بينهم والله تعالى عن كفرهم هو والد المسيح وأبوه وهكذا يطلق النذل باطرة في رسائله المنتنة متى ذكر الله فإنما يقول قال الله والد ربنا المسيح أمراً كذا وكذا ثم ها هنا قال إن المسيح قال إنه لا يعلم الأب إلا الابن ولا يعلم الابن إلا الأب فقد وجب ضرورة أن التلاميذ وسائر النصارى لا يعلمون الله تعالى أصلاً ولا يعرفون المسيح البتة فهم جهلاء بالله تعالى وبالابن ومن جهل الله تعالى ولم يعرفه فهو كافر فهم كفار كلهم أسلافهم وأخلافهم أو كذب المسيح في هذا الكلام أو كذب النذل متى لابد والله من أحدها وقد أعاذ الله تعالى عبده ورسوله المسيح من الكذب فبقيت الاثنتان وهما والذي سمك السماء حق أن النصارى جهال بالله تعالى وأن الشرطي متى ملفق جاهل فعلى جميعهم ما يستحقون من الله نعم وفي هذا القول الملعون الذي أضافوه إلى المسيح عليه السلام القطع بأن الملائكة والأنبياء السالفين كلهم ليس منهم أحد يعرف الله تعالى فاعجبوا لعظيم فسق هذا الأحمق متى وعظيم حماقة من قلده في دينه ونحمد الله على السلامة كثيراً فصل وفي الباب المذكور أن بعض التوراويين قال للمسيح يا معلم إنا نريد أن نأتينا بآية فقال لهم المسيح يا نسل السوء ويا نسل الزنا تسألون آية ولا ترون منها آية غير آية يونس النبي فكما أن يونس النبي كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال كذلك يكون ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها قال أبو محمد رضي الله عنه لو لم يكن في إنجيلهم إلا هذا الفصل الملعون وحده لكفى في بطلان جميع أناجيلهم وجميع دينهم فإنه قد جمع عظيمتين إحداهما تحقيق أنه لم يأت مخالفيه قط بآية وإقرار المسيح بذلك بزعمهم وأن آياته التي يذكرون إنما كانت خفية وفي السر بحضرة النزر القليل الذين اتبعوه ومثل هذا لا تقوم به حجة على المخالف أو تحقيق الكذب على المسيح في أنه يخبر أنهم لا يرون آية وهو يريهم الآيات لابد من إحداهما والفصل الثاني وهو الطامة الكبرى حكايتهم عن المسيح أنه قال عن نفسه كما بقي يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بليالها كذلك يبقى هو في جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها وهذه كذبة شنيعة لا حيلة فيها لأنهم مجمعون وفي جميع أناجيلهم أنه دفن قرب مغيب الشمس من يوم الجمعة مع دخول ليلة السبت وقام من القبر قبل الفجر من ليلة الأحد فلم يبق في جوف الأرض إلا ليلة وبعض أخرى ويوماً ويسيراً من يوم ثان فقط وهذه كذبة لا خفاء بها فيما أخبر به المسيح لابد منها أو كذب أصحاب الأناجيل وهم أهل الكذب وحسبنا الله فصل وفي الباب الثالث عشر من إنجيل متى أن المسيح قال يشبه ملكوت السماء بحبة خردل ألقاها رجل في فدانه وهي أدق الزراريع كلها فإذا نبتت استعلت على جميع البقول والزراريع حتى ينزل في أغصانها طير السماء ويسكن إليها قال أبو محمد حاشى للمسيح عليه السلام أن يقول هذا الكلام لكن النذل الذي قاله كان قليل البصارة بالفلاحة وقد رأينا نبات الخردل ورأينا من رأه في البلاد البعيدة فما رأينا قط ولا أخبرنا من رأى شيئاً منه يمكن أن يقف عليه طائر ومثل هذه المسامحات لا تقع لنبي أصلاً فكيف لله عز وجل فصل وفي آخر الباب المذكور أن المسيح رجع إلى بلاده وجعل يوصي جماعتهم بوصايا يعجبون منها وكانوا يقولون من أين أوتي هذه العلوم وهذه القدرة أما هذا ابن الحداد وأمه مريم وإخوته يعقوب ويوسف وشمعون ويهوذا واخواته أما هؤلاء كلهم عندنا فمن أين أوتي هذا وكانوا يشكون فيه فقال لهم يسوع ليس يعدم النبي حرمته إلا في بيته وبلده ولتشككهم وكفرهم لم يطلع في ذلك الموضع عجايب كثيرة وفي الباب الخامس من إنجيل مارقش قال وكانت الجماعة تسمع منه وتعجب منه العجب الشديد من وصيته ويقولون من أين أوتي هذا وما هذه الحكمة التي رزقها ومن أين هذه الأعاجيب التي ظهرت على يديه أليس هو ابن الحداد وابن مريم أخو يوسف ويعقوب وشمعون ويهوذا ليس اخواته هن ههنا معنا وكان يقول لهم يسوع ليس يكون نبي بغير حرمة إلا في وطنه وبين عشيرته وفي أهل بيته وليس كان يقوى أن يفعل هنالك آية لكن وضع يديه على مرضى قليل فأبرأهم وفي الباب الثامن من إنجيل لوقا فلما دخل والد المسيح البيت وبعد هذا بيسير قال فكان يعجب منه أبوه وأمه وبعده بيسير قول مريم أمه له فقد طلبك أبوك وأنا معه وفي الباب السابع منه أقبلت إليه أمه وإخوته وفي الباب الثامن عشر من إنجيل يوحنا وبعد هذا نزل إلى قفر ناحوم ومعه أمه وإخوته وتلاميذه وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا وكان إخوته لا يؤمنون به قال أبو محمد في هذه الفصول ثلاث طوام نذكرها طامة طامة إن شاء الله تعالى أولها اتفاق الأناجيل الأربعة على أنه كان له والد معروف من الناس وإخوة وأخوات سمى الإخوة بأسمائهم وهم أربعة رجال سوى الأخوات ولا يعول في ذلك إلا على إقرار أمه بأن له والداً طلبه معها وهو يوسف الحداد أو النجار فأما أمه فقد اتفقنا نحن واليهود وجمهور النصارى على أنها حملت به حمل النساء وولدته كما تلد النساء أولادهن إلا طايفة من النصارى قالت لم تحمل به ولكن دخل من أذنها وخرج من فرجها في الوقت كالماء في الميزاب ولكن بقي علينا أن نعرف كيف تقول أمه عليها السلام عن النجار أو الحداد أنه أبوه ووالده فإن قالوا إن زوج الأم يسمى في اللغة أباً قلنا هبكم أن هذا كذلك كيف العمل في هؤلاء الذين اتفقت الأناجيل على أنهم إخوته وأخواته وإنما هم أولاد يوسف النجار أو الحداد وما وجد قط في اللغة العبرانية أن ولد الربيب من غير الأم يسمى أخاً إلا أن يقولوا إن مريم ولدتهم من النجار فقد قال هذا طائفة من قدمائهم منهم بليان مطران طليطلة ونحن نبرأ إلى الله تعالى مما يقول هؤلاء الكفرة أن يكون لآله معبود أم أو خال أو خالة أو ابن خالة أو ربيب أو أخ أو أخت وتباً لعقول يدخل هذا فيها من أن الله تعالى ربيباً هو زوج أمه وليس يمكنهم أن يقولوا إنما أراد كتاب الأناجيل أنهم إخوته في الإيمان والدين لأن يوحنا قد رفع الإشكال في ذلك وقال ومعه إخوته وتلاميذه فجعلهم طبقتين وقال أيضاً إن إخوته كانوا لا يؤمنون به وتالله لولا أنا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن من يلعب بقذره وما يخرج من سفله يصدق بشيء من هذا الحمق ولكن تبارك من أرانا بهذا أنه لا ينتفع أحد ببصره ولا بسمعه ولا بتمييزه إلا أن يهديه خالق الهدى والضلال نسأل الله الذي هدانا لملة الإسلام البيضاء الواضحة السليمة من كل ما ينافره العقل أن لا يضلنا بعد إذ هدانا حتى نلقاه على ملة الحق ونحلة الحق ومذهب الحق ناجين من خلل الكفر ونحل الضلال ومذاهب الخطأ وفي كل ما أوردنا بيان واضح في أن الذين ألفوا الأناجيل كانوا عيارين مستخفين بمن أضلوه متلاعبين بالدين والطامة الثانية إقرارهم بأن المسيح لم يكن يقوى في ذلك المكان على آية ولو كان لهم عقل لعلموا أن هذه ليست صفة آله يفعل ما يشاء بل صفة عبد مخلوق مدبر لا يملك من أمره شيئاً كما قال لرسول الله ﷺ. قل إنما الآيات عند الله.
والثالثة إقرارهم أن المسيح سمعهم ينسبونه إلى ولادة الحداد وأنه أبوه ولم ينكر ذلك عليهم فقد حققوا عليه أحد شيئين لا ثالث لهما البتة إما أنه سمع الحق من ذلك فلم ينكره وفي هذا ما فيه من خلاف قولهم جملة وإما أنه سمع الباطل والكذب فأقر عليه ولم ينكره وهذه صفة سوء وتلبيس في الدين قال أبو محمد وفي هذه الفصول مما لم يطلق الله تعالى أيديهم على تبديله من الحق قوله لا يعدم النبي حرمته إلا في وطنه وأهل بيته فيا عقول الأطفال ويا أدمغة الإوز لو عقلتم أما كان يكفيكم أن تقولوا فيه ما قال في نفسه وما شهد العيان بصدقه وصحته فيه وتتركوا الرعونة التي لم تقدروا منذ ألف عام على بيان ما تعتقدونه منها بقلوبكم ولا قدرتم على العبادة عنها بألسنتكم وكلما رمتم وجهاً من وجوه النوك انفتق عليكم باب منه لا قبل لكم به ونعوذ بالله من الضلال فصل وفي الباب السادس عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لباطرة إليك أبرأ بمفاتيح السموات فكل ما حرمته في الأرض يكون محرماً في السموات وكل ما أحللته على الأرض يكون حلالاً في السموات وبعد هذا الكلام بأربعة أسطر أن المسيح قال لباطرة نفسه متصلاً بالكلام المذكور اتبعني يا مخالف ولا تعارضني فإنك جاهل بمرضاة الله وإنما تدري مرضاة الآدميين قال أبو محمد في هذا الفصل على قلته وأنه قليل ومنتن كبعض ما يشبهه مما نكره ذكره سوءتان عظيمتان إحداهما أنه بريء إلى باطرة النذل بمفاتيح السموات وولاه خطة إلاهية التي لا تجوز لغير الله تعالى وحده لا شريك له من أن كل ما حرمه في الأرض كان حراماً في السموات وكل ما حلله في الأرض كان حلالاً في السموات والثانية أنه إثر براءته إليه بمفاتيح السموات وتوليته خطة الربوبية إما شريكاً لله تعالى في التحريم والتحليل وإما منفرداً دونه عز وجل بهذه الصفة قال له في الوقت أنه مخالف معارض له جاهل بمرضات الله عز وجل لا يدري إلا مرضات الآدميين فوالله لئن كان صدق في الآخرة لقد حزق في الأولى إذ ولي ما لا ينبغي إلا لله تعالى جاهلاً بمرضاة الله مخالفاً له لا يدري إلا رضاء الناس وأن هذه لسوأة الأبد إذ من هذه صفته لا يصلح أن يبرأ إليه بمفاتيح كنيف أو بيت زبل ولئن كان صدق وأصاب في الأولى لقد كذب في الثانية ووالله ما قال المسيح قط شيئاً مما ذكروا عنه في الأولى لأنها مقالة كافر شر خلق الله عز وجل وما يبعد أنه قال له الكلام الثاني فهو والله كلام حق يشهد المنافق على اللعين به باطرة شاه وجهه وعليه سخط وغضبه ثم عجب ثالث أننا قد ذكرنا قبل أن في الباب الثاني عشر من إنجيل متى أن المسيح أشرك مع باطرة في هذه الخطة التي أفرده بها ها هنا سائر الاثني عشر تلميذاً وفي جملتهم السارق الكافر الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهماً أخذها منهم وأنه قال لجميعهم ما حرمتموه في الأرض كان حراماً في السموات وما حللتموه في الأرض كان حلالاً في السموات فيا ليت شعري كيف يكون الحال إن اختلفوا فيما ولاهم من ذلك فأحل بعضهم شيئاً وحرمه آخر منهم كيف يكون الحال في السموات وفي الأرض لقد يقع أهلهما مع هؤلاء السفلة في شغل وفي حرمة وحل معاً فإن قيل لا يجوز أن يختلفوا قلنا سبحان الله وأي خلاف أعظم من تحليل يهوذا إسلامه إلى اليهود وأخذه ثلاثين درهماً رشوة على ذلك إلا أن كان عزله عن خطة إلاهية بعد أن ولاه إياها فلعمري إن من قدر أن يوليها أنه لقادر على العزل عنها ولعمري لقد رذلت هذه المنزلة عند هؤلاء الأرذال حقاً إذ يليها السراق ومن لا خير فيه ثم يعزلون عنها بلا مؤنة تعالى الله والله لو دكت الجبال والأرض دكاً وخرت السموات العلى وصعق بكل ذي روح عند سماع كفر هؤلاء الخساس لما كان ذلك بكبير وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا يخلو هذا القول من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أنه أراد أنا باطرة والتلاميذ المولين هذه الخطة لا يحللون شيئاً ولا يحرمون إلا بوحي من الله عز وجل فإن كان هذا فقد كذب في قوله الذي ذكرنا قبل أن كل نبوة فمنتهاها إلى يحيى بن زكريا لأن هؤلاء أنبياء على هذا القول وإما أنه أراد أنه قد جعل لباطرة وأصحابه ابتداء الحكم في التحريم والتحليل من عند أنفسهم بلا وحي من الله تعالى فيجب على هذا أنهم متى حرموا شيئاً حرمه الله تعالى اتباعاً لتحريمهم ومتى حللوا شيئاً حلله الله تعالى اتباعاً لتحليلهم فلئن كان هكذا فإن لخطة خسف ونرى لباطرة النذل وأصحابه الأوغاد قد صاروا حكاماً على الله تعالى ولقد صار عز وجل تابعاً لهم وحاشى لله تعالى من هذا كله وما نرى باطرة المنتن وأصحابه الرذلة حصلوا من مفاتيح السموات ومن خطة إلاهية إلا على حلق اللحى بالنتف وعلى ضرب الظهور بالسياط والصلب أما باطرة فدبره إلى فوق ورأسه إلى أسفل والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ليعلم كل مسلم أن هؤلاء الذين يسمونهم النصارى ويزعمون أنهم كانوا حواريين للمسيح عليه السلام كبارة ومتى الشرطي ويوحنا ويعقوب ويهوذا الاخساء لم يكونوا قط مؤمنين فكيف حواريين بل كانوا كذابين مستخفين بالله تعالى إما مقرين بإلاهية المسيح عليه السلام معتقدين لذلك غالين فيه كغلو السبائية وسائر فرق الغالية في علي رضي الله عنه وكقول الخطابية بإلاهية أبي الخطاب وأصحاب الحلاج بإلهية الحلاج وسائر كفار الباطنية عليهم اللعنة من الله والغضب وإما مدسوسين من قبل اليهود كما تزعم اليهود لإفساد دين أتباع المسيح عليه السلام وإضلالهم كانتصاب عبد الله بن سبأ الحميري والمختار بن أبي عبيد وأبي عبد الله العجاني وأبي زكريا الخياط وعلي النجار وعلي بن الفضل الجندي وسائر دعاة القرامطة والمشارقة لإضلال شيعة علي رضي الله عنه فوصلوا من ذلك إلى حيث عرف وسلم الله من ذلك من لم يكن من الشيعة وأما الحواريون الذين أثني عليهم فأولئك أولياء الله حقاً ندين الله عز وجل ولا ندري أسماءهم لأن الله تعالى لم يسمهم لنا إلا إننا نبت ونوقن ونقطع بأن باطرة الكذاب ومتى الشرطي ويوحنا المستخف ويهوذا ويعقوب النذلين ومارقس الفاسق ولوقا الفاجر وبولس الجاهل ما كانوا قط من الحواريين لكن من الطائفة التي قال الله فيها. وكفرت طائفة. وبالله تعالى التوفيق
فصل وفي آخر الباب السادس عشر من إنجيل متى وأعلم يسوع من ذلك الوقت تلاميذه بما ينبغي له أن يفعله من دخول برشلام وحمل العذاب من أكابر أهلها وعلمائهم وقتلهم له وقيامه في الثالث فخلا به باطرة وقال له تعفى عن هذا يا سيدي ولا يصيبك منه شيء وفي الباب السابع عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لتلاميذه سيبلى ابن الإنسان في أيدي الناس ويقتل ويحيا في الثالث يعني نفسه فحزنوا لذلك حزناً شديداً وفي أول الباب الثامن من إنجيل مارقش أن المسيح قال لتلاميذه إن ابن الإنسان يبلى به في أيدي الآدميين فيقتلونه فإذا قتل يقوم في اليوم الثالث وإنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام وفي قرب آخر الباب الثامن من إنجيل لوقا أن المسيح قال للاثني عشر تلميذاً أنا متصعد إلى برشلام ونكمل كل ما نبأت به الأنبياء عن ابن الإنسان ويسيرون به إلى الأجناس يستهزؤن به ويجلدونه ويبصقون فيه وبعد جلدهم إياه يقتلونه ويحيا في اليوم الثالث فلم يفهموا عنه مما ألقي إليهم شيئاً وكان هذا عندهم معقداً لا يفهمونه قال أبو محمد رضي الله عنه في هذه الفصول ثلاث كذبات من طوام الكذب إحداها اتفاق الأناجيل المذكورة كما أوردنا على أن المسيح أخبرهم عن نفسه أنه يقتل وجميع الأناجيل الأربعة متفقة عند ذكرهم لصلبه على أنه مات على الخشبة حتف أنفه ولم يقتل أصلاً إلا أن في بعضها أنه طعنه بعد موته أحد الشرط برمح في جنبه فخرج من الطعنة دم وماء وفي هذا إثبات الكذب على المسيح لاتفاقهم كما أوردنا على أنه أخبرهم بأنه يقتل واتفاقهم كلهم على أنه لم يقتل وهذه سوءة جداً وحاشى لله أن يكذب نبي أو ينذر بباطل هذه علامة الكذابين لا علامة أهل الصدق وثانيها اتفاق الأناجيل المذكورة كما أوردنا على أنه قال ويقوم في الثالث ثم اتفقت الأناجيل كلها على أنه لم يحيى ولا قام إلا في الليلة الثانية فإنه دفن في آخر يوم الجمعة مع دخول ليلة السبت وحسبك أنهم ذكروا أنه لم يحنط استعجالاً لئلا تدخل عليهم ليلة السبت وأنه قام ليلة الأحد قبل الفجر وهذه كذبة فاحشة نسبوها إلى المسيح وحاشى له من مثلها وكذبة ثالثة وهي إخبار متى أنهم فهموا مراده بهذا القول وأنهم حزنوا حزناً شديداً لذلك وأن باطرة قال له تعفي عن هذا يا سيدي ولا يصيبك منه شيء وإخبار مارقس ولوقا أنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام وهذا تكاذب فاحش لا يجوز أن يقع من صادقين فكيف من معصومين فلاح يقيناً عظيم الكذب من الذين وضعوا هذه الأناجيل وأنهم كانوا فساقاً لا خير فيهم وبالله تعالى التوفيق فصل وفي الباب السابع عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لتلاميذه لئن كان لكم إيمان على قدر حبة الخردل لتقولن للجبل ارحل من هنا فيرحل ولا يتعاصى عليكم شيء وقبله متصلاً به أن تلاميذه عجزوا عن برائه قال لتشككم وفي الباب الحادي عشر من إنجيل متى أن المسيح دعا على شجرة تين خضراء فيبست من وقتها فعجب التلاميذ فقال لهم المسيح أمين أقول لكم لئن آمنتم ولم تشكوا ليس تفعلون هذا في التينة وحدها ولكن متى قلتم لهذا الجبل انقلع وانطرح في البحر تم لكم وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لتلاميذه من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي أفعلها أنا وسيفعل أعظم منها قال أبو محمد رضي الله عنه في هذه الفصول ثلاث طوام من الكذب عظيمة لا تخلو التلاميذ المذكورون ثم هؤلاء الأشقياء بعدهم إلى اليوم من أن يكونوا مؤمنين بالمسيح أو غير مؤمنين ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كانوا مؤمنين فقد كذب المسيح فيما وعدهم به في هذه الفصول جهاراً وحاشى له من الكذب وما منهم أحد قط قدر أن تأتمر له ورقة فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر وإن كانوا غير مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا كفار ولا خير في كافر ولا يجوز أن يصدق كافر ولا أن يؤخذ الدين عن كافر ولابد لهم من أن يجيبوا إذا سألناهم في قلوبكم مقدار حبة خردل من إيمان أم لا وتؤمنون بالمسيح أم لا فإن قالوا نعم نحن مؤمنون به والإيمان في قلوبنا قلنا كذب المسيح يقيناً فيما أخبر به من أن من في قلبه مقدار حبة خردل من إيمان يأمر الجبل بأن ينقلع فينقلع والله ما منكم أحد يقدر على تيبيس شجرة بدعائه ولا على قلع جبل من موضعه وإن قالوا ليس في قلوبنا قدر حبة خردل من إيمان ولا نحن مؤمنون به قلنا صدقتم والله حقاً. وشهدوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. صدق الله عز وجل وأنبياؤه وكذب متى وباطرة ويوحنا ومارقش ولوقا وسائر النصارى الكذابون ولقد قلت هذا لبعض علمائهم فقال لي إنما عني بشجرة الخردل التي تعلو على جميع الزرايع حتى يسكن الطير فيها لقلت له لم يقل في الأناجيل مثل شجرة الخردل إنما قال مثل حبة الخردل وقد وصفها المسيح بإقرارهم بأنها أدق الزرايع وأيضاً فإنه ليس إلا مؤمن أو كافر وأما الشاك فإنه متى دخل الإيمان شك بطل وحصل صاحبه في الكفر فكيف ولم يدعنا المسيح بإقرارهم في شك من هذا التأويل الفاسد بل زعموا أنه قال لهم لتشككم لئن كان لكم إيمان قدر حبة الخردل لتقولن للجبل وقال في إنجيل يوحنا كما أوردنا لئن آمنتم ولم تشكوا فإنما أراد بيقين بهذه النصوص التصديق الذي هو خلاف الشك لا غاية العمل الصالح وقال كما أوردنا في إنجيل يوحنا من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي أفعل أنا فعن هذا الإيمان به سألناكم أفي قلوبكم هو أم لا فقولوا ما بدا لكم قال أبو محمد وأما أنا فلو سمعت هذا القول ممن يدعي النبوة لما ترددت في اليقين بأنه كذاب ووالله ما قالها المسيح قط ولا اخترع هذا الكذب إلا أولئك السفلة متى ويوحنا وأمثالهم والعجب كله إقرار متى في الفصل المذكور كما أوردنا أن المسيح قال له ولأصحابه أنهم إنما عجزوا عن إبراء المجنون لشكهم فشهد عليهم بالشك وأنه لو كان لهم إيمان لم يعجزوا عن ذلك فلا يخلو المسيح عليه السلام فيما حكوا عنه من الكذب أن يكون كاذباً أو صادقاً فإن كان كاذباً فهذه صفة سوء والكاذب لا يكون نبياً فكيف إلهاً وإن كان صادقاً فإن الذين أخذوا عنهم دينهم ويسمونهم تلاميذ وأنهم فوق الأنبياء كفار شكاك فكيف يأخذون دينهم عن كفار شكاك لا مخرج لهم من إحداهما ولو لم تكن إلا هذه في أناجيلهم كلها لكفت في إبطالها وإبطال جميع ما هم عليه من دينهم المنتن ثم العجب كله كيف يشهد عليهم بالشك وهم يحكون أنه قد ولاهم خطة إلاهية وولاهم رتبة الربوبية في أن كلما حرموه في الأرض كان حراماً في السموات وكلما حللوه في الأرض كان حلالاً في السموات فكيف يجتمع هذا مع هذا وهل يأتي بهذا التناقض من دماغه سالم أو فيه آفة يسيرة بل هذا والله توليد آفك كاذب واختراع عيار متلاعب ونعوذ بالله عز وجل من الخذلان فصل في قرب آخر الباب الثامن عشر من إنجيل متى أن المسيح قال لتلاميذه إذا اجتمع اثنان منكم على أمر فليس يسألان شيئاً على الأرض إلا أجابهم إليه أبي السماوي وحيث اجتمع اثنان أو ثلاثة على اسمي فأنا متوسطهم قال أبو محمد في هذا الفصل ظريف جداً وكذب لا يمطل ظهوره ولا يخلو أن يكون عني بهذه المخاطبة تلاميذه خاصة أو كل من آمن به وأي الأمرين كان فهو كذب ظاهر وما يشك أحد في أن تلاميذه سألوا أن يجيبهم من دعوه إلى ما دعوه إليه من دينهم وأن يتخلص من فتن من أصحابه فما أعطاهم شيئاً من ذلك الذي سماه أباه السماوي. فإن قيل لم يسألون قط شيئاً من ذلك قلنا هذه طامة أخرى لئن كان هذا فهم غاشون للناس غير مرتدين لصلاحهم بل ساعون في هلاكهم هيهات هذه منزلة ما أعطاها الله تعالى قط أحدا من خلقه صدق الله ورسوله ﷺ إذ أخبرنا أن ربه تعالى قال له. سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.
وأخبرنا عليه السلام أنه دعا أن لا يجعل بأسنا بيننا بعده فلم يجبه الله تعالى إلى ذلك هذا هو الحق الذي لا مزيد فيه والقول الذي صحبه الصدق والحمد لله رب العالمين لم يفخر بما لم يعط ولا أنزل نفسه فوق قدرها ﷺ فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم إن أساء إليك أخوك المؤمن فعاقبه وحدك فيما بينك وبينه فإن سمع منك فقد ربحته وإن لم يسمع فخذ إلى نفسك رجلاً أو رجلين لكيما تثبت كل كلمة بشهادة شاهدين أو ثلاثة فإن لم يسمع فاعلم بخبره الجماعة فإن سمع الجماعة فليكن عندك بمنزلة المجوسي والمستخرج ثم بعده بأسطار يسيرة قال وعند ذلك تداني إليه باطرة وقال يا سيدي فإن أساء إلي أخي أتأمرني أن أغفر له سبعاً فقال له يسوع لست أقول لك سبعاً ولكن سبعين في سبعة قال أبو محمد هذا ضد قوله في الثالثة فليكن عندك بمنزلة المجوسي والمستخرج ولا سبيل إلى الجمع بينهما فصل وفي الباب الموفى عشرين من إنجيل متى إن أم ابني سيذاي أقبلت إليه مع ولديها فحنت ورغبت إليه فقال لها ما تريدين فقالت له أحب أن تقعد ابني هذين أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكك فقال يسوع تجهلين السؤال أيصبران على شرب الكأس التي اشرب فقالا نصبر فقال لهما ستشربان بكأسي وليس إلى تجليسكما عن يميني وشمالي إلا لمن وهب ذلك إلى أبي قال أبو محمد ففي هذا الفصل بيان أنه ليس إليه من الأمر شيء وأنه غير الأب كما يقولون بخلاف دينهم فإذ هو غير الأب وكلاهما إله فهما إلهان اثنان متغايران أحدهما قوي والآخر ضعيف لأنه بإقراره ليس له قدرة على تقريب أحد إلا من وهب له ذلك الذي يسمونه أباً وليت شرعي كيف يجتمع ما ينسبون إليه ههنا من الاعتراف بأنه ليس بيده أن يجلس أحداً عن يمينه ولا عن شماله وإنما هو بيد الله تعالى مع ما ينسبون إليه من أنه قدر على إعطاء مفاتيح السموات والأرض لأنذل من وجد وهو باطرة وأنه يفعل كل ما يفعله الأب وأن الله تعالى قد تبرأ إليه من الحكم وأن الله تعالى ليس يحكم بعد على أحد وسائر تلك الفضائح المهلكة مع تكاذبها وتدافعها وشهادتها بأنها ليست من عند الله ولا من عند نبي أصلاً لكن توليد كذاب كافر ونعوذ بالله تعالى فصل وفي الباب الحادي عشر من إنجيل متى فلما تداني المسيح من برشلام وكان في موضع يقال له تتفيا جوار جبل الزيتون بعث رجلين من تلاميذه وقال لهما امضيا إلى الحصن الذي يقابلكما وستجدان فيه حمارة مربوطة بفلوها فحلا عنهما وأقبلا إلي بهما فإن تعرضكما أحد فقولا إن السيد يريدهما فيدعكما من وقته وكان ذلك ليتم به قول النبي القائل لابنه صهيون سيأتيك ملكك متواضعاً على حمارة وابن أتان فتوجه التلميذان وفعلا كما أمرهما به واقبلا بالحمارة وفلوها وألقوا ثيابهم عليها وأجلسوه من فوقها وفي الباب التاسع من آخر إنجيل مارقش فلما بلغ المسيح تتفيا إلى جبل الزيتون أرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما اذهبا إلى الحصن الذي بحيا لكما فإذا دخلتما ستجدان فلو أمر بوظالم يركبه بعد أحد من الآدميين حلاه واقبلا به إلي فإن قال لكما أحد ما هذا الذي تفعلان فقولا له إن السيد يحتاج إليه فيخليه لكما فانطلقا ووجدا الفلو مربوطاً قبالة رحبة الباب في زقاقين فحلاه فقال لهما بعض الوقوف هنالك ما لكما تحلان الفلو فقالا له كالذي أمرهما يسوع فتركوه لهما وساقا الفلو إلى يسوع فحملوا عليه ثيابهم وركب من فوق قال أبو محمد فهاتان قضيتان كل واحدة منهما تكذب الأخرى متى يقول ركب حمارة ومارقش يقول ركب فلواً والعجب كله من استشهادهم لذلك بقول النبي يأتيك ملكك راكباً على حمارة وابن أتان وما كان المسيح قط ملك برشلام فهذه كذبة أخرى وأظرف شيء استشهادهم لصحة أمره بركوبه حمارة أتراه لم يدخل قط برشلام إنسان على حمارة سواه هذه والله مضحكة من مضاحك السخفاء ولقد أخبرني الحسين بن بقي صاحبنا نور الله وجهه أنه وقف عالماً من علمائهم على هذا الفصل قال فقال إنما هذا رمز والحمارة هي التوراة قال فأضحكني قوله وقلت له فالإنجيل هو الفلو قال فسكت وعلم أنه أتى بما يوجب السخرية منه فصل وفي الباب الثالث عشر من إنجيل متى أن يسوع قال لهم إذا قام الناس لا يتزوجون ولا يتناكحون لكنهم يكونون كأمثال ملائكة الله في السماء وفي الباب السادس عشر من إنجيل متى وأيضاً في الباب الثاني عشر من إنجيل مارقش أن المسيح قال لتلاميذه ليلة أخذه لا شربت بعدها من نسل الزرجون حتى أشربها معكم جديدة في ملكوت الله وفي الباب الرابع عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر أنتم الذين صبرتم معي في جميع مصائبي فإني ألخص لكم الوصية على ما لخصها لي أبي لتطعموا وتشربوا على مائدتي في الملك وتجلسوا على عروش حاكمين على اثني عشر سبطاً من بني إسرائيل قال أبو محمد ففي الفصل الأول أن الناس في الآخرة لا يتناكحون وفي الفصول الثلاثة بعده أن في الجنة أكلاً وشرباً للخبز والخمر على الموائد والنصارى ينكرون كل هذا ولا مؤنة عليهم في تكذيبهم للمسيح مع إقرارهم بعبادتهم له وأنه ربهم لاسيما وفي الفصل الأول أن الناس في الجنة كالملائكة وفي التوراة التي يصدقون بها أن الملائكة أكلت عند لوط وعند إبراهيم الفطاير واللحم واللبن والسمن وإذا كانت الملائكة يأكلون والناس في الجنة مثلهم فالناس في الجنة يأكلون ويشربون بلا شك بموجب التوراة والإنجيل ولا سيما وقد أخبروا أن المسيح بعد أن مات ورجع إلى الدنيا ولقي تلاميذه طلب منهم ما يأكل فأتوه بحوت مشوي فأكل معهم وشرب شراب عسل بعد موته فإذا كان الإله يأكل الحيتان المشوية ويشرب عليها العسل فأي فكرة في شرب الناس وأكلهم في الجنة وإذا كان الله تعالى عندهم اتخذ ولداً من امرأة اصطفاها فأي عجب في اتخاذ الناس النساء في الجنة وهذا هو طبعهم الذي بناهم الله عليه إلا أن في رعونة هؤلاء النوكي لعبرة لمن اعتبر والحمد لله رب العالمين وعجب آخر وهو وعده الاثني عشر تلميذاً بأنهم يقعدون على عروش حاكمين على الاثني عشر سبطاً من بني إسرائيل فوجب ضرورة كون يهوذا الاشكريوطا فيهم ولا يجوز أن يخاطب بهذا أصحابه دونه لأنه قد أوضح أنهم اثنا عشر على اثني عشر سبطاً من بني إسرائيل فوجب ضرورة كونه فيهم وهو الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهماً فلابد من أنه لم يذنب في ذلك وهذا كذب لأنه قد قال في مكان آخر ويل لذلك الإنسان الذي كان أحب إليه لو لم يخلق أو كذب المسيح في هذا الوعد المذكور ولابد من إحداهما فصل وفي الباب الثالث والعشرين من إنجيل متى أن المسيح كاشف علماء بني إسرائيل وقال ما تقولون في المسيح وابن من هو قالوا هو ابن داود فقال لهم كيف يسميه داود بالروح إلاهاً حيث كنت قال الله لالاه اقعد على يميني حتى أجعل من أعدائك كرسياً لقدميك فإن كان داود يدعوه إلاهاً كيف هو ولده فلم يقدر منهم أحد على مراجعته قال ابو محمد هذا هو الحق من قول المسيح عليه السلام ولقد أنكر عليه السلام المنكر حقاً والعجب أن هؤلاء الأنذال المنتمين إلى أتباعه عليه السلام لا يختلفون في الاحتجاج بهذا الفصل المذكور وهو عليه السلام قد أنكر أن يكون المسيح ابن داود وهم يسمونه في الأناجيل كلها بأنه ابن داود فاعجبوا فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لتلاميذه أنتم إخوان ولا تنتسبوا إلى أب على الأرض فإن أباكم السماوي واحد قال أبو محمد في هذا الفصل فضيحتان عظيمتان إحداهما إخباره أن الله تعالى هو أبو التلاميذ فتراهم مثله سواء بسواء فلم خصه النصارى بأن يقولوا أنه ابن الله دون أن يقولوا عن تلاميذه متى ذكروهم أنهم أبناء الله تعالى الله عن هذا الكفر وعن أن يكون أباً أو ابناً والأخرى قوله لهم لا تنتسبوا إلى أب على الأرض والنصارى والأناجيل يطلقون أن شمعون بن يوثا ويعقوب ويوحنا ابنا سيذاي ويهوذا ويعقوب ابنا يوسف فقد أقروا بثباتهم على معصية المسيح إذ نهاهم أن ينتسبوا إلى أب على الأرض وهم أبداً ملازمون مخالفة أمره في ذلك متدينون بعصيانه فصل وفي الباب الخامس عشر من إنجيل متى أن المسيح أنذر تلاميذه بما يكون في آخر الزمان من الزلازل والبلاء وقال لهم فادعوا أن لا يكون هروبكم في شتاء ولا في سبت قال أبو محمد هذا بيان واضح بلزومهم حفظ السبت إلى انقضاء أمرهم وإلى حلول الزلازل بهم وهم على خلاف ذلك هذه أمة لا عقول لهم فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم سيتور مسحاء الكذب وأنبياء الكذب ويطلعون العجائب العظيمة والآيات حتى يغلط من يظن به الصلاح وفي الباب الحادي عشر من إنجيل مارقش سيقوم مسيخون كذابون وأنبياء كذابون ويأتون بالآيات والبدائع ليخدعوا إن أمكن أيضاً إلا المختارين.
قال أبو محمد.
هذا الفصل مع الفصل الأخير الذي في توراة اليهود في السفر الخامس الذي نصه.
إن طلع فيكم نبي وادعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون وكان ما وصفه ثم قال لكم بعد اتبعوا إلهة الأجناس فلا تسمعوا له مع الفصل الذي فيه من التوراة إن السحرة عملوا مثل ما عمل موسى في قلب العصا حية وإحالة الماء دماً والمجيء بالضفادع كاف في إبطال ما أتى به موسى والمسيح عليهما السلام وكل نبي يقرون بنبوته لأنه إذا جاز أن يأتي نبي كاذب بالمعجزات وأمكن أن يكذب النبي الصادق فيما ينذر به وأمكن أن يعمل السحرة مثل شيء من آيات نبي فقد امتزج الحق بالباطل ولم يكن إلى تمييز أحدهما من الآخر طريق أصلاً وهذا إفساد الحقائق وإبطال موجب الحق وتكذيب الحواس وإذا أمكن عند اليهود والنصارى ما ذكرناه مما في توراتهم وأناجيلهم فما الذي يؤمنهم من أن موسى عليه السلام والمسيح وسائر أنبيائهم إنما كانوا سحرة وكاذبين شهدنا بالله شهادة الحق أن هذه الفصول المذكورة من عمل برهمي مكذب بالنبوة جملة أو مناني مكذب بنبوة الأنبياء المذكورين عليهم السلام وأن موسى وعيسى عليهما السلام لم يقولا قط شيئاً مما في هذه الفصول الخبيثة الملعونة وأما نحن فلا نجيز البتة أن يكذب نبي ولا أن يأتي غير نبي بمعجزة ولا ساحر ولا كذاب ولا صالح الصناعة فإن قيل أنكم تقولون أن الدجال يأتي بالمعجزات قلنا حاش لله من هذا وما الدجال إلا صاحب عجائب كأبي العجائب ولا فرق إنما هو محيل يتحيل بحيل معروفة كل من عرفها عمل مثل عمله وقد صح عن النبي ﷺ أن المغيرة بن شعبة سأله هل مع الدجال نهر ماء وخبز ونحو ذلك فقال له رسول الله ﷺ هو أهون على الله من ذلك وصح أيضاً عنه عليه السلام أن الدجال صاحب شبه وبالله التوفيق فصل وفي الباب المذكور أن المسيح قال فمن ذلك اليوم وذلك الوقت لا يدري أحد ما بعده لا الملائكة ولا أحد غير الأب وحده وفي الباب الحادي عشر من إنجيل مارقش أن المسيح قال السموات والأرض تذهب وكلامي لا يبيد أبداً ومن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يدري أحد ما بعده ولا الملائكة في السماء ولا ابن الإنسان ما عدا الأب قال أبو محمد في هذا الفصل يوجب ضرورة أن المسيح هو غير الله تعالى لأنه أخبر أن هاهنا شيأ يعلمه الله تعالى ولا يعلمه هو وإذا كان بنص إنجيلهم الابن لا يعلم متى الساعة والأب يعلم متى هي فبالضرورة القاطعة نعلم أن الابن غير الأب وإذا كان كذلك فهما اثنان متغايران أحدهما يجهل ما لا يجهله الآخر وهذا الشرك الذي عليه يحومون وهذا ما يبطله العقل أن يكون إلهان أحدهما ناقص فصح ضرورة أن من هو غير الله تعالى فهو مخلوق مربوب وبطل هوسهم وتخليطهم والحمد لله رب العالمين أو يكذبوا المسيح في هذا الفصل ولابد فصل وفي الباب السادس والعشرين من إنجيل متى أن المسيح قال لباطرة ليلة أخذ أمين أقول لكم ستجحدني هذه الليلة قبل صرخة الديك ثلاثاً فقال باطرة لا يكون هذا ولو بلغت القتل وفي الباب الثاني عشر من إنجيل مارقش أن المسيح قال لباطرة أمين أقول لك إنك أنت اليوم في هذه الليلة قبل أن يرفع الديك صوته مرتين ستجحدني ثلاثاً فكان باطرة يعيد القول حتى لو أمكنني أن أموت معك لست أجحدك وفي الباب التاسع عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال لباطرة أنا أعلمك أنه لا يصرخ الديك هذه الليلة حتى تجحدني ثلاثاً وأنك لم تعرفني وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال أمين أقول لك لا يصرخ الديك حتى تجحدني ثلاثاً فاتفق متى ولوقا ويوحنا على أنه قال له أنك تجحدني ثلاث مرات قبل أن يصرخ الديك وهكذا أوصف كل واحد منهم عن باطرة أنه هكذا فعل اذمين الغلام والأمة والقوم الذين كانوا يصطلون على النار وقال مارقش أنه قال له قبل أن يصرخ الديك مرتين تجحدني ثلاث مرات وهكذا وصف مارقش عن باطرة وأنه فعل ليلتئذٍ فإن خادمه الكوهن قالت له أنت من أصحاب يسوع فجحد ثم صرخ الديك ثم قالت للخادمين الواقفين هنالك هذا من أولئك فجحد ثانية ثم قال له الواقفون هنالك حقاً أنت منهم فجحد ثالثة أيضاً ثم صرخ الديك ثانية فعلى قول مارقش كذب متى ولوقا ويوحنا لأن الديك صرخ قبل أن يجحده ثلاث مرات أو كذب المسيح في إخباره بذلك إن كان هؤلاء صدقوا لابد من إحداهما وعلى قول متى ولوقا ويوحنا كذب مارقش أيضاً كذلك لأن الديك صرخ قبل أن يجحده ثلاث مرات أو كذب المسيح ولابد من إحداهما والكذب واقع في أحد الخبرين فلا بد ثم طامة أخرى وهي اتفاق متى ومارقش على أن المسيح أخبر باطرة بأنه سيجحده تلك الليلة وأن باطرة رد خبره وقال له لا يكون هذا فلولا أن المسيح كان عند باطرة ممن يكذب في خبره ما كذبه مواجهة مرة بعد مرة أو كفر باطرة إذ كذب ربه أو نبياً لابد من إحداهما فإن كان كفر باطرة فكيف يعطي مفاتيح السموات لمرتد كافر مكذب بالله تعالى أو لنبي من الأنبياء جهاراً أم كيف تولي مرتبة التحريم والتحليل من يكذب الله تعالى أو نبيه أو كيف يؤخذ الدين عمن كذب ربه أو كذب خبر نبي عن الله تعالى جهاراً في آخر ساعة كان فيها معه وختم بذلك عمله ما سمعنا بأوسخ عقولاً من أمة هذه صفة دينهم وكتابهم وأئمتهم ونعوذ بالله من الخذلان وفي الباب الثامن والعشرين من إنجيل متى أن الخشبة التي صلب عليها المسيح أخذ لحملها سخرة سيمون وفي الباب الثامن عشر من إنجيل مارقش أن تلك الخشبة التي صلب عليها يسوع أخذ لحملها سيمون القيرواني والد الإسكندر وورفه وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا أنه سخر لحمل تلك الخشبة شمعون القيرواني وفي الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا أن يسوع نفسه هو الذي حملت عليه الخشبة التي صلب فيها وهذا خلاف ما حكى أصحابه ولقد قررت بعض علمائهم على هذا فقال لي كانت طويلة جداً فحملها هو وشمعون المذكور فقلت له ومن أين لك هذا وأين وجدته وسياق أخبار مؤلفي الإنجيل لا تدل على هذا ولو قلت أنه ممكن أن يسخر كل واحد منها لحملها بعض الطريق لكان أدخل في سياق الخبر فصل وفي الباب الثامن والعشرين من إنجيل متى أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وكان يشتمانه ويتناولانه محركين رؤسهما ويقولان يا من يهدم البيت ويبنيه في ثلاث سلم نفسك إن كنت ابن الله فانزل عن الصلب وفي الباب الثالث عشر من إنجيل مارقش أنه صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله واللذان صلبا معه كانا يستعجزانه وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول إن كنت أنت المسيح فسلم نفسك وسلمنا فأجابه الآخر وكشر عليه وقال أما تخاف الله وأنت في آخر عمرك وفي هذه العقوبة أما نحن فكوفئنا بما استوجبنا وهذا لا ذنب له ثم قال ليسوع يا سيدي اذكرني إذا نلت ملكك فقال له يسوع أمين أقول لك اليوم تكون معي في الجنة قال أبو محمد إحدى القضيتين كذب بلا شك لأن متى ومارقش أخبرا بأن اللصين جميعاً كانا يسبانه ولوقا يخبر بأن أحدهما كان يسبه والآخر كان ينكر على الذي يسبه ويؤمن به والصادق لا يكذب في مثل هذا وليس يمكن هاهنا أن يدعي أن أحد اللصين سبه في وقت وآمن به في آخر لأن سياق خبر لوقا يمنع من ذلك ويخبر أنه أنكر على صاحبه سبه إنكار من لم يساعده قط على ذلك وكلهم متفق على أن كلام اللصين وهم ثلاثتهم مصلوبون على الخشب فوجب ضرورة أن لوقا كذب أو كذب من أخبره أو أن متى كذب وكذب مارقش أو الذي أخبره ولابد فصل وفي آخر إنجيل متى بعد أن ذكر صلب المسيح وإنزاله برغبة يوسف الارمازي العريف ودفنه في قبر جديد محفور في صخرة وغطاه بصخرة عظيمة وفي آخر إنجيل مارقش بعد أن ذكر صلب المسيح وإنزاله برغبة يوسف الأرمازي العريف ودفنه في قبر عشي الجمعة والسبت وفي آخر إنجيل لوقا بعد أن ذكر صلب المسيح وأن يوسف الأرمازي أتى أول الليل فرغب فيه فأجابه بلاطش إلى إنزاله فأنزله وجعله في قبر جديد وفي آخر إنجيل يوحنا بعد أن ذكر صلب المسيح وأن يوسف الأرمازي رغب فيه وأنزله ودفنه في قبر في بستان ثم قال متى وعند عشاء ليلة السبت التي تصبح في يوم الأحد اقبلت مريم المجدلانية ومريم الأخرى لمعاينة القبر فتزلزل بهما الموضع زلزلة عظيمة ثم نزل ملك السيد من السماء وأقبل ورفع الصخرة وقعد عليها وكان منظره كمنظر البرق وثيابه أنصع بياضاً من الثلج فمن خوفه صعق الحرس وصاروا كالأموات فقال الملك للمرأتين لا تخافا قد علمت أنكما أردتما يسوع المصلوب ليس هو هاهنا قد حيى وقد تقدمكم إلى جلجال كما قال فانظرا إلى الموضع الذي جعل فيه السيد وانهضا إلى تلاميذه وقولا لهم أنه قد حيى وفيها ترونه فنهضتا مسرعتين بفرح عظيم وأقبلتا إلى التلاميذ وأخبرتاهم الخبر فتلقاهما يسوع وقال السلام عليكما فوقفتا وترامتا إلى رجليه وسجدتا له فقال لهما يسوع لا تخافا واذهبا أعلما إخواني ليتوجهوا إلى جلجال وفيها يروني فأقبل بعض الحرس إلى المدينة وأعلم قواد القسيسين بما أصابهم فرشوهم بمال عظيم ليقول الحرس إن تلاميذه طرقوهم ليلاً وسرقوه وذهبوا به وهم رقود ففعلوا وانتشر الخبر في اليهود إلى اليوم وتوجه الأحد عشر تلميذاً إلى جلجال إلى الجبل الذي كان دلهم عليه يسوع فلما بصروا به خنعوا له وبعضهم شكوا فيه وقال مارقش فلما خلا يوم السبت اشترت مريم المجدلانية ومريم أم يعقوب وشلوما حنوطاً ليأتين به ويدهنه فأقبلن يوم الأحد بكرة جداً إلى القبور وبلغن هنالك وقد طلعت الشمس وهن يقلن من يحول لا الحجر عن القبر فنظرت فإذا بالحجر قد حول فدخلن في القبر فأبصرن فتتى جالساً عن اليمين متغطياً بثوب أبيض فقال لهن لا تفزعن فإن يسوع الناصري المطلوب قد قام وليس هو هاهنا فانطلقن وقلن لتلاميذه ولباطرة أنه قد حيى وقد تقدمكم إلى ججال وهنالك تلقونه فقام بكرة يوم الأحد وتراءى لمريم المجدلانية فمضت وأعلمت الذين كانوا معه فلم يصدقوها وبعد هذا تظاهر لاثنين منهم وهما مسافران إلى قرية في صفة أخرى فأخبرا سائرهم فلم يصدقوا أيضاً وآخر الأمر بينما الأحد عشر تلميذاً متكئين إذ تظاهر لهم وفتح كفرهم وقسوة قلوبهم وقال لوقا فلما انفجر الصبح يوم الأحد بكرة جداً أقبل النسوة إلى القبر يحملن حنوطاً فوجدن الحجر مقلوعاً عن القبر فدخلن فيه فلم يجدن السيد فيه فتحيرن فوقف إليهن رجلان في ثياب بيض فقالا لهن لا تطلبن حياً بين أموات قد قام ليس هو هاهنا فانصرفن وأعلمن الأحد عشر تلميذاً ومن كان معهم فلم يصدقوهن فقام باطرة مسرعاً إلى القبر فرأى الكفن وحده فعجب وانصرف ثم تراءى المسيح لرجلين منهم كانا ناهضين إلى حصن يقال له أماوس على سبعة أميال ونصف من أورشلم فلم يعرفاه حتى ارتفع عنهما وغاب فانصرفا في الوقت إلى أورشلم ووجد الأحد عشر تلميذاً مجتمعين مع أصحابهم فأخبراهم بالخبر فبينما هم يخوضون في هذا وقف يسوع في وسطهم فقال السلام عليكم أنا هو فلا تخافوا فجزعوا وظنوه شيطاناً فقال لهم لم فزعتم أبصروا قدمي ويدي أنا هو فإن الشيطان ليس له لحم ولا عظام ثم قال أعندكم شيء يؤكل فأتوه بقطعة حوت مشوي وشربة عسل فأكل وبرىء إليهم بالبقية ثم أوصاهم وارتفع عنهم وقال يوحنا ففي يوم الأحد أقبلت مريم صباحاً والظلمات لم تنجل بعد إلى القبر فرأت الصخرة مقلوعة عن القبر فرجعت إلى شمعون باطرة وإلى التلميذ الآخر يعني يوحنا بهذا نفسه وقالت لهما نزع سيدي من القبر فوجدا الأكفان موضوعة ثم رجعوا فوقفت مريم باكية إلى القبر فرأت ملكين منتصبين فقالا لها من تريدين فظنت أنه الحسان فقالت له سيدي إن كنت أنت أخذته فقل لي أين وضعته فقال لها يا مريم فالتفتت وقالت معلمي فقال لها يسوع لا تمسيني لم أصعد بعد إلى أبي اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم قالت فأخبرتهم ثم بينما التلاميذ مجتمعون أقبل يسوع ووقف في وسطهم وقال السلام عليكم وعرض عليهم يديه وجنبه ثم ذكر أن طوما أحد الاثني عشر تلميذاً لم يكن حاضراً فيهم في هذا الظهور فلما أتى وأخبروه فقال لئن لم أبصر في يديه الصاق المسامير ولم أدخل اصبعي في موضع المسامير في جنبه لآمنت فلما كان بعد ثمانية أيام اجتمعوا كلهم والأبواب مغلقة فأقبل يسوع ووقف وسطهم وقال لطوما أدخل اصبعك وأبصر كفي وهات يدك وأدخلها إلى جنبي ولا تكن كافراً بل كن مؤمناً فقال له طوما سيدي وإلهي ثم تراءى عند بحيرة الطبرية لشمعون باطرة وطوما وبطنها لي وابني سيذاي واثنين من التلاميذ سواهم وهم يصيدون في مركب في البحر قال أبو محمد فاعجبوا لهذه القصة وما فيها من الكذب والشنع يقول متى إن مريم ومريم أتتا إلى القبر عشاء ليلة السبت التي تصبح في يوم الأحد فوجدتاه قد قام ويقول مارقش إن مريم ومريم وغيرهما أتا إلى القبر بعد طلوع الشمس من يوم الأحد فوجدته قد قام والظلمة لم تنجل بعد فهذه كذبات منهم في وقت بلوغهن إلى القبر وفيمن جاء إلى القبر أمريم وحدها أم مريم ومريم أخرى معها أم كلتاهما ومعهما نسوة أخر ويقول متى إن مريم ومريم رأتا الملك إذ نزل من السماء ورفع الصخرة بحضرتهما بزلزلة عظيمة وصعق الحرس وقال الملك للمرأتين لا تخافا إنه قد قام ويقول مارقش إن النسوة وجدن الصخرة قد قلعت بعد وأنه وقف إليهن رجلان مبيضان فاخبراهن بقيامه ويقول يوحنا أن مريم وحدها أتت ووجدت الصخرة قد قلعت ولم تر أحداً ورجعت حائرة فأخبرت شمعون ويوحنا حاكي القصة فنهضا معاً إلى القبر فلم يجدا فيه أحداً وانصرفا فالتفتت هي فإذا بالمسيح نفسه واقفاً وسلم عليها وأخبرها بقيامه فهذا كذب آخر في وقت قلع الصخرة وهل وجد عند القبر ملك واحد أو ملكان اثنان أم لم يوجد فيه أحد أصلاً ويقول متى إن المرأتين أتياهم بوصيته فصدقوهما وأنهم نهضوا كلهم إلى جلجال وهنالك اجتمعوا معه ويقول مارقش أنه تراءى لمريم وأخبرتهم ولم يصدقوها ثم تراءى لاثنين فأخبراهم فلم يصدقوهما ثم نزل عليهم كلهم ويقول لوقا إنهم لم يصدقوا النساء وأن باطرة نهض إلى القبر ولم يجد شيئاً ولا رأى أحداً وأنه نزل بينهم بأوراشلم فرأوه حينئذٍ وأكل معهم الحوت المشوي وهذه صفة من لم يقصده إليهم إلا الجوع وطلب الأكل ويقول يوحنا أنه تراءى لعشرة منهم حاشى طوما ثم تراءى لهم ولطوما قال أبو محمد ومثل هذا الاختلاف في قصة واحدة عن مقام واحد كذب لا شك فيه لا يمكن أن يقع من معصومين فصح أنهم كذابون لا يتحرون الصدق فيما حدثوا به وما كتبوه ثم في هذه القصة قول مارقش عن المسيح أنه بعد موته فتح كفر تلاميذه وقسوة قلوبهم فإذا شهد المسيح على تلاميذه بعد رفعه بالكفر وقسوة القلوب فكيف يجوز أخذ الدين عنهم أم كيف يجوز أن يعطي الإله مفاتيح السموات ويولي منزلة التحريم والتحليل كافراً قاسي القلب فكل هذا برهان واضح على أن أناجيلهم كتب مفترات من عمل كذابين كفار ثم في القصة أن مريم والتلاميذ كلهم كانوا يلتزمون بعد المسيح صيانة السبت وتعظيمه وترك العمل فيه وكذلك آخر حمل الحنوط إليه حين دخل يوم الأحد فقد صح يقيناً أن هؤلاء المخاذيل ليسوا على دين المسيح ولا على ما مضى عليه تلاميذه بل على دين آخر فسحقاً لهم وبعداً والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته علينا معشر الإسلام فصل وفي الثامن من إنجيل مارقش أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول المثري في ملكوت الله قال أبو محمد هذا قطع من كلامه بأن كل غني فإنه لا يدخل الجنة أبداً وفي اتباعه أغنياء كثيرة وما رأينا قط أمة أحرص على جمع المال من الدراهم وغير ذلك وادخاره ومنعه دون أن ينتفعوا منه بشيء ولا أن يتصدقوا منه بشيء من الأساقفة والقسيسين والرهبان في كل دير وكل كنيسة في كل بلد وكل وقت فعلى موجب كلام إلاههم أنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فهذا والله حق وأنا على ذلكم من الشاهدين فصل وفي الثامن من إنجيل مارقش أن باطرة قال ليسوع المسيح ها نحن قد خلينا الجميع واتبعناك فأجابه يسوع وقال له أمين أقول لكم ليس من أحد ترك بيتاً أو إخوة وأخوات أو والد ووالدة أو أولاد لأجل الإنجيل إلا ويعطى مائة ضعف مثله الآن في هذا الزمان من البيوت والأخوة والأخوات والأمهات والأولاد والفدادين مع التبعات وفي العالم الكائن الحياة الدائمة قال أبو محمد هذا موعد كاذب مضمون لا يمكن الوفاء به وهبك خيرجون هذا على أنه يعوض هذا من أهل دينه أولاداً وإخوة وأخوات وأمهات كيف الحيلة في وعده من آمن به وترك ماله أن يعوض عن الفدان الذي يتركه مائة فدان وعن البيت مائة بيت الآن عاجلاً في الدنيا سوى ما له في الآخرة وهذا كما ترى فصل وفي الباب الثامن من إنجيل مارقش أن رجلاً قال للمسيح أيها المعلم الصالح فقال له المسيح لم تقول لي صالح الله هو الصالح وحده وفي التاسع من إنجيل يوحنا أن المسيح قال أنا الراعي الصالح فمرة ينكر أن يكون صالحاً وأن لا صالح إلا الله ومرة يقول أنه صالح وكل هذا كذب عليه من توليد هؤلاء الأنذال فصل وفي آخر إنجيل مارقش أن المسيح قال لتلاميذه اذهبوا إلى جميع الدنيا وبشروا جميع الخلائق بالإنجيل فمن آمن يكون سالماً ومن لم يؤمن يعاقب وهذه الآيات تصحب الذين يؤمنون وهي سيماهم على أسمى ينفون الجن ويتكلمون باللغات الجديدة ويقلعون الثعابين وإن شربوا شربة قتالة لم تضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فينقهون قال أبو محمد في هذا الفصل أعجوبتان من الكذب إحداهما قوله بشروا بالإنجيل فدل هذا على إنجيل أتاهم به المسيح وليس هو عندهم الآن وإنما عندهم أناجيل أربعة متغايرة من تأليف أربعة رجال معروفين ليس منها إنجيل لا ألف بعد رفع المسيح عليه السلام بأعوام كثيرة ودهر طويل فصح أن ذلك الإنجيل الذي أخبر المسيح بأنه أتاهم به وأمرهم بالدعاء إليه قد ذهب عنهم لأنهم لا يعرفونه أصلاً هذا ما لا يمكن سواه والفصل الثاني قولهم أنه وعد كل من آمن بدعاء التلاميذ فإنهم يتكلمون بلغات لم يعرفوها وأنهم ينفون الجن عن المجانين وأنهم يضعون أيديهم على المرضى فينقهون وأنهم يقلعون الثعابين وإن شربوا شربة قتالة لا تضرهم قال أبو محمد وهذا وعد ظاهر الكذب جهاراً ما منهم أحد يتكلم بلغة لم يعلمها ولا منهم أحد ينفي جنياً ولا منهم أحد يضع يده على مريض فيبرأ ولا منهم أحد يقلع ثعباناً ولا منهم أحد يسقي السم فلا يؤذيه وهم معترفون بأن يوحنا صاحب الإنجيل قتل بالسم وحاشى لله أن يأتي نبي بمواعيد خاسئة كاذبة فكيف إله فاعلموا أن الأنذال الذين كتبوا هذه الأناجيل كان أسهل شيء عليهم نسبة الكذب إلى المسيح عليه السلام فصل وبعد هذا الفصل متصلاً به والرب لما أن تكلم بهذا قبض إلى السماء وجلس عن يمين الله قال أبو محمد هذا شرك أحمق رب يقبض أن هذا العجب ورب يجلس عن يمين الله هذان ربان وإلهان الواحد أجل من الثاني لأن المقعود عن يمينه أسنى مرتبة من المقعد على اليمين بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان فصل وفي أول إنجيل لوقا أن نفراً قبلنا راموا وصف الأشياء التي كملت فينا كالذي دلنا عليه معشر الذين عاينوا الأمر وكانوا حملة الحديث فرأيت أن أقفو آثارهم من أوله على التجويد وأكتبه لك أيها الكريم لأن تفهم حق الكلام الذي علمته واطلعت عليه وأنت به ماهر هذا يبين أن الأناجيل تواريخ مؤلفة كما ترى بنص كلام لوقا فصل وفي أول إنجيل لوقا الذي هو تاريخه المؤلف في أخبار المسيح قال لوقا كان بعد هردوس والي بلد يهوذا كوهن يدعي زكريا من دولة إيحا وزوجته من بنات هارون تسمى اليشبات ثم ذكر كلاماً فيه مجيىء جبرائيل الملك عليه السلام إلى مريم عليها السلام أم المسيح عليه السلام وأنه قال لها في جملة كلام كثير وقد حبلت اليشبات قرينتك على قدمها وعقرها فأخبر أن اليشبات هارونية وأنها قرينة لمريم فعلى هذا فمريم أيضاً هارونية والنصارى كلهم متفقون على ما في جميع الأناجيل من أن المسيح هو ابن داود من نسل داود عليه السلام وفي مواضع كثيرة منها يورثه الله ملك أبيه داود وأن العمي والمباطين والمرضى والمجانين والجن كانوا يقولون له يا ابن داود فلا ينكر ذلك عليهم ولا يختلف النصارى واليهود في أن المسيح المنتظر هو من ولد داود والمسيح مع هذا كله قد أنكر في الباب الثالث عشر من إنجيل متى كما أوردنا قبل أن يكون المسيح من ولد داود فكيف هذا الاختلاط والتلون ومع هذا كله فلا نرى على ما ذكرنا تنسبه النصارى إلا إلى أنه ولد يوسف النجار الداوودي الذي يزعمون أنه كان زوج مريم وهذه طامة وسوءة لا يدري لها وجه أن ينسبوه إلى رجل ولم يلده وأقل ما في هذا الكذب الذي هو في الدنيا عار وبرهان على الضلال وفي الآخرة نار ونعوذ بالله من الخذلان فصل وفي الباب الثاني من إنجيل لوقا فلما دخل أبو المسيح به البيت ليقربا عنه ما أمرا به أخذه شمعون في يديه وبعد ذلك في الباب المذكور وكان أبواه مختلفين إلى بورشلام كل سنة أيام الفصح فلما بلغ ثنتي عشرة سنة وصعدا إلى بورشلام على حال سنتهما في يوم العيد وهبطا عند انقراضه بقي يسوع في بورشلام وجهل ذلك أبواه وظناه في الطريق مقبلاً فسارا يومهم وهما يطلبانه عند الأقارب والإخوان فلما لم يجداه انصرفا إلى بورشلام طابين له فوجداه في الثالث قاعداً مع العلماء في البيت وهو يسمع منهم ويكاشفهم فكان يعجب منه كل من سمعه ومن يراه من حسن حديثه وحسن مراجعته فقالت له أمه لم أشخصتنا يا بني وقد طلبك أبوك وأنا معه محزونين فقال لهما لم طلبتماني أتجهلان أنه يجب علي ملازمة امرآي فلم يفهما عنه جوابه فانطلق معهما إلى ناصرة وكان بطوع لهما قال أبو محمد كيف يطلق لوقا وهو عندهم أجل من موسى عليه السلام أن يوسف النجار والد المسيح في غير ما موضع ويكرر ذلك كأنه يحدث بحديث معهود أم كيف تقول مريم لابنها طلبك أبوك تعني زوجها بزعمك وكيف يكون أباه ولا أب له وإنما يطلق هذا الإطلاق في الربيب فيمن يعرف أبوه فيقال له أبوك عن ربيبه بمعنى كافله لأنه لا إشكال فيه وأما من لا أب له من بني آدم فإطلاق الأبوة فيه على زوج أمه إشكال وتلبيس وتطريق إلى البلاء أم كيف تبقى مريم العذارء مع زوجها بزعمهم فض الله أفواههم أزيد من ثلاث عشرة سنة كما يبقي الرجل مع امرأته يغقان عليهما باباً واحداً أم كيف يصح مع هذا عند هؤلاء أنه مولود من غير ذكر أين هذا الزور المفتري من النور المقتفي قول الله حقاً في وحيه الناطق إلى رسوله الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حيث قال. فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آيةً للناس ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. إلى قوله. فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً.
قال أبو محمد هذا هو الحق الواضح الذي يصدق بعضه بعضاً لا الكذب المتناقض وهذا الذي لا يمكن سواه لأنه لو كان لها زوج لم ينكر أحد ولادتها ولو لم يقم برهان بكلامه في المهد لما جاز عندنا ولا عند أحد من الناس أنها حملت به من غير ذلك ولكان ذلك دعوى كاذبة لا يجوز أن يصدقها أحد لاسيما مع زعمهم أنها سكنت مع زوجها أزيد من ثلاثة عشر عاماً في بيت واحد يهديان عند ولادته ما يهدي الأبوان من اليهود بحكم التوراة عن ابنيهما وتقول له أمه هذا أبوك وفعل أبوك ثم أطم من هذا إقرارهم بأن له أربعة إخوة ذكور شمعون ويهوذا ويعقوب ويوسف وأخوات ثم لا يذكرون للنجار امرأة غير مريم تكون هؤلاء الأولاد للنجار من تلك المرأة وهذه فضيحة الدهر وقاصمة الظهر ومطلق السنة القائلين أنها أتت من زوج أو من عهر وحاشا لله من ذل تصحح هذا كله أنهم مدسوسون من عند اليهود لإفساد مذاهبهم ونعوذ بالله من الخذلان فصل وفي الباب الرابع من إنجيل لوقا وكانت العامة تشهد له وتعجب لقوله وما كان يوصيهم به وكانت تقول أما هذا ابن يوسف النجار فقال لهم نعم قد علمت أنكم ستقولون لي يا طبيب داو نفسك وافعل في موضعك كما بلغنا أنك فعلته بقفر ناحوم أمين أقول لكم أنه لا يقبل أحد من الأنبياء في موضعه قال أبو محمد في هذا الفصل ثلاث عطايم أحدها قولهم له أما هذا ابن يوسف فقال نعم فهذا تحقيق أنه ولد النجار وحاشى لله من ذلك والثانية اعترافه واتفاقهم على أنه لم يأت بآية بحضرة الجماعة وإنما ذكر أنه أتى بالآيات في القفار والثالثة وهي الحق قوله لهم أنه نبي وهذا الذي أفلت من تبديلهم وأبقاه الله عز وجل حجة عليهم والحمد لله رب العالمين فصل وفي الباب الثاني عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال من قال شيئاً في ابن الإنسان يغفر له ومن سب روح القدس لا يغفر له قال أبو محمد هذا إبطال لقولهم كاف لأن ابن الإنسان عند هؤلاء هو روح القدس نفسه ونص كلام المسيح ها هنا يبين أنهما شيئآن متغايران أحدهما يغفر لمن سبه والآخر لا يغفر لمن سبه وهذا بيان رافع للإشكال جملة فإن كان المسيح هو ابن الإنسان فليس هو روح القدس أصلاً بنص كلامه وإن كان هو روح القدس فليس هو ابن الإنسان كذلك أيضاً ولئن كان ابن الإنسان هو روح القدس فقد كذب المسيح إذ فرق بينهما فجعل أحدهما يغفر لمن سبه والآخر لا يغفر لمن سبه وفي هذا كفاية فصل وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل لوقا فلما بلغوا إلى الموضع الذي يدعي الأجرد صلبوه فيه وصلبوا معه السارقين العاصين عن يمينه وشماله فقال يسوع يا أبتاه اغفر لهم لأنهم يجهلون ما يصنعون ولا يدرون فعلهم قال أبو محمد في هذا الفصل شنعتان عظيمتان على النصارى كافيتان في وساخة دينهم وبيان فساد كل ما هم عليه جهاراً أولها أن نسألهم فنقول لهم المسيح إله عندكم أم لا فمن قولهم نعم فيقال لهم فإلى من دعا ورفع طلبته فإن كان دعا غيره فهو إله يدعو إلهاً آخر وهذا شرك وتغاير بين الآلهة وهم لا يقولون هذا وإن كان دعا نفسه فهذا هوس إنما حكمه أن يقول قد غفرت لكم وهم يصرحون في الأناجيل بأنه يغفر ذنوب من شاء فأين كان عن هذه الصفة إذ دعا إلهاً غيره والثانية أن يقال لهم هل أجيبت دعوته هذه أم لا فإن قالوا لم تجب دعوته قلنا ليس في الخزي أكثر من إله يدعو فلا يستجاب له ولا في النحس فوق هذا وعلى هذا فما بيده من الربوبية إلا كذنب ثور شارد في جدور كما بيد سائر المخلوقين يدعو فيجاب مرة ولا يجاب مرة وإن قالوا بل أجيبت دعوته قلنا لهم فاعلموا أنكم وأسلافكم كلكم في سبكم اليهود الذين صلبوه ظالمون لهم وكيف يستحلون سب قوم قد غفر لهم إلههم وأسقط عنهم الملامة في صلبهم له أما لكم عقول تعرفون بها مقدار ما أنتم عليه من الضلال الذي ليس في العالم أحد على مثله بل كان ضلالة فهي دونه فإن قيل وما أنكرتم من هذا وأنتم تقولون إن الله تعالى دعا الكفار إلى الإيمان منهم إنما أمرهم أمر تعجيز فأخبرونا أنتم من هو المدعو لهم ليغفر لهم فنجيبه أو نعصيه ولا مخلص من هذا فصل وفي آخر إنجيل لوقا أنه بعد صلبه ترآى لرجلين من تلاميذه وهما لا يعرفانه فقال لهما ما هذا الذي تخوضان فيه وتحزنان له فقال أحدهما وهو الذي يسمي كلوباش أنت وحدك غريب بيرشلام إذ تجهل ما كان بها هذه الأيام فقال لهما وما ذلك فقالا له من خبر يسوع الناصري الذي كان نبياً مقتدراً في أفعاله وكلامه عند الله وعند الناس وكيف اجتمع قواد القسيسين على قتله وصلبه إلى آخر كلامهما وأنه قال لهما يا جهال ويا من عجزت عن فهم مقالة الأنبياء قلوبهم أما كان هذا واجباً أن يلقاه المسيح وبعد ذلك يبلغ إلى عظمته قال أبو محمد فهؤلاء أصحابه يقولون أنه كان نبياً عند الله وعند الناس وهو يسمع بزعمهم ولا ينكر ذلك فهلا قالوا فيه هكذا لقد طمس الشيطان أبصار قلوبهم ولوي ألسنتهم عن أن يقولوا ذلك ولا مرة في الدهر بل يكذبونه أشد التكذيب وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل وفي إنجيل متى ومارقش ولوقا أنه قبل أخذه سجد ودعا وقال يا أبي كل شيء عندك ممكن فاعفني من هذه الكأس لكن لا أسأل إرادتي لكن إرادتك زاد لوقا في إنجيله قال فتراى له ملك السيد معزياله فأطال صلاته حتى سال العرق منه وتساقطت نقطه كتساقط نقط الدم إذا انسكب في الأرض وفي إنجيل متى ومارقش أنه صاح بأعلى صوته وهو مصلوب إلهي إلهي لم اسلمتني ثم فاضت نفسه قال أبو محمد فيا للناس أهذه صفة إله وهل يحتاج الإله إلى ملك يعزيه وهل يدعو الإله في أن يصرف عنه كأس المنية وإله يعرق من صعوبة الحال إذا أيقن بالموت وإله يسلمه إله أفي الحمق شيء يفوق هذا فإن قالوا لنا إنما هذا كله خبر عن الطبيعة الناسوتية قلنا لهم أنتم تقولون في كل هذا فعل المسيح وقال المسيح والمسيح عندكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية وعند اليعقوبية منكم طبيعة واحدة وكلكم تقولون أن اللاهوت اتحد بالناسوت فأنتم كذبتم وأنتم طرقتم إلى هذا وأنتم أضفتم كل هذا إلى اللاهوت وإنما كان الحق على أصلكم هذا الملعون أن تقولوا فعل نصف المسيح وقال نصف المسيح فعلى كل حال قد كذبتم وسخفتم وفي هذا كفاية لمن عقل فصل وفي أول إنجيل يوحنا وهو أعظم الأناجيل كفراً وأشدها تناقضاً وأتمها رعونة فأول كلمة فيه في البدء كانت الكلمة والكلمة كانت عند الله والله كان الكلمة بها خلقت الأشياء ومن دونها لم يخلق شيء فالذي خلق فهو حياة فيها قال أبو محمد فهل سمع بأعظم سخفاً وأتم تناقضاً من هذا الكلام كيف تكون الكلمة هي الله وتكون عند الله فالله إذاً كان عند نفسه ثم قوله أن الذي خلق بالكلمة هو حياة فيها فعلى هذا حياة الله مخلوقة فروح القدس على نص كلام هذا الرجل مخلوق لأن روح القدس عند جميعهم هو حياة الله وهذا خلاف قول جميع النصارى لأن الحياة التي في الكلمة مخلوقة بنص كلام يوحنا والله بنص كلام يوحنا هو الكلمة وهذا هدم لملة النصارى من قرب ثم أطم من هذا كله إذ كانت حياة الكلمة مخلوقة والكلمة هي الله فالله حامل لأعراض مخلوقة فيه فاعجبوا ثم اعجبوا وبعد هذا الفصل على ما نورد إن شاء الله تعالى والكلمة كانت بشراً مع قوله الكلمة هي الله فالله بشر على نص كلام هذا النذل يوحنا عليه من الله اللعائن المتواترة فصل وبعد ذلك ذكر المسيح فقال فإنه كان في الدنيا وبه خلقت الدنيا ولم يعرفه أهل الدنيا قال أبو محمد هذا من الحمق المزور كيف يكون في الدنيا وبه خلقت الدنيا لئن كان إلهاً كما يقولون فهو خلق الدنيا ولا يجوز أن تخلق به وإن كان إنما به خلقت الدنيا ولم يخلقها هو فليس هو إلاهاً ولا خالقها وإنما هو آلة من الآلات خلقت الدنيا به وحاشى لله أن يخلق بآلة لكن كما قال في وحيه الناطق إلى رسوله الصادق الذي لا يتناقض كلامه ولا يتعارض اخباره. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. وأين يجتمع قوله ها هنا إن به خلقت الدنيا مع الكذب الذي يصفونه إلى المسيح من أنه قال بزعمهم أنا أخلق وأبي يخلق وإن لم أعمل كما يعمل أبي فلا تصدقوني حاشى لله من أن يقول نبي هذا الكذب وهذا الحمق إذاً كان يكونان إلهين متغايرين اثنين كل واحد منهما غير الآخر وكل واحد منهما يخق كما يخلق الآخر ثم مرة هو إله يخلق ومرة هو آلة يخلق به ألا هذا هو الضلال المبين والخبال المتين فصل وبعد ذلك قال فمن يقبله منهم وآمن باسمه أعطاهم سلطاناً أن يكونوا أولاد الله أولئك المؤمنون به الذين لم يتوالدوا من دم ولا من شهوة اللحم ولا باءة رجل لكن توالدوا من الله فالتحمت الكلمة والكلمة كانت بشراً وسكنت فينا ورأينا عظمتها كعظمة ولد الله قال أبو محمد وفي هذا الفصل من الكفر ما لو انهدمت الجبال منه لكان غير نكير نسأل الله العافية أيها الناس فتأملوا قول هذا النذل أن المؤمنين بالمسيح هم أولاد الله فالنصارى إذاً كلهم أولاد الله فأي منزلة للمسيح عندهم إذ هو ولد الله وهم أولاد الله فاعجبوا لقول هذا المستخف المستهزىء بالسفلة الذين قلدوا دينهم مثله إن المؤمنين بالمسيح لم يتوالدوا من دم ولا من شهوة اللحم ولا باءة الرجل لكن توالدوا من الله هكذا هم هكذا فكيف تولد يوحنا من سيذاي وامرأته الأحياء ما هذا إلا من عظيم المجاهرة بالباطل والكذب فإن قالوا هذا مجاز قلنا مجاز في ماذا بل هو الكذب البحت البارد والحمق وهذا نفسه قلتم عن المسيح فما الفرق بين القولين ولعل ذلك أيضاً مجاز كما هو مجاز ما رأينا قط أحمق من هؤلاء ولا أوقح من خدودهم ثم اعجبوا لقوله فالتحمت الكلمة وسكنت فينا فكيف تصير الكلمة لحماً وقد قال إنها هي الله فالله إذاً صار لحماً ودماً وسكن في أولئك الأقذار حسبنا الله ونعم الوكيل فصل ثم قال إثر هذا إن الله لم يره أحد قط ما عدا ما وصف عنه الولد الذي هو في حجر أبيه قال أبو محمد هذا عجب آخر قد قال آنفاً أن الكلمة هي الله وأنها التحمت وصار لحماً وسكنت فيهم فالله عز وجل على قولهم صار لحماً وسكن فيهم فكيف لم يره أحد ثم قوله إلا ما وصف عنه الولد الفرد الذي هو في حجر أبيه فوجب من هذا أن الولد هو غير الأب لأن من المحال الممتنع أن يكون الله في حجر نفسه فصح ضرورة أن الابن عندهم على نصوص الأناجيل هو غير الأب وهم لا يثبتون على هذا بل مرة هو والأب عندهم شيء واحد وكل هذا منصوص في أناجيلهم وكل قضية منها تكذب الأخرى فكلها كذب بلا شك ونعوذ بالله من الضلال فصل وفي الباب الأول من إنجيل يوحنا إذ ذكر شهادة يحيى بن زكريا إذ بعث إليه اليهود من برشلام الكهنة واللاونيين وكاشفوه عن نفسه فأقر ولم يجحد وقال لهم لست أنا المسيح قالوا أيراك الياس قال لا قالوا فأنت نبي قال لا قال أبو محمد كيف يكون هذا مع قول المسيح في إنجيل متى ومارقش كما أوردنا قبل أن كل نبوة وكل كتاب فمنتهاها إلى يحيى وقوله فيه أنه أكثر من نبي فمرة هو نبي وانتهت إليه كل نبوة ومرة هو أكثر من نبي ومرة يقول هو عن نفسه أنه ليس نبياً فلا بد ضرورة من الكذب في إحدى هذه الأقوال وحاشى لله أن يكذب المسيح ويحيى عليهما السلام لكن كذب والله النذلان متى الشرطي ويوحنا العيار فصل وبعده في الباب نفسه قال ويوماً آخر رأى يحيى المسيح مقبلاً إليه فقال هذا صار خروف الله قال أبو محمد هذه طامة أخرى بينما كان كلمة الله وابن الله وإلهاً يخلق صار خروف الله وحاشى لله أن يضاف إليه خروف إلا على سبيل الخلق والملك إنما يضاف الخروف إلى من يتخذه للأكل أو الذبح أو لمن يربيه للعجلة أو لصبي يلعب به ويصبغه بالحنا وتعالى الله عز وجل عن كل هذا فصح أنها من عمل عيار مستخف ونعوذ بالله من الضلال فصل وبعده بيسير في الباب نفسه أن يحيى بن زكريا قال عن عيسى شهدت بأن هذا سليل الله قال أبو محمد شهدت أنا بنفسي وعقلي وجسدي بشهادة الله التامة أن هذه كذبة كذبها اللعين يوحنا على رسول الله ﷺ وابن رسوله يحيى بن زكريا وأن الله تعالى وجل عن أن يكون له سليل وأعجب شيء نسبتهم إلى يحيى عليه السلام أنه قال في المسيح هذا خروف الله هذا سليل الله وإنما الخروف سليل النعجة والكبش اللهم العن هؤلاء الأنتان فما سمعنا بأعظم استخفافاً بالله تعالى وبرسله عليهم السلام منهم فصل وفي الباب الثالث من إنجيل يوحنا أن يحيى عليه السلام قال عن المسيح قد رضي الأب عن الولد وبرىء إليه بجميع الأشياء وفي الباب الخامس من إنجيل يوحنا أيضاً ولهذا كانت اليهود تريد قتله لأنه ليس كان يفسخ عليهم سنة السبت فقط لكنه كان يدعي الله أباً ويسوي نفسه به وبعده بيسير أن المسيح قال كما يحيي الموتى ويقيمهم كذلك يحيي الابن من وافقه وما يحكم الأب على أحد لأنه يرد الحكم إلى سليله قال أبو محمد هذه الطامة أنست كل طامة سلفت ولا حول ولا قوة إلا بالله كيف ينطلق لسان أحد بهذا الكفر الفاحش الفظيع من أن الله تعالى قد اعتزل الحكم فلا يحكم على أحد لأنه برىء بالحكم وبجميع الأشياء إلى ولده حاشى لله من هذا إنما عهدنا هذا من فعل الملوك إذا شاخوا وضعفوا وأرادوا الانفراد لراحاتهم ولذاتهم وترتيب الأمر لأولادهم لئلا ينازعهم الأمر بعدهم غيرهم فحينئذ يسلمون الأمر إليهم في الظاهر وأما في الباطن فلا هذا كفر ما قدرنا أحداً ينطلق به لسانه حتى سمعناه من قبل هذا الكافر يوحنا لعنه الله والحمد لله على عظيم نعمته علينا كثيراً فصل وبعده بيسير في الباب الخامس من إنجيل يوحنا أن المسيح قال فكما احتوى الأب الحياة في ذاته كذلك ملك ولده الاحتواء على الحياة في ذاته وأعطاه سلطاناً وملكه الحكومة والسلطان والحياة كما هي للأب لأنه ابن الإنسان قال أبو محمد فهل سمع قط بأسخف من هذه المقالة إذ أخبر أن من أجل أن المسيح هو ابن الإنسان ساواه الله بنفسه وهذا كله يوجب أنه غير الله ولا بد لأن المعطي المملك هو غير المعطي المملك بلا شك فصل وبعده بيسير في الباب نفسه أن المسيح قال ولا أقوى أن أفعل من ذاتي شيئاً لكن أحكم بما اسمع وحكمي عدل لأني لست أنفذ إرادتي إلا إرادة أبي الذي بعثني فإن كنت أشهد لنفسي فإن شهادتي غير مقبولة ولكن غيري يشهد لي وفي الباب السادس من إنجيل يوحنا أيضاً أن المسيح قال إنما نزلت من السماء لأتم إرادة أبي الذي بعثني لا إرادتي وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا أنه قال المسيح ليس علمي لي لكن للذي بعثني وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا أيضاً أن المسيح قال لهم لو أحببتموني لفرحتم بمسيري إلى الأب لأن الأب أكبر مني قال أبو محمد فهل في العبودية والتذلل بالحق لله تعالى أكثر من هذا وكيف يجتمع هذا الكلام مع الذي قبله بأسطار من أنه مساو لله وأن الله لا يحكم بعد على أحد لكن يبرأ بالحكم كله إلى ولده أما في هذه المناقضات السخيفة عبرة لمن اعتبر ثم عجب آخر قوله ها هنا إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة ثم قال في آخر الباب السابع من إنجيل يوحنا إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق فاعجبوا لهذا الاختلاط وهكذا ذكر في الباب السادس من إنجيل يوحنا أن جماعة من تلاميذه لما سمعوا هذه الأقوال المختلطة ارتدوا وفارقوه كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى فصل وفي الباب السادس من إنجيل يوحنا أنه لما أطعم الخمسة آلاف إنسان من خمس خبز وحوتين وفضل من شبعهم اثنتا عشرة سلة من خبز قال الجماعة هذا النبي حقاً فيا للعجب هلا قالوا فيه مثل هذا القول ولو مرة واحدة فصل ثم ذكر السادس المذكور أنه أتى بكلام كثير لا يعقل من جملته أنه قال لهم أمين أقول لكم لئن لم تأكلوا لحم ابن الإنسان وتشربوا دمه لن تنالوا الحياة الدائمة فيكم فمن أكل لحمي وشرب دمي ينال الحياة الدائمة وأنا أقيمه يوم القيامة فلحمي هو طعام صادق ودمي شراب صادق فمن أكل لحمي وشرب دمي كان في وكنت فيه ثم ذكر يوحنا أنه قال جماعة من التلاميذ هذا كلام شاق ومن أجل ذلك ارتد جماعة من التلاميذ وذهبوا عنه قال أبو محمد وهذا الكلام وسواس صحيح لا يقوله إلا مختلط وقد أعاذ الله نبيه منه فصل وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا أن إخوة يسوع قالوا اذهب إلى بلد يهوذا واخرج من ها هنا لتعاين تلاميذك عجايبك التي تطلع فليس يختفي أحد بفعل يريد أن يطلع عليه فإذا كنت تريد هذا فاطلع علي نفسك أهل الدنيا وكانوا إخوته لا يؤمنون قال أبو محمد ففي هذا أنه كان يختفي بمعجزاته كما ترى فصل وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا أنه أتى إلى المسيح بامرأة قد زنت فلم يوجب عليها شياءً وأطلقها قال أبو محمد وهم على خلاف هذا فقد زوروا المسيح وجوروه أو فليشهدوا على أنفسهم بالجور والظلم فصل وفي آخر الباب السابع من إنجيل يوحنا أن المسيح قال أنا لا أحكم على أحد وإن حكمت فحكمي عدل لأني لست وحيداً ولكني أنا وأبي الذي بعثني وقيل في توراتكم أن شهادة رجلين مقبولة فإني أؤدي الشهادة عن نفسي ويشهد لي الذي بعثني قال أبو محمد ليت شعري كيف يجتمع هذا الفصل مع الذي أوردنا في الباب الثالث من إنجيل يوحنا أيضاً من أن الله تعالى لا يحكم بعد على أحد لأنه قد براء بالحكم كله إلى ولده المسيح فصل وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لهم أنا رجل أديت إليكم الحق الذي سمعته عن الله فهذا إقراره بأنه رجل يؤدي ما سمع فقط مع استشهادهم في الباب الثاني عشر من إنجيل متى بقول شعيا النبي في المسيح من أن الله تعالى قال فيه هذا غلامي المصطفى وحبيبي اذي تخيرته فصح أنه نبي من الأنبياء وعبد الله فصل وفي الباب التاسع من إنجيل يوحنا أن اليهود قالوا للمسيح لسنا نرجمك لعمل صالح إلا للشتيمة ولا دعائك الربوبية وأنت إنسان فقال لهم المسيح أما قد كتب في كتابكم الزبور حيث يقول أما قلتم أنتم آلهة وبنو العلي كلكم فإن كان سمى الله الذي كلمهم آلهة ولا سبيل إلى تحريف الكتاب وتبديله فلم تقولون فيمن بارك الله عليه وبعثه إلى الدنيا أنه شتم إذا قلت أني ابن الله إن كنت لا أفعل أفعال أبي فلا تصدقوني إلى قوله لتعلموا أني في الأب والأب في وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا أن بلش الحواري قال للمسيح يا سيدنا أرنا الأب ويكفينا فقال له المسيح طول هذا الزمان كنت معكم ولم تعرفوني يا بلش من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت أرنا الأب أليس تؤمن أني أنا في الأب وأن الأب هو في فكيف هذا مع قول يوحنا الذي ذكرنا في أول إنجيله أن الأب لم يره أحد قط فصل وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا المذكور أن المسيح قال لتلاميذه أنا في أبي وأنتم في وأنا فيكم قال أبو محمد إذا كان هو في الأب والأب فيه وهو في التلاميذ والتلاميذ فيه فالأب في التلاميذ والتلاميذ في الأب ضرورة فأي مزية له عليهم وهل هو وهم إلا سواء في كونه وكونهم في الله وكون الله فيهم وفيه ثم هذا الكلام لا يعقل ولا يفهم منه إلا الاستخفاف والكفر فقط لأنه إن كان فيهم بذاته فقد صاروا له مكاناً وصار تعالى محدوداً وهذه صفة المحدث وإن كان فيهم بتدبيره فهكذا يدبر في كل حي وميت وكل جماد وكل عرض ولا فرق ولا فضيلة في هذا أصلاً فصل وفي الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لهم لست أسميكم بعد عبيد الآن العبد لا يدري ما يصنع سيده قد سميتكم إخواناً وفي آخر الباب المذكور أن المسيح قال أنا من الله خرجت ومن الأب انبثقت ففي أحد هذين الفصلين أن التلاميذ قد أعتقوا من عبودية الباري وأنهم إخوانه وهو خرج من الله ومنه انبثق فيهم كذلك أيضاً فأي مزية له عليهم مع سخف هذا الكلام وأنه لا يدري لهذا الانبثاق معنى أصلاً والانبثاق لا يكون إلا من الأجسام ضرورة فصل وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا في أوله أن المسيح قال رافعاً عينيه إلى السماء يا أبتاه قد آن الوقت فشرف ولدك لكيما يشرفك ولدك وبعده بيسير أن المسيح قال لله أنا شرفتك على الأرض قال أبو محمد هذه مصيبة الدهر لم يقنعوا للمسيح بنبوة الله حتى وصفوه بمساواته لله تعالى ثم لم يقنعوا بمساواته لله تعالى حتى قالوا إن الله تعالى قد انعزل له عن الحكم وليس يحكم على أحد وأنه قد برىء بالملك والحكم كله إلى المسيح ثم لم يقنعوا له بالعزلة والخمول حتى جعلوا المسيح يشرف الله تعالى يا للناس هل سمعتم بأعظم من هذا الكفر والله والله قطعاً ما قال هذا الكلام قط مؤمن بالله أصلاً وما كانوا إلا دهرية مستخفين رقعاء فعليهم أضعاف كل لعنة لعنها الله تعالى من سواهم من الكفرة قال أبو محمد وفي إنجيل يوحنا أن المسيح قال أنا أميت نفسي وأنا أحييها فليت شعري كيف يمكن أن يحيي نفسه وهو ميت قال أبو محمد فهذه سبعون فصلاً في أناجيلهم من كذب بحت ومناقضة لا حيلة فيها ومنها فصول يجمع الفصل منها ثلاث كذبات فاقل على قلة مقدار أناجيلهم وجملة أمرهم في المسيح عليه السلام أنه مرة بنص أناجيلهم ابن الله ومرة هو ابن يوسف وابن داود وابن الإنسان ومرة هو آلة يخلق ويرزق ومرة هو خروف الله ومرة هو في الله والله فيه ومرة هو في تلاميذه وتلاميذه فيه ومرة هو علم الله وقدرته ومرة لا يحكم على أحد ولا ينفذ إرادته ومرة هو نبي وغلام الله ومرة أسلمه الله إلى أعدائه ومرة قد انعزل الله له عن الملك وتولاه هو وصار يشرف الله تعالى ويعطي مفاتيح السموات لباطرة ويولي أصحابه خطة التحريم والتحليل في السموات والأرض ومرة يجوع ويطلب ما يأكل ويعطش ويشرب ويعرق من الخوف ويلعن الشجرة إذا لم يجد فيها تيناً يأكله ويفشل فيركب حماره ويؤخذ ويلطم وجهه ويضرب رأسه بالقصبة ويزق في وجهه ويضرب ظهره بالسياط ويميته الشرط ويتهكمون به ويسقي الخل في الحنظل ويصلب بين سارقين ويسمر يداه ومات في الساعة ودفن ثم يحيى بعد الموت ولم يكن له هم إذ حيى بعد الموت واجتمع بأصحابه إلا طلب ما يأكل فأطعموه الخبز والحوت المشوي وسقوه العسل ثم انطلق إلى شغله هذا كله نص أناجيلهم وهم قد اقتصروا في دينهم من هذا كله على أنه آلة معبود فقط وهم ينفون من إله مع الله وأناجيلهم وأماناتهم توجب أن المسيح آلة آخر غير الله بل يقعد عن يمين الله وأنه أكبر منه وهو يخلق كما يخلق ويحيى كما يحيى الله والضرورة توجب أنهم قائلون
ذكر بعض ما في كتبهم غير الأناجيل من الكذب والكفر والهوس
قال أبو محمد قال يوحنا بن سيذاي في إحدى رسائله الثلاث يا أحباي نحن الآن أولاد الله ولم يظهر بعد ما نحن كائنون وقد نعلم أنه إذا ظهر سيكون أمثالاً له لأننا نراه كما هو قال أبو محمد أفي الكفر أعظم من كفر هذا الكذاب أنهم أولاد الله وأنهم سيكونون مثل الله إذا ظهر وقال هذا اللعين في كتاب الوحي والإعلان أنه رأى الله عز وجل شيخاً أبيض الرأس واللحية ورجلاه من لاطون والمسيح يقرأ بين يديه في كتاب من ذهب والملائكة يقولون هذا خروف الرب والأسواق قائمة بين يديه القمح كذا وكذا قفيزاً بدينار والخمر كذا وكذا قسطاً بدينار والزيت كذا وكذا قسطاً بدينار فهل هذا إلا هزل وعيارة وتماجن وتطايب وقال شمعون في إحدى رسائله يومئذ يأتي الرب كمجيء اللص فلعمري لقد شبه ربه تشبيهاً هو أولى به ولا مؤنة على هذين الكلبين وعلى يهوذا ويعقوب اللعينين في رسائلهم الفارغة من كل خير الباردة المملوءة من كل كفر وهوس أن يقولوا قال الله والد ربنا المسيح وفعل الله والد سيدنا المسيح كأنهم والله إنما يخبرون عن نسب من الأنساب وولادة من الولادات وقال بولس اللعين في إحدى رسائله وهي التي إلى أهل غلا ربه في الباب السادس نشهد لكل إنسان يختن أنه يلزمه أن يحفظ شرائع التوراة كلها وقال أيضاً قبل ذلك إن اختتنتم فإن المسيح لا ينفعكم فاعجبوا لهذا واعلموا أنه قد ألزمهم دينين أما من كان مختوناً فإن شرايع التوراة كلها تلزمه ولا ينفعه المسيح وأما من كان غير مختون فالمسيح ينفعه ولا يلزمه شرايع التوراة وهو وسائر التلاميذ كانوا بإجماع من النصارى مختونين كلهم فوجب أن المسيح لا ينفعهم وأن شرائع اليهود كلها لهم لازمة وأكثر من بين أظهر المسلمين منهم اليوم مختونون وإن كان بولس صادقاً فإن المسيح لا ينفعهم وأن شرائع التوراة كلهم لهم لازمة وإن كان بولس كاذباً في ذلك فكيف يأخذون دينهم عن الكذاب ولابد من إحداهما وقال أيضاً في إحدى رسائله أن يوحنا بن سيذاي ويعقوب بن يوسف النجار وباطرة أمروه أن يكون هو يدعو إلى ترك الختان ويكونون هم يدعون إلى الختان قال أبو محمد هذا غير طريق التحقيق في الدعاء إلى الدين وإنما هي دعوة حيلة وإضلال مينية لا حقيقة لها وقال بولس إن يعقوب ابن يوسف النجار كان مرائياً يتحفظ من مداخلة الأجناس بحضرة اليهود وأن بولس واجهه بذلك في أنطاكية وعنفه على ذلك أفيجوز أخذ الدين عن مراء مدلس وقال هذا اللعين بولس أيضاً في إحدى رسائله أن يسوع بينما كان في صورة الله لم يغتنم أن يكون مساوياً لله بل أذل نفسه ولبس صورة عبد قال أبو محمد فهل سمع قط بأوحش من هذا الكفر وأحمق من هذا الكلام أو أسخف من هذا الاختيار وهل يتذلل الإنسان ويحمل كل بلاء في الدنيا إلا ليصل إلى رضى الله تعالى فقط فليت شعري هل بعد الوصول إلى مساواة الله تعالى عند هؤلاء الأقذار منزلت تبتغي فيرفضها المسيح لينال أعلى منها اللهم قد ذكرنا تلك المنزلة وهي التي وصفها يوحنا اللعين في إنجيله من أن الله تعالى عن كفرهم اعتزل عن الملك والحكم وولاهما المسيح وتبرأ إليه بكل شيء ثم إن امسيح شرفه الله تعالى عن ذلك اللهم العن عقولاً يجوز فيها هذا الحمق وقال هذا النذل في بعض رسائله إني كنت أتمنى أن أكون محروماً من المسيح قال أبو محمد ليت شعري من ضغطه وما المانع له من أن يكفر بالمسيح فيبلغ مناه ويصير محروماً منه ووالله إنه لمحروم منه بلا شك وقال هذا النذل بولس أيضاً في بعض رسائله الخسيسة اليهود يطلبون الآيات واليونانيون يطلبون الحكمة ونحن نشرع أن المسيح قد صلب وهذا القول عند اليهود فتنة وعند الأجناس جهل ونقص وعند المختنين من اليهود واليونانيين أن المسيح علم الله وقدرته لأن ما كان جهلاً عند الله هو أحكم ما يكون عند الناس وما هو ضعيف عند الله هو أقوى ما يكون عند الناس قال أبو محمد فهل في بيان قحة هذا النذل وسخريته لمن اتبعه وتحقيق ما تدعيه اليهود من أن أسلافهم دسوا هذا الرذل بولس لإضلال أتباع المسيح عليه السلام أكثر من هذا القول في إبطاله الآيات والحكم وقوله إن أحكم ما يكون عند الناس هو الجهل عند الله فمحصول هذا الكلام اتركوا العقل وموجبه واطلبوا الحمق وتدينوا به نعوذ بالله مما ابتلاهم به وقال بولس أيضاً في بعض رسائله إنه لا تبقى دعوة كاذبة في الدين أكثر من ثلاثين سنة قال أبو محمد هو عندهم لعنهم الله أصدق من موسى بن عمران عليه السلام فإن كان صادقاً فما يحتاج معهم إلى برهان في صحة دين الإسلام ونبوة محمد ﷺ سوى هذا فإن لهذه الدعوى أربعماية عام ونيفاً وخمسين عاماً ظاهرة والحمد لله رب العالمين فيلزمهم أن يرجعوا إلى الحق أو يكذبون بولس بشيرهم وقال بعض من يعظمونه من أسلافهم وهو يوحنا فم الذهب بطريارك القسطنطينية في كتاب له معروف عندهم أن الشجرة التي أكل منها آدم وبسببها أخرج من الجنة كانت شجرة تين وأن الله تعالى أنزل تلك الشجرة بعينها إلى الأرض وهي التي دعا المسيح عليها فيبست إذ طلب فيها تيناً يأكله فلم يجد وهي نفسها الخشبة التي صلب عليها قال وبرهان ذلك أنك لا تجد غاراً إلا وعلى فمه شجرة تين نابتة فاعجبوا لهذا الهزل والعيارة والمجون والبرهان البديع واعلموا أنهم بأجمعهم متفقون على أن يصوروا في كنائسهم صورة يقولون هي صورة الباري عز وجل وعلا وأخرى صورة المسيح وأخرى صورة مريم وصورة باطرة وصورة بولس والصليب وصورة جبرائيل وميكائيل وصورة إسرافيل ثم يسجدون للصور سجود عبادة ويصومون لها تديناً وهذا هو عبادة الأوثان بلا شك والشرك المحض وهم ينكرون عبادة الأوثان ثم يعبدونها علانةيو حجتهم في هذا حجة عبادة نفساً وهي أنهم يتقربون بذلك إلى أصحاب تلك الصور لا إلى الصور بأعيانها واعلموا أنهم لم يزالوا بعد المسيح بأزيد من ماية عام يصومون في شهر كانون الآخر إثر عيد الحجيج أربعين يوماً متصلة ثم يفطرون ثم يعيدون الفصح مع اليهود اقتداء بالمسيح إلى أن أبطل ذلك عليهم خمسة من البطاركة أجمعوا على ذلك ونقلوا صيامهم وفصحهم إلى ما هم عليه اليوم فكيف ترون هذا الدين ولعب أهله به وحكمهم بأن ما مضي عليه المسيح والحواريون ضلال وكفر ولا يختلفون أصلاً في أن شرائعهم كلها إنما هي من عمل أساقفتهم وملوكهم علانية فهل تطيب نفس من به مسكة عقل على أن يبقى ساعة على دين هذه صفته فكيف أن يلقى الله تعالى على دين يقر بلسانه ويعلم بقلبه أنه ليس من عند الله تعالى ولا مما أتى به نبي ونعوذ بالله من الخذلان ومن عظيم هوسهم قولهم كلهم أن المسيح أتى ليأخذ بجراحته آلامنا وبكلومه ذنوبنا وهذا كلام في غاية السخف ليت شعري أي ألم أخذ بجراحته أم كيف تؤخذ ذنوب الناس بكلوم المسيح ما نراهم إلا يألمون ويذنبون كما يألم غيرهم ولا فرق ومن فضائحهم دعواهم أن هلاني والدة قسطنطين أول من تنصر من ملوك الروم وذلك بعد أزيد من ثلثماية عام من رفع المسيح وجدت الخشبة التي صلب فيها المسيح والشوك الذي جعل على رأسه والدم الذي طار من جنبه والمسامير التي ضربت في يده فليت شعري أين وجدوا هذا السخام كله وأهل ذلك الدين كله مطرودون مقتولون حيث وجدوا المدينة خالية أزيد من مائتي عام لا أنيس بها ثم من لهم بأنها تلك وأين يبقى أثر الدم ومسامير وشوك وخشبة تلك المدة العظيمة في البلاد الخالية المقفرة ولاشك في أنه إذ صلب كما يقولون كان أصحابه مختفين وأعداؤه لا يلتفتون إلى أمره أيكون في السخف أعظم من هذا وما عقولهم إلا كعقول من يصدق بالعنقاء وبكل ما لا يمكن واعلموا أن كل ما يدعونه لباطرة ويوحنا ومارقش وبولس من المعجزات فإنها أكذوبات موضوعة لأن هؤلاء الأربعة لم يكونوا من رفع المسيح عليه السلام ومذ تنصر بولس إلا مطلوبين مشردين مضروبين كالزنادقة مستترين وقد ذكر بولس عن نفسه أن اليهود ضربوه خمس مرات بالقضبان كل مرة تسعاً وثلاثين جلدة وأنه رجم بالحجارة في جمع عظيم وتدلى من سور دمشق في قفة خوف القتل ومع ذلك تظاهروا بدين اليهود إلى أن صلبوا وقتلوا إلى لعنة الله ولا يجوز أن تصح معجزة إلا بنقل كافة عن مثلها ممن شاهد ذلك ظاهراً ولكن دعوى النصارى ذلك لمن ذكرنا ولغيرهم من أسلافهم معجزة كدعوى المنانية لماني سواء بسواء فإنه لم يزل مستتراً إلا شهوراً يسيرة إذ اختدعه بهرام بن بهرام الملك حتى ظفر وبأصحابه فقتلهم كلهم وكدعوى اليهود لأحبارهم السالفين ولرؤس السبت المعجزات بالصناعات وكدعوى أصحاب الحلاج للحلاج وكدعوى طوائف من المسلمين مثل ذلك من المعجزات لشيبان الراعي ولإبراهيم بن أدهم ولأبي مسلم الخولاني ولعبد الله بن المبارك رحمة الله عليهم وعلى غيرهم من الصالحين وكل ذلك كذب وتوليد من لا خير فيه وإحالة على أشياء مغيبة لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد وكل طائفة ممن ذكرنا تعارض دعواها بدعوى سائر الطوائف ولا سبيل إلى الفرق بين شيء من هذه الدعاوي وقد قلنا لا يمكن البتة وجود معجزة إلا لنبي فقط ثم لا تصح إلا بنقل يقطع العذر ويوجب العلم للكافر والمؤمن إلا من كابر حسه وغالط نفسه وقال هذا سحر فقط وكذلك ما اغتر به كثير من جهالهم مما رأوا من عظم اجتهاد رهبانهم أصحاب الصوامع والديارات والمطوس عليهم أبواب البيوت فليعلموا أنه ليس عندهم من الاجتهاد في العبادة إلا جزءٌ من أجزاء كثيرة مما عند المنانية وشدة اجتهادهم والذي عند الصابئين من ذلك أعظم فإنه يبلغ الأمر بهم إلى أن يخصي الواحد نفسه ويسمل عيني نفسه اجتهاداً في العبادة والذي عند الهندو أكثر من هذا كله فإنهم لا يزالون يحرقون أنفسهم في النار تقرباً إلى البد ولا يزالون يرمون أنفسهم من أعالي الجبال كذلك فأين اجتهادٍ من اجتهاد وعباد الهند لا يمشون إلا عراة ولا يلتبسون من الدنيا بشيء أصلاً فأين هذا من هذا لو عقلوا ولم ير قط أشد جريمة من جاهل مقلد لاسيما إذا اتفق أن يكون سوداوياً ضعيفاً وإن شئت فتأمل أساقفة النصارى وقسيسهم وجتالقتهم تجدهم جفلة أفسق الخلق وأزناهم وأجمعهم للمال لا سبيل إلى أن تجد منهم واحداً بخلاف هذا وكذلك إن اغتروا بصبر أوائلهم للقتل على دينهم حتى عملوا لهم الشائنات إلى اليوم فإن ذلك لا يتجزأ من صبر المنانية على القتل في الثبات على دينهم ومن صبر دعاة القرامطة على القتل أيضاً وكل هذا لا يتعلل به إلا جاهل سخيف مقلد متهالك وإنما الحمق فيما أوجبته براهين العقول التي وضعها الله تعالى فينا لتمييز الحق من الباطل ونبا بها عن البهايم فقط ثم في الاعتدال والاقتصار على ما جاء صاحب به الشريعة التي قام البرهان بصحتها عن الله عز وجل وجماع ذلك ما جرى عليه أصحاب رسول الله ﷺ في حياته وبعده عليه السلام قال أبو محمد وبقي لهما اعتراضان نذكرهما إن شاء الله تعالى أحدهما إن قالوا قال الله عز وجل في كتابكم حكاية عن المسيح عليه السلام أنه قال. من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة. فأين. الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. وقال تعالى أيضاً مخاطباً للمسيح عليه السلام. إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.
قلنا نعم هذا خبر حق ووعد صدق وإنما أخبر تعالى عن المؤمنين ولم يسمهم ولا شك في أن من ثبت عليه الكذب من باطرة ويوحنا ومتى ويهوذا ويعقوب ليسوا منهم لكنهم من الكفار المدعين له الربوبية كذباً وكفراً وأما الموعودون بالنصر إلى يوم القيامة المؤمنون بالمسيح عليه السلام فهم نحن المسلمون المؤمنون به حقاً وبنبوته ورسالته لا من كفر به وقال أنه كذاب وقال أنه إله أو ابن إله تعالى الله عن ذلك والثاني إن قالوا إن في كتابكم. وجاء ربك والملك صفاً صفاً. وفيه. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر. فهلا قلتم فيما في التوراة والإنجيل كما تقولون فيما في كتابكم قلنا بين الأمرين فرق بين كما بين قطبي الفلك وذلك أن الذي في القرآن ظاهر لا يحتاج فيه إلى تأويل إنما معنى وجاء ربك ويأتيهم الله هو أمر معلوم في اللغة التي بها نزل القرآن مشهود فيه تقول جاء الملك وأتانا الملك وإما أتى جيشه وسطوته وأمره فليس فيما تلوتم أمر ينكر وليس كذلك ما كتبنا في توراتكم وأناجيلكم من التكاذب والتناقض والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد واعترضوا أيضاً بأن قالوا كيف تحققون نقلكم لكتابكم وأنتم مختلفون أشد الاختلاف في قراءتكم له وبعضكم يزيد حروفاً كثيرة وبعضكم يسقطها فهذا باب وأيضاً فإنكم ترون بأسانيد عندكم في غاية الصحة أن طوائف من أصحاب نبيكم عليه السلام ومن تابعيهم الذين تعظمون وتأخذون دينكم عنهم قرؤا القرآن بألفاظ زائدة ومبدلة لا تستحلون أنتم القراءة بها وإن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف مصحفكم وأيضاً فإن طوائف من علمائكم الذين تعظمون وتأخذون عنهم دينكم يقولون إن عثمان بن عفان أبطل قراآت كثيرة صحيحة وأسقطها إذ كتب المصحف الذي جمعكم عليه وعلى حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن عندكم وأيضاً فإن الروافض يزعمون أن أصحاب نبيكم بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه قال أبو محمد كل هذا لا متعلق لهم بشيء منه على ما نبين بما لا إشكال فيه على أحد من الناس وبالله تعالى التوفيق أما قولهم إننا مختلفون في قراءة كتابنا فبعضنا يزيد حروفاً وبعضنا يسقطها فليس هذا اختلافاً بل هو اتفاق منا صحيح لأن تلك الحروف وتلك القراآت كلها مبلغ بنقل الكواف إلى رسول الله ﷺ أنها نزلت كلها عليه فأي تلك القراآت قرأنا فهي صحيحة وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة لا زيادة فيها ولا نقص فبطل التعلق بهذا الفصل ولله تعالى الحمد وأما قولهم أنه قد روى بأسانيد صحاح عن طائفة من أصحاب رسول الله ﷺ ومن التابعين الذي نعظم ونأخذ ديننا عنهم أنهم قرأوا وفي القرآن قراآت لا نستحل نحن القراءة بها فهذا حق ونحن وإن بلغنا الغاية في تعظيم أصحاب رسول الله ﷺ ورضوان الله عليهم وتقربنا إلى الله عز وجل بمحبتهم فلسنا نبعد عنهم الوهم والخطأ ولا نقلدهم في شيء مما قالوه إنما نأخذ عنهم ما أخبرونا به عن رسول الله ﷺ بما هو عندهم بالمشاهدة والسماع لما ثبت من عدالتهم وثقتهم وصدقهم وأما عصمتهم من الخطأ فيما قالوه برأى وبظن فلا نقول بذلك ولو أنكم أنتم فعلتم كذلك بأحباركم وأساقفتكم الذين بينكم وبين الأنبياء عليهم السلام ما عنفناكم بل كنتم على صواب وهدى متبعين للحق المنزل مجانبين للخطاء المهمل لكن لم تفعلوا هكذا بل قلدتموهم في كل ما شرعوه لكم فهلكتم في الدنيا والآخرة وتلك القراآت التي ذكرتم إنما هي موقوفة على الصاحب أو التابع فهي ضرورة وهم من الصاحب والوهم لا يعري منه أحد بعد الأنبياء عليهم السلام أو وهم ممن دونه في ذلك وأما قولهم أن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف مصحفنا فباطل وكذب وإفك مصحف عبد الله بن مسعود إنما فيه قراءته بلا شك وقراءته هي قراءة عاصم المشهورة عند جميع أهل الإسلام في شرق الدنيا وغربها نقرأ بها كما ذكرنا وبغيرها مما قد صح أنه كله منزل من عند الله تعالى فبطل تعلقهم بهذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم إن طائفة من علمائنا الذين أخذنا عنهم ديننا ذكروا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ كتب المصحف الذي جمع الناس عليه أسقط ستة أحرف من الأحرف المنزلة واقتصر على حرف منها فهو مما قلنا وهو ظن ظنه ذلك القائل أخطأ فيه وليس كما قال بل كل هذا باطل ببرهان كالشمس وهو أن عثمان رضي الله عنه لم يك إلا وجزيرة العرب كلها مملوءة بالمسلمين والمصاحف والمساجد والقراء يعلمون الصبيان والنساء وكل من دب وهب واليمن كلها وهي في أيامه مدن وقرى والبحرين كذلك وعمان كذلك وهي بلاد واسعة مدن وقرى وملكها عظيم ومكة والطايف والمدينة والشام كلها كذلك والجزيرة كذلك ومصر كلها كذلك والكوفة والبصرة كذلك في كل هذه البلاد من المصاحف والقراء ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى وحده فلو رام عثمان ما ذكروا ما قدر على ذلك أصلاً وأما قولهم أنه جمع الناس على مصحف فباطل ما كان يقدر على ذلك لما ذكرنا ولا ذهب عثمان قط إلى جمع الناس على مصحف كتبه إنما خشي رضي الله عنه أن يأتي فاسق يسعى في كيد الدين أو أن يهم وأهم من أهل الخير فيبدل شيئاً من المصحف يفعل ذلك عمداً وهذا وهماً فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال فكتب مصاحف مجتمعاً عليها وبعث إلى كل أفق مصحفاً لكي إن وهم واهم أو بدل مبدل رجع إلى المصحف المجتمع عليه فانكشف الحق وبطل الكيد والوهم فقط وأما قول من قال أبطل الأحرف الستة فقد كذب من قال ذلك ولو فعل عثمان ذلك أو أراده لخرج عن الإسلام ولما مطل ساعة بل الأحرف السبعة كلها عندنا قائمة كما كانت مثبوتة في القراآت المشهورة المأثورة والحمد لله رب العالمين وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القراآت فإن الروافض ليسوا من المسلمين إنما هي فرق حدث أولها بعد موت النبي ﷺ بخمس وعشرين سنة وكان مبداؤها أجابة ممن خذله الله تعالى لدعوة من كاد الإسلام وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر وهي طوائف أشدهم غلواً يقولون بإلهية علي بن أبي طالب والإهية جماعة معه وأقلهم غلواً يقولون إن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب أيستشنع منهم أن كذب يأتون به وكل من لم يزجره عن الكذب ديانة أو نزاهة نفس أمكنه أن يكذب ما شاء وكل دعوى بلا برهان فليس يستدل بها عاقل سواء كانت له أو عليه ونحن إن شاء الله تعالى نأتي بالبرهان الواضح الفاضح لكذب الروافض فيما افتعلوه من ذلك قال أبو محمد مات رسول الله ﷺ والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم ماراً إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعة ماراً إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله عز وجل كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطايف ومكة كلهم قلنا أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قرأ فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله ﷺ والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء أصلاً بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة ثم ولي أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزى فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس المصاحف كأبي وعمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد وابن مسعود وسائر الناس في البلاد فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف ثم مات رضي الله عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلاً أمة واحدة ومقالة واحدة إلا ما حدث في آخر حياة رسول الله ﷺ وأول خلافة أبي بكر رضي الله عنه من ظهور الأسود العنسي في جهة صنعا ومسيلمة في اليمامة يدعيان النبوة وهما في ذلك مقران بنبوة محمد ﷺ معلنان بذلك ومن انقسام العرب ومن باليمن من غيرهم أربعة أقسام إثر موته عليه السلام فطائفة ثبتت على ما كانت عليه من الإسلام لم تبدل شيئاً ولزمت طاعة أبي بكر وهم الجمهور والأكثر وطائفة بقيت على الإسلام أيضاً إلا أنهم قالوا نقيم الصلاة وشرايع الإسلام إلا أنا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله ﷺ وكان هؤلاء كثيراً إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة ويبين هذا قول الحطيئة العبسي أيورثها بكراً إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر وإن التي طالبتم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لدي من التمر يعني الزكاة ثم ذكر القبائل الثابتة على الطاعة فقال فباست بني سعد واسناه طيٌ وباست بني دودان حاشى بني النضر قال أبو محمد لكن والله باستاه بني نضر وباست الحطيئة حلت الدائرة والحمد لله رب العالمين وطائفة ثالثة أعلنت بالكفر والردة كأصحاب طليحة وسجاح وسائر من ارتد وهم قليل بالإضافة إلى من ذكرنا إلا أن في كل قبيل من المؤمنين من يقاوم المرتدين فقد كان باليمامة تمامة بن أثال الحنفي في طوايف من المسلمين محاربين لمسيلمة وفي قوم الأسود أيضاً كذلك وفي بني تميم وبني أسد الجمهور من المسلمين وطايفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من الطوائف المذكورة وبقوا يتربصون لمن تكون الغلبة كمالك بن نويرة وغيره فأخرج إليهم أبو بكر البعوث فقتل مسيلمة وقد كان فيروز وذاذوية الفارسيان الفاضلان رضي الله عنهما قتلا الأسود العنسي فلم يمض عام واحد حتى راجع الجيمع الإسلام أولهم عن آخرهم وأسلمت سجاح وطليحة وغيرهم وإنما كانت نزعة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأها الله للوقت ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضاً وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقاً وغرباً وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهراً والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فما بين ذلك فلم يكن أقل ثم ولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثني عشر عاماً حتى مات وبموته حصل الاختلاف وابتداء أمر الروافض واعلموا أنه لو رام اليوم أحد أن يزيد في شعر النابغة أو شعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة فكيف القرآن في المصاحف وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان إلى آخر السند وكابل وخراسان والترك والصقالبة وبلاد الهند فما بين ذلك فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق وعند بعضهم نبي ناطق وعند سائرهم إمام معصوم مفروضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً للدنيا حاشى الشام ومصر إلى الفرات والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به والمصاحف معه وبين يديه فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك ثم إلى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك فكيف يسوغ لهؤلاء النوكي أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زايداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأي خلافة فقط فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ونحن إن شاء الله تعالى نذكر صفة وجوه النقل الذي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عياناً إن شاء الله تعالى فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله تعالى التوفيق.
إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساماً ستة أولها شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلاً جيلاً لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهدة وهو القرآن من المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتي به وأخبر أن الله عز وجل أوحى به إليه وأن من اتبعه أخذه عنه كذلك ثم أخذ عن أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أنه صلاها بأصحابه كل يوم وليلة في أوقاتها المعهودة وصلاها كذلك كل من اتبعه على دينه حيث كانوا كل يوم هكذا إلى اليوم لا يشك أحد في أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل أرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن وكصياح شهر رمضان فإنه لا يختلف كافر ولا مؤمن ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله ﷺ وصامه معه كل من اتبعه في كل بلد كل عام ثم كذلك جيلاً جيلاً إلى يومنا هذا وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه عليه السلام حج مع أصحابه وأقام المناسك ثم حج المسلمون من كل أفق من الآفاق كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميتة والخنزير وسائر شرائع الإسلام وكآياته من شق القمر ودعاء اليهود التي تمنى الموت وسائر ما هو في نص القرآن مقرؤ ومنقول وليس عن اليهود ولا عند النصارى في هذا النقل شيء أصلاً لأن نقلهم لشريعة السبت وسائر شرائعهم إنما يرجعون فيها إلى التوراة ويقطع نقل ذلك ونقل التوراة إطباقهم على أن أوائلهم كفروا بأجمعهم وبرؤا من دين موسى وعبدوا الأوثان علانية دهوراً طوالاً ومن المحال أن يكون ملك كافر عابد أوثان هو وأمته كلها معه كذلك يقتلون الأنبياء ويخنقونهم ويقتلون من دعل إلى الله تعالى يشتغلون بسبت أو بشريعة مضافة إلى الله سبحانه وتعالى عن هذا الكذب الذي لا شك فيه ويقطع بالنصارى عن مثل هذا عدم نقلهم إلا عن خمسة رجال فقط وقد وضح الكذب عليهم إلى ما أوضحنا من الكذب الذي في التوراة والإنجيل القاضي بتبديلهما بلا شك والثاني شيء نقلته الكافة عن مثلها حتى يبلغ الأمر كذلك إلى رسول الله ﷺ ككثير من آثاته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والإبل والذهب والبقر والغنم ومعاملته أهل خيبر وغير ذلك كثير مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العلم فقط وليس عند اليهود والنصارى من هذا النقل شيء أصلاً لأنه يقطع بهم دونه ما قطع بهم دون النقل الذي ذكرنا قبل من أطباقهم على الكفر الدهور والطوال وعدم إيصال الكافة إلى عيسى عليه السلام والثالث ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي ﷺ يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله ﷺ من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وإما إلى الصاحب وإما إلى التابع وإما إلى أمام أخذ عن التابع يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن والحمد لله رب العالمين وهذا نقل خص الله تعالى به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها وابقاه عندهم غضاً جديداً على قديم الدهور مذ أربعمائة عام وخمسين عاماً في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة ويواظب على تقييده من كان الناقد قريباً منه قد تولى الله تعالى حفظه عليهم والحمد لله رب العالمين فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيءٍ من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقاً أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها والحمد لله رب العالمين والرابع شيء نقله أهل المشرق والمغرب أو الكافة أو الواحد الثقة عن أمثالهم إلى أن يبلغ من ليس بينه وبين النبي ﷺ إلا واحد فأكثر فسكت ذلك المبلوغ إليه عمن أخبره بتلك الشريعة عن النبي ﷺ فلم يعرف من هو فهذا نوع يأخذ به كثير من المسلمين ولسنا نأخذ به البتة ولا نضيفه إلى النبي ﷺ إذ لم نعرف من حدث به عن النبي ﷺ وقد يكون غير ثقة ويعلم منه غير الذي روي عنه ما لم يعرف منه الذي روى عنه ومن هذا النوع كثير من نقل اليهود بل هو أعلى ما عندهم إلا أنهم لا يقربون فيه من موسى كقربنا فيه من محمد ﷺ بل يقفون ولابد حيث بينهم وبين موسى عليه السلام أزيد من ثلاثين عصراً في أزيد من ألف وخمسمائة عام وإنما يبلغون بالنقل إلى هلال وشماني وشمعون ومرعقيبا وأمثالهم وأظن أن لهم مسألة واحدة فقط يروونها عن حبر من أحبارهم عن نبي من متأخري أنبيائهم أخذها عنه مشافهة في نكاح الرجل ابنته إذا مات عنها أخوه وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وحده فقط على أن مخرجه من كذاب قد صح كذبه والخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي ﷺ إلا أن الطريق رجلاً مجروحاً يكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا أيضاً يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه وهذه صفة نقل اليهود والنصارى فيما أضافوه إلى أنبيائهم لأنه يقطع بهم كفار بلا شك ولا مرية والسادس نقلٌ نقل بأحد الوجوه التي قدمنا إما بنقل من بين المشرق والمغرب أو بالكافة أو بالثقة عن الثقة حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع أو إمام دونهما أنه قال كذا أو حكم بكذا غير مضاف ذلك إلى رسول الله ﷺ كفعل أبي بكر في سبي أهل الردة وكصلاة الجمعة صدر النهار وكضرب عمر الخراج وإضعافه القيمة على رقيق حاطب وغير ذلك كثير جداً فمن المسلمين من يأخذ بهذا ومنهم من لا يأخذ به ونحن لا نأخذ به أصلاً لأنه حجة في فعل أحد دون من أمرنا الله تعالى باتباعه وأرسله إلينا ببيان دينه ولا يخلو فاضل من وهم ولا حجة فيمن يهم ولا يأتي الوحي ببيان وهمه وهذا الصنف من النقل هو صفة جميع نقل اليهود لشرائعهم التي هم عليها الآن مما ليس في التوراة وهو صفة جميع نقل النصارى حاشى تحريم الطلاق إلا أن اليهود لا يمكنهم أن يبلغوا في ذلك إلى صاحب نبي أصلاً ولا إلى تابع له وأعلى من يقف عنده النصارى شمعون ثم بولس ثم أساقفهم عصراً عصراً هذا أمر لا يقدر أحد منهم على إنكاره ولا إنكار شيء منه إلا أن يدعي أحد منهم كذباً عند من يطمع في تجويزه عليه ممن يظن به جهلاً بما عنده فقط وأما إذا قررهم على ذلك من يدرون أنه يعرف كتبهم فلا سبيل لهم إلى إنكاره اصلاً قال أبو محمد ونقل القرآن وما فيه من إعلام النبي ﷺ كالإنذار بالغيوب وشق القمر ودعاء اليهود إلى تمني الموت والنصارى إلى المباهلة وجميع العرب إلى المجيء بمثل القرآن وبتوبيخهم بالعجز عنه وبتوبيخ اليهود بأنهم لا يتمنون الموت وقصة الطير الأبابيل ورميها أصحاب الفيل بحجارة من سجيل وكثير من الشرائع وكثير من السنن فإنه نقل كل ذلك اليماني والمضري والربيعي والقضاعي وكلهم أعداء متباينون متحاربون يقتل بعضههم بعضاً ليس هناك شيءٌ يدعوهم إلى المسامحة في نقلهم له ثم نقله عن هؤلاء من بين المشرق والمغرب وكانت العرب بلا خلاف قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر كملوك اليمن وعمان وشهر بن بارام ملك صفا والمنذر بن ساوى ملك البحرين والنجاشي ملك الحبشة وجيفر وعياذ ابني الجلندي ملكي عمان فانقادوا كلهم لظهور الحق وبهوره وآموا به ﷺ طوعاً وهم آلاف آلاف وصاروا إخوة كبني أب وأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعاً بلا خوف غزز ولا إعطاء مال ولا بطمعٍ في عز بل كلهم أقوى جيشاً من جيشه وأكثر مالاً وسلاحاً وأوسع بلداً من بلده كذي الكلاع وكان ملكاً متوجاً ابن ملوك متوجين تسجد له جميع رعيته يركب أمامه ألف عبد من عبيده سوى بني عمه من حمير وذي ظليم وذي زود وذي مران وذي عمرو وغيرهم كلهم ملوك متوجون في بلادهم هذا كله أمر لا يجهله أحد من حملة الأخبار بل هو منقول كنقل كون بلادهم في مواضعها وهكذا كان إسلام جميع العرب أولهم كالأوس والخزرج ثم سائرهم قبيلة قبيلة لما ثبت عندهم من آياته وبهرهم من معجزاته وما اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد طريد قد نابذه قومه حسداً له إذ كان فقيراً لا مال له يتيماً لا أب له ولا أخ ولا ابن أخ ولا ولد أمياً لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل يرعى غنم قومه بأجرة يتقوت بها فعلمه الله تعالى الحكمة دون معلم وعصمه من كل من أراده بلا حرس ولا حاجب ولا بواب ولا قصر يمتنع فيه على كثرة من أراد قتله من شجعان العرب وفتاكهم كعامر بن الطفيل واربد بن جزءٍ وغورث بن الحارث وغيرهم مع إقرار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة الأسود وهو مكذب لهم فهل بعد هذا برهان أو بعد هذه الكفاية من الله تعالى كفاية وهو لا يبغي دنيا ولا يمني بها من اتبعه بل أنذر الأنصار بالأثرة عليهم بعده وتابعوه على الصبر على ذلك قام له أصحابه على قدم فمنعهم وأنكر ذلك عليهم وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ورضوا بالسجود له فاستعظم ذلك وأنكره إلا لله وحده ولا شك في أن هذه ليست صفة طالب دنيا قط أصلاً ولا صفة راغب في غلبة ولا بعد صوت بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدنى فهم فهذا هو الحق لا ما تدعيه النصارى من الكذب البحت في أن الملوك دخلوا دينهم طوعاً وقد كذبوا في ذلك لأن أول ملك تنصر قسطنطين باني القسطنطينية بعد نحو ثلاثمائة عام من رفع المسيح عليه السلام فأي معجزة صحت عنده بعد هذه المدة وإنما نصرته أمه لأنها كانت نصرانية بنت نصراني تعشقها أبوه فتزوجها هذا أمر لا تناكر بين النصارى فيه والنشأة لا خفاء بما تؤثره في الإنسان وأما من اتبع النبي ﷺ فإنهم اتبعوه إذ بلغهم خبره في حياته عليه السلام للآيات التي كانت له بحضرة جميع أصحابه كإعجاز القرآن وانشقاق القمر ودعاء اليهود إلى تمني الموت وإخبارهم بعجزهم عن ذلك وأنهم لا يتمنونه أصلاً والإنذار بالغيوب وتبعان عين تبوك فهي كذلك إلى اليوم ونبعان الماء من بين أصابعه بحضرة العسكر وإطعامه النفر الكثير من طعام يسير مراراً جمة بحضرة الجموع وإخباره بأكل الأرضة كل ما في الصحيفة المكتوبة على بني هاشم وبني المطلب حاشى أسماء الله تعالى فقط وأنظاره بمصارع أهل بدر بحضرة الجيش موضعاً موضعاً وبالنور الواقع في سوط الطفيل بن عمرو الدوسي وحنين الجذع بحضرة جميعهم ودفع اربد عنه وقضاء غرماء جابر من تمر يسير مشى بجنبه وتزويد عمرو أربعمائة راكب من تمر يسير بقي بجنبه ورميه هو إذان بتراب عم عيونهم وخروجه بحضرة مائة من قريش وهم لا يرونه ودخول الغار وهم عليه لا يرونه وفتح الباب في حجر صلد في جنب الغار لم يكن فيه قط ولو كان هنالك يومئذ لما أمكنه الاختفاء فيه لأنه ليس بين البابين إلا أقل من ثمانية أذرع وهو ظاهر إلى اليوم كل عام وكل حين يزوره أهل الأرض من المسلمين ولو رام فتح الباب الثاني في ذلك الحجر أهل الأرض ما قدروا على إزاحته سالماً عن مكانه ولو كان ذلك الباب هنالك يومئذ لرآه الطالبون له بلا مؤونة لأنهم لم يكونوا إلا جموع قريش لعلهم ميئون كثيرة وآثار رأسه المقدس في ذلك الحجر وآثار كتفيه ومعصمه وظاهر يده باق إلى اليوم فعل الله تعالى منقول نقل الكواف جيلاً عن جيل ورمي الجمار الذي ترميه ما لا يحصيه إلا الله تعالى كل عام ثم لا يزيد حجمه في ذلك الموضع ورمى الله تعالى جيش أبرهة صاحب الفيل إذ غزا مكة عام مولده ﷺ بالحجارة المنكرة بأيدي طير منكرة ونزلت في ذلك سورة من القرآن متلوة إلى اليوم وكان ذلك ببركته عليه السلام وإنذاراته وشكوى البعير إليه وإبراء عيني علي من الرمد بحضرة الجماعات في ساعة وسوخ قوائم فرس سراقة إذ تبعه ودرور الشاة التي لا لبن لها مراراً وتسبيح الطعام وكلام الذئب ومجيئه وقوله للحكم إذ حكي مشيته كن كذلك فلم يزل يرتعش إلى أن مات ودعاؤه للمطر فأتى للوقت وفي الصحو فانجلى للوقت وظهور جبريل عليه السلام مرتين مرة في صورة دحية ثم أتى دحية بحضرة الناس وأخرى في صورة رجل لم يعرفه أحد ولا رؤي بعدها وقوله إذ خطب بنت الحارث ابن عوف بن أبي حارثة المزني فقال له أبوها أن بها بياضاً فقال لتكن كذلك فبرصت في الوقت وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر المشهور وغير هذا كثير جداً مع ما ذكرنا من أن أول من تنصر من الملوك قسطنطين بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح فوالله ما قدر على إظهار النصرانية حتى رحل عن رومية مسيرة شهر وبني برنطية وهي قسطنطينية ثم أجبر الناس على النصرانية بالسيف والعطاء وكان من عهوده المحفوظة أن لا يولي ولاية إلا من تنصر والناس سراع إلى الدنيا نافرون عن الأدنى وكان مع هذا كله على مذهب أريوس لا على التثليث ولكن هذا من دعوى النصارى وكذبهم مضاف إلى ما يدعونه من أنهم بعد هذه المدة الطويلة وبعد خراب بيت المقدس مرة بعد أخرى وبقائه خراباً لا ساكن فيه نحو مائتي عام وسبعين عاماً وجدوا الشوك الذي وضع على رأس المسيح بزعمهم والمسامير التي ضربت في يديه والدم الذي طار من جنبه والخشبة التي صلب عليها فلا أدري ممن العجب أممن اخترع مثل هذه الكذبة الغثة المفضوحة أم ممن قبلها وصدق بها ودان باعتقادها وصلب وجهه للحديث بها ليت شعري أين بقي ذلك الشوك وذلك الدم سالمين وتلك المسامير وتلك الخشبة طول تلك المدة وأهل ذلك الدين مطرودون مقتولون كقتل من تستر بالزندقة اليوم وتلك المدينة خراب الدهور الطوال لا يسكنها أحد إلا السباع والوحش وقد شاهدنا ملوكاً جلت لهم الأتباع والأولاد والشيع والأقارب صلبوا فما مضت مدة يسيرة حتى لم يبق لتلك الخشب أثر فكيف أمر لا طالب له وبدول قد انقطعت وبلاد قد أقفرت وخلت ونسيت أخبارها وهذه البردة التي كانت للنبي ﷺ والقصعة والسيف على أن الدولة متصلة لم تتخرم منذ حينئذ والحمد لله رب العالمين قد دخلت الداخلة في القصعة ولاسيف حتى لا يقين عندنا منهما اليوم ولولا تداول الخلفاء للباس البردة أبد الآبد فينقل أمرها جيلاً بعد جيل والمنبر كذلك لما قطعنا عليهما ولكن التداول لهما أمة بعد أمة وهما قائمان ظاهران للناس هو واجب اليقين بهما ورفع الشك فيهما وكذلك كل ما جرى هذا المجرى ثم لم يلبث دين النصارى أن مات قسطنطين أول من تنصر من ملوك الدنيا ثم مات ابنه قسطنطين وولي ملك ترك النصرانية ورجع إلى عبادة الأوثان إلى أن مات ثم ولي رجل من أقارب قسطنطين فرجع إلى النصرانية وأما ديانة اليهود فما صفت فيها نيات بني إسرائيل وموسى عليه السلام حي بين أظهرهم ومازالوا مائلين إلى إظهار عبادة الأوثان ثم تكذيبهم كلهم بالشريعة التي أتاهم بها بعد موته عليه السلام طبقة بعد طبقة إلى انقطاع دولتهم فكيف إن يتبعه غيرهم قال أبو محمد وبرهان ضروري لمن تدبره حسي لا محيد عنه وهو أنه لا خلاف بين أحد من اليهود والنصارى وسائر الملل في أن بني إسرائيل كانوا بمصر في أشد عذاب يمكن أن يكون من ذبح أولادهم وتسخيرهم في عمل الطوب بالضرب العظيم والذل الذي لا يصبر عليه كلب مطلق فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الذي قتل النفس أخف منه وإلى الحرية والملك والغلبة والأمن ومضمون ممن هو في أقل من تلك الحال أن يسارع إلى كل من يطمع على يديه بالفرج وأن يستجيب له إلى كل ما دعاه إليه وإن أكثر من في هذا البلاء يستخير عبادة من أخرجه منه لاسيما إلى العز والحرمة وكانوا أيضاً أهل عسكر مجتمع وبني عمر يمكنهم التواطؤ ثم كانوا أهل بلد صغير جداً قد تكنفهم الأعداء من كل جانب وأما عيسى عليه السلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلاً معروفين ونساء قليل وعدد لا يبلغ جميعم وفي جملتهم الاثنا عشر إلا مائة وعشرين فقط هكذا في نص إنجيلهم وكانوا مشردين مطرودين غير ظاهرين ولا يقوم بمثل هؤلاء ضرورة يقين العلم وأما محمد ﷺ فلا يختلف أحد في مشرق الأرض وغربها أنه عليه السلام أتى إلى قوم لقاح لا يقرون بملك ولا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس نشأ على هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم منذ ألوف من الأعوام قد سرى الفخر والعز والنخوة والكبر والظلم والأنفة في طباعهم وهم أعداد عظيمة قد ملؤوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في شهرين قد صارت طباعهم طباع السباع وهم ألوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبداً فدعاهم بلا مال ولا اتباع بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة ومن الحرية والظلم إلى جري الأحكام عليهم ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا وأخذ مال من أحبوا إلى القصاص من النفس ومن قطع الأعضاء ومن اللطمة من أجل من فيهم لأقل علج غريب دخل فيهم وإلى إسقاط الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنعال إن شربوا خمراً أو قذفوا إنساناً وإلى الضرب بالسوط والرجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا فانقاد أكثرهم لكل ذلك طواً بلا طمع ولا غلبة ولا خوف ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات بعضها عليه وبعضها له فصح ضرورة أنهم إنما آمنوا به طوعاً لا كرهاً وتبدلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ومن الجهل إلى العلم ومن الفسق والقسوة إلى العدل العظيم الذي لم يبلغه أكابر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر وصحب الرجل منهم قاتل ابنه وأبيه وأعدى الناس له صحبة الأخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ولا رياسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ولا مال يتعجلونه فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة فهل هذا إلا بغلبة من الله تعالى على نفوسهم وقسره عز وجل لطباعهم كما قال تعالى. لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم. ثم بقي عليه السلام كذلك بين أظهرهم بلا حارس ولا ديوان جند ولا بيت مال محروساً معصوماً وهكذا نقلت آياته ومعجزاته فأيما يصح من أعلام الأنبياء المذكورين ما نقل عنه عليه السلام بصحة الطريق إليه وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن اتباعه فيه فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنهم بدنيا ولا وعدهم بملك وهذا لا ينكره أحد من الناس وأيضاً فإن سيرة محمد ﷺ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنه رسول الله ﷺ حقاً فلو لم تكن له معجزة غير سيرته ﷺ لكفى وذلك أنه عليه السلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع والأخرى أيضاً إلى أول الشام ولم يطل بها البقاء ولا فارق قومه قط ثم أوطأه الله تعالى رقاب العرب كلها فلم تتغير نفسه ولا حالت سيرته إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ولم يبت قط في ملكه دينار ولا درهم وكان يأكل على الأرض ما وجد ويخصف نعله بيده ويرقع ثوبه ويؤثر على نفسه وقتل رجل من أفاضل أصحابه مثل فقده يهد عسكراً قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك إذ لم يوجب الله تعالى له ذلك ولا توصل بذلك إلى دمائهم ولا إلى ذم واحد منهم ولا إلى أموالهم بل فداه من عند نفسه بمائة ناقة وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ولا يقتضي هذا أيضاً ظاهر السيرة والسياسة فصح يقيناً بلا شك أنه إنما كان متبعاً ما أمر به ربه عز وجل كان ذلك مضراً به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضر به وهذا عجب لمن تدبره ثم حضرته المنية وأيقن بالموت وله عم أخو أبيه هو أحب الناس إليه وابن عم هو من أخص الناس به وهو أيضاً زوج ابنته التي لا ولد ه غيرها وله منها ابنان ذكران وكلا الرجلين المذكورين عمه وابن عمه عنده من الفضل والدين والسياسة في الدنيا والبأس والحلم وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقاً بسياسة العالم كله فلم يحابهما وهما من أشد الناس غناءً عنه ومحبة فيه وهو من أحب الناس فيهما إذ كان غيرهما متقدماً لهما في الفضل وإن كانا بعيد النسب منه بل فوض الأمر إليه قاصداً إلى مر الحق واتباع ما أمر به ولم يورث ورثته ابنته ونساءه وعمه فلساً فما فوقه وهم كلهم أحب الناس إليه وأطوعهم له وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنما تصرف بأمر الله تعالى له لا بسياسة ولا بهوى فوضح بما ذكرنا ولله الحمد كثيراً أن نبوة محمد ﷺ حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إلى تصديقها والقطع على أنها الحق الذي لا حق سواه وأنها دين الله تعالى الذي لا دين له في العالم غيره والحمد لله رب العالمين عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته على ما وفقنا من الملة الإسلامية ثم على ما يسرنا عليه من النحلة الجماعية السنية ثم على ما هدانا له من التدين والعمل بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة عنه ﷺ عن باعثه عز وجل ولم يجعلنا ممن يقلد أسلافه وأحباره دون برهان قاطع وحجة قاهرة ولا ممن يتبع الأهواء المضلة المخالفة لقوله وقول نبيه ﷺ ولا ممن يحكم برأيه وظنه دون هدى من الله ورسوله اللهم كما ابتدأتنا بهذه النعمة الجليلة فأتمها علينا وأصحبنا إياها ولاتخالف بها عنا حتى تقبضنا إليك ونحن متمسكون بها فنلقاك بها غير مبدلين ولا مغيرين اللهم آمين رب العالمين وصل اللهم على محمد عبدك ورسولك وخليلك وخاتم أنبيائك خاصة وعلى أنبيائك عامة وعلى ملائكتك كافة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ذكر فصول يعترض بها جهلة الملحدين على ضعفة المسلمين
قال أبو محمد إنا لما تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا ووجدهما قد تفاقم الداء بهما فأما إحداهما فقد جلت المصيبة فيها وبها وهم قوم افتتحوا عنفوان فهمهم وابتداؤا دخولهم إلى المعارف بطلب علم العدد ونزواته وطبائعه ثم تدرجوا إلى تعديل الكواكب وهيئة الأفلاك وكيفية قطع الشمس والقمر والدراري الخمسة وتاقطع فلكي النيرين والكلام في الأجرام العلوية وفي الكواكب الثابنة وانتقالها وإبعاد كل ذلك وإعظامه وفيما دون ذلك من الطبيعيات وعوارض الجو ومطالعة شيء من كتب الأوائل وحدودها التي نصبت في الكلام وما مازج بعض ما ذكرنا من آراء الفلاسفة في القضاء بالنجوم وأنها ناطقة مدبرة وكذلك الفلك فأشرفت هذه الطائفة من أكثر ما طالعت مما ذكرنا على أشياء صحاح براهينها ضرورية لائحة ولم يكن معها من قوة المننة وجودة القريحة وصفاء النظر ما تعلم به إن من أصاب في عشرة آلاف مسألة مثلاً فجائز أن يخطىء في مسئلة واحدة لعلها أسهل من المسائل التي أصاب فيها فلم تفرق هذه الطائفة بين ما صح مما طلعوه بحجة برهانية وبين ما في أثناء ذلك وتضاعيفه مما لم يأت عليه من ذكره من الأوائل إلابإقناع أو بشغب وربما بتقليد ليس معه شيء مما ذكرنا فحملوا كل ما أشرفوا عليه محملاً واحداً وقبلوه قبولاً مستوياً فسترى فيهم العجب وتداخلهم الزهو وظنوا أنهم قد حصلوا على مباينة العالم في ذلك وللشيطان موالج خفية ومداخل لطيفة كما قال رسول الله ﷺ أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم فتوصل إليهم من باب غامض نعوذ بالله منه وهو أنهم كما ذكرنا أصغار من كل شيء من علوم الديانة التي هي الغرض المقصود من كل ذي لب والتي هي نتيجة العلوم التي طالعوا لو عقلوا سبلها ومقاصدها فلم يعبؤا بآية من كتاب الله تعالى الذي هو جامع علوم الأولين والآخرين والذي لم يفرط فيه من شيء والذي من فهمه كفاه ولابسنة من سنن رسول الله ﷺ التي هي بيان الحق ونور الألباب ولم تلق هذه الطائفة المذكورة من حملة الدين إلا أقواماً لا عناية عندهم بشيء مما قدمناه وإنما عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أوجه إما بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ولا يهتمون بفهمها وإما بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلايلها ومنبعثها وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم وحالهم وأما بخرافات منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط لم يهتبلوا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ولا مرسل من مسند ولاما نقل عن النبي ﷺ مما نقل عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه عن أهل الكتاب فنظرت الطائفة الأولى من هذه الآخرة بعين الاستهجان والاحتقار والاستهجال فتمكن الشيطان منهم وحل فيهم حيث أحب فهلكوا وضلوا واعتقدوا أن دين الله تعالى لا يصح منه شيء ولا يقوم عليه دليل فاعتقدوا أكثروا الإلحاد والتعطيل وسلك بعضهم طريق الاستخفاف والإهمال وإطراح ثقل الشرائع واستعمال الفرائض والعبادات وآثروا الراحات وركوب اللذات من أنواع الفواحش المحرمات من الخمور والزنا واللواطة والبغاء وترك الصلوات والصيام والزكاة والحج والغسل وقصدوا كسب المال كيف تيسر وظلم العباد واستعمال الأهزال وترك الجد والتحقيق وتدين الأقل منهم بتعظيم الكواكب فأسفت نفس المسلم الناصح لهذه الملة وأهلها على هلاك هؤلاء المساكين وخروجهم عن جملة المؤمنين بعد أن غذوا بلبان الإسلام ونشؤا في حجور أهله نسأل الله العصمة من الضلال لنا ولا بنائنا ولك إخواننا من المسلمين ونسأله تدارك من زلت قدمه وهوت نقله أنه على كل شيء قدير وأما الطائفة الثانية فهم قوم ابتدؤا الطلب لحديث النبي ﷺ فلم يزيدوا على طلب علو الإسناد وجمع الغرائب دون أن يهتموا بشيء مما كتبوا ويعلموا به وإنما تحملوه حملاً لا يزيدون على قراءته دون تدبر معانيه ودون أن يعلموا أنهم المخاطبون به ونه لم يأت هملاً ولا قاله رسول الله ﷺ عبثاً بل أمرنا بالتفقه فيه والعمل به بل أكثر هذه الطائفة لا يعمل عندهم إلا ما جاء من طريق مقاتل بن سليمان والضحاك بن مزاحم وتفسير الكلبي وتلك الطبقة وكتب البذي التي إنما هي خرافات موضوعات وأكذوبات مفتعلات ولدها الزنادقة تدليساً على الإسلام وأهله فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاط لا يصح من أن الأرض على حوت والحوت على قرن ثور والثور على الصخرة والصخرة على عاتق ملك والملك على الظلمة والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله عز وجل وهذا يوجب أن جرم العالم غير متناه وهذا هو الكفر بعينه فنافرت هذه الطبقة التي ذكرنا كل برهان ولم يكن عندها أكثر من قولهم نهينا عن الجدال فليت شعري من نهاهم عنه والله عز وجل يقول في كتابه المنزل على نبيه المرسل ﷺ. وجادلهم بالتي هي أحسن. وأخبر تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا. يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا. وقد نص تعالى في غير موضع من كتابه على أصول البراهين وقد نبهنا عليها في غير ما موضع من كتابنا هذا وحض تعالى على التفكر في خلق السموات والأرض ولا يصح الاعتبار في خلقهما إلا بمعرفة هيآتهما وانتقال الكواكب في أفلاكهما واختلاف حركاتها في التغريب والتشريق والأفلاك تداويرها وتعارض تلك الأدوار على رتبة واحدة وكذلك معرفة الدوائر والمنطقة والميل والاستواء وكذلك معرفة الطبائع وامتزاج العناصر الأربعة وعوارضها وتركيب أعضاء الحيوان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه واتصال أعضائه بعضها ببعض وقواه المركبة فمن أشرف على ذلك وعلمه رأي عظيم القدرة وتيقن أن كل ذلك صنعة ظاهرة وإرادة خالق مختار لأن اختلاف تلك الحركات يضطر إلى المعرفة بأن شيئاً منها لا يقوم بنفسه دون ممسك مدبر لا إله إلا هو ولا خالق سواه ولا مدبر حاشاه ولا فاعل مخترع إلا هو ثم زاد قوم منهم فأتوا بالأفيكة التي تقشعر منها الذوائب وهي إن أطلقوا أن الدين لا يؤخذ بحجة فأقروا عيون الملحدين وشهدوا أن الدين لا يثبت إلابالدعاوي والغلبة وهذا خلاف قوله عز وجل. قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. وقوله تعالى. فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان. هذا قول الله عز وجل وما جاء به نبيه ﷺ وفي ذلك الكفاية والغناء عن قول كل قائل بعده وقد حاج ابن عباس الخوارج وما علمنا أحداً من الصحابة رضي الله عنهم نهى عن الاحتجاج فلا معنى لرأي من جاء بعدهم فكان كلام هذه الطائفة مغرياً للطائفة الأولى بكفرها ومغبطاً لهم لشركهم إذ لم يروا في خصومهم في الأغلب إلا من هذه صفته ثم زادت هذه الطائفة الثانية غلواً في الجنون فعابوا كتبنا لا علم لهم بها ولا طالعوها ولا رأوا منها كلمة ولا قرؤها ولا أخبرهم عنما فيها ثقة كالكتب التي فيها هيئة الأفلاك ومجاري النجوم والكتب التي جمعها أرسطاطاليس في حدود الكلام قال أبو محمد وهذه الكتب كلها كتب سالمة مفيدة دالة على توحيد الله عز وجل وقدرته عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود ففي مسائل الأحكام الشرعية بها يتعرف كيف التوصل إلى الاستنباط وكيف تؤخذ الألفاظ على مقتضاها وكيف يعرف الخاص من العام والمجمل من المفسر وبناء الألفاظ بعضها على بعض وكيف تقديم المقدمات وإنتاج النتائج وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبداً وما يصح مرة وما يبطل أخرى وما لا يصح البتة وضرب الحدود التي من شذ عنها كان خارجاً عن أصله ودليل الخطاب قال أبو محمد فلما رأينا عظيم المحنة فيما تولد في الطائفتين اللتين ذكرنا رأينا من عظيم الأجر وأفضل العمل بيان هذا الباب المشكل بحول الله تعالى وقدرته وتأييده فنقول وبه عز وجل نتأيد ونستعين إن كل ما صح ببرهان أي شيء كان فهو في القرآن وكلام النبي ﷺ منصوص مسطور يعلمه كل من أحكم النظر وأيده الله تعالى بفهم وأما كل ما عدا ذلك مما لا يصح ببرهان وإنما هو إقناع أو شغب فالقرآن وكلام النبي ﷺ منه خاليان والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ومعاذ الله أن يأتي كلام الله سبحانه وتعالى وكلام نبيه ﷺ بما يبطله عيان أو برهان إنما ينسب هذا إلى القرآن والسنة من لا يؤمن بهما ويسعى في إبطالهما. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ولسنا من تفسير الكلب الكذاب ومن جرى مجراه في شيء ولا نحن من نقل المتهمين في شأن إنما نحتج بما نقله الأئمة الثقاة الأثبات من رؤساء المحدثين مسنداً فمن فتش الحديث الصحيح وجد فيه كل ما قلنا والحمد لله رب العالمين وإنما الباطل ما ادعته الطائفة الأولى من نطق الكواكب وتدبيرها وهذا كفر لا حجة عندهم على ما قالوه منه أكثر من أن المحتج لهم قال لما كنا نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل منا وهذا الذي ذكروه ليس بشيء لأن الكواكب وإن كان لها تأثير في العالم ظاهر فليس تأثيرها تأثير ملك واختيار يدل على ذلك ما قد ذكرناه في كتابنا هذا من الدلائل على أن الكواكب مضطرة لا مختارة وإنما تأثيرها كتأثير النار بالإحراق والماء بالتبريد والسم بإفساد المزاج والطعام بالتغذية والفلفل بحذو اللسان والإهليلج بالقبض للفم وما جرى هكذا من سائر ما في العالم وكل ذلك غير ناطق والكواكب والأفلاك جارية هذا المجرى لأن تأثيرها تأثير واحد لا يختلف وحركتها حركة واحدة لا تختلف وليس كذلك المختارة ولقد قال لي بعضهم وقد عارضته بهذا أن المختار الفاضل يلزم أفضل الحركات فلا يتعداها وتلك الحركة الدورية هي أفضل الحركات فقلت له وما دليلك على أن تلك الحركة أفضل الحركات ومن أين صارت الحركة من شرق إلى غرب أو من غرب إلى شرق أفضل من الحركة من جنوب إلى شمال أو من شمال إلى جنوب وكيف يكون عندكم أفضل الحركات والأفلاك الثمانية تنتقل من غرب إلى شرق والتاسع من شرق إلى غرب فأي هاتين الحركتين قلتم أنها أفضل عندكم وقد اختار الآخر الحركة التي ليست أفضل فظهر فساد هذا القول بيقين وهذه دعاوي مجردة بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ولا فرق بينك وبين من قال بل الحركة علو أفضل أو على خط مستقيم سائرة وراجعة ونحن نجد تلك الأجرام تسفل في بعض ممراتها وتشرف في بعض وتسقط في بعض على قولكم وتوافق بزعمكم بروح نحس مظلمة وأخرى نيرة سعيدة وبعض الأفلاك يقطع من غرب إلى شرق وهو حركة جميعها إلا الأعلى فإنه يتحرك من شرق إلى غرب فليست هذه أفضل الحركات فبطل قولهم والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وكذلك ماذكره من ذكر ذلك منهم من الكرور عند انتهاء آلاف من الأعوام ذكروها وانتصاب الكواكب الثابتة على نصبٍ ما من قطعها لفلكها فهذا أيضاً كذب مجرد ودعوى ساقطة لا دليل عليها ولا يعجز عن مثلها أحد ولم يأتوا على شيءٍ من ذلك بشغب ولا بإقناع فكيف ببرهان وإنما هو تقليد لبعض قدماء الصابئين فمثل هذه الحماقات والخرافات هي الذي دفعته الشريعة الإسلامية وأبطلته وأما ما قامت عليه البراهين فهو في القرآن والسنة موجود نصاً واستدلالاً ضرورياً والحمد لله رب العالمين
مطلب بيان كروية الأرض
قال أبو محمد وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك وجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها قال الله عز وجل. يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض مأخذو من كور العمامة وهو إدارتها وهذا نص على تكوير الأرض ودوران الشمس كذلك وهي التي منها يكون ضوء النهار بإشراقها وظلمة الليل بمغيبها وهي آية النهار بنص القرآن قال تعالى. وجعلنا آية النهار مبصرة. فيقال لمن أنكر ما جهل من ذلك من العامة أليس إنما افترض الله عز وجل علينا أن نصلي الظهر إذا زالت الشمس فلابد من نعم فيسألون عن معنى زوال الشمس فلابد من أنه إنما هو انتقال الشمس عن مقابلة من قابل بوجهه القرص واستقبل بوجهه وأنفه وسط المسافة التي بين موضع طلوع الشمس وبين موضع غروبها في كل زمان وكل مكان وأخذها إلى جهة حاجبه الذي يلي موضع غروب الشمس وذلك إنما هو في أول النصف الثاني من النهار وقد علمنا أن المداين من معمور الأرض آخذة على أديمها من مشرق إلى مغرب ومن جنوب إلى شمال فيلزم من قال إن الأرض منتصبة الأعلى على غير مكورة أن كل من كان ساكناً في أول المشرق أن يصلي الظهر في أول النهار ضرورة ولابد إثر صلاة الصبح بيسير لأن الشمس بلا شك تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم في أول النهار ضرورة ولابد أن كان امر على ما تقولون ولا يحل لمسلم أن يقول إن صلاة الظهر تجوز أن تصلى قبل نصف النهار ويلزمهم أيضاً أن من كان ساكناً في آخر المغرب إن الشمس لا تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم إلا في آخر النهار فلا يصلون الظهر إلا في وقت لا يتسع لصلاة العصر حتى تغرب الشمس وهذا خارج عن حكم دين الإسلام وأما من قال بتكويرها فإن كل من ظهر الأرض لا يصلي الظهر إلا إثر انتصاف نهاره أبداً على كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان وهذا بين لا خفاء بل وقال عز وجل. سبع سموات طباقاً. وقال تعالى. ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق. وهكذا قام البرهان من قبل كسوف الشمس والقمر بعض الدراري لبعض على أنها سبع سموات وعلى أنها طرائق وقوله تعالى طرائق يقتضي متطرقاً فيه وقال تعالى. وسع كرسيه السموات والأرض. وهذا نص ما قام عليه البرهان من انطباق بعضها على بعض وإحاطة الكرسي بالسموات السبع وبالأرض وقال رسول الله ﷺ فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن وقال تعالى. الرحمن على العرش استوى. وأخبر هذان النصان بأن ما على العرش هو منتهى الخلق وناية العالم وقال تعالى. إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد. وهذا هو نص ما قام البرهان عليه من أن الكواكب المرمي بها هي دون سماء الدنيا لأنها لو كانت في السماء لكان الشياطين يصلون إلى السماء أو كانت هي تخرج عن السماء وإلا فكانت تلك الشهب لا تصل إليهم إلا بذلك وقد صح أنهم ممنوعون من السماء بالرجوم فصح أن الرجوم دون السماء وأيضاً فإن تلك الرجوم ليست نجوماً معروفة أصلاً وإنما هي شهب ونيازك من نار تتكوكب وتشتعل وتطفأ ولا نار في السموات أصلاً فلم نجد الاختلاف إلا في الأسماء لاختلاف اللغات وقد اعترض القاضي منذر بن سعيد في هذا فجعل الأفلاك غير السموات قال أبو محمد ولا برهان على ما ذكر إلا أنه قال إن السموات هي فوق الأرض وهذا ليس بشيء لأن التحت والفوق من باب الإضافة لا يقال في شيء تحت إلا وهو فوق لشيء آخر حاشى مركز الأرض فإنه تحت مطلق لا تحت له البتة وكذلك كل ما قيل فيه أنه فوق فهو أيضاً تحت لشيء آخر حاشى الصفحة العليا من الفلك إلا على المقسوم بقسمة البروج فهي فوق لا فوق لها البتة فالأرض على هذا البرهان الشاهد هي مكان التحت للسموات ضرورة فمن حيث كانت السماء فهي فوق الأرض ومن حيث قابلتها الأرض فهي تحت السماء ولابد وحيث ما كان ابن آدم فرأسه إلى السماء ورجلاه إلى الأرض وقد قال الله عز وجل. ألم يروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً. وقال تعالى. جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً. فأخبر الله تعالى إخباراً لا يرده إلا كافر بأن القمر في السماء وأن الشمس أيضاً في السماء ثم قد قام البرهان الضروري المشاهد بالعيان على دورانها حول الأرض من مشرق إلى مغرب ثم من مغرب إلى مشرق فلو كان على ما يظن أهل الجهل لكانت الشمس والقمر إذا دارا بالأرض وصارا فيما يقابل صفحة الأرض التي لسنا عليها قد خرجا عن السماء وهذا تكذيب لله تعالى فصح بهذا أنه لا يجوز أن يفارق الشمس والقمر السموات ولا أن يخرجا عنها لأنهما كيف دارا فهما في السموات فصح ضرورة أن السموات مطابقة طباقاً على الأرض وأيضاً فقد نص تعالى كما ذكرنا على أن الشمس والقمر والنجوم في السموات ثم قال تعالى. وكلٌ في فلك يسبحون. وبالضرورة علمنا أنه لا يمكن أن يكون جرم في وقت واحد في مكانين فلو كانت السموات غير الأفلاك وكانت الشمس والقمر بنص القرآن في السموات وفي الفلك لكانا في مكانين في وقت غير متداخلين واحد وهذا محال ممتنع ولا ينسب القول بالمحال إلى الله عز وجل إلا أعمى القلب فصح أن الشمس في مكان واحد وهو سماء وهو فلك وهكذا القول في القمر وفي النجوم وقوله تعالى وكلٌ في فلك يسبحون نص جلي على الاستدارة لأنه أخبر تعالى أن الشمس والقمر والنجوم سابحة في الفلك ولم يخبر تعالى أن لها سكوناً فلو لم تستدر لكانت على أباد الدهور بل في الأيام اليسيرة تغيب عنا حتى لا نراها أبداً لو مشت على طريق واحد وخط واحد مستقيم أو معوج غير مستدير لكنا أمامها أبداً وهذا باطل فصح بما نراه من كرورها من شرق إلى غرب وغرب إلى شرق أنها دائرة ضرورة وكذلك قال رسول الله ﷺ إذ سئل عن قول الله تعالى. والشمس تجري لمستقرٍ لها. فقال عليه السلام مستقرها تحت العرش وصدق ﷺ لأنها أبداً تحت العرش إلى يوم القيامة وقد علمنا أن مستقر الشيء هو موضعه الذي يلزم فيه ولا يخرج عنه وإن مشى فيه من جانب إلى جانب حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري ثنا عبد الله ابن أحمد الهروي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي حدثنا إبراهيم بن خزيم ثنا عبد بن حميد حدثني سليمان بن حرب الواسحي ثنا حماد بن سلمة عن اياسي بن معاوية المزني قال السماء مقببة هكذا على الأرض وبه إلى عبد بن حميد حدثني يحيى بن عبد الحميد عن يعقوب عن جعفر هو ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال أرأيت قول الله عز وجل. سبع سموات ومن الأرض مثلهن. قال ابن عباس هن ملتويات بعضهن على بعض حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن معاوية القرشي حدثنا أبو يحيى زكريا ابن يحيى الساجي البصري قال أنبأنا عبد الأعلى ومحمد بن المثنى وسلمة بن شبيب قالوا كلهم ثنا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاع العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فذكر الحديث بطوله وفيه أنه ﷺ قال للأعرابي ويحك تدري ما الله إن عرشه على سمواته وأرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة ووصف لهم ابن جرير بيده وأمال كفه وأصابعه اليمنى وقال هكذا حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله وأحمد بن عبد البصير قالا جميعاً أنبأنا قاسم بن اصبع ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ثنا شعبة عن الأعمش هو سليمان بن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كل في فلك يسبحون فلك كفلك المغزل قال أبو محمد وذكروا أيضاً قول الله عز وجل عن ذي القرنين. وجدها تغرب في عين حمئة وقريء. أيضاً حامية قال أبو محمد وهذا هو الحق بلا شك وذو القرنين كان في العين الحمئة الحامية حمئة من حماتها حامية من استحرارها كما تقول رأيتك في البحر تريد أنك إذ رأيته كنت أنت في البحر وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان مرئيٌّ مشاهد ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم عين البتة لاسيما أن تكون عيناً حمئة حامية وباللغة العربية خوطبنا فلم تيقنا أنها عين بإخبار الله عز وجل الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه علمنا يقيناً أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار هنالك وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس ليس يشغل من الأرض إلا مقدار مساحة جسمه فقط قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً ومن هذه صفته فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض بمقدار مكان المغارب كلها لو كان مغيبها في عين من الأرض كما يظن أهل الجهل ولابد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض أو من نشز من أنشازها ما يمنع الخط من التمادي إلى أن يقول قائل إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة عيناً حمئة ولا حامية وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك وأنها إنما هي من الفلك سراج وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يجوز أن يختلف ولا يتناقض فلو غابت في عين في الأرض كما يظن أهل الجهل أو في البحر لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك وهذا هو الباطل المخالف لكلام الله عز وجل حقاً نعوذ من ذلك فصح يقيناً بلا شك أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة الحامية حين انتهى إلى آخر البر في المغارب وبالله التوفيق لاسيما مع ما قام البرهان عليه من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر قاطع وهو قول النصارى. وجدها تغرب في عين حامية. وقري حمئة. ووجدها عندها قوماً. فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس وقال الله عز وجل. جنة عرضها السموات والأرض. وقد صح الإجماع والنص على أن أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم في الجنة إلا في قول من لا يعد من جملة أهل الإسلام ممن يقول بفناء الأرواح وأنها أعراض وكذلك أرواح الشهداء في الجنة وأخبر رسول الله ﷺ أنه رآهم ليلة أسري به في السموات سماءً سماءً آدم في سماء الدنيا وعيسى ويحيى في الثانية ويوسف في الثالثة وإدريس في الرابعة وهارون في الخامسة وموسى وإبراهيم في السادسة والسابعة صلى الله على جميعهم وسلم فصح ضرورة أن السموات هي الجنات وقد قال عليه السلام أن أرواح الشهداء طير أخضر تعلق في ثمار الجنة ومن المحال الممتنع الذي لا يظنه مسلم أن تكون أرواح الشهداء طيور خضر وأرواح الأنبياء في غير الجنة إذ هم أولى بكل فضل ولا مكان فضل من الجنة حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو ذر الهروي أنا أحمد بن عبدان الحافظ النيسابوري بالأهواز أنا محمد بن سهل المقري حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف الصحيح أنا أبو عاصم النبيل أنا عبد الله بن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنا محمد بن جبير عن صفوان بن يعلى عن أبيه عن النبي ﷺ قال البحر من جهنم أحاط به سرادقها حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث أنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم حدثنا أحمد بن خالد أنا محمد بن عبد السلام الخشني حدثنا محمد ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عثمان بن غياث عن عكرمة مولي بن عباس عن ابن عباس عن كعب قال والبحر المسجور يسجر فيكون جهنم حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي أنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي أنا أحمد بن خالد حدثنا علي بن عبد العزيز أنا الحجاج بن المنهال السلمي أنا مهدي بن ميمون عن محمد بن عبد الله ابن أبي يعقوب الضبي عن بشر هو ابن سعاف قال كنا مع عبد الله بن سلام يوم الجمعة في المسجد فقال وإن الجنة في السماء والنار في الأرض وذكر كلاماً كثيراً وبه إلى الحجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة عن داد عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب قال ليهودي أين جهنم قال في البحر قال علي بن أبي طالب ما أظنه إلا قد صدق حدثنا المهلب الأسدي حدثنا ابن مياس حدثنا بن مسرور حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله ابن وهب عن شبيب بن سعيد عن المنهال عن شقيق بن سلمة عن بن سمعود قال الأرض كلها يومئذ نار والجنة من ورائها وأولياء الله في ظل عرش الله تعالى قال أبو محمد وقال الله تعالى. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار. فبين تعالى أن الشمس أبطأ من القمر وهكذا قام البرهان بالرصد أن الشمس تقطع السماء في سنة والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوماً ثم نص تعالى على أن الليل لا يسبق النهار فبين تعالى بهذا حكم الحركة الثانية التي للفلك الكلي وهي التي تتم في كل يوم وليلة دورة وتتساوى فيها جميع الدراري والشمس والقمر والنجوم وقال تعالى. فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. وأخبر تعالى أن أرواح الكافرين لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة فصح أن من فتحت له أبواب السماء دخل الجنة وأخبر رسول الله ﷺ أن شدة الحر من فيح جهنم وأن لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف وإن ذلك أشد ما نجد من الحر والبرد وإن نارنا هذه أبرد من نار جهنم بتسع وستين درجة وهكذا نشاهد من فعل الصواعق فإنها تبلغ من الإحراق والأذى في مقدار اللمحة ما لا تبلغه نارنا في المدد الطوال وقال رسول الله ﷺ إن آخر أهل الجنة دخولاً فيما بعد خروجه من النار يعطى مثل الدنيا عشر مرات رويناه من طريق أبي سعيد الخدري مسنداً وصح أيضاً مسنداً عن رسول الله ﷺ أن الدنيا في الآخرة كاصبع في اليم قال أبو محمد وهذا إنما هو في نسبة المسافة لا في نسبة المدة لأن مدة الآخرة لا نهاية لها وما لا نهاية له فلا ينسب منه شيء البتة بوجه من الأوجه ولا هو أيضاً نسبة من السرور واللذة ولا من الحزن والبلاء فإن سرور الدنيا مشوب بألم ومتناه وحزنها متناه منقض وسرور الآخرة وحزنها خالصان غير متناهيين وهكذا قام البرهان من قبل رويتنا لنصب السماء أبداً على أنه لا نسبة للأرض عند السماء ولا قدر وقال عز وجل. جنة عرضها السموات والأرض. وقال تعالى. وجنى الجنتين دان. وذكر رسول الله ﷺ أن للجنة ثمانية أبواب وقال عليه السلام فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن فصح يقيناً أنهما جنتان إحداهما عرض السموات والأرض والأخرى عرضها كعرض السماء والأرض وقوله تعالى. وةلمن خاف مقام ربه جنتان. إنما هو خبر عن الجميع أن لهم هاتين الجنتين فالتي عرضها السموات والأرض هي السموات السبع لأن عرض الشيء منه بلا شك وكل جرم كرسي فإن جميع إبعاده عروض فقط وذكرت الأرض هنا لدخولها في جملة مساحة السموات ولإحاطة السموات بها والتي عرضها كعرض السماء والأرض هي الكرسي المحيط بالسموات والأرض قال الله تعالى. وسع كرسيه السموات والأض. فصح أن عرضه كعرض السموات والأرض مضافاً بعض ذلك إلى بعض فصح أن لها ثمانية أبواب في كل سماء باب وفي الكرسي باب وصح أن العرش فوق أعلا الجنة وهو محل الملائكة وموضعها ليس من الجنة في شيء بل هو فوقها وكذلك قوله تعالى. الذين يحملون العرش ومن حوله. بيان جلي بأن على العرش جرماً آخر فيه الملائكة وقد ذكر أن البرهان يقوم بذلك من أحكم النظر في الهيئة وهذه نصوص ظاهرة جلية دون تكلف تأويل قال أبو محمد وقوله تعالى كعرض السماء ذكر لجنس الموات لأن السموات اسم للجنس يدل عليه قوله تعالى. وسع كرسيه السموات والأرض. قال أبو محمد ومثل هذا كثير مما إذا تدبره المتدبر دل على صحة ما قلناه من أن كل ما ثبت ببرهان فهو منصوص في القرآن وكلام النبي ﷺ
مطلب بيان كذب من ادعى المدة الدنيا عدداً معلوماً
قال أبو محمد وأما اختلاف الناس في التاريخ فإن اليهود يقولون للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف والنصارى يقولون للدنيا مسة آلاف سنة وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب وقال ما لم يأت قط عن رسول الله ﷺ فيه لفظة تصح بل صح عنه عليه السلام خلافه بل نقطع على أن للدنيا أمراً لا يعلمه إلا الله عز وجل قال الله تعالى. ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم. وقول رسول الله ﷺ ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض هذا عنه عليه السلام ثابت وهو عليه السلام لا يقول إلا عين الحق ولا يسامح بشيء من الباطل وهذه نسبة من تدبرها وعرف مقدار أعداد أهل الإسلام ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض وأنه الأكثر علم أن للدنيا عدداً لا يحصيه إلا الله الخالق تعالى وكذلك قوله ﷺ بعثت أنا والساعة كهاتين وضم اصبعيه المقدستين السبابة والوسطى وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله عز وجل لا أحد سواه فصح أنه عليه السلام إنما عني شدة القرب لا فضل طول الوسطى على السبابة إذ لو أراد فضل ذلك لأخذت نسبة ما بين الاصبعين ونسب ذلك من طول الوسطى فكان لا يعلم بذلك متى تقوم الساعة وهذا باطل وأيضاً فكان تكون نسبته عليه السلام إيانا إلى من قبلنا بأنه كالشعرة في الثور كذباً ومعاذ الله من ذلك فصح أنه عليه السلام إنما أراد شدة القرب وله عليه السلام مذ بعث أربعمائة عام ونيف والله أعلم بمقدار ما بقي من عمر الدنيا فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عندما سلف لقلته وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى فهذا الذي قاله عليه السلام من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار قال أبو محمد وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الناصري رحمه الله قال حدثني محمد بن معاوية القرشي أنه رأى بالهند بداله اثنان وسبعون ألف سنة وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون بأربعمائة ألف سنة قال أبو محمد إلا أن لكل ذلك أولاً ومبدأ ولا بد من نهاية لم يكن شيء من العالم موجوداً قبلها ولله الأمر من قبل ومن بعد ومما اعترض به بعضهم إن قال أنتم تقولون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ويلبسون ويطأون النساء وإن هنالك جواري أبكاراً خلقن لهم وذلك المكان لا فساد فيه ولا استحالة ولا مزاج وهذه أشياء كوائن فواسد فكيف الأمر قال أبو محمد إن ها هنا ثلاثة أجوبة أحدها برهان ضروري سمعي والثاني برهان نظري مشاهد والثالث إقناعي خارج على أصول المعارض لنا فالأول وهو الذي يعتمد عليه وهو أن البرهان الضروري قد قدمناه على أن الله عز وجل خلق الأشياء وابتدعها مخترعاً لها لا من شيء ولا على أصل متقدم وإذ لا شك في هذا فليس شيء متوهم أو مسئول يتعذر من قدرة الخالق عز وجل إذ كل ما شاء كونه كونه ولا فرق بين خلقه عز وجل كل ذلك في هذه الدار وبين خلقه كذلك في الدار الآخرة وقد أخبرنا رسول الله ﷺ الذي قامت البراهين الضرورية على أن الله عز وجل بعثه إلينا ووسطه للتبليغ عنه وعلى صدقه فمما أخبر به أن الأكل والشرب واللباس والوطيء هنا لك وكان هذا الخبر الذي اخبرنا به الصادق عليه السلام داخلاً في حد الممن لا في الممتنع ثم لما أخبرنا الله تعالى به على لسان رسوله ﷺ صح علمنا به ضرورة فبان أنه في حد الواجب وأما الجواب الثاني فهو أن الله عز وجل خلق أنفسنا ورتب جواهرها وطباعها الذاتية رتبة لا تستحيل البتة على التذاذ المطاعم والمشارب والروائح الطيبة والمناظر الحسنة والأصوات المطربة والملابس المعجبة على حسب موافقة كل ذلك لجوهر أنفسنا هذا ما لا مدفع فيه ولا شك في أن النفوس هي الملتذة بكل ما ذكرنا وأن الحواس الجسدية هي المنافذ الموصلة لهذه الملاذ إلى النفوس وكذلك المكاره كلها وأما الجسد فلا حس له البتة فهذه طبيعة جوهر أنفسنا التي لا سبيل إلى وجودها دونها إذا جمع الله يوم القيامة بين أنفسنا وبين الأجساد المركبة لها وعادت كما كانت جوزيت هنالك ونعمت بملاذها وبما تستدعيه طباعها التي لم توجد قط إلا كذلك ولا لها لذة سواها إلا أن الطعام الذي هنالك غير معانىً بنار ولا ذو آفات ولا مستحيل قذراً ودماً ولا ذبح هنالك ولا آلام ولا تغير ولا موت ولا فساد وقد قال الله تعالى. لا يصدعون عنها ولا ينزفون. وتلك الملابس غير محوكة بنسج ولا فانية ولا متغيرة ولا تقبل البلاء وتلك الأجساد لا كدر فيها ولا خلط ولا دم ولا أذى وتلك النفوس لا رذيلة فيها من غل ولا حسد ولا حرص قال الله تعالى. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً. وأخبر رسول الله ﷺ عن المخرجين من النار أنهم يطرحون في نهر على باب الجنة فإذا نقوا وهذبوا هذا نص لفظ رسول الله ﷺ ثم بعد التنقية أخبر رسول الله ﷺ أنهم حينئذ يصيرون إلى الجنة فصح أن الملاذ من هذه الأشياء والمتناولات تصل إلى النفوس هنالك على حسب اختلاف وجود النفس لها وتغاير أنواع التذاذها بها وأوقعت عليها الأسماء لإفهامنا المعنى المراد وقد روينا عن ابن عباس ما حدثناه يحيى ابن عبد الرحمن بن مسعود حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي حدثنا وكيع بن الجراح أنبأنا الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنه قال ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء وهذا سند في غاية الصحة وهو أول حديث في قطعة وكعي المشهورة قال أبو محمد وأما الوطىء فهو هنالك كما عندنا ههنا لأنه ليس فيه مؤنة ولا استحالة وإنما هو التذاذ النفس بمداخلة بعض الجسد المضاف إليها لجسد آخر فقط وأما الجواب الثالث الإقناعي وهو موافق لأصولهم ولسنا نعتمد عليه فهو قدماء الهند قد ذكروا في كلامهم في الأفلاك والبروج ووجوه المطالع أنه يطلع مع كل وجه من وجوه البروج صور وصفوها وذكروا أنه ليس في العالم الأدنى صورة إلا وهي في العالم الأعلا قال أبو محمد وهذا إيجاب منهم أن هنالك ملابس ومشارب ومطاعم ووطئاً وأنهاراً وأشجارً وغير ذلك قال أبو محمد وعارضني يوماً نصراني كان قاضياً على نصارى قرطبة في هذا وكان يتكرر على مجلسي فقلت له أوليس فيما عندكم في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال لتلاميذه ليلة أكل معهم الفصح وفيها أخذ بزعمهم وقد سقاهم كأساً من خمر وقال إني لا أشربها معكم أبداً حتى تشربوها معي في الملكوت عن يمين الله تعالى وقال في قصة الفقير المسمى العاذار الذي كان مطرحاً على باب الغني تلحس الكلاب جراح قروحه وأن ذلك الغني نظر إليه في الجنة متكئاً في حجر إبراهيم عليه السلام فناداه الغني وهو في النار يا أبي يا إبراهيم ابعث إلى العاذار بشيء من ماء يبل به لساني وهذا نص على أن في الجنة شراباً من ماء وخمر فسكت النصراني وانقطع وأما التوراة التي بأيدي اليهود فليس ذكر لنعيم الآخرة أصلاً ولا لجزاء بعد الموت البتة قال أبو محمد وكذك الجواب في أكل أهل النار وشربهم سواء بسواء كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد والأرض أيضاً سبع طباق منطبقة بعضها على بعض كإطباق السموات لإخبار خالقنا بذلك وليس ذلك قبل الخبر في حد الممتنع بل في حد الممكن وذكر قوم قول الله تعالى. يوم تبدل الأرض غير الأرض والمسوات. فقلنا قول الله هذا حقاً وقد قال عز وجل. وفتحت السماء فكانت أبواباً. وقال عز وجل. يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن. وقال تعالى. وحملت الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها. وقال تعالى. إذا السماء انشقت. وقال تعالى. وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت. وقال تعالى. إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت. وقال تعالى. إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت. وقال تعالى. إن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما. وقال تعالى. كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين. وقال تعالى وذكر أهل الجنة. خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ. فكل كلامه تعالى حق لا يجوز الاقتصار على بعضه دون بعض فصح يقيناً أن تبديل السموات والأرض إنما هو تبديل أحوالها لا إعدامها لكن إخلاؤها من الشمس والقمر والكواكب والنجوم وتفتيحها أبواباً وكونها كالمهل وتشققها ووهيها وانفطارها وتدكدك الأرض والجبال وكونها كالعهن المنفوش وتسييرها وتسجير البحار فقط وبهذا تتألف الآيات كلها ولا يجوز عن هذا أصلاً ومن اقتصر على آية التبديل كذب كل ما ذكرنا وهذا كفر ممن فعله ومن جمعها كلها فقد آمن بجميعها وصدق الله تعالى في كل ما قال وهذا يوجب ما قلنا ضرورة وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد قد أكملنا والحمد لله كثيراً الكلام على الملل المخالفة لدين الإسلام الذي هو دين الله تعالى على عباده الذي لا دين له في الأرض غيره إلى يوم القيامة وأوضحنا بعون الله تعالى وتأييده البراهين الضرورية على إثبات الأشياء ووجودها ثم على حدوثها كلها جواهرها وأعراضها بعد إن لم تكن ثم على أن لها محدثاً واحداً مختاراً لم يزل وحده لا شيء معه وأنه فعل لا لعلة وترك لا لعلة بل كما شاء لا إله إلا هو ثم على صحة النبوات ثم على صحة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ وأن ملته هي الحق وكل ملة سواها باطل وأنه آخر الأنبياء وملته آخر الملل فلنبدأ الآن بعون الله تعالى وتأييده في ذكر نحل المسلمين وافتراقهم فيها وبيان الحق في كل وبالله نستعين بسم الله الرحمن الرحيم قال الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه إذ قد أكملنا بعون الله الكلام في الملل فلنبدأ بحول الله عز وجل في ذكر نحل أهل الإسلام وافتراقهم فيها وإيراد ما شغب به من شغب منهم فيما غلط فيه من نحلته وإيراد البراهين الضرورية على إيضاح نحلة الحق من تلك النحل كما فعلنا في الملل والحمد لله رب العالمين كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال أبو محمد فرق المقرين بملة الإسلام خمسة وهم أهل السنة والمعتزلة والمرجئية والشيعة والخوارج ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق وأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسيرة من الاعتقادات سننبه عليها إن شاء الله تعالى ثم سائر الفرق الأربعة التي ذكرنا ففيها ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد وفيهم ما يخالفهم الخلاف القريب فأقرب فرق المرجئية إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معاً وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان والأشعري ومحمد بن كرام السجستاني فإن جهماً والأشعري يقولون أن الإيمان عقد بالقلب فقط وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الصليب في دار الإسلام بلا تقية ومحمد بن كرام يقول هو القول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه وأقرب فرق المعتزلة إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار وبشر بن غياث المريسي ثم أصحاب ضرار ابن عمرو وأبعدهم أصحاب أبي الهزيل وأقرب مذاهب الشيعة إلى أهل السنة المنتمون إلى أصحاب الحسن بن صالح بن حي الهمزاني الفقيه القائلون بأن الإمامة في ولد علي رضي الله عنه والثابت عن الحسن بن صالح رحمه الله هو قولوا أن الإمامة في جميع قريش وتولى جميع الصحابة رضي الله عنهم إلا أنه كان يفضل علياً على جميعهم وأبعدهم الإمامية وأقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضي الفزاري الكوفي وأبعدهم الأزارقة وأما أصحاب أحمد بن حابط وأحمد بن مالوس والفضل الحراني والغالية من الروافض والمتصوفة والبطيحية أصحاب أبي إسماعيل البطيحي ومن فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فليسوا من أهل الإسلام بل كفار بإجماع الأمة ونعوذ بالله من الخذلان ذكر ما اعتمدت عليه كل فرقة من هذه الفرق مما اختصت به قال أبو محمد أما المرجئية فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في الإيمان والكفر ما هما والتسمية بهما والوعيد واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلفت غيرهم وأما المعتزلة فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في التوحيد وما يوصف به الله تعالى ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق أو الإيمان والوعيد وقد يشارك المعتزلة في الكلام فيما يوصف الله تعالى به جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان والأشعرية وغيرهم من المرجئية وهشام بن الحكم وشيطان الطاق واسمه محمد بن جعفر الكوفي وداود الحواري وهؤلاء كلهم شيعة إلا أننا اختصصنا المعتزلة بهذا الأصل لأن كل من تكلم في هذا الأصل فهو غير خارج عن قول أهل السنة أو قول المعتزلة حاشا هؤلاء المذكورين من المرجئية والشيعة فإنهم انفردوا بأقوال خارجة عن قول أهل السنة والمعتزلة وأما الشيعة فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي ﷺ واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم وأما الخوارج فعمدة مذهبهم الكلام في الإيمان والكفر ما هما والتسمية بهما والوعد والإمامة واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم وإنما خصصنا هذه الطوائف بهذه المعاني لأن من قال إن أعمال الجسد إيمان فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وإن مؤمناً يكفر بشيء من أعمال الذنوب وإن مؤمناً بقلبه وبلسانه يخلد في النار فليس مرجئياً ومن وافقهم على أقوالهم ها هنا وخالفهم فيما عدا ذلك من كل ما اختلف المسلمون فيه فهو مرجيء ومن خالف المعتزلة في خلق القرآن والرؤية والتشبيه والقدر وأن صاحب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر لكن فاسق فليس منهم ومن وافقهم فيما ذكرنا فهو منهم وإن خالفهم فيما سوى ما ذكرنا مما اختلف فيه المسلمون ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وإن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجياً قال أبو محمد وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ومن عداهم فأهل البدعة فإنهم الصحابة رضي الله عنهم وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله عليهم قال أبو محمد وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلماً مثل طوائف من الخوارج غلوا فقالوا إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات بني الإخوة وبنات بني الأخوات وقالوا إن سورة يوسف ليست من القرآن وآخرون منهم قالوا يحد الزاني والسارق ثم يستتابون من الكفر فإن تابوا وإلا قتلوا وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح وآخرون منهم قالوا إن شحم الخنزير ودماغه حلال وطوائف من المرجئية قالوا إن إبليس لم يسأل الله قط النظرة ولا أقر بأن خلقه من نار وخلق آدم من تراب وآخرون قالوا إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح وآخرون كانوا من أهل السنة ففعلوا فقالوا قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة عليهم السلام وأن من عرف الله حق معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع وقال بعضهم بحلول الباري تعالى في أجسام خلقه كالحلاج وغيره وطوائف كانوا من الشيعة ثم غلوا فقال بعضهم بالآهية علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة بعده ومنهم من قال بنبوته وبتناسخ الأرواح كالسيد الحميري الشاعر وغيره وقالت طائفة بنبوة المغيرة بن أبي سعيد مولي بني بجلة وبنبوة أبي منصور العجلي وبزيع الحايك وبيان ابن سمعان التميمي وغيرهم وقال آخرون منهم برجعة علي إلى الدنيا وامتنعوا من القول بظاهر القرآن وقالوا إن لظاهره تأويلات فمنها أن قالوا السماء محمد والأرض أصحابه وأن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة أنها هي فلانة يعني أم المؤمنين رضي الله عنها وقالوا العدل والإحسان هو علي والخبث والطاغوت فلان وفلان يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا الصلاة هي دعاء الإمام والزكاة هي ما يعطي الإمام والحج القصد إلى الإمام وفيهم خناقون ورضاخون وكل هذه الفرق لا تتعلق بحجة أصلاً وليس بأيديهم إلا دعوى الإلهام والقحة والمجاهرة بالكذب ولا يلتفتون إلى مناظرة ويكفي من الرد عليهم أن يقال لهم ما الفرق بينكم وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولكم ولا سبيل إلى الانفكاك من هذا وأيضاً فإن جميع فرق الإسلام متبرئة منهم مكفرة لهم مجمعون على أنهم على غير الإسلام نعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطير في أنفسهم حتى أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى ففي كل ذلك يظهر الله سبحانه وتعالى الحق وكان من قائمتهم ستقادة واستاسيس والمقنع وبابك وغيرهم وقيل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب بخداش وابو سلم السراج فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله ﷺ واستشناع ظلم علي رضي الله عنه ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام فقوم منهم أدخلوهم إلى القول بأن رجلاً ينتظر يدعى المهدي عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين من هؤلاء الكفار إذ نسبوا أصحاب رسول الله ﷺ إلى الكفر وقوم خرجوا إلى نبوة من ادعوا له النبوة وقوم سلكوا بهم المسلك الذي ذكرنا من القول بالحلول وسقوط الشرائع وآخرون تلاعبوا فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة وآخرون قالوا بل هي سبع عشر صلاة في كل صلاة خمسة عشر ركعة وهذا قول عبد الله بن عمرو بن الحرث الكندي قبل أن يصير خارجياً صغرياً وقد سلك هذا المسلك أيضاً عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي فإنه لعنه الله أظهر الإسلام لكيد أهله فهو كان أصل إثارة الناس على عثمان رضي الله عنه وأحرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بالإلهية ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة قائلتان بالمجوسية المحضة ثم مذهب مردك الموبذ الذي كان على عهد أنوشروان ابن قيماد ملك الفرس وكان يقول بوجوب تأسي الناس في النساء والأموال قال أبو محمد فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوه عن الإسلام كيف شاؤا إذ هذا هو غرضهم فقط فالله الله عباد الله اتقوا الله في أنفسكم ولا يغرنكم اهل الكفر والإلحاد ومن موه كلامه بغير برهان لكن بتمويهات ووعظ على خلاف ما أتاكم به كتاب ربكم وكلام نبيكم ﷺ فلا خير فيما سواهما واعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا سر تحته كله برهان لا مسامحة فيه واتهموا كل من يدعوا أن يتبع بلا برهان وكل من ادعى للديانة سراً وباطناً فهي دعاوي ومخارق واعلموا أن رسول الله ﷺ لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعي الناس كلهم إليه ولو كتمهم شيئاً لما بلغ كما أمر ومن قال هذا فهو كافر فإياكم وكل قول لم يبن سبيله ولا وضح دليله ولا تعوجاً عنما مضى عليه نبيكم ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم.
قال أبو محمد وقد أوضحنا شنع جميع هذه الفرق في كتاب لنا لطيف اسمه النصائح المنجية من الفضائح المخزية والقبايح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربع المعتزلة والمرجئية والخوارج والشيع ثم أضفناه إلى آخر كلامنا في النحل من كتابنا هذا وجملة الخير كله أن تلزموا ما نص عليكم ربكم تعالى في القرآن بلسان عربي مبين لم يفرط فيه من شيء تبياناً لكل شيء وما صح عن نبيكم ﷺ برواية الثقاة من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم مسند إليه عليه السلام فهما طريقتان يوصلانكم إلى رضى ربكم عز وجل ونحن نبتدي من هنا إن شاء الله تعالى في المعاني التي هي عمدة ما افترق المسلمون عليه وهي التوحيد والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة ثم أشياء تسميها المتكلمون اللطائف ونورد كل ما احتجوا به ونبين بالبراهين الضرورية إن شاء الله تعالى وجه الحق من كل ذلك كما فعلنا فيما خلى بعون الله تعالى وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأول ذلك الكلام في التوحيد ونفي التشبيه
قال أبو محمد ذهبت طائفة إلى القول بأن الله تعالى جسم وحجتهم في ذلك أنه لا يقوم في المعقول إلا جسم أو عرض فلما بطل أن يكون تعالى عرضاً ثبت أنه جسم وقالوا إن الفعل لا يصح إلا من جسم والباري تعالى فاعل فوجب أنه جسم واحتجوا بآيات من القرآن فيها ذكر اليد واليدين والأيدي والعين والوجه والجنب وبقوله تعالى وجاء ربك ويأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وتجليه تعالى وبأحاديث للجبل فيها ذكر القدم واليمين والرجل والأصابع والتنزل قال أبو محمد ولجميع هذه النصوص وجوه ظاهرة بينة خارجة على خلاف ما ظنوه وتأولوه قال أبو محمد وهذان الاستدلالان فاسدان أما قولهم أنه لا يقوم في المعقول إلا جسم أو عرض فإنها قسمة ناقصة وإنما الصواب أنه لا يوجد في العالم إلا جسم أو عرض وكلاهما يقتضي بطبيعته وجود محدث له فبالضرورة نعلم أنه لو كان محدثها جسماً أو عرضاً لكان يقتضي فاعلاً فعله ولا بد فوجب بالضرورة أن فاعل الجسم والعرض ليس جسماً ولا عرضاً وهذا برهان يضطر إليه كل ذي حس بضرورة العقل ولابد وأيضاً فلو كان الباري تعالى عن إلحادهم جسماً لاقتضى ذلك ضرورة أن يكون له زمان ومكان هما غيره وهذا إبطال التوحيد وإيجاب الشرك معه تعالى لشيئين سواه وإيجاب أشياء معه غير مخلوقة وهذا كفر وقد تقدم إفسادنا لهذا القول وأيضاً فإنه لا يعقل البتة جسم إلا مؤلف طويل عريض عميق ونظارهم لا يقولون بهذا فإن قالوه لزمهم أن له مؤلفاً جامعاً مخترعاً فاعلاً فإن منعوا من ذلك لزمهم أن لا يوجبوا لما في العالم من التأليف لا مؤلفاً ولا جامعاً إذ المؤلف كله كيفما وجد يقتضي مؤلفاً ضرورة فإن قالوا هو جسم غير مؤلف قيل لهم هذا هو الذي لا يعقل حقاً ولا يتشكل في النفس البتة فإن قالوا لا فرق بين قولنا شيء وبين قولنا جسم قيل لهم هذه دعوى كاذبة على اللغة التي بها يتكلمون وأيضاً فهو باطل لأن الحقيقة أنه لو كان الشيء والجسم بمعنى واحد لكان العرض جسماً لأنه شيء وهذا باطل يتعين والحقيقة هي أنه لا فرق بين قولنا شيء وقولنا موجود وحق وحقيقة ومثبت فهذه كلها أسماء مترادفة على معنى واحد لا يختلف وليس منها اسم يقتضي صفة أكثر من المسمى بذلك حق ولا مزيد وأما لفظة جسم فإنها في اللغة عبارة عن الطويل العريض العميق المحتمل للقسمة ذي الجهات السصت التي هي فوق وتحت ووراء وأمام ويمين وشمال وربما عدم واحدة منها وهي الفوق هذا حكم هذه الأسماء في اللغة التي هذه الأسماء منها فمن أراد أن يوقع شيئاً منها على غير موضوعها في اللغة فهو مجنون وقاح وهو كمن أراد أن يسمي الحق باطلاً والباطل حقاً وأراد أن يسمي الذهب خشباً وهذا غاية الجهل والسخف إلا أن يأتي نص بنقل اسم منها عن موضوعه إلى معنى آخر فيوقف عنده وإلا فلا وإنما يلزم كل مناظر يريد معرفة الحقائق أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها الاسم ثم يخبر بعد بها أو عنها بالواجب وأما مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها في اللغة فهذا فعل السوفسطائية الوقحاء الجهال الغابنين لعقولهم وأنفسهم فإن قالوا لنا إنكم تقولون أن الله عز وجل حي لا كالأحياء وعليم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين وشيء لا كالأشياء فلم منعتم القول بأنه جسم لا كالأجسام قيل لهم وبالله تعالى التوفيق. لولا النص الوارد بتسميته تعالى بأنه حي وقدير وعليم ما سميناه بشيء من ذلك لكن الوقوف عند النص فرض ولم يأت نص بتسميته تعالى جسماً ولا قام البرهان بتسميته جسماً بل البرهان مانع من تسميته بذلك تعالى ولو أتانا نص بتسميته تعالى جسماً لوجب علينا القول بذلك وكنا جينئذ نقول أنه لا كالأجسام كما قلنا في عليم وقد يرو حي ولا فرق وأما لفظة شيء فالنص أيضاً جاء بها والبرهان أوجبها على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وقالت طائفة منهم أنه تعالى نور واحتجوا بقوله تعالى. الله نور السموات والأرض. قال أبو محمد ولا يخلو النور من أحد وجهين إما أن يكون جسماً وإما أن يكون عرضاً وأيهما كان فقد قام البرهان أنه تعالى ليس جسماً ولا عرضاً وأما قوله تعالى. الله نور السموات والأرض. فإنما معناه هدى الله بتنوير النفوس إلى نور الله تعالى في السموات والأرض وبرهان ذلك أن الله عز وجل أدخل الأرض في جملة ما أخبر أنه نور له فلو كان الأمر على أنه النور المضيء المعهود لما خبأ الضياء ساعة من ليل أو نهار البتة فلما رأينا الأمر بخلاف ذلك علمنا أنه بخلاف ما ظنوه قال أبو محمد ويبطل قول من وصف الله تعالى بأنه جسم وقول من وصفه بحركة تعالى الله عن ذلك إن الضرورة توجب أن كل متحرك فذو حركة وأن الحركة لمتحرك بها وهذا من باب الإضافة والصورة في المتصور لمصتور وهذا أيضاً من باب الإضافة فلو كان كل مصور متصوراً وكل محرك متحركاً لوجب وجود أفعال لا أوائل لها وهذا قد أبطلناه فيما خلا من كتابنا بعون الله تعالى لنا وتأييده إيانا فوجب ضرورة وجود محرك ليس متحركاً ومصور ليس متصوراً ضرورة ولابد وهو الباري تعالى محرك المتحركات ومصور المصورات لا إله إلا هو وكل جسم فهو ذو صورة وكل ذي حركة فهو ذو عرض محمول فيه فصح أنه تعالى ليس جسماً ولا متحركاً وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فقد قدمنا أن الحركة والسكون مدة والمدة زمان وقد بينا فيما خلا من كتابنا أن الزمان محدث فالحركة محدثة وكذلك السكون والباري تعالى لا يلحقه الحدث إذ لو لحقه محدثاً يقتضي محدثاً فالباري تعالى غير متحرك ولا ساكن وأيضاً فإن الجسم إنما يفعل آثاراً في الجسم فقط ولا يفعل الأجسام فالباري إذن تعالى على قول المجسمة إنما هو فاعل آثاراً في الأجسام فقط لا فاعل أجسام العالم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فإن قالوا فإنكم تسمونه فاعلاً وتسمون أنفسكم فاعلين وهذا تشبيه قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق لا يوجب ذلك تشبيهاً لأن التشبيه إنما يكون بالمعنى الموجود في كلا المتشبهين لا بالأسماء وهذه التسمية إنما هي اشتراك في العبارة فقط لأن الفاعل من متحرك باختيار أو باضطرار أو عارف أو شاك أو مريد أو كان باختيار أو ضمير أو اضطرار كذلك فكل فاعل منا فمتحرك وذو ضمير وكل متحرك فذو حركة تحركه وأعراض الضمائر انفعالات فكل متحرك فهو منفعل وكل منفعل فلفاعل ضرورة وأما الباري تعالى ففاعل باختيار واختراع لا بحركة ولا بضمير فهذا اختلاف لا اشتباه وبالله تعالى التوفيق وكذلك العرض ليس جسماً والجسم ليس عرضاً والباري تعالى ليس جسماً ولا عرضاً فهذان الحكمان لا يوجبان اشتباهاً أصلاً بل هذا عين الاختلاف لكن الاشتباه إنما يكون بإثبات معنى في المشتبهين به اشتبها ولو أوجب ما ذكرنا اشتباهاً لوجب أن يكون لشبه الجسم في الجسمية لأنه ليس عرضاً وإن يكون لشبه العرض في العرضية لأنه ليس جسماً فكان يكون جسماً لا جسماً عرضاً لا عرضاً معاً وهذا محال فصح أن بالنفي لا يجب الاشتباه أصلاً وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن قال أن الله تعالى جسم لا كالأجسام فليس مشتبهاً لكنه الحد في أسماء الله تعالى إذ سماه عز وجل بما لم يسم به نفسه وأما من قال أنه تعالى كالأجسام فهو ملحد في أسمائه تعالى ومشبه مع ذلك قال أبو محمد وأما إطلاق لفظ الصفاة لله تعالى عز وجل فمحال لا يجوز لأن الله تعالى لم ينص قط في كلامه المنزل على لفظة الصفات ولا على لفظ الصفة ولا حفظ عن النبي ﷺ بأن لله تعالى صفة أو صفات نعم ولا جاء قط ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من خيار التابعين ولا عن أحد من خيار تابعي التابعين ومن كان هكذا فلا يحل لأحد أن ينطق به ولو قلنا أن الإجماع قد تيقن على ترك هذه اللفظة لصدقنا فلا يجوز القول بلفظ الصفات ولا اعتقاده بل هي بدعة منكرة قال الله تعالى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى. قال أبو محمد وإنما اخترع لفظ الصفات المعتزلة وهشام ونظراؤه من رؤساء الرافضة وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
وربما أطلق هذه اللفظة من متأخري الأئمة من الفقهاء من لم يحقق النظر فيها فهي وهلة من فاضل وذلة عالم وإنما الحق في الدين ما جاء عن الله تعالى نصاً أو عن رسوله ﷺ كذلك أو صح إجماع الأمة كلها عليه وما عدا هذا فضلال وكل محدثة بدعة فإن اعترضوا بالحديث الذي رويناه من طرق عبد الله بن وهب عن عمرو ابن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الرجاء محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة رضي الله عنها في الرجل الذي كان يقرأ قل هو الله أحد في كل ركعة مع سورة أخرى وأن رسول الله ﷺ أمر أن يسأل عن ذلك فقال هي صفة الرحمن فأنا أحبها فأخبره عليه السلام أن الله يحبه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن أبي هلال وليس بالقوي قد ذكره بالتخليط يحيى وأحمد بن حنبل وأيضاً فإن احتجاج خصومنا بهذا لا يسوغ على أصولهم لأنه خبر واحد لا يوجب عندهم العلم وأيضاً فلو صح لما كان مخالفاً لقولنا لأننا إنما أنكرنا قول من قال إن أسماء الله تعالى مشتقة من صفات ذاته فأطلق لذلك على العلم والقدرة والقوة والكلام أنها صفات وعلى من أطلق إرادة وسمعاً وبصراً وحياة وأطلق أنها صفات فهذا الذي أنكرناه غاية الإنكار وليس في الحديث المذكور ولا في غيره شيء من هذا أصلاً وإنما فيه أن قل هو الله أحد خاصة صفة الرحمن ولم ننكر هذا نحن بل هو خلاف لقولهم وحجة عليهم لأنهم لا يخصون قل هو الله أحد بذلك دون القرآن ودون الكلام والعلم وغير ذلك وفي هذا الخبر تخصيص لقوله قل هو الله أحد وحدها بذلك وقل هو الله أحد خبر عن الله تعالى بما هو الحق فنحن نقول فيها هي صفة الرحمن لمعنى أنها خبر عنه تعالى حق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم لنا وأيضاً فمن أعجب الباطل أن يحتج بهذا الخبر فيما ليس فيه منه شيءٌ من يخالفه ويعصيه في الحكم الذي ورد فيه من استحسان قراءة قل هو الله أحد في كل ركعة مع سورة أخرى فلهذه الفضائح فلتعجب أهل العقول وأما الصفة التي يطلقون هم فإنما هي في اللغة واقعة على عرض في جوهر لا على غير ذلك أصلاً وقد قال تعالى. سبحان ربك رب العزة عما يصفون. فأنكر تعالى إطلاق الصفات جملة فبطل تمويه من موه بالحديث المذكور ليستحل بذلك ما لا يحل من إطلاق لفظة الصفات حيث لم يأت بإطلاقها فيه نص ولا إجماع أصلاً ولا أثر عن السلف والعجب من اقتصارهم على لفظة الصفات ومنعهم من القول بأنها نعوت وسمات ولا فرق بين هذه الألفاظ لا في لغة ولا في معنى ولا في نص ولا في إجماع
القول في المكان والاستواء
قال أبو محمد ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان واحتجوا بقول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم. وقوله تعالى. ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. وقوله تعالى. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. قال أبو محمد قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان ومالىء له ومتشكل بشكل المكان أو المكان متشكل بشكله ولابد من أحد الأمرين ضرورة وعلمنا أن ما كان في مكان فإنه متناه بتناهي مكانه وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه وهذه كلها صفات الجسم فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ونحن أقرب إليه منكم وقوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما عدا ذلك وأيضاً فإن قولهم في كل مكان خطأ لأنه يلزم بموجب هذا القول أنه يملأ الأماكن كلها وأن يكون ما في الأماكن فيه الله تعالى الله عن ذلك وهذا محال فإن قالوا هو فيها بخلاف كون المتمكن في المكان قيل لهم هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل وقد قلنا أنه لا يجوز إطلاق اسم على غير موضوعه في اللغة إلا أن يأتي به نص فيقف عنده وندري حينئذ أنه منقول إلى ذلك المعنى الآخر وإلا فلا فإذ صح ما قد ذكرنا فلا يجوز أن يطلق القول بأن الله تعالى في كل مكان لا على تأويل ولا غيره لأنه حكم بأنه تعالى في الأمكنة لكن يطلق القول بأنه تعالى معنا في كل مكان ويكون قولنا حينئذٍ في كل مكان إنما هو من صلة الضمير الذي هو النون والألف اللذان في معنا لا مما يخبر به عن الله تعالى وهذا هو معنى قوله هو معهم أينما كانوا وهو معكم أينما كنتم وذهب قوم إلى أن الله تعالى في مكان دون مكان وقولهم هذا يفسد بما ذكرنا آنفاً ولا فرق واحتج هؤلاء بقوله تعالى. الرحمن على العرش استوى.
قال أبو محمد وقد تأول المسلمون في هذه الآية تأويلات أربعة أحدها قول المجسمة وقد أبنا بحول الله فساده والآخر قالته المعتزلة وهو أن معناه استولى وأنشدوا قد استوى بشر على العراق قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه لو كان ذلك لما كان العرش أولى بالاستيلاء عليه من سائر المخلوقات ولجاز لنا أن نقول الرحمن على الأرض استوى لأنه تعالى مستولٍ عليها وعلى كل ما خلق وهذا لا يقوله أحد فصار هذا القول دعوى مجردة بلا دليل فسقط وقال بعض أصحاب بن كلاب أن الاستواء صفة ذات ومعناه نفي الاعوجاج قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد لوجوه أحدها أنه تعالى لم يسم نفسه مستوياً ولا يحل لأحد أن يسم الله تعالى بما لم يسم به نفسه لأن من فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه حدود الله أي مال عن الحق وقد حد الله تعالى في تسميته حدوداً فقال تعالى. ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. وثانيها أن الأمة مجمعة على أنه لا يدعو أحد فيقول يا مستوي ارحمني ولا يسمي ابنه عبد المستوي وثالثها أنه ليس كل ما نفي عن الله عز وجل وجب أن يوقع عليه ضده لأننا ننفي عن الله تعالى السكون ولا يحل أن يسمى الله متحركاً وننفي عنه الحركة ولا يجوز أن يسمى ساكناً وننفي عنه الجسم ولا يجوز أن يسمى سماماً وننفي عنه النوم ولا يجوز أن يسمى يقظاناً ولا منتبهاً ولا أن يسمى لنفي الانحناء عنه مستقيماً وكذلك كل صفة لم يأت بها النص فكذلك الاستواء والاعوجاج منفيان عنه معاً سبحانه وتعالى وتعالى الله عن ذلك لأن كل ذلك من صفات الأجسام ومن جملة الإعراض والله قد تعالى عن الأعراض ورابعها أنه يلزم من قال بهذا القول الفاسد أن يكون العرش لم يزل تعالى الله عن ذلك لأنه تعالى علق الاستواء بالعرش فلو كان الاستواء لم يزل لكان العرش لم يزل وهذا كفر وخامسها أنه لو كان الاستواء لم يزل لكان العر لم يزل وهذا كفر وخامسها أنه لو كان الاستواء ههنا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذلك إلى العرش معنى ولكان كلاماً فاسداً لا وجه له فإن اعترضوا فقالوا إنكم تسمونه سميعاً بصيراً وأنه لم يزل كذلك فيلزمكم على هذا أن المسموعات والمبصرات لم تزل قلنا لهم وبالله تعالى نتأيد هذا لا يلزمنا لأننا لا نسمي الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه فنقول قال الله تعالى السميع البصير فقلنا بذلك أنه لم يزل وهو السميع البصير بذاته كما هو ولا نقول لا يسمع ولا يبصر فنزيد على ما أتى به النص شيئاً ونحن نقول أنه تعالى لم يزل سميعاً بصيراً بالمبصرات يرى المرئيات ويسمع المسموعات ومعنى هذا كله أنه عالم بكل ذلك كما قال تعالى. إنني معكما أسمع وأرى. وهذا كله معنى العلم الذي لا يقتضي وجوداً لمعلومات لم تزل لكن يعلم ما يكون أنه سيكون على حقيقته ويعلم ما هو كما هو ويعلم ما قد كان كما قد كان وهذا نجده حساً ومشاهدة وضرورة لأننا فيما بيننا قد نعلم أن زيداً سيموت وموته لم يقع بعد وليس هكذا قولهم في الاستواء لأنه مرتبط بالعرش فإن قالوا لنا فإذن معنى سميع بصير هو معنى عليم فقولوا أنه تعالى يبصر المسموعات ويسمع المرئيات قلنا وبالله تعالى التوفيق ما يمنع من هذا ولا ننكره بل هو صحيح لأن الله تعالى إنما قال أسمع وأرى فهذا إطلاق له على كل شيء على عمومه وبالله تعالى التوفيق والقول الرابع في معنى الاستواء هو أن معنى قوله تعالى على العرش استوى أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه فليس بعد العرش شيء ويبين ذلك أن رسول الله ﷺ ذكر الجنات وقال فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن فصح أنه ليس وراء العرش خلق وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة والزمان والمكان فقد لحق بقول الدهرية وفارق الإسلام والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء قال الله تعالى . فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً. أي فلما انتهى إلى القوة والخير وقال تعالى. ثم استوى إلى السماء وهي دخان. أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الحق وبه نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه فأما القول الثالث في المكان فهو أن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلاً وهو قول الجمهور من أهل السنة وبه نقول وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان كل ما عداه ولقوله تعالى. ألا إنه بكل شيء محيط. فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطاً به من جهة ما أو من جهات وهذا منتف على الباري تعالى بنص الآية المذكورة والمكان شيء بلا شك فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطاً بمكانه هذا محال في العقل بعلم امتناعه ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإنه لا يكون في مكان إلا ما كان جسماً أو عرضاً في جسم هذا الذي لا يجوز سواه ولا يتشكل في العقل والوهم غيره البتة وإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسماً أو عرضاً فقد انتفى أن يكون في مكان أصلاً وبالله تعالى نتأيد وأما قوله تعالى. ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية. فقوله الحق نؤمن به يقيناً والله أعلم بمراده في هذا القول ولعله عنى عز وجل السموات السبع والكرسي فهذه ثمانية أجرام هي يومئذ والآن بيننا وبين العرش ولعلهم أيضاً ثمانية ملائكة والله أعلم نقول ما قال ربنا تعالى ونقطع أنه حق يقين على ظاهره وهو أعلم بمعناه ومراده وأما الخرافات فلسنا منها في شيء ولا يصح في هذا خبر عن رسول الله ﷺ ولكنا نقول هذه غيوب لا دليل لنا على المراد بها لكنا نقول. آمنا به كل من عند ربنا. وكل ما قاله الله تعالى فحق ليس منه شيء منافياً للمعقول بل هو كله قبل أن يخبرنا به تعالى في حد الإمكان عندنا ثم إذا أخبر به عز وجل صار واجباً حقاً يقيناً وقد قال تعالى. الذين يحملون العرش ومن حوله. فصح يقيناً أن للعرش حملة وهم الملائكة المنقادون لأمره تعلاى كما نقول أنا أحمل هذا الأمر أي أقوم به وأتولاه وقد قال تعالى أنهم يفعلون ما يأمرون. وأنهم يتنزلون بالأمر وأما الحامل للكل والممسك للكل فهو الله عز وجل قال الله تعالى. إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.
الكلام في العلم
قال الله عز وجل أنزله بعلمه. فأخبر تعالى أنه له علماً ثم اختلف الناس في علم الله تعالى فقال جمهور المعتزلة إطلاق العلم لله عز وجل إنما هو مجاز لا حقيقة وإنما معناه أنه تعالى لا يجهل وقال سائر الناس إن لله تعالى علماً حقيقة لا مجازاً ثم اختلف هؤلاء فقال جهم بن صفوان وهشام بن الحكم ومحمد بن عبد الله ابن سيرة وأصحابهم أن علم الله تعالى هو غير الله تعالى وهو محدث مخلوق سمعنا ذلك ممن جالسناه منهم وناظرناهم عليه وقالت طوائف من أهل السنة علم الله تعالى غير مخلوق لم يزل وليس هو الله ولا هو غير الله وقال الأشعري في أحد قوليه لا يقال هو الله ولا هو غير الله وقال في قول له آخر وافقه عليه الباقلاني وجمهور أصحابه أن علم الله تعالى هو غير الله وخلاف الله وأنه مع ذلك غير مخلوق لم يزل وقال أبو الهذيل العلاف وأصحابه علم الله لم يزل وهو الله وقالت طوائف من أهل السنة علم الله لم يزل وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى ولا نقول هو الله وكان هشام بن عمر القوطي أحد شيوخ المعتزلة لا يطلق القول بأن الله لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ليس لأنه لا يعلم ما يكون قبل أن يكون بل كان يقول إن الله تعالى لم يزل عالماً بأنه ستكون الأشياء إذا كانت قال أبو محمد فأما من أنكر أن يكون لله تعالى علم فإنهم قالوا لا يخلو لو كان لله تعالى علم من أن يكون غيره أو يكون هو هو فإن كان غيره فلا يخلو من أن يكون مخلوقاً أو لم يزل وأي الأمرين كان فهو فاسد فإن كان هو الله فالله علم وهذا فاسد قال أبو محمد أما نفس قولهم في أن ليس لله تعالى علم فمخالف للقرآن وما خالف القرآن فباطل ولا يحل لأحد أن ينكر ما نص الله تعالى عليه وقد نص الله تعالى على أنه له علماً فمن أنكره فقد اعترض على الله تعالى وأما اعتراضاتهم التي ذكرنا ففاسدة كلها وسنوضح فسادها إن شاء الله تعالى في إفسادنا لقول الجهمية والأشعرية لأن هذه الاعتراضات هي اعتراضات هاتين الطائفتين وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد احتج جهم بن صفوان بأن قال لو كان علم الله تعالى لم يزل لكان لا يخلو من أن لا يكون هو الله أو هو غيره فإن كان علم الله غير الله وهو لم يزل فهذا تشريك لله تعالى وإيجاب الأذلية لغيره تعالى معه وهذا كفر وإن كان هو الله فالله علم وهذا إلحاد وقال نسأل من أنكر أن يكون علم الله تعالى هو غيره فنقول أخبرونا إذا قلنا الله ثم قلنا إنه عليم فهل فهمتم من قولنا عليم شياء زايداً غير ما فهمتم من قولنا الله أم لا فإن قلتم لا أحلتم وإن قلتم نعم أثبتم معنى آخر هو غير الله وهو علمه وهكذا قالوا في قدير وقوي وفي سائر ما ادعوا فيه الصفات وقال أيضاً إننا نقول إن الله تعالى عالم بنفسه ولا نقول أنه قادر على نفسه فصح أن علمه تعالى هو غير قدرته وإذ هو غيرها فهما غير الله تعالى وقد يعلم الله تعالى قادراً من لا يعلمه عالماً ويعلمه عالماً من لا يعلمه قادراً فصح أن كل ذلك معان متغايرة واحتج بهذا كله أيضاً من رأى أن علم الله تعالى لم يزل وأنه مع ذلك غير الله تعالى وأنه غير قدرته أيضاً واحتج بآيات من القرآن مثل قوله تعالى. ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين. ومثل هذه قال أبو محمد من قال بحدوث العلم فإنه قول عظيم جداً لأنه نص بأن الله تعالى لم يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماً وإذا ثبت أن الله تعالى يعلم الآن الأشياء فقد انتفى عنه الجهل بها يقيناً فلو كان يوماً من الدهر لا يعلم شيئاً مما سيكون فقد ثبت له الجهل به ولابد من هذا ضرورة وإثبات الجهل لله تعالى كفر بلا خلاف لأنه وصفه تعالى بالنقص ووصفه يقتضي له الحدوث ولابد وهذا باطل مما قدمنا من انتفاء جميع صفات الحدوث عن الفاعل تعالى وليس هذا من باب نفي الضدين عنه كنفينا عنه تعالى الحركة والسكون لأن نفي جميع الضدين موجود عما ليس فيه أحدهما ولا كلاهما وأما إذا ثبت للموصوف بعض نوع من الصفات وانتفى عنه بعض ذلك النوع فلا بد ههنا ضرورة من إثبات ضده مثال ذلك الحجر انتفى عنه العلم والجهل وأما الإنسان إذا ثبت له العلم بشيء وانتفى عنه العلم بشيء آخر فقد وجب ضرورة إثبات الجهل له بما لم يعلمه وهكذا في كل شيء فإذا قد صح هذا فالواجب النظر في إفساد احتجاجهم فأما قولهم لو كان علم الله لم يزل وهو غير الله تعالى لكان ذلك شركاً فهو قول صحيح واعتراض لا يرد وأما قولهم لو كان هو الله لكان الله علماً فهذا لا يلزم على ما نبين بعد هذا إن شاء الله وجملة ذلك أننا لا نسمي الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه ولم يسم نفسه علماً ولا قدرة فلا يحل لأحد أن يسميه بذلك وأما قولهم هل يفهم من قول القائل الله كالذي يفهم من قوله عالم فقط أو يفهم من قوله عالم معنى غير ما يفهم من قوله الله فجوابنا وبالله تعالى نتأيد أننا لا نفهم من قولنا قدير وعالم إذا أردنا بذلك الله تعالى إلا ما نفهم من قولنا الله فقط لأن كل ذلك أسماء أعلام لا مشتقة من صفة أصلاً لكن إذا قلنا هو الله تعالى بكل شيء عليم ويعلم الغيب فإنما يفهم من كل ذلك أن ههنا له تعالى معلومات وأنه لا يخفى عليه شيء ولا يفهم منه البتة أن له علماً هو غيره وهكذا نقول في يقدر وفي غير ذلك كله وأما قولهم أننا نقول أنه تعالى عالم بنفسه ولا نقول أنه قادر على نفسه فقد كذب من قال ذلك وإفك بل كل ذلك سواء وهو تعالى قادر على نفسه كما هو عالم بها ولا فرق بين ذلك وقد سقط عن هذا السؤال جملة وقد تكلمنا على تفصيل هذا السؤال بعد هذا ويلزمهم ضرورة إذ قالوا أنه تعالى غير قادر على نفسه أنه عاجز عن نفسه وإطلاق هذا كفر صريح وأما قولهم أنه قد يعلم الله تعالى قادراً من لا يعلمه عالماً ويعلمه عالماً من لا يعلمه قادراً فلا حجة في ذلك لأن جهل من جهل الحق ليس بحجة على الحق وقد نجد من يعلم الله عز وجل ويعتقد فيه أنه عز وجل جسم فليست الظنون حجة في إبطال حق ولا في تحقيق باطل فصح أن علم الله تعالى حق وقدرته حق وقوته حق وكل ذلك ليس هو غير الله تعالى ولا العلم غير القدرة ولا القدرة غير العلم إذ لم يأت دليل بغير هذا لا من عقل ولا من سمع وبالله تعالى التوفيق وجهم بن صفوان سمرقندي يكنى أبا محرز مولى لبني راسب من الأزد وكان كاتباً للحارث بن شريح التميمي أيام قيامه بخراسان وظفر مسلم بن أحوز التميمي بجهم في تلك الأيام فضرب عنقه قال أبو محمد ومعنى كل ما جاء في القرآن من الآيات التي ذكروا هو ما نبينه إن شاء الله تعالى بحوله عز وجل وهو أنه لما أخبرنا الله عز وجل بأن أهل النار لوردوا لعادوا لما نهوا عنه وأخبرنا عز وجل بأنه يعلم متى تقوم الساعة وأخبرنا بما تقول أهل الجنة وأهل النار قبل أن يقولوا وسائر ما في القرآن من الأخبار الصادقة عما لم يكن بعد علمنا بذلك إن علمه تعالى بالأشياء كلها متقدم لوجودها ولكونها ضرورة وعلمنا أن كلامه عز وجل لا يتناقض ولا يتدافع وأن المراد بقوله تعالى حتى نعلم المجاهدين منكم وسائر ما في القرآن من مثل هذا إنما هو على ظاهره دون تكلف تأويل بل على المعهود وبيننا كقوله تعالى. فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى. إنما هو كله على حسب إدراك المخاطب ومعنى ذلك أي حتى نعلم من يجاهد منكم مجاهداً ونعلم من يصير منكم صابراً وهذا لا يكون إلا في حين جهادهم وحين صبرهم وأما قبل أن يجاهدوا ويصبروا فإنما علمهم غير مجاهدين وغير صابرين وأنهم سيجاهدون ويصبرون فإذا جاهدوا علمهم حينئذٍ مجاهدين وإنما الزمان في كل هذا للمعلوم وأما علمه تعالى ففي غير زمان وليس ههنا تبدل علم وإنما يتبدل المعلوم فقط والعلم بكل ذلك لم يزل غير متبدل فإن قالوا متى علم الله زيداً ميتاً فإن قلتم لم يزل يعلمه ميتاً وجب أن زيداً لم يزل ميتاً وهذا محال وإن قلتم لم يعلمه ميتاً حتى مات فهذا قولنا لا قولكم فالجواب عن هذا أننا لا نقول شيئاً مما ذكر ولكننا نقول إن الله عز وجل لم يزل يعلم أنه سيخلف زيداً وأنه سيعيش كذا وكذا وأنه سيموت في وقت كذا فعلم الله تعالى بكل ذلك واحد لا يتبدل ولا يستحيل ولا زاد فيه تبدل الأحوال التي للمعلوم شيئاً ولا نقص منه عدمها شيئاً ولا أحدث له حدوث ذلك علماً لم يكن وإنما تغاير المعلومات لا العلم ولا العليم ولا القدرة ولا القدير والفرق بين القول متى علم الله زيداً ميتاً وبين القول متى علمت زيداً ميتاً فرق بين وهو أن علمي بأن زيداً مات هو عرض حدث في النفس بحدوث موت زيد وهو غير علمي بأن زيداً حي وأنه سيموت لأن علمي بأن زيداً سيموت إنما هو علم بأنه ستحدث حال مقتضية لموته يوماً ما لا علمنا بوجود الموت وعلمي بأن زيداً ميت علم بوجود الموت فهو غير العلم الأول وكلاهما عرض مخلوق في النفس وعلم الله تعالى ليس كذلك لأنه ليس هو شيئاً غير الله عز وجل ولو كان علم الله محدثا لوجب ضرورة أن يكون على حكم سائر المحدثات وبضرورة العقل نعلم أن العلم كيفية عرض والعرض لا يقوم البتة إلا في جسم ومحال أن يكون العلم محمولاً في غير العالم به فكان يجب من هذا القول بالتجسيم وهذا قول قد بطل بما قدمنا من البراهين على وجوب حدوث كل جسم وعرض فإن قال قائل علم الله تعالى عرض حادث في المعلوم قائم به لا بالباري عز وجل ولا بنفسه قلنا له وبالله تعالى التوفيق بنص القرآن علمنا أن الله عز وجل عنده علم الساعة وعلم ما لا يكون أبداً إن لو كان كيف كان يكون إذ يقول تعالى. ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. ولقوله تعالى لنوح عليه السلام. إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وأخبر تعالى أنهم مغرقون فلو كان علم الله تعالى عرضاً قائماً في المعلوم والمعلوم الذي هو الساعة غيرموجود بعد والعلم موجود بيقين فلا بد ضرورة من أحد أمرين لا ثالث لهما إما أن يكون المعلوم موجوداً لوجود العلم به وهذا باطل بضرورة الحس لأن المعلوم الذي ذكرنا معدوم فيكون معدوماً موجوداً في حين واحد من جهة واحدة أو يكون العلم الموجود قائماً بمعلوم معدوم فيكون عرض موجود محمولاً في حامل معدوم وهذا تخليط ومحال فاسد البتة وإنما كلامنا هذا مع أهل ملتنا المقرين بالقرآن وأما سائر الملل فليس نكلمهم في هذا لأنها نتيجة مقدمات سوالف ولا يجوز الكلام في النتيجة إلا بعد إثبات المقدمات فإن ثبتت المقدمات ثبتت النتيجة والبرهان لا يعارضه برهان فكل ما ثبت ببرهان فعورض بشيء فإنما هو شغب بلا شك وإن لم تصح المقدمات فالنتيجة باطلة دون تكلف دليل ومقدمات ما ذكرنا هي إثبات التوحيد وحدوث العالم ونقل الكواف لنبوة محمد ﷺ وللقرآن فإن ذكروا الآيات التي في القرآن مثل. لعله يتذكر أو يخشى لعلكم تؤمنون لعلكم تشكرون لعلكم تذكرون. ونحو ذلك فإنما هي كلها بمعنى لام العاقبة أي ليتذكر ولتؤمنوا وليشكروا وليتذكروا وليخشى على ظاهر الأمر عندنا من إمكان كل ذلك منا كما قال عز وجل. ليبلوكم أيكم أحسن عملاً. وقال عز وجل. ثم لتكونوا شيوخاً. فهذا أيضاً على الإمكان ممن عاش والأول على الممكن من الناس عند الخطاب والدعاء إلى الله تعالى وكذلك كل ما جاء في القرآن بلفظة أو فإنما هو على أحد وجهين أما على الشك من المخاطبين لا من الله تعالى وأما بمعنى التخيير في الكل كقول القائل جالس الحسن أو ابن سيرين برهان ذلك ورود النص بأنه تعالى لا يضل ولا ينسى وأنه قد علم أن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب وكما قال تعالى أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن وبهذا تتألف النصوص كلها فلم يبق لأهل القول بحدوث العلم إلا أن يقولوا أنه تعالى خلق شيئاً ما كان حاملاً لعلمه بالساعة قال أبو محمد وهذا من السخف ما هو من العلم لأن علم العالم لا يقوم بغيره ولا يحمله سواه هذا أمر يعلم بالضرورة والحس فمن ادعى دعوى لا يأتي عليها بدليل فهي باطلة فكيف إذا أبطلها الحس وضرورة العقل ويبين ما قلنا نصاً قوله تعالى حاكياً عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل. عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون. هذا مع قوله تعالى. وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا. فهذا نص قولنا أنه قد علم تعالى ما يفعلون وأخبر بذلك ثم مع هذا أخرج الخطاب بالمعهود عندنا بلفظ عسى وفينظر قال أبو محمد فإذقد صح ما ذكرنا فقد ثبت ضرورة أن قول القائل متى علم الله زيداً ميتاً سؤال فاسد بالضرورة لأن متى سؤال عن زمان وعلم الله تعالى ليس في زمان أصلاً لأنه ليس هو غير الله تعالى وقد مضى البرهان على أن الله تعالى ليس في زمان ولا في مكان وإنما الزمان والمكان للمعلوم فقط بما بينا وبالله تعالى التوفيق فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل. ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. فقال إن من للتبعيض ولا يتبعض إلا محدث مخلوق ولا يحاط إلا بمخلوق محدث وقد نص الله تعالى أنه يحاط بما شاء من علمه فوجب أن علمه مخلوق لأنه محاط ببعضه وهو متبعض فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره ولا يحال عن ظاهره البتة إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئاً منه ليس على ظاهره وأنه قد نقل عن ظاهره وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر فالانقياد واجب علينا لما أوحيه ذلك النص والإجماع لا يأتي إلا بحق والله تعالى لا يقول إلا الحق وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق فإذ هذا كما قلنا وقد ثبت ضرورة أن علم الله تعالى ليس عرضاً ولا جسماً أصلاً لا محمولاً فيه ولا في غيره ولا هو شيء غير الباري عز وجل فبالضرورة نعلم أن معنى قوله عز وجل ولا يحيطون بشيء من علمه إنما المراد العلم المخلوق الذي أعطاه عباده وهو عرض في العالمين محمول فيهم وهو مضاف إلى الله عز وجل بمعنى الملك وهذا لا شك فيه لأنه لا علم لنا إلا ما علمنا قال الله عز وجل. وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. يريد تعالى ما خلق من العلوم وبثها في عباده كما قال الخضر لموسى عليهما السلام أني على علم من علم الله لا تعلمه أنت وأت على علم من علم الله لا أعلمه أنا وما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر قال أبو محمد فهذه إضافة الملك وكما قال تعالى في عيسى أنه روح الله وهذا كله إضافة الملك فهذا معنى قوله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقد نفى الله تعالى الإحاطة من الخلق به فقال عز وجل ولا يحيطون به علماً قال أبو محمد ويخرج أيضاً على ظاهره أحسن خروج دون تأويل ولا تكلف فيكون معنى قوله تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء أي من العلم بالله تعالى وهذا حق لا شك فيه لأننا لا نحيط من العلم به تعالى إلا بما علمنا فقط قال تعالى ولا يحيطون به علماً فيكون معنى من علمه أي من معرفته فإن قالوا فما معنى دعائكم الله في الرحمة والمغفرة وهل يخلو أن يكون سبق علمه بالرحمة فأي معنى للدعاء فيما لا بد منه وهل هو إلا كمن دعي في طلوع الشمس غداً أو في أن يجعل إنساناً إنساناً أو في أن تكون الأرض أرضاً وإن كان سبق في علمه تعالى خلاف ذلك فأي معنى في الدعاء فيما لا يكون وهل هو إلا كمن دعى في أن لا تقوم الساعة أو في أن لا يكون الناس ناساً فيقال لهم وبالله التوفيق الدعاء عمل أمرنا الله تعالى به لا على أنه يرد قدراً ولا أنه يكون من أجله ما لا يكون لكن الله تعالى قد جعل في سابق علمه الدعاء الذي سبق في علمه قبوله يكون سبباً لما سبق في علمه كونه كما جعل في سابق علمه الغذا بالطعام والشراب سبباً لبلوغ الأجل الذي سبق في علمه البلوغ إليه وكذلك مساير الأعمال وقد نص تعالى على أنه تعالى يعلم آجال العباد قال تعالى. فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ومع ذلك فقد جعل تعالى الأكل والشرب سبباً إلى استيفاء ذلك المقدار وكل ذلك سابق في علمه عز وجل والدعاء هكذا وكذلك التداوي على سبيل الطب ولا فرق وقد أخبرنا تعالى أنه يصلي على نبيه ﷺ وأمرنا مع ذلك بالدعاء بالصلاة عليه وقال تعالى قل رب احكم بالحق فأمرنا بالدعاء بذلك وقد علمنا أنه تعالى لا يحكم إلا بالحق فصح ما قلنا من أن الدعاء عمل أمرنا به فنحن نعمله حيث أمرنا عز وجل به ولا نعمله حيث لم نؤمر به والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطل بعون الله تعالى وتأييده قول من قال إن علم الله تعالى هو غير الله تعالى وهو مخلوق فلنتكلم بعون الله تعالى وتأييده على قول من قال إن علم الله تعالى قال أبو محمد هذا قول لا يحتاج في رده إلى أكثر من أنه شرك مجرد وإبطال للتوحيد لأنه إذا كان مع الله تعالى شيء غيره لم يزل معه فقد بطل أن يكون الله تعالى كان وحده بل قد صار له شريك في أنه لم يزل وهذا كفر مجرد ونصرانية محضة مع أنها دعوىساقطة بلا دليل أصلاً وما قال بهذا أحد قط من أهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد الثلاث ماية عام فهو خروج عن الإسلام وترك للإجماع المتيقن وقد قلت لبعضهم إذ قلتم أنه لم يزل مع الله تعالى شيء آخر هو غيره وخلافه ولم يزل معه فلماذا أنكرتم على النصارى إلا اقتصارهم على الثلاثة فقط ولم يجعلوا معه تعالى أكثر من ذلك فأمسكت عنه إن صرح بأن قولهم أدخل في الشرك من قول النصارى وقولهم هذا رد لقول الله عز وجل قل هو الله أحد فلو كان مع الله غير الله لم يكن الله أحد قال أبو محمد وما كنا نصدق من أن نتمي إلى الإسلام يأتي بهذا لولا أنا شاهدناهم وناظرناهم ورأينا ذلك صراحاً في كتبهم ككتاب السمناني قاضي الموصل في عصرنا هذا وهو من أكابرهم وفي كتاب المجالس للأشعري وفي كتب لهم أخر قال أبو محمد والعجب مع هذا كله تصريح الباقلاني وابن فورك في كتبهما في الأصول وغيرها بأن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد وهذه حماقة ممزوجة بهوس إذ جعلوا ما لم يزل محدوداً بمنزلة المحدثات وكل ما أدخلناه على المنانية والنصارى ومن يبطل التوحيد فهو داخل على هذه الفرقة حرفاً بحرف فأغنانا أن نحيل على ذلك عن تكراره ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد هذا مع قولهم إن التغاير لا يكون غلا فيما جاز أن يوجد أحدهما دون الآخر قال أبو محمد وهذه غاية السخافة لأنه دعوى بلا برهان عليها لا من قرآن ولا سنة ولا معقول ولا لغة أصلاً وما كان هكذا فهو باطل ويلزمهم على هذا أن الخلق ليسوا غير الخالق تعالى لأنه لا يجوز أن يوجد الخلق دون الخالق فإن قالوا جايز أن يوجد الخالق دون الخلق قلنا نعم فمن أين لكم أن أحد التغاير هو أنه لا يجوز أن يوجد أحدهما أيهما كان دون الآخر وهذا ما لا سبيل لهم إليه ويلزمهم لزوماً لا ينفكون عنه إن الإعراض ليست غير الجواهر لأنه لا يجوز البتة ولا يمكن ولا يتوهم وجود أحدهما دون الآخر جملة ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد وحد التغاير الصحيح هو ما شهدت له اللغة وضرورة الحس والعقل وهو أن كل مسميين جاز أن يخبر عن أحدهما بخبر ما لا يخبر به عن الآخر فهما غيران لا بد من هذا وبالجملة ما لم يكن غير الشيء نفسه فهو غيره وما لم يكن غير الشيء فهو نفسه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإذ قد بطل بعون الله تعالى وتأييده قول من قال إن علم الله تعالى هو غير الله ثم جعله مخلوقاً أو لم يزل فلنقل سائر الأقوال في هذه المسألة إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال أبو محمد من قال إن علم الله تعالى لي هو الله تعالى ولا هو غيره ولكنه صفة ذات لم يزل فكلام فاسد محال متناقض يبطل بعضه بعضاً لأنهم إذ قالوا علم الله تعالى ليس هو الله فقد أوجبوا بهذا القول ضرورة أنه غيره ثم غيره ثم إذ قالوا ولا هو غيره فقد أبطلوا الغيرية وأوجبوا بهذا القول ضرورة أنه هو فصح أنه سواء قول القائل لا هو ولا غيره وقول القائل هو هو وهو غيره فإن معنى هاتين القضيتين واحد لا يختلف وكلا العبارتين باطل مناقض لا يعقل نفي وإثبات معاً وهذا تخليط الممرورين نعوذ بالله من الخذلان والعجب من احتجاج بعضهم في هذا الباطل بأن قال إن الطول ليس هو الطويل ولا هو غيره قال أبو محمد وهذا من أطم ما يكون من الجهل والمكابرة إذ لا يدري هذا القائل أن الطويل جوهر جسم قائم بنفسه حامل لطوله ولسائر أعراضه وإن الطول عرض من الأعراض محمول في الطويل غير قائم بنفسه فمن جهل أن المحمول غير الحامل وأن القائم بنفسه هو غير ما لا يقوم بنفسه فهو عديم حس وينبغي له أن يعلم قبل أن يهدر ونحن نريه الطين الطويل يدور فيذهب الطول والتربيع ويأتي التدوير والذي كان طويلاً باق بحسه فهل يخفى على سالم التمييز أن الذاهب غير الآتي وأن الفاني غير الباقي فبالضرورة نعلم أن الطول غير الطويل ثم نقول لمن تعلق بهذه العبارة الفاسدة أخبرونا هل يخلو كل اسمين متغايرين من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما البتة أما أن يكون الاسمان واقعين معاً على شيء واحد يعبر بذينك الاسمين على ذلك الشيء الذي علق عليه وأما أن يكون الاسمان واقعين على شيئين اثنين يعبر بكل اسم منهما على حدته عن الشيء الذي علق عليه ذلك الاسم هذان وجهان لابد من أحدهما ضرورة لكل اسمين وأي هذين كان فهو مبطل لتخليط من قال لا هو ههو ولا غيره وقد زاد بعضهم في الشعوذة والسفسطة وإفساد الحقائق فأتى بدعوى فاسدة وذلك أن قال لا يكون الشيء غير الشيء إلا إذا أمكن أن ينفرد أحدهما عن الآخر قال أبو محمد وهذه دعوى مجردة بلا دليل فلو لم يكن إلا هذا لسقط هذا التمويه فكيف وهي قضية فاسدة لأنها توجب أن كلية الإعراض ليست غير كلية الجواهر لأنه لا سبيل إلى انفراد الجواهر عن الإعراض ولا انفراد الإعراض عن الجواهر فكفى فساداً بكل هذيان أدى إلى مثل هذا التخليط قال أبو محمد حد التغاير في الغيرين هو أن كل شيء أخبر عنه بخبر ما لا يكون ذلك الخبر في ذلك الوقت خبراً عن الشيء الآخر فهو بالضرورة غير ما لا يشاركه في ذلك الخبر وليس في كل ما يعلم ويوجد شيئان يخلوان من هذا الوصف بوجه من الوجوه وهذا مقتضى لفظة الغير في اللغة وبالله تعالى التوفيق مع أن هذا أمر يعلم بضرورة الحس والعقل وحد الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتة فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر ولا بد وأيضاً فكل اسمين مختلفين لا يخبر عن مسمى أحدهما بشيء إلا كان ذلك الخبر خبراً عن مسمى الاسم الآخر ولابد أبداً فمسماهما واحد بلا شك فإذ قد صح فساد هذا القول فلنقل بعون الله تعالى في عبارة الأشعري الأخرى وهو قوله هو هو ولا يقال هو غيره فنقول أنه لم يزد في هذه العبارة على أن قال لا يقال في هذا شيء قال أبو محمد وهذا خطاءٌ لأنه لابد ضرورة من أحد هذين القولين فسقط هذا القول أيضاً إذ ليس فيه بيان الحقيقة وأما قول أبي الهذيل أن علم الله هو الله فإنه تسمية منه للباري تعالى باستدلال ولا يجوز أن يخبر عن الله تعالى ولا أن يسمى باستدلال البتة لأنه بخلاف كل ما خلق فلا دليل يوجب تسميته بشيء من الأسماء التي يسمى بها شيء من خلقه ولا أن يوصف بصفة يوصف بها شيء من خلقه ولا أن يخبر عنه بما يخبر به عن شيء من خلقه إلا أن يأتي نص بشيءٍ من ذلك فيوقف عنده فمن وصفه تعالى بصفة يوصف بها شيء من خلقه أو سماه باسم يسمي به شيء من خلقه استدلالاً على ذلك بما وجد في خلقه فقد شبهه تعالى بخلقه وألحد في أسمائه وافترى الكذب ولا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد وحتى وإن كان المعنى صحيحاً فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ وقد علمنا يقيناً أن الله عز وجل بنى السماء قال تعالى. والسماء بنيناها بأيد. ولا يجوز أن يسمى بناءً وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان وأنه تعالى قال. صبغة الله. ولا يجوز أن يسمى صباغاً وهكذا كل شيءٍ لم يسم به نفسه وليس يجب أن يسمى الله تعالى بأنه هو علمه وإن صح يقيناً أن له علماً ليس هو غيره لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقد صح أن ذات الله تعالى ليست غيره وأن وجهه ليس غيره وأن نفسه ليست غيره وأن هذه الأسماء لا يعبر عنها إلا عنه تعالى لا عن شيء غيره تعالى البتة ولا يجوز أن يقال أنه تعالى ذات ولا أنه وجه ولا أنه نفس ولا أنه علم ولا أنه قدرة ولا أنه قوة لما ذكرنا من امتناع أن يسمى عالم يسم به نفسه عن رجل وأما علم المخلوقين فهو شيء غيرهم بلا شك لأنه يذهب ويعاقبه جهل والباري تعالى لا يشبهه غيره في شيءٍ من هذه الأشياء البتة بل هو تعالى خلاف خلقه في كل وجه فوجب أن علمه تعالى ليس غيره وقال تعالى ليس كمثله شيء قال أبو محمد فإن قال لنا قائل إذ العلم عندكم ليس هو غير الله تعالى وأن قدرته ليست غيره وأن قوته ليست غيره تعالى فأنتم إذاً تعبدون العلم والقدرة والقوة فجوابنا في ذلك وبالله تعالى التوفيق إننا إنما نعبد الله تعالى بالعمل الذي أمرنا به لا بما سواه ولا ندعوه كما أمرنا تعالى قال عز وجل. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه. وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين. فنحن لا نعبد إلا الله كما أمرنا ولا نقول أننا نعبد العلم لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نطلق هذا اللفظ ولا أن نعتقده ثم نسألهم عنما سألونا عنه بعينه فنقول لهم أنتم تقرون أن وجه الله وعين الله ويد الله ونفس الله ليس شيء من ذلك غير الله تعالى بل ذلك عندكم هو الله فأنتم إذاً تعبدون الوجه واليد والعين والذات فإن قالوا نعم قلنا لهم فقولوا في دعائكم يا يد الله ارحمينا ويا عين الله ارضي عنا ويا ذات الله اغفري لنا فإياك نعبد وقولوا نحن خلق وجه الله وعبيد عين الله فإن جسروا على ذلك فنحن لا نجيز الإقدام على ما لم يأذن به الله ولا نتعدى حدوده فإن شهدوا فلا نشهد معهم. ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والذي ألزمونا من هذا فهو لازم لهم لأنه سؤال رضوه وصححوه ومن رضي شيئاً لزمه ونحن لم نرض هذا السؤال ولا صححناه فلا يلزمنا وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد وأجمع المسلمون على القول بما جاء به نص القرآن من أن الله تعالى سميع بصير ثم اختلفوا فقالت طائفة من أهل السنة والأشعرية وجعفر بن حرب من المعتزلة وهشام بن الحكم وجميع المجسمة نقطع أن الله سميع بسمع بصير ببصر وذهبت طوائف من أهل السنة منهم الشافعي وداود ابن علي وعبد العزيز بن مسلم الناني رضي الله عنه م وغيرهم إلى أن الله تعالى سميع بصير ولا نقول بسمع ولا ببصر لأن الله تعالى لم يقله ولكن سميع بذاته وبصير بذاته قال أبو محمد وبهذا نقول ولا يجوز إطلاق سمع ولا بصر حيث لم يأت به نص لما ذكرنا آنفاً من أنه لا يجوز أن يخبر عنه تعالى ما لم يخبر عن نفسه واحتج من أطلق على الله تعالى السمع والبصر بأن قال لا يعقل السميع إلا بسمع ولا يعقل البصير إلا ببصر ولا يجوز أن يسمى بصيراً إلا من له بصر ولا يسمى سميعاً إلا من له سمع واحتجوا أيضاً في هذا وما ذهبوا إليه من أن الصفات متغايرة بأنه لا يجوز أن يقال أنه تعالى يسمع المبصرات ولا أنه يبصر المسموعات من الأصوات وقالوا هذا لا يعقل قال أبو محمد وكل هذين الدليلين شغبي فاسدٌ أما قولهم لا يعقل السميع إلا بسمع ولا يعقل البصر إلا ببصر فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أما فيما بيننا فنعم وكذلك أصلاً لم نجد قط في شيء من العالم الذي نحن فيه سميعاً إلا بسمع ولا وجد فيه بصير إلا ببصر فإنه لم يوجد قط أيضاً فيه سمعي إلا بجارحة يسمع بها ولا وجد قط فيه عالم إلا بضمير فلزمهم أن يجروا على الله تعالى هذه الأوصاف وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وهم لا يقولون هذا ولا يستجيزونه وأما المجسمة فإنهم أطلقوا هذا وجوزوه وقد مضى نقض قولهم بعون الله وتأييده ويلزم الطائفتين كلتيهما إذا قطعوا بأن لله تعالى سمعاً وبصراً لأنه سميع بصير ولا يمكن أن يكون سميع بصير إلا إذا سمع وبصر لاسيما وقد صح النص بأن له تعالى عيناً وأعيناً أن يقولوا أنه ذو حدقة وناظر وطباق في العين وذو أشفار وأهداب لأننا نشاهد في العالم ولا يمكن البتة أن تكون عين الذي عين يرى بها ويبصر إلا هكذا وإلا فهي عين ذات عاهة أو كعيون بعض الحيوان التي لا يطبقها وكذلك لا يكون في المعهود ولا يمكن البتة أن يكون سميع في العالم إلا بإذن ذات صاماخ فيلزمهم أن يثبتوا هذا كله وإلا فقد أبطلوا استدلالهم وزودوا استشهادهم بالمعهود والمعقول فإن أطلقوا هذا كله تركوا مذهبهم وخرجوا إلى أقبح قول المجسمة مما لا يرضى به أكثر المجسمة وقد ذكرنا فساد قولهم قبل والحمد لله رب العالمين فإذا جوزوا أن يكون الباري تعالى سميعاً بصيراً بغير جارحة وهذا خلاف ما عهدوا في العالم وجوزوا أن يكون له تعالى عين بلا حدقة ولا ناظر ولا طباق ولا أهداب ولا أشفار وهذا أيضاً خلاف ما عهدوا في العالم فلا ينكروا قول من قال إنه سميع لا يسمع بصير لا يبصر وإن كان ذلك خلاف ما عهدوا في العالم على أن بين القولين فرقاً واضحاً وهو أننا نحن لم نلتزم أن نحل تسميته عز وجل قياساً على ما عهدنا بل ذلك حرامٌ لا يجوز ولا يحل لأنه ليس في العالم شيء يشبهه عز وجل فيقاس عليه قال الله تبارك وتعالى. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فقلنا نعم إنه سميع بصير لا كشيء من البصراء ولا السامعين مما في العالم وكل سميع وبصير في العالم فهو ذو سمع وبصر فالله تعالى بخلاف ذلك بنص القرآن فهو سميع كما قال لا يسمع كالسامعين وبصير كما قال لا يبصر كالمبصرين لا يسمي ربنا تعالى إلا بما سمي به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه فقط كما قال تعالى هو السميع البصير فقلنا نعم هو السميع البصير ولم يقل تعالى إن له سمعاً وبصرا فلا يحل لأحد أن يقول إن له سمعاً وبصراً فيكون قائلاً على الله تعالى بلا علم وهذا لا يحل وبالله تعالى نعتصم وأما خصومنا فإنهم أطلقوا أنه لا يكون إلا كما عهدوا من كل سميع وبصير في أنه ذو سمع وبصر فيلزمهم ضرورة أن لا يكون إلا كما عهدوا من كل سميع وبصير في أنه ذو جارحة يسمع بها ويبصر بها ولابد ولولا تلك الجارحة ما سمي أحد من العالم سميعاً ولا بصيراً ولا أبصر أحد شيئاً فإن ذكروا قول الله تعالى. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون. قلنا لهم وبالله التوفيق هذه الآية أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى نص فيها على أنهم لم يروا بعيونهم ما يتعظون به ولا سمعوا بآذانهم ما يقبلونه من الهدى فلما كانت العيون والآذان لا ينتفع بها استحق الذم والنكال فلولا أن العين والأذن بهما يكون السمع والبصر ضرورة ولابد لا بشيء دونهما ما استحق الذم من رزق أذناً وعيناً سالمتين فلم يسمع بهما ويبصر ما يهتدي به بعون الله عز وجل له وما كان يكون معنى لذكر الله عز وجل العين والأذن في السمع والبصر بها لو جاز أن يكون سمع وبصر دونهما فبطل قولهم بالقرآن ضرورة وبالحس وبديهة العقل والحمد لله رب العالمين وأما ما موهوا به من قولهم أنه لولا أن له سمعاً وبصراً لجاز أن يقال أنه تعالى يسمع الألوان ويرى الأصوات فهذا كلام لا يطلق في كل شيءٍ على عمومه لأننا إنما خوطبنا بلغة العرب فلا يجوز أن نستعمل غيرها فيما خوطبنا به والذي ذكرتم من روية الأصوات وسماع الألوان لا يطلق في اللغة التي خوطبنا فيما بيننا فليس لنا أن ندخل في اللغة ما ليس فيها إلا أن يأتي بذلك نص فنقلبه على اللغة ثم نقول أنه لو قال قائل أنه تعالى سميع للألوان بصير بالأصوات بمعنى عالم بها لكان ذلك جائزاً ولما منع من ذلك برهان فنحن نقول سمعت الله عز وجل يقول كذا وكذا ورأينا الله تعالى يقول كذا وكذا ويأمر بكذا ويفعل كذا بمعنى علمنا فهذا لا ينكره أحد ولافرق بين هذا وبين ما سألوا عنه وأيضاً فإن الله عز وجل يقول. أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبض ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيءٍ بصير. وهذا عموم لكل شيءٍ كما قلنا فلا يجوز ن يخص به شيء دون شيء إلا بنص آخر أو إجماع أو ضرورة ولا سبيل إلى شيءٍ من هذا فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى. يعلم السر وأخفى. فصح أن بصيراً وسميعاً وعليماً بمعنى واحد ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى بإجماع منا ومنكم هو السميع البصير وهو أحد غير متكثر ولا نقول إنه السميع للألوان البصير بالأصوات إلا على الوجه الذي قلنا وليس ذلك يوجب أن السميع غير البصير فالذي أردتم إلزامه ساقطه وإنما اختلفت معلوماته وإنما هو تعالى واحد وعلمه بها كلها واحد يعلمها كلها بذاته لا يعلم هو غيره البتة وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أتقولون أن الله عز وجل لم يزل سميعاً بصيراً قلنا نعم لم يزل الله تعالى سميعاً بصيراً عفواً غفوراً عزيزاً قديراً رحيماً وهكذا كل ما جاء في القرآن بكان الله كما جاء كان الله سميعاً بصيراً ونحو ذلك لأن قوله كان إخبار عنما لم يزل إذا أخبر بذلك عن نفسه لا عمن سواه فإن قالوا أتقولون لم يزل الله خالقاً خلاقاً رازقاً قلنا لا نقول هذا لأن الله تعالى لم ينص على أنه كان خالقاً خلاقاً رازقاً لكنا نقول لم يزل الخلاق الرزاق ولم يزل الله تعالى لا يخلق ولا يرزق ثم خلق ورزق من خلق وهذا يوجب ضرورة أنها أسماء أعلام لا مشتقه لأنه لو كان خالق ورازق مشتقين من خلق ورزق لكان لم يزل ذا خلق يخلقه ويرزقه فإن قيل فإن السميع والبصير والرحمن والرحيم والعفو والغفور والملك كل ذلك يقتضي مسموعاً ومبصراً ومرحوماً ومغفوراً له ومعفواً عنه ومملوكاً قلنا المعنى في سميع وبصير عن الله تعالى هو المعنى في عليم ولا فرق وليس ما يظن أهل العلم من أن له تعالى سمعاً وبصراً مختصين بالمسموع والمبصر تشبيهاً بخلقه سوى علمه لأن الله تعالى لم ينص على ذلك فيلزمنا أن نقوله ولا يجوز أن يخبر عن الله بغير ما أخبر عن نفسه لأن الله تعالى يقول. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فصح أنه تعالى سميع ليس كمثله شيء من السامعين بصير لا كمثل شيء من البصراء فإن قال قائل أتقولون أن الله عز وجل لم يزل يسمع ويرى ويدرك قلنا نعم لأن الله عز وجل قال. إنني معكما أسمع وأرى. وقال تعالى. وهو يدرك الأبصار. وقال تعالى. والله يسمع تحاوركما. وصح الإجماع بقول سمع الله لمن حمده وصح النص فما أذن الله لشيء اذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن فنقول إن يسمع ويرى وأسمع وأرى ويدرك كل ذلك بمعنى واحد وهو معنى يعلم ولا فرق وأما الاذن لنبي حسن الصوت فهي من الاذن بمعنى القبول كما يأذن الحاجب لمأذون له في الدخول وليس من الأذن التي هي الجارحة ولو كان كما تظنون لكان بصره للمبصرات وسمعه للمسموعات محدثاً ولكان غير سميع حتى سمع وغير بصير حتى أبصر ولم يدرك حتى أدرك وحاشا له تعالى من هذا فكل هذا بمعنى العلم ولا مزيد فإن قيل فإن الله تعالى يقول. وربك يخلق ما يشاء ويختار. قلنا نعم وخلق الله تعالى فعل له محدث له واختياره تعالى هو خلقه لا غيره وليس هذا من يسمع ويبصر ويرى ويدرك في شيء لأن معنى كل هذا ومعنى العلم سواء ولا يجوز أن يكون معنى يخلق ويختار ومعنى العلم وأما العفو والغفور والرحيم والحليم والملك فلا يقتضي شيء من هذا وجود مرحوم معه ولا معفو عنه مغفور له معه ولا مملوك محلوم عنه معه بل هو تعالى رحيم بذاته عفو بذاته غفور بذاته ملك بذاته مع النص الوارد بأنه تعالى كان كذلك وهي أسماء أعلام له عز وجل فإن ذكروا الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ ما بينهم وبين أن يروه إلا رداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره ففي هذا الخبر إبطال لقولهم لأن فيه أن الصر منته ذو نهاية وكل ذي نهاية محدود وكل محدود محدث وهم لا يقولون هذا لكن معناه أن البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ قال النابعة رأيتك ترعاني بعين بصيرة وتبعث حراساً علي وناظرا فمعنى هذا الخبر لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته من خلقه وكذلك قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه ا الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات إنما هو بمعنى أن علمه وسع كل ذلك يعلم السر وأخفى ثم تريد بياناً بعون الله تعالى فنقول إن قولكم لا يعقل سميع إلا بسمع ولا بصير إلا ببصر فإن كان هذا صحيحاً يوجب أن يقال إن الله سمعاً وبصراً فإنه لا يعقل من له مكر إلا وهو ماكر ولا من كان من الماكرين إلا وهو ماكر ولا يعقل أحد مما يستهزىء إلا وهو مستهزىء ولا يعقل أحد ممن يكيد إلا وهو كياد ولا يعقل من له كيد ومكر إلاو هو كياد ومكار ولا يكون خادع إلا يسمى الخادع الخداع وذو خدائع ولا يعقل من نسي إلا وهو ناسٍ وذو نسيان هذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه وقد قال تعالى. وأكيد كيداً. وقال تعالى. الله يستهزىء بهم. وقال تعالى. وهو خادعهم. وقال تعالى. أفأمنوا مكر الله. وقال تعالى. ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين. وقال تعالى. قل لله تعالى المكر جميعاً وقال تعالى. نسوا الله فنسيهم. وقال تعالى. سخر الله منهم فيلزمهم إذا سمعوا ربهم تعالى ووصفوا من طريق استدلالهم قياسهم وما شاهدوه في الحارض عندهم أن يسموه ماكراً فيقولوا يا ماكر ارحمنا ويسموا بينهم عبد الماكر وكذلك القول في الكياد والمستهزىء والخداع والناسي والساخر وإلا فقد تناقضوا وتلاعبوا بصفات ربهم تعالى وبدينهم فإن قالوا إن هذه الصفات ذمٌ وعيب وإنما نصفه عز وجل بصفات المدح لزمهم مصيبتان عظيمتان إحداهما إطلاقهم أن الله عز وجل أخبر عن نفسه في هذه الآيات بصفات الذم والعيب وهذا كفر والثانية أن يصفوا ربهم بكل صفة مدح وحمد فيما بينهم وإن لم يأت بها نص وإلا فقد تناقضوا وقصروا فيصفوه بأنه عاقل وأنه شجاع جلد سخي حسن الأخلاق نزيه النفس تام المرؤة كامل الفضائل ذو هيئة نبيل نعم المرء ويقولوا أنه تياه قياساً على أنه تعالى جبار متكبر ويقولوا أنه مستكبر فهو والمتكبر في اللغة سواء وذو تيه وعجب وذهوٍ ولا فرق بين هذا وبين المكر والكبرياء فيما بيننا فإن فعلوا هذا خرجوا عن الإسلام بالإجماع إلا أن يعذروا بشدة الجهل وظلمته وعماه وأن يفروا عن ذلك تركوا ما قد دانوا به من تسمية الله تعالى ووصفه بأن له سمعاً وبصراً وسائر ما وصفوه تعالى به بآرائهم الفاسدة مما لم يأت به نصٌ كقولهم قديم ومتكلم ومريد وأن له إرادة لم تزل وسائر ما اجترؤا عليه بغير برهان من الله عز وجل وأيضاً فإن هذه الصفات التي منعوا منها لأنها بزعمهم صفات ذم فإن السمع والبصر والحياة أيضاً صفات نقص لأنه أعراض دالة على الحدوث فيمن هي فيه فإن قالوا ليست لله تعالى كذلك قيل لهم ولا تلك الصفات أيضاً إذا أطلقتموها عليه أيضاً صفات ذم ولا فرق ولقد قال لي بعضهم إنما قلنا أن الله تعالى يكيد ويستهزىء ويمكر وينسى وهو خادعهم على معنى أنه تعالى يقارضهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها فقلت لهم نعم هكذا نقول ولمن ننازعك في هذا فتستريح إليه بل قلنا لكم سموه تعالى مستهزئاً وكياداً وخداعاً وماكراً وناسياً وساخراً على معنى أنه مقارض لهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمىبأسمائها كما قلتم في يكيد ويستهزىء وينسى وهو خادعهم سواء بسواء ولا فرق وقد قلتم إن الأفعال توجب لفاعلها أسماء فعلها فسكت خاسئاً وهذا ما لا انفكاك منه وبهذا وبما ذكرنا يعارض كل من قال إننا سمينا الله تعالى عالماً لنفي الجهل وقادراً لنفي العجز ومتكلماً لنفي الخرس وحياً لنفي الموت فإنهم لا ينفكون من هذا البتة وأما نحن فلولا النص الوارد بعليم وقدير وعالم الغيب والشهادة وقادر على أن يخلق مثلهم والحي لما جاز أن يسمى الله تعالى بشيءٍ من هذا أصلاً ولا يجوز أن يقال حي بحياة البتة فإن قالوا كيف يكون حي بلا حياة قلنا لهم وكيف يكون حي غير حساس ولا متحرك بإرادة ولا ساكن بإرادة هذا ما لا يعقل البتة ولا يعرف ولا يتوهم وهم يجرون عليه تعالى الحس ولا الحركة ولا السكون فإن قالوا إن تسمينا إياه حكيماً يغني عن عاقل وكريماً يغني عن سخي وجباراً متكبراً يغني عن متجبر ومستكبر وتياه وزاه وقوياً يغني عن شجاع وجلد قلنا هذا ترك منكم لما أصلتموه من إطلاق السمع والبصر والحياة والإرادة وأنه متكلم واحتجاجكم بأن من كان سميعاً فلابد له من سمع ومن كان بصيراً فلابد له من بصر ومن كان حياً فلابد له من حياة ومن كان مريداً فلا بد له من إرادة ومن كان له كلام فهو متكلم فأطلقتم كل هذا على الله عز وجل بلا برهان فإن ناب عندكم ما ورد به النص من حكيم وقوي وكريم ومتكبر وجبار عن عاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر وتياه وزاه فلم تجيزوا أن تسموا الباري عز وجل بشيءٍ من هذا فكذلك فقولوا كما قلنا نحن إن سميعاً وبصيراً وحياً وله كلام ويريد يغني عن تجويز ذكر السمع والبصر والإرادة ومتكلم ولا فرق هذا علي أن قولكم إن قوياً يغني عن شجاع خطأ فرب قويٌّ غير شجاع وشجاع غير قوي وكذلك أيضاً كان الرحمن يغني عن رحيم والخالق يغني عن الباري وعن المصور فإن قالوا لا يجوز الاقتصار على بعض ما أتي به النص ولا يجوز التعدي إلى ما لم يأت به النص قلنا لهم قد اهتديتم ووفقتم لرشدكم ولقيتم ربكم تعالى بحجة ظاهرة في أنكم لم تتعدوا حدوده ولا ألحدتم في أسمائه ولا خالفتم ما أمركم به وبالله تعالى التوفيق مع أن الذي ألزمناهم هو ألزم لهم مما التزموه لأن بالضرورة نعلم نحن وهم أن الفعل لا يقوم بنفسه ولابد له ضرورة من أن يضاف إلى فاعله فلا بد أيضاً من إضافة الفاعل إليه على معنى وصفة بأن فعله هذا ما لا يقوم في العقل وجود شيء في العالم بخلاف هذه الرتبة وقد وجدنا في العلام أشياء كثيرة لا تحتاج إلى وصفها بصفة لتنفي عنها ضد تلك الصفة كالسماء والأرض لا يجوز أن يوصف منها شيء بالبصر لنفي العمي ولا بالعمي لنفي البصر فإذا لم نضطر إلى ذلك في وصف الأشياء فيما بيننا بطل قياسهم الباري تعالى على بعض ما في العالم وكان إطلاق شيءٍ من جميع الصفات على خالق الصفات والموصوفين أبعد وأشد امتناعاً إلا بما سمي به نفسه فنقر بذلك وندري أنه حق ولا نتعداه إلى ما سواه أفلا يستحي من التزم إذا وجد أشياء من العالم توصف بالحياة لنفي الموت وبالبصر لنفي العمي ولم يجر على قياسه هذا الفاسد من أن يأتي بتسميته مستهزئاً وكياداً وقد قال تعالى أنه يستهزىء ويكيد فهلا غذ وفقه الله تعالى للإمساك عن تصريف الفعل ها هنا جري على ذلك التوفيق فلم يزد على نص الله تعالى من سميع وبصير وحي شيا أصلاً ولكن التناقض سهل من لم يعتصم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ واستعمل رأيه وقياسه في دينه وفيما يجريه على الله تعالى نعوذ بالله من الضلال والخذلان وبهذا يبطل إلزام من أراد من المعتزلة إلزامنا أن نسمي الله تعالى مسياءً لخلقه السيئات وشرير الشرور لخلقه قال أبو محمد وقد شغب بعضهم فيما ادعوه من أن كل صفة أضافوها إلى الله تعالى فهو غير سائر صفاته بأن الله تعالى موصوف بأنه يعلم نفسه ولا يوصف بالقدرة على نفسه قالوا فلو كان العلم والقدرة واحداً لجريا في الإطلاق مجرى واحداً قال أبو محمد وقد بينا بطلان هذا في كلامنا قبل بعون الله عز وجل ونزيد بعون الله عز وجل فنقول وبه نتأيد التغاير إنما يقع في المعلومات والمقدورات لا في القادر ولا في العالم ولا شك عندنا وعندهم في أن العليم والقدير واحد وهو تعالى عليم بنفسه ولا يقال عندهم قدير على نفسه فإذا لم يوجب هذا الحكم أن يكون القدير غير العليم فهو غير موجب أن يكون العلم غير القدرة بلا شك ثم نقول لهم أخبرونا عن علم الله تعالى بحياة زيد قبل موته وبإيمانه قبل كفره هل هو العلم بكفره وموته أو هو غير العلم بذلك فإن قالوا إن العلم بموت زيد هو غير العلم بحياته وعلمه بإيمانه هو غير علمه بكفره لزمهم تغاير العلم والقول بحدوثه وهم لا يقولون هذا وإن قالوا علمه تعالى بإيمان زيد هو علمه بكفره وعلمه بحياة زيد هو علمه بموته قيل فإذا تغاير المعلوم تحت العلم لا يوجب تغاير العلم في ذاته عندكم فمن أين أوحيتم أن تغاير المعلوم والمقدور موجب لتغاير العلم والقدرة والحقيقة من كل ذلك أنه لا حقيقة أصلاً إلا الخالق تعالى وخلقه وأن كل ما لم ينص الله تعالى عليه من وصفه لنفسه ومن أسمائه فلا يحل لأحد أن يخبر عنه تعالى وأن كل ما نص الله عز وجل عليه من أسمائه وما أخبر به تعالى عن نفسه فهو حق ندين الله تعالى بالإقرار به ونعلم أن المراد بكل ذلك هو الله لا شريك له وأنها كلها أسماء يعبر بها عنه تعالى ولا يرجع منها شيء إلى غير الله تعالى البتة تعالى الله أن يكون معه شيء آخر غيره وأقر بعضهم بحضرتي أن مع الله تعالى سبعة عشر شيئاً متغايرة كلها قديم لم تزل وكلها غير الله تعالى ورأيت في كتاب لبعضهم أنها خمسة عشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وذكروا أن تلك الأشياء هي السمع والبصر والعين واليد والوجه والكلام والعلم والقدرة والإرادة والعزة والرحمة والأمر والعدل والحياة والصدق قال أبو محمد لقد قصروا من طريق النص ومن طريق العقل أيضاً عن أصولهم فأين هم عن النفس والجلال والإكرام والجبروت والكبرياء واليدين والأعين والأيدي والقدم والحمد والقوة فهذه كلها منصوص عليها كالعلم والقدرة وأين هم عن الحلم من حليم والكرم من كريم والعظمة من عظيم والتوبة من تواب والهبة من وهاب والقرب من قريب واللطف من لطيف والسعة من واسع والشكر من شاكر والمجد من مجيد والود من ودود والقيام من قيوم وهذا كثير جداً ويتجاوز أضعاف الأعداد التي اقتصروا عليها بتحكيمهم بالضلال والإلحاد في أسمائه عز وجل وقد زاد بعضهم فيما ادعوه من صفات الذات الاستوا والتكليم والقدم والبقاء ورأيت للأشعري في كتابه المعروف بالموجز أن الله تعالى إذ قال إنك بأعيننا إنما أراد عينين وبالجملة فكل من لم يخف الله عز وجل فيما يقول ولم يستحي من الباطل لم يبال بما يقول وقد قلنا أنه لم يأت نص بلفظ الصفة قط بوجه من الوجوه لكن الله تعالى أخبرنا بأن له علماً وقوة وكلاماً وقدرة فقلنا هذا كله حق لا يرجع منه إلى شيء غير الله تعالى أصلاً وبه تعالى نتأيد قال أبو محمد ويقال لمن قال إنما سمي الله تعالى عليماً لأنه له علماً وحكيماً لأن له حكمة وهكذا في سائر أسمائه وادعى أن الضرورة توجب أنه لا يسمى عالماً إلا من له علم وهكذا في سائر الصفات إذا قستم الغائب بزعمكم تريدون الله عز وجل على الحاضر منكم فبالضرورة ندري أنه لا علم عندنا إلا ما كان في ضمير ذي خواطر وفكر تعرف به الأشياء على ما هي عليه فإن وصفتم ربكم تعالى بذلك ألحدتم ولا خلاف في هذا من أحد وتركتم أقوالكم وإن منعتم من ذلك تركتم أصلكم في اشتقاق أسمائه تعالى من صفات فيه وأيضاً فإن عليماً وحكيماً ورحيماً وقديراً وسائر ما جرى هذا المجرى لا يسمى في اللغة إلا نعوتاً وأوصافاً ولا تسمى أسماء البتة وأما إذا سمي الإنسان حليماً أو حكيماً أو رحيماً أو حياً وكان ذلك اسماً له فهو حينئذ أسماء أعلام غير مشتقة بلا خلاف من أحد وكل هذه فإنما هي لله عز وجل أسماءً بنص القرآن ونص السنة والإجماع من جميع أهل الإسلام قال الله تعالى. ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون. وقال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. وقال تعالى هو الله الذي لا غله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى. وقال رسول الله ﷺ إن لله تسعةً وتسعين اسماً ماية إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر ولم يختلف أحد من أهل الإسلام في أنها أسماء لله تعالى ولا في أنها لا يقال أنها نعوت له عز وجل ولا أوصاف الله ولو وجد في المتأخرين من يقول ذلك لكان قولاً باطلاً ومخالفة لقول الله تعالى ولا حجة في أحد في الدين دون رسول الله ﷺ فإذ لا شك فيما قلنا فليست مشتقة من صفة أصلاً ويقال لهم إذا قلتم إنها مشتقة فقولوا لنا من اشتقها فإن قالوا إن الله تعالى اشتقها لنفسه قلنا لهم هذا هو القول على الله تعالى بالكذب الذي لم يخبر به عن نفسه وقفوتم في ذلك ما لم يأتكم به علم وإن قالوا إن رسول الله ﷺ اشتقها قلنا كذبتم على رسول الله ﷺ أوحي بها إليه فقط فصح يقيناً أن القول بأنها مشتقة فرية على الله تعالى وكذب عليه ونعوذ بالله من ذلك وصح بهذا البرهان الواضح أنه لا يدل حينئذ عليم على علم ولا قدير على قدرة ولا حي على حياة وهكذا في سائر ذلك وإنما قلنا بالعلم والقدرة والقوة والعزة بنصوص أخر يجب الطاعة لها والقول بها ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا إن هذه السماء ليست أسماء لله تعالى ولكنها تسميات له وأنه ليس لله إلا اسم واحد لكنه قول إلحاد ومعارضة لله عز وجل بالتكذيب بالآيات التي تلونا ومخالفة لرسول الله ﷺ فيما نص عليه من عدد الأسماء وهتك لإجماع أهل الإسلام عامهم وخاصهم قبل أن تحدث هذه الفرقة ومما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عز وجل القيدم قال أبو محمد وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه وقد قال تعالى. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. فصح أن القديم من صفات المخلوقين فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الزمانية أي إن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة مخصورة وهذا منفي عن الله عز وجل وقد أغنى الله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة أول فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره وهو معنى أنه لم يزل وقد قلنا بالبرهان أن الله تعالى لا يجوز أن يسمى بالاستدلال ولا فرق بين من قال أنه يسمي ربه جسماً إثباتاً للوجود ونفياً للعدم وبين من سماه قديماً إثباتاً لأنه لم يزل ونفياً للحدوث لأن كلا اللفظتين لم يأت به نص فإن قال من سماه جسماً ألحد لأنه جعله كالأجسام قيل له ومن سماه قديماً قد ألحد في أسمائه لأنه جعله كالقدماء فإن قال ليس في العالم قدماء أكذبه القرآن بما ذكرنا وأكذبته اللغة التي بها نزل القرآن إذ يقول كل قائل في اللغة هذا الشيء أقدم من هذه وهذا أمر قديم وزمان قديم وشيخ قديم وبناء قديم وهكذا في كل شيء وأما نفي خلق الإيمان فهذا أعجب ما أتوا به وهل الإيمان الأفعل المؤمن الظاهر منه يزيد وينقص ويذهب البتة وهو خلق الله تعالى وهذه صفات الحدوث نفسها فإن قالوا أن الله هو المؤمن قلنا لهم نعم هو المؤمن المهيمن المصور فأسماؤه بذلك أعلام لا مشتقة من صفات محمولة فيه عز وجل تعالى الله عن ذلك إلا ما كان مسمى له عز وجل لفعل فعله فهذا ظاهر كالخالق والمصور فإن قلتم في هذا أيضاً أنها صفات لم تزل لزمكم أنه تعالى المصور بتصوير لم يزل قال أبو محمد وقال بعضهم إن قولنا سميع بسمع بصير ببصر حي بحياة لا يوجب تشابهاً ولا يكون الشيء شبهاً للشيء إلا إذا ناب منابه وسد مسده قال أبو محمد وهذا كلام في غاية السخافة لأنه دعوى بلا برهان لا من شريعة ولا من طبيعة وما اختلفت قط اللغات والطبائع والأمم في أن النسبة بين المشبهات إنما هو بصفاتها في الأجسام وبذواتها في الإعراض وقد قال الله تعالى. وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. فليت شعري هل قال ذو مسكة من عقل أن الحمير والكلاب والخنافس تنوب منابنا أو تسدنا وقال تعالى حاكياً عن الأنبياء عليهم السلام أنهم قالوا. إن نحن إلا بشر مثلكم. فهل قال قط مسلم أن الكفار ينوبون عن الأنبياء ويسدون مسدهم وقال تعالى. كأنهن الياقوت والمرجان. فهل قال ذو مسكة من عقل إن الياقوت ينوب مناب الحور العين ويسد مسدهن ومثل هذا في القرآن كثير جداً وفي كلام كل أمة والعجب أنهم بعد أن أتوا بهذه العظيمة نسوا أنفسهم فجعلوا التشابه في بعض الأحوال يوجب شرع الشرائع قياساً وهذا دين لم يأذن به الله تعالى فهم أبداً في الشيء وضده والبناء والهدم ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد وحقيقة التماثل والتشابه هو أن كل جسمين اشتبها فإنما يشتبهان بصفة محمولة فيهما أو بصفات فيهما وكل عرضين فإنما يشتبهان بوقوعهما تحت نوع واحد كالحمرة والحمرة
الكلام في الحياة
قال أبو محمد وقالوا أن الدليل أوجب أن الباري تعالى حي لأن أفعال الحكمة لا تقع إلا من الحي وأيضاً فإنه لا يعقل إلا حي أو ميت قلنا إمكان وقوع الفعل من الميت صح وقوعه من الحي ولابد ثم انقسم هؤلاء قسمين فطائفة قالت هو تعالى حي لا بحياة وطائفة قالت بل هو تعالى حي بحياة واحتجت أنه لا يعقل أحد حياً إلا بحياة ولم يكن الحي حياً إلا لأن له حياة ولولا ذلك لم يكن حياً قالوا ولو جاز أن يكون حياً لأن له حياة لكن لأنه فاعل فقط عالم قادر ولا يكون العالم القادر الفاعل إلا حياً قال أبو محمد وكلا القولين في غاية الفساد لاتفاق الطائفتين على أن سموا ربهم تعالى حياً من طريق الاستدلال إما لنفي الموت والجمادية عنه وإما لأنه فاعل قادر عالم ولا يكون الفاعل القادر العالم إلا حياً يلزمهم أن يطردوا استدلالهم هذا وإلا فهم متناقضون وإذا طردوا استدلالهم هذا لزمهم ولابد أن يقولوا أنه تعالى جسم لأنهم لم يعقلوا قط فاعلاً ولا حكيماً ولا عالماً ولا قادراً إلا جسماً فإذا لم يكن هذا دليلاً على أنه جسم فليس دليلاً على أنه حي وأيضاً فإن اتفاقهم على ما ذكرنا موجب على الطائفة الأولى أن يطردوا أيضاً استدلالهم وإلا فهو فاسد فنقول أنه لا يكون القادر العالم فيما بيننا إلا ذا حياة ولا يكون حياً إلا بحياة لا يعقل غير هذا أصلاً ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال إذا كان الحي لا يجب أن يقال أن له حياة من أجل أنه حي ولا أنه إذا كان حياً وجب أن يكون له حياة ولا أنه سمى الحي حياً لأن له حياة فكذلك لم يجب أن يكون الفاعل فاعلاً لأنه حي لكن لأن له فعلاً فقط ولا وجب أن يكون الفاعل فاعلاً لأنه عالم قادر لكن لأن له فعلاً وكذلك المؤلف لم يسم مؤلفاً لأن فيه تأليفاً ولا سمي الحكيم حكيماً لإحكامه الفعل ولا وجب المؤلف أن يكون محدثاً للتأليف الذي فيه على أن من قال بعض هذه القضايا فهو أصح قولاً ممن قال إن كون الحي حياً لا يقتضي بذلك الاستدلال أن يكون له حياة لأننا لم نجد قط حياً إلا بحياة ولا توهمنا ذلك إلا بالعقل ولا يتشكل في العقل البتة ولا يدخل في الممكن بدليل وقد وجدنا العنكبوت والنحل والخطاف تحكم أفعالها وبنائها بالطين وبالشمع مسدساً على رتبة واحدة وبالنسج ثم لا يجوز أن يسمى شيء منها حكيماً فإن قال إنما أقول أنه حي استدلالاً بأنه لا يموت والحي هو الذي لا يموت فقط كان قد أتى بأسخف قول وذلك يلزمه أن يقول أننا لسنا أحياء لأننا نموت وأنه لا حي في العالم لأن من قول هذا القائل أن الملائكة تموت فليس في العالم حي على قوله وقد أتى بعضهم بهذيان ظريف فقال قد وجدنا شيئاً فيه حياة وليس حياً وهو يد الإنسان ورجله قال أبو محمد ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم أما علم الجاهل أن الحياة إنما هي للنفس لا للجسد وأن الحي إنما هي النفس لا الجسد أما سمع قول الله عز وجل. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وليت شعري لو عكس عليه هذا السخف فقيل له بل يد الإنسان حية ولا حياة فيها بماذا كان ينفصل من هذا الجنون المطابق لجنونه ثم إذ قد بطل قول هؤلاء فنقول بحول الله تعالى وقوته للطائفة الأخرى التي قالت أنه تعالى حي بحياة استدلالاً بالشاهد ما الفرق بينكم وبين من قال هو تعالى جسم لأن الأفعال لا تقع إلا من جسم فإنه على أصولكم لا يعقل إلا جسم وعرض فلما بطل إمكان الفعل من العرض صح وقوعه من الجسم فقط ولابد ولما صح أن العالم لا يكون إلا جسماً ذا ضمير صح أنه تعالى جسم ذو ضمير ولما صح أنه قادر والقادر لا يكون إلا جسماً صح أنه جسم فبأي شيء راموا الانفصال به عكس عليهم مثله سواء بسواء في استدلالهم وما التزموه لزمهم فإن قالوا أنه تعالى أخبر أنه حي ولم يخبر أنه جسم قلنا لهم وبالله التوفيق وإن الله تعالى لم يخبر بأن له حياة فإن قالوا إن الحي يقتضي أن له حياة قلنا لهم والحي يقتضي أنه جسم وهكذا أبداً فإن قالوا أنه تعال قال. وتوكل على الحي الذي لا يموت. فوجب أن يكون حياً بحياة قيل لهم وإن وجب هذا فقال تعالى. لا تأخذه سنة ولا نوم. فقولوا أنه تعالى يقظان فإن قالوا لم ينص تعالى على أنه يقظان قيل لهم ولا نص تعالى على أن له حياة فإن قالوا الحي يقتضي حياة قيل لهم ومن ليس نائماً ولا وسنان فهو يقظان ولا فرق ويقال لهم أخبرونا ماذا نفيتم عنه تعالى بإيجاب الحياة له أنفيتم عنه بذلك الموت المعهود والمواتية المعهودة أم موتاً غير معهود ومواتية غير معهودة ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا نفينا عنه الموت المعهود والمواتية المعهودة قلنا لهم إن الموت المعهود والمواتية المعهودة لا ينتفيان البتة إلا بالحياة المعهودة التي هي الحس والحركة والسكون الإراديان وهذا خلاف قولكم ولو قلتموه لأبطلنا قولكم بما أبطلنا به قول المجسمة وإن قالوا ما نفينا عنه تعالى إلا موتاً غير معهود ومواتية غير معهودة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا قام به دليل ولا يجوز أن ينتفي ما ذكرتم بحياة يقتضيها اسم الحي المعقول وهكذا نقول في قولهم سميناه تعالى سميعاً لنفي الصمم وبصيراً لنفي العمى ومتكلماً لنفي الخرس فنسألهم هل نفيتم بذلك كله الخرس المعهود والصمم المعهود والعمى المعهود أم صمماً لا يعهد وعمى غير المعهود وخرساً غير المعهود فإن قالوا نفينا المعهود من كل ذلك قلنا إن الصمم المعهود لا ينتفي إلا بالسمع المعهود الذي هو بإذن سالمة والعمى المعهود لا ينتفي إلا بالبصر المعهود الذي هو حدقة سالمة والخرس المعهود لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو صوت من لسان وحنك وشفتين فإن قالوا بل نفينا من كل من ذلك غير المعهود قلنا هذا لا يعقل ولا يتوهم ولا يصح به دليل ولا ينتفي بما أردتم نفيه به وأيضاً فإن الباري تعالى لو كان حياً بحياة لم يزل وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفاً مركباً من ذاته وحياته وسائر صفاته ولكان كثيراً لا واحداً وهذا إبطال الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد وأما قولهم إنما خاطبنا الله بما نعقل ودعواهم أن في بديهة العقول أن الفاعل لا يكون إلا عالماً بعلم هو غيره حياً بحياة هي غيره قادراً بقدرة هي غيره متكلماً بكلام هو غيره سميعاً بسمع هو غيره بصيراً ببصر هو غيره فإنا نقول وبالله تعالى نتأيد أن هذه القضية كما ذكروا ما لم يقم برهان على خلاف ذلك ثم نسألهم هل عقلتم قط أو توهمتم ناراً محرقة تنبت في الشجر المثمر وهذه صفة جهنم التي أنكرتموها كفرتم وهل عقلتم قط طيراً حياً يؤكل دون أن يموت أو يعاني بنار وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم ومثل هذا كثير وإنما الحق أن لا نخرج عما عهدناه وما عقلناه إلا أن يأتي برهان فإن قنعوا بهذا القدر من الدعوى فليقنعوا بمثل هذا من المجسمة إذ قالوا إنما خاطبنا الله تعالى بما نفهم ونعقل لا بما لا يعقل وقد أخبرنا تعالى أن له عيناً ويداً ووجهاً وأنه ينزل ويجيء في ظلل من الغمام قالوا فكل هذا محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات وأنها جسم وأقنعوا به منهم أيضاً إذ قالوا أببديهة العقل وأوله عرفنا ووجب أنه لا يكون الفاعل إلا جسماً في مكان وبضرورة العقل علمنا أنه لا شيء إلا بجسم أو عرض وما لم يكن كذلك فهو عدم وإن ما لم يكن عرضاً فهو جسم والباري تعالى ليس عرضاً فهو جسم ولابد وأقنعوا بمثل هذا من المعتزلة إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل عرفنا أنه لا يرى إلا جسم ملون وما كان في حيز وإذ قالوا بضرورته وبديهته علمنا أن كل من فعل شيئاً فإنما يوصف به وينسب إليه فلو أنه تعالى خلق الشر والظلم لنسب إليه ووصف بهما واقنعوا بهذا من الدهرية إذ قالوا بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون شيئاً إلا من شيء أو في شيء قال أبو محمد فكل طائفة من هذه الطوائف تدعي الباطل على العقول والحقيقة في هذا هو أن كل من ادعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة العقل وضرورته وأوله أن ينظر في تلك الدعوى فإن كانت مما ترجع إلى الحواس المشاهدة فهي دعوى كاذبة فاسدة لأن العقول توجب أشياء لا تشكل في الحواس كالألوان التي لا يتوهمها الأعمى ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله لصحة الخبر وتواتره عليها بوجودها وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ولا يشكله من ولد أصم أصلح وهو موقن بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرد العقل دون توسط الحواس فهي دعوى صادقة وهذه الدعاوي التي ذكرنا عن الأشعرية والمجسمة والمعتزلة والدهرية فإنما غلطوا فيها لأنهم نسبوا إلى أول العقل ما أدركوه بحواسهم وقد قلنا أن العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ولاسيما دعوى الدهرية فإنها تعارض بمثلها من أن بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان لا أول له وهذا هو الحق لا دعواهم التي عولوا فيها على ما شاهدوا بحواسهم فقط وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فيقال لهم إذا سميتموه حياً لنفي الموت والمواتية عنه تعالى وقادراً لنفي العجز وعالماً لنفي الجهل فيلزمكم ولابد أن تسموه حساساً لنفي الخدرعنه وسماماً لنفي الجسم عنه ومتحركاً لنفي السكون والجمادية عنه وعاقلاً لنفي ضد العقل عنه وشجاعاً لنفي الجبن عنه فإن امتنعوا من ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إياه حياً عالماً قادراً جواداً فإن قالوا أنه لا يجوز أن يسمى بشيء مما ذكرنا لأنه لم يأت به نص قيل لهم وكذلك لم يأت نص بأن له تعالى حياة ولا بأنه إنما سمي حياً عالماً قادراً لنفي أضداد هذه الصفات عنه لكن لما جاء النص بأنه تعالى يسمي الحي العالم القدير سميناه بذلك ولولا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشيء م ذلك لأنه كان يكون مشبهاً له بخلقه لاسيما ولفظة الحي تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق قال تعالى. لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فأراد بالحي ها هنا العالم المميز بالإيمان المقر به وأيضاً فإنهم يدعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يركبونه أتم ركوب فيقولون لما لم يكن الفعال عندنا إلا حياً عالماً قادراً وجب أن يكون الباري الفاعل للأشياء حياً عالماً قادراً وهذا نص قياسهم له على المخلوقات وتشبيهه تعالى بهم ولا يجوز عند القائلين بالقياس أن يقاس الشيء إلا على نظيره وأما أن يقاس الشيء على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة فهذا ما لا يجوز أصلاً عند أحد فكيف والقياس كله باطل لا يجوز وأيضاً فإن الحياة التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحس والبركة الإرادية ولا يعرف أحد الحي إلا بالحساس المتحرك بإرادة وهذا أمر يعرف بالضرورة فمن أنكر ذلك فقد أنكر الحس والمشاهدة والضرورة وخرج عن أن يكلم فإن قال قائل منهم إن الموات قد يتحرك فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله لأنه إنما قلنا الحركة الإرادية فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والاضطرارية فينبغي له أن يتعلم قبل أن يتكلم وكل حركة ظهرت من غير حي فليست حركة إرادية له لكنها تحريك المحرك له إما الباري تعالى وإما من دونه ومما يبطل قولهم ضرورة أنه إنما سمي تعالى حياً لأنه عالم قادر وجودنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ولا قادرين كالأطفال حين ولادتهم وكالنائم المستثقل وكالمخدور من المجانين وكضعاف الدود والصوداب وما لا ينتقل عن محله كالوصل وغيره وكالمريض من سائر الحيون فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالماً ولا قادراً فصح ضرورة أنه لا معنى للحياة يرتبط بالعلم والقدرة لكن الحق في ذلك أن بعض الأحياء عالم قادر وليس كل حي عالماً قادراً ولا سبيل إلى وجود حي غير حساس ولا متحرك بإرادة فإن ذكروا المغمى عليه فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالماً ولا قادراً وأما الحس ففيه بالضرورة ولو جش جشاً قوياً لتألم ولأخبر بذلك عند انتباهه وكذلك الحس والحركة الإرادية باقيان لابد في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولابد وقد بينا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمى الله عز وجل ولا نخبر عنه من طريق الاستدلال باسم يشاركه فيه شيء من خلقه ولا بخبر يشاركه فيه شيء من خلقه ولكننا نقول أنه تعالى لا يجهل شيئاً أصلاً وهذه صفة لا يستحقها أحد دونه تعالى ونقول لا يغفل البتة ولا يضل ولا يسهو ولا ينام ولا يتحير ولا ينحل ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه ولا ينسى وكل هذا فلا يستحقه مخلوق دونه تعالى أصلاً ثم نقر بما جاء به القرآن والسنن كما جاء لا نزيد ولا ننقص منه ولا نحيله فنؤمن بأنه بخلاف المعهود فيما يقع عليه ذلك اللفظ من خلقه وأمالفظ الصفة في اللغة العربية وفي جميع اللغات فإنما هو عبارة عن معنى محمول في الموصوف بها لا معنى للصفة غير هذا البتة وهذا أمر لا يجوز إضافته إلى الله تعالى البتة إلا أن يأتي نص بشيء أخبر الله تعالى به عن نفسه فنؤمن به وندري حينئذ أنه اسم علم لا مشتق من صفة أصلاً وأنه خبر عنه تعالى لا يراد به غيره عز وجل ولا يرجع منه إلى سواه البتة والعجب كل العجب أنهم يسمون الله حياً لأنهم لم يجدوا الفعل يقع إلا من حي ثم يقولون أنه لا كالأحياء فعادوا إلى دليلهم فأفسدوه لأنهم إذا أوجبوا وقوع الفعل من حي ليس كالأحياء الذين لا تقع الأفعال إلا منهم فقد أبطلوا أن يكون ظهور الأفعال دليلاً على أنها من حي كما عهدوه وقد علمنا يقيناً أن القدرة من كل قادر في العالم فإنما هي عرض فيه وأن الحياة في الحي المعهود بضرورة العقل عرض فيه أيضاً وإن العلم في كل عالم في العالم كذلك وقد وافقونا على أن الباري تعالى بخلاف ذلك فإذ قد بطل أن يكون هذا موصوفاً بصفة القادر فيما بيننا والعالم منا التي لولاها لم يكن العالم عالماً والقادر قادراً فإن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من أهل تلك الصفة فقد بطل ضرورة أن يسمى الباري تعالى باسم قادر أو عالم أو حي استدلالاً بأن الفعل فيما بيننا لا يقع إلا من عالم قادر وإذ قد جوزوا وجود علم ليس عرضاً وحياة ليست عرضاً وهذا أمر غير معقول أصلاً فلا ينكر وجود حي لا بحياة وسميع لا بسمع وبصير لا ببصر وكل هذا خروج عن المعهود ولا فرق وإنما يستجاز الخروج عن المعهود إذ جاء به نص من الخالق عز وجل أو قام به برهان ضروري وإلا فلا ولم يأت نص قط بلفظ الحيا ولا الإرادة ولا السمع ولا البصر واحتج بعضهم في معارضة من قال إن الحي لا يكون إلا حساساً متحركاً بإرادة لأننا لم نشاهد قط حياً إلا حساساً متحركاً بإرادة فقال هذا المعترض إن من اتفق له أن لا يرى نباتاً إلا أخضر ولا أخضر إلا نباتاً فقطع بأن كل أخضر فهو نبات فقد أخطأ قال أبو محمد فأول ما يقال له قل هذا لنفسك في استدلالك بأنك لم تر قط فعالاً إلا حياً عالماً قادراً ولا فرق ثم نعوذ بعون الله تعالى إلى بيان ما شغبوا به مما لا يعرفون الفرق بينه وبين ما يقع عليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأعراض تنقسم إلى قسمين أحدهما ذاتي لا يتوهم بطلانه إلا ببطلان حامله كالحس والحركة الإرادية للحي وكذلك احتمال الموت للإنسان مع إمكان التمييز للعلوم والتصرف في الصناعات وما أشبه هذا ومن هذه الأعراض تقوم فصول الأشياء وحدودها التي تفرق بينها وبين غيرها من الأنواع التي تقع معها تحت جنس واحد فهذا القسم مقطوع على وجوده في كل ما وقع اسم حامله عليه والقسم الثاني غيري وهو ما يتوهم بطلانه ولا يبطل بذلك ما هو فيه كاجترار البعير وحلاوة العسل وسواد الغراب فإن وجد عسل مر وقد وجدناه لم يبطل بذلك أن يكون عسلاً وكذلك لو وجد غراب أبيض وقد وجد لم يبطل بذلك أن يكون غراباً فمثل هذا القسم لا يقطع على أنه موجود ولابد أبداً فهذا الفرق بين ما شغب به من النبات لأنه إن توهم النبات أحمر أو أصفر لم يبطل أن يسمى نباتاً ولكنه إن توهم أن يكون النبات غير نام من الأرض ولا متغذ برطوباتها منجذباً بحر الهواء ورطوبته فإنه لا يكون نباتاً أصلاً وأيضاً فقد قال بعضهم أنه قد يعرف الباري حياً من لا يعرفه حساساً متحركاً بإرادة قيل له وقد يعرفه حياً من لا يعرف أن له حياة وقد يعرفه جسماً من لا يعرفه مؤلفاً ولا محدثاً وليس توهم الجهال لما توهموه من الحماقات حجة على أهل العقول والعلوم والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وبرهان ضروري وهو أن كل صفة في العالم فهي ضرورة ولابد عرض بين الطرفين أو أحد ذينك الطرفين وإما ذات ضد فحاملها بالضرورة قابل للأضداد فلا عالم في العالم إلا والجهل منه متوهم ولا قادر في العالم إلا والعجز منه متوهم ولا حي في العالم إلا والسكون والحركة والحس والحذر متوهمات كلها منه وقد علمنا أن الله تعالى أرحم الراحمين حقاً لا مجازاً من أنكر هذا فهو كافر حلال دمه وماله وهو تعالى يبتلي الأطفال بالجدري واواكل والجن والذبحة والأوجاع حتى يموتوا وبالجوع حتى يموتوا كذلك ويفجع الآباء بالأبناء وكذلك الأمهات والأحياء بعضهم ببعض حتى يهلكوا ثكلاً ووجداً وكذلك الطير بأولادها وليست هذه صفة الرحمة بيننا فصح يقيناً أنها أسماء لله سمى الله تعالى بها نفسه غير مشتقة من صفة محمولة فيه تعالى وحاشا له من ذلك فإن قالوا إن العالم القادر الحي الأول الرحيم بخلاف هذا قيل لهم صدقتم وهذا إبطال منكم لاستدلالكم بالشاهد بينكم على تسمية الباري وصفاته قال أبو محمد وأما وصفنا الباري تعالى بأنه الواحد الأول الحق الخالق من طريق الاستدلال فإنه لا يلزمنا في ذلك شيء مما ألزمناه خصومنا لأنه قد قام البرهان بأنه خالق ما سواه وليس في العالم خالق البتة بوجه من الوجوه وقد قام البرهان على أنه تعالى واحد لا واحد في العالم غيره البتة بوجه من الوجوه وكل ما في العالم فمتكثر باحتمال القسمة والتحري وقد قام البرهان على أنه تعالى الأول والأول في العالم البتة بوجه من الوجوه وكل ما في العالم ينافي الأول وقام البرهان بأنه تعالى الحق بذاته وإن كل ما في العالم فإنما هو محقق له تعالى وإنما كان حقاً بالباري جل وعز ولولاه لم يكن حقاً فهذا هو البرهان الصحيح الثابت الذي لا يعارض ببرهان البتة وهذا هو نفي التشبيه ثم إننا ننفي عن الباري تعالى جميع صفات العالم فنقول أنه تعالى لا يجهل أصلاً ولا يغفل البتة ولا يسهو ولا ينام ولا يحس ولا يخفى عليه متوهم ولا يعجز عن مسئول عنه لأننا قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا أن الله تعالى بخلاف خلقه من كل وجه فإذ ذلك كذلك فواجب نفي كل ما يوصف به شيء مما في العالم عنه تعالى على العموم وأما إثبات الوصف أو التسمية له تعالى فلا يجوز إلا بنص ونخبر عنه تعالى بأفعاله عز وجل فنقول أنه تعالى محي الموتى ومميت الأحياء إلا أن لا يثبت إجماع في إباحة شيء من ذلك ولولا الإجماع على إباحة إطلاق بعض ذلك ها هنا لما أجزناه ونقول أنه تعالى بكل شيء عليم لم يزل كذلك والمعنى في هذا أنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأشياء على حسب هيئة كل مخلوق منها لا على أن الأشياء لم تزل موجودة في علمه معاذ الله من هذا ولكن نقول لم يزل تعالى يعلم أنه سيحدث كل ما يكون شيئاً إذا أحدثه على ما يكون عليه إذا كان وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ونجمع إن شاء الله تعالى ها هنا بيان الرد على من أقدم أن يسمي الله تعالى بغير نص لكن بما دله عليه عقله وظنه أنه حسن ومدح أو استدلالاً بما سمى به تعالى نفسه أو تصريفاً من ذلك أو قياساً على ما شاهد من خلقه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى سمى نفسه الرحمن الرحيم يغني عن ذلك قيل له نقضت أصلك لأن الحي يغنى على هذا عن أن يقال أن له حياة وأيضاً فإن الرحمن يغني عن الرحيم فإن قال قد وردالنص به قيل له صدقت ولا تتعد ما جاء به النص وامنع ما سواه وسمى نفسه العليم فسمه الداري الحبر الفهم الزكي العارف النبيل فكل هذا مدح ومعناه في اللغة بمعنى عليم ولا فرق وسمى نفسه الكريم فسمه السخي والجواد وسمى نفسه الحكيم فسمه الناقد العاقل وسمى نفسه العظيم فسمه الفخم الضخم وسمى نفسه الحليم فسمه المجتمل المتأني الصابر الصبور الصبار وأخبر أنه قريب فسمه الداني المجاور المياسر وسمى نفسه الواسع فسمه الرحب العريض وسمى نفسه العزيز فسمه الرئيس وأخبر أنه شاكر وشكور فسمه الحامد الحماد وسمنى نفسه القهار فسمه الظافر وسمى نفسه الآخر فسمه الثاني والتالي والخاتم وسمى نفسه الظاهر فسمه العارف والداري وسمى نفسه الكبير فسمه الرئيس والمتقدم وسمى نفسه القدير فسمه المطيق والمستطيع وسمى نفسه العلي فسمه العالي والرفيع والسامي وسمى نفسه البصير فسمه المعاين وسمى نفسه الجبار فسمه المتجبر الزاهي التياه وسمى نفسه المتكبر فسمه المستكبر المتعاظم المتنحي وسمى نفسه البر فسمه الزاكي المواصل وسمى نفسه المتعالي فسمه المتعظم المترفع وسمى نفسه الغني فسمه الموسر الملي المكثر الوافر وسمى نفسه الولي فسمه الصديق المصادق الوالي الحبيب وسمى نفسه القوي فسمه الجلد النجد الشجاع الجليد الشديد الباطش وسمى نفسه الحي وأخبر أن له نفساً فسمه المتحرك الحساس واقطع بأن له روحاً بمعنى النفس وسمى نفسه السميع البصير فسمه الشمام الذواق وسمى نفسه المجيد فسمه الشريف الماجد وسمى نفسه الحميد فسمه المحمد المحمود الممدوح الممدح وسمى نفسه الودود فسمه الواد المحب الحبيب الوديد وسمى نفسه الصمد فسمه المصمت وسمى نفسه الحق فسمه الصحيح الثابت وسمى نفسه اللطيف فسمه الخفيف وذكر تعالى أن له مكراً وكيداً فقل إن له دهاء ونكراً وحساً وثحيلاً وخدائع فهذا كله في اللغة وفيما بيننا سواء وسمى نفسه المتين فسمه الواضح البين اللائح البادي وسمى نفسه المؤمن فسمه المسلم المصدق وسمى نفسه الباطن فسمه الخفي الغائب المتغيب وسمى نفسه الملك والمليك فسمه السلطان وصح بالسنة أنه يسمى جميلاً فسمه قال أبو محمد فإن أبى من كل هذا نقض أصله وكذلك إن قال إن بعض ذلك يغني عن بعض لزمه إسقاط الحياة لأن الحي يغني عن ذكر الحياة على هذا الأصل ولزمه أن لا يقول أنه متكلم لأن الكلام مغن عن ذلك ولزمه أيضاً إسقاط السمع والبصر لأنه استغنى بالسميع والبصير ولزمه أيضاً إسقاط ما جاء به النص إذا كان بعضه يغني عن بعض والملك يغني عن مليك وأحد يغني عن واحد وجبار يغني عن متكبر وخالق يغني عن الباري وهكذا في سائر الأسماء فلم يبق إلا الرجوع إلى النصوص فقط فإذ قد صح هذا بيننا فلا يحل أن يسمى الله عز وجل القديم ولا الحنان ولا المنان ولا الفرد ولا الدايم ولا الباقي ولا الخالد ولا العالم ولا الداني ولا الرائي ولا السامع ولا المعتلي ولا العالي ولا المتبارك ولا الطالب ولا الغالب ولا الضار ولا النافع ولا المدرك ولا المبدىء ولا المعيد ولا الناطق ولا القادر ولا الوارث ولا الباعث ولا القاهر ولا الجليل ولا المعطي ولا المنعم ولا المحسن ولا الحكم ولا الحاكم ولا الواهب ولا الغفار ولا المضل ولا الهادي ولا العدل ولا الرضي ولا الصادق ولا المتطول ولا المتفضل ولا المان ولا الخير ولا الحافظ ولا البيدع ولا الإله ولا المجمل ولا المحيي ولا المميت ولا المنصف ولا بشيء لم يسم به نفسه أصلاً وإن كان في غاية المدح عندنا أو كان متصرفاً من أفعاله تعالى إلا أن نخبر عنه بكل هذا الذي ذكرنا بالإضافة إلى ما نذكر مع الوصف حينئذ والإخبار عن فعله تعالى فهذا جائز حينئذ فيجوز أن يقال عالم الخفيات عالم بكل شيء عالم الغيب والشهادة غالب على امره غالب على كل من طغى أو نحو هذا القادر على ما يشاء القاهر للملوك وارث الأرض ومن عليها المعطي لكل ما بأيدينا الواهب لنا كل ما عندنا المنعم على خلقه المحسن إلى أوليائه الحاكم بالحق المبدي لخلقه المعيد له المضل لأعدائه الهادي لأوليائه العدل في حكمه الصادق في قوله الراضي عمن أطاعه الغضبان على من عصاه الساخط على أعدائه الكاره لما نهى عنه بديع السموات والأرض إله الخلق محيي الأحياء والموتى مميت الأحياء والموتى المنصف ممن ظلم باني الدنيا وداحيها ومسويها ونحو هذا لأن كل هذا إخبار عن فعله تعالى وهذا مباح لنا بإجماع وهو من تعظيمه تعالى ومن دعائه عز وجل وليس لنا أن نسميه إلا بنص وكذلك نقول إن لله تعالى كيداً ومكراً وكبرياء وليس هذا من المدح فيما بيننا بل هو فيما بيننا ذم ولا يحل أن نقول أن لله تعالى عقلاً وشجاعة وعفة ودهاء وفهماً وذكاء وهذا غاية المدح فيما بيننا فبطل أن يراعي فيما يخبر به عن الله تعالى ما هو مدح عندنا أو ما هو ذم عندنا بل النص فقط وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على هذا أن رسول الله ﷺ قال إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة فلو كانت هذه الأسماء التي منعنا منها جائزاً أن تطلق لكانت أسماء الله تعالى أكثر من مائة ونيف وهذا باطل لأن قول رسول الله ﷺ مائة غير واحد مانع من أن يكون له أكثر من ذلك ولو جاز ذلك لكان قوله عليه السلام كذباً وهذا كفر ممن أجازه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها فأسماؤه بلا شك كما هي داخلة فيما علمه آدم عليه السلام وتخصيص كلامه عليه السلام لا يحل فإذ ذلك كذلك فمن هو الذي اشتقها من الصفات فإن قالوا هو اشتقها كذبوا على الله تعالى جهاراً إذ أخبروا عنه بما لم يخبر به تعالى عن نفسه وهذا عظيم نعوذ بالله منه وهذه كلها براهين كافية لمن عقل وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين
الكلام في الوجه واليد والعين والجنب والقدم والتنزل والعزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع
قال أبو محمد قال الله عز وجل. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم وقال الآخرون وجه الله تعالى إنما يراد به الله عز وجل قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته لما قدمنا من إبطال القول بالتجسيم وقال أبو الهذيل وجه الله هو الله قال أبو محمد وهذا لا ينبغي أن يطلق لأنه تسمية وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص ولكنا نقول وجه الله ليس هو غير الله تعالى ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى برهان ذلك قول الله تعالى حاكياً عمن رضي قوله. إنما نطعمكم لوجه الله. فصح يقيناً أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى وقوله عز وجل. أينما تولوا فثم وجه الله. إنما معناه فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه وقال تعالى. يد الله فوق أيديهم. وقال تعالى. لما خلقت بيدي. وقال تعالى. مما عملت أيدينا أنعاماً. وقال. بل يداه مبسوطتان. وقال رسول الله ﷺ عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه وذهبت المعتزلة إلى أن اليد النعمة وهو أيضاً لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وقال الأشعري إن المراد بقول الله تعالى أيدينا إنما معناه اليدان وإن ذكر الأعين إنما معناه عينان وهذا باطل مدخل في قول المجسمة بل نقول إن هذا إخبار عن الله تعالى لا يرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى ونقر أن لله تعالى كما قال يداً ويدين وأيدي وعين وأعيناً كما قال عز وجل. ولتصنع على عيني. وقال تعالى. فإنك بأعيننا. ولا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجل بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك ونقول إن المراد بكل ما ذكرنا الله عز وجل لا شيء غيره وقال تعالى حاكياً عن قول قائل. قال يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. وهذا معناه فيما يقصد به إلى الله عز وجل وفي جنب عبادته وصح عن رسول الله ﷺ وكلتا يديه يمين وعن يمين الرحمن فهو مثل قوله. وما ملكت أيمانكم. يريد وما ملكتم ولما كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشماخ إذا ما راية رفعت لمحمدٍ تلقاها عرابه باليمين يريد أنه يتلقاها بالسعي الأعلى كان قوله وكلتا يديه يمين أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى وكذلك صح عن رسول الله ﷺ أنه قال أن جهنم لا تمتلىء حتى يضع فيها قدمه وصح أيضاً في الحديث حتى يضع فيها رجله ومعنى هذا ما قد بينه رسول الله ﷺ في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القياممة يخلق خلقاً يدخلهم الجنة وأنه تعالى يقول للجنة والنار لكل واحدة منكما ملؤها فمعنى القدم في الحديث المذكور إنما هو كما قال تعالى. إن لهم قدم صدق عند ربهم. يريد سالف صدق فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم ومعنى رجله نحو ذلك لأن الرجل الجماعة في اللغة أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه تعالى أنه يملأ جهنم بها وكذلك الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال إن قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الله عز وجل أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز وجل ونعمه إما كفاية تسره وإما بلاء يأجره عليه والاصبع في اللغة النعمة وقلب كل واحد بين توفيق الله وجلاله وكلاهما حكمه عز وجل وأخبر عليه السلام أن الله يبدوا للمؤمن يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوها وهذا ظاهر بين وهو أنهم يرون صورة الحال من الهول والمخافة غير التي يظنون في الدنيا وبرهان صحة هذا القول قوله ﷺ في الحديث المذكور غير الذي عرفتموه بها وبالضرورة نعلم أننا لم نعلم لله عز وجل في الدنيا صورة أصلاً فصح ما ذكرناه يقيناً وكذلك القول في الحديث الثابت خلق الله آدم على صورته فهذه إضافة ملكٍ يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصور عليها وكل فاضل في طبقته فإنه ينسب إلى الله عز وجل كما نقول بيت الله عن الكعبة والبيوت كلها بيوت الله تعالى ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام روح الله والأرواح كلها لله عز وجل ملك له وكالقول في ناقة صالح عليه السلام ناقة الله والنوق كلها لله عز وجل فعلى هذا المعنى قيل على صورة الرحمن والصور كلها لله تعالى هي ملك له وخلق له وقد رأيت لابن فورك وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله كل ذلك قال أبو محمد هذا نص كلام أبي جعفر السمعاني عن شيوخه حرفاً حرفاً وهذا كفر مجرد لا مرية فيه لأنه سوى بين الله عز وجل وآدم في الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيهما والله يقول ليس كمثله شيء ثم لم يقنعوا بها حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام ومن قال إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد اشرك ثم زاد في الأمر والنهي لآدم على ذريته كما هو لله تعالى وهذا شرك لا خفاء به ولوددنا أن نعرف ما هي صفات الكمال التي ذكر هذا الإنسان أنها اجتمعت في آدم كما اجتمعت في الله عز وجل أن هذا الإلحاد والاستخفاف بالله تعالى لا ندري كيف تكلم وأنطق لسانه من يعرف أن الله تعالى لم يكن له كفواً أحد ووالله إن صفات الكمال في الملائكة لأكثر منها في آدم وإن صفات الاثنين التي شاركوا فيها آدم عليه السلام كصفات الجن ولا فرق بين الحياة والعلم والقوة والتناسل وغير ذلك فالكل على هذا على صورة الله تعالى هذا القول الملعون قائلة ونعوذ بالله من الضلال وكذلك ما صح عن النبي ﷺ عن يوم القيامة أن الله عز وجل يكشف عن ساق فيخرون سجداً فهذا كما قال الله عز وجل في القرآن. يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود. وإنما هو إخبار عن شدة الأمر وهو الموقف كما تقول العرب قد شمرت الحرب عن الأدب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا والعجب مما ينكر هذه الأخبار الصحاح وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به وقد عاب الله هذا فقال. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله. واختلف الناس في الأمر والرحمة والعزة فقال قوم هي صفات ذات لم تزل وقال آخرون لم يزل الله تعالى الله العزيز الرحمن الرحيم بذاته وأما الرحمة والأمر فمخلوقان قال أبو محمد والرجوع عند الاختلاف إنما هو إلى القرآن وكلام رسول الله ﷺ قال تعالى. فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول. وكان أمر الله مفعولا. والمفعول مخلوق بلا خلاف وقال الله تعالى. والله غالب على أمره. وبلا شك في أن المغلوب عليه مخلوق وأنه غير الغالب عليه وقال تعالى. لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وهذا بيان جلي لا إشكال فيه على أن الأمر محدث وقد قال رسول الله ﷺ يحدث من أمره ما شاء فصح بيقين أن أمر الله تعالى محدث مخلوق وقال الأشعرية لم يزل الله تعالى آمراً لكل من أمره بما يأمره به إذا وجد قال أبو محمد وهذا باطل متيقن لأنه لو كان كذلك لكان الله تعالى لم يزل آمراً لنا بالصلاة إلى بيت المقدس لم يزل آمراً لنا بأن لا نصلي إلى بيت المقدس لكن إلى الكعبة فيكون آمراً بالفعل للشيء والترك له معاً وهذا تخليط جل الله تعالى عنه وأيضاً قاله يلزمهم في نهي الله تعالى عما نهى عنه أنه لم يزل لأنه لا فرق بين أمره تعالى وبين نهيه فإن قالوا بل نهيه محدث وأمره قديم قلنا لهم ما قولكم فيمن عكس عليكم فقال بل نهيه لم يزل وأما أمره فمحدث وكلا القولين تخليط وأيضاً فإنهم مقرون بأن القديم لا يتغير ولا يبطل وقد صحح أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس ثم قد بطل الأمر بذلك وعدم وانقطع فلو كان أمره تعالى لم يزل لوجب أن لا يبطل ولا يعدم وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإن قالوا إن أمره تعالى لنا بالصلاة إلى بيت المقدس باق أبداً لم يسقط ولا نسخ ولا بطل ولا أحاله تعالى بأمر آخر كفروا بلا خلاف والذي يدخل على هذا القول الفاسد أكثر من هذا وقال تعالى. قل الروح من أمر ربي. فلو كان الأمر غير مخلوق ولم يزل لكان الروح كذلك لأنه منه ومعاذ الله من هذا ولا خلاف بين المسلمين في أن أرواحهم مخلوقة وكيف لا يكون كذلك وهي معذبة في النار أو منعمة في الجنة وقال. يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً. وصح عن رسول الله ﷺ سبوح قدوس رب الملائكة والروح قال أبو محمد والمربوب مخلوق بلا شك فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل. ألا له الخلق والأمر. ورام بهذا إثبات أن الخلق غير الأمر فلا حجة له في هذا لأن الله عز وجل قال. يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك. فقد فرق الله سبحانه وتعالى في هذه الآية بين الخلق والتسوية والتعديل والتصوير ولا خلاف في أن كل هذا خلق مخلوق وقال تعالى. خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم. فعطف تعالى الرزق والإماتة والإحياء على الخلق بلفظة ثم فلو كان عطف الأمر على الخلق دليلاً على أن الأمر غير الخلق لوجب ولا بد أن يكون الرزق والإماتة والإحياء والتصوير كلها غير الخلق وغير مخلوقات وهذا لا يقوله مسلم فبطل استدلالهم على أن الأمر غير مخلوق لعطفه على الخلق وقد عطف تعالى جبريل على الملائكة فليس العطف على الشيء مخرجاً له عنه إذا قام برهان على أنه داخل فيه وقد قام برهان النص بأن أمر الله تعالى مخلوق وأنه قدر مقدور مفعول وأما إذا لم يأت برهان يدخل المعطوف في المعطوف عليه فهو غيره بلا شك هذا حكم اللغة وبالله تعالى التوفيق وأما العزة فقد قال الله تعالى. سبحان ربك رب العزة عما يصفون. قال أبو محمد والمربوب مخلوق بلا شك وليس قوله تعالى. فلله العزة جميعاً. بموجب أن العزة لم تزل لأنه تعالى قال. فلله المكر جميعاً. وقال تعالى. قل لله الشفاعة جميعاً. وليس هذان النصان بلا خلاف موجبين أن الشفاعة غير مخلوق إلا أن ها هنا عزة ليست غير الله تعالى فهي غير مخلوقة وهي التي صح عن النبي ﷺ أن جبريل عليه السلام حلف بها فقال وعزتك في حديث خلق الجنة والنار قال أبو محمد ومن الباطل أن يحلف جبريل بغير الله عز وجل وأما الرحمة فقد قال رسول الله ﷺ أن الله خلق مائة رحمة فقسم في عباده رحمة واحدة فبها يتراحمون ورفع التسعة والتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده أو كما قال عليه السلام وهذا رفع للإشكال جملة في أن الرحمة مخلوقة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن إدخال الله عز وجل الجنة من أدخله فيها برحمته تعالى وأن بعثته محمداً ﷺ رحمة لمن آمن به وكل ذلك مخلوق بلا شك وأما القدرة والقوة فقد قال عز وجل. ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة. وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا القربري حدثنا محمد ابن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن بن عيسى حدثنا عبد الرحمن ابن أبي الموال سمعت محمد بن المنكدر يحدث عبد الله بن الحسن قال أخبرني جابر بن عبد الله قال كان رسول الله ﷺ يعلم أصحابه الاستخارة فذكر الحديث وفيه اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك قال أبو محمد والقول في القدرة والقوة كالقول في العلم سواء بسواء في اختلاف الناس على تلك الأقوال وتلك الحجاج ولا فرق وقولنا في هذا هو ما قلناه هنالك من أن القدرة والقوة لله تعالى حقاً وليستا غير الله تعالى ولا يقال هما الله تعالى وقال تعالى. كتب على نفسه الرحمة. وقال تعالى. ويحذركم الله نفسه. فنفس الله تعالى إخبار عنه لا عن شيء غيره أصلاً فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام أنه يقول لربه تعالى. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. قلنا هذا على ظاهره وعلى الحقيقة لأن كل غيب فهو معلوم في علم الله العليم بكل شيء فجرى الكلام على ما يتخاطب به الناس مما لا يتوصلون إلى العبارة عما يريدون لا به وهذا معهود من القول أن يقول القائل نفس الشيء وحقيقته يراد بذلك الشيء لا ما سواه وكذلك القول في الذات ولا فرق فقوله عليه السلام ولا أعلم ما في نفسك إنما معناه بلا شك ولا أعلم ما عندك وما في علمك وصح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر أن الله تعالى ينزل كل لية إذا بقي ثلث الليل إلى سماء الدنيا قال أبو محمد وهذا إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وإن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين وهذا معهود في اللغة تقول نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله ﷺ علق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذٍ وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقاً بزمان البتة وقد بين رسول الله ﷺ في بعض ألفاظ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أنه ذكر عليه السلام أن الله يأمر ملكاً ينادي في ذلك الوقت بذلك وأيضاً فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصح ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده ولو انتقل تعالى لكان محدوداً مخلوقاً مؤلفاً شاغلاً لمكان وهذه صفة المخلوقين تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وقد حمد الله إبراهيم خليله ورسوله وعبده ﷺ إذا بين لقومه بنقلة القمر أنه ليس رباً فقال. فلما أفل قال لا أحب الآفلين. وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه تعالى الله عن هذا وكذلك القول في قوله تعالى. وجاء ربك والملك صفاً صفاً. وقوله تعالى. هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر. فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئاً وإتياناً وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال وجاء ربك إنما معناه وجاء أمر ربك قال أبو محمد لا تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل القرآن وفي سائر اللغات وفي وجود العقل وفي ضرورة الحس إلا أعراضاً محمولة في الموصوفين فإذا جوزوها غير أعراض بخلاف المعهود فقد تحكموا بلا دليل إذ إنما يصار إلى مثل هذا فيما ورد به نص ولم يرد قط نص بلفظ الصفات ولا بلفظ الصفة فمن المحال أن يؤتى بلفظ لا نص فيه يعبر به عن خلاف المعهود وقال تعالى. للذين لايؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم. ثم قال تعالى. فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون. فلو ذكروا الأمثال مكان الصفات لذكر الله تعالى لفظة المثل لكان أولى ثم قد بين الله تعالى غاية البيان فقال فلا تضربوا لله الأمثال وقد أخبر الله تعالى بأن له المثل الأعلى فصح ضرورة أنه لا يضرب له مثل إلا ما أخبر به تعالى فقط ولا يحل أن يزاد على ذلك شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق
الكلام في المائية
قال أبو محمد ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له وذهب أهل السنة وضرار بن عمر وإلى أن الله تعالى مائية قال ضرار لا يعلمها غيره قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن له مائية هي أنيته نفسها وأنه لا جواب لمن سأل ما هو الباري إلا ما أجاب به موسى عليه السلام إذ سأله فرعون وما رب العالمين ونقول أنه لا جواب ها هنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا إلا ما أجاب به موسى عليه السلام لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه ولو لم يكن جواباً صحيحاً تاماً لا نقص فيه لما حمده الله واحتج من أنكر المائية بأن قال لا تخلو المائية من أن تكون هي الله أو تكون غيره فإن كانت غيره والمائية لم تزل فلم يزل مع الله تعالى غيره وهذا شرك وكفر قالوا وإن كانت هو هي وكنا لا نعلمها فقد صرنا لا نعلم الله عز وجل وهذا إقرار بأننا نجهله والجهل بالله تعالى كفر به وقالوا لو أمكن أن تكون له مائية لكانت له كيفية قال أبو محمد وهذا من جهلهم بحدودالكلام وبمواقع الأسماء على المسميات إذ مائية الشيء إنما هي الجواب في سؤال السائل بما هو وهذا سؤال عن حقيقة الشيء وذاته فمن أبطل المائية فقد أبطل حقيقة الشيء المسئول عنه بما هو لكن أول مراتب الإثبات فيما بيننا هي الأنبة وهي إثبات وجود الشيء فقط وهذا أمر قد علمناه وأحطنا به ولا يتبعض العلم بذلك فيعلم بعضه ويجهل بعضه ثم يتلو الالية التي هي جواب السائل بهل فيما بيننا السؤال بما هو وأما في الباري تعالى فالسؤال بما هو هو السؤال بهل هو والجواب في كليهما واحد فنقول هو حق واحد أول خالق لا يشبهه شيء من خلقه وإنما اختلفت الآنية والمائية في غير الله تعالى لاختلاف الأعراض في المسئول عنه وليس الله تعالى كذلك ولا هو حامل أعراضاً أصلاً ها هنا نقف ولا نعلم أكثر ولا ها هنا أيضاً شيء غير هذا إلا ما علمنا ربنا تعالى من سائر أسمائه كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه وقد أخبر تعالى على لسان نبيه ﷺ أن له تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد قال تعالى ولا يحيطون به علماً قال أبو محمد وهذا كلام صحيح على ظاهره إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفي عن الله عز وجل وواجب في غيره لوقوع العدد المحاط به في إعراض كل ما دونه تعالى ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له فصح يقيناً أننا نعلم الله عز وجل حقاً ولا نحيط به علماً كما قال تعالى قال أبو محمد فالآلية في الله تعالى هي المائية التي أنكرها أهل الجهل بحقائق الأمور وبالقرآن وبالسنن نحمد الله عز وجل على ما من به علينا من تيسيرنا لاتباع كتابه وتدبره وطلب سنن نبينا محمد ﷺ والوقوف عندهما ومعرفتنا بأن العقل لا يحكم به على خالقه لكن يفهم به أوامره تعالى ويميز به حقائق ما خلق فقط وما توفيقنا إلا بالله وأما قولهم لو كانت له مائية لكانت له كيفية فكلام قوم جهال بالحقائق وقد بينا وبان لكل ذي عقل أن السؤال بما هو الشيء غير السؤال بكيف هو الشيء وأن المسئول عنه بإحدى اللفظتين المذكورتين غير المسئول عنه بالأخرى وأن الجواب عن إحداهما غير الجواب عن الأخرى وبيان ذلك أن السؤال بما هو إنما هو سؤال عن ذاته واسمه وأن السؤال بكيف هو إنما هو سؤال عن حاله وأعراضه وهذا لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى فلاح الفرق ظاهراً وبالله تعالى التوفيق
مسائل في السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم وما يخبر عنه تعالى بالقدرة عليه وكيف يصح السؤال في ذلك كله
قال أبو محمد نقول لم يزل الله تعالى عالماً بأنه سيسخط على الكفار وسيرضى على المؤمنين وسيعذب بالنار من عصاه وسينعم بالجنة من أطاعه وسيعدل إذا حكم وسيصدق إذا أخبر ولم يزل عالماً بأنه سيخلق ما يخلق وأنه رب ما يخلق من العالمين ومالك كل شيء ويوم الدين وأن له ملك كل ما يخلق لأن كل ما ذكرنا يقتضي وجود كل ما علق به وكل ما علق به محدث لم يكن ثم كان ولم يزل تعالى عليماً بكل ذلك وأنه سيكون كل ما يكون على ما هو كائن عليه إذا كونه وأما الإرادة فقد أثبتها قوم من صفات الذات وقالوا لم تزل الإرادة ولم يزل الله تعالى قال أبو محمد وهذا خطأ لبرهانين ضروريين أحدهما أن الله تعالى لم ينص على أنه مريد ولا على أن له إرادة وقد قدمنا البرهان فيما سلف من كتابنا على أنه لا يجوز أن يشتق لله أسماء ولا صفات وأوردنا من ذلك أنه لا يقال أنه تعالى متبارك ويقال تبارك الله ولا يقال أنه مستهزىء ويقال الله يستهزىء بهم ولا أنه عاقل وكذلك لا يجوز أن يقال أنه تعالى باق ولا دائم ولا ثابت ولا سخي ولا جواد لأنه تعالى لم يسم به نفسه لكن يقال المتعالي كما قال تعالى ويقال هو الكريم الغني ولا يقال الموسر ويقال هو القوي ولا يقال الجلد ويقال لم يزل ولا زال هو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يقال هو الخفي ولا الغائب ولا البارز ولا المشتهر ويقال هو الغالب على أمره ولا يقال هو الظافر والمعني في كل ما ذكرنا من اللغة واحد فمن أطلق عليه تعالى بعض هذه الصفات والأسماء ومنع من بعضها فقد ألحد في أسمائه عز وجل وأقدم إقداماً عظيماً نعوذ بالله من ذلك وأيضاً فإن الإرادة من الله تعالى لو كانت لم تزل لكان المراد لم يزل بنص القرآن لأن الله عز وجل قال. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فأخبر تعالى أنه إذا أراد الشيء كان وأجمع المسلمون على تصويب قول من قال ما شأ الله كان والمشيئة هي الإرادة فصح بما ذكرنا صحة لا شك فيها أن الواجب أن يقال أراد الله كما قال تعالى إذا أراد شيئاً ونقول أنه تعالى يريد ما أراد ولا يريد ما لم يرد كما قال تعالى. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وقال تعالى. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا. وقال تعالى. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً. فنحن نقول كما قال الله تعالى أراد ويريد ولم يرد ولا يريد ولا نقول أن له إرادة ولا أنه مريد لأنه لم يأت نص من الله تعالى بذلك ولا من رسوله ﷺ ولا جاء ذلك قط من أحد من السلف رضي الله عنهم أجمعين ولا بحدود الكلام وحقائق مائيات المخلوقات وكيفياتها فهم يتبعون ما ترآى لهم ويقتحمون المهالك بلا هدىً من الله عز وجل نعوذ بالله من ذلك وقد قال تعالى. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. فنص تعالى على أن من لم يرد ما اختلف فيه إلى كتابه وإلى كلام رسوله ﷺ وإلى إجماع العلماء من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ولا من سلك سبيلهم بعدهم فلم يعلم ما استنبطه بظنه ورأيه وليس ننكر المحاجة على القصد إلى تبيين الحق وتبينه بل هذا هو العمل الفاضل الحسن وإنما ننكر الإقدام في الدين بغير برهان من قرآن أو سنة أو إجماع بعد أن أوجبه برهان الحس وأول بديهة العقل والنتائج الثابتة من مقدماته الصحيحة من صحة التوحيد والنبوة فإذا ثبتا بما ذكرنا فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا وأمرنا بطاعته وأن لا يعترض عليه بالظنون الكاذبة والآراء الفاسدة والقياسات السخيفة والتقليد المهلك فإن قال قائل وما الذي يمنع من أن نقول لم يزل الله مريداً لما أراد كونه إذا كونه قلنا وبالله تعالى التوفيق يمنع من ذلك أن الله عز وجل أخبر نصاً بأنه إذا أراد شيئاً كونه فكان فلو كان تعالى لم يزل مريداً لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد ويقال لهم أيضاً وما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق حتى خلق وهذا لا انفكاك منه قال أبو محمد ولو أن قائلاً يقول أن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى وهو الإرادة نفسها وأنه لا إرادة له إلا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به نفسه وقول من يجعلها صفة فعل وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إما مرادة مخلوقة وإما غير مرادة ولا مخلوقة فإن قال هي مرادة مخلوقة قيل له أهي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها أم لا بإرادة ولا بخلق فإن قال هي مرادة بلا إرادة أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نص فيلزمه الوقوف عنده وكذلك قوله مخلوقة بغير خلق وإن قال هي مرادة بإرادة هي غيرها ومخلوقة بخلق هو غيرها لزمه في إرادة الإرادة وخلق خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا نهاية لعددها وهذا هو قول الدهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل والنص على ما بينا في صدر كتابنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال إن الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة محال غير موجود لا بحس فيما بيننا ولا بدليل فيما غاب عنا فهو قول بمجرد الدعوى فهو باطل ضرورة وكذلك يلزمه إن قال أنها محدثة غير مخلوقة ما يلزم من قال أن العالم محدث لا محدث له وقد تقسم بطلان هذا القول بالبراهين الضرورية وبالله تعالى التوفيق وأما تسمية الله عز وجل جواداً سخياً أو صفته تعالى بأن له تعالى جوداً وسخاءً فلا يحل ذلك البتة ولو أن المعتزلة المقدمين على تسمية ربهم جواداً يكون لهم علم بلغة العرب أو بحقيقة الأسماء ووقوعها على المسميات أو بمعاني الأسماء والصفات ما أقدموا على هذه العظيمة ولا وقعوا في الائتساء بالكفار القائلين أن علة خلق الله تعالى لما خلق إنما هي جودة حتى أوقعهم ذلك في القول بأن العالم لم يزل ولكن المعتزلة معذورون بالجهل عذراً يبعدهم عن الكفر ولا يخرجهم عن الإيمان لا عذراً يسقط عنهم الملامة لأن التعلم لهم معروض ممكن ولكن لا هادي لمن أضل الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان قال أبو محمد والمانع من ذلك وجهان أحدهما أنه تعالى لم يسم بذلك نفسه ولا وصف به نفسه ولا يحل لأحد أن يتعدى حدود الله لاسيما فيما لا دليل فيه إلا النص فقط والوجه الثاني أن الجود والسخاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم مرادنا إنما هما لفظان واقعان على بذل الفضل عن الحاجة لا يعبر بلفظ الجود والسخاء إلا عن هذا المعنى وهذا المعنى مبعد عن الله عز وجل لأنه تعالى لا يحتاج إلى شيء فيكون له فضل ببذله فيسمى ببذله له سخياً وجواداً ويوصف من أجل بذله بجود وسخاءٍ أو يكون بمنعه بخيلاً أو شحيحاً أو موصوفاً ببخل أو شح قال أبو محمد ولا يختلف اثنان من كل من في العالم في أن امرءًا له ماء عذب حاضر لا يحتاج إليه وطعام عظيم فاضل لا حاجة به إليه ورأى رجلاً من عرض الناس أو عبداً من عبيده يموت جوعاً وعطشاً فلم يسقه ولا أطعمه فإنه في غاية البخل والشح والقسوة والظلم والله تعالى يرى كثيراً من عباده وأطفالاً من أطفالهم لا ذنب لهم وهم يموتون جوعاً وعطشاً وعنده مخادع السموات وخزائن الأرض ولا يرحمهم بنقطة ماء ولا لقمة طعام حتى يموتوا كذلك ولا يوصف من أجل ذلك بشح ولا بخل ولا ظلم ولا قسوة بل هو أرحم الراحمين والرحيم الكريم والذي لا يظلم ولا يجور كما سمى نفسه فبطل قياسهم الفاسد في الصفات الغائب عندهم على الشاهد وبطل أن يوصف الله عز وجل بشيءٍ من ذلك وليس لأحد أن يحيل الأسماء اللغوية عن موضعها في اللغة إلا أن يأتي نص بإحالة شيءٍ من ذلك فيوقف عنده ومن تعدى هذا الحكم فإنه مبطل للتفاهم كله نعم وللحقائق بأسرها إلا أنه لا يعجز أحد عن أن يسمي الباطل حقاً والحق باطلاً وأن يحيل الأسماء كلها عن مواضعها وهذا خروج عن الشرائع والمعقول ولكننا نقول أنه كريم كما قال تعالى ولا يبعد عنا أن تسمى نعم الله على عباده على عباده كرماً وأن الله تعالى كريماً نستحسن إطلاق ذلك ونسميها أيضاً فضلاً. قال الله تعالى. ذلك فضل الله. وقد ثبت النص بأن له تعالى كرماً وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أنا إبراهيم بن أحمد أنبأنا الفربري أنا البخاري قال لي خليفة بن خياط أنا يزيد بن زريع أنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك وعن معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال لا يزال يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قد قد بعزتك وكرمك قال أبو محمد وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا هل يقدر الله تعالى عليها أم لا واضطربوا أيضاً في الجواب عن ذلك قال أبو محمد ونحن مبينون بحول الله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك وتحقيق الجواب فيه دون تخليط ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى التوفيق أن السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ويفهم المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ومن أجاب عنه بأن هذا سؤال فاسد وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب منقطع متسلل عنه وأما السؤال الذي يفسد بعضه بعضاً وينقض آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد وما لم يحقق السؤال عنه فلم يسأل عنه وما لم يسأل عنه فلا يلزم عنه جواب على مثله فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان في هذا المعنى لا يشذ عنهما شيء منه إلا أنه لابد من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه وبالله تعالى التوفيق ثم نحد المسئول عنه في هذا الباب بحدٍ جامع بحول الله تعالى وقوته فيرتفع الإشكال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد أن الشيء المسئول عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ أو على إعدام فعل مبتدأ فالمسئول عنه مقدور عليه ولا تحاشى شيئاً والسؤال صحيح والجواب عنه بنعم لازم وإن كان المسئول عنه ما لا ابتدأ له فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤال متفاسد لا يمكن السائل عنه فهم معنى سؤاله ولا تحقيق سؤاله وما كان هكذا لا يلزم الجواب عنه على تحقيقه ولا على تشكله لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلا عن سؤال وليس ها هنا سؤال أصلاً ثم نقول وبالله تعالى نتأيد أن من الواجب أن نبين بحول الله تعالى وقوته ما المحال وعلى أي معنى تقع هذه اللفظة وعما ذا يعبر با عنه فإن من قام بشيء ولم يعرف تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل فنقول وبالله تعالى نتأيد إن المحال ينقسم أربعة أقسام لا خامس لها أحدها محال بالإضافة والثاني محال في الوجود والثالث محال فيما بيننا في بنية العقل عندنا والرابع محال مطلق فالمحال بالإضافة مثل نبات اللحية لابن ثلاث سنين وإحباله امرأة وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق وصوغه الشعر العجيب وما أشبه هذا فهذه المعاني موجودة في العالم ممن هي ممكنة منه ممتنعة من غيرهم وأما المحال في الوجود فكانقلاب الجماد حيواناً والحيوان جماداً أو حيواناً آخر وكنطق الحجر واختراع الأجسام وما أشبه هذا فإن هذا كله ليس ممكناً عندنا البتة ولا موجوداً ولكنه متوهم في العقل متشكل في النفس كيف كان يكون لو ن وبهذين القسمين تأتي الأنبياء عليهم السلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة وأما المحال فيما بيننا في بنية العقل فكون المرء قائماً قاعداً لا قاعداً معاً وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عز وجل فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم معروف وجهه يلزم الجواب عنه بنعم إن الله قادر على ذلك كله إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا بغير ذلك البتة هذا واقع في النفس بالضرورة ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر وأما المحال المطلق فهو كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييراً فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض بعضه بعضاً ويفسد آخره أوله وهذا النوع لم يزل محالاً في علم الله تعالى ولا هو ممكن فهمه لأحد وما كان هكذا فليس سؤالاً ولا سأل سائله عن معنى أصلاً وإذا لم يسأل فلا يقتضي جواباً على تحقيقه أو توهمه لكن يقتضي جواباً بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجه أصلاً وإن كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله قط ولا يفعله أبداً وهذا مثل من سأل أيقدر الله تعالى على نفسه أو على أن يجهل أو على أن يعجز أو أن يحدث مثله أو على إحداث ما لا أول له فهذه سؤالات تفسد بعضها بعضاً تشبه كلام الممرورين والمجانين وكلام من لا يفهم وهذا النوع لم يزل الله تعالى يعلمه محالاً ممتنعاً باطلاً قبل حدوث العقل وبعد حدوثه أبداً وأما المحال في العقل وهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل فإن العقل مخلوق محدث خلقه الله تعالى بعد أن لم يكن وإنما هو قوة من قوى النفس عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى وأحدث رتبه على ما هي عليه مختاراً لذلك تعالى وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع شيئاً لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه لكن اختار أن يفعله فإنه قادر على ترك اختراعه قادر على اختراع غيره مثله أو خلافه ولا فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره فكل ما خلقه الله تعالى محالاً في العقل فقط فإنما كان محالاً مذ جعله الله تعالى محالاً وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك فلو شاء تعالى أن لا يجعله محالاً لما كان محالاً وكذلك من سأل هل يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئاً موجوداً معدوماً معاً في وقت واحد أو جسماً في مكانين أو جسمين في مكان وكل ما أشبه هذا فهو سؤال صحيح والله تعالى قادر على كل ذلك لو شاء أن يكونه لكونه ومن البرهان على ذلك ما نراه في منامنا مما لا شك أنه محال في حال اليقظة ممتنع يقيناً ونراه في منامنا ممكناً محسوساً مرئياً ببصر النفس مسموعاً بسمعها فبالضرورة يدري كل ذي حس أن الذي جعل المحال ممكناً في النوم كان قادراً على أن يوجده ممكناً في اليقظة وكذلك من سأل هل الله تعالى قادر على أن يتخذ ولداً فالجواب أنه تعالى قادر على ذلك وقد نص عز وجل على ذلك في القرآن قال الله تعالى. لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء. وكذلك قال تعالى. لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين. قال أبو محمد ومن لم يطلق أن الله عز وجل يقدر على ذلك وحسن قوله بأن قال لا يوصف الله بالقدرة على ذلك فقد قطع بأن الله عز وجل لا يقدر إذ لا واسطة فيمن يوصف بالقدرة على شيء ما ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد خرج من أنه لا يقدر عليه وإذا وجب أن لا يقدر فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ولابد ومن وصف الله تعالى بالعجز فقد كفر وأيضاً فإن من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية وجعل قوته عز وجل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية عرض وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية وهذا تحديد للباري عز وجل وكفر به مجرد وادخال له في جملة المخلوقين ومعنى قولنا أن الله تعالى يقدر على المعدوم وعلى المحال إنما هو ما نبينه إن شاء الله تعالى وهو أن سؤال السائل عن المحال وعن المعدوم وهو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به فجوابنا له هو أنا حققنا أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده وهذا جواب صحيح معقول وهذا قولنا وليس إلا هذا القول وقول على الأسواري الذي يقول أن الله تعالى لا يقدر على غير ما علم أنه يفعله جمله وأما من خالفنا وخالف الأسواري فلا بد له من الرجوع إلى قولنا أو الوقوع في قول الأسواري وإن زعم لأنه متى ما وصف الله تعالى بالقدرة على شيء لم يفعله من إبراء مريض أو خلق شيء أو تحريك شيء ساكن فإنه قدر وصفه بالقدرة على إحالة علمه وتكذيب حكمه وتكذيب حكمه وهذا هو المحال فقد قال بقولنا ولا بد أو بقول الأسواري ولابد وأما كل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز وجل فإننا نقول إن كل ما سأل عنه سائل لا نحاشي شيئاً فإن الله تعالى قادر عليه غير عاجز عنه إلا أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ولا يستحل النطق بها ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها وهي كل ما فيها كفر بالباري تعالى واستخفاف به أو بنبي من أنبيائه أو بملك من ملائكته أو بآية من آياته عز وجل قال عز وجل. أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم. وقال عز وجل. قال أبو محمد ولو أن سائلاً سالنا هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قرداً أو كلباً لقلنا نعم ولو أنه أراد أن يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيمه من ملك أو نبي أو صاحب نبي أو مسلم فاضل لم يحل لنا الاستماع إليه ولكنا قد أجبناه جواباً كافياً بأن الله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشى شيئاً فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي فإنما غرضه التشنيع فقط والتمويه وهذان من دلائل العجز عن المناظرة والانقطاع والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد والناس في هذا الباب على أقسام فمبدؤها من الطرف قول من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على غير ما يفعل وهو قول على الأسواري أحد شيوخ المعتزلة واعلموا أنه لابد لكل من منع من أن يقدر الله تعالى على محال أو على شيء مما يسال عنه السائل فلابد ضرورة من المصير إلى هذا القول وظهور تناقضه وتفاسد قوله وخروجه إلى المحال البحث الذي فر عنه بزعمه على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى قال أبو محمد وقد قالت طائفة بمعنى هذا القول إلا أنها استشنعت عبارة الأسواري فقالت إن الله تعالى قادر على كل شيء ولكن إن سألنا سائل فقال أيقدر الله تعالى على أمر كذا مع تقدم علمه بأنه لا يكون قالوا فالجواب أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك قال أبو محمد وهذا الإخفاء لأنهم أوجبوا قدرته وأعدموها على شيء واحد وهو الباطل بلا خفاء وقالت طائفة إن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يوصف بالقدرة على أصلح مما فعل بعباده وهو قول جمهور المعتزلة وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل إلا أنه لا يقدر على الظلم ولا على الجور ولا على اتخاذ الولد ولا على إظهار معجزة على يد كذاب ولا على شيء من المحال ولا على نسخ التوحيد وهذا قول النظام وأصحابه والأشعرية وإن كانوا مختلفين في مائية الظلم وقالت طائفة أن الله تعالى قادر على غير ما فعل وعلى الجور والظلم والكذب إلا أنه لا يقدر على المحال مثل أن يجعل الشيء معدوماً موجوداً معاً وقائماً قاعداً معاً أو في مكانين معاً وهذا قول البلخي وطوائف من المعتزلة قال أبو محمد والذي عليه أهل الإسلام كلهم ومن سلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قبل أن تحدث هذه الضلالات وهذا الإقدام الشنيع الذي لولا ضلال من ضل به ما انطلقت ألسنتنا به ولا سمحت أيدينا بكتابته ولكنا نحكيه حكاية الله ضلال من ضل فقال المسيح ابن الله والعزير ابن الله ويد الله مغلولة والله فقير ونحن أغنياء وإذ قال للإنسان اكفر وكما أنذر رسوله ﷺ بأن الناس لا يزالون يتساءلون فيما بينهم حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فقول أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم قبل ما ذكرنا هو أن الله تعالى فعال لما يشاء وعلى كل شيء قدير وبهذا جاء القرآن وكل مسئول عنه وإن بلغ الغاية من قال أبو محمد وقال لي بعضهم إن القرآن إنما جاء بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ونحن لا ننكر هذا وإنما نمنع من أن يوصف الله تعالى بالقدرة على ما لا يشاء وبالقدرة على ما ليس بشيء فقلت له قد قال الله تعالى يرزق من يشاء ويقدر فعم عز وجل ولم يخص فلا يحل لأحد تخصيص قدرته تعالى أصلاً وقال تعالى. قل إن الله قادر على أن ينزل آية. وقال تعالى. ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين. وقال تعالى. إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. وقال تعالى. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون. وقال تعالى. أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى. وقال تعالى عن نوح النبي ﷺ أنه قال. استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً. مع قوله تعالى. إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. وقال تعالى. قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم. وقال تعالى. عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن. فهذا نص على أن يفعل خلاف ما سبق في علمه من هدى من علم أنه لا يهديه ومن تعذيب من علم أنه لا يعذب أبداً وتبديل أزواج قد علم أنه لا يبدلهن أبداً وكل هذا نص على قدرته على إبطال علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب قوله الذي لا يكذب أبداً ومثل هذا في القرآن كثير فمن أعجب قولاً وأتم ضلالة ممن يوجب بقوله إن الله تعالى كذب وأنه تعالى مع ذلك غير قادر على الكذب مع قوله تعالى. عند مليك مقتدر. وقال تعالى. هو العليم القدير. وقوله تعالى. وكان الله عليماً قديراً. فأطلق تعالى لنفسه القدرة وعم ولم يخص فلا يجوز تخصيص قدرته بوجه من الوجوه قال أبو محمد فإن قال قائل فما يؤمنكم إذ هو تعالى قادر على الظلم والكذب والمحال من أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فتبطل الحقائق كلها ولا تصح ويكون كلما أخبرنا به كذباً قال أبو محمد وجوابنا في هذا هو أن الذي أمننا من ذلك ضرورة المعرفة التي قد وصفها الله تعالى في نفوسنا كمعرفتنا أن ثلاثة أكثر من اثنين وأن المميز مميز والأحمق أحمق وأن النخل لا يحمل زيتوناً وأن الحمير لا تحمل جمالاً وأن البغال لا تتكلم في النحو والشعر والفلسفلة وسائر ما استقر في النفوس علمه ضرورة وإلا فليخبرونا ما الذي أمنهم ما ذكرنا ولعله قد كان أو سيكون ولا فرق فإذ قد صح إطباق كل من يقر بالله من جميع الملل أن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه مع موافقته أكثر المخالفين لنا على أن هذا كله فإن الله تعالى قادر عليه ولكن لا يفعله فالذي أمنهم من أنه تعالى يفعله هو الذي أمننا من أن نفعل ما قالوا لنا فيه لعله قد فعله أو سيفعله ولا فرق وإن هذا العالم ليس في بنيته كون المحال المذكور فيه وأنه تعالى لا يجور ولا يكذب وبالضرورة الموجبة علمنا القول بحدوث العالم وبأن له صانعاً لا يشبهه لم يزل وبان ما ظهر من الأنبياء عليهم السلام فمن عنده تعالى وأن تلك المعجزات موجبة تصديقهم وهم أخبرونا أن الله تعالى لا يكذب ولا يظلم وأنه تعالى قد أخبرنا بأنه قد تمت كلماته صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وأنه تعالى قادر وليس كل ما يقدر عليه يفعله فإن كان السائل من هذا متديناً بدين الإسلام أو النصارى أو اليهود أو المجوس أو الصابئين أو البراهمة أو كل من يدين بأن الله حق فإنهم مجمعون على أنه تعالى لا يكذب ولا يظلم وكل من نفى الخالق فليس فيهم أحد يقول أنه يظلم أو يكذب فقد صح إطباق جميع سكان الأرض قديماً وحديثاً لا نحاشي أحداً على أن الله تعالى لا يظلم ولا يكذب فلو لم يكونوا مضطرين إلى القول بهذا لوجد فيهم ولو واحد يقول بخلاف ذلك ومن المحال أن تجتمع طبائعهم كلهم على هذا إلا لضرورة وضعها الله عز وجل في نفوسهم كضرورتهم إلى معرفة ما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وأيضاً فنقول لمن سأل هذا السؤال أيمكن أن يكون إنسان في الناس قد توسوس وأوهمته ظنونه الكاذبة وتخيله الفاسد وهوسه أن الأشياء على خلاف ما هي عليه وأن الناس على خلاف ما هم عليه ويتصور عنده هذا الظن الفاسد أنه حق لا يشك فيه أم ليس يمكن أن يكون هذا في العالم فإن قالوا لا يمكن أن يكون هذا في العالم أتوا بالمحال البحت وكابروا وإن قالوا بل هو ممكن موجود في الناس كثير من هذه صفته قيل لهم فما يؤمنكم من أن تكونوا بهذه الصفة ونقول لمن يؤمن بالله العظيم منهم أيقدر الله تعالى على أن يجيل حواسك كما فعل بصاحب الصفراء الذي يجد العسل مراً كالعلقم وبصاحب ابتداء الماء النازل في عينيه فيرى خيالات لا حقيقة لها وكمن في سمعه آفة فهو يسمع طنيناً لا حقيقة له أم لا يقدر فإن قالوا يقدر قيل له فما يؤمنك من أنك بهذه الصفة فإن قال إن كل من يحضرني يخبرني بأن لست من أهل هذه الصفة قيل له وهكذا يظن ذلك الموسوس ولا فرق فإنه لابد أن يقول إني أرى أني بخلاف هذه الصفة ضرورة وعلماً يقيناً قلنا له بمثل هذا سواء بسواء أمنا أن يكون الله يظلم أو يكذب أو يحيل طبيعة لغير نبي يفعل المحال مع قدرته على ذلك ولا فرق قال أبو محمد ويقال لجميع هذه الفرق حاشا من قال بقول علي الأسواري هل شنعتم على علي الأسواري لأنه إذا وصف الله تعالى بأنه لا يقدر على غير ما فعل فقد وصفه تعالى بالعجز ولابد فلا بد من نعم فيقال لهم فإن هذا نفسه لازم لكم في قولكم بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا على المحال ولا على نفسه لازم لكم في قولكم بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ولا على المحال ولا على نفسه أولاً أصلح مما فعل بعباده ضرورة لا ينفكون من ذلك فإن قلتم إن هذا لا يلزمنا قيل لكم ولا يعجز علي الأسواري عن أن يقول أيضاً إن هذا لا يلزمني وهذا لا انفكاك منه ويقال لهم إذا أخبر ﷺ أنه سيقيم الساعة وسيميت زيداً يوم كذا يقدر أن لايميته في ذلك اليوم وعلى أن يميته قبل ذلك اليوم أم لا فإن قالوا لا لحقوا بقول الأسواري وإن قالوا نعم أقروا أنه يقدر على تكذيب قوله وهذا هو القدرة على الكذب التي أبطلوا ونسألهم أيضاً إذ أمرنا الله تعالى بالدعاء ومنه ما قد علم أنه لا يجيب الداعي به هل أمرنا بالدعاء من ذلك فيما لا يستطيع ولا يقدر عليه أم فيما يقدر عليه فإن قالوا فيما لا يقدر عليه لحقوا بالأسواري وأوجبوا على الله تعالى القول بالمحال إذ زعموا أنه أمرنا بأن نرغب إليه في أن يفعل ما لا يقدر عليه تعالى الله عن ذلك وإن قالوا بل فيما يقدر عليه أقروا أنه يقدر على إبطال علمه والذي يدخل هذا الذي هو الكفر المجرد من إبطال دلائل التوحيد وإبطال حدوثه العالم وخلاف الإجماع غير قليل فإن قال علي الأسواري لا يلزمني إثبات العجز بنفي القدرة بل أنفي عنه الأمرين جميعاً كما قلتم أنتم أن نفيكم عنه تعالى الحركة لا يلزمه السكون ونفي السكون لا يلزمه الحركة كما تنفون عنه الضدين جميعاً من الشجاعة والجبن وسائر الصفات التي نفيتموها وأضدادها قال أبو محمد فنقول وبالله التوفيق إن هذا تمويه ضعيف لأننا نحن في نفي هذه الصفات عنه تعالى جارون على سنن واحد وفي نفي جميع صفات المخلوقين عنها كلها وأنتم قد أثبتم له قدرة على أشياء ونفيتم عنه قدرة على غيرها فوجب ضرورة إثبات العجز عنه في الأشياء التي وصفتموه بعدم القدرة عليها وأما نحن فلو وصفناه بالشجاعة في شيء أو بالحركة في وجه ما أو وصفناه بالعقل في شيء ما ثم نفينا عنه هذه الصفات في وجه آخر للزمنا حيث وصفناه بشيء منها نفي ضدها وللزمنا حيث نفينا عنه ضدها أن نثبتها له ولابد كما فعلنا في الرحمة والسخط فإننا إذا وصفناه بالرحمة لأبي بكر الصديق فقد نفينا عنه عز وجل السخط عليه وإذا نفينا عنه لأبي جهل فقد أثبتنا له بذلك السخط عليه وهذا برهان ضروري فإن موه مموه فقال ألستم تقولون أن الله تعالى لا يعلم الحي ميتاً فهل تثبتون له بنفي العلم ها هنا الجهل قلنا له وهذا أيضاً تمويه آخر بل أوجبنا له بذلك العلم حقاً لأننا إذا نفينا عنه العلم بخلاف ما الأشياء فقد أثبتنا له تعالى العلم بحقيقة ما الأشياء وهل ها هنا شيء يجهل أصلاً وإنما الجهل بشيء حق الجاهل به فقط قال أبو محمد وقد قلنا لمن ناظرنا منهم أنكم تنسبون لله تعالى علماً لم يزل فأخبرونا هل يقدر الله تعالى على أن يميت اليوم من علم أنه لا يميته إلا غداً وهل يقدر ربكم على أن يزيل الآن بنية عن مكان قد علم أنها لا تزول عنه إلا غداً وعلى رحمة من مات مشركاً مع قوله تعالى أنه لا يرحمه أصلاً أم لا يقدر على ذلك فقال لنا منهم قائل أن الله تعالى قادر على ذلك فقلنا له قد أقررتم أنه يقدر على إحالة علمه الذي لم يزل وعلى تكذيب كلامه وهذا إبطال قولكم صراحاً وقال منهم قائلون أنه تعالى قادر على ذلك ولو فعله لكان قد سبق في علمه أنه سيكون كما فعل فقلنا لهم لم نسألكم إلا هل يقدر على ذلك مع تقدم علمه أنه لا يكون فضجروا ها هنا وانقطعوا ولجأ بعضهم إلى القطع بقول علي الأسوري في أنه لا يقدر على ذلك فقلنا لهم إذا كان تعالى لا يقدر على شيء غير ما فعل ولا على نقل بنية عن موضعها فهو إذاً مضطر مجبر وذو طبيعة جارية على سنن واحد نعم ويلزم الأسواري ومن قال بقوله إن استطاعة الله ليست قبل فعله البتة وإنما هي مع فعله ولابد لأنه لو كان مستطيعاً قبل الفعل لكان قادراً على أن يفعل في الوقت الذي علم أنه لا يفعل فيه وهذا خلاف قوله نصاً وهو يقول إن الإنسان مستطيع قبل الفعل فهو أتم طاقة وقدرة من الله تعالى ويلزمه أيضاً القول بحدوث قدرة الله تعالى ولابد إذ لو كانت قدرته لم تزل لكان قادراً على الفعل قبل أن يفعل ولابد وهذا خلاف قوله وهذا كفر مجرد إذ يقول إن الإنسان قادر على غير ما علم الله تعالى أن يفعله والله تعالى لا يقدر على ذلك فإن هؤلاء جمعوا إلى تعجيز ربهم القول بأنهم أقوى منه وهذا على أشد ما يكون من الكفر والشرك والحماقة قال أبو محمد وكلهم يقول بهذا المعنى لأن جميعهم يقول إن كل مخلوق فهو قادر على كل ما يفعله من اتخاذ ولد وحركة وسكون وغير ذلك وأن الباري تعالى لا يقدر على شيء من ذلك وهذا كفر وحش جداً قال أبو محمد وسألناهم أيضاً فقلنا لهم أتقرون أن الله تعالى لم يزل قادراً على أن يخلق أم تقولون أنه لم يزل غير قادر على أن يخلق ثم قدر فقول كل من لقينا منهم وقول جميع أهل الإسلام أن الله عز وجل لم يزل قادراً على أن يخلق قال أبو محمد وهم وجميع أهل الإسلام منكرون على من قال من أهل الإلحاد أن الله تعالى لم يزل خالقاً قاطعون بأن لم يزل يخلق محال متفاسد قال أبو محمد صدقوا في ذلك إلا أنهم إذا أقروا أن قول من قال أنه لم يزل يخلق محال وأقروا أنه لم يزل قادراً على ذلك فقد أقروا بصحة قولنا وأنه تعالى قادر على المحال ولابد من هذا أو الكفر والقول بأنه تعالى لم يزل غير قادر والحمد لله على هداه لنا إلى الحق قال أبو محمد وسألناهم أيضاً فقلنا لهم هل يجوز عندكم أن يدعي الله تعالى في أن يفعل ما لا يقدر على سواه أو في أن لا يفعل ما لا يقدر على فعله فإن قالوا نعم أتوا بالمحال وإن قالوا لا يجوز ذلك قيل لهم فقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه فنقول رب احكم بالحق ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وهو عندكم لا يقدر على الحكم بغير الحق ولا أن يحملنا ما لا طاقة لنا به قال أبو محمد ومن عجائب الدنيا أنهم يسمعون الله تعالى يقول. وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله وأن الله ثالث ثلاثة وأن الله هو المسيح بن مريم والله فقير ونحن أغنياء ويد الله مغلولة وكمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر. ولا يشك مسلم في أن هذا كله كذب فأي حماقة أشنع من قول من قال إن الله قادر على أن يقول كل ذلك حاكياً ولا يقدر أن يقوله من غير أن يقول ما قيل هذه الأقوال من إضافتها إلى غيره وهذا قول يغني ذكره وسخافته عن تكلف الرد عليه قال أبو محمد ثم سألناهم فقلنا لهم من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدر على الكذب أو المحال أو الظلم أو غير ما فعل فلم تكن لهم حجة أصلاً إلا أن قالوا لو قدر على شيء من ذلك لما أمنا أن يكون فعله أو لعله سيفعله فقلنا لهم ومن أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله فلم تكن لهم حجة أصلاً إلا أن قالوا لأنه لا يقدر على فعله قال أبو محمد فحصل من هذا أن حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال وغير ما فعل أنه لا يقدر على شيء من ذلك فاستدلوا على قولهم بذلك القول نفسه وهذه سفسطة تامة وحماقة ظاهرة وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ضعيف الدين فلا بد ضرورة من أن يرجعوا إلى قولنا في أنه بالضرورة علمنا أنه تعالى لا يفعل شيئاً من ذلك كما قال أبو محمد وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والخلق عاجزون عن كثير من الأمور والعجز من صفة المخلوقين فهو منفي عن الله عز وجل جملة وليس في الخلق قادر بذاته على كل مسئول عنه فوجب أن الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه وكذلك الكذب والظلم من صفات المخلوقين فوجب يقيناً أنهما منفيان عن الباري تعالى فهذا هو الذي آمننا من أن يظلم أو يكذب أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادراً على ذلك وقلنا لهم أيضاً إذا كان عز وجل لا يوصف بالقدرة على إبطال علمه فكان لا يوصف بالقدرة على أمانته اليوم من علم أنه لا يميته إلا غداً لأنه لا قدرة له على ذلك ولو كان له على ذلك قدرة لوصف بها فإذا جاء غد فأماته فله قدرة على إماتته حينئذٍ فقد حدثت له قدرة بعد أن لم تكن وهذا يوجب أن قدرته تعالى حادثة وهذا خلاف قولهم قال أبو محمد وفي هذا أيضاً محال آخر وهو أنه إذا حدثت له قدرة بعد أن لم تكن فمن أحدثها له أهو أحدثها لنفسه أم غيره أحدثها له أم حدثت بلا محدث فإن قالوا هو أحدثها لنفسه سئلوا بلا قدرة أحدث لنفسه القدرة أم بقدرة أخرى فإن قالوا أحدث لنفسه قدرة بلا قدرة أتوا بالمحال وإن قالوا بل بقدرة اثبتوا قدرة لم تزل بخلاف قولهم وإن قالوا غيره أحدثها له أو حدثت بلا محدث لحقوا بقول الدهرية وكفروا وفي قولهم هذا من خلاف المعقول وخلاف القرآن وخلاف البرهان ما يضيق به نفوس المؤمنين والحمد لله على معافاته لنا مما ابتلاهم به وقالوا لو فعل تعالى كل ذلك كيف كان يسمى فقلنا هذا سؤال سخيف عما لا يكون أبداً وهو كمن سأل لو طار الإنسان كم ريشة كانت تكون له وما أشبه هذا من الحماقة المأمون كونها وتسمية الباري تعالى إليه لا إلينا وبالله تعالى التوفيق وقال أبو الهذيل العلاف إن لما يقدر الله تعالى عليه كلاً وآخراً كماله أول فلو خرج آخره إلى الفعل ولا يخرج لم يكن الله تعالى قادراً على شيء أصلاً ولا على فعل شيءٍ بوجه من الوجوه وقال عبد الله ابن أحمد بن محمود الكعبي ما نعلم أحداً يعتقد هذا اليوم إلا يحيى بن بشر الأرجاني وادعى أن أبا الهذيل تاب عن هذا القول قال أبو محمد وهذا كفر مجرد لا خفاء به لأنه يجوز على ربه تعالى الكون في صفة الجماد أو المخدور المفلوج مع صحة الإجماع على خلاف هذا القول الفاسد مع خلافه للقرآن ولموجب العقل وبديهته كذا عنده وأظنه لقد شبهه تعالى بالمخلوقين قال أبو محمد وأما الأسواري فجعل ربه تعالى مضطراً بمنزلة الجماد ولا فرق ولا قدرة له على غير ما فعل وهذه حال دون حال البق والبراغيث وأما أبو الهذيل فجعل قدرة ربه تعالى متناهية بمنزلة المختارين من خلقه وهذا هو التشبيه حقاً وأما النظام والأشعرية فكذلك أيضاً وجعلوا قدرة ربهم تعالى متناهية يقدر على شيءٍ ولا يقدر على آخر وهذه صفة أهل النقص وأما سائر المعتزلة فوصفوه تعالى بأنه لا نهاية لما يقدر عليه من الشر وأن قدرته على الخير متناهية وهذه صفة شر وطبيعة خبيثة جداً نعوذ بالله منها إلا بشر بن المعتمر فقوله في هذا كقول أهل الحق وهو أن لا تتناهى قدرته أصلاً والحمد لله رب العالمين
----------------------------
3
الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الثالث
< الفصل في الملل والأهواء والنحلاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
الفصل في الملل والأهواء والنحل
محتويات
1 الجزء الثالث
1.1 الكلام في الرؤية
1.2 الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى
1.3 الكلام في إعجاز القرآن
1.4 باب الاستطاعة
1.5 الكلام في أن إتمام الاستطاعة لا يكون إلا مع الفعل لا قبله
1.6 الكلام في الهدى والتوفيق
1.7 الكلام في القضاء والقدر
1.8 الكلام في البدل
1.9 الكلام في خلق الله عز وجل لأفعال خلقه
1.10 الكلام في التعديل والتجوير
1.11 الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا
1.12 كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد
1.13 الطبقات الثلاث المذكورة
1.14 وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين
1.15 الكلام في تعبد الملائكة وتعبد الحور العين
الجزء الثالث
الكلام في الرؤية
قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان إلى أن الله تعالى لا يرى في الآخرة وقد روينا هذا القول عن مجاهد وعذره في ذلك أن الخبر لم يبلغ إليه وروينا هذا القول أيضاً عن الحسن البصري وعكرمة وقد روي عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.
وذهبت المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا و الآخرة.
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة وضرار بن عمرو من المعتزلة إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا أصلاً.
وقال الحسن بن محمد النجار: هو جائز ولم يقطع به.
قال أبو محمد: أما قول المجسمة ففاسد بما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب والحمد لله رب العالمين وعمدة من أنكر أن الرؤية المعهودة عندنا لا تقع إلا على الألوان لا على ما عداها البتة وهذا مبعد عن الباري عز وجل.
وقد احتج من أنكر الرؤية علينا بهذه الحجة بعينها وهذا سوء وضع منهم لأننا لم نقل قط بتجويز هذه الرؤية على الباري عز وجل و إنما قلنا أنه تعالى يرى في الآخرة بقوة غير هذه القوة الموضوعة في العين الآن لكن بقوة موهوبة من الله تعالى وقد سماها بعض القائلين بهذا القول الحاسة السادسة وبيان ذلك أننا نعلم الله عز وجل بقلوبنا علماً صحيحاً هذا ما لا شك فيه فيضع الله في الأبصار قوة تشاهد بها الله وترى بها كالتي وضع في الدنيا في القلب و كالتي وضعها الله عز وجل في أذن موسى ﷺ حتى شاهد الله وسمعه مكلماً له واحتجت المعتزلة بقول الله عز وجل: " لا تدركه الأبصار ".
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك و الإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية وهو معنى الإحاطة ليس هذا المعنى في النظر والرؤية فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة برهان ذلك قول تعالى عز وجل: " فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ " ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله فلما ترآى الجمعان وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضاً فصمت منهم الرؤية لبني إسرائيل ونفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم كلا إن معي ربي سيهدين فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ولا في أن ما نفاه الله تعالى عز وجل فهو غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله تعالى: " وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة " واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الحبائي فقال: إن إلى هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم فهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة.
قال أبو محمد: وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت له النضرة وهي النعمة والنعمة نعمة فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها وإنما ينتظر ما لم يقع بعد والثاني تواتر الأخبار عن النبي ﷺ ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون وقال بعضهم: إن معناها إلى ثواب ربها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد: هذا فاسد جداً لأنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
قال أبو محمد: وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع لأن من فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله فإن قال قائل: إن حمل اللفظ على المعهود أولى من حمله على غير المعهود قيل له الأولى في ذلك حمل الأمور على معهودها في اللغة ما لم يمنع من ذلك نص أو إجماع أو ضررة ولم يأت نص ولا إجماع ولا ضررة تمنع ما ذكرنا في معنى النظر وقد وافقتنا المعتزلة على أنه لا عالم عندنا إلا بضمير وأنه لا فعال إلا بمعاناة ولا رحيم إلا برقة قلب ثم أجمعوا معنا على أن الله تعالى عالم بكل ما يكون بلا ضمير وأنه عز وجل فعال بلا معاناة ورحيم بلا رقة فأي فرق بين تجويزهم ما ذكرناه وبين تجويزهم رؤية و نظراً بقوة غير القوة المعهودة لولا الخذلان ومخالفة القرآن والسنن نعوذ بالله من ذلك.
وقد قال بعض المعتزلة: أخبرونا إذا رؤي الباري أكله يرى أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال تعلموه من الملحدين إذا سألونا نحن و المعتزلة فقالوا: إذا علمتم الباري تعالى أكله تعلمونه أم بعضه.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد مغالط به لأنهم أثبتوا كلاً وبعضاً حيث لا كل ولا بعض و الكل والبعض لا يقعان إلا في ذي نهاية والباري تعالى خالق النهاية والمتناهى فهو عز وجل لا متناه ولا نهاية فلا كل له ولا بعض.
قال أبو محمد: والآية المذكورة والأحاديث الصحاح المأثورة في رؤية الله تعالى يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله ومحال أن تكون هذه الرؤية رؤية القلب لأن جميع العارفين به تعالى يرونه في الدنيا بقلوبهم وكذلك الكفار في الآخرة بلا شك فإن قال قائل: إنما أخبر تعالى بالرؤية عن الوجه قيل وبالله تعالى التوفيق: معروف في اللغة التي بها خوطبنا أن تنسب الرؤية إلى قال بعض الأعراب: أنافس من ناجاك مقدار لفظة وتعتاد نفسي أن نأت عنك معينها وإن وجوهاً يصطبحن بنظرة إليك لمحسود عليك عيونها
الكلام في القرآن وهو القول في كلام الله تعالى
قال أبو محمد: واختلفوا في كلام الله عز وجل بعد أن أجمع أهل الإسلام كلهم أن لله تعالى كلاماً وعلى أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام وكذلك سائر الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف فكل هذا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل الإسلام ثم قالت المعتزلة إن كلام الله تعالى صفة فعل مخلوق وقالوا أن الله عز وجل كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة وقال أهل السنة أن كلام الله عز وجل هو علمه لم يزل وأنه غير مخلوق وهو قول الإمام أحمد بن حنبل وغيره رحمهم الله وقالت الأشعرية كلام الله تعالى صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى وخلاف الله تعالى وهو غير علم الله تعالى وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد.
قال أبو محمد: واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا أن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضا فلو كان جسماً لكان في مكان واحد ولو كان ذلك لكنا ولو كان عرضاً لاقتضى حاملاً ولكان كلام الله تعالى الذي هو عندنا هو غير كلامه الذي عند غيرنا وهذا محال ولكان أيضاً يغنى بغناء حامله وهذا لا يقولونه وبالله تعالى التوفيق.
قالوا: ولو سمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى من غير الله تعالى لما كان له عليه السلام في ذلك فضل علينا لأننا نسمع كلام الله عز وجل من غيره فصح أن لموسى عليه السلام مزية على من سواه وهو أنه عليه السلام سمع كلام الله بخلاف من سواه وأيضاً فقد قامت الدلائل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقاً وجب ضرورة أن يكون كلام الله تعالى ليس مخلوقاً وليس غير الله تعالى - كما قلنا - في العلم سواء بسواء.
قال أبو محمد: وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد فخلاف مجرد لله تعالى ولجميع أهل الإسلام لأن الله عز وجل يقول: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " ويقول تعالى: " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ".
قال أبو محمد: ولا ضلال أضل ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم ولا تكذيب لله أعظم ممن سمع هذا الكلام الذي لا يشك مسلم أنه خبر الله تعالى الذي لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه بأن لله كلمات لا تنفذ ثم يقول هو من رأيه الخسيس أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد فإن ادعوا أنهم فروا من أن يكثروا مع الله أكذبهم قولهم أن هاهنا خمسة عشرة شيئاً كلها متغايرة وكلها غير الله وخلاف الله وكلها لم تزل مع الله تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال أبو محمد: وقالت أيضاً هذه الطائفة المنتمية إلى الأشعرية أن كلام الله تعالى عز وجل لم ينزل به جبريل عليه السلام على قلب محمد ﷺ وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى وأن الذي نقرأ في المصاحف ويكتب فيها ليس شيء منها كلام الله وأن كلام الله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله تعالى لا يزايل الباري ولا يقوم بغيره ولا يحل في الأماكن ولا ينتقل ولا هو حروف موصولة ولا بعضه خير من بعض ولا أفضل ولا أعظم من بعض وقالوا لم يزل الله تعالى قائلاً لجهنم: " هل امتلأت " وقائلاً للكفار " اخسؤوا فيها ولا تكلمون " ولم يزل تعالى قائلاً لكل ما أراد تكوينه كن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد بلا تأويل وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا! فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقال قوم في اللفظ بالقرآن ونسبوا إلى أهل السنة أنهم يقولون أن الصوت غير مخلوق والخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: وهذا باطل وما قال قط مسلم أن الصوت الذي هو الهواء غير مخلوق وأن الخط غير مخلوق.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق هو ما قاله الله عز و جل ونبينا محمد ﷺ لا نزيد على ذلك شيئاً وهو أن قول القائل القرآن وقوله كلام الله كلاهما معنى واحد واللفظان مختلفان والقرآن هو كلام الله عز وجل على الحقيقة بلا مجاز ونكفر من لم يقل ذلك ونقول أن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى على الحقيقة على قلب محمد ﷺ كما قال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ثم نقول أن قولنا القرآن وقولنا كلام الله لفظ مشترك يعبر به عن خمسة أشياء فنسمي الصوت المسموع الملفوظ به قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى على الحقيقة وبرهان ذلك هو قول الله عز وجل: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " وقوله تعالى: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه " وقوله تعالى: " فاقرؤوا ما تيسر من القرآن " وأنكر على الكفار وصدق مؤمني الجن في قولهم: " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد " فصح أن المسموع وهو الصوت الملفوظ به هو القرآن حقيقة وهو كلام الله تعالى حقيقة من خالف هذا فقد عاند القرآن ويسمى المفهوم من ذلك الصوت قرآناً وكلام الله على الحقيقة فإذا فسرنا الزكاة المذكورة في القرآن والصلاة والحج وغير ذلك قلنا في كل هذا كلام الله وهو القرآن ونسمي المصحف كله قرآناً وكلام الله وبرهاننا على ذلك قول الله عز وجل: " إنه لقرآن كريم في كتابٍ مكنون " وقول رسول الله ﷺ إذ نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الحرب لئلا يناله العدو وقوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة " وكتاب الله تعالى هو القرآن بإجماع الأمة فقد سمى رسول الله ﷺ المصحف قرآناً والقرآن كلام الله تعالى بإجماع الأمة فالمصحف كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ونسمي المستقر في الصدور قرآناً ونقول أنه كلام الله تعالى برهاننا على ذلك قول رسول الله ﷺ إذ أمر بتعاهد القرآن وقال عليه السلام: " إنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم من عقلها " وقال الله تعالى: " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " فالذي في الصدور هو القرآن وهو كلام الله على الحقيقة لا مجازاً ونقول كما قال رسول الله ﷺ أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن وأن أم القرآن فاتحة الكتاب لم ينزل في القرآن ولا في التوراة ولا في الإنجيل مثلها وأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقال الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " فإن قالوا إنما يتفاضل الأجر على قراءة ذلك قلنا لهم نعم ولا شك في ذلك ولا يكون التفاضل في شيء مما يكون فيه التفاضل إلا في الصفات التي هي أعراض في الموصوف بها وأما في الذوات فلا ونقول أيضا ًأن القرآن هو كلام الله تعالى وهو علمه وليس شيئاً غير الباري تعالى برهان ذلك قول الله عز وجل: " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وباليقين يدري كل ذي فهم أنه تعالى إنما عني سابق علمه الذي سلف بما ينفذه ويقضيه.
قال أبو محمد: فهذه خمسة معان يعبر عن كل معنى منها بأنه قرآن وأنه كلام الله ويخبر عن كل واحد منها إخباراً صحيحاً بأنه القرآن وانه كلام الله تعالى بنص القرآن والسنة للذين أجمع عليهما جميع الأمة وأما الصوت فهو هواء مندفع من الحلق والصدر والحنك واللسان والأسنان والشفتين إلى آذان السامعين وهو حروف الهجاء والهواء. وحروف الهجاء والهواء كل ذلك مخلوق بلا خلاف قال الله عز وجل: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقال تعالى: " بلسان عربي مبين " واللسان العربي ولسان كل قوم هي لغتهم واللسان واللغات كل ذلك مخلوق بلا شك والمعاني المعبر عنها بالكلام المؤلف من الحروف المؤلفة إنما هي الله تعالى والملائكة والنبيون وسموات وأرضون وما فيهما من الأشياء وصلاة وزكاة وذكر أمم خالية والجنة والنار وسائر الطاعات وسائر أعمال الدين وكل ذلك مخلوق حاشا الله وحده لا شريك له خالق كلما دونه وأما المصحف فإنما هو ورق من جلود الحيوان ومركب منها ومن مداد مؤلف من صمغ وزاج وعفص وماء وكل ذلك مخلوق وكذلك حركة اليد في خطه وحركة اللسان في قراءته واستقرار كل ذلك في النفوس هذه كلها أعراض مخلوقة وكذلك عيسى عليه السلام هو كلمة الله وهو مخلوق بلا شك قال الله تعالى: " بكلمة منه اسمه المسيح " وأما علم الله تعالى فلم يزل وهو كلام الله تعالى وهو القرآن وهو غير مخلوق وليس هو غير الله تعالى أصلاً ومن قال أن شيئاً غير الله تعالى لم يزل مع الله عز وجل فقد جعل لله عز وجل شريكاً ونقول أن لله عز وجل كلاماً حقيقة وأنه تعالى كلم موسى ومن كلم من الأنبياء والملائكة عليهم السلام تكليماً حقيقة لا مجازاً ولا يجوز أن يقال البتة أن الله تعالى متكلم لأنه لم يسم بذلك نفسه ومن قال أن الله تعالى مكلم موسى لم ننكره لأنه يخبر عن فعله تعالى الذي لم يكن ثم كان ولا يحل لأحد أن يقول إنما قلنا أن لله كلاماً لنفي الخرس عنه لما ذكرنا قبل من أنه إن كان يعني الخرس المعهود فإنه لا ينتفي إلا بالكلام المعهود الذي هو حركة اللسان والشفتين وإن كان إنما ينفي خرساً غير معهود فهذا لا يعقل أصلاً ولا يفهم وأيضاً فيلزمه أن يسميه تعالى شماماً لنفي الخشم عنه ومتحركاً لنفي الخدر وهذا كله إلحاد في أسمائه عز وجل لكن لما قال الله تعالى أن له كلاماً قلناه وأقررنا به ولو لم يقله عز وجل لم يحل لأحد أن يقوله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولما كان اسم القرآن يقع على خمسة أشياء وقوعاً مستوياً صحيحاً منها أربعة مخلوقة وواحد غير مخلوق لم يجز البتة لأحد أن يقول أن القرآن مخلوق ولا أن يقال أن كلام الله مخلوق لأن قائل هذا كاذب إذا أوقع صفة الخلق على ما لا يقع عليه مما يقع عليه اسم قرآن واسم كلام الله عز وجل ووجب ضرورة أن يقال أن القرآن لا خالق له ولا مخلوق وأن كلام الله تعالى لا خالق ولا مخلوق لأن الأربعة المسميات منه ليست خالقة ولا يجوز أن تطلق على القرآن ولا على كلام الله تعالى اسم خالق ولأن المعنى الخامس غير مخلوق ولا يجوز أن توضع صفة البعض على الكل الذي لا تعمه تلك الصفة بل واجب أن يطلق نفي تلك الصفة التي للبعض على الكل وكذاك لو قال قائل أن الأشياء كلها مخلوقة أو قال للحق مخلوق أو قال كل موجود مخلوق لقال الباطل لإن الله تعالى شيء موجود حق ليس مخلوقاً لكن إذا قال الله تعالى خالق كل شيء جاز ذلك لأنه قد أخرج بذكر الله تعالى أن المخلوق في كلامه الأشكال ومثال ذلك في ما بيننا أن ثياباً خمسة الأربعة منها حمر والخامس غير أحمر لكان من قال هذه الثياب حمر كاذباً ولكان من قال هذه الثياب ليست حمراً صادقاً وكذلك من قال الإنسان طبيب يعني كل إنسان لكان كاذباً ولو قال ليس الإنسان طبيباً يعني كل إنسان لكان صادقاً وكذلك لا يجوز أن يطلق أن الحق مخلوق ولا أن العلم مخلوق لأن اسم الحق يقع على الله تعالى وعلى كل موجود واسم العلم يقع على كل علم وعلى علم الله عز وجل وهو غير مخلوق لكن يقال الحق غير مخلوق والعلم غير مخلوق هكذا جملة فإذا بين فقيل كل حق دون الله تعالى فهو مخلوق وكل علم دون الله تعالى فهو مخلوق فهو كلام صحيح وهكذا لا يجوز أن يقال أن كلام الله مخلوق ولا أن القرآن مخلوق ولكن يقال علم الله غير مخلوق وكلام الله غير مخلوق والقرآن غير مخلوق ولو أن قائلاً قال أن الله مخلوق وهو يعني صوته المسموع أو الألف واللام والهاء أو الحبر التي كتبت هذه الكلمة به لكان في ظاهر قوله عند جميع الأمة كافراً ما لم يبين فيقول صوتي أو هذا الخط مخلوق.
قال أبو محمد: فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة الذي لم نتعد فيه ما قاله الله عز وجل ورسوله ﷺ وأجمعت الأمة كلها على جملته وأوجبته الضرورة والحمد لله رب العالمين فإن سأل سائل عن اللفظ بالقرآن قلنا له سؤالك هذا يقتضي أن اللفظ المسموع هو غير القرآن وهذا باطل بل اللفظ المسموع هو القرآن نفسه وهو كلام الله عز وجل نفسه كما قال تعالى: " حتى يسمع كلام الله " وكلام الله تعالى غير مخلوق لما ذكرنا وأما من أفرد السؤال عن الصوت وحروف الهجا والحبر فكل ذلك مخلوق بلا شك.
قال أبو محمد: ونقول أن الله تعالى قد قال ما أخبرنا أنه قاله وأنه تعالى لم يقل بعدما أخبرنا أنه سيقول في المستأنف ولكن سيقوله ومن تعد هذا فقد كذب الله جهلاً وأما من قال أن الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكل ما كونه أو يريد تكوينه فإن هذا قول فاحش موجب أن العالم لم يزل لأن الله تعالى أخبرنا أنه تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون " فصح أن كل مكون فهو كائن إثر قول الله تعالى له كن بلا مهلة فلو كان الله تعالى لم يزل قائلاً كن لكان كل مكون لم يزل وهذا قول من قال أن العالم لم يزل وله مدبر خالق لم يزل وهكذا كفر مجرد نعوذ بالله منه وقول الله تعالى هو غير تكليمه لأن تكليم الله تعالى من كلم فضيلة عظيمة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى: " منهم من كلم الله " وأما قوله فقد يكون سخطاً قال تعالى أنه قال لأهل النار: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال لإبليس: " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " قال اخرج منها ولا يجوز أن يقال إبليس كليم الله ولا أن أهل النار كلماء الله فقول الله عز وجل محدث بالنص وبرهان ذلك أيضاً قول الله تعالى: " إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى أنه قال لهم: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " وقال تعالى أنهم قالوا: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " فنص تعالى على أنه لا يكلمهم وأنه يقول لهم فثبت يقيناً أن قول الله تعالى هو غير كلامه وغير تكليمه لكن يقول كل كلام وتكليم فهما قول وليس كل قول منه تعالى كلاماً ولا تكليماً بنص القرآن ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى أخبرنا أنه كلم موسى وكلم الملائكة عليهم السلام وثبت يقيناً أنه كلم محمداً ﷺ ليلة الإسراء وقال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " فخص الله تعالى بتكليمه بعضهم دون بعض كما ترى وقال تعالى: " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء " ففي هذه الآيات والحمد لله أكبر نص على تصحيح كل ما قلناه في هذه المسئلة وما توفيقنا إلا بالله وأخبرنا تعالى في هذه الآية أنه لا يكلم بشراً إلا بأحد هذه الوجوه الثلاثة فقط فنظرنا فيها فوجدناه تعالى قد سمى ما تأتينا به الرسل عليهم السلام تكليماً انتقل منه للبشر فصح بذلك أن الذي أتتنا به رسله عليهم السلام هو كلام الله وأنه تعالى قد كلمنا بوحيه الذي أتتنا به رسله عليهم السلام وأننا قد سمعنا كلام الله عز وجل الذي هو القرآن الموحى إلى النبي بلا شك والحمد لله رب العالمين.
ووجدناه تعالى قد سمى وحيه إلى أنبياءه عليهم السلام تكليماً لهم ووجدناه عز وجل قد ذكر وجهاً ثالثاً وهو التكليم الذي يكون من وراء حجاب وهو الذي فضل به بعض النبيين على بعض وهو الذي يطلق عليه تكليم الله عز وجل دون صلة كما كلم موسى عليه السلام " من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة " وأما القسمان الأولان فإنما يطلق عليهما تكليم الله عز وجل بصلة لا مجرداً فنقول: كلم الله جميع الأنبياء بالوحي إليهم ونقول: في القسم الثاني كلمنا الله تعالى في القرآن على لسان نبيه عليه السلام بوحيه إليه ونقول: قال لنا الله عز وجل " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " ونقول: أخبرنا الله تعالى عن موسى وعيسى وعن الجنة والنار في القرآن وفيما أوحى الله إلى رسوله ﷺ ولو قال قائل: حدثنا الله تعالى عن الأمم السالفة وعن الجنة والنار في القرآن على لسان رسوله ﷺ لكان قولاً صحيحاً لا مدفع له لأن الله تعالى يقول: " ومن أصدق من الله حديثاً " وكذلك يقول قص الله علينا أخبار الأمم في القرآن قال تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " ونقول: سمعنا كلام الله تعالى في القرآن على التحقيق لا مجازاً وفضل علينا الملائكة والأنبياء عليهم السلام في هذا بالوجه الثاني الذي هو تكليمهم بالوحي إليهم في النوم واليقظة دون وسيطة ملك لكن بكلام مسموع بالآذان معلوم بالقلب زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى وهذا هو الوجه الذي خص به موسى عليه السلام من الشجرة ومحمد ﷺ ليلة الإسراء من المستوا الذي سمع فيه صريف الأقلام وسائر من كلم الله تعالى كذلك من النبيين والملائكة عليهم السلام قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل " ولا يجوز أن يكون شيء من هذا بصوت أصلاً لأنه كان يكون حينئذ يفيد بوسيطة مكلم غير الله تعالى وكان ذلك الصوت بمنزلة الرعد الحادث بالجو والقزع الحادث في الأجسام والوحي أعلى من هذه منزلة والتكليم من وراء حجاب أعلى من سائر الوحي بنص القرآن لأن الله تعالى سمى ذلك تفضيلاً كما تلونا وكل ما ذكرنا وإن كان يسمى تكليماً فالتكليم المطلق أعلى في الفضيلة من التكليم الموصول كما أن كل روح فهو روح الله تعالى على الملك لكن إذا قلنا روح الله على الإطلاق يعني بذلك جبريل أو عيسى عليهم السلام كان ذلك فضيلة عظيمة لهما.
قال أبو محمد: وإذا قرأنا القرآن قلنا كلامنا هذا هو كلام الله تعالى حقيقة لا مجازاً ولا يحل حينئذ لأحد أن يقول ليس كلامي هذا كلام الله تعالى وقد أنكر الله عز وجل هذا على من قاله إذ يقول تعالى: " سأرهقه صعوداً أنه فكر وقدر فقتل كيف قدر " إلى قوله تعالى فقال: " إن هذا إلا سحر يؤثر أن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر ".
قال أبو محمد: وكذلك يقول أحدنا ديني دين محمد ﷺ وإذا عمل عملاً أوجبته سنة قال عملي هذا عمل رسول الله ﷺ ولا يحل لأحد من المسلمين أن يقول: ديني غير دين رسول الله ﷺ ولو قال ذلك لوجب قتله بالردة وكذلك ليس له أن يقول إذا عمل عملاً جاءت به السنة عن رسول الله ﷺ هذا غير عمل رسول الله ﷺ ولو قاله لأدب ولكان كاذباً وكذلك يقول أحدنا ديني هو دين الله عز وجل يريد الذي أمر به عز وجل ولو قال ديني غير دين الله عز وجل لوجب قتله بالردة وكذلك يقول إذا حدث أحدنا حديثاً عن رسول الله ﷺ صحيحا ًكلامي هذا هو نفس كلام رسول الله ﷺ ولو قال إن كلامي هذا هو غير كلام رسول الله ﷺ لكان كاذباً وهذه أسماء أوجبتها ملة الله عز وجل وأجمع عليها أهل الإسلام ولم يخف علينا ولا على من سلف من المسلمين أن حركة لسان رسول الله ﷺ غير حركة ألسنتنا وكذلك حركة أجسامنا في العمل وكذلك ما توصف به النفوس من العلم ولكن التسمية في الشريعة ليست إلينا إنما هي لله تعالى ولرسوله ﷺ فمن خالف هذا كان كمن قال فرعون وأبو جهل مؤمنان وموسى ومحمد كافران فإذا قيل له في ذلك قال أو ليس أبو جهل وفرعون مؤمنين بالكفر ومحمد وموسى كافران بالطاغوت فهذا وإن كان لكلامه مخرج فهو عند أهل الإسلام كافر لتعديه ما أوجبته الشريعة من التسمية وقد شهدت العقول بوجوب الوقوف عند ما أوجبه الله تعالى في دينه فمن عد عن ذلك وزعم أنه اتبع دليل عقله في خلاف ذلك فليعلم أنه فارق قضية العقل الصادقة الموجبة للوقوف عند حكم الشريعة وخالف المؤمنين واتبع غير سبيلهم قال تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " نعوذ بالله من ذلك.
قال أبو محمد: قال بعضهم فإذا سمعنا نحن كلام الله تعالى وسمعه موسى عليه السلام فأي فرق بينه وبيننا قلنا أعظم الفرق وهو أن موسى والملائكة عليهم السلام سمعوا الله تعالى يكلمهم ونحن سمعنا كلام الله تعالى من غيره وقد قال رسول الله ﷺ لإبن مسعود إذ أمره أن يقرأ عليه القرآن فقال له ابن مسعود: يا رسول الله أقرأه عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري فصح يقيناً أن القرآن الذي أنزله الله تعالى نفسه فسمعه من غيره وقالوا فكلام الله تعالى إذاً يحل فينا قلنا هذا تهويل بارد ونعم إذا سمى الله تعالى كلامنا إذا قرأنا كلاماً له تعالى فنحن نقول بذلك ونقول أن كلام الله في صدورنا وجار على ألسنتنا ومستقر في مصاحفنا ونبرأ ممن أنكر ذلك بقوله الفاسد المخرج له عن الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان.
الكلام في إعجاز القرآن
قال أبو محمد: قد ذكرنا قيام البرهان عن أن القرآن معجز قد أعجز الله عن مثل نظمه جميع العرب وغيرهم من الإنس والجن بتعجيز رسول الله ﷺ كل من ذكرنا عن أن يأتوا بمثله وتبكيتهم بذلك في محافلهم وهذا أمر لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر وأجمع المسلمون على ذلك ثم اختلف أهل الكلام في خمسة أنحاء من هذه المسالة فالنحو الأول قول روي عن الأشعري وهو أن المعجز الذي تحدى الناس بالمجيء بمثله هو الذي لم يزل مع الله تعالى ولم يفارقه قط ولا نزل إلينا ولا سمعناه وهذا كلام في غاية النقصان والبطلان إذ من المحال أن يكلف أحد أن يجيء بمثل لما لم يعرفه قط ولا سمعه وأيضا ًفيلزمه ولا بد بل هو نفس قوله أنه إذا لم يكن المعجز إلا ذلك فإن المسموع المتلو عندنا ليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر مجرد لا خلاف فيه لأحد فإنه خلاف للقرآن لأن الله تعالى ألزمهم بسورة أو عشر سور منه وذلك الكلام الذي هو عند الأشعري هو المعجز ليس له سوراً ولا كثيراً بل هو واحد فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين.
وله قول آخر كقول جميع المسلمين إن هذا المتلو هو المعجز والنحو الثاني هل الإعجاز متماد أم قد ارتفع بتمام الحجة به في حياة رسول الله ﷺ فقال بعض أهل الكلام أن الحجة قد قامت بعجز جميع العرب عن معارضته ولو عورض الآن لم تبطل بذلك الحجة التي قد صحت كما أن عصا موسى إذ قامت حجته بانقلابها حية لم يضره ولا أسقط حجته عودها عصا كما كانت وكذلك خروج يده بيضاء من جيبه ثم عودها كما كانت وكذلك سائر الآيات وقال جمهور أهل الإسلام أن الإعجاز باق إلى يوم القيامة والآية بذلك باقية أبداً كما كانت.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يحل القول بغيره لأنه نص قول الله تعالى إذ يقول: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ".
قال أبو محمد: فهذا نص جرى على أنه لا يأتون بمثله بلفظ الاستقبال فصح يقيناً أن ذلك على التأبيد وفي المستأنف أبداً ومن ادعى أن المراد بذلك الماضي فقد كذب لأنه لا يجوز أن تحال اللغة فينقل لفظ المستقبل إلى معنى الماضي إلا بنص أخر جلي وارد بذلك أو بإجماع متيقن أن المراد به غير ظاهره أو ضرورة ولاسبيل في هذه المسألة إلى شيء من هذه الوجوه وكذلك قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا " عموم لكل إنس وجن أبداً لا يجوز تخصيص شيء من ذلك أصلاً بغير ضرورة ولا إجماع.
قال أبو محمد: ومن قال بالوقف وأنه ليس للعموم صيغة ولا للظاهر فلا حجة هاهنا تقوم له على الطائفة المذكورة فصح أن إعجاز القرآن باق إلى يوم القيامة والحمد لله رب العالمين.
والنحو الثالث ما المعجز منه أنظمه أم في نصه من الإنذار بالغيوب فقال بعض أهل الكلام أن نظمه ليس معجزاً وإنما إعجازه ما فيه من الأخبار بالغيوب وقال سائر أهل الإسلام بل كلا الأمرين معجز نظمه وما فيه من الأخبار بالغيوب وهذا هو الحق الذي ما خالفه فهو ضلال وبرهان ذلك قول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " فنص تعالى على أنهم لا يأتون بمثل سورة من سوره واكثر سوره ليس فيها أخبار بغيب فكأن من جعل المعجز الأخبار الذي فيه بالغيوب مخالفاً لما نص الله تعالى على أنه معجز من القرآن فسقطت والنحو الرابع ما وجه إعجازه فقالت طائفة وجه إعجازه كونه في أعلى مراتب البلاغة وقالت طوائف إنما وجه إعجازه أن الله منع الخلق من القدرة على معارضته فقط فأما الطائفة التي قالت إنما إعجازه لأنه في أعلى درج البلاغة فإنهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " ونحو هذا وموه بعضهم بأن قال لو كان كما تقولون من أن الله تعالى منع من معارضته فقط لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم شغباً غير هذين وكلاهما لا حجة لهم فيه أما قولهم لو كان كما قلنا لوجب أن يكون أغث ما يمكن أن يكون من الكلام فكانت تكون الحجة أبلغ فهذا هو الكلام الغث حقاً لوجوه أحدها أنه قول بلا برهان لأنه يعكس عليه قوله بنفسه فيقال له بل لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة لكان لا حجة فيه لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة وأما آيات الأنبياء فخارجة عن المعهود فهذا أقوى من شغبهم.
وثانيها أنه لا يسأل الله تعالى عما يفعل ولا يقال له لم عجزت بهذا النظم دون غيره ولم أرسلت هذا الرسول دون غيره ولم قلبت عصا موسى حية دون أن تقلبها أسداً وهذا كله حمق ممن جاء به لم يوجبه قط عقل وحسب الآية أن تكون خارجة عن المعهود فقط.
وثالثها أنه حين طردوا سؤالهم ربهم بهذا السؤال الفاسد لزمهم أن يقولوا هلا كان هذا الإعجاز في كلام بجمع اللغات فيستوي في معرفة إعجازه العرب والعجم لأن العجم لا يعرفون إعجاز القرآن إلا بأخبار العرب فقط فبطل هذا الشغب الغث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما ذكرهم " ولكم في القصاص حياة " وما كان نحوها من الآيات فلا حجة لهم فيها ويقال لهم: إن كان كما تقولون ومعاذ الله من ذلك فإنما المعجز منه على قولكم هذه الآيات خاصة وأما سائره فلا وهذا كفر لا يقوله مسلم فإن قالوا جميع القرآن مثل هذه الآيات في الإعجاز قيل لهم فلم خصصتم بالذكر هذه الآيات دون غيرها إذاً وهل هذا منكم إلا إيهام لأهل الجهل أن من القرآن معجزاً وغير معجز ثم نقول لهم قول الله تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " أمعجز هو على شروطكم في كونه في أعلى درج البلاغة أم ليس معجزاً فإن قالوا ليس معجزاً كفروا وإن قالوا أنه معجز صدقوا وسألوا هل على شروطكم في أعلى درج البلاغة فإن قالوا نعم كابروا وكفوا مؤنتهم لأنها أسماء رجال فقط ليس على شروطكم في البلاغة فلو كان إعجاز القرآن لأنه في درج البلاغة لكان بمنزلة كلام الحسن وسهل بن هرون والجاحظ وشعر أمرئ القيس ومعاذ الله من هذا لأن كل ما يسبق في طبقته لم يؤمن إن يأتي من يماثله ضروة فلا بد لهم من هذه الخطة أو من المصير إلى قولنا أن الله تعالى منع من معارضته فقط وأيضاً فلو كان إعجازه من أنه في أعلى درج البلاغة المعهودة لوجب أن يكون ذلك الآية ولما هو أقل من آية وهذا ينقض قولهم أن المعجز منه ثلاث آيات لا أقل فإن قالوا فقولوا أنتم هل القرآن موصوف بأنه في أعلى درج البلاغة أم لا قلنا وبالله تعالى التوفيق إن كنتم تريدون أن الله قد بلغ به ما أراد فنعم هو في هذا المعنى في الغاية التي لا شيء أبلغ منها وإن كنتم تريدون هل هو في أعلى درج البلاغة في كلام المخلوقين فلا لأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لا من أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه وبرهان هذا أن إنساناً لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة جملة بلا شك فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً وأن الله تعالى منع الخلق من مثله وكساه الإعجاز وسلبه جميع كلام الخلق برهان ذلك أن الله حكى عن قوم من أهل النار أنهم يقولون إذا سئلوا عن سبب دخولهم النار " لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " وحكى تعالى عن كافر قال: " إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر " وحكى عن آخرين أنهم قالوا: " لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ " فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً له أصاره معجزاً ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره والحمد لله.
والنحو الخامس ما مقدار المعجز منه فقالت الأشعرية ومن وافقهم أن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو إنا أعطيناك الكوثر فصاعداً وإن ما دون ذلك ليس معجزاً واحتجوا في ذلك بقول الله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " قالوا ولم يتحد تعالى بأقل من ذلك وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قوله تعالى: " فأتوا بسورة من مثله " لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزاً بل قد قال تعالى على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولا يختلف اثنان في أن كل شيء من القرآن قرآن فكل شيء من القرآن معجز ثم تعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا فنقول أخبرونا ماذا تعنون بقولكم أن المعجز مقدار سورة أسورة كاملة لا أقل أم مقدار كوثر في الآيات أم مقدارها في الكلمات أم مقدارها في الحروف ولا سبيل إلى وجه خامس فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من أولها ليست معجزة وهكذا كل سورة وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها من آخرها فمقدور على مثلها وإن قالوا بل مقدارها من الآيات لزمهم أن آية الدين ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ولزمهم مع ذلك أن والفجر وليال عشر والشفع والوتر معجز كآية الكرسي وآيتان إليها لأنها ثلاث آيات وهذا غير قولهم ومكابرة أيضاً أن تكون هذه الكلمات معجزة حاشا كله غير معجزة ولزمهم أيضاً أن والضحى والفجر والعصر هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهن ثلاث آيات فإن قالوا هن متفرقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية متفرقة وإمكان المجيء بمثلها ومن جعل هذا ممكناً فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ولزمهم أيضاً أن " ولكم في القصاص حياة " ليس معجزاً وهذا نقض لقولهم في أنه في أعلى درج البلاغة وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول وإن قالوا بل في عدد الكلمات أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم أحدهم إبطال احتجاجهم بقوله تعالى: " بسورة من مثله " لأنهم جعلوا معجزاً ما ليس سورة ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم والثاني أن سورة الكوثر عشر كلمات اثنان وأربعون حرفاً وقد قال تعالى: " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " اثنتا عشرة كلمة اثنان وسبعون حرفاً وإن اقتصرنا على الأسماء فقط كانت عشر كلمات اثنين وستين حرفاً فهذا أكثر كلمات وحروفاً من سورة الكوثر فينبغي أن يكون هذا معجزاً عندكم ويكون " ولكم في القصاص حياة " غير معجز فإن قالوا إن هذا غير معجز تركوا قولهم في إعجاز مقدار أقل سورة في عدد الكلمات وعدد الحروف وإن قالوا بل هو معجز تركوا قولهم في أنه في أعلى درج البلاغة ويلزمهم أيضاً أننا إن أسقطنا من هذه الأسماء اسمين ومن سورة الكوثر كلمات أن لا يكون شيء من ذلك معجز فظهر سقوط كلامهم وتخليطه وفساده وأيضاً فإذا كانت الآية منه أو الآيتان غير معجزة وكانت مقدوراً على مثلها وإذا كان ذلك فكله مقدور على مثله وهذا كفر فإن قالوا إذا اجتمعت ثلاث آيات صارت غير مقدور عليها قيل لهم هذا غير قولكم إن إعجازه إنما هو من طريق البلاغة لأن طريق البلاغة في الآية كهو في الثلاث ولا فرق والحق من هذا هو ما قاله الله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " وإن كل كلمة قائمة المعنى يعلم إذا تليت أنها من القرآن فإنها معجزة لا يقدر أحد على المجيء بمثلها أبداً لأن الله تعالى حال بين الناس وبين ذلك كمن قال إن آية النبوة إن الله تعالى يطلقني على المشي في هذا الطريق الواضحة ثم لا يمشي فيها أحد غيري أبداً أو مدة يسميها فهذا أعظم ما يكون من الآيات وإن الكلمة المذكورة أنها متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآناً فهي غير معجزة وهذا هو الذي جاء به النص والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعين عاماً ونحن نجد في القرآن إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما كقوله تعالى " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك " وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا في صدر ومثل هذا في القرآن كثير والحمد لله رب العالمين. ===الكلام في القدر ===
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإنسان ليس مجبراً وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الله العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجودة في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح قية والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو الكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمرو العطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو اسحق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الإسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئاً غير نفس المستطيع وكذلك أيضاً قالوا في العجز أنه ليس شيئاً غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع.
قال أبو محمد: فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالاً وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالاً غيره وقالوا أيضاً معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما أقامه الله تعالى.
قال أبو محمد: وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز وجل قال في غير موضع من القرآن " جزاء بما كانوا يعملون لم تقولون ما لا تفعلون وعملوا الصالحات " فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهية علمنا يقيناً علماً لا يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقاً لائحاً لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلاً ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولاً وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وإن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وإننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقيناً أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعداً يقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكناً وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلاف البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظة الاضطرار و أطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقاً بيناً وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس ذلك ما عرفه يقيناً ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلاً فصح أنه مضطر إليها وأيضاً فقد أثنى الله عز وجل على قوم دعوه فقالوا: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئاً من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلولا أن ها هنا أشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقاً لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز وجل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاءهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالاً وجب أن لا يكون فعال غيره فخطأ من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالاً وأعمالاً قال تعالى: " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " فأثبت الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئاً من هذا وكذلك لما قال الله تعالى: " وفاكهة مما يتخيرون " علمنا أن للإنسان اختياراً لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه وهو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضاً حساً لأن الاختيار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما و الإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق.
ومنها أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى انك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حليم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباهاً بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز وجل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسماً أو عرضاً أو حركة أو سكوناً أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغير علة وأما نحن فإنما كان فعلاً لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولاً لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالاستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم إن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين إما أن يكمن مأموراً بالإيمان أو لا يكون مأموراً به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز وجل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز وجل ولا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الاستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا فلو لم تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحداً قبل ان يحج وقال تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " وقال تعالى: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو كانت الاستطاعة للصوم لا تتقدم للصوم ما لزمت أحداً الكفارة به وقال تعالى: " يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فصح أن استطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " ولهم أيضاً في خلق الأفعال اعتراض نذكره إنشاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.
باب الاستطاعة
قال أبو محمد: إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولاً أن نقف على معنى الاستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررنا بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد.
إن من قال أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الاستطاعة إنما هي مصدر استطاع يستطيع استطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والاحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي أحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الاستطاعة ليست مصدر استطاع ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة التي نزل بها القرآن والتي لفظة الاستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئاً من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضاً فإننا نجد المرء مستطيعاً ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد الأضعف فنقول استطاعة أشد من استطاعة واستطاعة أضعف من استطاعة وأيضاً فأن الاستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضاً تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة إن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضاً فلو كانت الاستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضاً هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع هو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله قالوا أن الاستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل لوجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضاً للجسم وأما من قال أن الاستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآلات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبداً وقد علمنا يقيناً أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما إن الاستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم قد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان على ذلك أن الزاد والراحلة كثير في العالم وليس كونهما في العالم موجباً عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار الزاد والراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضاً أن ذكروا قول الله عز وجل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذا قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز وجل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار الأمن صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل يقيناً أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختاراً إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضاً محركة للاستطاعة ولا نقول أن الإرادة استطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معاً ولا يمكن أيضاً أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد استطاعة ما لأن بعض الاستطاعة استطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة فالاستطاعة ليست عجزاً فمن استطاع على شيء وعجز عن أكثر من ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه هي غير استطاعة التي فيه على ما استطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلاً فعلمنا أن هاهنا شيئاً آخر به تتم الاستطاعة ولابد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة هذا الشيء إذ هو تمام الاستطاعة ولا تصح الاستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الاستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز وجل فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز وجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والاستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقاً وعصمة وتأييداً والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلاناً والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عوناً أو قوة أو حولاً وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيراً قال رسول الله ﷺ كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله عز وجل وأنه لا يفعل أحد خيراً ولا شراً إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلحوا بها الخير والشر معاً قال أبو محمد: فجملة القول في هذا بأن عناصر الأخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمرٌ بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الاستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز وجل حكاية عن القائلين: " لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " فأكذبهم الله في إنكارهم استطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " فلو لم تكن هنا استطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصياً بترك الحج لأنه لم يكن مستطيعاً للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً " فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعته على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطباً بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلاً ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله ﷺ لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعداً فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لاشك فيه فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأموراً بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذوراً أن صلى قاعداً وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعاً للقيام وهذا باطل وقوله ﷺ: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم " فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا.
وقوله ﷺ أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعاً للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالاً وحاشى له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكر ناصحة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله تعالى: " خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ " فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح ان سلامة الجوارح استطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز وجل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال: " وكانوا لا يستطيعون سمعاً " وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام: " إنك لن تستطيع معي صبراً " وقال: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً " وعلمنا أنه كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة التي نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل في من ظهر منه وسمي من أجل ذلك فاعلاً لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجوه معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم بين الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجباً ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكناً متوهماً لا واجباً ولا ممتنعاً وبها يكون المرء مخاطباً مكلفاً مأموراً منهياً وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف و يصير الفعل منه ممتنعاً ويكون عاجزا عن الفعل.
قال أبو محمد: فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز وجل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد إننا قد بينا آنفاً أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز وجل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضاً مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضاً فقد يكون المرء عاصياً لله تعالى في وجه مطيعاً له في آخر مؤمناً بالله كافراً بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحد إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لان الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري والأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمى الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلاً وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمى الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز وجل آمننا بقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " لكان غير منكر ان يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون ان يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبياً في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطي الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز وجل ولو كانت الاستطاعة لا تكون قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلاً كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلاً فعلاً لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معاً وهذا تناقض ومحال ظاهر.
قال أبو محمد: ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذاً محرق غير محرق فإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذاً مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده أفي حال رقه فهو حر عبد أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه إياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معاً أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقه ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيها أن تفريق النار أجزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراق وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه إيهاماً أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه و لا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في أن إتمام الاستطاعة لا يكون إلا مع الفعل لا قبله
قال أبو محمد: يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون أيضاً مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه زنى أصلاً أم لا وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إ بطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته أم لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلاً لشيء تاركاً لذلك الشيء معاً أم لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طامة من كون المرء قاعداً قائماً معاً ومؤمناً بالله كافراً به معاً وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولواذ ومدافعة بالراح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلاً لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لابد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاماً صحيحاً فقبحه عائد عليهم وإنما يلزم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من المعتزلة بأن قال إننا لا نختلف في أن الله عز وجل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على أن يجعله ساكناً متحركاً معاً.
قال أبو محمد: وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكناً متحركاً معاً في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعاً بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان .
قال أبو محمد: ويقال للمعتزلة أيضا أنتم تقرون أيضاً معنا بأن الله تعالى لم يزل عليماً بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلاناً سيطاء فلانة في وقت كهذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطأ الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز وجل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلاً بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز وجل فإن قالوا أن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضاً مما تكلمنا فيه آنفاً بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز وجل: " سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون " إلى قوله: " ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه: " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فقد ثبت يقيناً أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وإن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عز وجل: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " فبين عز وجل بياناً جلياً أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقيناً أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتدياً وأن بوقوع الأضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالاً فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتدياً ومن سماه ضالاً قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز وجل كذباً لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا لله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وقال الله تعالى مخبراً عن الخضر الذي آتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكياً عن موسى عليه السلام وفتاه: " فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وقال تعالى مخبراً عنه ومصدقاً عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز وجل ثم أخبر عز وجل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام: " أنك لن تستطيع معي صبراً " فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله: " ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً " فلم يقل له موسى عليه السلام إني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذا أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعه على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضاً لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر ﷺ وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز وجل بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقاً لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز وجل: " وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً " فنص تعالى نصاً جلياً على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عز وجل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى ": إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " فنفى الله عز وجل استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فنص تعالى على إن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وإن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الأذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الأذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ومصدقاً له إذ يقول: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فنص تعالى على أن رسوله ﷺ إن لم يعنه بصرف الكيد صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم خليله ورسوله ﷺ ومصدقاً له: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فهذا نص على أن من أعطاه الله عز وجل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم اخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتدياً وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز وجل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى: " وما يضل به إلا الفاسقين " وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجاباً وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى: " ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً " فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه ﷺ بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله ﷺ حين ثبته الله عز وجل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتباً لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد ﷺ من توفيق الله وتثبيته وإنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد عليه وإنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أثر وقد أمرنا عز وجل أن نقول: " إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فنص الله تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانو يكونون معانين منعماً عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم " فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وإن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز وجل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم وعلى قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا أن يعجزوا ربهم عز وجل على إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح ان التوفيق به يكون الإيمان وإن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى ألا قليلاً على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى: " فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً وهذا نص مت قلناه أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتدياً وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فهذا نص ما قلنا وإن الله تعالى قد نص قائلاً لنا أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وإن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه.
قال أبو محمد: إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلاً لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وإنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعاً مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل.
قال أبو محمد: ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الجسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب كذلك يوجدون من طفولتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياة والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهماً منهم بصمة البنية وعدم المانع.
قال أبو محمد: والملائكة والحوار العين والجن وجميع الحيوان كله في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز وجل فيهم الاستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز وجل فيهم اختياراً وإرادة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلاً لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل وما لا يفعل ولم يزل قادراً على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز وجل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الهدى والتوفيق
قال أبو محمد: احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وبقوله تعالى: " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ".
قال أبو محمد: وهذا حق وقد قال تعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى: " إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل " وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى: " من يضلل الله فلا هادي له " فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة: " إنا هديناه السبيل " فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين " فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وقوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل.
قال أبو محمد: وقوله تعالى أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم.
قال أبو محمد: فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وقوله تعالى: " إنا هديناه السبيل " وقوله تعالى: " وهديناه النجدين " إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " فرد تعالى الضمير في فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضاً فإن الله تعالى قال لرسوله ﷺ: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال له تعالى: " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فصح يقيناً أن الهدى الواجب على النبي ﷺ هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال: " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " فصح يقيناً أن من علم الله تعالى فيه خيراً أسمعه وثبت أن فيه خيراً ثم قال تعالى: " لتولوا وهم معرضون " لو أسمعهم لم يسمعوا فصح يقيناً أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلاً لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيراً ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيراً يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز وجل وكذلك قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً " فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أيضاً هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا.
قال أبو محمد: وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلاً به نصوص كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: " وما أضلنا إلا المجرمون " فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ " والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس: " رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض " والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيراً أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضاً عز وجل في آيه أخرى قد تلوناها آنفاً بأنه يجعل أكنه على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاخة لبيانه وهداه وإن يفقهوه وإنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول ﷺ حجاباً مانعاً لهم من الهدى وفسره أيضاً تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضاً القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وإن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقاً وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في ان يصرف عنه فتنته ولا كيده لاسيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوه يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلاً علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزيينهم لهم ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى: " حسداً من عند أنفسهم " لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى: " وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال لك عز وجل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم " وصدق الله عز وجل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل اصلاً فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالاً بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد ان يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط.
قال أبو محمد: ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زايد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضاً محالاً ظاهراً لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مراراً بخلاف مالا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من انه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضاً قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.
قال أبو محمد: وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم انهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوي بلا برهان.
قال أبو محمد: لم نجد لهم تأويلاً أصلاً في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ".
قال أبو محمد: وهذا هو الإضلال حقاً وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيراً جلياً وأيضاً فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها التي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله ﷺ أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله ﷺ: " كل ميسر لما خلق له " فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسرة الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلعاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ.
قال أبو محمد: ونبين هذا أيضاً بياناً طبيعياً ضرورياً لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله عز وجل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمه بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آثار النفس فالتمييز هو الذي خص به نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقاً و الهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقاً من حب اللذات والغلبة.
قال أبو محمد: وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلاً بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بالقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوقة لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال عز وجل: " إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي " فأخبر عز وجل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناة لا تأمر بالسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الكلام في القضاء والقدر
قال أبو محمد: ذهب بعض الناس لكثرة استعمال المسلمين هاتين اللفظتين إلى أن ظنوا أن فيهما معنى الإكراه والإجبار وليس كما ظنوا وإنما معنى القضاء في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى ورسوله ﷺ وبها نتخاطب ونتفاهم مرادنا أنه الحكم فقط ولذلك يقولون القاضي بمعنى الحاكم وقضى الله عز وجل بكذا أي حكم به ويكون أيضاً بمعنى أمر قال تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " إنما معناه بلا خلاف أنه تعالى أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ويكون أيضاً بمعنى أخبر قال الله تعالى: " وقضينا إليه ذلك الأمر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " بمعنى أخبرناه أن دابرهم مقطوع بالصباح وقال تعالى: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنا في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً " أي أخبرناهم بذلك ويكون أيضاً بمعنى أراد وهو قريب من معنى حكم قال الله تعالى: " إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ومعنى ذلك حكم بكونه فكونه ومعنى القدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء تقول قدرت البناء تقديراً إذا رتبته وحددته قال تعالى: " وقدر فيها أقواتها " بمعنى رتب أقواتها وحددها وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " يريد تعالى برتبة وحد فمعنى قضى وقدر حكم ورتب ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شيء بحمده أو ذمه وبكونه وترتيبه على صفة كذا وإلى وقت كذا فقط وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البدل
قال أبو محمد: قال بعض القائلين بالاستطاعة مع الفعل إذا سئل هل يستطيع الكافر ما أمر به من الإيمان أم لا يستطيع فأجاب أن الكافر مستطيع للإيمان على البدل بمعنى أن لا يتمادى في الكفر لكن يقطعه ويبدل منه الإيمان.
قال أبو محمد: والذي يجب أن يجيب به هو الجواب الذي بينا صحته بحول الله تعالى وقوته في كلامنا في الاستطاعة وهو ان تقول هو مستطيع في ظاهر الأمر بسلامة جوارحه وارتفاع موانعه غير مستطيع للجمع بين الإيمان والكفر ما دام كافراً وما دام لا يؤتيه الله عز وجل العون فإذا آتاه إياه تمت استطاعته وفعل ولا بد فإن قيل فهو مكلف مأمور قلنا نعم فإن قيل أهو عاجز عن ما هو مأمور به ومكلف أن يفعله قلنا وبالله التوفيق هو غير عاجز بظاهر بنيته لسلامة جوارحه وارتفاع الموانع وهو عاجز عن الجمع بين الفعل وضده ما لم ينزل الله تعالى له العون فيتم ارتفاع العجز عنه ويوجد الفعل ولا بد وتقول أن العجز في اللغة إنما يقع على الممنوع بآفة على الجوارح أو بمانع ظاهر إلى الحواس والمأمور بالفعل ليس بظاهر أمره عاجزاً إذ لا آفة في جوارحه ولا مانع له ظاهراً وهو في الحقيقة عاجز عن الجمع بين الفعل وضده وبين الفعل وتركه وعن فعل ما لم يؤته الله تعالى عوناً عليه وعن تكذيب علم الله تعالى الذي لم يزل بأنه لا يفعل إلا ما سبق علمه تعالى في هذه حقيقة الجواب في هذا الباب والحمد لله رب العالمين فإن قيل فهو مختار لما يفعل قلنا نعم اختياراً صحيحاً لا مجازاً لأنه مريد لكونه منه محب له مؤثر على تركه وهذا معنى لفظة الاختيار على الحقيقة وليس مضطراً ولا مجبراً ولا مكروهاً لأن في هذه ألفاظ في اللغة لا تقع إلا على الكاره لما يكون منه في هذه الحال وقد يكون المرء مضطراً مختاراً مكرهاً في حالة واحدة كإنسان في رجله أكلة لا دواء له إلا بقطعها فيأمر أعوانه مختاراً لأمره إياهم بقطعها وبحسمها بالنار بعد القطع ويأمرهم بإمساكه وضبطه وأن لا يلتفتوا إلى صياحه ولا إلى أمره لهم بتركه إذا أحس الألم ويتوعدهم على التقصير في ذلك الضرب والنكال الشديد فيفعلون به ذلك فهو مختار لقطع رجله إذ لو كره ذلك كراهة تامة لم يكرهه أحد على ذلك وهو بلا شك كاره لقطعها مضطر إليه إذ لو وجد سبيلاً بوجه من الوجوه دون الموت إلى ترك قطعها لم يقطعها وهو مجبر مكره بالضبط من أعوانه حتى يتم القطع والحسم إذ لو لم يضبطوه ويعسروه ويقهروه ويكرهوه ويجبروه لم يمكن من قطعها البتة إنما أتينا بهذا لئلا ينكر الجاهلون أن يكون أحد يوجد مختاراً من وجه مكرهاً من وجه آخر عاجزاً من وجه مستطيع من آخر قادر من وجه ممنوعاً من آخر وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في خلق الله عز وجل لأفعال خلقه
قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده فذهب أهل السنة كلهم وكل من قال بالاستطاعة مع الفعل كالمريسي وابن عون والنجارية والأشعرية والجهمية وطوائف من الخوارج والمرجئة والشيعة إلى ان جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة ضرار بن عمرو وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد وذهب سائر المعتزلة ومن وافقهم على ذلك من المرجئة والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة فعلها فاعلوها ولم يخلقها الله عز وجل على تخليط منهم في مائية أفعال النفس إلا بشر بن معتمر عطف فقال إلا أنه ليس شيء من أفعال العباد إلا ولله تعالى فيه فعل من طريق الاسم والحكم يريد بذلك أنه ليس للناس فعل إلا ولله تعالى فيه حكم بأنه صواب أو خطأ ونسميه بأنه حسن أو قبيح طاعة أو معصية.
قال أبو محمد: وقد أدى هذا القول الفاحش الملعون رجلاً من كبار المعتزلة وهو عباد بن سلمان تلميذ هشام بن عمرو الفوطي إلى ان قال أن الله تعالى لم يخلق الكفار لأنهم ناس وكفر معاً لكن خلق أجسامهم دون كفرهم.
قال أبو محمد: ويلزمه مثل هذا نفسه في المؤمنين وفي جميع الملائكة والجن لأنه ليس إلا مؤمن وكافر والمؤمن إنسان وإيمانه أو ملك وإيمانه أو جني وإيمانه وكفره فعلى قول هذا البائس السخيف لا يجوز أن يقال أن الله تعالى خلق من الناس ولا الجن ولا الملائكة سعيد بل يكون القول بهذا كذباً وحسبك بهذا القول خلافاً للقرآن وللمسلمين وقال معمر والجاحظ أن أفعال العباد كلها إلا فعل لهم فيها وإنما نسب إليهم مجازاً لظهورها منهم وإنها فعل الطبيعة حاشا الإرادة قال أبو محمد: ومن تدبر هذا القول علم أنه أقبح من قول جهم وجميع المجبرة لأنهم جعلوا أفعال العباد طبيعة اضطرارية كفعل النار للإحراق بطبعها وفعل الثلج للتبريد بطبعه وفعل السقمونيا في إحدارها الصفراء بطبعها وهذه صفة الأموات لا صفة الأحياء المختارين وإذا لم يبق على قول هذين الرجلين للإنسان فعل إلا الإرادة فقد وجدنا الإرادة لا يقدر الإنسان على صرفها ولا إحالتها ولا على تبديلها بوجه من الوجوه وإنما يظهر من المرء تبديل حركاته وسكونه وأما إرادته فلا حيلة له فيها ونحن نجد كل قوي الآلة من الرجال يحب وطيء كل جميلة يستمتع بها لولا التقوى ويحب النوم عن الصلاة في الليالي القارة والهواجر الحارة ويحب الأكل في أيام الصوم ويحب إمساك ماله عن الزكاة وإنما يأتي خلاف ما يريد مغالبة لإرادته وقهراً لها وأما صرفاً لها فلا سبيل له إليه فقد تم الإخبار صحيحاً على قول هذين الرجلين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: والبرهان على صحة قول من قال أن الله تعالى خلق أعمال العباد كلها نصوص من القرآن وبراهين ضرورية منتجة من بديهة العقل والحس لا يغيب عنها إلا جاهل وبالله تعالى التوفيق فمن النصوص قول الله عز وجل: " هل من خالق غير الله ".
قال أبو محمد: هذا كاف لمن عقل واتقى الله وقد قال لي بعضهم إنما أنكر الله تعالى أن يكون ها هنا خالق غيره يرزقنا كما في نص الآية.
قال أبو محمد: وجواب هذا أنه ليس كما ظن هذا القائل بل القضية قد تمت في قوله غير الله ثم ابتدأ عز وجل بتعديد نعمه علينا فأخبرنا أنه يرزقنا من السماء والأرض وقال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وهذا برهان جلي على أن الدين مخلوق لله عز وجل وقال تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا ".
قال أبو محمد: ومنهم من يعبد المسيح وقالت الملائكة وصدقوا بل كانوا قوماً يعبدون الجن فصح أن كل من عبدوه منهم المسيح والجن لا يخلقون شيئاً ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فثبت يقيناً أنهم مسرفون مديرون وأن أفعالهم مخلوقة لغيرهم وقال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ".
قال أبو محمد: وهذا نص جلي على إبطال أن يخلق أحد دون الله تعالى شيئاً لأنه لو كان هاهنا أحد غيره تعالى يخلق لكان من يخلق موجوداً جنساً في حيز ومن لا يخلق جنساً آخر وكان الشبه بين من يخلق موجوداً وكان من لا يخلق لا يشبه من يخلق وهذا إلحاد عظيم فصح بنص هذه الآية أن الله تعالى هو يخلق وحده وكل من عداه لا يخلق شيئاً فليس أحد مثله تعالى فليس من يخلق وهو الله تعالى كمن لا يخلق وهو كل من سواه وقال تعالى: " ولكل وجهة هو موليها " وهذا نص جلي من كذبه كفر وقد علمنا أنه تعالى لم يأمر بتلك الوجهات كلها بل فيها كفر قد نهى الله عز وجل عنه فلم يبقى إذ هو مولي كل وجهة إلا أنه خالق كل وجهة لا أحداً من الناس وهذا كاف لمن عقل ونصح نفسه منه ومنها قول الله عز وجل: " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه " وهذا إيجاب لأن الله تعالى خلق كل ما في العالم وإن كل من دونه لا يخلق شيئاً أصلاً ولو كان هاهنا خالق لشيء من الأشياء غير الله تعالى لكان جواب هؤلاء المقررين جواباً قاطعاً ولقالوا له نعم نريك أفعالنا خلقها من دونك ونعم هاهنا خالقون كثير وهم نحن لأفعالنا وقوله عز وجل: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء " وهذا بيان واضح لا خفاء به لأن الخلق كله جواهر وإعراض ولا شك في أنه لا يفعل الجواهر أحد دون الله تعالى وإنما يفعله الله عز وجل وحده فلم تبق إلا الأعراض فلو كان الله عز وجل خالقا ًلبعض الأعراض ويكون الناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق ولكانوا قد خلقوا كخلقة خلق إعراضاً وخلقوا إعراضاً وهذا تكذيب لله تعالى ورد للقرآن مجرد فصح أنه لا يخلق شيئاً غير الله عز وجل وحده والخلق هو الاختراع فالله مخترع أفعالنا كسائر الأعراض ولا فرق فإن نفوا خلق الله تعالى لجميع الأعراض لزمهم أن يقولوا أنها أفعال لغير فاعل أو أنها فعل لمن ظهرت منه من الأجرام الجمادية وغيرها فإن فالوا هي أفعال لغير فاعل فهذا قول أهل الدهر نصاً ويكلمون حينئذ بما يكلم به أهل الدهر وإن قالوا أنها أفعال الإجرام كانوا قد جعلوا الجمادات فاعلة مخترعة وهذا باطل محال وهو أيضاً غير قولهم فالطبيعة لا تفعل شيئاً مخترعة له وإنما الفاعل لما ظهر منها خالق الطبيعة المظهر منها ما ظهر فهو خالق الكل ولابد ولله الحمد ومنها قوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " وهذا نص جلي على أنه تعالى خلق أعمالنا وقد فسر بعضهم قوله تعالى: " والله خلقكم وما تعملون " أنه خلقنا وخلق العيدان والمعادن التي تعمل منها الأوثان.
قال أبو محمد: وهذا كلام سخيف دل على جهل قائله وعناده وانقطاعه لأنه لا يقول أحد في اللغة التي بها خوطبنا في القرآن وبها نتفاهم فيما بيننا أن الإنسان يعمل العود أو الحجر هذا ما لا يجوز في اللغة أصلاً ولا في المعقول وإنما يستعمل ذلك موصولاً فنقول عملت هذا العود صنماً وهذا الحجر وثناً فإنما بين تعالى خلقه الصنمية التي هي شكل الصنم ونص تعالى على ذلك بقوله تعالى: " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " فإنما عملنا النحت بنص الآية وبضرورة المشاهدة فهي التي علمنا وهي التي أخبر تعالى انه خلقها.
قال أبو محمد: وقد ذكر عن كبير منهم وهو محمد بن عبد الله الإسكافي أنه كان يقول أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير ولقد يلزم المعتزلة أن توافقه على هذا لأن الخشبة لا تسمى عوداً ولاطنبوراً لو حلف إنسان لا يشتري طنبوراً فاشترى خشباً لم يحنث وكذلك لو حلف أن لا يشتري خشباً فاشترى طنبوراً لم يحنث ولا يقع في اللغة على الطنبور اسم خشبة وقال تعالى: " خلق السماوات والأرض " فهي مخلوقة بنص القرآن وقد قال بعضهم إنما قال تعالى: " خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام " فكانت أعمال الناس مخلوقة في تلك الأيام.
قال أبو محمد: لم ينف الله عز وجل ان يخلق شيئاً بعد الستة أيام بل قد قال عز وجل: " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق " وقال تعالى: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا ًآخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فكان هذا كله في غير تلك الستة الأيام فإذ قد جاء النص بأن الله تعالى يخلق بعد تلك الأيام أبداً ولا يزال يخلق بعد ناشئة الدنيا ثم لا يزال يخلق نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أبداً بلا نهاية إلا أن عموم خلقه تعالى للسموات والأرض وما بينهما باق على كل موجود وقال بعضهم لا نقول أن أعمالنا بين السماء والأرض لأنها غير مماسة للسماء والأرض.
قال أبو محمد: وهذا عين التخليط لأن الله تعالى لم يشترط المماسة في ذلك وقد قال تعالى: " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " فصح ان السحاب ليست مماسة لسماء ولا للأرض فهي إذاً على قول هذا الجاهل غير مخلوقة ويلزمه أيضاً أن يقول بقول معمر والجاحظ في أن الله تعالى لم يخلق الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الموت ولا الحياة لان كل هذا غير مماس للسماء ولا للأرض.
قال أبو محمد: وأما قول معمر والجاحظ أن كل هذا فعل الطبيعة فغباوة شديدة وجهل بالطبيعة ومعنى لفظ البيعة إنما هي قوة الشيء تجري بها كيفياته على ما هي عليه وبالضرورة نعلم أن تلك القوة عرض لا يعقل وكل ما كان مما لا اختيار له من جسم أو عرض كالحجارة وسائر الجمادات فمن نسب إلى ما يظهر منها أنها أفعالها مخترعه لها فهو في غاية الجهل وبالضرورة نعلم ان تلك الأفعال خلق غيرها فيها ولا خالق هاهنا إلا خالق الكل وهو الله لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: ومن بلغ ههنا فقد كفانا الله تعالى شأنه لمجاهرته بالجهل العظيم والكفر المجرد في موافقته أهل الدهر وتكذيبه القرآن إذ يقول الله تبارك وتعالى: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقوله تعالى: " يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل " فأخبر تعالى أن تفاضلها في الطعوم من فعله عز وجل نعوذ بالله مما ابتلاهم به وأقحمهم فيه وقال معمر معنى قوله تعالى: " خلق الموت والحياة " إنما معناه الإماتة والإحياء.
قال أبو محمد: فما زاد على أنه أبدى تمام جهله بوجهين بينين أحدهما إحالته النص من كلام ربه تعالى بلا دليل والثاني أنه لم يزل عما لزمه لأن الموت والحياة هما الإماتة والإحياء بلا شك لأن الحياة والإحياء هو جمع النفس مع الجسد المركب الأرضي والموت والإماتة شيء واحد وهو التفريق بين النفس والجسد المذكور فقط فإذا كان جمع النفس والجسد وتفريقهما مخلوقين لله تعالى فقد صح ان الموت والحياة مخلوقان له تعالى يقيناً وبطل تمويه هذا المجنون.
قال أبو محمد: ومن النصوص القاطعة في هذا قول الله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " فلجأ بعضهم إلى دعوى الخصوص وذكر قول الله تعالى: " تدمر كل شيء بأمر ربها فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " وقوله تعالى: " وأوتيت من كل شيء " وقوله: " فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها بيان جلي على أنها إنما دمرت كل شيء أمرها الله تعالى بتدميره لا ما لم يأمرها فهو عموم لكل شيء أمرها به وقوله تعالى وأوتيت من كل شيء فمن للتعبيط فمن آتاه الله شيئاً من الأشياء فقد آتاه من كل شيء لأنه قد آتاه بعض الأشياء وأما قوله تعالى ففتحنا عليهم أبواب كل شيء فحق ونحن لا ندري كيفية ذلك الفتح إلا أننا ندري أن الله تعالى صدق فيما قال وأنه تعالى إنما آتاهم بعض الأشياء التي فتح عليهم أبوابها ثم لو صح برهان في بعض هذا العموم أنه ليس على ظاهره وإنما أريد به الخصوص لما وجب من ذلك أن يحمل كل عموم على خلاف ظاهره بل كل عموم فعلى ظاهره حتى يقوم برهان بأنه مخصوص أو أنه منسوخ فيوقف عنده ولا يتعدى بالتخصيص وبالنسخ إلى ما لم يقم برهان بأنه منسوخ أو مخصوص ولو كان غير هذا لما صحت حقيقة في شيء من أخبار الله تعالى ولا صحت شريعة أبداً لأنه لا يعجز أحد في أمر من أوامر الله تعالى وفي كل خبر من أخباره عز وجل أن يحمله على غير ظاهره وعلى بعض ما يقتضيه عمومه وهذا عين السفسطة والكفر والحماقة ونعوذ بالله من الخذلان ولم يقم برهان على تخصيص قوله تعالى إنا كل شيء خلقناه بقدر.
قال أبو محمد: ومن ذلك قوله تعالى: " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .
قال أبو محمد: فنص الله على أنه برأ المصائب كلها فهو بارئ لها والبارئ هو الخالق نفسه بلا شك فصح يقيناً أن الله تعالى خالق كل شيء إذ هو خالق كل ما أصاب في الأرض وفي النفوس ثم زاد تعالى بياناً برفع الأشكال جملة بقوله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " فبين تعالى أن ما أصاب الأموال والنفوس من المصائب فهو خالقها وقد تكون تلك المصائب أفعال الظالمين بإتلاف الأموال وأذى النفوس فنص تعالى على أن كل ذلك خلق له تعالى وبه عز وجل التوفيق وأما من طريق النظر فإن الحركة نوع واحد وكما يقال على جملة النوع فهو يقال مقول على أشخاص ذلك النوع ولا بد فإن كان النوع مخلوقاً فأشخاصه مخلوقة وأيضاً فلو كان في العالم شيء غير مخلوق لله عز وجل لكان من قال العالم مخلوق والأشياء مخلوقة وما دون الله تعالى مخلوق كاذب لأن في كل ذلك عندهم ما ليس بمخلوق ولكان من قال العالم غير مخلوق ولم يخلق الله تعالى الأشياء صادقاً ونعوذ بالله تعالى من كل قول أدى إلى هذا ونسألهم هل الله تعالى إله العالم ورب كل شيء أم لا فإن قالوا نعم سئلوا أعموماً أو خصوصاً فإن قالوا بل عموماً صدقوا ولزمهم ترك قولهم إذ من المحال أن يكون تعالى إلهاً لما لم يخلق وإن قالوا بل خصوصاً قيل لهم ففي العالم إذاً ما ليس الله إلهاً وما لا رب له وإن كان هذا فإن من قال أن الله تعالى رب العالمين كاذب وكان من قال ليس الله إلهاً للعالمين ولا برب العالمين صادقاً وهذا خروج عن الإسلام وتكذيب لله تعالى في قوله أنه رب العالمين وخالق كل شيء وقد وافقونا على أن الله تعالى خالق حركات المختارين من سائر الحيوان غير الملائكة والإنس والجن وبالضرورة ندري الحركات الاختيارية كلها نوع واحد فمن المحال الباطل أن يكون بعض النوع مخلوقاً وبعضه غير مخلوق.
قال أبو محمد: واعترضوا بأشياء من القرآن وهي أنهم قالوا قال الله عز وجل: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا " وقال تعالى: " لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " وقال تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " وقوله تعالى: " وتخلقون أفكا وقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " وقوله: " الذي أحسن كل شيء خلقه " وقوله: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " واعترضوا بأشياء من طريق النظر وهي إن قالوا إن كان الله تعالى خلق أعمال العباد فهو إذاً يغضب مما خلق ويكره ما فعل ويسخط فعله ولا يرضى ما فعل ولا ما دبر وقالوا أيضاً كل من فعل شيئاً فهو مسمى به ومنسوب إليه لا يعقل غير ذلك فلو خلق الله الخطاء والكذاب والظلم والكفر لنسب كل ذلك إليه تعالى الله عن ذلك وقالوا أيضاً لا يعقل فعل واحد من فاعلين هذا فعله كله أو هذا فعله كله وقالوا أيضاً أنتم تقولون عن الله تعالى خلق الفعل وإن العبد اكتسبه فأخبرونا عن هذا الاكتساب الذي انفرد به العبد أهو خلق أم هو غيره فإن قلتم هو خلق الله لزمكم أنه تعالى اكتسبه وأنه مكتسب له إذ الكسب هو الخلق وإن قلتم أن الكسب هو غير الخلق وليس خلقاً لله تعالى تركتم قولكم ورجعتم إلى قولنا وقالوا أيضاً إذا كانت أفعالكم مخلوقه لله تعالى وأنتم تقولون أنكم مستطيعون على فعلها وعلى تركها فقد أوجبتم أنكم مستطيعون على أن لا يخلق الله تعالى بعض خلقه وقالوا أيضاً إذا كان فعلكم خلقاَ لله تعالى وعذبكم على فعلكم فقد عذبكم على ما خلق وقالوا أيضاَ قد فرض الله علينا الرضا بما خلق فإن كان الظلم والكفر والكذب مما خلق ففرض علينا الرضا بالكفر والظلم والكذب.
قال أبو محمد: هذه عمدة اعتراضاتكم التي لا يشذ عنها شيء من تفريعاتهم وكل ما ذكروا لا حجة لهم فيه على ما نبين إن شاء الله تعالى بعونه وتأييده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنقول وبالله تعالى نستعين أما قول الله تعالى: " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " فلا حجة لهم في هذا لأن أول الآية في قوم كتبوا كتاباً وقالوا هذا من عند الله فأكذبهم الله تعالى في ذلك واخبر أنه ليس منزلاً من عنده ولا مما أمر به عز وجل ولم يقل هؤلاء القوم إن هذا الكتاب مخلوق فأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال تعالى إن ذلك الكتاب ليس مخلوقاً لله تعالى فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة ولا شك عند المعتزلة وعندنا في أن ذلك الكتاب مخلوق لله تعالى لأنه قرطاس أو أديم ومداد وكل مخلوق بلا شك وأما قوله: " تبارك الله أحسن الخالقين " فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يتدافع وقال تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ لا شك في هذا فقد وجدناه تعالى أنكر على الكافرين فقال تعالى: " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار " فهذه الآية بينت ما تعلق به المعتزلة وذلك أن قوماً جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فجعلوهم خالقين فأنكر والله تعالى ذلك فعلى هذا خرج قوله تعالى: " تبارك الله أحسن الخالقين " كما قال تعالى: " يكيدون كيداً وأكيد كيداً " وقال: " ومكروا ومكر الله " ويبين بطلان ظنون المعتزلة في هذه الآية قول الله تعالى: " ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد " أفيكون مسلماً من أوجب لله تعالى شركاً من أجل قول الله تعالى للكفار الذين جعلوا له شركاء أين شركائي ولا شك في أن هذا الخطاب إنما خرج جواباً عن إيجابهم له الشركاء تعالى الله عن ذلك وكذلك قوله تعالى: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " وقد علمنا أن كلام الله تعالى كله هو على حكم ذلك المعذب لنفسه في الدنيا إنه العزيز الكريم وقد علمنا بضرورة العقل والنص أنه ليس لله تعالى شركاء وأنه لا خالق غيره عز وجل وأنه خالق كل شيء في العالم من عرض أو جوهر وبهذا خرج قوله تعالى: " أحسن الخالقين " مع قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " فلو أمكن أن يكون في العالم خالق غير الله تعالى يخلق شيئاً لما أنكر ذلك عز وجل إذ هو عز وجل لا ينكر وجود الموجودات وإنما ينكر الباطل فصح ضرورة لا شك فيها أنه لا خالق غير الله تعالى فإذ لا شك في هذا فليس في قول الله تعالى: " أحسن الخالقين " إثبات لأن في العالم خالقاً غير الله تعالى يخلق شيئاً وبالله تعالى التوفيق وأما قوله: " وتخلقون إفكاً " وقوله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير " وقول زهير بن أبي سلمى المزني: وأراك تخلق ما فريت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري فقد قلنا ان كلام الله تعالى لا يختلف وقد قال تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق " وقال تعالى: " وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا " وبيقين علم كل ذي عقل أن من جملة أولئك الآلهة الذين اتخذهم الكفار الملائكة والجن والمسيح عليه السلام قال تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة أنهم قالوا عن الكفار: " بل كانوا يعبدون الجن " فقد صح يقيناً بنص هذه الآية أن الملائكة والجن والمسيح عليه السلام لا يخلقون شيئاً أصلاً ولا يختلف اثنان في أن جميع الإنس في فعلهم كمن ذكرنا إن كانوا هؤلاء يخلقون أفعالهم فسائر الناس يخلقون أفعالهم وإن كان هؤلاء لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فسائر الناس لا يخلقون شيئاً من أفعالهم فإن ذلك كذلك وكلام الله عز وجل لا يختلف فإذ لا شك في هذا فإن الخلق الذي أثبته الله عز وجل للمسيح عليه السلام في الطير وللكفار في الإفك هو غير الخلق الذي نفاه عنهم وعن جميع الخلق لا يجوز البتة غير هذا فإن هذا هو الحق بيقين فالخلق الذي أوجبه الله تعالى لنفيه ونفاه عن غيره هو الاختراع والإبداع وإحداث الشيء من لا شيء بمعنى من عدم إلى وجود وأما الخلق الذي أوجبه الله تعالى فإنما هو ظهور الفعل منهم فقط وانفرادهم به والله تعالى خالقه فيهم برهان ذلك أن العرب تسمي الكذب اختلاقاً والقول الكاذب مختلقاً وذلك القول بلا شك إنما هو لفظ ومعنى واللفظ مركب من حروف الهجاء وقد كان كل ذلك موجود النوع قبل وجود أشخاص هؤلاء المختلقين وهذا لقوله عز وجل: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وكقوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " " فبيقين يدري كل ذي حس يؤمن بالله تعالى وبالقرآن " إن الزرع والقتل والرمي الذي نفاه عن الناس وعن المؤمنين وعن رسول الله ﷺ هو غير الزرع والقتل والرمي الذي أضافه إليهم لا يمكنه البتة غير ذلك لأنه تعالى لا يقول إلا الحق فإذ ذلك كذلك فإن الذي نفاه عمن ذكرنا هو خلق كل شيء واختراعه وإبداعه وتكوينه وإخراجه من عدم إلى وجود والذي أوجب لهم منه ظهوره فيهم ونسبة ذلك كله إليهم كذلك نقط وبالله تعالى التوفيق وقول زهير: " وأراك تخلق ما فريت " لا يشك من له أقل فهم بالعربية أنه لم يعن الإبداع ولا إخراج الخلق من عدم إلى وجود وإنما أراد النفاذ في الأمور فقط فقد وضح أن لفظة الخلق مشتركة تقع على معنيين أحدهما لله تعالى لا لأحد دونه وهو الإبداع من عدم إلى وجود والثاني الكذب فيما لم يكن أو ظهور فعل لم يتقدم لغيره أو نفاذ فيما حاول وهذا كله موجود من الحيوان والله تعالى خالق كل ذلك وبالله تعالى التوفيق وبهذا تتألف النصوص كلها وأما قوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " فهو عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أن بصنعه أتقن كل شيء وهذا على عمومه وطاهره فالله تعالى صانع كل شيء وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً وهذا عين الإتقان وأما قوله تعالى: " أحسن كل شيء خلقه " فإنهما قراءتان مشهورتان من قراءات المسلمين إحداهما احسن كل شيء خلقه بإسكان اللام فيكون خلقه بدلاً من كل شيء بدل البيان فهذه القراءة حجة عليهم لأن معناها أن الله تعالى أحسن خلقه لكل شيء وصدق الله عز وجل وهكذا نقول أن خلق الله تعالى لكل شيء حسن والله تعالى محسن في كل شيء والقراءة الأخرى خلقه بفتح اللام وهذه أيضاً لا حجة لهم فيها لأنه ليس فيها إيجاب لأن هاهنا شيئاً لم يخلق الله عز وجل ومن ادعى أن هذا في اقتضاء الآية فقد كذب وإنما يقتضي لفظة الآية أن كل شيء فالله خلقه كما في سائر الآيات والله تعالى أحسنه إذ خلقه وهذا قولنا وكذا نقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة أو السكون والاعتقاد والإرادة والفكر وكل هذه كيفيات وأعراض حسن خلقها من الله عز وجل قد أحسن رتبتها وإيقاعها في النفوس والأجساد وإنما قبح ما قبح من ذلك من الإنسان لأن الله تعالى سمى وقوع ذلك أو بعضها ممن وقعت منه قبيحاً وسمى بعض ذلك حسناً كما كانت الصلاة إلى بيت المقدس حركة حسن إيماناً ثم سماها تعالى قبيحة كفراً وهذه تلك الحركة نفسها فصح أنه ليس في العالم شيء حسن لعينه ولا شيء قبيح لعينه لكن ما سماه الله تعالى حسناً فهو حسن وفاعله محسن قال الله تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم " وقال الله تعالى: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " وما سماه الله تعالى قبيحاً فهو حركة قبيحة وقد سمى الله تعالى خلقه لكل شيء في العالم حسناً فهو كله من الله تعالى حسن وسمى ما وقع من ذلك من عباده كما شاء فبعض ذلك قبحه فهو قبيح وبعض ذلك حسنه فهو حسن وبعض ذلك قبحه ثم حسنه فكان قبيحاً ثم حسن وبعض ذلك حسنه ثم قبحه فكان حسناً ثم قبح كما صارت الصلاة إلى الكعبة حسنة بعد ان كانت قبيحة وكذلك جميع أفعال الناس التي خلقها الله تعالى فيهم كالوطء قبل النكاح وبعده وكسبي من نقض الذمة وسائر الشريعة كلها وقد اتفقت المعتزلة معنا على أن خلق الله تعالى للخمر والخنازير والأحجار المعبودة من دونه حسن بلا شك وهو سماه قبائح وأرجاساً وحراماً ونجساً وسيئاً وخبيثاً وهكذا القول في خلقه للأعراض في عباده ولا فرق وكذلك وافقنا أكثرهم على أنه تعالى خلق فساد الدماغ والجنون والمتولد منه والجذام والعمى والصمم والفالج والحدبة والأدرة كل ذلك من خلق الله تعالى له حسن وكله فيما قبيح رديء جداً يستعاذ بالله منه وقد نص الله تعالى على أنه خلق المصائب كلها فقال عز وجل: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " فنص تعالى على أنه برأ المصايب كلها وبرأ هو خلق بلا خلاف من أحد ولا فرق بين إلزامهم إيانا أن الله تعالى أحسن الكفر والظلم والجور والكذب والقبائح إذ خلق كل ذلك وبين إقرارهم معنى أن الله تعالى قد أحسن الخمر والخنازير والدم والميتة والعذرة وإبليس وكل ما قال أن إله من دون الله تعالى والأوثان المعبودة من دون الله تعالى والمصايب كلها والأمراض والعاهات إذ خلق كل ذلك فأي شيء قالوه في هذه الأشياء فهو قولنا في خلق الله تعالى للكفر به ولشتمه والظلم والكذب ولا فرق كل ذلك وقد أحسن الله خلقه إذ حركة أو سكوناً أو ضميراً في النفس وسمى ظهوره من العبد قبيحاً موصوفاً به الإنسان وأما قوله تعالى: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " فلا حجة لهم في هذا أيضاً لأن التفاوت المعهود هو ما نافر النفوس أو خرج عن المعهود فنحن نسمي الصورة المضطربة بأن فيها تفاوتاً فليس هذا التفاوت الذي نفاه الله تعالى عن خلقه فإن ليس هو هذا الذي يسميه الناس تفاوتاً فلم يبق إلا أن التفاوت الذي نفاه الله تعالى تفاوت لكذب قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ولا يكذب الله تعالى إلا كافر فبطل ظن المعتزلة إن الكفر والظلم والكذب والجور تفاوت لأن كل ذلك موجود في خلق الله عز وجل مرئي فيه مشاهد بالعين فيه فبطل احتجاجهم والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل فما هذا التفاوت الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يرى في خلقه قيل لهم نعم وبالله التوفيق وهو اسم لا يقع على مسمى موجود في العالم أصلاً بل هو معدوم جملة إذ لو كان شيئاً موجوداً في العالم لوجد التفاوت في خلق الله تعالى والله تعالى قد أكذب هذا وأخبر أنه لا يرى في خلقه ثم نقول وبالله تعالى التوفيق أن العالم كله ما دون الله تعالى وهو كله مخلوق لله تعالى أجسامه وأعراضه كلها لا نحاشي شيئاً منها ثم إذا نظر الناظر في تقسيم أنواع أعراضه وأنواع أجسامه جرت القسمة جرياً مستوياً في تفصيل أجناسه وأنواعه بحدودها المميزة لها وفصولها المفرقة بينها على رتبة واحدة وهيئة واحدة إلى أن يبلغ إلى الأشخاص التي تلي أنواع الأنواع لا تفاوت في شيء من ذلك البتة بوجه من الوجوه ولا تخالف في شيء منه أصلاً ومن وقف على هذا علم أن الصورة المستقبحة عندنا والصورة المستحسنة عندنا واقعتان معاً تحت نوع الشكل والتخطيط ثم تحت نوع الكيفية ثم تحت اسم العرض وقعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت في هذا بوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الكفر والإيمان بالقلب واقعان تحت نوع الاعتقاد ثم تحت فعل النفس ثم تحت الكيفية والعرض وقوعاً مستوياً لا تفاضل فيه ولا تفاوت من هذا الوجه من التقسيم وكذلك أيضاً نعلم أن الإيمان والكفر باللسان واقعان تحت نوع فرع الهواء بآلات الكلام ثم تحت نوع الحركة وتحت نوع الكيفية وتحت اسم العرض وقوعاً حقاً مستوياً لا تفاوت فيه ولا اختلاف وهكذا القول في الظلم والإنصاف وفي العدل والجور وفي الصدق والكذب وفي الزنا والوطء الحلال وكذلك كل ما في العالم حتى يرجع جميع الموجودات إلى الرأس الأول التي ليس فوقها رأس يجمعها إلا كونها مخلوقة لله تعالى وهي الجوهر والكم والكيف والإضافة على ما بينا في كتاب التقريب والحمد لله رب العالمين فانتفى التفاوت عن كل ما خلق الله تعالى وعادت الآية المذكورة حجة على المعتزلة ضرورة لا منفك لهم عنها وهي أنه لو كان وجود الكفر والظلم تفاوتاً كما زعموا لكان التفاوت موجوداً في خلق الرحمن وقد كذب الله تعالى ذلك ونفى أن يرى في خلقه تفاوت وأما اعتراضهم من طريق النظر بأن قالوا أنه تعالى إن كان خلق الكفر والمعاصي فهو إذاً يغضب مما فعل ويغضب مما خلق ولا يرضى ما صنع ويسخط ما فعل ويكره ما يفعل وإنه يغضب ويسخط من تدبيره وتقديره فهذا تمويه ضعيف ونحن لا ننكر ذلك إذ أخبرنا الله عز وجل بذلك وهو تعالى قد أخبرنا أن يسخط الكفر والظلم والكذب ولا يرضاه وأنه يكره كل ذلك ويغضب منه فليس إلا التسليم لقول الله تعالى نعم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم أليس الله خلق إبليس وفرعون والخمر والكفار فلا بد من نعم فنقول لهم أيرضى عز وجل عن هؤلاء كلهم أم هو ساخط لهم كاره لهم غضبان عليهم غير راض عنهم فنقول لهم هذا نفس ما أنكرتم من انه تعالى سخط تدبيره وغضب من فعله وكره ما خلق ولعنه فإن قالوا لم يكره عين الكافر ولا سخط شخص إبليس ولا كره عين الخمر لم نسلم لهم ذلك لأنه تعالى قد نص على أنه تعالى لعن إبليس والكفار وإنهم مسخوطون ملعونون مكروهون من الله تعالى مغضوب عليهم وكذا الخمر والأوثان وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " وقد سمى الله تعالى كل ذلك رجس ثم أمر بعد ذلك باجتنابه وأضاف كل ذلك إلى عمل الشيطان ولا خلاف في أنه عز وجل خالق كل ذلك فهو خالق الرجس بالنص ولا فرق في المعقول بين خلق الرجس وخلق الكفر والظلم والكذب وقوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " فعلى قول هؤلاء المخاذيل أنه تعالى يغضب مما ألهم ويكرهه وإلهامه فعله بلا شك ضرورة فقد صح عليهم ما شنعوا به من أنه يغضب من فعله أيضاً فيقال لهم هل الله تعالى قادر على منع الظالم من المظلوم وعلى منع الذين قتلوا رسل الله صلى الله عليهم وسلم وعلى أن يحول بين الكافر وكفره وأن يميته قبل أن يبلغ وبين الزاني وزناه بإضعاف جارحته أو بشيء يشغله به أو تيسير إنسان يطل عليهما أم هو عاجز عن ذلك كله قادر على شيء منه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا هو غير قادر على شيء من ذلك عجزوا ربهم وكفروا وبطلت أدلتهم على إحداث العالم إذ أضعفوا قدرته عن هذا اليسير السهل وإن قالوا بل هو قادر على ذلك كله فقد أقروا أيضاً على أنه تعالى رأى المنكر والكفر والزنى والظلم فأقره ولم يغيره وأطلق أيدي الكفار على قتل رسله ضربهم ومع إقراره لكل ذلك فلم يكتف بكل ذلك إلا حتى قواهم بجوارحهم وآلاتهم وكف كل مانع وهذا على قولهم أنه رضا منه تعالى بالكفر واختياراً منه تعالى لكل ذلك وهذا كفر مجرد وأما أنه يغضب مما أقر ويسخط مما أعان عليه ويكره ما فعل من إقرارهم على كل ذلك وهذا هو الذي شنعوا به لا بد من أحد الوجهين ضرورة وكلاهما خلاف قولهم إلا ان هذا لازم لهم على أصولهم ولا يلزمنا نحن شيء منه لأننا لا نقبح إلا ما قبح الله تعالى ولا نحسن إلا ما حسن الله تعالى فإن قالوا إنما أقره لينتقم منه وإنما يكون سفهاً وعبثاً لو أقره أبداً قيل لهم أي فرق بين إقراره تعالى الكفر والظلم والكذب ساعة وبين إبقائه إياه ساعة بعد ساعة وهكذا أبداً بلا نهاية أو بنهاية في الحسن والقبح وإلا فعرفونا الأمد الذي يكون إقرار الكفر والكذب والظلم إليه حكمة وحسناً وإذا تجاوزه صار عبثاً وعيباً وسفهاً فإن تكلفوا أن يحدوا في ذلك حداً أتوا بالجنون والسخف والكذب والدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا لا ندري وردوا الأمر في ذلك إلى الله عز وجل صدقوا وهذا هو قولنا أن كل ما فعله الله تعالى من تكليف ما لا يطاق وتعذيبه عليها وخلقه الكفر والظلم في الكافر والظالم وإقراره كل ذلك ثم تعذيبها عليه وخلقه الكفر وغضبه منه وسخطه إياه كل ذلك من الله تعالى حكمة وعدل وحق وممن دونه تعالى سفه وظلم وباطل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأما قولهم أن من فعل شيئاً أن ينسب إليه ويسمي به نفسه وأنه لا يعقل ولا يوجد غير هذا إيجابهم بهذا الاستدلال أن يسمى الله تعالى ظالماً لأنه خلق الظلم وكذلك من الكفر والكذب فهذا ينتقض عليهم من وجهين أحدهما أن هذا تشبيه محض لأنهم يريدون أن يحكموا على الباري تعالى بالحكم الموجود الجاري على خلقه ويقال لهم إذ لم تجدوا فاعلاً في الشاهد إلا جسماً ولا عالماً إلا بعلم هو غيره ولا حياً إلا بحياة هي عرض فيه ولا مخبراً عنه إلا جسماً أو عرضاً وما لم يكن كذلك فهو معدوم ولا يتوهم ولا يعقل ثم رأيتم الباري تعالى بخلاف ذلك كله ولم تحكموا عليه بالحكم فيما وجدتم فقد وجب ضرورة أن لا يحكم عليه تعالى بالحكم علينا في أن يسمى من أفعاله ولا في أن ينسب إليه كما ينسب إلينا بلا خلاف ذلك بالبرهان الضروري هو أن الله عز وجل خلق كل ما خلق من ذلك مخترعاً له كيفية مركبة في غيره فهكذا هو فعل الله تعالى فيما خلق وأما فعل عباده لما فعلوا فإنما معناه أنه ظهر ذلك الفعل عرضاً محمولاً في فاعله لأنه إما حركة في متحرك وأما سكون في ساكن أو اعتقاد في معتقد أو فكر في مفتكر أو إرادة في مريد ولا مزيد فبين الأمرين بون بائن لا يخفى على من له أقل فهم وأما المدح والذم واشتقاق اسم الفعل من فعله فليس كما ظنوا لكن الحق هو أنه لا يستحق أحد مدحاً ولا ذماً إلا من مدحه الله تعالى أو ذمه وقد أمرنا الله تعالى بحمده والثناء عليه فهو عز وجل محمود على كل ما فعل محبوب لذلك وأما من دونه تعالى فمن حمد الله تعالى فعله الذي أظهره فيه فهو ممدوح محمود ومن ذم عز وجل فعله الذي أظهره فيه فهو مذموم ولا مزيد وبرهان هذا إجماع أهل الإسلام على أنه لا يستحق الحمد والمدح إلا من أطاع الله عز وجل ولا يستحق الذم إلا من عصا وقد يكون المرء مطيعاً محموداً اليوم ممدوحاً بفعله إن فعله اليوم وكافراً مذموماً به إن فعله غداً كالحج في أشهر الحج وفي غير أشهر الحج ولصوم يوم الفطر والأضحى وصوم رمضان وكالصلاة في الوقت وقبل الوقت وبعد الوقت وكسائر الشرائع كلها وقد وجدنا فاعلاً للكذب قائلاً له وفاعلاً للكفر قائلاً به وهما غير مذمومين ولا يسمى واحد منهما كاذباً ولا كافراً وهما الحاكي والمكره فبطل ما ظنت المعتزلة من انه كل من فعل الكذب فهو كاذب ومن فعل الكفر فهو كافر ومن فعل الظلم فهو ظالم وصح أنه لا يكون كاذباً ولا كافراً ولا ظالماً إلا من سماه الله تعالى كافراً وكاذباً وظالماً وإنه لا كفر ولا ظلم ولا كذب إلا ما سماه الله كفراً وكذباً وظلماً وصح بالضرورة التي لا محيد عنها أنه ليس في العالم شيء محمود ممدوح لعينه ولا مذموم لعينه ولا كفر لعينه ولا ظلم لعينه وأما ما لا يقع عليه اسم طاعة ولا معصية ولا حكمها هو الله تعالى فلا يجوز أن يوقع عليه مدح ولا حمد ولا ذم إلا بنص من قبله فنحمده كما امرنا أن نقول الحمد لله رب العالمين وأما من دونه ممن لا طاعة تلزمه ولا معصية كالحيوان من غير الملائكة وكالحور العين والإنس والجن وكالجمادات فلا يستحق حمداً ولا ذماً لأن الله تعالى لم يأمر بذلك فيها فإن وجد له تعالى أمر بمدح شيء منها أو ذمه وجب الوقوف عند أمره تعالى كأمره تعالى بمدح الكعبة والمدينة والحجر الأسود وشهر رمضان والصلاة وغير ذلك وكأمره تعالى بذم الخمر والخنزير والميتة والكنيسة والكفر والكذب وما أشبه ذلك وأما ما عدا هذين القسمين فلا حمد ولا ذم واما اشتقاق اسم الفاعل من فعله فكذلك أيضاً ولا فرق وليس لأحد أن يسمي شيئاً إلا بما أباحه الله تعالى في الشريعة أو في اللغة التي أمرنا بالتخاطب بها وقد وجدناه تعالى أخبرنا بأن له كيداً ومكراً ويمكر ويكيد ويستهزئ وينسى من نسيه وهذا لا تدفعه المعتزلة ولو دفعته لكفرت لردها نص القرآن وهم مجمعون معنا على أنه لا يسمى باسم مشتق من ذلك فلا يقال ماكر من أجل أن له مكراً ولا أنه كياد من أجل أنه يكيد وأن له كيداً ولا يسمى مستهزئاً من أجل أنه يستهزئ بهم فقد أبطل ما أصلوه من أن كل فعل فعلاً فإنه يسمى منه وينسب إليه ولا يشغب هاهنا مشغب مع من لا يحسن المناظرة فيقول إنما قلنا أنه يكيد ويستهزئ ويمكر وينسى على المعارضة بذلك فإنا نقول له صدقت ولم نخالفك في هذا لكن ألزمناك أن تسميه تعالى كياداً وماكراً ومستهزئاً وناسياً على معنى المعارضة كما تقول فإن أبى من ذلك وقال أن الله تعالى لم يسم بشيء من ذلك نفسه فقد رجع إلى الحق ووافقنا في أن الله تعالى لا يسمى ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً من أجل خلقه الظلم والكفر والكذب لأنه تعالى لم يسم بذلك نفسه وإن أنكر ذلك تناقض وظهر بطلان مذهبه.
قال أبو محمد: وقد وافقونا على ان الله تعالى خلق الخمر وحبل النساء ولا يجوز ان يسمى خماراً ولا محبلاً وأنه تعالى خلق أصباغ القمارى والهداهد والحجل وسائر الألوان ولا يسمى صباغاً وأنه تعالى بنى السماء والأرض ولا يسمى بناء وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقياً وأنه تعالى خلق الخمر والخنازير وإبليس ومردة الشياطين وكذلك كل سوء وسيء وخبيث ورجس وشر ولا يسمى من أجل ذلك مسيئاً ولا شريراً فأي فرق بين هذا كله وبين أن يخلق الشر والظلم والكفر والكذب ومعاصي عباده ولا يسمى بذلك مسيئاً ولا ظالماً ولا كافراً ولا كاذباً ولا شريراً ولا فاحشاً والحمد لله على ما من به من الهدى والتوفيق وهو المستزاد من فضله لا إله إلا هو ويقال لهم أيضاً أنتم تقرون بأنه خلق القوة التي بها يكون الكفر والظلم والكذب وهيأها لعباده ولا يسمونه من أجل ذلك مغوياً على الكفر ولا معيناً للكافر في كفره ولا مسبباً للكفر ولا واهباً للكفر وهذا بعينه هو الذي عبتم وأنكرتم ويقال لهم أيضاً أخبرونا عن تعذيبه أهل جهنم في النيران أمحسن هو بذلك إليهم أم مسيء فإن قالوا بل محسن إليهم قالوا الباطل وخالفوا أصلهم وسألناهم أن يسألوا الله عز وجل بأنفسهم ذلك الإحسان نفسه وإن قالوا أنه مسيء إليهم كفروا به وإن قالوا ليس نسيء إليهم قلنا لهم فهم في إساءة أو في إحسان فإن قالوا ليسوا في إساءة كابروا العيان وإن قالوا بل هم في إساءة قلنا لهم هذا الذي أنكرتم أن يكون منه تعالى إليهم حال هي غاية الإساءة ولا يسمى بذلك مسيئاً وأما نحن فنقول لهم إنهم في غاية المساءة والإساءة والسخط إليهم وعليهم وليس السخط إحساناً إلى المسخوط عليه وكذلك اللعنة للملعون وإنه تعالى محسن على الإطلاق ولا نقول أنه مسيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق و الأصل في ذلك ما قلناه من انه لا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ولا يخبر عنه إلا بما أخبر به عن نفسه ولا مزيد فإن قالوا إذا جوزتم أن يفعل الله تعالى فعلاً ما هو ظلم بيننا ولا يكون بذلك ظالماً فجوزنا أن نخبره بالشيء على خلاف ما هو ولا يكون بذلك كاذباً وإن لا يعلم ما يكون ولا يكون بذلك جاهلاً وإن لا يقدر على شيء ولا يكون بذلك عاجزاً قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال من وجهين أحدهما أننا قد أوضحنا أنه ليس في العالم ظلم لعينه ولا بذاته البتة وإنما الظلم بالإضافة فيكون قتل زيد إذ نهي الله عنه ظلماً وقتله إذا أمر الله بقتله عدلاً وأما الكذب فهو كذب لعينه وبذاته فكل من اخبر بخبر بخلاف ما هو فهو كاذب إلا أنه لا يكون ذلك إثماً ولا مذموماً إلا حيث أوجب الله تعالى فيه الإثم والذم فقط وكذلك القول في الجهل والعجز أنهما جعل لعينه وعجز لعينه فكل من لم يعلم شيئاً فهو جاهل به ولا بد وكل من لم يقدر على شيء فهو عاجز عنه ولا بد والوجه الثاني ان بالضرورة التي بها علمنا من نواة التمر لا يخرج منها زيتونة وإن الفرس لا ينتج جملاً بها عرفنا ان الله تعالى لا يكذب ولا يعجز ولا يجهل لأن كل هذه من صفات المخلوقين عنه تعالى منفية إلا ما جاء نص بأن يطلق الاسم خاصة من أسمائها عليه تعالى فيقف عنده وأيضا فإن أكثر المعتزلة يحقق قدرة الباري تعالى على الظلم والكذب ولا يجيزون وقوعهما منه تعالى وليس وصفهم إياه عز وجل بالقدرة على ذلك بموجب إمكان وقوعه منه تعالى فلا ينكروا علينا أن نقول أن الله عز وجل فعل أفعالاً هي منه تعالى عدل وحكمة وهي منا ظلم وعبث وليس يلزمنا مع ذلك أن نقول انه يقول الكذب ويجهل فبطل هذا إلا لزام والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإننا لم نقل أنه تعالى يظلم ولا يكون ظالماً ولا قلنا أنه يكفر ولا يسمى كافراً ولا قلنا أنه يكذب ولا يسمى كاذباً فيلزمنا ما أرادوا وإلزامنا إياه وإنما قلنا أنه خلق الظلم والكذب والكفر والشر والحركة والطول والعرض والسكون إعراضاً في خلقه فوجب أن يسمى خالقاً لكل ذلك كما خلق الجوع والعطش والشبع والري والسمن والهزال واللغات ولم يجز أن يسمى ظالماً ولا كاذباً ولا كافراً ولا شريراً كما لم يجز عندنا وعندهم أن يسمى من أجل خلقه لكل ما ذكرناه متحركاً ولا ساكناً ولا طويلاً ولا عريضاً ولا عطشان ولا ريان ولا جائعاً ولا شابعاً ولا سميناً ولا هزيلاً ولا لغوياً وهكذا كل ما خلق الله تبارك وتعالى فإنما يخبر عنه بأنه تعالى خالق له فقط ولا يوصف بشيء مما ذكرنا إلا من خلقه الله عرضاً فيه واما قولهم لا يفعل فعل من فاعلين هذا فعله كله وهذا فعله فإن هذا تحكم ونقصان من القسمة أوقعهم فيها جهلهم وتناقضهم وقولهم إنما يستدل بالشاهد على الغايب وهذا قول قد أفسدناه في كتابنا في الأحكام في أصول الأحكام بحمد الله تعالى ونبين هاهنا فساده بإيجاز فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه ليس عن العقل الذي هو التمييز شيء غائب أصلاً وإنما يغيب بعض الأشياء من الحواس وكل ما في العالم فهو مشاهده في العقل المذكور لأن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول فيه وكلاهما يقتضي خالقاً أولاً واحداً لا يشبهه شيء من خلقه في وجه من الوجوه فإن كانوا يعنون بالغائب الباري عز وجل فقد لزمه بالحاضر وفي هذا كفاية بل ما دل الشاهد كله إلا ان الله تعالى بخلاف كل من خلق من جميع الوجوه وحاشا لله أن يكون جل وعز غائباً عنا بل هو شاهد بالعقل كما نشاهد بالحواس كل حاضر ولا فرق بين صحة معرفتنا به عز وجل بالمشاهدة بضرورة العقل وبين صحة معرفتنا لسائر ما نشاهده ثم نرجع إن شاء الله تعالى إلى إنكارهم فعلاً واحداً من فاعلين فنقول وبالله تعالى التوفيق إنما امتنع ذلك فيما بيننا في الأكثر لا على العموم لما شاهدناه من أنه لا تكون حركة واحدة في الأغلب لمتحركين ولا اعتقاد واحد لمعتقدين ولا إرادة واحدة لمريدين ولا فكرة واحدة لمفتكرين ولكن لو أخذ اثنان سفاً واحداً أو رمحاً واحداً فضربا به إنساناً فقطعاه أو طعناه به لكانت حركة واحدة غير منقسمة لمتحركين بها وفعلاً واحداً غير منقسم لفاعلين هذا أمر يشاهد بالحس والضرورة وهذا منصوص في القرآن من أنكره كفر وهو أن القراءة المشهورة عند المسلمين " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " وليهب لك غلاما زكيا كلا القراءتين بنقل الكواف عن رسول الله ﷺ عن جبريل ﷺ فإذا قرئت بالهمز فهو إخبار جبريل رسول الله ﷺ الروح الأمين إنه هو الواهب لها عيسى عليه السلام وإذا قرئت بالياء فهو من إخبار جبريل عن الله عز وجل لأن الله تعالى هو الواهب لها عيسى عليه السلام فهذا فعل من فاعلين نسب إلى الله عز وجل الهبة لأنه تعالى هو الخالق لتلك الهبة ونسبت الهبة أيضاً إلى جبريل لأنه منه ظهرت إذ أتى بها وكذلك قوله عز وجل: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فأخبر الله تعالى أنه رمى وأن نبيه رمى فأثبت تعالى لنبيه ﷺ الرمي ونفاه عنه معاً وبالضرورة ندري أن كلام الله عز وجل لا يتناقض فعلمنا أن الرمي الذي نفاه الله عز وجل عن نبيه ﷺ هو غير الرمي الذي أثبته له لا يظن غير هذا مسلم البتة فصح ضرورة أن نسبة الرمي إلى الله عز وجل لأنه خلقه وهو تعالى خالق الحركة التي هي الرمي و ممضي الرمية وخالق مسير الرمي وهذا هو المنفي عن الرامي وهو النبي ﷺ وصح أن الرمي للذي أثبته الله عز وجل لنبيه ﷺ هو ظهور حركة الرمي منه فقط وهذا هو نص قولنا دون تكلف وكذلك قوله تعالى: " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " والقول في هذا كالقول في الرمي ولا فرق وكذلك قوله تعالى: " زينا لكل أمة عملهم " وقوله تعالى: " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " ضرورة أن تزيين الله لكل أمة عملها إنما هو خلقه لمحبة أعمالهم في نفوسهم وأن تزيين الشيطان لهم أعمالهم إنما هو بظهور الدعاء إليها وبوسوسته وقال تعالى حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه قال: " أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله " أفليس هذا فعلاً من فاعلين من الله تعالى ومن المسيح عليه السلام بنص الآية وهل خالق الطير ومبرئ الأكمه والأبرص إلا الله وقد أخبر عيسى إذ يخلق ويبرئ فهو فعل من فاعلين بلا شك وقال عز وجل مخبراً عن نفسه أنه يحيي ويميت وقال عيسى عليه السلام عن نفسه وأحيي الموتى بإذن الله فبالضرورة نعلم أن الميت الذي أحياه عليه السلام والطير الذي خلق بنص القرآن فإن الله تعالى أحياه وخلقه وعيسى عليه الصلاة والسلام أحياه وخلقه بنص القرآن فهذا كله فعل من فاعلين بلا شك وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول في قوله تعالى: " وأحلوا قومهم دار البوار جهنم " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو الذي أحلهم فيها بلا شك لكن لما ظهر منهم السبب الذي حلوا به دار البوار أضيف ذلك إليهم كما قال تعالى عن إبليس: " كما أخرج أبويكم من الجنة " وقد علمنا يقيناً أن الله تعالى هو أخرجهما وأخرج إبليس معهما لكن لما ظهر من إبليس السبب في خروجهما أضيف ذلك إليه وكما قال تعالى: " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " فنقول أن محمداً ﷺ أخرجنا من الظلمات إلى النور وقد علمنا أن المخرج له عليه السلام ولنا هو الله تعالى لكن لما ظهر السبب في ذلك منه عليه السلام أضيف الفعل إليه فهذا كله لا يوجب الشرك بينهم وبين الله تعالى كما تموه المعتزلة وكل هذا فعل من فاعلين وكذلك سائر الأفعال الظاهرة من الناس ولا فرق وقال تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " وقال تعالى: " وأملي لهم إن كيدي متين " وقال تعالى: " الشيطان سول لهم وأملى لهم " فعلمنا ضرورة أن إملاء الله تعالى إنما هو تركه إياهم دون تعجيل عقاب بل بسط لهم من الدنيا ومد لهم من العمر ما كان لهم عوناً على الكفر والمعاصي وعلمنا أن إملاء الشيطان إنما هو بالوسوسة وإنساء العقاب والحض لهم على المعاصي وقال تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " فهذا فعل من فاعلين ضرورة نسب إلى الله تعالى لأنه اخترعه وخلقه وأنماه ونسب إلينا لأننا تحركنا في زرعه فظهرت الحركة المخلوقة فينا فهذه كلها أفعال خلقها الله تعالى وأظهرها في عباده فقط وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وتحقيق هذا القول في الأفعال هو أن الله سبحانه وتعالى خلق كل ما خلق قسمين فقط جوهراً حاملاً وعرضاً محمولاً ناطقاً وغير ناطق فغير الحي هو الجماد كله والناطق هو الملائكة وحور العين والجن والإنس فقط وغير الناطق هو كل ما عدا ذلك من الحيوان ثم خلق تعالى في الجمادات وفي الحي غير الناطق وفي الحي الناطق حركة وسكوناً وتأثيراً قد ذكرناه آنفاً فالفلك يتحرك والمطر ينزل والوادي يسيل والجبل يسكن والنار تحرق والثلج يبرد وهكذا في كل شيء بهذا جاء القرآن وجميع اللغات قال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً وقال تعالى: " فإما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك تجري في البحر بأمره والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " ومثل هذا كثير جداً وبهذا جاءت اللغات في نسبة الأفعال الظاهرة في الجمادات إليها لظهورها فيها فقط لا يختلف لغة في ذلك وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: " أجنبني ونبي أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيراً من الناس " فأخبر أن الأصنام تضل وقال تعالى: " تذروه الرياح وهذا أكثر من أن يحصى والأعراض أيضاً تفعل كما ذكرنا قال عز وجل: " والعمل الصالح يرفعه وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " فالظن يردى والعمل يرفع ولم تختلف أمة في صحة القول أعجبني عمل فلان وسرني خلق فلان ومثل هذا كثير جداً وقد وجدنا الحر يحلل ويصعد والبرد يجمد ومثل هذا كثير جداً وقد بيناه والكل خلق الله عز وجل وأما حركة الحي غير الناطق والحي الناطق وسكونهما وتأثيرهما فظاهر أيضاً ثم خلق سبحانه وتعالى في الحي غير الناطق وفي الحي الناطق قصداً ومشيئة لم يخلق ذلك في الجماد كإرادة الحيوان الرعي وتركه والمشي وتركه والأكل وتركه وما أشبه هذا ثم خلق تعالى في الحي الناطق تمييزاً لم يخلقه في الحي غير الناطق ولا في الجماد وهو التصرف في العلوم والمعارف هذا كله أمر مشاهد وكل ذلك خلق الله تعالى فيما خلقه فيه ونسب الفعل في كل ذلك إلى من أظهره الله تعالى منه فقط فخلق تعالى كما ذكرنا في الحي الناطق الفعل والاختيار والتمييز وخلق في الحي غير الناطق الفعل والاختيار فقط وخلق في الجمال الفعل فقط وهو الحركة والسكون والتأثير كما ذكرنا وبالجملة فلا فرق بين من كابر وجاهر فأنكر فعل المطبوع بطبعه وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وبين آخر جاهر وكابر فأنكر فعل المختار باختياره وقال ليس هو فعله بل هو فعل الله تعالى فيه فقط وكلا الأمرين محسوس بالحس معلوم بأول العقل وضرورته أنه فعل لما ظهر منه ومعلوم كل ذلك بالبرهان الضروري أنه خلق الله تعالى في المطبوع وفي المختار فإن فروا إلى القول بأن الله تعالى لم يخلق فعل المختار وأنه فعل المختار فقد قلنا قد بينا بطلان هذا قبل ولكن نعارضكم هاهنا بأن منكم من يقول بأن الله تعالى أيضاً لم يخلق فعل المطبوع وأنه فعل المطبوع فقط كمعمر وغيره من كبار المعتزلة فإن قالوا أخطأ من قال هذا وكفر قلنا لهم وأخطأ أيضاً وكفر من قال أن أفعال المختار لم يخلقها الله تعالى ولا فرق فإن قالوا أن الله تعالى هو خالق الطبيعة والمطبوع الذين ينسبون الفعل إليهما فهو خالق ذلك الفعل قلنا لهم والله عز وجل هو خالق المختار وخالق اختياره وخالق قوته وهم الذين ينسبون الفعل إليهم فهو عز وجل خالق ذلك الفعل ولا فرق.
قال أبو محمد: وهذا الذي ذكرنا من إضافة التأثير وجميع الأفعال إلى كل من ظهرت منه من جماد أو عرض أوحي أو ناطق أو غير ناطق فهو الذي تشهد به الشريعة وبه جاء القرآن والسنن كلها وبه تشهد البينة لأنه أمر محسوس مشاهد وبه تشهد جميع اللغات من جميع أهل الأرض قاطبة لا نقول لغة العرب فقط بل كل لغة لا نحاشي شيئاً منها وما كان هكذا فلا شيء أصح منه فإن قالوا تسمون الجماد والعرض كاسباً قلنا لا لأنا لا نتعدى ما جاءت به اللغة من أحال اللغة التي بها نزل القرآن برأيه فقد دخل في جملة من قال الله تعالى فيه: " يحرفون الكلم عن مواضعه " ولحق بالسوفسطائية في أبطالهم التفاهم ولو جاءت اللغة بذلك لقلناه كما نقول أن الله عز وجل فاعل ذلك ولا نسميه كاسباً فإن قيل أتقولون أن الجمادات والعرض عامل قلنا نعم لأن اللغة جاءت بذلك وبه نقول الحديد يعمل والحر يعمل في الأجسام وهكذا في غير ذلك فإن قيل أتقولون للجماد والعرض استطاعة وقوة وطاقة وقدرة قلنا إنما نتبع اللغة فقط فنقول إن الجمادات والأعراض قوى يظهر بها ما خلق الله تعالى فيها من الأفعال وفيها طاقة لها ولا نقول فيها قدرة ولا نمنع من أن نقول فيها طاقة قال الله تعالى: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " فنقول الحديد ذو بأس شديد وذو قوة عظيمة وذو طاقة وقد قلنا لكم لا نتعدى في التسمية والعبارة جملة ما جاءت به اللغة ولا نتعدى في تسمية الله تعالى والخبر عنه ما جاء به القرآن ونص عليه رسول الله ﷺ وهذا هو الذي صح به البرهان وما عداه فباطل وضلال وبالله تعالى التوفيق وأما اعتراضهم بهل الخلق هو الكسب أو غيره فنعم كسبنا لما ظهر منا وبطن وكل صنعنا وجميع أعمالنا وأفعالنا لذلك هو خلق لله عز وجل فينا كما ذكرنا لأن كل ذلك شيء وقال تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " ولكننا لا نتعدى باسم الكسب حيث أوقعه الله تعالى مخبراً لنا بأننا نجزي بما كسبت أيدينا وبما كسبنا في غير موضع من كتابه ولا يحل أن يقال أنه كسب لله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله ولا يحل ان يقال أنها خلق لنا لأن الله تعالى لم يقله ولا أذن في قوله لكن نقول هي خلق لله كما نص على أنه خالق كل شيء ونقول هي كسب لنا كما قال تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ولا نسميه في الشريعة ولا فيما يخبر به عن الله عز وجل لأن الله خالق الألسنة الناطقة بالأسماء وخالق الأسماء وخالق المسميات حاشاه تعالى وخالق الهواء الذي ينقسم على حروف الهجاء فتتركب منها الأسماء فإذا كانت الأسماء مخلوقة لله والمسميات دونه تعالى مخلوقة لله عز وجل والمسمون الناطقون بآلاتهم مخلوقين لله عز وجل فليس لأحد إيقاع اسم على مسمى لم يوقعه الله تعالى عليه في الشريعة أو أباح إيقاعه عليه بإباحته الكلام باللغة التي أمرنا الله عز وجل بالتفاهم بها وبأن نتعلم بها ديننا ونعلمه بها وقد نص تعالى على هذا القول وقال منكراً على قوم أوقعوا اسماً على مسميات لم يأذن الله تعالى بها ولا بإيقاعها عليها: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " فأخبر عز وجل ان من أوقع اسماً على مسمى لم يأت به نص بإيجابه أو بالإذن فيه بالشريعة أو بجملة اللغة فإنما يتبع الظن والظن أكذب الحديث وإنما يتبع هواه وقد حرم الله تعالى اتباع الهوى وأخبر تعالى أن الهدى قد جاء من عنده وقال تعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فليس لأحد أن يتعدى القرآن والسنة اللذين هما هدى الله عز وجل وبه التوفيق فصح ضرورة أنه ليس لأحد ان يقول أن أفعالنا خلق لنا ولا أن ها كسب لله عز وجل ولكن الحق الذي لا يجوز خلافه هو أنها خلق لله تعالى كسب لنا كما جاء في هدى الله الذي هو القرآن وقد بينا أيضاً أن الخلق هو الإبداع والاختراع وليس هذا لنا أصلاً فأفعالنا ليست خلقاً لنا والكسب إنما هو استضافة الشيء إلى جاعله أو جامعه بمشيئة الله وليس يوصف الله تعالى بهذا في أفعالنا فلا يجوز أن يقال هي كسب له تعالى وبه نتأيد وأيضاً فقد وافقونا كلهم على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأجسام وكلهم حاشا معمراً وعمرو بن بحر الجاحظ موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق للأعراض كلها حاشا أفعال المختارين وكلهم ومعمر والجاحظ أيضاً موافقون لنا على تسمية الباري تعالى بأنه خالق الأمانة والأحياء وكلهم موافقون لنا على أنه تعالى إنما سمي خالقاً لكل ما خلق لإبداعه إياه وكم يكن قبل ذلك فإذا ثبت بالبرهان اختراعه تعالى لسائر الأعراض التي خالفونا فيها وجب أن يسمى خلقاً له عز وجل ويسمى هو تعالى خالقاً لها وأما اعتراضهم بأنه إذا كانت أفعالنا خلقاً لله تعالى وكان متوهماً منا ومستطاعاً عليه في ظاهر امرنا بسلامة جوارحنا ان لا تكون تلك الأفعال فقد ادعينا أننا مستطيعون في ظاهر الأمر بسلامة الجوارح وأنه متوهم منا منع الله من أن يخلقها وهذا كفر مجرد ممن أجازه.
قال أبو محمد: وهذا لازم للمعتزلة على الحقيقة لا لنا لأنهم القائلون أنهم يقدرون ويستطيعون على الحقيقة على ترك أفعالهم وعلى ترك الوطء الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يخلق منه الولد وعلى ترك الضرب الذي قد علم الله أنه لا بد ان يكون وأنه يكون منه الموت وانقضاء الأجل المسمى عنده وعلى ترك الحرث والزرع الذي قد علم الله تعالى أنه لا بد أن يكون وأن يكون منه النبات الذي تكون منه الأقوات والمعاش فيلزمهم ولا بد أهم قادرون على منع الله تعالى مما قد علم وقال أنه سيفعل.
قال أبو محمد: ومن بلغ هاهنا فلا بد أن يرجع إما تائباً محسناً إلى نفسه أو خاسئاً غاوياً مقلداً منقطعاً أو يتمادى على طرد قوله فيكفر ولا بد مع خلافه لضرورة الحس والمشاهدة وضرورة العقل والقرآن وبالله تعالى التوفيق وأما نحن فجوابنا ها هنا أننا لم نستطع قط على فعل ما لم يعلم الله أننا سنفعله ولا على ترك ما علم أننا نفعله ولا على فسخ علم الله تعالى أصلاً ولا على تكذيبه عز وجل في فعل ما أمر تعالى به وإن كنا في ظاهر الأمر نطلق ما أطلق الله تعالى من الاستطاعة التي لا يكون بها إلا ما علم الله تعالى أنه يكون ولا مزيد وهي استطاعة بإضافة لا استطاعة على الإطلاق لكن نقول هو مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم كون الفعل منه فقط فإن قالوا فأمركم الله تعالى بأن تكذبوا قوله وتبطلوا علمه إذ أمركم بفعل ما علم أنه لا تفعلونه قلنا عند تحقيق الأمر فإن أمره عز وجل لمن علم أنه لا يفعل ما أمر به أمر تعجيز كقوله: " قل كونوا حجارة أو حديداً " وكقوله: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ".
قال أبو محمد: وقد تحيرت المعتزلة هاهنا حتى قال بعضهم لو لم يقتل زيد لعاش وقال أبو الهذيل لو لم يقتل لمات وشغب القائلون بأنه لو لم يقتل لعاش بقول الله عز وجل " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " وبقول رسول الله ﷺ " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه ".
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه بل هو بظاهره حجة عليهم لأن النقص في اللغة التي بها نزل القرآن إنما هو من باب الإضافة وبالضرورة علمنا أن من عمر ماية عام وعمر آخر ثمانين سنة فإن الذي عمر ثمانين نقص من عدد عمر الآخر عشرين عاماً فهذا هو ظاهر الآية ومقتضاها على الحقيقة لا ما يظنه من لا عقل له من أن الله تعالى جار تحت أحكام عباده إن ضربوا زيداً أماته وإن لم يضربوه لم يمته من أن علمه غير محقق فربما أعاش زيداً ماية سنة وربما أعاشه أقل وهذا هو البداء بعينه ومعاذ الله تعالى من هذا القول بل الخلق كله مصرف تحت أمر الله عز وجل وعلمه فلا يقدر أحد على تعدي ما علم الله تعالى أن يكون ولا يكون البتة إلا ما سبق في علمه أن يكون والقتل نوع من أنواع الموت فمن سأل عن المقتول لو لم يقتل لكان يموت أو ليعيش فسؤاله سخيف لأن إنما يسأل لو لم يمت هذا الميت أكان يموت أو كان لا يموت وهذه حماقة جداً لأن القتل علة لموت المقتول كما أن الحمى القاتلة والبطن القاتل وسائر الأمراض القاتلة علل للموت الحادث عنها ولا فرق وأما قول رسول الله ﷺ " من سره أن ينسأ في أجله فليصل رحمه " فصحيح موافق للقرآن ولما توجبه المشاهدة وإنما معناه أن الله عز وجل لم يزل يعلم أن زيداً سيصل رحمه وأن ذلك سبب إلى أن يبلغ من العمر كذا وكذا وكذا كل حي في الدنيا لأن من علم الله تعالى أنه سيعمره كذا وكذا من الدهر فإنه تعالى قد علم وقدر أنه سيتغدى بالطعام والشراب ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لابد من استيفائها والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يبدل قال تعالى: " ما يبدل القول لدي " ولو كان على غير هذا لوجب البداء ضرورة ولكان غير عليم بما يكون متشككاً فيه لا يكون أم لا يكون وجاهلا به جملة وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق وهذا كفر ممن قال به وهم لا يقولون بهذا.
قال أبو محمد: ونص القرآن يشهد بصحة ما قلنا قال الله تعالى عز وجل: " لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " وقال تعالى: " قل لن ينفعكم الفرار أن فررتم من الموت أو القتل " وقال تعالى: " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقال تعالى منكر القول قوم جرت المعتزلة في ميدانهم: " الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت " وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ".
قال أبو محمد: وهذه نصوص لا يبعد من ردها بعد ان سمعها عن الكفر نعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وموه بعضهم بأن ذكر قول الله تعالى " ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ".
قال أبو محمد: وهذه الآية حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه قضى أجلاً ولم يقل لشيء دون شيء لكن على الجملة ثم قال تعالى " وأجل مسمى عنده " فهذا الأجل المسمى عنده هو الذي قضى بلا شك إذ لو كان غيره لكان أحدهما ليس أجلاً إذا أمكن التقصير عنه أو مجاوزته ولكان الباري تعالى مبطلاً إذ سماه أجلاً وهذا كفر لا يقوله مسلم وأجل الشيء هو ميعاده الذي لا يتعداه وإلا فليس يسمى أجلاً البتة ولم يقل تعالى أن الأجل المسمى عنده هو غير الأجل الذي قضى فأجل كل شيء منقضى أمره بالضرورة نعلم ذلك ويبين ذلك قوله تعالى: " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " وقال: " ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها " وقد أخبرنا تعالى بذلك أيضاً فقال: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا " فتظاهرت الآيات كلها بالحق الذي هو قولنا وبتكذيب من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق وأما الأرزاق فإن الله تعالى أخبرنا فقال: " الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال تعالى: " وخلقناكم أزواجاً " فكل مال حلال فإنما نقول أنه تعالى رزقنا إياه وكل امرأة حلال فإننا نقول أن الله تعالى زوجنا إياها أو ملكنا إياها وأما من أخذ مالاً بغير حق أو امرأة بغير حق فلا يجوز أن يقول أنه تعالى رزقنا إياه ولا أن الله تعالى ملكنا إياه ولا أن الله أعطانا إياه ولا أن الله تعالى زوجنا إياها ولا أن الله تعالى ملكنا إياها ولا أنكحنا إياها لأن الله تعالى لم يطلق لنا أن نقول ذلك وقد قلنا أن الله تعالى له التسمية لا لنا لكن نقول أن الله ابتلانا بهذا المال وبهذه المرأة وامتحنا بهما وأضلنا بهما وخلق تملكنا إياهما ونكاحها لنا واستعمالنا إياهما ولا نقول أنه أطعمنا الحرام ولا أباح لنا الحرام ولا وهب لنا الحرام ولا آتانا الحرام كما ذكرنا من التسمية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم أليس إذا كانت أفعالكم لكم ولله تعالى فقد وجب أنكم شركاؤه فيها فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا من أبرد ما موهوا به وهو عائد عليهم لأنهم يقولون أنهم يخترعون أفعالهم ويخلقونها وهي بعض الأعراض وأن الله تعالى يفعل سائر الأعراض ويخلقها ويخترعها فهذا هو عين الإشراك والتشبيه في حقيقة المعنى وهو الاختراع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وأما نحن فلا يلزمنا إيجاب الشركة لله تعالى فيما قلنا لأن الإشراك لا يجب بين المشتركين إلا باتفاقهما فيما اشتركا فيه وبرهان ذلك أن أموالنا ملك لنا وملك لله عز وجل بإجماع منا ومنهم وليس ذلك بموجب أن تكون شركاؤه فيها لاختلاف جهات الملك لأن الله تعالى إنما هو مالك لها لأنها مخلوقة له تعالى وهو مصرفنا فيها وناقلها عنا وناقلنا عنها كيف شاء الله تعالى وهي ملكنا لأنها كسب لنا وملزمون إحكامها ومباح لنا التصرف فيها بالوجوه التي أباحها الله تعالى لنا وأيضاً فنحن عالمون بأن محمداً رسول الله والله تعالى عالم بذلك وليس ذلك موجباً لأن نكون شركاؤه في ذلك العلم لاختلاف الأمر في ذلك لأن علمنا عرض محمول فينا وهو غيرنا وعلم الله تعالى ليس هو غيره ومثل هذا كثير جداً لا يحصى في دهر طويل بل لا يحصيه مفصلاً إلا الله وحده لا شريك له فكيف لم يجب الاشتراك البتة بين الله تعالى وبيننا عندهم في هذه الوجوه كلها ووجب أن يكون شركاؤه في شيء ليس للاشتراك البتة فيه مدخل وهو خلقه تعالى لا فعال لنا هو فاعل لها بمعنى مخترع لها ونحن فاعلون لها بمعنى ظهورها محمولة فينا وهذا خلاف فعل الله تعالى لها وقد قال بعض أصحابنا بأن الأفعال لله تعالى من جهة الخلق وهي لنا من جهة الكسب. قال أبو محمد: وقد تذاكرت هذا مع شيخ طرابلسي يكنى أبا الحسن معتزلي فقال لي وللأفعال جهات وزاد بعضهم فقال أو ليست أعراضاً والعرض لا يحمل العرض والصفة لا الصفة.
قال أبو محمد: وهذا جهل من قائله وقضية فاسدة من أهذار المتكلمين ومشاغلهم وقول يرده القرآن والمعقول والإجماع من جميع اللغات والمشاهدة فأما القرآن فإن الله تعالى يقول: " عذاب عظيم وعذاب أليم ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " وقال تعالى: " وأنبتها نباتاً حسناً " وقال تعالى: " إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وقال تعالى: " ومكروا مكراً كبارا " وقال تعالى: " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى: " وجاؤوا بسحر عظيم " وقال تعالى: " صفراء فاقع لونها " وقال تعالى: " قد بدت البغضاء من أفواههم " وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال تعالى: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " وقال تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله " وقال تعالى: " فلما أضاءت ما حوله " وقال تعالى: " تلفح وجوههم النار " وقال تعالى: " فأخذتكم الصاعقة " وقال تعالى: " مما تنبت الأرض " وقال تعالى: " لما يتفجر منه الأنهار " وقال تعالى: " فيخرج منه الماء " وقال تعالى: " فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وقال تعالى: " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ".
قال أبو محمد: فوصف الله تعالى العذاب بالعظم وبالإيلام وبأن فيه أكبر وأدنى ووصف النبات بالحسن وكيد الشيطان بالضعف وكيد النساء بالعظم والمكر بالكبر والسحر بالعظم واللون بالفقوع وذكر أن البغضاء تبدو وأن الكلام الطيب يصعد إليه تعالى وأن الأعمال الصالحة ترفع الكلام الطيب وأن الظن يردي وأن الردي يسخط الله تعالى ومثل هذا في القرآن وسنن رسول الله ﷺ أكثر من أن يجمع إلا في جزء ضخم فكيف يساعد امرأ مسلما لسانه على إنكار شيء من هذا بعد شهادة الله عز وجل بما ذكرنا وأما إجماع اللغات فكل لغة لا ينكر أحد فيها القول بصورة حسنة وصورة قبيحة وحمرة مشرقة وحمرة مضيئة وحمرة كدرة ولا يختلف أحد من أهل الأرض في أن يقول لي صف عمل فلان وهذا عمل موصوف وصفة عمل كذا وكذا وهذا هو الذي أنكروا بعينه وهو أكثر من أن يحصى وأما الحس والعقل والمعقول فبيقين يدري كل ذي فهم أن الكيفيات تقبل الأشد والأضعف هذه خاصة الكيفية التي توجد في غيرها وكل هذا عرض يحمل عرضاً وصفة تحمل صفة.
قال أبو محمد: وقد عارضني بعضهم في هذا فقال لو أن العرض يحمل العرض لحمل ذلك العرض عرضاً آخر وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود أعراض لا نهاية لها وهذا باطل.
قال أبو محمد: فقلت أن المشاهدات لا تدفع بهذه الدعوة الفاسدة وهذا الذي ذكرت لا يلزم لأننا لم نقل أن كل عرض فواجب أن يحمل أبداً لكنا نقول أن من الأعراض ما يحمل الأعراض كالذي ذكرنا ومنها ما لا يحمل الأعراض وكل ذلك جار على ما رتبه الله عز وجل وعلى ما خلقه وكل ذلك له نهاية تقف عندها ولا يزيد ونحن إذا وجد فيما بيننا جسم يزيد على جسم آخر زيادة ما في طوله أو عرضه فليس يجب من ذلك أن الزيادة موجودة إلى ما لا نهاية له لكن تنتهي الزيادة إلى حيث رتبها الله عز وجل وتقف وإنما العلم كله معرفة الأشياء على ما هي عليه فقط ونقول لهم أتخالف حمرة التفاحة حمرة الخوخة أم لا فلا بد لهم من أن يقروا بأنها قد تخالفها في صفة ما إلا ان ينكروا العيان فنقول لهم أتخالف الحمرة الصفرة أم لا فلا بد أيضاً من نعم فنقول لهم أخلاف الحمرة للحمرة هو خلاف الحمرة للصفرة أم لا فلا بد من لا ولو قالوا نعم للزمهم أن الصفرة هي الحمرة إذا كانت الصفرة لا تخالفها الحمرة إلا بما تخالف فيه الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فإذاً في الحمرة والصفرة صفتان بهما يختلفان غير الصفة التي بها تخالف الحمرة الحمرة الأخرى والخضرة فقد صح يقيناً أن الصفة قد تحمل الصفة وأن العرض قد يحمل العرض لضرورة المشاهدة على حسب ما رتبه الله تعالى وكل ذلك ذو نهاية ولا بد وتحقيق الكلام في هذه المعاني وتناهيها هو أن العالم كله جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد والجوهر أجناس وأنواع والعرض أجناس وأنواع والأجناس محصورة ببراهين قد ذكرناها في كتاب التقريب عمدتها أن الأجناس أقل عدداً من الأنواع المنقسمة تحتها بلا شك والأنواع أكثر عدداً من الأجناس إذ لا بد من ان يكون تحت كل جنس نوعان أو أكثر من نوعين والكثرة والقلة لا يقعان ضرورة إلا في ذي نهاية من مبدأه ومنتهاه لأن ما لا نهاية له فلا يمكن أن يكون شيء أكثر منه ولا أقل منه ولا مساوياً له لأن هذا يوجب النهاية ولا بد فالعالم إذاً ذو نهاية لأنه ليس شيئاً غير الأجناس والأنواع التي للجواهر والأعراض فقط والمعاني إنما هي للأشياء المعبر عنها بالألفاظ فقط فإذ هذا كما ذكرنا فإنما نقيس الأشياء بصفاتها التي تقوم منها حدودها مثل أن نقول ما الإنسان فنقول جسم ملون ونفس فيه تمكن أن تكون متصرفة في العلوم والصناعات يقبل الحياة والموت فيقال ما الجسم وما النفس وما اللون وما الصناعات وما العلوم وما الحياة وما الموت فإذا فسرت جميع هذه الألفاظ ورسمت كل ما يقع عليه وفعلت كذلك في جميع الأجناس والأنواع فقد انتهت المعاني وانقطعت ولا سبيل إلى التمادي بلا نهاية أصلاً لأن كل ما ينطق به أو يعقل فإنه لا يعدو الأجناس والأنواع البتة والأنواع والأجناس محصورة كما بينا وكل ما خرج من الأشخاص إلى حد الفعل فقد حصره العدد لأنه ذو مبدأ وكل ما حصره العدد فمتناه ضرورة فجميع المعاني من الأعراض وغيرها محصورة بما ذكرنا من البرهان الصحيح الذي ذكرنا أن كل ما في العلم مما خرج إلى الوجود في الدهر مذ كان العالم من جنس أو عرض فهو كله محصور عدده متناه أمده ذو غاية في ذاته في مبدأه ومنتهاه وعدده وبالله التوفيق وقد نعجز نحن عن عد شعور أجسامنا ونوقن أنها ذات عدد متناه بلا شك فليس قصور قولنا عن إحصاء عدد ما في العالم بمعترض على وجوب وجود النهاية في جميع أشخاص جواهره وأعراضه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما قولهم إذا كان فعلنا خلقاً لله عز وجل ثم عذبنا عليه فإنما عذبنا على خلقه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن هذا لا يلزم ولو لزمنا للزمهم إذا كان تعالى يعذبنا على إرادتنا وحركتنا الواقعتين منا أن يعذبنا على حركة لنا أو على كل إرادة لنا بل على كل حركة في العالم وعلى كل إرادة فإن قالوا لا يعذبنا إلا على حركتنا وإرادتنا الواقعين منا بخلاف أمره عز وجل وكذلك نقول نحن أنه لا يعذبنا إلا على خلقه فينا الذي هو ظاهر منا بخلاف أمره وهو منسوب إلينا ومكتسب لنا لإيثارنا إياه المخلوق فينا فقط لا على كل ما خلق فينا أو في غيرنا ولا فرق ولو أخبرنا تعالى أنه يعذبنا على ما خلق في غيرنا لقلنا به ولصدقناه كما نقر أنه يعذب أقواماً على ما لم يفعلوه قط ولا أمروا به لكن على ما يفعله غيرهم ممن جاء بعدهم بألف عام لأن أولئك كانوا أول من فعل مثل ذلك الفعل قال الله تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم " وقال تعالى حاكياً عن أحد ابني آدم عليه السلام أنه قال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار " وقال تعالى: " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " وليس هذا معارضاً لقوله تعالى: " وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء " بل كلا الآيتين متفقة مع الأخرى لأن الخطايا التي نفى الله عز وجل أن يحملها أحد عن أحد بمعنى أن يحط حمل هذا لها من عذاب العامل بها شيئاً فهذا لا يكون لأن الله عز وجل نفاه وأما الحمل لمثل عقاب العامل للخطيئة مضاعفاً زائداً إلى عقابه غير حاط من عقاب الآخر شيئاً فهو واجب موجود وكذلك أخبرنا رسول الله ﷺ أن من سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها أبداً لا يحط ذلك من أوزارهم العاملين لها شيئاً ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذبنا على فعل غيرنا دون أن نسنه وإنه يعذبنا على غير فعل فعلناه أو على الطاعة لكان كل ذلك حقاً وعدلاً ولوجب التسليم له ولكن الله تعالى وله الحمد قد آمننا من ذلك بقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا أهتديتم " ولحكمه تعالى أننا لا نجزي إلا بما عملنا أو كنا مبتدئين له فآمنا ذلك ولله تعالى الحمد وقد أيقنا أيضاً أنه تعالى يأجرنا على ما خلق فينا من المرض والمصائب وعلى فعل غيرنا الذي لا أثر لنا فيه كضرب غيرنا لنا ظلماً وتعذيبهم لنا وعلى قتل القاتل لمن قتل ظلماً وليس هاهنا من المقتول صبر ولا عمل أصلاً فإنما أجر على فعل غير مجرداً إذا أحدثه فيه وكذلك من أخذ غيره ماله والمأخوذ ماله لا يعلم بذلك إلى أن مات فأي فرق بين أن يأجرنا على فعل غيرنا وعلى فعله تعالى في إحراق مال من لم يعلم باحتراق ماله وبين أن يعذبنا على ذلك لو شاء عز وجل وأما قولهم فرض الله عز وجل الرضى بما قضى وبما خلق فإن كان الكفر والزنا والظلم مما خلق ففرض علينا الرضى بذلك فجوابنا إن الله عز وجل لم يلزمنا قط الرضا بما خلق وقضى بكل ما ذكر بل فرض الرضى بما قضى علينا من مصيبة في نفس أو في مال مظهر تمويههم بهذه الشبهة.
قال أبو محمد: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " فالجواب أن يقال لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذه الآية أعظم حجة على أصحاب الأصلح وهم جمهور المعتزلة في ثلاثة أوجه وهي حجة على جميع المعتزلة في وجهين لأن في هذه الآية إن ما أصاب الإنسان من حسنة فمن الله وما أصابه من سيئة فمن نفسه وهم كلهم لا يفرقون بين الأمرين بل الحسن والقبيح من أفعال المرء كل ذلك عنده من نفس المرء لا خلق لله تعالى في شيء من فعله لا حسنة ولا قبيحة فهذه الآية مبطلة لقول جميعهم في هذا الباب والوجه الثاني إنهم كلهم قائلون إنه لا يفعل المرء حسنة ولا قبيحة البتة إلا بقوة موهوبة من الله تعالى مكنة بها من فعل الخير والشر والطاعة والمعصية تمكيناً مستوياً وهي الاستطاعة على اختلافهم فيها فهم متفقون على أن الباري تعالى خالقها وواهبها كانت نفي المستطيع أو بعضها أوعرضا فيه وفي هذه الآية فرق بين الحسن والسيء كما ترى وأما الوجه الثالث الذي خالف فيه القائلون بالأصلح خاصة هذه الآية فإنهم يقولون أن الله تعالى لم يؤيد فاعل الحسنة بشيء من عنده تعالى لم يؤيد به فاعل السيئة والآية مخبرة بخلاف ذلك فصارت الآية حجة عليهم ظاهرة مبطلة لقولهم وأما قولنا نحن فيها فهو ما قاله الله عز وجل إذ يقول متصلاً بهذه الآية دون فصل: " قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ثم قال تعالى بأثر ذلك بعد كلام يسير: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح بما ذكرنا أن كل هذا الكلام متفق لا مختلف فقدم الله تعالى أن كل شيء من عنده فصح بالنص أنه تعالى خالق الخير والشر وخالق كل ما أصاب الإنسان ثم أخبر تعالى ما أصابنا من حسنة فمن عنده وهذا هو الحق لأنه لا يجب لنا تعالى عليه شيء فالحسنات الواقعة منا فضل مجرد منه لاشيء لنا فيه وإحسان منه إلينا لن نستحقه قط عليه وأخبر عز وجل أن ما أصابنا من مصيبة فمن أنفسنا بعد أن قال إن الكل من عند الله تعالى فصح أننا مستحقون بالنكال لظهور السيئة منا وإننا عاصون بذلك كما حكم علينا تعالى فحكمه الحق والعدل ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا فإذا كان الله خالقكم وخالق أفعالكم فأنتم والجمادات سواء قلنا كلا لأن الله تعالى خلق فينا علماً تعرف به أنفسنا الأشياء على ما هي عليه وخلق فينا مشيئة لكل ما خلق فينا مما يسمى فعلاً لنا فخلق فيه استحسان ما يستحسنه واستقباح ما يستقبحه وخلق تصرفاً في الصناعات والعلوم ولم يخلق في الجمادات شيئاً من ذلك فنحن مختارون قاصدون مريدون مستحسنون أو كارهون متصرفون علماً بخلاف الجمادات فإن قيل فأنتم مالكون لأموركم مفوض إليكم أعمالكم مخترعون لأفعالكم قلنا لا لأن الملك والاختراع ليس هو لأحد غير الله تعالى إذ الكل مما في العالم مخترع له وملك له عز وجل والتفويض فيه معنى من الاستغناء ولا غني بأحد عن الله عز وجل وبه نتأيد.
قال أبو محمد: فإذ قد أبطلنا بحول الله تعالى وقوته كل ما شغب به المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى فلنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول بأنها مخلوقة لله تعالى فنقول وبه عز وجل نتأيد أن العالم كله مادون الله تعالى ينقسم قسمين جوهر وعرض لا ثالث لهما ثم ينقسم الجوهر إلى أجناس وأنواع ولكل نوع منها فصل يتميز به مما سواه من الأنواع التي يجمعها وإياه جنس واحد وبالضرورة نعلم أن ما لزم كل ما تحته إذ محال أن تكون نار غير حارة أو هواء راسب بطبعهأو إنسان جهال بطبعه وما أشبه هذا ثم بالضرورة نعلم أن الإنسان لا يفعل شيئاً إلا الحركة والسكون والفكر والإرادة وهذه كلها كيفيات يجمعها مع اللون والطعم والمجسة والأشكال جنس الكيفية فمن المحال الممتنع أن يكون بعض ما تحت النوع الواحد والجنس الواحد مخلوقاً وبعضه غير مخلوق وهذا أمر يعلمه باطلاً من له أدنى علم بحدود العالم وانقسامه وحركتنا وسكوننا يجمع كل ذلك مع كل حركة في العالم وكل سكون في العالم نوع من الحركة ونوع من السكون ثم ينقسم كل ذلك قسمين ولا مزيد حركة اضطرارية وحركة اختيارية وسكوناً اختيارياً وسكوناً اضطرارياً وكل ذلك حركة تحد بحد الحركة وسكون يحد بحد السكون ومن المحال أن يكون بعض الحركات مخلوقاً لله تعالى وبعضها غير مخلوق وكذلك السكون أيضاً فإن لجؤوا إلى قول معمر في أن هذه الأعراض كلها فعل ما ظهرت فيه بطباع ذلك الشيء سهل أمرهم بعون الله تعالى وذلك أنهم إن أقروا أن الله تعالى خالق المطبوعات ومرتب الطبيعة على ما هي عليه فهو تعالى خالق بل ظهر منها لأنه تعالى هو رتب كونه وظهوره على ما هو عليه رتبة لا يوجد بخلافها وهذا هو الخلق بعينه ولكنهم قوم لا يعلمون كالمتكسع في الظلمات وكما قال تعالى: " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " نعوذ بالله من الخذلان وأيضاً فإن نوع الحركات موجود قبل خلق الناس فمن المحال البين أن يخلق المرء ما قد كان نوعه موجوداً قبله وأيضاً فإن عمدتهم في الاحتجاج على القائلين بأن العالم لم يزل إنما هي مقارنة الأعراض للجواهر وظهور الحركات ملازمة للمتحرك بها فإذا كان ذلك دليلاً باهراً على حدوث الجواهر وأن الله تعالى خلقها فما المانع أن يكون ذلك دليلاً باهراً أيضاً على حدوث الأعراض وأن الله تعالى خلقها لولا ضعف عقول القدرية وقلة علمهم نعوذ بالله مما امتحنهم به ونسأله التوفيق لا إله إلا هو وأيضاً فإن الله تعالى قال: " إذاً لذهب كل إله بما خلق " فأثبت تعالى من خلق شيئاً فهو له إله فيلزمهم بالضرورة إنهم آلهة لأفعالهم التي خلقوها وهذا كفر مجرد إن طردوه وإلا لزمهم الانقطاع وترك قولهم الفاسد وأيضاً فإن من خلق شيئاً لم يعنه غيره عليه لكن انفرد بخلقه فبالضرورة يعلم أنه يصرف ما خلق كما يفعله إذا شاء ويتركه إذا شاء ويفعله حسناً إذا شاء وقبيحاً إذا شاء فإذ هم خلقوا حركاتهم وإرادتهم منفردين بخلقها فليظهروها إلى أبصارنا حتى نراها أو نلمسها أو ليزيدوا في قدرها وليخالفوها عن رتبتها فإن قالوا لا نقدر على ذلك فليعلموا انهم كاذبون في دعاويهم خلقها لأنفسهم فإن قالوا: إنما نفعلها كما قوانا الله على فعلها فليعلموا أن الله تعالى إذاً هو المقوي على فعل الخير والشر فإن به عز وجل كان الخير والشر وإذ لولا هو لم يكن خير ولا شر وبه كانا فهو كونهما وأعان عليهما وأظهرهما واخترعهما وهذا معنى خلقه تعالى لهما وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان أن الله تعالى خالق أفعال خلقه قوله تعالى حاكياً عن سحرة فرعون مصدقاً لهم مثنياً عليهم في قلوهم: " ربنا أفرغ علينا صبراً " فصح أنه خالق ما يفرغه من الصبر الذي لو لم يفرغه على الصابر لم يكن له صبر وأيضاً فإن جنس الحركات كلها والسكون كله والمعارف كلها جنس واحد وكل ما قيل عن الكل قيل على جميع أجزائه وعلى كل بعض من أبعاضه فنسألهم عن حركات الحيوان غير الناطق وسكونه ومعرفته بما يعرف من مضاره ومنافعه في أكله وشربه وغير ذلك أكل ذلك مخلوق لله تعالى أم هو غير مخلوق فإن قالوا كل ذلك مخلوق كانوا قد نقضوا هذه المقدمات التي يشهد العقل والحس بتصديقها وظهر فساد قولهم في التفريق بين معرفتنا ومعرفة سائر الحيوان وبين حركاتنا وبين حركات سائر الحيوان وبين سكوننا وسكونهم وهذه مكابرة ظاهرة ودعوة بلا برهان وإن قالوا بل كل ذلك غير مخلوق ألزمناهم مثل ذلك في سائر الأعضاء كلها فإن تناقضوا كفونا أنفسهم وإن تمادوا لزمهم أنه تعالى لم يخلق شيئاً من الأعراض وهذا إلحاد ظاهر وإبطال للخلق وكفى بهذا إضلالاً ونعوذ بالله من الخذلان ويكفي من هذا أن الأعراض تجري على صفات الفاعل ونحن نجد الحكيم لا يقدر على الطيش والبذاء وإن الطياش البذيء لا يقدر على الحياء والصبر والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحليم لا يقدر على النزق والسخي لا يقدر على المنع والشحيح لا يقدر على الجود وقال تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " فصح أن من الناس موقى شح نفسه مفلحاً وغير موقي ولا مفلح وكذلك الزكي لا يقدر على البلادة والبليد لا يقدر على الزكا والحافظ لا يقدر على النسيان والناسي لا يقدر على ثبات الحفظ والشجاع لا يقدر على الجبن والجبان لا يقدر على الشجاعة هكذا في جميع الأخلاق التي عنها تكون الأفعال فصح ان ذلك خلق لله تعالى لا يقدر المرء على إحالة شيء من ذلك أصلاً حتى أن مخرج صوت أحدنا وصفة كلامه لا يقدر البتة على صرفه كما خلق عليه من الجهارة والخفاء أو الطيب والسماحة وكذلك خطه لا يمكنه صرفه عما رتبه الله تعالى عليه ولو جهد وهكذا جميع حركات المرء حتى وقع قدميه ومشيه فلو كان هو خالق كل ذلك لصرفه كما يشاء فإذا ليس فيه قوة على صرف شيء من ذلك عن هيئته فقد ثبت ضرورة أنه خلق الله تعالى فيمن نسب في اللغة على أنه فاعله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأكثرت المعتزلة في التولد وتحيرت فيه حيرة شديدة فقالت طائفة ما يتولد عن فعل المرء مثل القتل و الألم المتولد عن رمي السهم وما أشبه ذلك فإنه فعل الله عز وجل وقال بعضهم بل هو فعل الطبيعة وقال بعضهم بل هو فعل الذي فعل الفعل الذي عنه تولد وقال بعضهم فعل لا فاعل له وقال جميع أهل الحق أنه فعل الله عز وجل وخلقه فالبرهان في ذلك هو البرهان الذي ذكرنا في خلق الأفعال من أن الله تعالى خالق كل شيء وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في التعديل والتجوير
قال أبو محمد رحمه الله: هذا الباب هو أصل ضلالة المعتزلة نعوذ بالله من ذلك على أننا رأينا منهم من لا يرضى عن قولهم فيه.
قال أبو محمد: وذلك أن جمهورهم قالوا وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائراً ومن فعل الظلم كان ظالماً ومن أعان فاعلاً على فعله ثم عاقبه عليه كان جائراً عابثاً قالوا والعدل من صفات الله تعالى والظلم والجور منفيان عنه قال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وقال تعالى: " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وقال تعالى فما كان الله ليظلمهم " وقال تعالى " لا ظلم اليوم ".
قال أبو محمد: وقد علم المسلمون أن الله تعالى عدل لا يجور ولا يظلم ومن وصفه عز وجل بالظلم والجور فهو كافر ولكن ليس هذا على ما ظنه الجهال من أن عقولهم حاكمة على الله تعالى في أن لا يحسن منه إلا ما حسنت عقولهم وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم وهذا هو تشبيه مجرد لله تعالى بخلقه إذ حكموا عليه بأنه تعالى يحسن منه ما حسن منا ويقبح منه ما قبح منا ويحكم عليه في العقل بما يحكم علينا.
قال أبو محمد: وهذا مذهب يلزم كل من قال لما كان الحي في الشاهد لا يكون إلا بحياة وجب أن يكون الباري تعالى حياً بحياة وليس بين القولين فرق وكلاهما لازم لمن التزم أحدهما وكلاهما ضلال وخطأ وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله عز وجل أي شيء كان فهو منه عز وجل حق وعدل وحكمة وإن كان بعض ذلك منا جوراً وسفهاً وكل ما لم يفعله الله عز وجل فهو الظلم والباطل والعبث والتفاوت وأما أجراؤهم الحكم على البارئ تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض فضلال بين وقول سبق له أصل عند الدهرية وعند المنانية وعند البراهمة وهو أن الدهرية قالت لما وجدنا الحليم فيما بينا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ووجدنا من فعله ما لا فائدة فيه فهو عابث هذا الشيء لا يعقل غيره قالوا ولما وجدنا في العالم ضراً وشراً وعبثاً وأقذاراً ودوداً وذباباً ومفسدين انتفى بذلك أن يكون له فاعل حكيم وقالت طائفة منهم مثل هذا سواء بسواء إلا أنهم زادوا فقالوا علمنا بذلك أن للعالم فاعلاً سفيهاً غير الباري تعالى وهو النفس وأن الباري الحكيم خلاها تفعل ذلك ليريها فساد ما تخيلته فإذا استبان ذلك لها أفسده الباري الحكيم تعالى حينئذ وأبطله ولم تعد النفس إلى فعل شيء بعدها.
قال أبو محمد: وأبطال هذا القول يثبت ما يبطل به قول المعتزلة سواء بسواء ولا فرق وقالت المنانية بمثل ما قالت الدهرية سواء بسواء إلا أنها قالت ومن خلق خلقاً ثم خلق من يضل ذلك فهو ظالم عابث ومن خلق خلقاً ثم سلط بعضهم على بعض وأغرى بين طائع خلقه فهو ظالم عابث قالوا فعلمنا أن خالق الشر وفاعله هو غير خالق الخير.
قال أبو محمد: وهذا نص قول المعتزلة إلا أنها زادت قبحاً بأن قالت أن الله تعالى لم يخلق من أفعال لا خيراً ولا شراً وأن خالق الأفعال الحسنة والقبيحة هو غير الله تعالى لكن كل أحد يخلق فعل نفسه ثم زادت تناقضاً فقالت أن خالق عنصر الشر هو إبليس ومردة الشياطين وفعله كل شر وخالق طباعهم على تضادها هو الله تعالى وقالت البراهمة أن من العبث وخلاف الحكمة ومن الجور البين أن يعرض الله تعالى لما يعلم انهم يعطبون عنده ويستحقون العذاب أن وقعوا فيه يريدون بذلك إبطال الرسالة والنبوات كلها.
قال أبو محمد: وبالضرورة تعلم أنه لا فرق بين خلق الشر وبين خلق القوة التي لا يكون الشر إلا بها ولا بين ذلك وبين خلق من علم الله عز وجل أنه لا يفعل إلا الشر وبين خلق إبليس وأنظاره إلى يوم القيامة وتسليطه على إغواء العباد وإضلالهم وتقويته على ذلك وتركهم يضلهم إلا من عصم الله منهم فإن قالوا أن خلق الله تعالى إبليس وقوى الشر وفاعل الشر خير وعدل وحسن صدقوا وتركوا أصلهم الفاسد ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضله وهداه من هدى كل ذلك حق وعدل وحسن وإن أحكامنا غير جارية عليه لكن أحكامه جارية علينا وهذا هو الحق الذي لا يخفى إلا على من أضله الله تعالى نعوذ بالله من إضلاله لنا ولا فرق بين شيء مما ذكرناه في العقل البتة وبرهان ضروري.
قال أبو محمد: يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منا ولا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل في ما بينا منا يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من عند أنفسكم ثم عكستموه فمعظم غلطكم وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحداً وحده ليس معه خلق أصلاً ولا شيء موجود لا جسم ولا عرض ولا جوهر ولا عقل ولا معقول ولا سفه ولا غير ذلك ثم أقررتم بلا خلاف منكم انه خلق النفوس وأحدثها بعد ان لم تكن وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد ان لم تكن العقول البتة أن لا تحدثوا على الباري تعالى حكماً لازماً له من قبل بعض خلقه فليس في الجنون أفحش من هذا البتة ثم أخبرونا إذا كان الله وحده لا شيء موجود معه ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة وصورة القبيح قبيحة وليس هنالك عقل أصلاً يكون فيه الحسن حسناً والقبيح قبيحاً ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن فبأي شيء قام تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان لا بد لهما من حامل ولا حمل أصلاً ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح حتى أحدث الله تعالى النفوس وركب فيها العقول المخلوقة وقبح فيها على قولكم ما قبح وحسن فيها على قولكم ما حسن فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلاً قبيح ولا حسن ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن فقد وجب يقيناً ألا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ووجب ألا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أول بل كان لقبحه أول لم يكن موجوداً قبله فكيف أن يكون قبيحاً قبله وكذلك القول في الحسن ولا فرق ومن المحال الممتنع جملة أن يكون ممكناً أن يفعل الباري تعالى حينئذ شيئاً ثم يمتنع منه فعله بعد ذلك لأن هذا يوجب إما تبدل طبيعة والله تعالى منزه عن ذلك وأما حدوث حكم عليه فيكون تعالى متعبداً وهذا هو الكفر السخيف نعوذ بالله منه فإن قالوا لم يزل القبيح قبيحاً في علم الله عز وجل ولم يزل الحسن حسناً في علمه تعالى قلنا لهم هبكم أن هذا كما قلتم فعليكم في هذا حكمان مبطلان لقولكم الفاسد أحدهما أنكم جعلتم الحكم في ذلك لما في المعقول لا لما سبق في علم الله عز وجل فلم تجعلوا المنع من فعل ما هو قبيح عندكم ألا لأن العقول قبحته فأخطأتم في هذا والثاني أنه تعالى أيضاً لم يزل يعلم أن الذي يموت مؤمناً فإنه لا يكفر ولم يزل تعالى يعلم أن الذي يموت كافراً لا يؤمن فلم جوزتم قدرته على إحالة ما علم من ذلك وتبديله ولم تجوزوا قدرته تعالى على إحالة ما علم حسناً إلى القبح وإحالة ما علم قبيحاً إلى الحسن ولا فرق بين الأمرين أصلاً فإذا ثبت ضرورة أنه لا قبح لعينه ولا حسن لعينه البتة وانه لا قبيح إلا ما حكم الله تعالى بأنه قبيح ولا حسن إلا ما حكم بأنه حسن ولا مزيد وأيضاً فإن دعواكم أن القبيح لم يزل قبيحاً في علم الله تعالى ما دليلكم على هذا بل لعله تعالى لم يزل عليماً بأن أمر كذا يكون حسناً برهة من الدهر ثم يقبحه فيصير قبيحاً إذا قبحه لا قبل ذلك كما فعل تعالى بجميع الملل المنسوخة وهذا أصح من قولكم لظهور براهين هذا القول وبالله التوفيق ولم يزل سبحانه وتعالى عليماً أن عقد الكفر والقول به قبيح من العبد إذاً فعلهما معتقداً لهما لأن الله قبحهما لا لأنهما حركة أو عرض في النفس وهذا هو الحق لظهور براهين هذا أيضاً لا لأن ذلك قبيح لعينه ويقال لهم أيضاً أخبرونا من حسن الحسن في العقول ومن قبح القبح في العقول فإن قالوا الله عز وجل قلنا لهم أفكان الله تعالى قادر على عكس تلك الرتبة إذ رتبها على أن يرتبها بخلاف ما رتبها عليه فيحسن فيها القبيح ويقبح فيها الحسن فإن قالوا نعم أوجبوا أنه لم يقبح شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بقبحه ولم يحسن شيء إلا بعد ان حكم الله تعالى بحسنه وأنه كان له تعالى أن يفعل بخلاف ما فعل وله ذلك الآن وأبداً وبطل أن يكون تعالى متعبداً لنفسه وموجباً عليه ما يكون ظالماً مذموماً إن خالفه وإن قالوا لا يوصف تعالى بالقدرة على ذلك عجزوا ربهم تعالى ولزمهم القول بمثل قول علي الأسواري من أنه تعالى لا يقدر على غير ما فعل فحكم هذا الردي الدين والعقل بأنه أقدر من ربه تعالى وأقوى لأنه عند نفسه الخسيسة يقدر على ما فعل وعلى ما لم يفعل وربه تعالى لا يقدر إلا على ما فعل ولو علم المجنون أنه جعل ربه من الجمادات المضطرة إلى ما يبدو منها ولا يمكن أن يظهر منها غير ما يظهر لسخنت عينه ولطال عويله على عظيم مصيبته نعوذ بالله من الخذلان ومن عظم ما حل بالقدرية المتنطعين بالجهل والعمى والحمد لله على توفيقه إيانا حمداً كثيراً كما هو أهله.
قال أبو محمد: ويقال لهم هبكم شنعتم في القبيح بأنه قبيح فلم نفيتم عن الله عز وجل خلق الخير كله وخلق الحسن كله فقلتم لم يخلق الله تعالى الإيمان ولا الإسلام ولا الصلاة ولا الزكاة ولا النية الحسنة ولا اعتقاد الخير ولا إيتاء الزكاة ولا الصدقة ولا البر لأن خلق هذا قبيح أم كيف الأمر فبأن تمويهكم بذكر خلق الشر وأنتم قد استوى عندكم الخير والشر في أن الله تعالى لم قال أبو محمد: وقرأت في مسائل لأبي هشام عبد السلام ابن أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي رئيس المعتزلة وابن رئيسهم كلاماً له يردد فيه كثيراً دون حياء ولا رقبة يجب على الله أن يفعل كذا كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بوجوبه عليه ولا بد لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة وإلا كان يكون فعلاً لا فاعل له وهذا أكفر مما أجازه فمن هذا الموجب على الله تعالى حكماً ما وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أوجبه الله عليه بعض خلقه أما العقل وأما العاقل فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه وأف لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ومرتبه على ما هو عليه ومصرفه على ما يشاء وإما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه فإن قال بهذا قيل له فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه فإذ هو كذلك فقد كان مباحاً له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه وإذا أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجباً عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه وإما أن يكون تعالى لم يزل موجباً ذلك على نفسه فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما أن الباري تعالى لم يزل فاعلاً ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ومن لم يزل موجباً فلم يزل فاعلاً وهذا قول أهل الدهر نفسه.
قال أبو محمد: ولا بمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه ان يفعل كذا فأعجبوا لهذا الكفر المحض وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى: " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " وقوله تعالى: " كتب على نفسه الرحمة " وقوله علي السلام حق العباد على الله أن لا يعذبهم يعني إذا قالوا لا إله إلا الله وحق على الله أن يسقيه من طينة الخبال يعني عن شارب الخمر وإن كل هذا إنما هو أن الله تعالى قضى بذلك وجعله حتماً واجباً وكونه حقاً فوجب ذلك منه تعالى لا عليه فأبدلت من منَ على وحروف الجر يبدل بعضها من بعض ثم نقول لهم من خلق إبليس ومردة الشياطين والخمر والخنازير والحجارة المعقودة والميسر والأصنام والأزلام وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب فمن قولهم وقول كل مسلم أن الله تعالى خالق هذا كله فلنسألهم أشيء حسن هو كل ذلك أم رجس وقبيح وشر فإن قالوا بل رجس وقبيح ونجس وشر وفسق صدقوا وأقروا أنه تعالى خلق الأنجاس والرجس والشر والفسق وما ليس حسناً فإن قالوا بل هي حسان في إضافة خلقها إلى الله تعالى وهي رجس ونجس وشر وفسق تسمية الله تعالى لها بذلك قلنا صدقتم وهكذا نقول أن الكفر والمعاصي هي في أنها أعراض وحركات خلق لله تعالى حسن من خلق الله تعالى كل ذلك وهي من العصاة بإضافتها إليهم قبائح ورجس وقال عز وجل: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " وقال تعالى: " أو لحم خنزير فإنه رجس " فليخبرونا بأي ذنب كان من هذه الأشياء وجب أن يسخطها الله تعالى وأن يرجسها ويجعل غيرها طيبات هل هاهنا إلا أنه تعالى فعل ما يشاء وأي فرق بين أن يسخط ما شاء فيلعنه مما لا يعقل ويرضى عما شاء من ذلك فيعلي قدره ويأمر بتعظيمه كناقة صالح والبيت الحرام وبين أن يفعل ذلك أيضاً فيمن يعقل فيقرب بعضاً كما شاء ويبعد بعضاً كما شاء وهذا ما لا سبيل إلى وجود الفرق فيه أبداً ثم نسألهم هل حابى الله تعالى من خلقه في أرض الإسلام بحيث لا يلفي إلا داعياً إلى الدين محسناً له على من خلقه في أرض الزنج والصين والروم بحيث لا يسمع إلا ذاماً لدين المسلمين مبطلاً له وصاداً عنه وهل رأوا فظ وسمعوا بمن خرج من هذه البلاد طالباً لصحة البرهان على الدين فمن أنكر هذا كابر العيان والحس ومن أذعن لها ترك قول المعتزلة الفاسد.
قال أبو محمد: والقول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز وجل كان جوهراً حاملاً أو عرضاً محمولاً لا خالق سواه وأنه يعذب من يشاء أن يعذبه ويرحم من يشاء أن يرحمه وأنه لا يلزم أحداً إلا ما ألزمه الله عز وجل ولا قبيح إلا ما قبح الله ولا حسن إلا ما حسن الله وأنه لا يلزم لأحد على الله تعالى حق ولا حجة ولله تعالى على كل من دونه وما دونه الحق الواجب والحجة البالغة لو عذب المطيعين والملائكة والأنبياء في النار مخلدين لكان ذلك له ولكان عدلاً وحقاً منه ولو نعم إبليس والكفار في الجنة مخلدين كان ذلك له وكان حقاً وعدلاً منه وإن كل ذلك إذ أباه الله تعالى وأخبر أنه لا يفعله صار باطلاً وجوراً وظلماً وأنه لا يهتدي أحد إلا من هداه الله عز وجل ولا يضل أحد إلا أضله الله عز وجل ولا يكون في العالم إلا ما أراده الله عز وجل كونه من خير أو شر وغير ذلك وما لم يرد عز وجل كونه فلا يكون البتة وبالله تعالى التوفيق ونحن نجد الحيوان لا يسمى عدوان بعضها على بعض قبيحاً ولا ظلماً ولا يلام على ذلك ولا يلام على من ربى شيئاً منها على العدوان عليها فلو كان هذا النوع قبيحاً لعينه وظلماً لعينه لقبح متى وجد فلما لم يكن كذلك صح أنه لا يقبح شيء لعينه البتة لكن إذا قبحه الله عز وجل فقط فإذا قد بطل قولهم بالبرهان الكلي الجامع لأصلهم الفاسد فلنقل بحول الله تعالى وقوته في إبطال أجزاء مسائلهم وبالله تعالى نستعين فأول ذلك أن نسألهم فنقول عرفونا ما هذا القبيح في العقل أعلى الإطلاق فقال قائلون من زعمائهم منهم الحارث بن علي الوراق البغدادي وعبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي وغيرهما أن كل شيء حسن بوجه ما قلت يمتنع وقوع مثله من الله تعالى لأنه حينئذ يكون حسناً إذ ليس قبيحاً البتة على كل حال وأما ما كان قبيحاً على كل حال فلا يحسن البتة فهذا منفي عن الله عز وجل أبداً قالوا ومن القبيح على كل حال أن تفعل بغيرك وما لا تريد أن يفعل بك وتكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه.
قال أبو محمد: وظن هؤلاء المبطلون إذ أتوا بهذه الحماقة أنهم أغربوا وقرطسوا وهم بالحقيقة وقد هذوا وهدروا وهذا عين الخطاء وإنما قبح بعض هذا النوع إذ قبحه الله عز وجل وحسن بعضه إذ حسنه الله عز وجل والعجب من مباهتتهم في دعواهم ان المحاباة ظلم ولا ندري في أي شريعة أم في أي عقل وجدوا أن المحاباة ظلم وأن الله تعالى قد أباحها إلا حيث شاء وذلك أن للرجل أن ينكح امرأتين وثلاثاً وأربعاً من الزوجات وذلك له مباح حسن وأن يطأ من إمائه أي عدد أحب وذلك له مباح حسن ولا يحل للمرأة أن تنكح غير واحد ولا يكون عبدها وهذا منه حسن وبالضرورة ندري أن في قلوبهن من الغيرة كما في قلوبنا وهذا محظور في شريعة غيرنا والنفار منه موجود في بعض الحيوان بالطبع والحر المسلم ملكه أن يستعبد أخاه المسلم ولعله عند الله تعالى خير من سيده في دينه وفي أخلاقه وقنوته ويبيعه ويهبه ويستخدمه ولا يجوز ان يستعبده هو أحد لا عبده ذلك ولا غيره وهذا منه حسن وقد أحب رسول الله ﷺ لنفسه المقدسة ما أكرمه الله تعالى به من أن لا ينكح أحد من بعده من نسائه أمهاتنا رضوان الله عليهن وأحب هو عليه السلام نكاح من نكح من النساء بعد أزواجهن وكل ذلك حسن جميل الصواب ولو أحب ذلك غيره كان مخطي الإرادة قبيحاً ظالماً ومثل هذا أن تتبع كثير جداً إذ هو فاش في العالم وفي أكثر الشريعة فبطل هذا القول الفاسد منهم وقد نص الله تعالى على إباحة ما ليس عدلاً عند المعتزلة بل على الإطلاق وعلى المحاباة حيث شاء وكل ذلك عدل منه قال عز وجل: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل " وقال تعالى: " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم " فأباح تعالى لنا أن لا نعدل بين ما ملكت أيماننا وأباح لنا محاباة من شئنا منهن فصح أن لا عدل إلا ما سماه الله عدلاً فقط وإن كل شيء فعله الله فهو العدل فقط لا عدل سوى ذلك وكذلك وجدنا الله تعالى قد أعطى الابن الذكر من الميراث حظين وإن كان غنياً مكتسباً وأعطى البنت حظاً واحداً وإن كانت صغيرة فقيرة فبطل قول المعتزلة وصح أن الله تعالى يحابي من يشاء ويمنع من يشاء وإن هذا هو العدل لا ما تظنه المعتزلة عدلاً بجهلها وضعف عقولها وأما تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه فإنما قبح ذلك فيما بيننا لأن الله تعالى حرم ذلك علينا فقط وقد علمت المعتزلة كثرة عدد من يخالفهم في أن هذا لا يقبح من الله تعالى الذي لا أمر فوقه ولا يلزمه حكم عقولنا وما دعواهم على مخالفيهم في هذه المسألة أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إلا كدعوى المجسم عليهم أنهم خالفوا قضية العقل ببديهته إذ أجازوا وجود الفعل ممن ليس جسماً وإذ أجازوا حياً بلا حياة وعالماً لا بعلم.
قال أبو محمد: وكلتا الدعويين على العقول كاذبة وقد بينا في ما سلف من كتابنا هذا غلط من ادعى في العقل ما ليس فيه وبينا أن العقل لا يحكم به على الله الذي خلق العقل ورتبه على ما هو به ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق وقال بعض المعتزلة أن من القبيح بكل حال والمحظور في العقل بكل وجه كفر نعمة المنعم وعقوق الأب.
قال أبو محمد: وهذا غاية الخطأ لأن العاقل المميز بالأمور إذا تدبرها علم يقيناً أنه لا منعم على أحد إلا الله وحده لا شريك له الذي أوجده من عدم ثم جعل له الحواس والتمييز وسخر له ما في الأرض و كثيراً مما في السماء وخوله المال وإن كل منعم دون الله عز وجل فإن كان منعماً بمال فإنما أعطى من مال الله عز وجل فالنعمة لله عز وجل دونه وإن كان ممرضاً أو معتقاً أو خائفاً من مكروه فإنما صرف في ذلك كلما وهبه الله عز وجل من الكلام والقوة والحواس والأعضاء وإنما تصرف بكل ذلك في ملك الله عز وجل وفيما هو تعالى أولى به منه فالنعمة لله عز وجل دونه فالله تعالى هو ولي كل نعمة فإذ لا شك في ذلك فلا منعم إلا من سماه الله تعالى منعماً ولا يجب شكر منعم إلا بعد أن يوجب لله تعالى شكره فحينئذ يجب وإلا فلا ويكون حينئذ من لم يشكره عاصياً فاسقاً أتى كبيرة لخلاف أمر الله تعالى بذلك فقط ولا فرق بين تولدنا من مني أبوينا وبين تولدنا من التراب الأرضي ولا خلاف في أنه لا يلزمنا بر التراب ولا له علينا حق ليس ذلك إلا لأن الله تعالى لم يجعل له علينا حقاً وقد يرضع الصغير شاة فلا يجب لها عليه حق لأن الله تعالى لم يجعله لها وجعله للأبوين وإن كانا كافرين مجنونين ولم يتوليا تربيتنا بل اشتغلا عنا بلذاتهما ليس هاهنا إلا أمر الله تعالى فقط وبرهان آخر أن امرأ لو زنى بامرأة عالماً بتحريم ذلك أو غير عالم إلا أنه ممل لا يلحق به الولد المخلوق من نطفته النزلة من ذلك الوطء فإن بره لا يلزم ذلك الولد أصلاً ويلزمه بر أمه لان الله تعالى أمره بذلك لها ولم يأمره بذلك في الذي تولد من نطفته فقط ولا فرق في العقل بين الرجل والمرأة في ذلك ولا فرق في المعقول وفي الولادة تولد الجنين من نطفة الواطئ لأمه بين أولاد الزنا وأولاد الرشدة لكن لما ألزم الله تعالى أولاد الرشدة المتولدين عن عقد نكاح أو ملك يمين فاسدين أو صحيحين بر آمائهم وشكرهم وجعل عقوقهم من الكبائر لزمنا ذلك ولما لم يلزم ذلك أولاد الزنية لم يلزمهم وقد علمنا نحن وهم يقيناً أن رجلين مسلمين لو خرجا في سفر فأغار أحدهما على قرية من قرى دار الحرب فقتل كل رجل بالغ فيها وأخذ جميع أموالهم وسبى ذراريهم ثم خمسن ذلك بحكم الإمام العدل ووقع في حظه أطفال قد تولى هو قتل آبائهم وسبى أمهاتهم ووقعن أيضاً بالقسمة الصحيحة في حصته فنكحهن وصرف أولادهن في كنس حشوشه وخدمة دوابه وحرثه وحصاده ولم يكلفهم من ذلك إلا ما يطيقون وكساهم وأنفق عليهم بالمعروف كما أمر الله تعالى فإن حقه واجب عليهم بلا خلاف ولو أعتقهم فإنه منعماً عليهم وشكره فرض عليهم وكذلك لو فعل ذلك بمن اشتراه هو مسلم بعد وأغار الثاني على قرية للمسلمين فأخذ صبياناً من صبيانهم فاسترقهم فقط ولم يقتل أحداً ولا سبى لهم حرمة فربى الصبيان أحسن تربية وكانوا في قرية شقاء وجهد وتعب وشظف عيش وسوء حال فرفه معايشهم وعلمهم العلم والإسلام وخولهم المال ثم أعتقهم فلا خلاف في أنه لا حق له عليهم وإن دمه وعداوته فرض عليهم وإنه لو وطئ امرأة منهن وهو محصن وكان أحدهم قد ولي حكماً للزمه شدخ رأسه بالحجارة حتى يموت أفلا يتبين لكل ذي عقل من أهل الإسلام إنه لا محسن ولا منعم إلا الله تعالى وحده لا شريك له إلا من سماه الله تعالى محسناً أو منعماً ولا شكر لازماً لأحد على أحد إلا من ألزمه الله تعالى شكره ولا حق لأحد على أحد إلا من جعل الله تعالى له حقاً فيجب كل ذلك إذ أوجبه الله تعالى وإلا فلا وقد أجمعوا معنا على أن من أفاض إحسان الدنيا على إنسان أفاضه بوجه حرمه الله تعالى فإنه لا يلزمه شكره و إن من أحسن إلى آخر غاية الإحسان فشكره بأن أعناه في دنياه بما لا يجوز في الدين فإنه مسيء إليه ظالم فصح يقيناً أنه لا يجب شيء ولا يحسن شيء ولا يقبح شيء إلا ما أوجبه الله تعالى في الدين أو حسنه الله تعالى في الدين أو قبحه الله في الدين فقط وبالله تعالى نتأيد وقال بعضهم الكذب قبيح على كل حال.
قال أبو محمد: وهذا كالأول وقد أجمعوا معنا على بطلان هذا القول وعلى تحسين الكذب في مواضع خمسة إذ حسنه الله تعالى وذلك نحو إنسان مسلم مستتر من أمام ظالم يظلمه ويطلبه فسأل ذلك الظالم هذا الذي استتر عنده المطلوب وسأل أيضاً كل من عنده خبره وعن ماله فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه أن صدقه ودله على موضعه وعلى ماله فإنه عاص لله عز وجل فاسق ظالم فاعل فعلاً قبيحاً وإنه لو كذبه وقال له لا أدري وكان مكانه ولا مكان ماله فإنه مأجور محسن فاعل فعلاً حسناً وكذلك كذب الرجل لامرأته فيما يستجر به مودتها وحسن صحبتها والكذب في حرب المشركين فيما يوجد به السبيل إلى إهلاكهم وتخليص المسلمين منهم فصح أنه قبح الكذب حيث قبحه الله عز وجل ولولا ذلك ما كان قبيحاً بالعقل أصلاً إذ ما وجب بضرورة العقل فمحال أن يستحيل في هذا العالم البتة عما رتبه الله عز وجل في وجود العقل إياه كذلك فصح كذبهم على العقول وقال بعضهم الظلم قبيح.
قال أبو محمد: وهذا كالأول ونسألهم ما معنى الظلم فلا يجدون إلا أن يقولوا أنه قتل الناس وأخذ أموالهم وآذاهم وقتل المرء نفسه أو التشويه بها أو إباحة حرمه للناس ينكحونهن وكل هذا فليس شيء منه قبيحاً لعينه وقد أباح الله عز وجل أخذ أموال قوم بخراسان من أجل ابن عمهم قتل بالأندلس رجلاً خطأ لم يرد قتله لكن رمى صيداً مباحاً له أو رمى كافراً في الحرب فصادف المسلم السهم وهو خارج من خلف جبل فمات ووجدناه تعالى قد أباح دم من زنى وهو محصن ولم يطئ امرأة قط إلا زوجة له عجوزاً شعرها سوداء وطئها مرة ثم ماتت ولا يجد من أن ينكح ولا من أن يتسرى وهو شاب محتاج إلى النساء وحرم دم شيخ زنى وله ماية جارية كالنجوم حسناً إلا أنه لم يكن له قط زوجة وأما قتل المرء نفسه فقد حسن الله تعالى تعريض المرء نفسه للقتل في سبيل الله عز وجل وصدمة الجموع التي يوقن أنه مقتول في فعله ذلك وقد أمر عز وجل من قبلنا بقتل نفسه قال تعالى: " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم " ولو أمرنا عز وجل بمثل ذلك لكان حسناً كما كان حسناً أمره عز وجل بذلك بني إسرائيل وأما التشويه بالنفس فإن الختان والإحرام والركوع والسجود لولا أمر الله تعالى بذلك وتحسينه إياه لكان لا معنى له ولكان على أصولهم تشويهاً ودليل ذلك أن امرأ من الناس لو قام ثم وضع رأسه في الأرض في غير صلاة بحضرة الناس لكان عابثاً بلا شك مقطوعاً عليه بالهوس وكذلك لو تجرد المرء من ثيابه أمام الجموع في غير حج ولا عمرة وكشف رأسه ورمى بالحصى وطاف ببيت مهرولاً مستديراً به لكان مجنوناً بلا شك لاسيما أن امتنع من قتل قملة ومن فلا رأسه ومن قص أظافره وشاربه لكن لما أمر الله عز وجل بما أمر به من ذلك كان فرضاً واجباً وحسناً وكان تركه قبيحاً وأنكره كفراً وأما أباح المرء حرمه للنكاح فهذا أعجب ما أتوا به أما علموا أن الله تعالى خلى بين عبده وإمائه يفجر بعضه ببعض وهو قادر على منعهم من ذلك فلم يفعل بل قوى آلاتهم وقوى شهواتهم على ذلك بإقرار المعتزلة فهذا من الله حسن ومن عباده قبيح لأن الله قبحه ولا مزيد ولو حسنه تعالى لحسن أما شاهدوا إنكاح الرجال بناتهم من رجال ثم يطلق الرجل منهم المرأة فمن آخر ثم آخر وهكذا ما أمكنهم وكذلك إن مات عنها فأي فرق في المعقول بين إباحة وطئها بلفظ زوجتك وأو أنكحتك وبين حظر وطئها بألا طلاق عليه بلفظة قم فطاها فهل هاهنا قبيح إلا ما قبحه الله عز وجل أو حسن إلا ما حسن الله عز وجل وقال بعضهم الكفر قبيح على كل حال.
قال أبو محمد: وهذا كالأول وما قبح الكفر إلا لأن الله قبحه ونهى عنه ولولا ذلك ما قبح وقد أباح الله عز وجل كلمة الكفر عند التقية وأباح بها الدم في غير التقية ولو أن أمرؤ اعتقد أن الخمر حرام قبل أن ينزل تحريمها لكان كافراً ولكان ذلك منه كفراً إن كان عالماً بإباحة الرسول صلى الله عليه ويلم ثم صار ذلك الكفر إيمان وصار الآن من اعتقد تحليلها كافراً وصار اعتقاد تحليلها كفراً فصح أن لا كفر إلا ما سماه الله تعالى كفراً ولا إيماناً إلا ما سماه إيماناً وأن الكفر لا يقبح إلا بعد أن قبحه الله عز وجل ولا يحسن الإيمان إلا بعد أن حسنه الله عز وجل فبطل كل ما قالوه في الجور والكفر والظلم وصح أنه لا ظالم إلا ما نهى الله عنه ولا جور إلا ما كان كذلك ولا عدل إلا ما أمر الله تعالى به أو إباحة أي شيء كان وبالله تعالى التوفيق فإذ هذا كما ذكرنا فقد صح أنه لا ظلم في شيء من فعل الباري تعالى ولو أنه تعالى عذب من لم يقدره على ما أمر به من طاعته لما كان ذلك ظلماً إذ لم يسميه تعالى ظلماً وكذلك ليس ظلماٍ خلقه تعالى للأفعال التي هي من عباده عز وجل وكفر وظلم وجور لأنه لا آمر عليه تعالى ولا ناهياً بل الأمر أمره والملك ملكه وقالوا تكليف ما لا يطاق ثم التعذيب عليه قبيح في العقول جملة لا يحسن بوجه من الوجوه فيما بيننا فلا يحسن من الباري تعالى أصلاً.
قال أبو محمد: نسي هؤلاء القوم مالا يجب أن ينسى ويقال لهم أليس قول القائل فيما بيننا اعبدوني اسجدوا لي قبحاً لا يحسن بوجه من الوجوه ولا حال من الأحوال فلا بد من نعم فيقال لهم أوليس هذا القول من الله تعالى حسناً وحقاً فلا بد من نعم فإن قالوا إنما قبح ذلك منا لأننا لا نستحقه قيل لهم وكذلك إنما قبح منا تكليف ما لا يطاق والتعذيب عليه لأننا لا نستحق هذه الصفة وأي شيء أتوا به من الفرق فهو راجع عليهم في تكليف ما لا يطاق ولا فرق وكذلك الممتن بإحسانه الجبار المتكبر ذو الكبرياء قبيح في ما بيننا على كل حال هو من الله تعالى حسن وحق وقد سمى نفسه الجبار المتكبر وأخبر أن له كبرياء وهو تعالى يمن بإحسانه فإن قالوا حسن ذلك منه لأن كل خلقه قيل لهم وكذلك حسن منه تكليف ما لا يستطيع ثم تعذيبه لأن كل خلقه وكذلك في ما بينا من عذب حيواناً بالنتف والضرب ثم أحسن علفه ورفهه فهو قبيح على كل وجه وفاعله عابث وهم يقولون أن الباري تعالى أباح ذلك الحيوان من أكلها وذبحها ثم يعوضها على ذلك وهذا منه عز وجل حسن ألا أن يلجؤا إلى أنه تعالى لا يقدر على تعويض الحيوان إلا بعد إيلامها وتعذيبها فهذا أقبح قول وأبينه كذباً وأوضحه نخبة وأتمه كفراً وأذمه للباري تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا إن إيلام الحيوان قد يحسن فيما بيننا مثل أن يسقي الإنسان من يحب ماء الأدوية الكريهة ويحجمه ويكويه ليوصله بذلك إلى منافع لولا هذا المكروه لم يكن ليصل إليها.
قال أبو محمد: وهذا تمويه لم ينفكوا به مما سألهم عنه أصحابنا في هذه المسألة ونحن لم نسألهم عمن لا يقدر على نفعه إلا بعد الأذى الذي هو أقل من النفع الذي يصل إليه بعد ذلك الأذى وإنما سألناهم عمن يقدر على نفعه دون أن يبتديه بالأذى ثم لا ينفعه إلا حتى يؤذيه.
قال أبو محمد: وكذلك تكليف من يدري المرء أنه لا يطيقه وأنه إذا لم يطقه عذبه قبيح فيما بيننا فقال قائل منهم إن هذا قد يحسن فيما بيننا وذلك أن يكون المرء يريد أن يقرر عند صديقه معصية عبده له فيأمره وهو يدري انه لا يطيعه فإن نهيه له حسن.
قال أبو محمد: وهذا كالأول ولا فرق ولم نسألهم عمن لم يقدر على تعريف صديقه معصية غلامه له إلا بتكليفه أمامه مالا يطيعه فيه ولا عمن لا يقدر على منع العاصي له بأكثر من النهي وإنما نسألهم عمن لا منفعة له في أن يعلم زيد معصية غلامه له وعمن يقدر على أن يعرف زيداً بذلك ويقرره عنده بغير أن يأمر من لا يطيعه وعمن يقدر على منعه من المعصية فلا يفعل ذلك إلا أن يعجزوا ربهم كما ذكرنا فهذا مع أنه كفر فهو أيضاً كذب ظاهر لأنه تعالى قد أخبر عن أهل النار أنهم لوردوا لعادوا لما نهوا عنه فتقرر هذا عندنا تقرراً لو رأينا ذلك عياناً ما زادنا علماً بصحته وكذلك ما شاهدنا قوماً آخرين أرادوا ضروباً من المعاصي فحال الله تعالى بينهم وبينها بضروب من ألحوايل وأطلق آخرين ولم يحل بينهم وبينها بل قوي الدواعي لها ورفع الموانع عنها جملة حتى ارتكبوها فلاح كذب المعتزلة وعظيم إقدامهم على الافتراء على الله تعالى وشدة مكابرتهم العيان ومخالفتهم للمعقول وقوة جهلهم وتناقضهم نعوذ بالله من الخذلان ثم بعد هذا كله فأي منفعة لنا في تعريفنا أن فرعون يعصي ولا يؤمن وما الذي ضر الأطفال إذا ماتوا قبل أن يعرفوا من أطاع ومن عصى ونسألهم عمن أعطى آخر سيوفاً وخناجر وعتلاً للنقب وكل ذلك يصلح للجهاد ولقطع الطريق والتلصص وهو يدري أنه لا يستعمل شيئاً من ذلك في الجهاد إلا في قطع الطريق والتلصص وعمن مكن آخر من خمر وامرأة عاهرة وبغاء وأخلى له منزلاً مع كل ذلك أليس عابثاً ظالماً بلا خلاف فلا بد من نعم ونحن وهم نعلم أن الله عز وجل وهب لجميع الناس القوة التي بها عصوا وهو يدري أنهم يعصونه بها وخلق الخمر وبثها بين أيديهم ولم يحل بينهم وبينها وليس ظالماً ولا عابثاً فإن عجزوه تعالى عن المنع من ذلك بلغوا الغاية من الكفر فإن من عجز نفسه منا عن منع الخمر من شاربها وهو يقدر على ذلك لفي غاية الضعف والمهانة أو مريداً لكون ذلك كما شاء لا معقب لحكمه وهذا قولنا لا قولهم.
قال أبو محمد: فانقطعوا عند هذه ولم يكن لهم جواب إلا أن بعضهم قال إنما قبح ذلك منا لجهلنا بالمصالح ولعجزنا عن التعويض ولأن ذلك محظور وهذا محظور علينا ولو أن امرءاً له منا عبيد وقد صح عنده بأخبار النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لا يؤمنون أبداً فإن كسوتهم وإطعامهم مباح له.
قال أبو محمد: وهذا عليهم لا لهم وإقراراً منهم بأنه إنما قبح ذلك منا لنه محرم علينا وكذلك كسوة العبيد الذين يوقن أنهم لا يؤمنون وإنما حسن ذلك لأننا مأمورون بالإحسان إلى العبيد وإن كانوا كفاراً ولو فعلنا بأهل دار الحرب لكنا عصاة لأننا نهينا عن ذلك ليس ها هنا شيء يقبح ولا يحسن إلا ما أمر الله تعالى فقط وأما قولهم أن ذلك قبح منا لجهلنا بالمصالح فليقنعوا بهذا فمن أجابهم بهذا بعينه في الفرق بين حسن تكليف الله تعالى ما لا يطاق وتعذيبه عليه منه وقبح ذلك منا وإنه إنما قبح منا لجهلنا بالمصالح.
قال أبو محمد: وأما نحن فكلا الجوابين عندنا فاسد ولا مصلحة فيما أدى إلى النار والخلود فيها بلا نهاية ولكنا نقول قبح منا ما نهانا الله عنه وحسن منا ما أمرنا به وكل ما فعله ربنا تعالى الذي لا آمر فوقه فهو عدل وحسن وبالله تعالى التوفيق.
وسألهم أصحابنا فقالوا إن المعهود بيننا أن الحكيم لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة ومن فعل لغير ذلك فهو سفيه والباري تعالى يفعل لغير اجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة وهو حكيم.
فقالت طائفة من المعتزلة أن الباري تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم وقالت طائفة منهم لم يكن الحكيم في ما بيننا حكيماً لأنه يفعل لاجتلاب المنافع ودفع المضار لأنه قد يفعل ذلك كل ملتذ وكل متشف وإن لم يكن حكيما وإنما سمي الحكيم حكيما لإحكامه عمله.
قال أبو محمد: وكل هذا ليس بشيء لأن من الحيوان ما يحكم عمله مثل الخطاف والعنكبوت والنحل ودود القز ولا يسمى شيء من ذلك حكيما ولكن إنما سمي الحكيم حكيما على الحقيقة لالتزامه الفضائل واجتنابه الرذائل فهذا هو العقل والحكمة المسمى فاعله حكيماً عاقلاً وهكذا هو في الشريعة لأن جميع الفضائل إنما هي طاعات الله عز وجل والرذائل إنما هي معاصيه فلا حكيم إلا من أطاع الله عز وجل واجتنب معاصيه وعمل ما أمره ربه عز وجل وليس من أجل هذا يسمى الباري حكيماً إنما سمي حكيماً لأنه سمى نفسه حكيماً فقط ولو لم يسمي نفسه حكيماً ما سميناه حكيماً كما لم نسمه عاقلاً إذ لم يسم بذلك ثم نقول لهم وأما قولكم إنما سمي الله حكيماً لفعله الحكمة فأنتم مقرون أنه أعطى الكفار قوة الكفر ولا يسمى مع ذلك مقوياً على الكفر وأما من قال منهم أنه تعالى يفعل لاجتلاب المنافع إلى عباده ودفع المضار عنهم فكلام فاسد إذا قيل على عمومه لأن كل مستضر يفعله في دنياه وأخراه لم يصرف الله تعالى عنه تلك المضرة وقد كان قادراً على صرفها عنه إلا أن يعجزوه عن ذلك فيكفروا وسألهم أصحابنا فقالوا إذا كان الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو عدل بيننا فلم خلق من يدري أنه يكفر به وأنه سيخلده بين أطباق النيران أبداً فأجابوا عن هذا بأجوبة فمن أظرفها أن كثيراً منهم قالوا لو لم يخلق من يكفر به ويخلده في نار جهنم لما استحق العذاب أحد ولا دخل النار أحد.
قال أبو محمد: وتكفي من الدلالة على ضعف عقل هذا الجاهل هذا الجواب ونقول له ذلك ما كنا نبغي وهل الخير كله على ما بيننا إلا أن لا يعذب أحد بالنار وهل الحكمة المعهودة بيننا والعدل الذي لا عدل عندنا سواه إلا نجاة الناس كلهم من الأذى واجتماعهم في النعيم الدائم ولكن المعتزلة قوم لا يعقلون وأجاب بعضهم في هذا بأن قال لو كان هذا لسلم الجميع من اللوم ولكان لا شيء أوضع ولا أخس من العقل لأن الذي لا عقل له سالم من العذاب واللوم والأمم كلها مجمعة على فضل العقل.
قال أبو محمد: لو عرف هذا الجاهل معنى العقل لم يجب بهذا السخف لأن العقل على الحقيقة إنما هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي وما عدا هذا فليس عقلاً بل هو سخف وحمق قال الله عز وجل حكاية عن الكفار أنهم قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ثم صدقهم الله عز وجل في هذا فقال: " فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير " فصدق الله من عصاه أنه لا يعقل ثم نقول لهم نعم لا منزلة أخس ولا أوضع ولا أسقط من منزلة وموهبة أدت إلى الخلود في النيران عقلاً كانت أو غير عقل على قولكم في العقل لو كان كون الإنسان حشرة أو دودة أو كلباً كان أحظى له وأسلم وأفضل عاجلاً وآجلاً وأحب إلى كل ذي عقل صحيح وتمييز غير مدخول وإذا كان عند هؤلاء القوم العقل الموهوب وبالاً على صاحبه وسبباً إلى تكليفه أموراً لم يأت بها فاستحق النار فلا شك عند كل ذي حس سليم في أن عدمه خير من وجوده فإن قالوا أن التكليف لم يوجب عليه دخول النار قلنا نعم ولكنه كان سبباً إلى ذلك ولولا التكليف لم يدخل النار أصلاً وقد شهد الله عز وجل بصحة هذا القول شهادة لا تخفى على مسلم وهي قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا: " فحمد الله تعالى إباءة الجمادات من قبول التمييز الذي به وقع التكليف وتحمل أمانة الشرائع وذم عز وجل اختيار الإنسان لتحملها وسمي ذلك منه ظلماً وجهلاً وجوراً وهذا معروف في بنية العقل والتمييز أن السلامة المضمونة لا يعدل بها التغرير المؤدي إلى الهلاك أو إلى الغنم وقال بعضهم خلق الله عز وجل من يكفر ومن يعلم أنه يخلده في النار ليعظ بذلك الملائكة وحور العين.
قال أبو محمد: وهذا خبط لا عهد لنا بمثله وهذا غاية السخف والعبث والظلم فأما العبث فإن في العقول منا أن من عذب واحداً ليعظ به الآخر فغاية العبث والسخف وأما الجور فأي جور أعظم فيما بيننا من أن يخلق قوماً قد علم أنه يعذبهم ليعظ بهم آخرين من خلقه مخلدين في النعيم فهلا عذب الملائكة وحور العين ليعظ بهم الجن والإنس وهل هذا على أصولهم إلا غاية المحاباة والظلم والعبث تعالى الله عن ذلك يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وسألهم أصحابنا عن إيلام الله عز وجل الصغار والحيوان وإباحته تعالى ذبحها فوجموا عند هذه وقال بعضهم لأن الله تعالى يعوضهم على ذلك.
قال أبو محمد: وهذا غاية العبث فيما بيننا ولا شيء أتم في العبث والظلم ممن يعذب صغيراً ليحسن بعد ذلك إليه فقالوا أن تعويضه بعد العذاب بالجدري و الأمراض أتم ألذ من تنعيمه دون تعذيب.
قال أبو محمد: وفي هذا عليهم جوابان أحدهما أن يقول لهم أكان الله تعالى قادراً على أن يوفي الأطفال والحيوان ذلك النعيم دون إيلام أو كان غير قادر على ذلك فإن قالوا كان غير قادر جمعوا مع الكفر الجنون لان ضرورة العقل يعلم بها انه إذا قدر على أن يعطيهم مقداراً ما من النعيم بعد الإيلام فلا شك في أنه قادر على ذلك المقدار نفسه دون إيلام يتقدمه ليس في العقل غير هذا أصلاً إذ ليس ها هنا منزلة زائدة في القدرة ولا فعلان مختلفان وإنما هو عطاء واحد لشيء واحد في كلا الوجهين وإن قالوا أنه قادر على ذلك فقد وجب العبث على أصولهم إذ كان قادراً على أن يعطيهم دون إيلام ما لم يعطهم إلا بعد غاية الإيلام والجواب الثاني أن نريهم صبياناً وحيواناً أماتهم في خير دون إيلام وهذه محاباة وظلم للمؤلم منهم فقالوا إن المؤلم لم يزداد في نعيمه لأجل إيلامه فقلنا لهم فهذه محاباة بزيادة النعيم للمؤلم فهلا ألم الجميع ليستوي بينهم في النعيم أو هلا تستوي بينهم في النعيم بأن لا يؤلم منهم أحداً وهذا ما لا انفكاك منه البتة وقال بعضهم فعل ذلك ليعظ بهم غيرهم.
قال أبو محمد: وهذا غاية الجور بيننا ولا عبث أعظم من أن يعذب إنساناً لا ذنب له ليوعظ بذلك آخرون مذنبون وغير مذنبين والله تعالى قد أنكر هذا بقوله تعالى: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " فقد انتفى الله عز وجل عن هذا الظلم حقاً ولقد كان على أصولهم الفاسدة تعذيبه الطغاة وإيلامه البغاة ليعظ بذلك غيرهم أدخل في العدل والحكمة من أن يؤلم طفلاً أو حيوان لا ذنب لهما ليعظ بذلك آخرين بل لعل هذا الوجه قد صار سبباً إلى كفر كثير من الناس وأجاب بعضهم في ذلك بأن قال إنما فعل ذلك عز وجل بالأطفال ليؤجر آباءهم.
قال أبو محمد: وهذا كالذي قبله في الجور بسواء ان يؤذى من لا ذنب له ليأجر بذلك مذنباً أو غير مذنب حاشا لله من هذا إلا ان في هذا مزية من التناقض لأن هذا التعليل ينقض عليهم في أولاد الكفار وأولاد الزنى ممن قد ماتت أمه وفي اليتامى من آبائهم وأمهاتهم ورب طفل قد قتل الكفار أو الفساق أباه وأمه وترك هو بدار مضيعة حتى مات هزلاً أو أكلته السباع فليت شعري من وعظ بهذا أو من أوجر به مع أن هذا مما لم يجدوه يحسن بيننا البتة بوجه من الوجوه يعني أن نؤذي إنساناً لا ذنب له لينتفع بذلك آخرون وهم يقولون أن الله تعالى فعل هذا فكان حسناً وحكمة ولجأ بعضهم إلى أن قال أن لله عز وجل في هذا سراً من الحكمة والعدل يوقن به وإن كنا لا نعلم لما هو ولا كيف هو.
قال أبو محمد: وإذ قد بلغوا ها هنا فقد قرب أمرهم بعون الله تعالى وهو أن يلزمهم تصديق من يقول لهم ولله تعالى في تكليف من لا يستطيع ثم تعذيبه عليه سر من الحكمة يوقن به ولا نعلمه.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا نقول بهذا بل نقول أنه لا سر ها هنا أصلاً بل كل ذلك كما هو عدل من الله عز وجل لا من غيره ولله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
قال أبو محمد: ولجأت طائفتان منهم إلى أمرين أحدهما قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه قال أن الأطفال لا يألمون البتة.
قال أبو محمد: ولا ندري لعله يقول مثل ذلك في الحيوان.
قال أبو محمد: وهذا انقطاع سمج ولجاج في الباطل قبيح ودفع للعيان والحس وكل واحد منا قد كان صغيراً ويوقن أننا كنا نألم الألم الشديد الذي لا طاقة لنا بالصبر عليه والثانية عليه أحمد بن حابظ البصري والفضل الحربي وكلاهما من تلاميذ النظام فإنهما قالا أن أرواح الأطفال وأرواح الحيوان كانت في أجساد قوم عصاة فعوقبت بأن ركبت في أجساد الأطفال والحيوان لتؤلم عقوبة لها.
قال أبو محمد: ومن هرب عن الإذعان للحق أو عن الإقرار بالانقطاع إلى الكفر والخروج عن الإسلام فقد بلغ إلى حالة ما كنا نريد ان يبلغها لكن إذا آثر الكفر فإلى لعنة الله وحر سعيره ونعوذ بالله من الخذلان وإنما كلامنا هذا مع من يتقي مخالفة الإسلام فأما أهل الكفرفقد تم ولله الحمد إبطالنا لقولهم وقد أبطلنا قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله فأغنى عن إعادته وإذا بلغ خصمنا إلى مكابرة الحس أو إلى مفارقة الإسلام فقد انقطع وظهر باطل قوله ولله تعالى الحمد.
قال أبو محمد: فإن لجؤوا إلى قول معمر والجاحظ وقالوا أن آلام الأطفال هي فعل الطبيعة لا فعل الله تعالى لم يتخلصوا بذلك من الانقطاع بل نقول لهم هل الله عز وجل قادر على معارضة هذه الطبيعة المقطعة لحم هذا الصبي بالجدري والآكلة والخنازير المعدية له ووجع الحصاة واحتبس البول أو الغائط أو انطلاق البطن حتى يموت والعدو القاسي القلب يرحمه ويتقطع له لعظيم ما يرى به من التضور والأوجاع بقوة من عنده تعالى يفرجوا بها عن هذا الطفل المسكين المعذب أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا هو غير قادر على ذلك فما في العالم أعجز ممن تغلبه طبيعة هو خلقها وطبعها ووضعها فيمن هي فيه وربما غلبها طبيب ضعيف من خلقه بعقار ضعيف من خلقه فهل في الجنون والكفر أكثر من هذا القول أن يكون هو خلق الطبيعة ووضعها فيمن هي فيه ثم لا يقدر على كف عملها الذي هو وضعه فيها وإن قالوا بل هو قادر على صرف الطبيعة وكفها ولم يفعل دخل في نفس ما أنكر وأقر على ربه على أصله الفاسد بالظلم والعبث وبالضرورة ندري أن من رأى طفلاً في نار أو ماء وهو قادر على استنقاذه بلا مؤونة ولم يفعل فهو عابث ظالم ولكن الله تعالى يفعل ذلك وهو الحكم العدل في حكمه لا العابث ولا الظالم وهذا هو الذي أعظموا من ان يكون قادراً على هدي الكفار ولا يفعل ولجأ بعضهم إلى أن قال لو عاش هذا الطفل لكان طاغياً قلنا لهم لم نسألكم بعد عمن مات طفلاً إنما سألناكم عن إيلامه قبل بلوغه ثم نجيبهم عن قولهم فيمن مات من الأطفال أنه لو عاش لكان طاغياً فنقول لهم هذا أشد في الظلم أن يعذبه على ما لم يفعل بعد.
قال أبو محمد: قد وجدنا الله عز وجل قد حرم ذبح بعض الحيوان وأكله وأباح ذبح بعضه وأوجب ذبح بعضه إذا نذر الناذر ذبحه قرباناً فنقول للمعتزلة اخبرونا ما كان ذنب الذي أبيح ذبحه وسلخه وطبخه بالنار وأكله وما كان ذنب الذي حرم كل ذلك فيه حتى حرم العوض الذي تدعونه وما كان بخت الذي حرم إيلامه ووجدناه عز وجل قد أباح ذبح صغار الحيوان مع ما يحدث لأمهاتها من الحنين والوله كالإبل والبقر فأي فرق بين ذبحنا لمصالحنا أو لتعوض هي وبين ما حرم من ذبح أطفالنا وصغار أولاد أعدائنا لمصالحنا أو ليعوضوا فإن طردوا دعواهم في المصلحة لربهم أن كل من له مصلحة في قتل غيره كان له قتله فإن قالوا لا يجوز ذلك إلا حيث أباحه الله عز وجل تركوا قولهم ووقفوا للحق.
قال أبو محمد: وجدناه تعالى قد حرم قتل قوم مشركين يجعلون له الصاحبة والولد ويهود ومجوس إذا أعطونا ديناراً أو أربعة دنانير في العام وهم يكفرون بالله تعالى وأباح قتل مسلم فاضل قد تاب وأصلح لزنى سلف منه وهو محصن ولم يبح لنا من استبقاء مشركي العرب من عباد الأوثان إلا بأن يسلموا ولا بد فأي فرق بين هؤلاء الكفار وبين الكفار الذين افترض علينا إبقاؤهم لذهب نأخذه منهم في العام.
قال أبو محمد: وقالوا لنا هل في أفعال الله تعالى عبث وضلال ونقص ومذموم فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أما أن يكون في أفعاله تعالى عبث يوصف به أو عيب مضاف إليه أو ضلال يوصف به أو نقص ينسب إليه أو جور منه أو ظلم منه أو مذموم منه فلا يكون ذلك أصلاً بل كل أفعاله عدل وحكمة وخير وصواب وكلها حسن منه تعالى ومحمود منه ولكن فيها على من ظهر منه ذلك الفعل وعبث منه وضلال منه وظلم منه ومذموم منه ثم نسألهم فنقول لهم هل في أفعاله تعالى سخف وجنون وفضائح ومصائب وقبح وسخام وأقذار وإنتان ونجس وسخنه للعين وسواد للوجه فإن قالوا لا أكذبهم الله عز وجل بقوله تعالى: " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " وموت الأنبياء وفرعون وإبليس وكل ذلك مخلوق وإن قالوا أن الله تعالى خالق كل ذلك ولكن لا يضاف شيء منه إلى الله عز وجل على الوجه المذموم ولكن على الوجه المحمود قلنا هذا قولنا فيما سألتمونا عنه ولا فرق فإن قالوا أترضون بأفعال الله عز وجل وقضائه قلنا نعم بمعنى أننا مسلمون لفعله وقضائه ومن الرضى بفعله وقضائه أن نكره ما كره إلينا قال تعالى: " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " ثم نسألهم عن هذا بعينه فنقول لهم أترضون بفعل الله تعالى وقضائه فإن قالوا نعم لزمهم الرضى بقتل من قتل من الأنبياء وبالخمور والأنصاب والآلام وبإبليس ويلزمهم أن يرضى منهم بالخلود في النار من خلد فيها وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وسأل بعض أصحابنا بعض المعتزلة فقال إذا كان عندكم إنما خلق الله تعالى الكفار وهو يعلم انهم لا يؤمنون وأنه سيعذبهم بين أطباق النيران أبداً ليعظ بهم الملائكة وحور العين فقد كان يكفي من ذلك خلق واحد منهم فقال له المعتزلة ان المؤمنين الذين يدخلون الجنة والملائكة وحور العين وجميع من لا عذاب عليه من الأطفال أكثر من الكفار بكثير جداً.
قال أبو محمد: ولم يخرج بهذا الجواب مما ألزمه السائل لأن الموعظة كانت تتم بخلق واحد هذا لو كان يخلق من يعذب ليوعظ به آخر وجه في الحكمة بيننا وأيضاً فلولا ذكره الملائكة لكان كاذباً في ظنه إن عدد الداخلين في الجنة من الناس أكثر من الداخلين النار لأن الأمر بخلاف ذلك لأن الله عز وجل يقول: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " وقال تعالى: " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وقال تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم " فليت شعري في أي حكمة وجدوا فيما بينهم أو بيننا أو في أي عدل خلق من يكون أكثرهم مخلدين في جهنم على أصول هؤلاء الجهال وأما نحن فإنه لو عذب أهل السماوات كلهم وجميع من عمر الأرض لكان عدلاً منه وحقاً له وحكمة منه ولو لم يخلق النار وأدخل كل من خلق الجنة لكان حقاً منه وعدلاً وحكمة منه لا عدل ولا حكمة ولا حق إلا ما فعل وما أمر به.
قال أبو محمد: ولجأ قوم منهم إلى أن قالوا أن الله تعالى لم يعلم من يكفر ولا من يؤمن وأقروا أنه لو علم من يموت كافراً لكان خلقه له جوراً وظلماً.
قال أبو محمد: وهؤلاء أيضاً مع عظيم ما أتوا به من الكفر في تجهيل ربهم تعالى فلم يتخلصوا مما ألزمهم أصحابنا لأنه ليس من الحكمة خلق من لا يدري أيموت كافراً فيعذبه أم لا وهذا هو التغرير بمن خلق وتعريضهم للهلكة على جهالة وهذا ليس من الحكمة ولا من العدل فيما بيننا لمن يمكنه أن لا يغرر وقد كان الباري تعالى قادراً على أن لا يخلق كما قد كان لم يزل لا يخلق ثم خلق إلا أن يلجأ إلى أنه تعالى لا يقدر على أن لا يخلق فيجعلوه مضطراً ذا طبيعة غالبة وهذا كفر مجرد محض ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وإذا أقرت المعتزلة أن أطفال بني آدم كلهم أولاد المشركين وأولاد المسلمين في الجنة دون عذاب ولا تقرير تكليف فقد نسوا قولهم الفاسد أن العقل أفضل من عدمه بل ما نرى السلامة على قولهم وضمانها والحصول على النعيم الدائم في الآخرة بلا تقرير إلا في عدم العقل فكيف فارقوا هذا الاستدلال وأما نحن فنقول إن من أسعده الله تعالى من الملائكة فلم يعرضهم لشيء من الفتن أعلى حالاً من كل خلق غيرهم ثم بعدهم الذين عصم الله تعالى من النبيين عليهم الصلاة والسلام وأمنهم من المعاصي ثم من سبقت لهم من الله تعالى الحسنى من مؤمني الجن والإنس الذين لا يدخلون النار والحور العين اللاتي خلقن لأهل الجنة على أن لهؤلاء المذكورين حاشا الحور العين حالة من الخوف طول بقائهم في الدنيا ثم يوم الحشر في هول المطلع وشنعة ذلك الموقف الذي لا يقي به شيء إلا السلامة منه ولا يهنأ معه عيش حتى يخلص منه وقد تمنى كثير من الصالحين العقلاء الفضلاء أن لو كانوا نسياً منسياً في الدنيا ولا يعرضوا لما عرضوا له على أنهم قد آمنوا بالضمان التام الذي لا ينجس ولقد أصابوا في ذلك إذ السلامة لا يعد لها شيء إلا عند عقول المعتزلة القائلين بأن الثواب والنعيم بعد الضرب بالسياط والضغط بأنواع العذاب والتعريض بكل بلية أطيب وألذ وأفضل من النعيم السالم من أن يتقدمه بلاء ثم الأطفال الذين يدخلون الجنة دون تكليف ولا عذاب ومن بلغ ولا تمييز له ثم منزلة من دخل النار ثم أخرج منها بعد أن دخل فيها على ما فيها من البلاء نعوذ بالله منه وأما من يخلد في النار فكل ذي حس سليم توقن نفسه يقين ضرورة أن الكلب والدود والقرد وجميع الحشرات أحسن حالاً في الدنيا والآخرة منه وأعلى مرتبة وأتم سعداً وأفضل صفة وأكرم عناية من عند الباري تعالى منه ويكفي من هذا إخبار الله تعالى إذ يقول: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً " فنص تعالى على أن حال الجمادية أحسن منه حالة فاعجبوا للمعتزلة القائلين أن الله تعالى أعطى من يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً أفضل عطية عنده ولم يترك في قدرته أصلح مما عمل به وأن خلقه له كان خيراً له من أن لا يخلقه ونحن نعوذ بالله لأنفسنا من أن يعمل بنا ما عمل بهم.
قال أبو محمد: ومن عجائبهم قولهم أن الله تعالى لم يخلق شيئاً لا يعتبر به أحد من المكلفين.
قال أبو محمد: فنقول لهم ما دليلكم على هذا وقد علمنا بضرورة الحس أن لله تعالى في قعور البحار وأعماق الأرض أشياء كثيرة لم يرها إنسان قط فلم يبق إلا أن يدعو عوض الملائكة والجن في عمق الجبال وقعور البحور فهذه دعوة مفتقرة إلى دليل وإلا فهي باطلة قال عز وجل: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وأيضاً فما تبطل به دعوى هؤلاء القائلين بغير علم على الله. إن الله تعالى إذا خلق زيداً وله من الطول كذا وكذا فإنه لو خلقه على أقل من ذلك الطول بإصبع لكان الاعتبار بخلقه سواء كما هو الآن ولا مزيد وهكذا كل مقدار من المقادير فإن ادعوا أن الزيادة في العدد زيادة في العبرة لزمهم أن يلزموا ربهم تعالى أن يزيد في مقدار طول كل ما خلق لأنه كان يكون زيادة في الاعتبار وإلا فقد قصر وبالجملة فهو سهم لا يحصيه إلا الذي خلقهم نعوذ بالله مما ابتلاهم به.
قال أبو محمد: وهم مقرون أن العقول معطاة من عند الله عز وجل فنسألهم أفاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقول أم لا فإن قالوا لا كابروا الحس ولزمهم مع ذلك أن عقل النبي ﷺ وتمييزه وعقل عيسى وإبراهيم وموسى وأيوب وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتمييزهم عقل مريم بنت عمران وتمييزها بل تمييز جبريل وميكائيل وسائر الملائكة ثم تمييز أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعقولهم وتمييز أمهات المؤمنين وبنات النبي ﷺ رضوان الله على جميع من ذكرنا وعقولهن ثم تمييز سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وعقولهم ليس شيء من ذلك أفضل من العقل والتمييز المعطيين لهذا المخنث البغاء الزقان ولهذه الزانية الخليقة المتبرجة السحاقة ولهذا الشيخ الذي يلعب مع الصبيان بالكعاب في الخانات ويعجفهم إذا قدر ومن بلغ هذا المبلغ وساوى بين من أعطى الله عز وجل كل من ذكرنا من العقل والتمييز فقد كفى خصمه مؤونته وإن قالوا بل الله تعالى فاضل بين عباده فيما أعطاهم من العقل والتمييز قيل لهم صدقتم وهذا هو المحاباة والجور على أصولكم ولا محاباة على الحقيقة أكثر من هذا وهي عندنا حق وعدل منه تعالى لا يسأل عما يفعل ولعمري أن فيهم لا عجباً إذ يقولون أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه إلا ما أعطى سائرهم فهلا إن كانوا صادقين ساوى جميعهم إبراهيم النظام وأبا الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر والجبائي في دقة نظرهم وقوتهم على الجدال إذ كلهم فيما منحهم الله عز وجل من ذلك سواء فإذ لا شك في عجزهم عن بلوغ ذلك فلا شك في أن كل أحد لا يقدر أن يزيد فيما منحه الله تعالى به وليس يمكنهم أصلاً أن يدعوا ها هنا أنهم كلهم قادرون على ذكاء الذهن وحدة النظر وقوة الفطنة وجودة الحفظ و البتة لدقيق الحجة وإن لم يظهروا كما ادعوا ذلك في الأعمال الصالحة فصحت المحاباة من الله تعالى يقيناً عياناً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قروا أن العقول والذكاء وقبول العلم وذكاء الخاطر ودقة الفهم غير موهوبة من الله تعالى عز وجل قلنا لهم فمن خلقها فإن قالوا هي فعل الطبيعة قلنا لهم ومن خلق الطبيعة التي فعلت العقول وكل ذلك بذاتها متفاضلة فمن قولهم ان الله تعالى خلقها فيقال لهم فهو موجب المحاباة إذ رتب الطبيعة رتبة المحاباة ولا بد وإن قالوا لم تخلق الطبيعة ولا العقول لحقوا بالدهرية وصاروا إلى ما لم يرد لهم المصير إليه وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة ندري أن من كان تمييزه أتم كان اهتداؤه واعتصامه أتم على أصولهم وهذا هو المحاباة التي أنكروها وسموها ظلماً وجوراً.
قال أبو محمد: ومهما أمكنهم من الدفاع والقحة في شيء ما فإنه لا يمكنهم اعتراض أصلاً في أن فضل الله تعالى على المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام وعلى يحيى بن زكريا إذ جعل عيسى نبياً ناطقاً عاقلاً في المهد رسولاً حين سقوطه من بطن أمه وإذ أتى يحيى الحكم صبياً أتم وأعلا وأكثر من فضله على ولد في أقاصي بلاد الخزر والزنج حيث لم يسمع قط ذكر محمد ﷺ إلا متبعاً أقبح الذكر من التكذيب وانه كان متخيلاً وأكثر من فضله بلا شك على فرعون إذ دعا موسى عليه الصلاة والسلام فقال: " وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ".
قال أبو محمد: إن من ضل بعد هذا لضال وإن من قال أن فضل الله عز وجل وعطاءه لموسى وعيسى ويحيى ومحمد ﷺ وعصمته لهم كفضله وعطائه على فرعون وملئه وعصمته لهم الذين نص عز وجل على أنه شد على قلوبهم شداً منعهم الإيمان حتى يروا العذاب الأليم فلا ينفعهم إيمانهم حينئذ لضعيف العقل قليل العلم مهلهل اليقين ولا بيان أبين من هذه الآية في تفضيل الله عز وجل بعض خلقه على بعض واختصاص بعضهم بالهدى والرحمة دون بعض ومحاباته من شاء منهم وإضلاله من ضل منهم وأيضاً فإنهم لا يستطيعون ان الله عز وجل فضل بني آدم على كثير ممن خلق قال تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وقال تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " وقال تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وهي المحاباة بعينها التي هي عند المعتزلة جور وظلم فيقال لهم على أصلكم الفاسد هل لا رزق الله العقل سائر الحيوان فيعرضهم بذلك للمراتب السني التي عرض لها بني آدم وهلا ساوى بين الحيوان وبيننا في أن لا يعرضنا كلنا للمهالك والفتن فهل هذا إلا محاباة مجردة وفعل لما يشاء لا معقب لحكمه لا يسأل عما يفعل.
قال أبو محمد: وقد ذكر بعضهم أن الله تعالى قبح في عقول بني آدم أكل ما يعطيهم وأكل أموال غيرهم ولم يقبح ذلك في عقول الحيوان.
قال أبو محمد: فأقر هذا الجاهل بأن الله تعالى هو المقبح والمحسن فإذ ذلك كذلك فلا قبيح إلا ما قبح الله ولا محسن إلا ما حسن وهذا قولنا ولم يقبح الله تعالى قط خلقه لما خلق وإنما قبح منا كون ذلك الذي خلق من المعاصي فينا فقط وبالله تعالى التوفيق وإن الأمر لأبين من ذلك ألم تروا أن الله خلق الحيوان فجعل بعضهم أفضل من بعض بلا عمل أصلاً ففضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق نعم وعلى نوق الأنبياء الذين هم أفضل من صالح وإنما أتينا بهذا لئلا يقولوا أنه تعالى إنما فضلها تفضيلاً لصالح عليه السلام وجعل تعالى الكلب مضروباً به المثل بالخساسة والرذالة وجعل القردة والخنازير معذباً بعضه من عصاه بتصويره في صورتها فلولا أن صورتها عذاب ونكال ما جعل القلب في صورتها أشد ما يكون من عذاب الدنيا ونكالها وجعل بعض الحيوان متقرباً إلى الله عز وجل بذبحه وبعضه محرم ذبحه وبعضه مأواه الرياض والأشجار والخضر وبعضه مأواه الحشوش والرداع والدبر وبعضه قوياً وبعضه ضعيفاً وبعضه منتفعاً به في الأودية وبعضه سماً قاتلاً وبعضه قوياً على الخلاص ممن أراد بطيرانه وعدوه أو قوته وبعضه لا مهيناً مخلص عنده وبعضه خيلاً في نواصيها الخير يجاهد عليها العدو وبعضه سباعاً ضارية مسلطة على سائر الحيوان ذاعرة لها قاتلة لها آكلة لها وجعل سائر الحيوان لا ينقصر منها وبعضها حيات عادية مهلكة وبعضها مأكولاً على كل حال فأي ذم كان لبعضه حتى سلط عليه غيره فأكله وقتله وأبيح ذبحه وقتله وإن لم يؤكل كالقمل والبراغيث والبق والوزغ وسائر الهوام ونها عن قتل النحل وعن قتل الصيد في الحرمين والأحرام وأباحه في غير الحرمين والأحرام فإن قالوا أن الله تعالى يعوض ما أباح ذبحه وقتله منها قيل له فهلا أباح ذلك فيما حرم قتله ليعوضه أيضاً وهذه محاباة لا شك فيها مع أنه في المعهود من المعقول عين العبث إلا أن يقولوا أنه تعالى لا يقدر على نعيمها إلا بتقديم الأذى فإنهم لا ينفكون بهذا من المحاباة لها على من لم يبح ذلك فيها من سائر الحيوان مع أنه تعجيز لله عز وجل ولو ويقال لهم ما لذي عجزه عن ذلك وأقدره على تنعيم من تقدم له الأذى في الدنيا أطبيعة فيه جارية على بنيتها أم فوقه وأهب له تلك القدرة ولا بد من أحد هذين القولين وكلاهما كفر مجرد وأيضاً فإن قولهم يبطل بتنعيم الله عز وجل الأطفال الذين ولدوا أحياء وماتوا من وقتهم دون ألم سلف لهم ولا تعذيب فهلا فعل بجميع الحيوان كذلك على أصولكم فقد كان عز وجل قادراً على ان يجعل غذاءنا في غير الحيوان لكن في النبات والثمار كعيش كثير من الناس في الدنيا لا يأكلون لحماً فما ضرهم ذلك في عيشهم شيئاً فهل ها هنا إلا أن الله تعالى لا يجوز الحكم على أفعاله بما يحكم به على أفعالنا لأننا مأمورون منهيون وهو تعالى آمرنا لا مأمور ولا منهي فكل ما فعله عدل وحكمة وحق وكل ما فعلناه فإنه إن وافق أمره عز وجل كان عدلاً وحقاً وإن خالف أمره عز وجل كان جوراً وظلماً.
قال أبو محمد: وأما الحيوان فإن قولنا فيه هو نص ما قاله الله عز وجل ورسوله ﷺ إذ يقول عز وجل: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون " وقال عز وجل: " وإذا الوحوش حشرت " فنحن موقنون الوحوش كلها وجميع الدواب والطير تحشر كلها يوم القيامة كما شاء الله تعالى ولما شاء عز وجل و أما نحن فلا ندري لماذا والله أعلم بكل شيء وقال رسول الله ﷺ أنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء فنحن نقر بهذا وبأنه يقتص يومئذ للشاة الجماء من الشاة القرناء ولا ندري ما يفعل الله بهما بعد ذلك إلا أنا ندري يقيناً أنها لا تعذب بالنار لأن الله تعالى قال: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وبيقين ندري أن هذه الصفة ليست إلا في الجن والإنس خاصة ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى وقد أيقنا ان سائر الحيوان الذي في هذا العالم ما عدا الملائكة والحور والإنس والجن فإنه غير متعبد بشريعته وأما الجنة فإن رسول الله ﷺ قال: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة " والحيوان حاشا من ذكرنا لا يقع عليهم اسم مسلمين لأن المسلم هو المتعبد بالإسلام والحيوان المذكور غير متعبد بشرع فإن قال قائل أنكم تقولون أن أطفال المسلمين وأطفال المشركين كلهم بالجنة فهل يقع على هؤلاء اسم مسلمين فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن نقول نعم كلهم مسلمون بلا شك لقول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى " وقوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " ولقول رسول الله ﷺ: " كل مولود يولد على الفطرة " وروي على الملة " فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه " ولقوله ﷺ عن الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالتهم الشياطين عن دينهم فصح لهم كلهم اسم الإسلام والحمد لله رب العالمين وقد نص عليه السلام على أنه رأى كل من مات طفلاً من أولاد المشركين وغيرهم في روضة مع إبراهيم خليل الله ﷺ وأما المجانين ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة نبي وقد هرم أو أصم لا يسمع فقد صح عن رسول الله ﷺ أنه تبعث لهم يوم القيامة نار موقدة ويأمرون بدخولها فمن دخلها كانت عليه برداً ودخل الجنة أو كلاماً هذا معناه فنحن نؤمن بهذا ونقر به ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى على لسان رسوله ﷺ.
قال أبو محمد: وإذا قد بلغ الكلام هاهنا فلنصله إن شاء الله تعالى راغبين في الأجر من الله عز وجل على بيان الحق فنقول وبالله تعالى نتأيد أن الله تعالى قد نص كما ذكرنا أنه آخذ من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وهذا نص جلي على أنه عز وجل خلق أنفسنا كلها من عهد آدم عليه السلام لأن الأجساد حينئذ بلا شك كانت تراباً وماء وأيضاً فإن المكلف المخاطب إنما هو النفس لا الجسد فصح يقيناً أن نفوس كل من يكون من بني آدم إلى يوم القيامة كانت موجودة مخلوقة حين خلق آدم بلا شك ولم يقل الله عز وجل أنه أفنانا بعد ذلك ونص تعالى على انه خلق الأرض والماء حينئذ بقوله تعالى إنه جعل من الماء كل شيء حي وقوله تعالى: " خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " وأخبر عز وجل أنه خلقنا من طين والطين هو التراب والماء وإنما خلق تعالى من ذلك أجسامنا فصح أن عنصر أجسامنا مخلوق منذ أول خلقه تعالى السماوات وأن أرواحنا وهي أنفسنا مخلوقة منذ أخذ الله تعالى عليها العهد وهكذا قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وثم توجب في اللغة التي بها نزل القرآن التعقيب بمهلة ثم يصور الله تعالى من الطين أجسامنا من اللحم والدم والعظام بأن يحيل أعراض التراب والماء وصفاتهما فتصير نباتاً وحباً وثماراً يتغذى بها فتستحيل فينا لحماً وعظماً ودماً وعصباً وجلداً وغضاريف وشعراً ودماغاً ونخاعاً وعروقاً وعضلاً وشحماً ومنياً ولبناً فقط وكذلك تعود أجسامنا بعد الموت تراباً ولا بد وتصعد رطوباتها المائية وأما جمع الله تعالى الأنفس إلى الأجساد فهي الحياة الأولى بعد افتراقها الذي هو الموت الأول فتبقى كذلك في عالم الدنيا الذي هو عالم الابتلاء ما شاء الله تعالى ثم ينقلنا بالموت الثاني الذي هو فراق الأنفس للأجساد ثانية إلى البرزخ الذي تقيم فيه الأنفس إلى يوم القيامة وتعود أجسامنا تراباً كما قلنا ثم يجمع الله عز وجل يوم القيامة بين أنفسنا وأجسادنا التي كانت بعد أن يعيدها وينشرها من القبور وهي المواضع التي استقرت أجزاؤها فيها لا يعلمها غيره ولا يحصيها سواه عز وجل لا إله إلا هو فهذه الحياة الثانية التي لا تبيد أبداً ويخلد الإنس والجن مؤمنهم في الجنة بلا نهاية وكافرهم بالنار بلا نهاية وأما الملائكة وحور العين فكلهم في الجنة فيها خلقوا من النور وفيها يبقون أبداً بلا نهاية ولم ينقلوا عنها قط ولا ينقلون هذا كله نص قول الله عز وجل إذ يقول: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وإذ يقول تعالى مصدقاً للقائلين: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" فلا يشذ عن هذا أحد إلا من أبانه الله تعالى بمعجزة ظهرت فيه كمن أحياه الله عز وجل آية لنبي كالمسيح عليه السلام وكالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذرروت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فهؤلاء والذي أماته الله مائة عام ثم أحياه كلهم ماتوا ثلاث موتات وحيوا ثلاث مرات وأما من ظن أن الصعقة التي تكون يوم القيامة موت فقد أخطأ بنص القرآن الذي ذكرنا لأنها كانت تكون حينئذ لكل أحد ثلاث موتات وثلاث إحياءات وهذا كذب وباطل وخلاف للقرآن وقد بين عز وجل هذا نصاً فقال تعالى: " وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ " فبين تعالى أن تلك الصعقة إنما هي فزع لا موت وبين ذلك بقوله تعالى في سورة الزمر: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء " الآية فبين تعالى أن تلك الصعقة مستثنى منها من شاء الله عز وجل وفسر بها الآية التي ذكرنا قبل وبينت أنها فزعة لا موتة وكذلك فسرها النبي غليه الصلاة والسلام بأنه أول من يقوم فيرى موسى عليه السلام قائماً فلا يدري أكان ممن صعق فأفاق أم جوزي بصعقة الطور فسماها إفاقة ولو كانت موتة ما سماها إفاقة بل إحياء فكذلك كانت صعقة موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور فزعة لا موتة قال تعالى " وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك " وهذا ما لا خلاف فيه.
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا ان الدور سبع وهي عالمون كل علم منها قائم بذاته فأولها دار الابتداء وعالمه وهو الذي خلق عز وجل فيه الأنفس جملة واحدة وأخذ عليها العهد هكذا نص تعالى على أنها الأنفس بقوله عز وجل: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم " وهي دار واحدة لأنهم كلهم فيها مسلمون وهي دار طويلة على آخر النفوس جداً إلا على أول المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وثانيها وهي دار الابتلاء وعالمه وهي التي نحن فيها وهي التي يرسل الله تعالى النفوس إليها من عالم الابتداء فتقيم فيه في أجسادها متعبدة ما أقامت حتى تفارقه جيلاً بعد جيل حتى تستوفي جميع الأنفس المخلوقة بسكناها الموفق لها فيه ثم ينقضي هذا العالم وهي دار قصيرة جداً على كل نفس في ذاتها لأن مدة عمر الإنسان فيها قليل ولو عمر ألف عام فكيف بأعمار جمهور الناس التي هي من ساعة إلى حدود المائة عام ثم داران اثنان للبرزخ وهما اللتان ترجع إليهما النفوس عند خروجها من هذا العالم وفراقها أجسادها وهما عند سماء الدنيا نص على ذلك رسول الله ﷺ وذكر أنه رأى ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام آدم في سماء الدنيا وعن يمينه أسوده وعن يساره أسوده فسأل عنها فأخبر أنها نسم بنيه وأن الذين على يمينه أرواح أهل السعادة والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء وقد نص الله تعالى على هذا نصاً فقال تعالى: " وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " وقال تعالى: " فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ " وقال تعالى: " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ".
قال أبو محمد رضي الله عنه: هكذا نص رسول الله ﷺ على أن أرواح الشهداء في الجنة وكذلك الأنبياء بلا شك فمن الباطل أن يفوز الشهداء بفضل يحرمه الأنبياء وهم المقربون الذين ذكر الله تعالى أنهم في الجنة إذ يقول تعالى: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم " فهاتان داران قائمان لم يدخل أهلهما بعد لا الجنة ولا ناراً بنص القرآن والسنة وقال تعالى: " النار يعرضون عليها غدواً وعشي ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقال تعالى حاكياً عن الكفار أنهم يقولون يوم البعث: " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فصح أنهم لم يعذبوا في النار بعد وهكذا جاءت الأخبار كلها بأن الجميع يوم القيامة يصيرون إلى الجنة وإلى النار لا قبل ذلك حاشا الأنبياء والشهداء فقط ولا ينكر خروجهم من الجنة لحضور الحساب فقد دخل رسول الله ﷺ الجنة ثم خرج عنها قال تعالى: " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " وهما داران طويلتان على أول النفوس جداً حاشا آخر المخلوقين فهي قصيرة عليهم جداً وإنما ستقصرها الكفار كما قال عز وجل في القرآن لأنهم انتقلوا عنها إلى عذاب النار نعوذ بالله منها فاستقلوا تلك المدة وإن كانت طويلة حتى ظنها بعضهم لشدة ما صاروا إليه يوماً أو بعض يوم وقال بعضهم إن لبثتم إلا عشرا ثم الدار الخامسة هي عالم البعث وهو يوم القيامة وهو عالم الحساب ومقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه " فصح أنه يوم القيامة وبهذا أيضاً جاءت الأخبار الثابتة عن رسول الله ﷺ وأما الأيام التي قال الله تعالى فيها أن اليوم منها ألف سنة فهي آخر قال تعالى: " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقال تعالى: " وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " فهي أيام أخر بنص القرآن ولا يحل إحالة نص عن ظاهره بغير نص آخر أو إجماع بيقين أو ضرورة حس ثم الدار السادسة والسابعة داران للجزاء وهما الجنة والنار وهما داران لا آخر لهما ولا فناء لهما ولا لمن فيهما نعوذ بالله من سخطه الموجب للنار ونسأله الرضى منه الموجب للجنة وما توفيقنا إلا بالله الرحيم الكريم وأما من قال أن قوله تعالى في يوم القيامة إنما هو مقداره خمسين ألف سنة لو تولى ذلك الحساب غيره فهو مكذب لربه تعالى مخالف للقرآن ولقول رسول الله ﷺ في طول ذلك اليوم وبضرورة العقل ندري أنه لو كلف جميع أهل الأرض محاسبة أهل حصر واحد فيما أضمروه وفعلوه وموازنة كل ذلك ما قاموا به في ألف ألف عام فبطل هذا القول الكاذب بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإذ قد بينا بطلان قول المعتزلة في تحكمهم على ربهم و إيجابهم عليه ما أوجبوا بآرائهم السخيفة وتشبيههم إياه بأنفسهم فيما يحسن منهم ويقبح و تجويزهم إياه فيما فعل وقضى وقدر فلنبين بحول الله وقوته أنهم المجورون له على الحقيقة لا نحن ثم نذكر ما نص الله تعالى عليه مصدقاً لقولنا ومكذباً لقولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أن من المحال البين أن يقول المعتزلة أننا نجور الله تعالى ونحن نقول أنه لا يجوز البتة ولا جار قط وإن كل ما فعل أو يفعل أي شيء كان فهو العدل والحق والحكمة على الحقيقة لا شك في ذلك وأنه لا جور إلا ما سماه الله عز وجل جوراً وهو ما ظهر في عصاة عباده من الجنوالإنس مما خالف أمره تعالى وهو خالقه فيهم كما شاء فكيف يكون مجور إليه عز وجل من هذه هي مقالته وإنما المجور لربه تعالى من يقول فيما أخبر الله عز وجل أنه خلقه هذا جور وظلم فإن قائل هذا القول لا يخلو ضرورة من أحد الوجهين لا ثالث لهما إما أنه مكذب لربه عز وجل في إخباره في القرآن أنه برأ المصائب كلها وخلقها وأنه تعالى خلقنا وما نعمل وأنه خلق كل شيء بقدر محرف لكلام ربه تعالى الذي هو غاية البيان عن مواضعه مبدل له بعد ما سمعه وقد نص الله تعالى فيمن يحرف الكلم عن مواضعه ويبدله بعدما سمعه ما نص فهذا خطة كفر إن التزمها والثانية وهي تصديق الله عز وجل في إخباره بذلك وتجويزه في فعله لا بد له من ذلك وهذه أيضاً خطة كفر إن التزمها أو الانقطاع والتناقض والثبات على اعتقاد الباطل بلا حجة تقليداً للعيارين الشطار الفساق كالنظام والعلاف و بشر نخاس الرقيق ومعمر المتهم عندهم في دينه وثمامة الخليع المشهور بالقبائح والجاحظ وهو من عرف هذلاً وعيارة وانهمالاً وهذه أسلم الوجوه لهم ونعوذ بالله من مثلها ثم هم بعد هذا صنفان أصحاب اللطف وأصحاب اللطف فأما أصحاب الأصلح فإن أصحاب الأصلح يصفونهم بأنهم مجورون لله مجهولون له وأصحاب الأصلح يصفهم أصحاب اللطف بأنهم معجزون لله تعالى مشبهون له بخلقه فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وقد نص الله تعالى على أنه يفعل ما يشاء بخلاف ما قالت المعتزلة فقال عز وجل: " كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " وأمرنا عز وجل أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه عز وجل له أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وأنه لو شاء ذلك لكان من حقه ولو لم يكن له ذلك لما أمرنا بالدعاء في أن لا يحملنا ذلك ولكان الدعاء بذلك كالدعاء في أن يكون إلهاً خالقاً على أصولهم ونص تعالى كما تلونا على أنه قد حمل من كان قبلنا الإصر وهو الثقل الذي لا يطاق وأمرنا أن ندعوه بأن لا يحمل ذلك علينا وأيضاً فقد أمرنا تعالى في هذه الآية أن ندعوه في أن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهذا تكليف ما لا يطاق نفسه لأن النسيان لا يقدر أحد على الخلاص منه ولا يتوهم التحفظ منه ولا يمكن أحداً دفعه عن نفسه فلولا أن له تعالى أن يؤاخذنا بالنسيان من شاء من عباده لما أمرنا بالدعاء في النجاة منه وقد وجدنا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مؤاخذين بالنسيان منهم أبونا آدم ﷺ قال الله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي " يريد نسيانه عداوة إبليس له الذي حذره الله تعالى منها ثم وآخذه على ذلك وأخرجه من الجنة ثم تاب عليه وهذا كله على أصول المعتزلة جور وظلم تعالى الله عن ذلك وقال عز وجل: " لو شاء الله ما أشركوا " ولو في اللغة التي بها نزل القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن ترك الشرك من المشركين ممتنع لامتناع مشيئة الله تعالى لتركه وقال تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " ومشيئة الله هي تفسير إذن الله وقال تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فهذا نص جلي على انه لا يمكن أحداً أن يؤمن إلا بإذن الله عز وجل له في الإيمان فصح يقيناً أن كل من آمن فلم يؤمن إلا بإذن الله عز وجل وإنه تعالى شاء أن يؤمن وإن كل من لم يؤمن فلم يأذن الله تعالى له في الإيمان ولا شاء ان يكون منه الإيمان هذا نص هاتين الآيتين اللتين لا يحتملان تأويلاً غيره أصلاً وليس لأحد أن يقول أنه تعالى عنى الإكراه على الإيمان لأن نص الآيتين مانع من هذا التأويل الفاسد لأنه تعالى أخبر أن كل من آمن فإنما آمن بإذن الله عز وجل وإن من لم يؤمن فإن الله تعالى لم يشاء أن يؤمن فيلزمهم على هذا أن كل مؤمن في العالم فمكره على الإيمان وهذا شر من قول الجهمية وأشد فإن قالوا أن إذن الله تعالى ها هنا إنما أمره لزمهم ضرورة أحد وجهين لا بد منهما إما ان يقولوا أن الله تعالى لم يأمر الكفار بالإيمان لأن النص قد جاء بأنه تعالى لو أذن لهم لآمنوا وأما ان يقولوا أن كل من في العالم فهم مؤمنون لأنهم عندهم مأذون لهم في الإيمان إذا كان الإذن هو الأمر وكلا القولين كفر مجرد ومكابرة للعيان ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: الإذن هاهنا ومشيئته تعالى هو خلق الله تعالى للإيمان فيمن آمن وقوله لإيمانه كن فيكون وعدم إذنه تعالى وعدم مشيئته للإيمان هو أن لا يخلق في المرء الإيمان فلا يؤمن لا يجوز غير هذا البتة إذ قد صح أن الإذن ها هنا ليس هو الأمر وقال عز وجل " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " فأخبر تعالى أنه هدى بعضهم دون بعض وهذا عند المعتزلة جور وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فنص على انه خلقهم ليدخلهم النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وأمر تعالى أن ندعوه فنقول: " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " فنص تعالى على بزيغ قلوب من لم يهدهم من الذين زاغوا إذ أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى: " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " فقطع تعالى على ان كلماته قد حقت على الفاسقين انهم لا يؤمنون فمن الذي حقق عليهم أن لا يؤمنوا إلا هو عز وجل وهذا جور عند المعتزلة.
قال أبو محمد: وكل آية ذكرناها في باب الاستطاعة منهن حجة عليهم في هذا الباب وكل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في باب إثبات أن الله عز وجل أراد كون الكفر والفسق بعد هذا الباب منهي أيضاً حجة عليهم في هذا الباب وكذلك كل آية نتلوها إن شاء الله عز وجل في إبطال قول من قال ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه الله أبا جهل وفرعون وأبا لهب مما يستدعي إلى الإيمان فإنها حجة عليهم في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة بقول الله تعالى: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " وبقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وبقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " وبقوله تعالى: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ".
قال أبو محمد: وهذه حجة لنا عليهم لأنه تعالى أخبر أنه قادر على أن يسمعهم والإسماع ها هنا الهد بلا شك لأن آذانهم كانت صحاحاً ومعنى قوله تعالى: " ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " إنما معناه بلا شك لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا لأنه محال أن يهديهم الله وقد علم من قلوبهم خيراً فلا يهتدوا هذا تناقض قد تنزه كلامه عز وجل فصح أنه كما ذكرنا يقيناً.
قال أبو محمد: وسائرها لا حجة لهم في شيء منه بل هو حجة لنا عليهم وهو نص قولنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق وأفعال العباد بين السماء والأرض بلا شك فالله تعالى خلقها بالحق الذي هو اختراعه لها وكل ما فعل تعالى حق وإضلاله من أضل حق له ومنه تعالى وهداه من هدى حق منه تعالى ومحاباته من حابى بالنبوة وبالطاعة حق منه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال أن الله تعالى خلق شيئاً بغير الحق أو أنه تعالى خلق شيئاً لاعباً أو أنه تعالى ظلم أحداً بل فعله عدل وصلاح ولقد ظهر لكل ذي فهم أننا قائلون بهذه الآيات على نصها وظاهرها فأي حجة لهم علينا في هذه النصوص لو عقلوا وأما المعتزلة فيقولون أنه تعالى لم يخلق كثيراً مما بين السماوات والأرض لا سيما عباد بن سليمان منهم تلميذ هشام بن عمرو الفوطي القائل أن الله تعالى لم يخلق الجدب ولا الجوع ولا الأمراض ولا الكفار ولا الفساق ومحمد بن عبد الله الإسكافي تلميذ جعفر بن حرب القائل أن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا المزامير ولا الطنابير وكل ذلك ليس بخلق من خلق الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وهم يقولون أن الله عز وجل لو حابى أحداً لكان ظالماً لغيره وقد صح أن الله تعالى حابى موسى وإبراهيم ويحيى ومحمداً صلوات الله عليهم دون غيرهم ودون أبي لهب وأبي جهل وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه فعلى قول المعتزلة يجب أن الله تعالى ظلم هؤلاء الذين حابى غيرهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم منه إلا بترك قولهم الفاسد وأما قوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " فهكذا نقول ما خلقهم الله تعالى إلا ليكونوا له عباداً مصرفين بحكمه فيهم منقادين لتدبيره إياهم وهذه حقيقة العبادة والطاعة أيضاً عبادة وقال تعالى حاكياً عن القائلين " أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " وقد علم كل أحد ان قوم موسى عليه السلام لم يعبدوا قط فرعون عبادة تدين لكن عبدوه عبادة تذلل فكانوا له عبيداً فهم له عابدون وكذلك قول الملائكة عليهم السلام بل كانوا يعبدون الجن وقد علم كل أحد أنهم لم يعبدوا الجن عبادة تدين لكنهم عبدوهم عبادة تصرف لأمرهم وإغوائهم فكانوا لهم بذلك عبيداً فصح القول بأنهم يعبدونهم وهذا بين وقال بعض أصحابنا معنى هذه الآية أنه تعالى خلقهم ليأمرهم بعبادته ولسنا نقول بهذا لأن فيهم من لم يأمره الله تعالى قط بعبادته كالأطفال والمجانين فصار تخصيصاً للآية بلا برهان والذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه لأنه المشاهد المتيقن العام لكل واحد منهم واما ظن المعتزلة في هذه الآية فباطل يكذبه إجماعهم معنا أن الله تعالى لم يزل يعلم أن كثيراً منهم لا يعبدونه فكيف يجوز أن يخبر أنه خلقهم لأمر قد علم أنه لا يكون منهم إلا أن يصيروا إلى قول من يقول انه تعالى لا يعلم الشيء حتى يكون فيتم كفر من لجأ إلى هذا ولا يخلصون مع ذلك من نسبة العبث إلى الخالق تعالى إذ غرر من خلق فيما لا يدري أيعطبون فيه أم يفوزون وتحيرت المعتزلة القائلون بالأصلح وبإبطال المحاباة في وجه العدل في ستة عشر باباً وهي العدل في إدامة العذاب العدل في إيلام الحيوان العدل في تبليغ من في المعلوم أنه يكفر العدل في المخلوق العدل في إعطاء الاستطاعة العدل في الإرادة العدل في البدل العدل في الأمر العدل في عذاب الأطفال العدل في استحقاق العذاب في إخلاف أحوال المخلوقين العدل في المعرفة العدل في اللطف العدل في الأصلح العدل في نسخ الشرائع العدل في النبوة. واراده من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه
قال أبو محمد: قالت المعتزلة أن الله تعالى لم يشأ أن يكفر الكافر ولا أن يفسق الفاسق ولا ان يشتم تعالى ولا أن يقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحتجوا بقول الله عز وجل: " ولا يرضى لعباده الكفر " وبقوله تعالى: " اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وقالوا من فعل ما أراد الله فهو مأجور محسن فإن كان الله تعالى أراد ان يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق فقد فعلا جميعاً ما أراد الله منهما فهما محسنان مأجوران وذهب أهل السنة أن لفظة شاء وأراد لفظة مشتركة تقع إلى معنيين أحدهما الرضى والاستحسان فهذا منهي عن الله تعالى انه أراده أو شاءه في كل ما نهى عنه والثاني أن يقال أراد وشاء بمعنى أراد كونه وشاء وجوده فهذا هو الذي نخبر به عن الله عز وجل في كل موجود في العالم من خير أو شر فسلكت المعتزلة سبيل السفسطة في التعلق في الألفاظ المشتركة الواقعة على معنيين فصاعداً أو التمويه الذي يضمحل إذا فتش ويفتضح إذا بحث عنه وهذا سبيل الجهال الذي لا حيلة بأيديهم إلا المخرفة وقال أهل السنة ليس من فعل ما أراد الله تعالى وما شاء الله كان محسناً وإنما المحسن من فعل بأمر الله تعالى به ورضيه منه.
قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم اخبرونا كان الله تعالى قادراً على منع الكافر من الكفر والفاسق من الفسق وعلى منع من شتمه من النطق ومن إمراره على خاطره وعلى منع من قتل من قتل من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أم كان عاجزاً عن المنع من ذلك فإن قالوا لم يكن قادراً على المنع من شيء من ذلك فقد أثبتوا له معنى العجز ضرورة وهذا كفر مجرد وإبطال لإلاهيته تعالى وقطع عليه بالضعف والنقص وتناهي القوة وانقطاع القدرة مع التناقض الفاحش لأنهم مقرون أنه تعالى هو أعطاهم القوة التي بها كان الكفر والفسق وشتمه تعالى وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن المحال المحض أن يكون تعالى لا يقدر على أن لا يعطيهم الذي أعطاهم وهذه صفة المضطر المجبر وإن قالوا بل هو قادر على منعهم من ذلك أقروا ضرورة أنهم مريد لبقائهم على الكفر وأنه المبقي للكافر والكفر وحالف الزمان الذي امتد فيه الكافر على كفره والفاسق على فسقه وهذا نفسه هو قولنا أنه أراد كون الكفر والفسق والشتم له وقتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يرض عن شيء من ذلك بل سخطه تعالى وغضب على فعله وقالت المعتزلة إن كان الله تعالى أراد كون كل ذلك فهو إذاً يغضب مما أراد.
قال أبو محمد: ونحن نقر أنه تعالى يغضب على فاعل ما أراد كونه منه ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم فإذا هذا عندكم منكر وأنتم مقرون به بأنه قادر على المنع منه فهو عندكم يغضب مما أقر ويسخط ما يقره ولا يغيره ويثبت ما لا يرضى وهذا هو الذي شنعوا فيه ولا يقدرون على دفعه والشناعة عليهم راجعة لأنهم أنكروا ما لزمهم وبالضرورة ندري أن من قدر على المنع من شيء فلم يفعل ولا منع منه فقد أراد وجود كونه ولو لم يرد كونه لغيره ولمنع منه ولما تركه يفعل فإن قالوا أنه حكيم وخلاهم دون منع لسر من الحكمة له في ذلك قيل له فاقنعوا بمثل هذا الجواب ممن قال لكم أنه أراد كونه لأنه حكيم كريم عزيز وله في ذلك سر من الحكمة.
قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أنه تعالى أراد كون كل ذلك ولا سر ها هنا وأن كل ما فعل فهو حكمة وحق وأن قولهم هذا هادم لمقدمتهم الفاسدة أنه يقبح من الباري تعالى ما يقبح منا وفيما بيننا وما علم قط ذو عقل أن عن خلى منا عدوه منطلق اليد على وليه وأحب الناس إليه يقتله ويعذبه ويلطمه ويهينه ويتركه ينطلق على عبيده وإمائه يفجر بهم وبهن طوعاً وكرهاً والسيد حاضر يرى ويسمع وهو قادر على المنع من ذلك فلا يفعل بل لا يقنع بتركهم إلا حتى يعطي عدوه القوة على كل ذلك والآلات المعينة له ويمده بالقوى شيئاً بعد شيء فليس حكيماً ولا حليماً ولكنه عابث ظالم جائر فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يحكموا على الله تعالى بكل هذا لأنهم معترفون بأنه تعالى فعل كل هذا وهذا لا يلزمنا لأننا نقول أن الله تعالى بفعل ما يشاء وأن كل ما فعل مما ذكرنا وغيره فهو كله منه تعالى حكمة وحق وعدل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فبطل بضرورة المشاهدة قولهم أن الله تعالى لم يرد كون الكفر أو كون الفسق أو كون شتمه تعالى وقتل أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ولو لم يرد كونه لمنع من ذلك كما منع من كون كل ما لم يرد أن يكون.
قال أبو محمد: ويكفي من هذا كله اجتماع الأمة على قول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهذا على عمومه موجب أن كل ما في العالم كان أو يكون أي شيء كان فقد شاء الله تعالى وكل ما لم يكن ولا يكون فلم يشأه الله تعالى وقد نص الله تعالى نصاً لا يحتمل تأويلاً على أنه تعالى أراد كون كل ذلك فمن ذلك قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " فنص تعالى نصاً جلياً على أنه لا يشاء أحد استقامة على طاعته تعالى إلا أن شاء الله تعالى أن يستقيم فلو صح قول المعتزلة أن الله تعالى شاء أن يستقيم كل مكلف لكان بنص القرآن كل مكلف مستقيم لأن الله تعالى عندهم قد شاء ذلك وهذا تكذيب مجرد لله تعالى نعوذ بالله من مثله فصح يقيناً لا مدخل للشك في صحته أنه تعالى شاء خلاف الاستقامة منهم ولم يشأ أن يستقيموا بنص القرآن وقال تعالى: " وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ".
قال أبو محمد: وهذه الآية غاية في البيان لأن الله تعالى جعل عدة ملائكة النار فتنة للذين كفروا وليقولوا ماذا أراد الله بهذا مثلاً فأخبر تعالى أراد أن يفتن الذين كفروا وأن يضلهم فيضلوا وأنه تعالى قصد إضلالهم وحكم بذلك كما قصد هدى المؤمنين وأراده وكذلك قال تعالى: " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ".
قال أبو محمد: فنص تعالى على أنه نزل القرآن هدى للمؤمنين وعمي للكفار و بيقين ندري أنه تعالى إذا نزل القرآن أراد أن يكون كما قال تعالى عمي للكفار وهدى للمؤمنين وقال تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " هكذا هي الآية كلها موصولة بعضها ببعض فنص تعالى على أنه لو شاء لأمن الناس والجن وهم أهل الأرض كلهم ولو في لغة العرب التي بها خاطبنا الله عز وجل ليفهمنا حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح يقيناً أن الله لم يشأ أن يؤمن كل من في الأرض وإذ لا شك في ذلك فباليقين أنه شاء منهم خلاف الإيمان وهو الكفر والفسق لا بد ولو كان الله تعالى أذن للكافرين في الإيمان على قول المعتزلة لكان كل من في الأرض قد آمن لأنه تعالى قد نص على أنه لا يؤمن أحد إلا بإذنه وهذا أمر من المعتزلة يكذبه العيان فصح أن المعتزلة كذبت وأن الله تعالى صدق وأنه لم يأذن قط لمن مات كافراً في الإيمان وأن من عمي عن هذه لأعمى القلب وكيف لا يكون أعمى القلب من أعمى الله قلبه عن الهدى وبالضرورة ندري أن قول الله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " حق وإن من لم يأذن الله تعالى إلا في الإيمان فإنه تعالى لم يشأ أن يؤمن وإذ لم يشأ أن يؤمن فبلا شك أنه تعالى شاء أن يكفر هذا مالا انفكاك منه وقال تعالى: " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا إن يشاء الله " فبين الله تعالى أتم بيان على أن الآيات لا تغني شيئاً ولا النذر وهم الرسل وإنه لا يؤمن من شيء من ذلك إلا من شاء الله عز وجل أن يؤمن فصح يقيناً أنه لا يؤمن إلا من شاء الله إيمانه ولا يكفر إلا من شاء الله كفره فقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام أنه قال: " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فبالضرورة نعلم أن من صبا و جهل فإن الله تعالى لم يصرف عنه الكيد الذي صرفه برحمته عمن لم يصب ولم يجهل وإذا صرفه تعالى عن بعض ولم يصرفه عن بعض فقد أراد تعالى إضلال من صبا وجهل وقال تعالى: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً " فليت شعري إذ قال تعالى أنه جعل قلوب الكافرين في أكنة ان يفقهوا القرآن وجعل الوقر في آذانهم أتراه أراد أن يفقهوه و أراد أن لا يفقهوه وكيف يسوغ في عقل أحد أن يخبر تعالى أنه فعل عز وجل شيئاً لم يرد أن يفعله ولا أراد كونه ولا شاء إيجاده وهذا تخليط لا يتشكل في عقل كل ذي مسكة من عقل فصح يقيناً أن الله تعال أراد كون الوقر في آذانهم وكون الأكنة على قلوبهم وقال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فنص تعالى على أنه لم يرد أن يجعلنا أمة واحدة ولكن شاء أن يضل قوماً ويهدي قوماً فصح يقيناً أنه تعالى شاء إضلال من ضل وقال تعالى مثنياً على قوم ومصدقاً لهم في قولهم " قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " فقال النبيون عليهم الصلاة والسلام واتباعهم قول الحق الذي شهد الله عز وجل بتصديقه أنهم إنما خلصوا من الكفر بأن الله تعالى نجاهم منه ولم ينج الكافرين منه وأن الله تعالى إن شاء ان يعودوا في الكفر عادوا فيه فصح يقيناً أنه تعالى شاء ذلك ممن عاد في الكفر وقد قالت المعتزلة في هذه الآية معنى إلا أن يأمرنا الله بتعظيم الأصنام كما أمرنا بتعظيم الحجر الأسود والكعبة.
قال أبو محمد: هذا في غاية الفساد لأن الله تعالى لو أمرنا بذلك لم يكن عوداً في ملة الكفر بل كان يكون ثباتاً على الإيمان وتزايداً فيها وقال تعالى: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " فليت شعري إذ زاد لهم الله مرضاً أتراه لم يشأ ولا أراد ما فعل من زيادة المرض في قلوبهم وهو الشرك والكفر وكيف يفعل الله ما لا يريد أن يفعل وهل هذا إلا إلحاد مجرد ممن قاله وقال تعالى: " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " فنص تعالى على أنه لو شاء لم يقتتلوا فوجب ضرورة أنه شاء وأراد أن يقتتلوا وفي اقتتال المقتتلين ضلال بلا شك فقد شاء الله تعالى كون الضلال ووجوده بنص كلامه تعالى وقال عز وجل: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " فنص تعالى على انه أراد فتنة المفتتنين وهم الكفار وكفرهم الذين لم يملك لهم رسول الله ﷺ من الله شيئاً فهذا نص على أن الله تعالى أراد كون الكفر من الكفار وقال تعالى: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أنه تعالى لم يرد ان يطهر قلوبهم وبالضرورة ندري أن من يرد الله أن يطهر قلبه فقد أراد فساد دينه الذي هو ضد طهارة القلب وقال تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وهذا غاية البيان في أن الله تعالى لم يرد هدى الجميع وإذا لم يرد هداهم فقد أراد كون كفرهم الذي هو ضد الهدى وقال تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".
قال أبو محمد: هذا غاية البيان في أنه تعالى لم يشأ هدى الكفار لكن حق قوله بأنهم لا بد من أن يكفروا فيكونوا من أهل جهنم وقال تعالى: " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم فأخبر تعالى أنه شاء أن يضل من أضله وشاء ان يهدي من جعله على صراط مستقيم وهم بلا شك غير الذين لم يجعلهم على صراط مستقيم " وأراد فتنتهم وأن لا يطهر قلوبهم وأن يكونوا من أصحاب النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين " فشهد الخليل عليه السلام أن من لم يهده الله تعالى ضل وصح أن من ضل فلم يهده الله عز وجل ومن لم يهده الله وهو قادر على هداه فقد أراد ضلاله وإضلاله ولم يرد هداه وقال تعالى: " ولو شاء الله ما أشركوا " فصح يقيناً لا إشكال فيه ان الله تعالى شاء أن يشركوا إذ نص على أنه لو شاء أن لا يشركوا ما أشركوا وقال تعالى: " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه " وهذا نص على انه تعالى شاء أن يفعلوه إذ أخبر أنه لو شاء أن لا يفعلوه ما فعلوه وقال تعالى: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فنص تعالى على أنه لو لم يشاء أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ما أوحوه ولو شاء أن لا يلبس بعضهم دين بعض وأن لا يقتلوا أولا دهم ما لبس عليهم دينهم ولا قتلوا أولا دهم فصح ضرورة أنه تعالى شاء أن يلبس دين من التبس دينه وأراد كون قتلهم أولادهم وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وقال تعالى: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " فصح يقيناً أنه تعالى سلط أيدي الكفار على من قتلوه من الأنبياء والصالحين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء فنص على أنه يريد هدى قوم فيهديهم ويشرح صدورهم للإيمان ويريد ضلال آخرين فيضلهم بأن يضيق صدورهم ويحرجها فكأنما كلفوا الصعود إلى السماء فيكفروا وقال تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " فنص تعالى على أن من صبر فصبره ليس إلا بالله فصح أن من صبر فإن الله أتاه الصبر ومن لم يصبر فإن الله عز وجل لم يؤته الصبر وقال تعالى: " ولا تنازعوا " فنهانا عن الاختلاف وقال تعالى: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " فنص تعالى أنه خلقهم للاختلاف إلا من رحم الله منهم ولو شاء لم يختلفوا فصح يقيناً أن الله خلقهم لما نهاهم عنه من الاختلاف وأراد كون الاختلاف منهم وقال عز وجل: " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " وقال تعالى: " بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا " إلى قوله تعالى وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة فنص تعالى على أنه أغرى الكفار وسلب المؤمنين في الملك وأنه بعث أولئك الذين دخلوا المسجد ودخلوه مسخط لله تعالى بلا شك فصح يقيناً أنه تعالى خلق كل ذلك و أراد كونه وقال عز وجل: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك " فهذا نص جلي على ان الله أتى الملك ذلك الكافر فصح يقيناً أن الله تعالى فعل تمليكه وملكه على أهل الإيمان ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن ذلك يسخط الله عز وجل ويغضبه ولا يرضاه وهو نفس الذي أنكرته المعتزلة وشنعت به.
قال أبو محمد: ونسألهم عما مضت الدنيا عليه منذ كانت من أولها إلى يومنا هذا من النصر النازل على ملوك أهل الشرك والملوك الجورة والظلم والغلبة المعطاة لهم على من ناوأهم من أهل الإسلام وأهل الفضل واحترام من أرادهم بالموت أو باضطراب الكلمة ويأت النصر لهم بوجوه الظفر الذي لا شك في أن الله تعالى فاعله من أماته أعدائهم من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى فاعله من أماته من أهل الفضل وتأييدهم عليهم وهذا ما لا مخلص لهم في أن الله تعالى أراد كونه وقال عز وجل: " ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً على أنه كره أن يخرجوا في الجهاد الذي افترض عليهم الخروج فيه مع رسول الله ﷺ فقد كره تعالى كون ما أراد ونص على أنه ثبطهم عن الخروج في الجهاد ثم عذبهم على التثبيط الذي أخبر تعالى أنه فعله ونص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا يقين ليس بأمر إلزام لأن الله تعالى لم يأمرهم بالقعود عن الجهاد مع رسوله ﷺ بل لعنهم وسخط عليهم إذ قعدوا فإذ لا شك في هذا فهو ضرورة أمر تكوين فصح ان الله تعالى خلق قعودهم المغضب له الموجب لسخطه وإذا نص تعالى على أمر فلا اعتراض لأحد عليه وقال عز وجل: " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " وهذا نص جلي على أنه عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون وأنه تعالى أراد كفرهم والقاف من تزهق مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء معطوفة على ما أراد الله عز وجل من أن يعذبهم بها في الدنيا والواو تدخل المعطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى.
قال أبو محمد: فإن قال قائل فإن الله عز وجل قال في الذين قعدوا عن الخروج مع رسول الله ﷺ: " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم " فلهذا ثبطهم قلنا لا عليكم أكانوا مأمورين بالخروج معه عليه السلام متوعدين بالنار إن قعدوا لغير عذر أم كانوا غير مأمورين بذلك فإذ لا شك في أنهم كانوا مأمورين فقد ثبطهم الله عز وجل عما أمرهم به وعذبهم على ذلك وخلق قعودهم عما أمرهم به ثم نقول لهم أكان تعالى قادراً على ان يكف عن أهل الإسلام خبالهم وفتنتهم لو خرجوا معهم أم لا فإن قالوا لم يكن قادراً على ذلك عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا أنه تعالى كان قادراً على ذلك رجعوا إلى الحق وأقروا أن الله تعالى ثبطهم وكره كون ما افترض عليهم وخلق قعودهم الذي عذبهم عليه ولامهم عليه كما شاء لا معقب لحكمه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فإذ جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً بأنه عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء كفر من كفر فقد علمنا ضرورة أن كلام الله تعالى لا يتعارض فلما اخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر فبالضرورة علمنا أن الذي نفا عز وجل هو غير الذي اثبت فإذ لا شك في ذلك فالذي نفى تعالى هو الرضى بالكفر والذي أثبت هو الإرادة لكونه والمشيئة لوجوده وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة فإن أبت المعتزلة من قبول كلام ربهم وكلام نبيهم ﷺ وكلام إبراهيم ويوسف وشعيب وسائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم وأبت أيضاً من قبول اللغة وما أوجبته البراهين الضرورية مما شهدت به الحواس والعقول من الله تعالى لو لم يرد كون ما هو موجود كائن لمنع منه وقد قال تعالى " الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين " فشهد الله تعالى بتكذيبهم واستعاضته من ذلك بأصول المنانية أن الحكيم لا يريد كون الظلم ولا يخلقه فلبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولقد لجأ بعضهم إلى أن قال أن الله تعالى في هذه الآيات معنى ومراداً لا نعلمه.
قال أبو محمد: وهذا تجاهل ظاهر وراجع لنا عليهم سواء بسواء في خلق الله تعالى أفعال عباده ثم يعذبهم عليها ولا فرق فكيف وهذا كله لا معنى له بل الآيات كلها حق على ظاهرها لا يحل صرفها عنه لأن الله تعالى قال: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " وقال تعالى: " قرآناً عربياً " وقال تعالى: " تبياناً لكل شيء " وقال تعالى: " أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فأخبر تعالى أن القرآن تبيان لكل شيء فقالت المعتزلة أنه لا يفهمه أحد وأنه ليس بياناً نعوذ بالله من مخالفة الله عز وجل ومخالفة رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: ولا فرق بين ما تلونا من الآيات في أن الله تعالى شاء كون الكفر والضلال وبين قوله تعالى " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " وقوله تعالى: " إن الله يفعل ما يشاء " وقال تعالى: " يجتبي من رسله من يشاء " وقوله: " يرزق من يشاء " وقوله تعالى: " يختص برحمته من يشاء " وقوله تعالى: " فعال لما يريد " فهذا العموم جامع المعاني هذه الآيات ونص القرآن وإجماع الأمة على ان الله عز وجل حكم بأن من حلف فقال إن شاء الله أو إلا أن يشاء الله على أي شيء حلف فإنه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله فلا حنث عليه ولا كفارة تلزمه لأن الله تعالى لو شاء لأنفذه وقال عز وجل: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ".
قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل وقالوا: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون " فلا حجة لهم في هذه الآية لأن الله عز وجل لا يتناقض كلامه بل يصدق بعضهم بعضاً وقد أخبر تعالى أنه لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وأنه لو لم يشاء أن يشركوا ما أشركوا وأنه شاء إضلالهم وأنه لا يريد أن يطهر قلوبهم فمن المحال الممتنع أن يكذب الله عز وجل قوله الذي أخبر به وصدقه فإذ لا شك في هذا فإن في الآية التي ذكروا بيان نقض اعتراضهم بها بأوضح برهان وهو أنه لم يقل تعالى أنهم كذبوا في قولهم: " لو شاء الرحمن ما عبدناهم " فكان يكون لهم حينئذ في الآية متعلق وإنما أخبر تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم عندهم لكن تخرصاً ليس في هذه الآية معنى غير هذا أصلاً وهذا حق وهو قولنا أن الله تعالى لم ينكر قط فيها ولا في غيرها معنى قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم بل صدقه في الآيات الأخر وإنما أنكر عز وجل أن قالوا ذلك بغير علم لكن بالتخرص وقد أكذب الله عز وجل من قال الحق الذي لا حق أحق منه إذ قاله غير معتقد له قال عز وجل: " إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ".
قال أبو محمد: فلما قالوا أصدق الكلام وهو الشهادة لمحمد ﷺ بأنه رسول غير معتقدين لذلك سماهم الله تعالى كاذبين وهكذا فعل عز وجل في قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم قالوا هذا الكلام الذي هو الحق غير عالمين بصحته أنكر تعالى عليهم أن يقولوه متخرصين وبرهان هذا قول الله تعالى أثر هذه الآية نفسها: " أم أتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون " " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " فبين تعالى أنهم قالوا ذلك بغير علم من كتاب أتاهم وأن الذين قالوا معتقدين له إنما هو أنهم اهتدوا باتباع آثار آبائهم فهذا هو الذي عقدوا عليه وهذا أنكر تعالى عليهم لا قولهم لو شاء الرحمن ما عبدناهم فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلاً والحمد لله رب العالمين فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ".
قال أبو محمد: فإن سكتوا ها هنا لم يهنهم التمويه وقلنا لهم صلوا القراءة وأتموا معنى الآية فإن بعد قوله تعالى: " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " متصلاً به: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ".
قال أبو محمد: فآخر هذه الآية يبين أولها وذلك أن الله تعالى أيضاً لم يكذبهم فيما قالوه من ذلك بل حكى عز وجل انهم قالوا: " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولم يكذبهم في ذلك أصلاً بل حكى هذا القول عنهم كما حكى تعالى أيضاً قولهم: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ولو أنكر عز وجل قولهم ذلك لأكذبهم فإذ لم يكذبهم فلقد صدقهم في ذلك والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإن اعترضوا بقول الله عز وجل: " سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ".
قال أبو محمد: إنما تلونا جميع الآيات على نسقها في القرآن واتصالها خوف أن يعترضوا بالآية ويسكتوا عند قوله يخرصون فكثيراً ما احتجنا إلى بيان مثل هذا من الاقتصار على بعض الآية دون بعضها من تمويه من لا يتقي الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذه الآية من أعظم حجة على القدرية لأنه تعالى لم ينكر عليهم قولهم: " ولو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء " ولو أنكره لكذبهم فيه وإنما أنكر تعالى قولهم ذلك بغير علم وإن وافقوا الصدق والحق كما قدمنا آنفاً وقد بين تعالى أنه إنما أنكر عليهم ذلك بقوله عز وجل في الآية نفسها " إن تتبعون إلا الظن وإن انتم إلا تخرصون " ثم لم يدعنا تعالى في لبس من ذلك بل واتبع ذلك نسقاً واحداً بأن قال: " فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين " فصدقهم عز وجل في قولهم إنه لو شاء ما أشركوا ولا آباؤهم ولا حرموا ما حرموا وأخبر تعالى أنه لو شاء لهداهم فاهتدوا وبين تعالى أن له الحجة عليهم في ذلك ولا حجة لأحد عليه تعالى وأنكر عز وجل أن اخرجوا ذلك فخرج العذر لأنفسهم أو فخرج الاحتجاج على الرسل عليهم السلام كما تفعل المعتزلة ثم بين تعالى أنه إنما أنكر أيضاً تكذيبهم رسله بقوله تعالى: " كذلك كذب الذين من قبلهم " بالذال المشددة بلا خلاف من القراء ودعواهم أن الله تعالى حرم ما ادعوا تحريمه وهم كاذبون بقوله تعالى: " قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا " فوضح بكل ما ذكرنا بطلان قول المعتزلة الجهال وبأن صحة قولنا أن الله تعالى شاء كون كل ما في العالم من إيمان وشرك وهدى وضلال وإن الله تعالى أراد كون ذلك كله وكيف يمكن أن ينكر تعالى قولهم لو شاء الله ما أشركنا وقد أخبرنا عز وجل بهذا نصاً في قوله في السورة نفسها: " اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو واعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا " فلا ح يقيناً صدق ما قلنا من انه تعالى لم يكذبهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وهذا مثل ما ذكر الله تعالى من قولهم: " أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " فلم يورد الله عز وجل قولهم هذا تكذيباً بل صدقوا في ذلك بلا شك ولو شاء الله لأطعم الفقراء والمجاويع وما أرى المعتزلة تنكر هذا وإنما أورد الله تعالى قولهم هذا لاحتجاجهم به في الامتناع من الصدقة وإطعام الجائع وبهذا نفسه احتجت المعتزلة على ربها إذ قالت يكلفنا ما لا يقدرنا عليه ثم يعذبنا بعد ذلك على ما أراد كونه منا فسلكوا مسلك القائلين لم كلفنا الله عز وجل إطعام هذا الجائع ولو أراد إطعامه لأطعمه.
قال أبو محمد: تباً لمن عارض أمر ربه تعالى واحتج عليه بل لله الحجة البالغة ولو شاء لأطعم من ألزمنا إطعامه ولو شاء لهدى الكافرين فآمنوا ولكنه تعالى لم يرد ذلك بل أراد أن يعذب من لا يطعم المسكين ومن أضله من الكافرين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالت المعتزلة معنى قوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض " وسائر الآيات التي تلوتهم إنما هو لو شاء عز وجل لاضطرهم إلى الإيمان فآمنوا مضطرين فكانوا لا يستحقون الجزاء بالجنة.
قال أبو محمد: وهذا تأويل جمعوا فيه بلايا جمة أولها أنه قول بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو ساقط ويقال لهم ما صفة الإيمان الضروري الذي لا يستحق عليه الثواب عندكم وما صفة الإيمان غير الضروري الذي يستحق به الثواب عندكم فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً إلا أن يقولوا هو مثل ما قال الله عز وجل إذ يقول تعالى: " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا " ومثل قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون " ومثل حالة المحتضر عند المعاينة التي لا يقبل فيها إيمانه وكما قيل لفرعون: " الآن وقد عصيت قبل ".
قال أبو محمد: فيقال لهم كل هذه الآيات حق وقد شاهدت الملائكة تلك الآيات وتلك الأحوال ولم يبطل بذلك قبول إيمانهم فهلا على أصولكم صار إيمانهم إيمان اضطرار لا يستحقون عليه جزاء في الجنة أما صار جزاؤهم عليه أفضل من جزاء كل مؤمن دونهم وهذا لا مخلص لهم منه أصلاً ثم نقول لهم أخبرونا عن إيمان المؤمنين إذ صح عندهم صدق النبي بمشاهدة المعجزات من شق القمر وإطعام النفر الكثير من الطعام اليسير ونبعان الماء الغزير من بين الأصابع وشق البحر وإحياء الموتى وأوضح كل ذلك بنقل التواتر الذي به صح ما كان قبلنا من الوقائع والملوك وغير ذلك مما يصير فيه من بلغه كمن شاهده ولا فرق في صحة اليقين لكونهم هل إيمانهم إلا إيمان يقين قد صح عندهم وأنه حق ولم يتخالجهم فيه شك فإن علمهم به كعلمهم أن ثلاثة أكثر من اثنين وكعلمهم ما شاهدوه بحواسهم في أنه كله حق وعلموه ضرورة أم إيمانهم ذلك ليس يقيناً مقطعوعاً بصحة ما آمنوا به عنده كقطعهم على صحة ما علموه بحواسهم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا بل هو الآن يقين قد صح علمهم بأنه حق لا مدخل للشك فيه عندهم كتيقنهم صحة ما علموه بمشاهدة حواسهم قلنا لهم نعم هذا هو الإيمان الاضطراري بعينه وإلا ففرقوا وهذا الذي موهتم بأنه لا يستحق عليه من الجزاء كالذي يستحق على غيره وبكل تمويهكم بحمد الله تعالى إذ قلتم ان معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إنه كان يضطرهم إلى الإيمان فإن قالوا بل ليس إيمان المؤمنين هكذا ولا علمهم بصحة التوحيد والنبوة على يقين وضرورة قيل لهم قد أوجبتم أن المؤمنين على شك في إيمانهم وعلى عدم يقين في اعتقادهم وليس هذا إيماناً بل كفر مجرد ممن كان دينه هكذا فإن كان هذا صفة إيمان المعتزلة فهم أعلم بأنفسهم وأما نحن فإيمانناولله الحمد إيمان ضروري لا مدخل للشك فيه كعلمنا أن ثلاثة أكبر من اثنين وأن كل بناء فمبني وكل من أتى بمعجزة فمحق في نبوته ولا نبالي إن كان ابتداء علمنا استدلالاً أم مدركاً بالحواس إذ كانت نتيجة كل ذلك سواء في تيقن صحة الشيء المعتقد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم عن الذين يرون بعض آيات ربنا يوم لا ينفع نفساً إيمانها أكان الله تعالى قادراً على أن ينفعهم بذلك الإيمان ويجزيهم عليه جزاءه لسائر المؤمنين أم هو تعالى غير قادر على ذلك فإن قالوا بل هو قادر على ذلك رجعوا إلى الحق والتسليم لله عز وجل وأنه تعالى منع من شاء وأعطى من شاء وأنه تعالى أبطل إيمان بعض من آمن عند رؤية آية من آياته ولم يبطل إيمان من آمن عند رؤية آية أخرى وكلها سواء في باب الإعجاز وهذا هو المحاباة المحضة والجور البين عند المعتزلة فإن عجزوا ربهم تعالى عن ذلك أحالوا وكفروا وجعلوه تعالى مضطراً مطبوعاً محكوماً عليه تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد: وقد قال عز وجل: " فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ " فهؤلاء قوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فقبل الله عز وجل إيمانهم وآمن فرعون وسائر الأمم المعذبة لما رأوا العذاب فلم يقبل الله عز وجل منهم ففعل الله تعالى ما شاء لا معقب لحكمه فظهر فساد قولهم في أن الإيمان الاضطراري لا يستحق عليه جزاء جملة وصح أن الله تعالى يقبل إيمان من شاء ولا يقبل إيمان من شاء ولا مزيد ثم يقال لهم وبالله تعالى التوفيق هبكم لو صح لكم هذا الباطل الغث الذي هديتم به من أن معنى قوله تعالى لجمعهم على الهدى إنما هو لاضطرهم إلى الإيمان فأخبرونا لو كان ذلك فأي ضرر كان يكون في ذلك على الناس والجن بل كان يكون في ذلك الخير كله وماذا ضر الأطفال إذ لم يكن لهم إيمان اختياري كما تزعمون وقد حصلوا على أفضل المواهب من السلامة من النار بالجملة ومن هول المطلع وصعوبة الحساب وفظاعة تلك المواقف كلها ودخل الجنة جميعهم بسلام آمنين منعمين لم يروا فزعاً رآه غيرهم وأيضاً فإن دعواهم هذه التي كذبوا فيها على الله عز وجل إذ وصفوا عن مراد الله تعالى ما لم يقله تعالى فقد خالفوا فيها القرآن واللغة لأن اسم الهدى والإيمان لا يقعان البتة على معنى غير المعنى المعهود في القرآن واللغة وهما طاعات الله عز وجل والعمل بها والقول بها والتصديق بجميعها الموجب كل ذلك بنص القرآن رضي الله عز وجل وجنته ولا يسمى الجماد والحيوان غير الناطق ولا المجنون ولا الطفل مؤمناً ولا مهتدياً إلا على معنى جرى أحكام الإيمان على المجنون والطفل خاصة وبرهان ما قلنا قول الله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فصح أن الهدى الذي لو أراد الله تعالى جمع الناس عليه وهو المنقذ من النار والذي لا يملأ جهنم من أهله وكذلك قوله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " فصح أن الإيمان جملة شيء واحد هو المنقذ من النار الموجب للجنة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول: " مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا " ويقول: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ويقول تعالى: " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " فهذه الآيات مبنية أن الهدى المذكور هو الاختياري عند المعتزلة لأنه تعالى يقول لنبيه ﷺ: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقال تعالى: " لا إكراه في الدين " فصح يقيناً أن الله تعالى لم يرد قط بقوله لجمعهم على الهدى ولآمن من في الأرض إيماناً فيه إكراه فبطل هذرهم والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لنا فإذا أراد الله تعالى كون الكفر والضلال فأريدوا ما أراد الله تعالى من ذلك قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق ليس لنا أن نفعل ما لم نؤمر به ولا يحل لنا أن نريد ما لم يأمرنا الله تعالى بإرادته وإنما علينا ما أمرنا به فنكره ما أمرنا بكراهيته ونحب ما أمرنا بمحبته ونريد ما أمرنا بإرادته ثم نسألهم هل أراد الله تعالى إمراض النبي ﷺ إذ أمرضه وموته ﷺ إذ أماته وموت إبراهيم ابنه إذ أماته أولم يرد الله تعالى شيئاً من ذلك فلا بد من أن الله تعالى أراد كون كل ذلك فيلزم أن يريدوا موت النبي ﷺ ومرضه وموت ابنه إبراهيم لأن الله تعالى أراد كل ذلك فإن أجابوا إلى ذلك ألحدوا بلا خلاف وعصوا الله ورسوله وإن أبوا من ذلك بطل ما أرادوا إلزامنا إياه إلا أنه لازم لهم على أصولهم الفاسدة لا لنا لأنهم صححوا هذه المسألة ونحن لم نصححها ومن صحح شيئاً لزمه ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق لسنا ننكر في حال ما يباح لنا فيه إرادة الكفر من بعض الناس فقد أثنى الله عز وجل على ابن آدم في قوله لأخيه: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " فهذا ابن آدم الفاضل فقد أراد أن يكون أخوه من أصحاب النار وأن يبوء بإثمه مع إثم نفسه وقد صوب الله عز وجل قول موسى وهارون عليهما السلام: " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما " فهذا موسى وهارون عليهما السلام قد أرادا وأحبا أن لا يؤمن فرعون وأن يموت كافراً إلى النار وقد جاء عن رسول الله ﷺ إنه دعا على عتبة بن أبي وقاص أن يموت كافراً إلى النار فكان كذلك.
قال أبو محمد: وأصدق الله عز وجل أنا عن نفسي التي هو أعلم بما فيها مني أن الله تعالى يعلم أني لأسر بموت عقبة بن أبي معيط كافراً وكذلك أمر أبي لهب لأذاهما رسول الله ﷺ ولتتم كلمة العذاب عليهما وأن المرء ليسر بموت من استبلغ في أذاه ظلماً بأن يموت على أقبح طريقة وقد روينا هذا عن بعض الصالحين في بعض الظلمة ولا حرج على من ائتسى بمحمد وبموسى وبأفضل ابني آدم ﷺ وليت شعري أي فرق بين لعن الكافر والظالم والدعاء عليه بالعذاب في النار وبين الدعاء عليه بأن يموت غير متوب عليه والمسرة بكلا الأمرين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال عز وجل: " ولو شاء الله لسلطهم عليكم " وقال تعالى: " وما النصر إلا من عند الله " وقال تعالى: " إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " وقال تعالى: " هو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " فصح يقيناً أن الله تعالى سلط الكفار على من سلطهم عليهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة ويوم أحد ونصرهم إملاء لهم وابتلاء للمؤمنين وإلا فيقال لمن أنكر هذا أتراه تعالى كان عاجزاً عن منعهم فإن قالوا نعم كفروا وناقضوا لأن الله تعالى قد نص على أنه كف أيدي الكفار عن المؤمنين إذ شاء وسلط أيديهم على المؤمنين ولم يكفها إذ شاء.
قال أبو محمد: وقال بعض شيوخ المعتزلة أن إسلام الله تعالى من أسلم من الأنبياء إلى أعدائه فقتلوهم وجرحوهم وإسلام من أسلم من الصبيان إلى أعدائه يحضونهم ويغلبونهم على أنفسهم بركوب الفاحشة إذا كان ليعوضهم أفضل الثواب فليس خذلاناً فقلنا دعونا من لفظة الخذلان فلسنا نجيزها لأن الله تعالى لم يذكرها في هذا الباب لكنا نقول لكم إذا كان قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم ما يكون من الكفر وكان الله عز وجل بقولكم قد أسلم أنبياؤه صلوات الله عليهم إلى أعدائه ليعوضهم أجل عوض فقد أقررتم بزعمكم أن الله عز وجل أراد إسلامهم إلى أعدائهم وإذا أراد الله عز وجل ذلك بإقراركم فقد أراد بإقراركم كون أعظم ما يكون من الكفر وشاء وقوع أعظم الضلال ورضي ذلك لأنبيائه عليهم السلام على الوجه الذي تقولونه كائناً ما كان وهذا لا مخلص لهم منه وأيضاً فنقول لهذا القائل إذا كان إسلام الأنبياء إلى أعداء الله عز وجل يقتلونهم ليس ظلماً أو عبثاً على توجيهكم المناقض لأصولكم في أنه أدى إلى أجزل الجزاء فليس خذلاناً وكذلك إسلام المسلم إلى عدوه يحضه ويرتكب فيه الفاحشة فهو على أصولكم خير وعدل فيلزمكم أن تتمنوا ذلك وأن تسروا بما نيل من الأنبياء عليهم السلام في ذلك وأن تدعوا فيه إلى الله تعالى وهذا خلاف قولكم وخلاف إجماع أهل الإسلام وهذا لا مخلص لهم منه ولا يلزمنا نحن ذلك لأننا لا نسر إلا بما أمرنا الله تعالى بالسرور به ولا نتمنى إلا ما قد أباح لنا تعالى أن ندعوه فيه وكل فعله عز وجل وإن كان عدلاً منه وخيراً فقد افترض تعالى علينا أن ننكر من ذلك ما سماه من غيره ظلماً وأن نبرأ منه ولا نتمناه لمسلم فإنما نتبع ما جاءت به النصوص فقط وبالله تعالى التوفيق وقال قائل من المعتزلة إذا حملتم قول تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " فما يدريكم لعله عليكم عمى.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الله تعالى قد نص على انه لا يكون عمى إلا على الذين لا يؤمنون ونحن مؤمنون ولله تعالى الحمد فقد أمنا ذلك وقد ذم الله تعالى قوماً حملوا القرآن على غير ظاهره فقال تعالى: " يحرفون الكلم عن مواضعه " فهذه صفتكم على الحقيقة الموجودة فيكم حساً فمن حمل القرآن على ما خوطب به من اللغة العربية واتبع بيان الرسول ﷺ فالقرآن له هدى وشفاء ومن بدل كلنه عن مواضعه وادعى فيه دعاوى برأيه وكهانات بطنه وأسراراً وأعرض عن بيان الرسول ﷺ المبين عن الله تعالى بأمره ومال إلى قول المنانية فهو الذي عليه القرآن عمى وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومن نوادر المعتزلة وعظيم جهلها وحماقتها وإقدامها أنهم قالوا أن الشهادة التي غبط الله تعالى بها الشهداء وأوجب لهم بها أفضل الجزاء وتمناها رسول الله ﷺ وأصحابه وفضلاء المسلمين ليس هي قتل الكافر للمؤمن ولا قتل الظالم للمسلم البريء. قال أبو محمد: وجنون المعتزلة وجهلهم و إهذارهم ووساوسهم لا قياس عليها وحق لمن استغنى عن الله عز وجل وقال أنه يقدر على ما لا يقدر عليه ربه تعالى وقال أن عقله كعقول الأنبياء عليهم السلام سواء بسواء أن يخذله الله عز وجل مثل هذا الخذلان نعوذ بالله من خذلانه ونسأله العصمة فلا عاصم سواء أما سمعوا قول الله عز وجل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً " وقوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ثم إنهم فسروا الشهادة بعقولهم فقالوا إنما الشهادة الصبر على الجراح المؤدي إلى القتل والعزم على التقدم إلى الحرب.
قال أبو محمد: وفي هذا الكلام من الجنون ثلاثة أضرب أحدها أنه كلام مبتدع لم يقبله أحد قبل متأخريهم المنسلخين من الخير جملة والثاني أنه لو وضح ما ذكروا لكانت الشهادة في الحياة لا بالموت لأن الصبر على الجراح والعزم على التقدم لا يكونان إلا في الحياة والشهادة في سبيل الله لا تكون بنص القرآن وصحيح الأخبار وإجماع الأمة إلا بالقتل والثالث أن الذي منه هربوا فيه وقعوا بعينيه وهو أن الشهادة التي تمنى المسلمون بها أن كانت العزم على التقدم إلى الحرب والصبر على الجراح المؤدية إلى القتل فقد حصل تمني قتل الكفار للمسلمين وتمني أن يجرحوا المسلمين جراحاً تؤدي إلى القتل وتمني ثبات الكفار على الكفر حتى يجرحوا أهل الإسلام جراحاً قاتلة وحرب الكفار للمسلمين للمسلمين وثباتهم لهم وجراحهم إياهم معاص وكفر بلا شك فقد حصلوا على تمني المعاصي وهو الذي به شنعوا وبالله تعالى التوفيق فبطل كل ما شنعت به المعتزلة والحمد لله رب العالمين كثيراً.
قال أبو محمد: وضل جمهور المعتزلة في فصل من القدر ضلالاً بعيداً فقالوا بأجمعهم حاشا ضرار بن عمرو وحفصاً الفرد وبشر بن المعتمر ويسيراً ممن اتبعهم أنه ليس عند الله تعالى شيء أصلح مما أعطاه جميع الناس كافرهم ومؤمنهم ولا عنده هدي أهدى مما قد هدى به الكافر والمؤمن هداً مستويا وأنه ليس يقدر على شيء هو أصلح مما فعل بالكفار والمؤمنين ثم اختلف هؤلاء فقال جمهورهم أنه تعالى قادر على أمثال ما فعل من الصلاح بلا نهاية وقال الأقل منهم وهم عباد ومن وافقه هذا باطل لأنه لا يجوز أن يترك الله تعالى شيئاً يقدر عليه من الصلاح من أجل فعله لصلاح ما وحجتهم في هذا الكفر الذي أتوا به أنه لو كان عنده أصلح أو أفضل مما فعل بالناس ومنعهم إياه لكان بخيلاً ظالماً لهم ولو أعطى شيئاً من فضله بعض الناس دون بعض لكان محابياً ظالماً والمحاباة جور ولو كان عنده ما يؤمن به الكفار إذاً أعطاهم إياه ثم منعهم إياه لكان ظالماً لهم غاية الظلم قالوا وقد علمنا أن إنساناً لو ملك أموالاً عظيمة تفضل عنه ولا يحتاج إليها فقصده جار فقير له تحل له الصدقة فسأله درهماً يحيي به نفسه وهو يعلم فقره إليه ويعلم أنه يتدارك به رمقه فمنعه لا لمعنى فإنه بخيل قالوا فلو علم أنه إذا أعطاه الدرهم سهلت عليه أفعال كلفه إياها فمنعه من ذلك لكان بخيلاً ظالماً فلو علم أنه لا يصل إلى ما كلفه إلا بذلك الدرهم فمنعه لكان بخيلاً ظالماً سفيهاً فهذا كل ما احتجوا به لا حجة لهم غير هذه البتة وذهب ضرار بن عمرو وحفص الفرد وبشر بن المعتمر ومن وافقهم وهم قليل منهم إلى أن عند الله عز وجل ألطافاً كثيرة لا نهاية لها لو أعطاها الكفار لآمنوا إيماناً اختياريا يستحقون به الثواب بالجنة وقد أشار إلى نحو هذا ولم يحققه أبو علي الجباي وابنه أبو هاشم وكان بشر بن المعتمر يكفر من قال بالأصلح والمعتزلة اليوم تدعي أن بشراً تاب عن القول باللطف ورجع إلى القول بالأصلح.
قال أبو محمد: وحجة هؤلاء أنه تعالى قد فعل بهم ما يؤمنون عنده لو شاؤوا فليس لهم عليه غير ذلك ولا يلزمه أكثر من ذلك فعارضهم أصحاب الأصلح بأن قالوا أن الاختيار هو ما يمكن فعله ويمكن تركه فلو كان الكفار عند إتيان الله تعالى بتلك الألطاف يختارون الإيمان لأمكن أن يفعلوه وأن لا يفعلوه أيضاً فعادت الحال إلى ما هي عليه إلا أن يقولوا أنهم كانوا يؤمنون ولا بد فهذا اضطرار من الله تعالى لهم إلى الإيمان لا اختيار قالوا ونحن لا ننكر هذا بل الله تعالى قادر على أن يضطرهم إلى الإيمان كما قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل " قالوا فالذي فعل الله تعالى بهم أفضل وأصلح.
قال أبو محمد: هذا لازم لمن لم يقل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لزوماً لا ينفكون عنه وأما نحن فلا يلزمنا وإنما سألناهم هل الله تعالى قادر على أن يأتي الكفار بألطاف يكون منهم قال أبو محمد: كأن أصحاب الأصلح غيب عن هذا العالم أو كأنهم إذا حضروا فيه سلبت عقولهم وطمست حواسهم وصدق الله فقد نبه على مثل هذا إذ يقول تعالى: " وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ " أترى هؤلاء القوم ما شاهدوا أن الله عز وجل منع الأموال قوماً وأعطاها آخرين ونبأ قوماً وأرسلهم إلى عباده وخلق قوماً آخرين في أقاصي أرض الزنج يعبدون الأوثان وأمات قوماً من أوليائه ومن أعدائه عطشاً وعنده مجادح السماوات وسقى آخرين الماء العذب أما هذه محاباة ظاهرة فإن قالوا أن كل ما فعل من ذلك فهو أصلح بمن فعله به سألناهم عن إماتته تعالى الكفار وهم يصيرون إلى النار وإعطائه تعالى قوماً مالاً ورياسة فبطروا وهلكوا وكانوا مع القلة والخمول صالحين وأفقر أقواماً فسرقوا وقتلوا وكانوا في حال الغنى صالحين وأصح أقواماً وجمل صورهم فكان ذلك سبباً لكون المعاصي منهم وتركوها إذ أسنوا وأمرض أقواماً فتركوا الصلاة عمداً وضجروا وثربوا وتكلموا بما هو الكفر أو قريب منه وكانوا في صحتهم شاكرين لله يصلون ويصومون أهذا الذي فعل الله بهم كان أصلح لهم فإن قالوا نعم كابروا المحسوس وإن قالوا لو عاشوا لزادوا قلنا لهم فإنما كان أصلح لهم أن يخترمهم الله عز وجل قبل البلوغ أو يطيل أعمارهم في الكفر ويملكهم الجيوش فيهلك بها أرض الإسلام ويقوي أجسادهم وأذهانهم فيضل بهم جماعة كما فعل لسعيد الفيومي اليهودي وأباريطا اليعقوبي النصراني والمتحققين بالكلام من اليهودي والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية أما كان أصلح لهم ولمن ضل منهم أن يميتهم صغاراً.
قال أبو محمد: فانقطعوا فلجأ بعضهم إلى أن قال لعله قد سبق في علم الله تعالى أنه لو أماتهم صغاراً لكفر خلق من المؤمنين.
قال أبو محمد: وفي هذا الجواب من السخافة وجوه جمة أولها أنه دعوى بالدليل والثاني أنهم لا ينفكون به مما ألزمناهم ونقول لهم كان الله عز وجل قادراً على أن يميتهم ولا يوجب موتهم كفر أحد فإن قالوا لا عجزوا ربهم تعالى وإن قالوا بل كان قادراً على ذلك ألزموه الجور والظلم على أصولهم ولا بد من أحد الأمرين والثالث أنه ما يسمع في العالم بأسخف من قول من قال أن إنساناً مؤمناً يكفر من أجل صغير مات فهذا أمر ما شوهد قط في العالم ولا توهم ولا يدخل في الإمكان ولا في العقل وكم طفل يموت كل يوم منذ خلق الله تعالى الدنيا إلى يوم القيامة فهل كفر أحد قط من أجل موت ذلك الطفل وإنما عهدنا الناس يكفرون عندما يقع لهم من الغضب الذي يخلقه الله عز وجل في طبائعهم وبالعصبية التي آتاهم الله عز وجل أسبابها وبالملك الذي أتاهم الله إياه إذا عارضهم فيه عارض والرابع أنه ليس في الجور ولا في العبث ولا في الظلم ولا في المحاباة أعظم من أن يبقي طفلاً حتى يكفر فيستحق الخلود في النار ولا يميته طفلاً فينجو من النار من أجل صلاح قوم لولا كفر هذا المنحوس لكفر أولئك وما في الظلم والمحاباة أقبح من هذا وهل هذا إلا كمن وقف إنساناً للقتل فأخذ هو آخر من عرض الطريق فقتله مكانه فظهر فساد هذا القول السخيف الملعون.
قال أبو محمد: وقال بعضهم قد يخرج من صلبه مؤمنون.
قال أبو محمد: وقد يموت الكافر عن غير عقب وقد يلد الكافر كفاراً أضر على الإسلام منه ومع هذا فكل ما ذكرنا يلزم أيضاً في هذا الجواب السخيف وأيضاً فقد يخرج من صلب المؤمن كافر طاغ وظالم باغ يفسد الحرث والنسل ويثير الظلم ويميت الحق ويؤسس القتالات والمنكرات حتى يضل بها خلق كثير حتى يظنوا أنها حق وسنة فأي وجه لخلق هؤلاء على أصول المعتزلة الضلال نعم وأي معنى وأي إصلاح في خلق إبليس ومردة الشياطين وإعطائهم القوة على إضلال الناس من الحكمة المعهودة بيننا وبالضرورة نعلم أن من نصب المصائد للناس في الطرقات وطرح الشوك في ممشاهم فإنه عائب سفيه فيما بيننا والله تعالى خلق كل ما ذكرنا بإقرارهم وهم الحكيم العليم ثم وجدناه تعالى قد شهد للذين بايعوا تحت الشجرة بأنه علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ثم أمات منهم من ولي منهم أمور المسلمين سريعاً ووهن قوي بعضهم وملك عليهم زياداً والحجاج وبغاة الخوارج فأي مصلحة في هذا للحجاج ولقطري أو لسائر المسلمين لو عقلت المعتزلة ولكن الحق هو قولنا وهو أن كل ذلك عدل من الله وحق وحكمة وهلاك ودمار وإضلال للحجاج المسلط ولقطري ونظايرهما أراد الله تعالى بذلك هلاكهم في الآخرة ونعوذ بالله من الخذلان ثم نسألهم ماذا تقولون إذا أمر الله عز وجل بجلد الحرة في الزنا ماية جلدة ويجلد الأمة نصف ذلك أليس هذا محاباة للأمة وإذا خول الله عز وجل قوماً أموالاً جمة فعاثوا فيها وحرم آخرين أما هذا عين المحاباة والجور على أصلهم الفاسد فيمن منع جاره الفقير إلا أن يطردوا قولهم فيصير إلى قول من ذكر أن الواجب يواسي الناس في الأموال والنساء على السوا وبالجملة فإن القوم يدعون نفي التشبيه ويكفرون من شبه الله تعالى بخلقه ثم لا نعلم أحداً أشد تشبيهاً لله تعالى بخلقه منه فيلزمونه الحكم ويحرون عليه لأمر والنهي ويشبهونه بخلقه تعالى فيما يحسن منه ويقبح ثم نقضوا أصولهم إذ من قولهم أن ما صلح بيننا بوجه من الوجوه فلسنا نبعده عن الباري تعالى ونحن نجد فيما بيننا يحابي أحد عبيده على الآخر فيجعل أحدهم مشرفاً على ماله وعياله وحاضناً لولده ويرتضيه لذلك من صغره بأن يعلمه الكتاب والحساب ويجعل الآخر رائضاً لدابته وجامعاً للزبل لبستانه ومنقياً لحشه ويرتضيه لذلك من صغره وكذلك الإماء فيجعل إحداهن محل إزاره ومطلباً لولده ويجعل الثانية خادماً لهذه في الطبخ والغسل وهذا عدل بإجماع المسلمين كلهم فلم أنكروا أن يحابى الباري من شاء من عباده بما أحب من التفضيل ووجدوا في الشاهد من يعطي المحاويج من ماله فيعطي أحدهم ما يغنيه ويخرجه عن الفقر وذلك نحو ألف دينار ثم يعطي آخر مثله ألف دينار ويزيد هألف دينار فإنه وإن حابى فمحسن غير ملوم فلم منعوا ربهم من ذلك وجوروه إذا فعله وهو تعالى بلا شك أتم ملكاً لكل ما في العالم من أحدنا لما خوله عز وجل من الأملاك ونقضوا أصلهم في أن ما حسن في الشاهد بوجه من الوجوه لم يمنعوا وقوعه من الباري جل وعز ووجدوا في الشاهد من يدخر أموالاً عظيمة فيؤدي جميع الحقوق اللازمة له حتى لا يبقى بحضرته محتاج ثم يمنع سائر ذلك فلا يسمى بخيلاً فلأي شيء منعوا ربهم جل وعز من مثل ذلك وجوروه وبخلوه إذا لم يعط أفضل ما عنده وهذا كله بين لا إشكال فيه.
قال أبو محمد: ونسألهم عن قول لهم عجيب وهو أنهم أجازوا أن يخلق الله عز وجل أضعف الأشياء ثم لا يكون قادراً على أضعف منه فهكذا هو قادر فاعل أصلح الأشياء ثم لا يكون قادر على أصلح منه وعلى أصغر الأشياء وهو الجزء الذي لا يتجزأ ولا يقدر على أصغر منه.
قال أبو محمد: هذا إيجاب منهم لتناهي قدرة الله عز وجل وتعجيز له تعالى وإيجاب لحدوثه وإبطال إلاهيته إذ التناهي في القوة صفة المحدث المخلوق لا صفة الخالق الذي لم يزل وهذا خلاف القرآن وإجماع المسلمين وتشبيه الله تعالى بخلقه في تناهي قدرتهم. قال أبو محمد: ولكنه لازم لكل من قال بالجزء الذي لا يتجزأ وبالقياس لزوماً صحيحاً لا انفكاك لهم منه ونعوذ بالله من هذه المقالات المهلكة بل نقول أن الله تعالى كل ما خلق شيئاً صغيراً أو ضعيفاً أو كبيراً أو قوياً أو مصلحة فإنه أبداً بلا نهاية قادر على خلق أصغر منه وأضعف وأقوى وأصلح.
قال أبو محمد: ونسألهم أيقدر الله تعالى على ما لو فعله لكفر الناس كلهم فإن قالوا لا لحقوا بعلي الأسواري وهم لا يقولون بهذا ولو قالوه لأكذبهم الله تعالى إذ يقول: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " وبقوله تعالى: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة " وإن قالوا نعم هو قادر على ذلك قلنا لهم فقد قطعتم بأنه تعالى يقدر على الشر ولا يقدر على الخير هذه مصيبة على أصولهم ولزمهم أيضاً فساد أصلهم في قولهم أن من قدر على شيء قدر على ضده لأنهم يقولون أن الله تعالى يقدر على ما يكفر الناس كلهم عنده ولا يقدر على مل يؤمن جميعهم عنده.
قال أبو محمد: ونسأل من قال منهم أنه تعالى يقدر على مثل ما فعل من الصلاح بلا نهاية لا على أكثر من ذلك فنقول لهم أن على أصولكم لم تنفكوا من تجوير الباري جل وعز لأن بضرورة الحس ندري إذا استضافت المصالح بعضها إلى بعض كانت أصلح من انفراد كل مصلحة على الأخرى فإذا هو قادر عندكم على ذلك ولم يفعله بعباده فقد لزمه ما ألزمتموه لو كان قادراً على أصلح مما فعل ولم يفعله فقالوا هذا كالدواء والطعام والشراب لكل ذلك مقدار يصلح به من أعطيه فإذا استضافت إليه أمثاله كان ضرراً قال علي رضي الله عنه ولم يقل قط ذو عقل ومعرفة بحقايق الأمور إن غفار كذا مصلحة جملة وعلى كل حال ولا أن الأكل مصلحة أبداً وعلى الجملة ولا أن الشراب مصلحة بكل وجه أبداً وإنما الحق أن مقداراً من الدواء مصلحة لعلة كذا فقط فإن زاد أو نقص أو تعدى به تلك لعلة كان ضرراً وكذلك الطعام والشراب هما مصلحة في حال ما وبقدر ما فما زاد أو تعدى به وقته كان ضرراً ليس إطلاق اسم الصلاح في شيء من ذلك أولى من إطلاق اسم الضرر لأن كلا الأمرين موجود في ذلك كما ذكرنا وليس الصلاح من الله عز وجل للعبد والهدى له والخير من قبله عز وجل كذلك بل على الإطلاق والجملة وعلى كل حال بل كلما زاد الصلاح وكثر الهدى وكبر وزاد الخير وكبر فهو أفضل فإن قالوا نجد الصلاة والصيام إثماً في وقت ما وأجراً في آخر قلنا ما كان من هذا منهياً عنه فليس صلاحاً البتة ولا هو هدى ولا خير بل هو إثم وخذلان وضلال وليس في هذا كلمنا كم لكن فيما هو صلاح حقيقة وهدى حقيقة وخير حقيقة وهذا ما لا مخلص منه.
قال أبو محمد: وقال أصحاب الأصلح منهم أن من علم الله تعالى أنه يؤمن من الأطفال إن عاش أو يسلم من الكفار إن عاش أو يتوب من الفساق إن عاش فإنه لا يجوز البتة أن يميته الله قبل ذلك قالوا وكذلك من علم الله تعالى أنه إن عاش فعل خيرا فلا يجوز البتة أن يميته الله قبل فعله قالوا ولا يميت الله تعالى أحداً إلا وهو يدري أنه إن أبقاه طرفة عين فما زاد فإنه لا شيئاً من الخير أصلاً بل يكفر أو يفسق ولا بد.
قال أبو محمد: وهذا من طوامهم التي جمعت الكفر والسحق ولم ينفكوا بها فما فروا عنه من تجوير الباري تعالى بزعمهم وأما الكفر فإنه يلزمهم أن إبراهيم بن رسول الله ﷺ لو بلغ لكفر أو فسق وليت شعري إذ هذا عندهم كما زعموا فلم أمات بعضهم أثر ولادته ثم آخر بعد ساعة ثم يوم ثم يومين وهكذا شهراً بعد شهر وعاماً بعد عام إلى أن أمات بعضهم قبل بلوغه بيسير وكلهم عندهم سواء في أنهم لو عاشوا لكفروا أو فسقوا كلهم وإذ عنى بهم هذه العناية فلم أبقى من الأطفال من درى أنه يكفر ويفسق نعم ويؤتيهم القوى والتدقيق في الفهم كالفيومي سعيد بن يوسف والمعمس داود بن قزوان وإبراهيم البغدادي وأبي كثير الطبراني متكلمي اليهود وأبي ربطه اليعقوبي ومقرونيش الملكي من متكلمي النصارى وقردان بخت المثاني حتى أضلوا كثيراً يشبههم وتمويهاتهم ومخارفتهم ولا سبيل إلى وجود فرق أصلاً وهذا محاباة وجور على أصولهم ثم نجده تعالى قد عذب بعض هؤلاء الأطفال باليتم والقمل والعرى والبرد والجوع وسوء المرقد والعمى والبطلان والأوجاع حتى يموتوا كذلك وبعضهم مرفه مخدوم منعم حتى يموت كذلك ولعلهما لأب وأم وكذلك يلزمهم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسائر الصحابة رضي الله عنهم نعم ومحمد ﷺ وموسى وعيسى وإبراهيم وسائر الرسل عليهم الصلوة والسلام أن كل واحد منهم لو عاش طرفة عين على الوقت الذي مات فيه لكفر أو فسق ولزمهم مثل هذا في جبريل وميكائيل وحملة العرش عليهم السلام إن كانوا يقولون بأنهم يموتون فإن تمادوا على هذا كفروا وقد صرح بعضهم بذلك جهارا وإن أبوا تناقضوا ولزمهم أن الله تعالى يميت من يدري أنه يزداد خيراً ويبقي من يدري أنه يكفر وهذا عندهم على أصولهم عين الظلم والعبث.
قال أبو محمد: وأجاب بعضهم في هذا السؤال بأن قال أن النبي ﷺ امتحنه الله عز وجل قبل موته بما بلغ ثوابه على طاعته فيه مبلغ ثوابه على كل طاعة تكون منه لو عاش إلى يوم القيامة.
قال أبو محمد: وهذا جنون ناهيك به لوجوده أولها أنه محاباة مجردة له عليه السلام على غيره وهلا فعل ذلك بغيره وعجل راحتهم من الدنيا ونكدها وثانيها أن هذا القول كذب بحت وذلك أن المحن في العالم معروفة وهي إما في الجسم بالعلل وأما في المال بالإتلاف وأمل في النفوس بالخوف والهوان والهم بالأهل والأحبة والقطع دون الأمل لا محنة في العالم تخرج عن هذه الوجوه إلا المحنة في الدين فقط نعوذ بالله من ذلك فأما المحنة في الجسم فكذبوا وما مات عليه السلام إلا سليم الأعضاء سويها معافى من مثل محنة أيوب عليه السلام وسائر أهل البلاء نعوذ بالله منه وأما في المال فما شغله الله عز وجل منه بما يقتضي محنته في فضوله ولا أحوجه إلى أحد بل أقامه على حد الغنى بالقوت ووفقه لتنفيذ الفضل فيما يقر به من ربه عز وجل له: " وأما النفس فأي محنة لمن قال الله عز وجل له والله يعصمك من الناس " ولمن رفع له ذكره وضمن له إظهار دينه على الدين كله ولو كره أعداؤه وجعل شانئه الأبتر وأعزه بالنصر على كل عدو فأي خوف وأي هوان يتوقعه عليه السلام وأما أهله وأحبته فاخترم بعضهم فأجره فيهم كإبراهيم ابنه وخديجة وحمزة وجعفر وزينب وأم كلثوم ورقية بناته رضي الله عنهم وأقر عينه ببقاء بعضهم وصلاحه كعائشة وسائر أمهات المؤمنين وفاطمة ابنته وعلي والعباس والحسن والحسين وأولاد العباس وعبد الله بن جعفر وأبي سفيان بن الحارث رضي الله عن جميعهم فأي محنة ها هنا أليس قد أعاد الله تعالى من مثل محنة حبيب بن عدي سمية أم عمار رضي الله عنهم أليس من قتل من الأنبياء عليهم السلام ومن أنشر بالمنشار وأحرق بالنيران أعظم محنة ومن خالفه قومه فلم يتبعه منهم إلا اليسير وعذب الجمهور كهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم اعظم محنة وهل هذه إلا مكابرة وحماقة وقحة وأي محنة تكون لمن أوجب الله عز وجل على الجن والإنس طاعته وأكرمه برسالته وأمنه من كل الناس و أكب عدوه لوجهه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهل هذه إلا نعم وخصائص وفضائل وكرامات ومحاباة مجردة له على جميع الإنس والجن وهل استحق عليه السلام هذا قط على ربه تعالى حتى ابتدأه بهذه النعمة الجليلة وقد تحنث قبله زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي العدوي وقيس بن ساعدة الأبادي وغيرهما فما أكرموا بشيء من هذا ولكن نوك المعتزلة ليس عليه قياس.
قال أبو محمد: ومما سئلوا عنه أن قيل لهم أليس قد علم الله تعالى أن فرعون والكفار إن أعاشهم كفروا فمن قولهم نعم فيقال لهم فلم أبقاهم حتى كفروا واخترم على قولكم من علم أنه إن عاش كفر وهذا تخليط لا يعقل ونقول لهم أيضاً أيما كان أصلح للجميع لا سيما لأهل النار خاصة أن يخترعنا الله تعالى كلنا في الجنة كما فعل بالملائكة وحور العين أم ما فعل بنا من خلقنا في الدنيا والتعريض للبلاء فيها وللخلود في النار.
قال أبو محمد: فلحوا عند هذه فقال بعضهم لم يخلق الجنة بعد فقلنا لهم هبكم أن الأمر كما قلتم فإنما كان أصلح للجميع أن يجعل الله عز وجل خلقها ثم يخلقنا فيها أو يؤخر خلقنا حتى يخلقها ثم يخلقنا منها أما خلقه لنا حيث خلقنا فإن عجزوا ربهم جعلوه ذا طبيعة متناهي القدرة وشبهاً لخلقه وأبطلوا إلاهيته وجعلوه محيزاً ضعيفاً وهذا كفر مجرد ونفي السؤال أيضاً مع ذلك بحسبه أن يجعلنا كالملائكة وأن يجعلنا كلنا أنبياء كما فعل بعيسى ويحيى عليهما السلام وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقال بعضهم ليس جهلنا بوجه المصلحة في ذلك مما يخرج هذا الأمر عن الحكمة فقلنا لهم فاقنعوا بمثل هذا بعينه فمن قال لكم ليس جهلنا بوجه المصلحة والحكمة في خلق الله تعالى لأفعال عباده وفي تكليفه الكافر والفاسق ما لا يطيق ثم يعذبهما على ذلك مما يخرجه عن الحكمة وهذا لا مخلص لهم منه.
قال أبو محمد: وأما نحن فلا نرضى بهذا بل ما جهلنا ذلك لكن نقطع على أن كل ما فعله الله تعالى فهو عين الحكمة والعدل وأن من أراد إجراء أفعاله تعالى على الحكمة المعهودة بيننا فقد ألحدوا حظاً وضل وشبه الله عز وجل بخلقه لأن الحكمة والعدل بيننا إنما هما طاعة الله عز وجل فقط لا حكمة ولا عدل غير ذلك إلا ما امرنا به أي شيء كان فقط وأما الله تعالى فلا طاعة لأحد عليه فبطل أن تكون أفعاله جارية على أحكام العبيد المأمورين المربويين المسؤولين ما يفعلون لكن أفعاله تعالى جارية على العزة والقوة والجبروت والكبرياء والتسليم له وأن لا يسأل عما يفعل ولا مزيد كما قال تعالى وقد خاب من خالف ما قال الله عز وجل ومع هذا كله فلم يتخلصوا من رجوع وجوب التجوير والعبث على أصولهم على ربهم تعالى عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلن مقدار النعمة علينا عن ذلك وقال متكلموهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك وكنا أيضاً نكون غير مستحقين لذلك النعيم بعمل عملناه وإدخالنا الجنة بعد استحقاقنا لها أتم في النعمة وأبلغ في اللذة وأيضاً فلو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد على ما حظر علينا وليست الجنة دار توعد وأيضاً فإن الله تعالى قد علم أن بعضهم كان يكفر فيجب عليه الخروج من الجنة.
قال أبو محمد: هذا كل ما قدروا عليه من السخف وهذا كله عائد عليهم بحول الله تعالى وقوته وعونه لنا فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو خلقنا في الجنة لم نعلم مقدار النعمة علينا في ذلك فإننا نقول وبالله تعالى نتأيد أكان الله تعالى قادراً على أن يخلقنا فيها ويخلق فينا قوة وطبيعة نعلم بها قدرة النعمة علينا في ذلك أكثر من علمنا بذلك بعد دخولنا فيها يوم القيامة أو كعلمنا ذلك أم كان غير قادر على ذلك فإن قالوا أكان غير قادر على ذلك عجزوا ربهم تعالى وجعلوا قوته متناهية يقدر على أمرنا ولا يقدر على غيره وهذا لا يكون إلا لعرض داخل أو لبنية متناهية القوة وهذا كفر مجرد وإن قالوا كان الله قادراً على ذلك أقروا بأنه عز وجل لم يفعل بهم أصلح ما عنده وأن عنده أصلح مما فعل بهم وأيضاً فإن كانوا أرادوا بذلك أن اللذة تعقب البلاء و التعب أشد سروراً وأبلغ لزمهم أن يبطلوا نعم الجنة جملة لأنه ليس نعيمها البتة كان الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ولم يفتقر يوماً إذا ما تمولا فلزم على هذا الأصل أن يحدد الله عز وجل لأهل الجنة آلاماً فيها ليتجدد لهم بذاك وجود اللذة وهذا خروج عن الإسلام ويلزمهم أيضاً أن يدخل النبيين والصالحين النار ثم يخرجهم منها إلى الجنة فتضاعف اللذة والسرور أضعافاً بذلك ويقال لهم كنا نكون كالملائكة والحور العين فإن كانوا عالمين بمقدار ما هم فيه من نعيم ولذة فكنا نحن كذلك وإن كانوا غير عالمين بمقدار ما هم فيه من اللذة والنعيم فهلا أعطاهم هذه المصلحة ولأي شيء منعهم هذه الفضيلة التي أعطاها لنا وهم أهل طاعته التي لم تشب بمعصية فإن قالوا أإن الملائكة وحور العين قد شاهدوا عذاب الكفار في النار فقام لهم مقام الترهيب قلنا لهم هل المحاباة والجور إلا أن يعرض قوماً للمعطب ويبقيهم حتى يكفروا فيخلدوا في النار ليوعظ بهم قوم آخرون خلقوا في الجنة والرفاهية سرمداً أبداً لا بد وهل عين الظلم إلا هذا فيما بيننا على أصول المعتزلة وكمن يقول من الطغاة قتل الثلث في صلاح الثلثين صلاح وهل في الشاهد عبث وسفه أعظم من عبث من يقول لآخر هات أضربك بالسياط وأردك من جبل وأصفع في قفاك وأنتف سبالك وأمشيك في طريق ذات شوك دون راحة في ذلك ولا منفعة ولكن لا أعطيك بعد ذلك ملكاً عظيماً ولعلك في خلال ضربي إياك أن تتضرر فتقع في بئر منتنة لا خرج منها أبداً فأي مصلحة عند ذي عقل في هذا الحال لا سيما وهو قادر على أن يعطيه ذلك الملك دون أن يعرضه لشيء من هذا البلاء فهذه صفة الله عز وجل عند المعتزلة لا يستحقون من أن يصفوا أنفسهم بأن يصفوا الله تعالى بالعدل والحكمة.
قال أبو محمد: وأما نحن فنقول لو أن الله تعالى أخبرنا أنه يفعل هذا كان بعينه ما أنكرناه ولعلمنا أنه منه تعالى حق وعدل وحكمة.
قال أبو محمد: ومن العجب أن يكون الله تعالى يخلقنا يوم القيامة خلقاً لا نجوع فيه أبداً ولا نعطش ولا نبول ولا نمرض ولا نموت وينزع ما في صدورنا من غل ثم لا يقدر على أن يخلقنا فيها ولا على أن يخلقنا خلقاً نلتذ معه بابتدائنا كالتذاذنا بدخولها بعد طول النكد فهل يفرق بين شيء من هذا إلا من لا عقل له أو مستخف بالباري تعالى وبالدين وأما قولهم لو خلقنا الله تعالى في الجنة لكنا غير مستحقين لذلك النعيم فإنا نقول لهم أخبرونا عن الأعمال التي استحققتم بها الجنة عند أنفسكم أفبضرورة العقل علمتم أن من عملها فقد استحق الجنة ديناً واجباً على ربه تعالى أم لم تعلموا ذلك ولا وجب ذلك إلا حتى أعلمنا الله عز وجل أنه يفعل وجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال فإن قالوا بالعقل عرفنا استحقاق الجنة على هذه الأعمال كابروا وكذبوا على العقل وكفروا لأنهم بهذا القول يوجبون الاستغناء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولزمهم أن الله تعالى لم يجعل الجنة جزاء على هذه الأعمال لكن وجب ذلك عليه حتماً لا باختياره ولا بأنه لو شاء غير ذلك لكان له وهذا كفر مجرد وأيضاً فإن شريعة موسى عليه السلام في السبت وتحريم الشحوم وغير ذلك فقد كان الجنة جزاء على العمل بها ثم صارت الآن جهنم جزاء على العمل بها فهل ها هنا إلا أن الله تعالى أراد ذلك فقط ولو لم يرد ذلك لم يجب من ذلك شيء فإن قالوا بل ما علمنا استحقاق الجنة بذلك إلا بخبر الله تعالى أنه حكم بذلك فقط قيل لهم فقد كان الله تعالى قادراً على أن يخبرنا أنه جعل الجنة حقاً لنا يخترعنا فيها كما فعل بالملائكة وحور العين و أيضاً فقد كذبوا في دعواهم استحقاق الجنة بأعمالهم فإن رسول الله ﷺ قال ما من أحد ينجيه عمله أو يدخله الجنة عمله ولا أنت يا رسول الله ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه أو كلاماً هذا معناه و أيضاً فبضرورة العقل ندري أن ما زاد على المماثلة في الجزاء فيما بيننا فإنه تفضل مجرد في الإحسان وجور في الإساءة هذا حكم المعهود في العقل فعل أصول المعتزلة يلزمهم أن بقاء أحدنا في الجنة أو في النار أكثر من مثل مدة إحسانه أو إساءته جزاء على ما سلف منه فضل مجرد وعقاب زايد على مقدار الجرم وقد فعله الله عز وجل بلا شك وهو عدل منه وحكمة وحق.
قال أبو محمد: وأما قولهم أن دخول الجنة على وجه الجزاء على العمل أعلى درجة وأسنى رتبة من دخولها بالتفضل المجرد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا خطأ محض لأننا قد علمنا أن هذا الحكم إنما يقع بين الأكفاء والمتماثلين وأما الله فليس له كفواً أحد ومن كان عبداً لآخر فإن إقبال السيد عليه بالتفضل عليه المجرد والاختصاص والمحاباة أسنى له وأعلى وأشرف لرتبته وأرفع لدرجته من أن لا يعطيه شيئاً بمقدار ما يستحقه لخدمته ويستخبره إياه هذا ما لا ينكره إلا معاند فكيف وليس لأحد على الله حق وحينئذ كل ما وهبه الله تعالى لأحد من أنبيائه وملائكته عليهم السلام وكل ما أخبر تعالى أنه أوجبه وكتبه على نفسه وجعله حقاً لعباده فكل ذلك تفضل مجرد من الله عز وجل واختصاص مبتدأ لو لم ينعم به عز وجل لم يجب عليه شيء منه لا يقول غير هذا إلا مدخول الدين فاسد العقل.
قال أبو محمد: وهم يقرون أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم جميعهم السلام وصدقوا في هذا ثم نقضوا هذا الأصل بأصلهم هذا السخيف من قولهم أن من دخل الجنة بعد التعريض للبلاء فهو أفضل من ابتداء النعمة والتقريب فنحن على قولهم أفضل من الملائكة على جميعهم السلام وقد قالوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فعلى هذا التقرير يجب أن يكون نحن أفضل من الملائكة بدرجة وأفضل من النبيين بدرجتين وهذا كفر مجرد وتناقض ظاهر وأما قولهم أننا لو خلقنا في الجنة لم يكن بد من التوعد والتحذر فإننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق حتى لو كان ما يقولون لما منع من ذلك أن يخلقوا في الجنة ثم يطلعوا منها فيروا النار ويعاينوا وحشتها وهولها وقبحها ونفار النفوس عنها كالذي يعرض لنا عند الاطلاع على الغير أن العميقة المظلمة وإن كنا قط لم نقع فيها ولا شاهدنا من وقع فيها بل ذلك كان يكون أبلغ في التحذير من وصفها دون رؤية لكن كما فعل بالملائكة وحور العين فيكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر والحمد والاغتباط بمكانهم واجتناب ما نهوا عنه خوف مفارقة ما قد حصلوا عليه ثم نقول لهم أيضاً قولوا هذا فهم بعد دخولهم الجنة أمباح لهم الكفر والشتم والضرب فيما بينهم أم محظور عليهم لزمهم تمادي التوعد والتحذير هنالك قلنا نكون لو اخترعنا فيها على الحال التي تكون فيها يوم القيامة ولا فرق وكان يكون أصلح لجميعنا بلا شك فإن قالوا قد سبقت الطاعة في الدنيا قيل لهم وكذلك كانت تسبق منهم في الجنة كالملائكة سواء بسواء وهم لا يقولون أن المعاصي والتضارب والتلاطم والتراكض والتشاتم مباح لهم في الجنة ولا يقولون هذا أحد فيحتاج إلى كسر هذا القول فإن لجؤوا إلى قول أبي الهذيل أن أهل الجنة مضطرون لا مختارون قيل لهم وكنا نكون فيها كذلك أيضاً كما نكون يوم القيامة فيها فهذا كان أصلح للجميع بلا شك وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد: وأما قولهم أن الله علم أن بعضهم يكفر ولا بد فيجب عليه الخروج من الجنة قلنا لهم أيقدر الله على خلاف ما علم أم لا فإن قالوا نعم يقدر ولكن لا يفعل أقروا أنه فعل من ترك ابتداءنا في الجنة إمضاء لما سبق في علمه غير ما كان أصلح لنا بلا شك ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا أنه تعالى فعل ما سبق في علمه من تكليف ما لا يطاق ومن خلقه تعالى الكفر والظلم وإنعامه على من شاء وحده لا شريك له وتركوا قولهم في الأصلح وإن قالوا لا يقدر على غير ما علم أن يفعله جعلوه محيراً مضطراً عاجزاً متناهي القوة ضعيف القدرة محدثاً في أسوأ حالة منهم وهذا كفر وخلاف للقرآن ولإجماع المسلمين ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ونسألهم أي مصلحة للحشرات والكلاب والبق والدود في خلقها حشرات ولم يخلقها ناساً مكلفين معرضين لدخول الجنة فإن قالوا لو جعلنا ناساً لكفروا قيل لهم فقد جعل الكفار ناساً فكفروا فهلا نظر لهم كما نظر للدود والحشرات فجعلهم حشرات لئلا يكفروا فكان أصلح لهم على قولكم وهذا ما لا مخلص منه.
قال أبو محمد: ونسألهم فنقول لهم إذا قلتم أن الله تعالى لا يقدر على لطف لو أتى به الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الجنة لكنه قادر على أن لا يضطرهم إلى الإيمان أخبرونا عن إيمانكم تستحقون به الثواب هل يشوبه عندكم شك أم يمكن بوجه من الوجوه أن يكون عندكم باطلاً فإن قالوا نعم يشوبه شك ويمكن أن يكون باطلاً أقروا على أنفسهم بالكفر وكفونا مؤنتهم وإن قالوا لا يشوبه شك ولا يمكن البتة أن يكون باطلاً قلنا لهم هذا هو الاضطرار بعينه ليست الضرورة في العلم شيئاً غير هذا إنما هو معرفة لا يشوبها شك لا يمكن اختلاف ما عرف بها فهذا هو علم الضرورة نفسه وما عدا هذا فهو ظن وشك فإن قالوا أن الاضطرار ما علم بالحواس أو بأول العقل وما عداه فهو ما عرف بالاستدلال قلنا هذه دعوى فاسدة لأنها بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل وتقسيمنا هو الحق الذي يعرف ضرورة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ونسألهم أيما كان أصلح للعالم أن يكون برياً من السباع والأفاعي والدواب العادية أو أن يكون فيه كما هي مسلطة على الناس وعلى سائر الحيوان وعلى الأطفال فإن قالوا خلق الله الأفاعي والسباع كخلق الحفر والحرث ومزجرة للكفار.
قال أبو محمد: وهذا من ظريف الجنون ولقد ضل بخلقتها جموع من المخذولين ممن جرى مجرى المعتزلة في أن يتعقبوا على الله عز وجل فعله كالمنانية والمجوس اللذين جعلوا إلهاً خالقاً غير الحكيم العدل ثم نقول للمعتزلة إن كانت كما تقولون مصلحة فكان الاستكثار من المصلحة أصلح وأبلغ في الزجر والتحريف وكل هذه الدعاوي منهم حماقات ومكابرات بلا برهان ليست أجوبتهم فيها بأصح من أجوبة المنانية والمجوس وأصحاب التناسخ بل كلها جارية في ميدان واحد من أنها كلها دعاوى فاسدة بلا برهان ينقضها وكلها راجعة إلى أصل واحد وهو تعليل أفعال الله عز وجل الذي لا علة لها أصلاً والحكم عليه بمثل الحكم على خلقه فيم يحسن منه ويقبح تعالى الله عن ذلك.
قال أبو محمد: ويقال لأصحاب الأصلح خاصة ما معنى دعائكم في العصمة وأنتم تقولون أن الله تعالى قد عصم الكفار كما عصم المؤمنين فلم يعتصموا وما معنى دعائكم في الإعادة من الخذلان وفي الرغبة في التوفيق وأنتم تقولون أنه ليس عنده أفضل مما قد أعطاكموه ولا في قدرته زيادة على ما قد فعله بكم وأي معنى لدعائكم في التوبة وأنتم تقطعون على أنه لا يقدر على أن يعينكم في ذلك بمقدار شعرة زائدة على ما قد أعطاكموه فهل دعاؤكم في ذلك الإضلال وهزل وهزء كمن دعا إلى الله أن يجعله من بني آدم أو أن يجعل النبي نبياً والحجر حجراً وهل بين الأمرين فرق فإن قالوا أن الدعا عمل أمرنا الله تعالى به فقيل لهم إن أوامره تعالى من جملة أفعاله بلا شك وأفعاله عندكم تجري على ما يحسن في العقل ويقبح فيه في المعهود وفيما بيننا وعلى الحكمة عندكم وقد علمنا أنه لا يحسن في الشاهد بوجه من الوجوه أن يأمر أحداً يرغب إليه فيما ليس بيده ولا فيما قد أعطاه إياه وكلا هذين الوجهين عبث وسفه وهم مقرون بأجمعهم أن الله تعالى حكم بهذا وفعله وهو أمره لهم بالدعاء إليه أما فيما لا يوصف عندهم بالقدرة عليه وأما فيما قد أعطاهم إياه وهو عندهم عدل وحكمة فنقضوا أصلهم الفاسد بلا شك وأما نحن فإننا نقول أن الدعاء عمل أمرنا الله عز وجل به فيما يقدر عليه ثم إن شاء أعطانا ما سألناه وإن شاء منعنا إياه لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل.
قال أبو محمد: وإن في ابتداء الله عز وجل كتابه المنزل إلينا بقوله تعالى آمراً لنا أن نقوله راضياً منا أن نقوله: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ثم ختمه تعالى كتابه آمراً لنا أن نقوله راضياً بقوله: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " لا بين بيان في تكذيب القائلين بأن ليس عند الله تعالى أصلح مما فعل وإنه غير قادر على كف وسوسة الشيطان ولا على هدى الكفار هدى يستحقون به الثواب كما وعد المهتدين لأنه عز وجل نص على أنه هو المطلوب منه العون لنا والهدى على صراط من خصه بالنعمة عليه لا إلى الصراط من غضب عليه تعالى وضل ولولا أنه تعالى قادر على الهدى المذكور وإن عنده عنواناً على ذلك لا يؤتيه إلا من شاء دون من لم يشأ وإنه تعالى أنعم على قوم بالهدى ولم ينعم به على آخرين لما أمرنا أن نسأله من ذلك ما ليس بقدر عليه أو ما قد أعطاه إياه ونص تعال على أنه قادر على صرف وسوسة الشيطان فلولا أنه تعالى يصرفها عمن يشاء لما أمرنا عز وجل أن نستعيذ مما لا يقدر على الإعاذة منه أو مما قد أعاذنا بعد منه.
قال أبو محمد: ولا مخلص لهم من هذا أصلاً ثم نسألهم أي مصلحة للعصاة في أن جعل بعض حركاتهم وسكونها كبائر يستحقون عليها النار وبعض حركاتهم وسكونهم صغائر مغفورة ولقد كان أصلح من أن يجعلها كلها صغائر مغفورة فإن قالوا هذا أزجر عن المعاصي وأصلح قيل لهم فهلا إذ هو كما تقولون جعلها جميعها كبائر زاجرة فهو أبلغ في الزجر.
قال أبو محمد: وقد نص الله تعالى في القرآن آيات كثيرة لا يحتمل تأويلاً بتكذيب المعجزين لربهم تعالى وليس يمكنهم وجود أي آية ولا سنة يتعلقون بها أصلاً فمنها قوله تعالى: " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " أفلم يكن عنده أصلح من فتنة يضل بها بعض خلقه حاشا لله من هذا الكفر والتعجيز وقال تعالى حاكياً عن الذين أثنى عليهم من مؤمني الجن انهم قالوا: " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ".
قال أبو محمد: وصدقهم الله عز وجل في ذلك إذ لو أنكره لما أورده مثنياً عليهم بذلك وهذا في غاية البيان الذي قد هلك من خالفه وبطل به قول الضلال الملحدين القائلين أن الله تعالى أراد رشد فرعون وإبليس وأنه ليس عنده أصلح ولا يقدر لهما على هدى أصلاً وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس " فليت شعري أي مصلحة لهم في أن يذرأهم لجهنم نعوذ بالله من هذه المصلحة وقال تعالى: " وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته " فصح أنه تعالى هو الذي يقي السيئات وأن الذي رحمه هو الذي وقاه السيئات لأن من لم يقه السيئات فلم يرحمه وبلا شك أن من وقاه السيئات فقد فعل به أصلح بمن لم يقه إياه هذا مع قوله تعالى: " ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " ولا يشك من لدماغه أقل سلامة أو في وجهه من برد الحياء شيء في أن هذا كان أصلح بالكفار من إدخالهم النار بأن لا يؤتهم ذلك الهدى وإن كانوا كما يقولون من دخولهم الجنة بغير استحقاق وقال تعالى: " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " فليت شعري أين فعله تعالى بهؤلاء - نسأل الله أن يجعلنا منهم - من فعله بالذين قال فيهم أنه ختم على قلوبهم وزين لهم سوء أعمالهم وجعل صدورهم ضيقة حرجة إن من ساوى بين الأمرين وقال أن الله تعالى لم يعط هؤلاء إلا ما أعطى هؤلاء ولا أعطى من الهدى والاختصاص محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى والملائكة عليهم السلام إلا ما أعطى إبليس وفرعون وأبا جهل وأبا لهب والذي حاج إبراهيم في ربه واليهود والنصارى والمجوس والمتقيلين والشرط والبغائين والعواهر وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد بل سوى في التوفيق بين جميعهم ولم يقدر لهم على مزيد من الصلاح لقليل من الحياء عديم الدين وما جوابه إلا قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " وقال عز وجل: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ".
قال أبو محمد: فأيما كان أصلح للكفار المخلدين في النار أن يكونوا مع المؤمنين أمة واحدة لا عذاب عليهم أم بعثة الرسل إليهم وهو عز وجل يدري أنهم لا يؤمنون فيكون ذلك سبباً إلى تخليدهم في جهنم وقال تعالى: " وأملي لهم أن كيدي متين " وقال تعالى: " وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ " وقال تعالى: " أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقال تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ".
قال أبو محمد: وهذا غاية البيان في أن الله عز وجل أراد بهم وفعل بهم ما فيه فساد أديانهم وهلاكهم الذي هو ضد الصلاح وإلا فأي مصلحة لهم في أن يستدرجوا إلى البلاد من حيث لا يعلمون وفي الإملاء لهم ليزدادوا إثماً ونص تعالى أن كل ذلك الذي فعله ليس مسارعة لهم في الخير فبطل قول هؤلاء الهلكى جملة والحمد لله رب العالمين وقال تعالى: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً فهل بعد هذا بيان عن الله عز وجل أراد هلاكهم ودمارهم ولم يرد صلاحهم فأمر مترفيها بأوامر خالفوها ففسقوا فدمروا تدميراً " فأيما كان أصلح لهم أن لا يؤمروا فيسلموا أو أن يؤمروا وهو تعالى يدري أنهم لا يأتمرون فيدخلون النار فإن قالوا فاحملوا قوله تعالى أمرنا مترفيها على ظاهره قلنا نعم هكذا نقول ولم يقل تعالى أنه أمرهم بالفسق وإنما قال تعالى أمرناهم فقط وقد نص تعالى على انه لا يأمر بالفحشاء فصح قولنا أيضاً وقال عز وجل: " وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " فنص تعالى على أن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لو تولوا لا يدل قوماً غيرهم لا يكونون أمثالهم وبالضرورة نعلم انه عز وجل إنما أراد خيراً منهم فقد صح أنه عز وجل قادر على أن يخلق أصلح منهم وقال تعالى: " إنا لقادرون على أن نبدل خيراً منهم " وفي هذا كفاية وقال تعالى: " عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " فهل في البيان في أن الله تعالى قادر على أن يفعل أصلح مما فعل وإن عنده تعالى أصلح مما أعطى خلقه أبين أو أوضح أو أصح من إخباره تعالى أنه قادر على أن يبدل نبيه ﷺ الذي هو أحب الناس إليه خيراً من الأزواج اللواتي أعطاه واللواتي هن خير الناس بعد الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد: فبطل قول البقر الشاذة أصحاب الأصلح في أنه تعالى لا يقدر على أصلح مما فعل بعباده.
قال أبو محمد: نسأل الله العافية مما ابتلاهم به ونسأله الهدى الذي حرمهم إياه وكان قادراً قال أبو محمد: كل من منع قدرة الله عز وجل عن شيء مما ذكرنا فلا شك في كفره لأنه عجز ربه تعالى وخالف جميع أهل الإسلام.
قال أبو محمد: وقالوا إذا كان عنده أصلح مما فعل بنا ولم يؤتنا إياه وليس بخيلاً وخلق أفعال عباده وعذبهم عليها ولم يكن ظالماً فلا تنكروا على من قال أنه جسم ولا يشبه خلقه وأنه يقول غير الحق ولا يكون كاذباً. قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه تعالى لم يقل أنه جسم ولو قاله لقلناه ولم يكن ذلك تشبيهاً له بخلقه ولم يقل تعالى أن يقول غير الحق بل قد أبطل ذلك وقطع بأن قوله الحق فمن قال على الله ما لم يقله فهو ملحد كاذب على الله عز وجل وقد قال تعالى أنه خلق كل شيء وخلقنا وما نعمل وأنه لو شاء لهدى كل كافر وأنه غير ظالم ولا بخيل ولا ممسك فقلنا ما قال من كل ذلك ولم نقل ما لم يقل وقلنا ما قام به البرهان العقلي من أنه تعالى خالق كل موجود دونه وأنه تعالى قادر على كل ما يسأل عنه وأنه لا يوصف بشيء من صفات العباد لا ظلم ولا بخل ولا غير ذلك ولم نقل ما قد قام البرهان العقلي على أنه باطل من أنه جسم أو أنه يقول غير الحق وقال بعض أصحاب الأصلح وهو ابن بدد الغزال تلميذ محمد بن شبيب تلميذ النظام بلى إن عند الله ألطافاً لو أتى بها الكفار لآمنوا إيماناً يستحقون معه الثواب إلا أن الثواب قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف لأننا إنما سألناهم هل يقدر الله تعالى على ألطاف إذا أتى بها أهل الكفر آمنوا إيماناً يستحقون به مثل هذا الثواب الذي يؤتيهم على الإيمان اليوم أو أكثر من ذلك الثواب فلا بد لهم من ترك قوله أو يعجز ربه تعالى.
قال أبو محمد: ونسأل جميع أصحاب الأصلح فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن كل من شاهد براهين الأنبياء عليهم السلام ممن لم يؤمن به وصحت عنده بنقل التواتر هل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها أنها شواهد موجبة صدق نبوتهم أم لم يصح ذلك عندهم إلا بغالب الظن وبصفة أنها مما يمكن أن يكون تخييلاً أو سحراً أو نقلاً مدخولاً ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا بل صح ذلك عندهم صحة لا مجال للشك فيها وثبت ذلك في عقولهم بلا شك قلنا لهم هذا هو الاضطرار نفسه الذي لا اضطرار في العالم غيره وهذه صفة كل من ثبت عنده شيء ثباتاً متيقناً كمن يتيقن بالخبر الموجب للعلم موت فلان وكون صفين والجمل وكسائر ما لم يشاهد المرء بحواسه فالكل على هذا مضطرون إلى الإيمان لا مختارون له وإن قالوا لم يصح عندهم شيء من ذلك هذه الصحة قلنا لهم فما قامت عليهم حجة النبوة قط ولا صحت لله تعالى عليهم حجة ومن كان هكذا فاختياره للإيمان إنما هو استحباب وتقليد واتباع لما مالت إليه نفسه وغلب في ظنه فقط وفي هذا بطلان جميع الشرائع وسقوط حجة الله تعالى
الكلام في هل لله تعالى نعمة على الكفار أم لا
قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في هذه المسألة فقالت المعتزلة أن نعم الله تعالى على الكفار في الدين والدنيا كنعمه على المؤمنين ولا فرق وهذا قول فاسد قد نقضناه آنفاً ولله الحمد وقالت طائفة أخرى إن الله تعالى لا نعمة له على كافر أصلاً لا في دين ولا دنيا وقالت طائفة له تعالى عليهم نعم في الدنيا فأم في الدين فلا نعمة له عليهم فيه أصلاً.
قال أبو محمد: قال الله عز وجل: " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " قال أبو محمد: فوجدنا الله عز وجل يقول: " الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " وقال تعالى: " الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم ".
قال أبو محمد: فهذا عموم بالخطاب بإنعام الله تعالى على كل من خلق الله تعالى وعموم لمن يشكر من الناس والكفار من جملة ما خلق الله تعالى بلا شك وأما أهل الإسلام فكلهم شاكر لله تعالى بالإقرار به ثم يتفاضلون في الشكر وليس أحد من الخلق يبلغ كل ما عليه من شكر الله تعالى فصح أن نعم الله تعالى في الدنيا على الكفار كهي على المؤمنين وربما أكثر في بعضهم في بعض الأوقات قال تعالى: " بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وهذا نص جلي على نعم الله تعالى على الكفار وأنهم بدلوها كفراً فلا يحل لأحد أن يعارض كلام ربه تعالى برأيه الفاسد وأما نعمة الله في الدين فإن الله تعالى أرسل إليهم الرسل هادين لهم إلى ما يرضى الله تعالى وهذه نعمة عامة بلا شك فلما كفروا وجحدوا نعم الله تعالى في ذلك أعقبهم البلاء وزوال النعمة كما قال عز وجل: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وبالله تعالى نتأيد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد
قال أبو محمد: اختلف الناس في ماهية الإيمان فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري البصري و أصحابهما وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا هو قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وذهب قوم إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار باللسان معاً فإذا عرف المرء الدين بقلبه وأقر بلسانه فهو مسلم كامل الإيمان والإسلام وإن الأعمال لا تسمى إيماناً ولكنها شرائع الإيمان وهذا قول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه وجماعة من الفقهاء وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح وأن كل طاعة وعمل خير فرضاً كان أو نافلة فهي إيمان وكلما ازداد الإنسان خيراً ازداد إيمانه وكلما عصى نقص إيمانه وقال محمد بن زياد الحريري الكوفي من آمن بالله عز وجل وكذب برسول الله ﷺ فليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق ولكنه مؤمن كافراً معاً لأنه آمن بالله تعالى فهو مؤمن وكافر بالرسول ﷺ فهو كافر.
قال أبو محمد: فحجة الجهمية والكرامية والأشعرية ومن ذهب مذهب أبي حنيفة حجة واحدة وهي أنهم قالوا إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين وبلغة العرب خاطبنا الله تعالى ورسول الله ﷺ والإيمان في اللغة هو التصديق فقط والعمل بالجوارح لا يسمى في اللغة تصديقاً فليس إيماناً قالوا والإيمان هو التوحيد والأعمال لا تسمى توحيداً فليست إيماناً قالوا ولو كانت الأعمال توحيداً وإيماناً لكان من ضيع شيئاً منها قد ضيع الإيمان وفارق الإيمان فوجب أن لا يكون مؤمناً قالوا وهذه الحجة إنما تلزم أصحاب الحديث خاصة لا تلزم الخوارج ولا المعتزلة لأنهم يقولون بذهاب الإيمان جملة بإضاعة الأعمال.
قال أبو محمد: ما لهم حجة غير ما ذكرنا وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلاً لما نذكره إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: إن الإيمان هو التصديق في اللغة فهذا حجة على الأشعرية والجهمية والكرامية مبطلة لأقوالهم إبطالاً تاماً كافياً لا يحتاج معه إلى غيره وذلك قولهم أن الإيمان في اللغة التي بها نزل القرآن هو التصديق فليس كما قالوا على الإطلاق وما سمي فقط التصديق بالقلب دون التصديق باللسان إيماناً في لغة العرب وما قال قط عربي أن من صدق شيئاً قلبه فأعلن التكذيب به بقلبه وبلسانه فإنه يسمى مصدقاً به أصلاً ولا مؤمناً به البتة وكذلك ما سمي قط التصديق باللسان دون التصديق بالقلب إيماناً في لغة العرب أصلاً على الإطلاق ولا يسمى تصديقاً في لغة العرب ولا إيماناً مطلقاً إلا من صدق بالشيء بقلبه ولسانه معاً فبطل تعلق الجهمية والأشعرية باللغة جملة ثم نقول لمن ذهب مذهب أبي حنيفة في أن الإيمان إنما هو التصديق باللسان والقلب معاً وتعلق في ذلك باللغة إن تعلقكم باللغة لا حجة لكم فيه أصلاً لأن اللغة يجب فيها ضرورة أن كل من صدق بشيء فإنه مؤمن به وأنتم والأشعرية والجهمية والكرامية كلكم توقعون اسم الإيمان ولا تطلقونه إلا على صفة محدودة دون سائر الصفات وهي من صدق بالله عز وجل وبرسوله ﷺ وبكل ما جاء به القرآن والبعث والجنة والنار والصلاة والزكاة وغير ذلك مما قد أجمعت الأمة على انه لا يكون مؤمناً من لم يصدق به وهذا خلاف اللغة مجرد فإن قالوا أن الشريعة أوجبت علينا هذا قلنا صدقتم فلا تتعلقوا باللغة حيث جاءت الشريعة بنقل اسم منها عن موضوعه في اللغة كما فعلتم آنفاً سواء بسواء ولا فرق.
قال أبو محمد: ولو كان ما قالوه صحيحاً لوجب أن يطلق اسم الإيمان لكل من صدق بشيء ما ولكان من صدق بإلاهية الحلاج وبإلاهية المسيح وبإلاهية الأوثان مؤمنين لأنهم مصدقون بما صدقوا به وهذا لا يقوله أحد مما ينتمي إلى الإسلام بل قائله كافر عند جميعهم ونص القرآن بكفر من قال بهذا قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " فهذا الله عز وجل شهد بأن قوماً يؤمنون ببعض الرسل وبالله تعالى ويكفرون ببعض فلم يجز مع ذلك أن يطلق عليهم اسم قال أبو محمد: وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا.
قال أبو محمد: فبطل تعلق هذه الطوائف باللغة جملة وأما قولهم أنه لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقد أضاع الإيمان ووجب أن لا يكون مؤمناً فإني قلت لبعضهم وقد ألزمني هذا الإلزام كلاماً تفسيره وبسطه إننا لا نسمي في الشريعة اسماً إلا بأن يأمرنا الله تعالى أن نسميه أو يبيح لنا الله بالنص أن نسميه لأننا لا ندري مراد الله عز وجل منا إلا بوحي وارد من عنده علينا ومع هذا فإن الله عز وجل يقول منكراً لمن سمي في الشريعة شيئاً بغير إذنه عز وجل: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " وقال تعالى: " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " فصح أنه لا تسمية مباحة لملك ولا لأنس دون الله تعالى ومن خالف هذا فقد افترى على الله عز وجل الكذب وخالف القرآن فنحن لا نسمي مؤمناً إلا من سماه الله مؤمناً ولا نسقط الإيمان بعد وجوبه إلا عمن أسقطه الله عز وجل عنه ووجدنا بعض الأعمال التي سماها الله عز وجل إيماناً لم يسقط الله عز وجل اسم الإيمان عن تاركها فلم يجز لنا أن نسقطه عنه لذلك لكن نقول انه ضيع بعض الإيمان ولم يضيع كله كما جاء النص على ما نبين إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلاً فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معاً بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء البتة إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله ﷺ أوقع لفظة الإيمان على العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء وأوقعها أيضاً تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها وأوقعها أيضاً على أعمال الجوارح بكل ما هو طاعة له تعالى فقط فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به وهو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء ولا عجب أعجب ممن أن وجد لامرئ القيس أو لزهير أو لجرير أو الحطيئة أو الطرماح أو لأعرابي أسدي أو سلمي أو تميمي أو من سائر أبناء العرب بوال على عقبيه لفظاً في شعر أو نثر جعله في اللغة وقطع به ولم يعترض فيه ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاماً لم يلتفت إليه ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ويحرفه عن مواضعه ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه وإذا وجد لرسول الله ﷺ كلاما فعل به مثل ذلك وتالله لقد كان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم قبل أن يكرمه الله تعالى بالنبوة وأيام كونه فتى بمكة بلا شك عند كل ذي مسكة من عقل أعلم بلغة قومه وأفصح فيها وأولى بأن يكون ما نطق به من ذلك حجة من كل خندفي وقيسي وربيعي وإيادي وتميمي وقضاعي وحميري فكيف بعد أن اختصه الله تعالى للنذارة واجتباه للوساطة بينه وبين خلقه وأجرى على لسانه كلامه وضمن حفظه وحفظ ما يأتي به فأي ضلال أضل ممن يسمع لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يقول: فعلت فروع الأيهقان وأطفلت لجلهتين ظباؤها ونعامها فجعله حجة وأبو زياد الكلابي يقول ما عرفت العرب قط الأيهقان وإنما هو اللهق بيت معروف ويسمع قول بن أحمر كناه نقلق عن مأموسة الحجر وعلماء اللغة يقولون أنه لم يعرف قط لأحد من العرب أنه سمى النار مأموسة إلا ابن أحمر فيجعله حجة ويجيز قول من قال من الأعراب هذا حجر من خرب وسائر الشواذ عن معهود اللغة مما يكثر لو تكلفنا ذكره ونحتج بكل ذلك ثم يمتنع من إيقاع اسم الإيمان على ما أوقعه عليه الله تعالى ورسوله ﷺ محمد بن عبد الله القرشي المسترضع في بني سعد بن بكر ويكابر في ذلك بكل باطل وبكل حماقة وبكل دفع للمشاهدة ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فمن الأيات التي أوقع الله تعالى فيها اسم الإيمان على أعمال الديانة قوله عز وجل: " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ".
قال أبو محمد: والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن البتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها أما أن يصدق بما اعتقد وأقر وأما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما فهي الشك فمن المحال أن يكون إنساناً مكذباً بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك في أن معنى التصديق إنما هو أن يقطع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقاً به وإن لم يكن مصدقاً به فليس مؤمناً به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلاً ولا في الاعتقاد البتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس ها هنا إلا الأعمال فصح يقيناً أن أعمال البر إيمان بنص القرآن وكذلك قول الله عز وجل: " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً " وقوله تعالى: " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً " فإن قال قائل معنى زيادة الإيمان ها هنا إنما هو لما نزلت تلك الآية صدقوا بها فزادهم بنزولها إيماناً تصديقاً بشيء وارد لم يكن عندهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا محال لأنه قد اعتقد المسلمون في أول إسلامهم أنهم مصدقون بكل ما يأتيهم به نبيهم عليه الصلاة والسلام في المستأنف فلا يزدهم نزول الآية تصديقاً لم يكونوا اعتقدوه فصح أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قط ولا كان جائزاً لهم أن يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا في ما سواه ولا عدد للاعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط فإن قالوا أن تلاوتهم لها زيادة إيمان قلنا صدقتم وهذا هو قولنا والتلاوة عمل بجارحة اللسان ليس إقراراً بالمعتقد ولكنه من نوع الذكر بالتسبيح والتهليل وقال تعالى: " وما كان الله ليضيع إيمانكم " ولم يزل أهل الإسلام قبل الجهمية والأشعرية والكرامية وسائر المرجئة مجمعين على أنه تعالى إنما عنى بذلك صلاتهم إلى بيت المقدس قبل أن ينسخ بالصلاة إلى الكعبة وقال عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً " وقال عز وجل: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " فنص تعالى على أن عبادة الله تعالى في حال إخلاص الدين له تعالى وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواردتين في الشريعة كله دين القيمة وقال تعالى: " إن الدين عند الله الإسلام " وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " فنص تعالى أن الدين هو الإسلام ونص قبل على أن العبادات كلها والصلاة والزكاة هي الدين فأنتج ذلك يقيناً أن العبادات هي الدين والدين هو الإسلام فالعبادات هن الإسلام وقال عز وجل: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وفال تعالى: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " فهذا نص جلي على أن الإسلام هو الإيمان وقد وجب قبل بما ذكرنا أن أعمال البر كلها هي الإسلام والإسلام هو الإيمان فأعمال البر كلها إيمان وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى وأقسم بنفسه أن لا يكون مؤمناً إلا بتحكيم النبي ﷺ في كل ما عن ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به فصح يقيناً أن الإيمان اسم واقع على الأعمال في كل ما في الشريعة وقال تعالى: " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً فصح أن لا يكون التصديق مطلقاً إيماناً إلا حتى يستضيف إليه ما نص الله تعالى عليه ومما يتبين أن الكفر يكون بالكلام قول الله عز وجل: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً " إلى قوله " يا ليتني لم أشرك بربي أحداً " فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى إذ شك في البعث وقال تعالى: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " فصح أن من آمن ببعض الدين وكفر بشيء منه فهو كافر مع صحة تصديقه لما صدق من ذلك.
قال أبو محمد: وأكثر الأسماء الشرعية فإنها موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية ويدري الأسماء الشرعية كالصلاة فإن موضوع هذه اللفظة في لغة العرب الدعاء فقط فأوقعها الله عز وجل على حركات محدودة معدودة من قيام موصوف إلى جهة موصوفة لا تتعدى وركوع كذلك وسجود كذلك وقعود كذلك وقراءة وذكر كذلك في أوقات محدودة وبطهارة محدودة وبلباس محدود متى لم تكن على ذلك بطلت ولم تكن صلاة وما عرفت العرب قط شيئاً من هذا كله فضلاً على أن تسميه حتى أتانا بهذا كله رسول الله ﷺ وقد قال بعضهم أن في الصلاة دعاء فلم يخرج الاسم بذلك عن موضوعه في اللغة.
قال أبو محمد: وهذا باطل لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة في أن من أتى بعدد الركعات وقرأ أم القرآن وقرآناً معها في كل ركعة وأتى بعد الركوع والسجود والجلوس والقيام والتشهد وصلى على النبي ﷺ وسلم بتسليمتين فقد صلى كما أمر وإن لم يدع بشيء أصلاً وفي الفقهاء من يقول أن من صلى خلف الإمام فلم يقرأ أصلاً ولا تشهد ولا دعا أصلاً فقد صلى كما أمر وأيضاً فإن ذلك الدعاء في الصلاة لا يختلف أحد من الأمة في أنه ليس شيئاً ولا يسمى صلاة أصلاً عند أحد من أهل الإسلام فعلى كل قد أوقع الله عز وجل اسم الصلاة على أعمال غير الدعاء ولا بد وعلى دعاء محدود لم تعرفه العرب قط ولا عرفت إيقاع الصلاة على دعاء بعينه دون سائر الدعاء ومنها الزكاة وهي موضوع في اللغة للنماء والزيادة فأوقعها الله تعالى إعطاء مال محدود معدود من جملة أموال ما موصوفة محدودة معدودة معينة دون سائر الأموال لقوم محدودين في أوقات محدودة فإن هو تعدى شيئاً من ذلك لم يقع على فعله ذلك اسم زكاة ولم تعرف العرب قط هذه الصفات والصيام في لغة العرب الوقوف تقول صام النهار إذا طال حتى صار كأنه واقف بطوله قال امرئ القيس: إذا صام النهار وهجرا وقال آخر وهو النابغة الذبياني: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما فأوقع الله تعالى اسم الصيام على الامتناع من الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء من وقت محدود تبين الفجر الثاني إلى غروب الشمس في أوقات من السنة محدودة فإن تعدى ذلك لم يسم صياماً وهذا أمر لم تعرفه العرب قط فظهر فساد قول من قال أن الأسماء لا تنقل في الشريعة عن موضعها في اللغة وصح أن قولهم هذا مجاهرة سمجة قبيحة.
قال أبو محمد: فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال أنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هو عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله ﷺ المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن " قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها.
قال أبو محمد: ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقاً لأن التصديق لا يتبعض أصلاً ولصار شكاً وبالله تعالى التوفيق وهم مقرون بأن امرأ لو لم يصدق بآية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه فصح أن التصديق لا يتبعض أصلاً.
قال أبو محمد: وقد نص الله عز وجل على أن اليهود يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم وأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " واخبر تعالى عن الكفار فقال: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " فأخبر تعالى أنهم يعرفون صدقه ولا يكذبونه وهم اليهود والنصارى وهم كفار بلا خلاف من أحد من الأمة ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه عن الإسلام ونص تعالى عن إبليس أنه عارف بالله تعالى وبملائكته وبرسله وبالبعث وأنه قال: " رب فأنظرني إلى يوم يبعثون " وقال: " قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ " وقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين " وكيف لا يكون مصدقاً بكل ذلك وهو قد شاهد ابتداء خلق الله تعالى لآدم وخاطبه الله تعالى خطاباً كثيرا وسأله ما منعك أن تسجد وأمره بالخروج من الجنة وأخبره أنه منظر إلى يوم الدين وأنه ممنوع من إغواء من سبقت له الهداية وهو مع ذلك كله كافر بلا خلاف أما بقوله عن آدم أنا خير منه وأما بامتناعه للسجود لا يشك أحد في ذلك ولو كان الإيمان هو بالتصديق والإقرار فقط لكان جميع المخلدين في النار من اليهود والنصارى وسائر الكفار مؤمنين لأنهم كلهم مصدقون بكل ما كذبوا به في الدنيا مقرون بكل ذلك ولكان إبليس واليهود والنصارى في الدنيا مؤمنين ضرورة وهذا كفر مجرد ممن أجازه وإنما كفر أهل النار بمنعهم من الأعمال قال تعالى: " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ".
قال أبو محمد: فلجأ هؤلاء المخاذيل إلى أن قالوا إن اليهود والنصارى لم يعرفوا قط أن محمداً رسول الله ومعنى قول الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أي أنهم يميزون صورته ويعرفون أن هذا الرجل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي فقط وأن معنى قوله تعالى يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل إنما هو انهم يجدون سواداً في بياض لا يدرون ما هو ولا يفهمون معناه وإن إبليس لم يقل شيئاً مما ذكر الله عز وجل عنه انه قال مجداً بل قاله هاذلاً وقال هؤلاء أيضاً أنه ليس على ظهر الأرض ولا كان قط كافر يدري أن الله حق وأن فرعون قط لم يتبين له أن موسى نبي بالآيات التي عمل.
قال أبو محمد: وقالوا إذا كان الكافر يصدق أن الله حق والتصديق إيمان في اللغة فهو مؤمن إذا أوفيه إيمان ليس به مؤمناً وكلا القولين محال.
قال أبو محمد: هذه نصوص أقوالهم التي رأيناها في كتبهم وسمعناها فهم وكان مما احتجوا به لهذا الكفر المجرد أن قالوا أن الله عز وجل سمى كل من ذكرنا كفاراً ومشركين فدل ذلك على أنه علم أن في قلوبهم كفراً وشركاً وجحداً وقال هؤلاء أن شتم الله عز وجل وشتم رسول الله ﷺ ليس كفراً لكنه دليل على أن في قلبه كفراً.
قال أبو محمد: وأما قولهم في أخبار الله تعالى عن اليهود أنهم يعرفون رسول الله ﷺ كما يعرفون أبناءهم وعن اليهود والنصارى أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فباطل بحت ومجاهرة لا حياء معها لأنه لو كان كما ذكروا لما كان في ذلك حجة لله تعالى عليهم وأي معنى أو أي فائدة في أن يجيزوا صورته ويعرفوا انه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقط أو في أن يجدوا كتابا لا يفقهون معناه فكيف ونص الآية نفسها مكذبة لهم لأنه تعالى يقول الذين آتيناهم الكتابة يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقاً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون فنص تعالى أنهم يعلمون الحق في نبوته وقال في الآية الأخرى: " يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وإنما أورد تعالى معرفتهم لرسول الله ﷺ محتجاً عليهم بذلك لا أنه أتى من ذلك بكلام لا فائدة فيه وأما قولهم في إبليس فكلام داخل في الاستخفاف بالله عز وجل وبالقرآن لا وجه له غير هذا إذ من المحال الممتنع في العقل وفي الإمكان غاية الامتناع أن يكون إبليس يوافق في هزله عين الحقيقة في الله تعالى كرم آدم عليه السلام عليه وأنه تعالى أمره بالسجود فامتنع وفي أن الله تعالى خلق آدم من طين وخلقه من نار وفي أخباره آدم أن الله تعالى نهاه عن الشجرة وفي دخوله الجنة وخروجه عنها إذ أخرجه الله تعالى وفي سؤاله الله تعالى النظرة وفي ذكره يوم يبعث العباد وفي أخباره أن الله تعالى أغواه وفي تهديده ذرية آدم قبل أن يكونوا وقد شاهد الملائكة والجنة وابتداء خلق آدم ولا سبيل إلى موافقة هازل معنيين صحيحين لا يعلمها فكيف بهذه الأمور العظيمة وأخرى أن الله تعالى حاشا له من أن يجب هازلاً بما يقتضيه معنى هزله فإنه تعالى أمره بالسجود ثم سأله عما منعه من السجود ثم أجابه إلى النظرة التي سأل ثم أخرجه عن الجنة وأخبره أنه يعصم منه من شاء من ذرية آدم وهذه كلها معان من دافعها خرج عن الإسلام لتكذيبه القرآن وفارق المعقول لتجويزه هذه المحالات ولحق بالمجانين الوقحاء وأما قولهم أن أخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليلاً على أن في قلوبهم كفراً وأن شتم الله تعالى ليس كفر ولكنه دليل على أن في القلب كفراً وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط فهذه منهم دعاوي كاذبة مفتراة لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم ابن صفوان وما كان هكذا فهو باطل وإفك وزور فسقط قولهم هذا من قرب ولله الحمد رب العالمين فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول والحس والمشاهدة الضرورية فأما القرآن فإن الله عز وجل يقول: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " وقال تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " فأخبر تعالى بأنهم يصدقون بالله تعالى وهم مع ذلك مشركون قال تعالى: " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ".
قال أبو محمد: هذه شهادة من الله مكذبة بقول هؤلاء الضلال لا يردها مسلم أصلاً.
قال أبو محمد: وبلغنا عن بعضهم انه قال في قول الله تعالى: " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " إن هذا إنكار من الله تعالى لصحة معرفتهم بنبوة رسول الله ﷺ قال وذلك لأن الرجال لا يعرفون صحة أبنائهم على الحقيقة وإنما هو ظن منهم. قال أبو محمد: وهذا كفر وتحريف للكلم عن مواضعه ويرد ما شئت منه.
قال أبو محمد: فأول ذلك أن هذا الخطاب من الله تعالى عموم للرجال و النساء من الذين أوتوا الكتاب لا يجوز أن يخص به الرجال دون النساء فيكون من فعل ذلك مفترياً على الله تعالى وبيقين يدري كل مسلم أن رسول الله ﷺ بعث إلى النساء كما بعث إلى الرجال والخطاب بلفظ الجمع المذكر يدخل فيه بلا خلاف من أهل اللغة النساء والرجال وقد علمنا أن النساء يعرفن أبناءهن على الحقيقة بيقين والوجه الثاني هو أن الله تعالى لم يقل كما يعرفون من خلقنا من نطفتهم فكان يسوغ لهذا الجاهل حينئذ هذا التمويه البارد باستكراه أيضاً وإنما قال تعالى كما يعرفون أبناءهم فأضاف تعالى البنوة إليهم فمن لم يقل أنهم أبناءهم بعد أن جعلهم الله أبناءهم فقد كذب الله تعالى وقد علمنا أنه ليس كل من خلق من نطفة رجل يكون ابنه فولد الزنا مخلوق من نطفة الإنسان ليس هو أباه في حكم الديانة أصلاً وإنما أبناؤنا من جعلهم الله أبناؤنا فقط كما أن الله تعالى جعل أزواج رسول الله ﷺ أمهات المؤمنين منهن أمهاتنا وإن لم يلدننا ونحن أبناءهن وإن لم نخرج من بطونهن فمن أنكر هذا فنحن نصدقه لأنه حينئذ ليس مؤمناً فلسن أمهاته ولا هو ابن لهن والوجه الثالث هو أن الله تعالى إنما أورد الآية مبكتاً للذين أوتوا الكتاب لا معتذراً عنه لكن مخبراً بأنهم يعرفون صحة نبوة النبي ﷺ بآياته وبما وجدوا في التوراة والإنجيل معرفة قاطعة لا شك فيها كما يعرفون أبناءهم ثم أتبع ذلك تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم عالمون به فبطل هذر هذا الجاهل المخذول والحمد لله رب العالمين وقال عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فنص تعالى على أن الرشد قد تبين من الغي عموماً وقال تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى " وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " وهذا نص جلي من خالفه كفر في أن الكفار قد تبين لهم الحق والهدى في التوحيد والنبوة وقد تبين له الحق فبيقين يدري أن كل ذي حس سليم مصدق بلا شك بقلبه وقال تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ".
قال أبو محمد: وهذا أيضاً نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق ولم يجحدوا قط أنها كانت وإنما جحدوا أنها من عند الله فصح أن الذي استيقنوا منها هو الذي جحدوا وهذا يبطل قول من قال من هذه الطائفة أنهم إنما استيقنوا كونها زهي عندهم حيل لا حقائق إذ لو كان ذلك لكان هذا القول من الله تعالى كذباً تعالى الله عن ذلك لأنهم لم يجحدوا كونها وإنما جحدوا أنها من عند الله وهذا الذي جحدوا هو الذي استيقنوا بنص الآية وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام انه قال لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " فمن قال أن فرعون لم يعلم أن الله تعالى حق ولا علم أن معجزات موسى حق من عند الله تعالى فقد كذب ربه تعالى وهذا كفر مجرد وقد شغب بعضهم بأن هذه الآية قرأت لقد علمت بضم التاء.
قال أبو محمد: وكلا القراءتين حق من عند الله تعالى لا يجوز أن يرد منهما شيء فنعم موسى عليه السلام علم ذلك وفرعون علم ذلك فهذه نصوص القرآن وأما من طريق المعقول والمشاهدة والنظر فإنا نقول لهم هل قامت حجة الله تعالى على الكفار كما قامت على المؤمنين بتبين براهينه عز وجل لهم أم لم تقم حجة لله تعالى عليهم قط إذ لم يتبين الحق قط لكافر فإن قالوا أن حجة الله تعالى لم تقم قط على كافر إذ لم يتبين الحق للكفار كفروا بلا خلاف من أحد وعذروا الكفار وخالفوا الإجماع وإن أقروا أن حجة الله تعالى قد قامت على الكفار بأن الحق تبين لهم صدقوا ورجعوا إلى الحق وإلى قول أهل الإسلام وبرهان آخر أن كل أحد مذ عقلنا لم نزل نشاهد اليهود والنصارى فما سمعهم أحد إلا مقرين بالله تعالى وبنبوة موسى عليه السلام وأن الله تعالى حرم على اليهود العمل في السبت والتحوم فمن الباطل أن يتواطؤوا كلهم في شرق الأرض و غربها على إعلان ما يعتقدون خلافه بلا سبب داع إلى ذلك وبرهان آخر وهو أننا قد شاهدنا من النصارى واليهود طوائف لا يحصى عددهم أسلموا وحسن إسلامهم وكلهم أولهم عن آخرهم يخبر من استخبره متى بقوا أنهم في إسلامهم يعرفون أن الله تعالى حق وأن نبوة موسى وهارون حق كما كانوا يعرفون ذلك في أيام كفرهم ولا فرق ومن أنكر هذا قد كابر عقله وحسه ولحق بمن لا يستحق أن يكلم وبرهان آخر وهو انهم لا يختلفون في أن نقل التواتر يوجب العلم الضروري فوجب من هذين الحكمين أن اليهود والنصارى الذين نقل إليهم ما أتى به عليه السلام من المعجزات نقل التواتر قد وقع لهم به العلم الضروري بصحة نبوته من أجلها وهذا لا محيد لهم عنه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله ﷺ فهو دعوى لأن الله تعالى قال: " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر وقال تعالى: " أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم " فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع وقال تعالى: " قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر فخرج عن الإيمان ولم يفعل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبكم كفراً بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى وقال عز وجل: " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ".
قال أبو محمد: وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره فصح أن النسيء كفر وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه وكل من حرم ما أحل الله تعالى فقد أحل ما حرم الله عز وجل لأن الله تعالى حرم على الناس أن يحرموا ما أحل الله وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن أعلن جحد الله تعالى أو جحد رسوله الله ﷺ فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً وإما القتل أخذ الجزية وسائر أحكام الكفر وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا فكروا في هذا لا رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه ولا أحد ممن بعدهم وأما قولهم إذا الكفار إذا كانوا مصدقين بالله تعالى وبنبيه ﷺ بقلوبهم والتصديق في اللغة التي نزل القرآن هو الإيمان ففيهم بلا شك إيمان فالواجب أن يكونوا بإيمانهم ذلك مؤمنين أو أن يكون فيهم إيمان ليسوا بكونهم فيهم مؤمنين ولا بد من أحد الأمرين.
قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد لأن التسمية كما قدمنا لله تعالى لا لأحد دونه وقد أوضحنا البراهين على أن الله تعالى نقل اسم إيمان في الشريعة عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وحرم في الديانة إيقاع اسم الإيمان على التصديق المطلق ولولا نقل الله تعالى للفظة الإيمان كما ذكرنا لوجب أن يسمى كل كافر على وجه الأرض مؤمناً وأن يخبر عنهم بأن فيهم إيماناً لأنهم مؤمنون ولا بد بأشياء كثيرة مما في العالم يصدقون بها هذا لا ينكره ذو مسكة من عقل فلو صح إجماعنا وإجماعهم وإجماع كل من ينتمي إلى الإسلام على انهم وإن صدقوا بأشياء كثيرة فإنه لا يحل لأحد أن يسميهم مؤمنين على الإطلاق ولا أن يقول أن لهم إيماناً مطلقاً أصلاً لم يجز لأحد أن يقول في الكافر المصدق بقلبه ولسانه بأن الله تعالى حق والمصدق بقلبه أن محمد رسول الله أنه مؤمن ولا أن فيه إيماناً أصلاً إلا حتى يأتي بما نقل الله تعالى إليه اسم الإيمان من التصديق بقلبه ولسانه بأن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دينه ثم يتمادى بإقراره على ما لا يتم إيمان إلا بالإقرار به حتى يموت لكنا نقول أن في الكافر تصديقاً بالله تعالى هو به مصدق بالله تعالى وليس بذلك مؤمناً ولا فيه إيمان كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر جهم والأشعري.
قال أبو محمد: فبطل هذا القول المتفق على تكفير قائله وقد نص على تكفيرهم أبو عبيد القاسم في كتابه المعروف برسالة الإيمان وغيره ولنا كتاب كبير نقضنا فيه شبه أهل هذه المقالة الفاسدة كتبناه على رجل منهم يسمى عطاف بن دوناس من أهل قيروان إفريقية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان فإنهم احتجوا بأن النبي ﷺ وجميع أصحابه رضي الله عنهم وكل من بعدهم قد صح إجماعهم على أن من أعلن بلسانه بشهادة الإسلام فإنه عندهم مسلم محكوم له بحكم الإسلام وبقول رسول الله ﷺ في السوداء أعتقها فإنها مؤمنة وبقوله ﷺ لعمه أبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه أما الإجماع المذكور فصحيح وإنما حكمنا لهم بحكم الإيمان في الظاهر ولم نقطع على أنه عند الله تعالى مؤمن وهكذا قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بما أرسلت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وبحسابهم على الله وقال عليه السلام من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه وأما قوله عليه السلام في السوداء أنها مؤمنة فظاهر الأمر كما قال عليه السلام إذ قال له خالد بن الوليد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال عليه السلام إني لم أبعث لأشق عن قلوب الناس وأما قوله لعمه أحاج لك بها عند الله فنعم يحاج بها على ظاهر الأمر وحسابه على الله تعالى فبطل كل ما موهوا به ثم نبين بطلان قولهم إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى نتأيد أنه يبين بطلان قول هؤلاء قول الله عز وجل: " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وقوله عز وجل: " وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً ".
قال أبو محمد: فإن قالوا إنما هذه الآية بمعنى أن هذه الأفعال تدل على أن في القلب إيماناً قلنا لهم لو كان ما قلتم لوجب ولا بد أن يكون ترك من ترك شيئاً من هذه الأفعال دليلاً على أنه ليس في قلبه إيمان وأنتم لا تقولون هذا أصلاً مع أن هذا صرف للآية عن وجهها وهذا لا يجوز إلا ببرهان وقولهم هذا دعوى بلا برهان وقال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأولئك هم الصادقون " وقال تعالى: " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا " فأثبت عز وجل لهم الإيمان الذي هو التصديق ثم أسقط عنا ولايتهم إذ لم يهاجروا فأبطل بذلك إيمانهم المطلق ثم قال تعالى: " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " فصح يقيناً أن هذه الأعمال إيمان حق وعدمها ليس إيماناً وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فنص عز وجل في هذه الآية على من آمن بلسانه ولم يعتقد الإيمان بقلبه فإنه كافر ثم أخبرنا تعالى بالمؤمنين من هم وأنهم الذين آمنوا وأيقنوا بألسنتهم وقلوبهم معاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأخبر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون.
قال أبو محمد: ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقرارهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " وقال تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " فقطع الله تعالى عليهم بالكفر كما ترى لأنهم أبطنوا الكفر.
قال أبو محمد: وبرهان آخر وهو أن الإقرار باللسان دون عقد القلب لا حكم له عند الله عز وجل لأن أحدنا يلفظ بالكفر حاكياً وقارئاً له في القرآن فلا يكون بذلك كافراً حتى يقرأنه عقده.
قال أبو محمد: فإن احتج بهذا أهل المقالة وقالوا هذا يشهد بأن الإعلان بالكفر ليس كفراً قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما لله تعالى فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل و الإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق قال تعالى: " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره عن أن يكون بذلك كافراً إلى رضى الله عز وجل والإيمان ولما قال تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى على الإيمان وبقي من أظهر الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله ﷺ بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر وليس قول الله عز وجل ولكن من شرح بالكفر صدراً على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط بل كان من نطق بالكلام الذي يحكم لقائل عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارياً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً بمعنى أنه أن يقولوه وسواء اعتقده أو لم يعتقده لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به فبطل تمويههم بهذه الآية وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " فنص الله تعالى على الإيمان أنه شيء قبل نفي الارتياب ونفي الارتياب لا يكون ضرورة إلا بالقلب وحده فصح أن الإيمان إذ هو قبل نفي الارتياب شيء آخر غير نفي الارتياب والذي قبل نفي الارتياب هو القول باللسان ثم التصديق بالقلب والجهاد مع ذلك بالبدن والنفس والمال فلا يتم الإيمان بنص كلام الله عز وجل إلا بهذه الأقسام كلها فبطل بهذا النص قول من زعم أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده أو القول باللسان وحده أو كلاهما فقط دون العمل بالبدن وبرها آخر وهو أن نقول لهم أخبرونا عن أهل النار المخلدين فيها الذين ماتوا على الكفر أهم حين كونهم في النار عارفون بقلوبهم صحة التوحيد والنبوة الذي بجحدهم لكل ذلك ادخلوا النار وهل هم حينئذ مقرون بذلك بألسنتهم أم لا ولابد من أحدهما فإن قالوا هم عارفون بكل ذلك مقرون به بألسنتهم وقلوبهم قلنا أنهم مؤمنون أم غير مؤمنين فإن قالوا هم غير مؤمنين قلنا قد تركتم قولكم أن الإيمان هو المعرفة بالقلب أو الإقرار باللسان فقط أو كلاهما فقط فإن قالوا هذا حكم الآخرة قلنا لهم فإذ جوزتم نقل الأسماء عن موضوعها في اللغة في الآخرة فمن أين منعتم من ذلك في الدنيا ولم تجوزوه لله عز وجل فيها وليس في الحماقة أكثر من هذا وإن قالوا بل هم مؤمنون قلنا لهم فالنار إذاً أعدت للمؤمنين لا للكافرين وهي دار المؤمنين وهذا خلاف القرآن والسنن وإجماع أهل الإسلام المتقين وإن قالوا بل هم غير عارفين بالتوحيد ولا بصحة النبوة في حال كمنهم في النار أكذبهم نصوص القرآن وكذبوا ربهم عز وجل في إخبار أنهم عارفون بكل ذلك هاتفون به بألسنتهم راغبون في الرجعة والإقالة نادمون على ما سلف منهم وكذبوا نصوص المعقول وجاهروا بالمحال إذ جعلوا من شاهد القيمة والحساب والجزاء غير عارف بصحة ذلك فصح بهذا أنه لا إيمان ولا كفر إلا ما سماه الله تعالى إيماناً وكفراً وشركاً فقط ولا مؤمن ولا كافر ولا مشرك إلا من سماه الله تعالى بشيء من ذلك أما في القرآن وأما على لسان النبي ﷺ.
قال أبو محمد: وأما من قال أن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح فلا نكفر من قال بهذه المقالة وإن كانت خطأ وبدعة واحتجوا بأن قالوا أخبرونا عمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وبريء من كل دين حاشا الإسلام وصدق بكل ما جاء به النبي ﷺ واعتقد ذلك لقلبه ومات إثر ذلك أمؤمن هو أم لا فإن جوابنا أنه مؤمن بلا شك عند الله عز وجل وعندنا قالوا فأخبرونا أناقص الإيمان هو أم كامل الإيمان قالوا فإن قلتم أنه كامل الإيمان فهذا قولنا وإن قلتم أنه ناقص الإيمان سألناكم ماذا نقصه من الإيمان وماذا مع الإيمان.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها هذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالاً منه حتى يبلغ الأمر إلى رسول الله ﷺ الذي لا أحد أتم إيماناً منه بمعنى أحسن أعمالاً منه وأما قولهم ما الذي نقصه من الإيمان فإنه نقصه الأعمال التي عملها غيره والتي ربنا عز وجل أعلم بمقاديرها.
قال أبو محمد: ومما يبين أن اسم الإيمان في الشريعة منقول عن موضوعه في اللغة وإن الكفر أيضاً كذلك فإن الكفر في اللغة التغطية وسمي الزراع كافراً لتغطيته الحب وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء قال الله عز وجل: " فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " وقال تعالى: " كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ " يعني الزراع وقال لبيد بن ربيعة: يمينها ألقت زكاة في كافر يعني الليل ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن أو جحد شيء مما أتى به رسول الله ﷺ مما صح عند جاحده بنقل الكافة أو عمل شيء قام البرهان بأن العمل به كفر مما قد بيناه في كتاب الإيصال والحمد لله رب العالمين فلو أن إنساناً قال أن محمداً عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وكذلك لو قال أن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر وهو يريد مؤمنون بدين الكفر فصح عند كل ذي مسكة من يتحيز أن اسم الإيمان والكفر منقولان في الشريعة عن موضوعهما في اللغة بيقين لا شك فيه وأنه لا يجوز إيقاع اسم الإيمان المطلق على معنى التصديق بأي شيء صدق به المرء ولا يجوز إيقاع اسم الكفر على معنى التغطية لأي شيء غطاه المرء لكن على ما أوقع الله تعالى عليه اسم الإيمان واسم الكفر ولا مزيد وثبت يقيناً أن ما عدا هذا ضلال مخالف للقرآن وللسنن ولإجماع أهل الإسلام أولهم عن آخرهم وبالله تعالى التوفيق وبقي حكم التصديق على حاله في اللغة لا يختلف في ذلك إنسي ولا جني ولا كافر ولا مؤمن فكل من صدق بشيء فهو مصدق به فمن صدق بالله تعالى وبرسوله ﷺ ولم يصدق بما لا يتم الإيمان إلا به فهو مصدق وبالله تعالى وبرسوله ﷺ وليس مؤمناً ولا مسلماً لكنه كافر مشرك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق والحمد لله رب العالمين.
الطبقات الثلاث المذكورة
قال أبو محمد: إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان قلنا وبالله تعالى التوفيق إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا فمن تلك المعاني شيء يكون الكفر ضداً له ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضد له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضاً فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو كل ما كان من الأعمال تطوعاً فإن تركه ضد العمل به وليس فسقاً ولا كفراً برهان ذلك ما ذكرناه من ورود النصوص بتسمية الله عز وجل أعمال البر كلها إيماناً وتسميته تعالى ما سمي كفراً وما سمي فسقاً وما سمي معصية وما سمي إباحة لا معصية ولا كفراً ولا إيماناً وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد غيره فإن قال قائل منهم أليس جحد الله عز وجل بالقلب فقط لا باللسان كفراً فلا بد من نعم قال فيجب على هذا أن يكون التصديق باللسان وحده إيماناً فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا كان يصح لكم لو كان التصديق بالقلب وحده أو باللسان وحده إيماناً وقد أوضحنا آنفاً أنه ليس شيء من ذلك على انفراده إيماناً وأنه ليس إيماناً إلا ما سماه الله عز وجل إيماناً وليس الكفر إلا ما سماه الله عز وجل كفراً فقط فإن قال قائل من أهل الطائفة الثالثة أليس جحد الله تعالى بالقلب وباللسان هو الكفر كله فكذلك يجب أن يكون الإقرار بالله تعالى باللسان والقلب هو الإيمان كله قلنا وبالله تعالى نتأيد ليس شيء مما قلتم بل الجحد بشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر والنطق بشيء من كل ما قام البرهان أن النطق به كفر كفر والعمل بشيء مما قام البراهين بأنه كفر كفر فالكفر يزيد وكلما زاد فيه فهو كفر والكفر ينقص وكله مع ذلك ما بقي منه وما نقص فكله كفر وبعض الكفر أعظم وأشد وأشنع من بعض وكله كفر وقد أخبر تعالى عن بعض الكفر أنه تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً وقال عز وجل: " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " ثم قال: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " وقال تعالى: " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " فأخبر تعالى أن قوماً يضاعف له العذاب فإذا كل هذا قول الله عز وجل وقوله الحق فالجزاء على قدر الكفر بالنص وبعض الجزاء أشد من بعض بالنصوص ضرورة والإيمان يتفاضل بنصوص صحاح وردت عن رسول الله ﷺ والجزاء عليه في الجنة يتفاضل بلا خلاف فإن قال من الطبقتين الأولتين أليس من قولكم من عرف الله عز وجل والنبي ﷺ وأقر بهما بقلبه فقط إلا أنه منكر بلسانه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر وكذلك من قولكم أن من أقر بالله عز وجل وبرسوله ﷺ بلسانه فقط إلا أنه منكر بقلبه لكل ذلك أو لبعضه فإنه كافر.
قال أبو محمد: فجوابنا نعم هكذا نقول قالوا فقد وجب من قولكم إذا كان بما ذكرنا كافراً أن يكون فعله ذلك كفراً ولا بد إذ لا يكون كافراً إلا بكفره فيجب على قولكم أن الإقرار بالله تعالى وبرسوله ﷺ بالقلب كفر ولا بد ويكون الإقرار بالله تعالى أيضاً وبرسوله ﷺ باللسان أيضاً كفر ولا بد أنكم تقولون أنهما إيمان فقد وجب على قولكم أن يكونا كفراً إيماناً معاً وفاعلهما كافراً مؤمناً معاً وهذا كما ترون.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وإلزام كاذب سموه لأننا لم نقل قط أن من اعتقد وصدق بقلبه فقط بالله تعالى وبرسوله ﷺ وأنكر بلسانه ذلك أو بعضه فإن اعتقاده لتصديق ذلك كفر ولا أنه كان بذلك كافراً وإنما قلنا أنه كفر بترك إقراره بذلك بلسانه فهذا هو الكفر وبه صار كافراً وبه أباح الله تعالى دمه أو أخذ الجزية منه بإجماعكم معنا وإجماع جميع أهل الإسلام وكان تصديقه بقلبه فقط بكل ذلك لغواً محيطاً كأنه لم يكن ليس إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " وبالضرورة يدري كل مسلم أن من حبط عمله وبطل فقد سقط حكمه وتأثيره ولم يبق له رسم وكذلك لم نقل أن من أقر بلسانه وحده بالله تعالى وبرسوله ﷺ وجحد بقلبه أن إقراره بذلك بلسانه كفر ولا أنه كان به كافراً لكنه كان كافراً بجحده بقلبه لما جحد من ذلك وجحده لذلك هو الكفر وكان إقراره بكل ذلك لغواً محبطاً كما ذكرنا لا إيماناً ولا كفراً ولا طاعة ولا معصية وبالله تعالى التوفيق فسقط هذا الإيهام الفاسد فإن قال قائل منهم أليس بعض الإيمان إيماناً وبعض الكفر كفراً وأراد أن يلزمنا من هذا أن العقد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح إذا كان ذلك إيماناً فإبعاضه إذا انفردت إيمان أو أن نقول أن إبعاض الإيمان ليست إيماناً فيموه بهذا.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا نقول ونصرح أنه ليس بعض الإيمان إيماناً أصلاً بل الإيمان متركب من أشياء إذا اجتمعت صارت إيماناً كالبلق ليس السواد وحده بلقاً ولا البياض وحده بلقاً فإذا اجتمعا صارا بلقاً وكالباب ليس الخشب وحده باباً ولا المسامير وحدها باباً فإذا اجتمعا على شكل سمي حينئذ باباً وكالصلاة فإن القيام وحده ليس صلاة ولا الركوع وحده صلاة ولا الجلوس وحده صلاة ولا القراءة وحدها صلاة ولا الذكر وحده صلاة ولا استقبال القبلة وحده صلاة أصلاً فإذا اجتمع كل ذلك سمي المجتمع حينئذ صلاة وكذلك الصيام المفترض والمندوب إليه ليس صيام كل ساعة من النهار على انفرادها صياماً فإذا اجتمع صيامها كلها يسمى صياماً وقد يقع في اليوم الأكل والجماع والشراب سهواً فلا يمنع ذلك من أن يكون صيامه صحيحاً والتسمية لله عز وجل كما قدمنا لا لأحد دونه بل من الإيمان شيء إذا انفرد كان كفراً كمن قال مصدقاً بقلبه لا إله إلا الله محمد رسول الله فهذا إيمان فلو أفرد لا إله وسكت سكوتاً قطع كفر بلا خلاف من أحد ثم نسألهم فنقول لهم فإذا انفرد صيامه أو صلاته دون إيمان أهي طاعة فمن قولهم لا فقد صاروا فيما أرادوا أن يموهوا به علينا من أن إبعاض الطاعات إذا انفردت لم تكن طاعة بل كانت معصية وإذا اجتمعت كانت طاعة.
قال أبو محمد: فإن قالوا إذا كان النطق باللسان عندكم إيماناً فيجب إذاً عدم النطق بأن يسكت الإنسان بعد إقراره أن يكون سكوته كفراً فيكون بسكوته كافراً قلنا إن هذا يلزمنا عندكم فما تقولون إن سألكم أصحاب محمد من كرام فقالوا لكم إذا كان الاعتقاد بالقلب هو الإيمان عندكم فيجب إذا سها عن الاعتقاد وإحضاره ذكره أما في حال حديثه مع من يتحدث أو في حال فكره أو نومه أن يكون كافراً وأن يكون ذلك السهو كفراً فجوابهم أنه محمول على ما صح منه من الإقرار باللسان.
قال أبو محمد: ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم أن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول ﷺ إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفراً لكنه دليل على أن في القلب كفراً أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم أتقطعون به فتثبتونه يقيناً ولا تشكون في أن في قلبه جحداً للربوبية وللنبوة أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر ولا بد من أحدهما فإن قالوا أنه دليل لا نقطع به قطعاً ولا نثبته يقيناً قلنا لهم فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وأعجب من هذا أنكم إنما قلتم أن إعلان الكفر إنما قلنا أنه دليل على أن في القلب كفراً لأن الله تعالى سماهم كفاراً فلا يمكننا رد شهادة الله تعالى فعاد هذا البلاء عليكم لأنكم قطعتم أنها شهادة الله عز وجل ثم لم تصدقوا شهادته ولا قطعتم بها بل شككتم فيها وهذا تكذيب من لا خفاء به وأما نحن فمعاذ الله من أن نقول أو نعتقد أن الله تعالى شهد بهذا قط بل من أدعى أن الله شهد بأن من أعلن الكفر فإنه جاحد بقلبه فقد كذب على الله عز وجل وافترى عليه بل هذه شهادة الشيطان الذي أضل بها أولياءه وما شهد الله تعالى إلا بضد هذا وبأنهم يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمد رسول الله ﷺ حقاً ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم كما فعل بإبليس وأهل الكتاب وغيرهم وإن قالوا بل يثبت بهذا الدليل ونقطع به ونوقن أن كل من أعلن بما يوجب إطلاق اسم الكفر عليه في الشريعة فإنه جاحد بقلبه لهم وبالله تعالى التوفيق هذا باطل من وجوه - أولها - أنه دعوى بلا برهان - وثانيها - أنه علم غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل والذي يضمره وقد قال رسول الله ﷺ أني لم أبعث لأشق على قلوب الناس فمدعى هذا مدعى علم غيب ومدعي علم الغيب كاذب - وثالثها - أن القرآن والسنن كما ذكرنا قد جاءت النصوص فيهما بخلاف هذا كما تلونا قبل - ورابعها - إن كان الأمر كما تقولون فمن أين اقتصرتم بالإيمان على عقد القلب ولم تراعوا إقرار اللسان وكلاهما عندكم مرتبط بالآخر لا يمكن انفرادهما وهذا يبطل قولكم أنه إذا اعتقد الإيمان بقلبه لم يكن كافراً بإعلانه الكفر فجوزتم أن يكون يعلن الكفر من يبطن الإيمان فظهر تناقض مذهبهم وعظيم فساده - وخامسها - أنه كان يلزمهم إذا كان إعلان الكفر باللسان دليلاً على الجحد بالقلب والكفر به ولا بد فإن إعلان الإيمان باللسان يجب أيضاً أن يكون دليلاً قاطعاً باتاً ولا بد على أن في القلب إيماناً وتصديقاً لا شك فيه لأن الله تعالى سمى هؤلاء مؤمنين كما سمى أولئك كفاراً ولا فرق بين الشهادتين فإن قالوا أن الله تعالى قد أخبر عن المنافقين المعلنين بالإيمان المبطنين للكفر والجحد قيل لهم وكذلك أعلمنا الله تعالى وأخبرنا أن إبليس وأهل الكتاب والكفار بالنبوة إنهم يعلنون الكفر ويبطنون التصديق ويؤمنون بأن الله تعالى حق وأن رسوله حق يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولا فرق وكل ما موهتم به من الباطل والكذب في هؤلاء أمكن للكرامية مثله سواء بسواء في المنافقين وقالوا لم يكفروا قط بإبطانهم الكفر لما سماهم الله بأنهم آمنوا ثم كفروا علمنا أنهم نطقوا بعد ذلك بالكفر والجحد بشهادة الله تعالى بذلك كما أدعيتم أنتم شهادته تعالى على ما في نفوس الكفار ولا فرق.
قال أبو محمد: وكلتا الشاهدتين من هاتين الطائفتين كذب على الله عز وجل وما شهد الله عز وجل قط على إبليس وأولى الكتاب بالكفر إلا بما أعلنوه من الاستخفاف بالنبوة وبآدم وبالنبي ﷺ فقط ولا شهد تعالى قط على المنافقين بالكفر إلا بما أبطنوه من الكفر فقط وأما هذا فتحريف للكلم عن مواضعه وأفك مفتري ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وانظروا قولهم قالوا مثل هذا أن يقول رسول الله ﷺ لا يدخل هذه الدار اليوم إلا كافر أو يقول كل من دخل هذه الدار اليوم فهو كافر قالوا فدخول تلك الدار دليل على أنه يعتقد الكفر لا أن دخول الدار كفر.
قال أبو محمد: وهذا كذب وتمويه ضعيف بأن دخول تلك الدار في ذلك اليوم كفر محض مجرد وقد يمكن أن يكون الداخل فيها مصدقاً بالله تعالى وبرسوله ﷺ إلا أن تصديقه ذلك قد حبط بدخوله الدار برهان ذلك أنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن دخول تلك الدار لا يحل البتة لعائشة ولا لأبي بكر ولا لعلي ولا لأحد من أزواج النبي ﷺ ولا لأحد من أصحابه رضي الله عنهم كما أن الله تعالى قد نص على أنه علم ما في قلوبهم وأنزل السكينة عليهم وإذ ذلك كذلك فقد وجب ضرورة أن هؤلاء رضي الله عنهم لو دخلوا تلك الدار لكانوا كفاراً بلا شك بنفس دخولهم فيها ولحبط إيمانهم فإن قالوا لو دخلها هؤلاء لم يكفروا كانوا هم قد كفروا لأنهم بهذا القول قاطعون بأن كلامه ﷺ كذب في قوله لا يدخلها إلا كافر واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً قال أبو محمد: فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول ملعون ملعون قائل هذا البيت وملعون ملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافراً وإنما هي قضية عقلية فالعقل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل: " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله أن الكلام لفي الفؤاد واللسان دليل على الفؤاد فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه وحسبنا الله ونعم الوكيل فإن قالوا أن الله عز وجل قال: " ولتعرفنهم في لحن القول " قلنا لولا أن الله عز وجل عرفه بهم ودله عليهم بلحن القول ما كان لحن قولهم دليلاً عليهم ولم يطلق الله تعالى هذا على كل أحد بل على أولئك خاصة بل قد نص تعالى على آخرين بخلاف ذلك إذ يقول: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فهؤلاء من أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق لم يعلمهم قط رسول الله ﷺ بلحن قولهم ولو أن الناس لم يضربوا قط كلام ربهم تعالى بعضه ببعض وأخذوه كله على مقتضاه لاهتدوا لكن " من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " وقد قال عز وجل: " إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ " فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق وبعد أن تبين لهم الهدى بقوله للكفار ما قالوا فقط وأخبرنا تعالى أنه يعرف أسرارهم ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق بل قد صح أن في سرهم التصديق لأن الهدى قد تبين لهم ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً وأخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي ﷺ دون جحد كان منهم أصلاً ولو كان منهم جحد لشعروا له والله تعالى أخبرنا لأن ذلك يكون وهم لا يشعرون فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد.
قال أبو محمد: فإن قال قائل من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد من خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معاً فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلهما بمزاج يداخله من كيفية أخرى ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين أو في ما جاز امتزاج الضدين فيه كما نجد بين الخضرة والبياض وسائط من حمرة وصفرة تمازجهما فتولد حينئذ بالممازجة الشدة والضعف وكالصحة التي هي اعتدال مزاج العضو فإذا مازج ذلك الاعتدال فضل ما كان مرضه بحسب ما مازجه في الشدة والضعف والشجاعة إنما هي استسهلال النفس والثبات والإقدام عند المعارضة في اللقاء فإذا ثبت الاثنان فإثباتاً واحداً وأقدما إقداماً مستوياً فهما في الشجاعة سواء وإذا ثبت أحدهما أو أقدم فوق ثبات الآخر وإقدامه كان أشجع منه وكان الآخر قد مازج ثباته أو إقدامه جبن وأما ما كان من الكيفيات لا يقبل المزاج أصلاً فلا سبيل إلى وجود التفاضل فيه وكل ذلك على حسب ما خلقه الله عز وجل من كل ذلك ولا مزيد كاللون فإنه لا سبيل إلى أن يكون لون أشد دخولاً في أنه لون من لون آخر إذ لو مازج الصدق غيره لصار كذباً في الوقت ولو مازج تصديق شيء غيره لصار شكاً في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق والإيمان قد قلنا أنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق وهكذا قال رسول الله ﷺ أنه يخرج من النار من في قلبه إذ قالوا شعيرة من إيمان ثم من في قلبه مثقال برة من أيمان ثم من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى أدنى أدنى من ذلك إنما أراد عليه السلام من قصد إلى عمل شيء من الخير أو هم به ولم يعمله بعد أيكون مصدقاً بقلبه بالإسلام مقراً بلسانه كما في الحديث قال أبو محمد: ومن النصوص على أن الأعمال إيمان قول الله تعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً وأقسم تعالى بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكم رسوله ﷺ فيما شجر بينه وبين غيره ثم يسلم لما حكم به عليه السلام ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى وهذه كلها أعمال باللسان وبالجوارح غير التصديق بلا شك وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد: ومن العجب قولهم أن الصلاة والصيام والزكاة ليست إيماناً لكنها شرائع الإيمان.
قال أبو محمد: هذه تسمية لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله ﷺ ولا أحداً من الصحابة رضي الله عنهم بل الإسلام هو الإيمان وهو الشرائع والشرائع هي الإيمان والإسلام وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واختلف الناس في الكفر والشرك فقالت طائفة هي اسمان واقعان على معنيين وإن كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً وقال هؤلاء لا شرك الأقوال من جعل لله شريكاً قال هؤلاء اليهود والنصارى كفاراً لا مشركون وسائر الملل كفار مشركون وهو قول أبي حنيفة وغيره وقال آخرون الكفر والشرك سواء وكل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر وهو قول الشافعي قال أبو محمد: واحتجت الطائفة الأولى بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين " قالوا ففرق الله تعالى بين الكفار والمشركين وقالوا لفظة الشرك مأخوذة من الشريك فمن لم يجعل الله تعالى شريكاً فليس مشركاً.
قال أبو محمد: هذه عمدة حجتهم ما نعلم لهم حجة غير هاتين.
قال أبو محمد: أما احتجاجهم بقول الله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " فلو لم يأت في هذا المعنى غير هذا المعنى غير هذه الآية لكانت حجتهم ظاهرة لكن الذي أنزل هذه الآية هو القائل: " اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقال تعالى: " وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ " وقال تعالى عنهم أنهم قالوا أن الله ثالث ثلاثة وهذا كله تشريك ظاهر لإخفائه فإذ قد صح الشرك والتشريك في القرآن من اليهود والنصارى فقد صح أنهم مشركون وأن الشرك والكفر اسمان لمعنى واحد وقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لنا فإذ ذلك كذلك فقد صح أن قوله تعالى: " الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " كقوله تعالى: " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن المنافقين كفار وكقوله تعالى: " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " ولا خلاف في أن جبريل وميكائيل من جملة الملائكة وكقوله تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ " والرمان الرمان من الفاكهة والقرآن نزل بلغة العرب والعرب تعيد الشيء باسمه وإن كانت قد أجملت ذكره تأكيداً لأمره فبطل تعلق من تعلق بتفريق الله تعالى بين الكفار والمشركين في اللفظ وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأن لفظ الشرك مأخوذ من الشريك فقد قلنا أن التسمية لله عز وجل لا لأحد دونه وله تعالى أن يوقع أي أسم شاء على أي مسمى شاء برهان ذلك أن من أشرك بين عبدين له في عمل ما أو بين اثنين في هبة وهبها لهما فإنه لا يطلق عليه اسم مشرك ولا يحل أن يقال أن فلاناً أشرك ولا أن عمله شرك فصح أنها لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها في اللغة كما أن الكفر لفظة منقولة أيضاً عن موضوعها إلى ما أوقعها الله تعالى عليه والتعجب من أهل هذه المقالة وقولهم أن النصارى ليسوا مشركين وشركهم أظهر وأشهر من أن يجهله أحد لأنهم يقولون كلهم بعبادة الأب والابن وروح القدس وأن المسيح إله حق ثم يجعلون البراهمة مشركين وهم لا يقرون إلا بالله وحده ولقد كان يلزم أهل هذه المقالة أن لا يجعلوا كافراً إلا من جحد الله تعالى فقط فإن قال قائل كيف اتخذ اليهود والنصارى أرباباً من دون الله وهم ينكرون هذا قلنا وبالله تعالى التوفيق أن التسمية لله عز وجل فما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم ويحلون ما أحلوا كانت هذه ربوبية صحيحة وعبادة صحيحة قد دانوا بها وسمى الله تعالى هذا العمل باتخاذ أرباب من دون الله وعبادة وهذا هو الشرك بلا خلاف كما سمي كفرهم بأن رسول الله ﷺ نبي ناسخ لما هم عليه كفر بالله عز وجل وإن كانوا مصدقين به تعالى لكن لما أحبط الله تعالى تصديقهم سقط حكمه جملة فإن قالوا كيف تقولون أن الكفار مصدقون بالله تعالى والله تعالى يقول: " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " ويقول تعالى: " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " قلنا وبالله تعالى نتأيد إن كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه فلا بد له من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به أورد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به ولم يقل الله تعالى الذي كذب بالله عز وجل لكن قال كذب وتولى ولا قال تعالى و أما إن كان من المكذبين بالله وإنما قال تعالى من المكذبين الضالين فقط فمن كذب بأمر من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب على الإطلاق كما سماه الله تعالى وإن كان مصدقاً لله تعالى وبمن صدق به.
قال أبو محمد: فإن قالوا كيف تقولون أن اليهود عارفون بالله تعالى والنصارى والله تعالى يقول " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب قلنا وبالله تعالى التوفيق قد قلنا أن التسمية إلى الله عز وجل لا لأحد دونه وقلنا أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة عن التصديق المجرد إلى معنى آخر زائد مع التصديق فلما لم يستوفوا تلك المعاني بطل تصديقهم جملة واستحقوا ببطلانه أن يسموا غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر فإن قيل فهل هم مصدقون بالله وباليوم الآخر قلنا نعم فإن قيل ففيهم موحدون لله تعالى قلنا نعم قيل فيهم مؤمنون بالله وبالرسول وباليوم الآخر قلنا لا لأن الله تعالى نص على كل ما قلنا فأخبر تعالى أنهم يعرفونه ويقرون به ويعرفون نبيه ﷺ وأنه نبي فأقررنا بذلك وأسقط الله عنهم اسم الإيمان فأسقطناه عنهم ومن تعدى هذه الطريقة فقد كذب ربه تعالى وخالف القرآن وعاند الرسول وخرق إجماع أهل الإسلام وكابر حسه وعقله مع ذلك وبالله تعالى التوفيق وهكذا نقول فيمن كان مسلماً ثم أطلق واعتقد ما يوجب الخروج عن الإسلام كالقول بنبوة إنسان بعد النبي ﷺ أو تحليل الخمر أو غير ذلك فإنه مصدق بالله عز وجل وبرسوله ﷺ موحد عالم بكل ذلك وليس مؤمناً مطلقاً ولا مؤمناً بالله تعالى ولا بالرسول ﷺ ولا باليوم الآخر لما ذكرنا آنفاً ولا فرق لإجماع الأمة كلها على استحقاق اسم الكفر على من ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.
وهل الإيمان والإسلام اسمان لمسمى واحد ومعنى واحد أو لمسميين ومعنيين
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإسلام والإيمان اسمان واقعان على معنيين وأنه قد يكون مسلم غير مؤمن واحتجوا بقول الله عز وجل: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ إذ قال له سعد هل لك يا رسول الله في فلان فإنه مؤمن فقال له رسول الله ﷺ: أو مسلم.
وبالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ إذ أتاه جبريل ﷺ في صورة فتى غير معروف العين فسأله عن الإسلام فأجابه بأشياء في جملتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال أخر مذكورة في ذلك الحديث فسأله عن الًسلام فأجابه بأشياء من جملتها أن تؤمن بالله وملائكته وبحديث لا يصح من أن المرء يخرج عن الإيمان إلى الإسلام وذهب آخرون إلى أن الإيمان والإسلام لفظان مترادفان على معنى واحد واحتجوا بقول الله عز وجل: " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " وبقوله تعالى: " يمنون عليك أن أسلموا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ".
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الإيمان أصله في اللغة التصديق على الصفة التي ذكرنا قبل ثم أوقعه الله عز وجل في الشريعة على جميع الطاعات واجتناب المعاصي إذا قصد بكل ذلك من عمل أو ترك وجه الله عز وجل وإن الإسلام أصله في اللغة التبرؤ تقول أسلمت أمر كذا إلى فلان إذا تبرأت منه إليه فسمي المسلم مسلماً لأنه تبرأ من كل شيء إلى الله عز وجل ثم نقل الله تعالى اسم الإسلام أيضاً إلى جميع الطاعات وأيضاً فإن التبرؤ إلى الله من كل شيء هو معنى التصديق فإنه لا يبرأ إلا الله تعالى من كل شيء حتى يصدق به فإذا أريد بالإسلام المعنى الذي هو خلاف الكفر خلاف الفسق فهو والإيمان شيء واحد كما قال تعالى: " يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " وقد يكون الإسلام أيضاً بمعنى الاستسلام أي أنه استسلم للعلة خوف القتل هو غير معتقد لها فإذا أريد بالإسلام هذا المعنى فهو غير الإيمان وهو الذي أراد الله تعالى بقوله: " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " وبهذا تتألف النصوص المذكورة من القرآن والسنن وقد قال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " وقال رسول الله ﷺ لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة فهذا هو الإسلام الذي هو الإيمان فصح أن الإسلام لفظة مشتركة كما ذكرنا ومن البرهان على أنها لفظة منقولة عن موضوعها في اللغة أن الإسلام في اللغة هو التبرؤ فأي شيء تبرأ منه المرء فقد أسلم من ذلك الشيء وهو مسلم كما أن من صدق بشيء فقد آمن به وهو مؤمن به وبيقين لا شك فيه يدري كل واحد أن كل كافر على وجه الأرض فإنه مصدق بأشياء كثيرة من أمور دنياه ومتبرئ من أشياء كثيرة ولا يختلف اثنين من أهل الإسلام في أنه لا يحل لأحد أن يطلق على الكفار من أجل ذلك أنه مؤمن ولا أنه مسلم فصح يقيناً أن لفظة الإسلام والإيمان منقولة عن موضوعها في اللغة إلى معان محددة معروفة لم تعرفه العرب قط حتى أنزل الله عز وجل بها الوحي على رسوله ﷺ أنه من أتى بها استحق اسم الإيمان والإسلام وسمي مؤمناً مسلماً ومن لم يأت بها لم يسم مؤمناً ولا مسلماً وإن صدق بكل شيء غيرها أو تبرأ من كل شيء حاشى ما أوجبت الشريعة التبرأ منه وكذلك الكفر والشرك لفظتان منقولتان عن موضوعهما في اللغة لأن الكفر في اللغة التغطية والشرك أن تشرك شيئاً مع آخر في أي معنى جمع بينهما ولا خلاف بين أحد من أهل التمييز في أن كل مؤمن في الأرض في أنه يغطي أشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز أن يطلق عليه من أجل ذلك الكفر ولا الشرك ولا أن يسمى كافراً ولا مشركاً وصح يقيناً أن الله تعالى نقل اسم الكفر والشرك إلى إنكار أشياء لم تعرفها العرب وإلى أعمال لم تعرفها العرب قط كمن جحد الصلاة أو صوم رمضان أو غير ذلك من الشرائع التي لم تعرفها العرب قط حتى أنزل الله تعالى بها وحيه أو كمن عمد وثناً فمن أتى بشيء من تلك الأشياء سمي كافراً لا مشركاً ومن لم يأت بشيء من تلك الأشياء لم يسم كافراً أو مشركاً ومن خالف هذا فقد كابر الحس وجحد العيان وخالف الله تعالى ورسوله ﷺ والقرآن والسنن وإجماع المسلمين وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واختلف الناس في قول المسلم أنا مؤمن فروينا عن ابن مسعود وجماعة من أصحابه الأفاضل ومن بعده من الفقهاء أنه كره ذلك وكان يقول أنا مؤمن إن شاء الله وقال بعضهم آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وكانوا يقولون من قال أنا مؤمن فليقل إنه من أهل الجنة.
قال أبو محمد: فهذا ابن مسعود وأصحابه حجج في اللغة فإن جهال المرجئة الموهومون في نصر بدعتهم.
قال أبو محمد: والقول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه فإن كان يدري أنه مصدق بالله عز وجل وبمحمد ﷺ وبكل ما أتى به عليه السلام وأنه يقر بلسانه بكل ذلك فواجب عليه أن يعترف بذلك كما أمر تعالى إذ قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " ولا نعمة أوكد ولا أفضل ولا أولى بالشكر من نعمة الإسلام فواجب عليه أن يقول أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى في وقتي هذا ولا فرق بين قوله أنا مؤمن مسلم وبين قوله أنا أسود أو أنا أبيض وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد قال تعالى: " قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " وقول بن مسعود عندنا صحيح لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة إلى جميع البر والطاعات فإنما منع ابن مسعود من القول بأنه مسلم مؤمن على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات وهذا صحيح ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب ولا شك بلا شك وما منع رضي الله عنه من أن يقول المرء أني مؤمن بمعنى مصدق كيف وهو يقول قل آمنت بالله ورسله أي صدقت وأما من قال فقل أنك في الجنة فالجواب أننا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن فلا بد لنا من الجنة بلا شك وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع من آمن بالله ورسوله ﷺ وبكل ما جاء به ولم يأت بما هو كفر فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا ولا نأمن مكر الله تعالى ولا إضلاله ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غداً ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: اختلف الناس في تسمية المذنب من أهل ملتنا فقالت المرجئة هو مؤمن كامل الإيمان وإن لم يعمل خيراً قط ولا كف عن شر قط وقال بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد هو كافر مشرك كعابد الوثن بأي ذنب كان منه صغيراً أو كبيراً ولو فعله على سبيل المزاح وقالت الصغرية إن كان الذنب من الكباير فهو مشرك كعابد الوثن وإن كان الذنب صغيراً فليس كافراً وقالت الأباضية إن كان الذنب من الكبائر فهو كافر نعمة تحل موارثته ومناكحته وأكل ذبيحته وليس مؤمناً ولا كافراً على الإطلاق وروي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما أن صاحب الكبيرة منافق وقالت المعتزلة إن كان الذنب من الكبائر فهو فاسق ليس مؤمناً ولا كافراً ولا منافقاً وأجازوا مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته قالوا وإن كان من الصغاير فهو مؤمن لا شيء عليه فيها وذهب أهل السنة من أصحاب الحديث والفقهاء إلى أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان وقالوا الإيمان اسم معتقده وإقراره وعمله الصالح والفسق اسم عمله السيء إلا أن بين السلف منهم والخلف اختلافاً في تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها وتارك الصوم لو مضى كذلك وتارك الزكاة وتارك الحج كذلك وفي قاتل المسلم عمداً وفي شارب الخمر وفيمن سب نبياً من الأنبياء عليهم السلام وفيمن رد حديثاً قد صح عنده عن النبي ﷺ فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك وأحمد بن حنبل واسحق ابن راهوية رحمة الله عليهم وعن تمام سبعة عشرة رجلاً من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها فإنه كافر مرتد وبهذا يقول عبد الله ابن الماجشون صاحب مالك وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره وروينا عن عمر رضي الله عنه مثل ذلك في تارك الحج وعن ابن عباس وغيره مثل ذلك في تارك الزكاة والصيام وفي قاتل المسلم عمداً وعن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمرو بن العاص في شارب الخمر وعن اسحق بن راهوية أن من رد حديثاً صحيحاً عنده عن النبي ﷺ فقد كفر.
قال أبو محمد: واحتج من كفر المذنبين بقول الله عز وجل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وبقوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " فهؤلاء كلهم ممن كذب وتولى والمكذب المتولي كافر فهؤلاء كفار.
قال أبو محمد: والعجب أن المرجئة المسقطة للوعيد جملة عن المسلمين قد احتجوا بهذه الآية نفسها فقالوا قد أخبرنا أن الله عز وجل أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى فصح أن من لم يكذب ولا تولى لا يصلاها قالوا ووجدنا هؤلاء كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان فصح أنهم لا يصلونها وأن المراد بالوعيد المذكور في الآيات المنصوصة إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة.
قال أبو محمد: واحتج أيضاً من كفر من ذكرنا بأحاديث كثيرة منها سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرو حين ينهبها وهو مؤمن وترك الصلاة شرك وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ومثل هذا كثير.
قال أبو محمد: وما نعلم لمن قال هو منافق حجة أصلاً ولا لمن قال أنه كافر نعمة إلا أنهم نزعوا بقول الله عز وجل: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن كفر النعمة عمل يقع من المؤمن والكافر وليس هو ملة ولا اسم دين فمن ادعى اسم دين وملة غير الإيمان المطلق والكفر المطلق فقد أتى بما لا دليل عليه وأما من قال هو فاسق لا مؤمن ولا كافر فما لهم حجة أصلاً إلا أنهم قالوا قد صح الإجماع على انه فاسق لأن الخوارج قالوا هو كافر فاسق وقال غيرهم هو مؤمن فاسق فاتفقوا قال أبو محمد: وهذا خلاف لإجماع من ذكر لأنه ليس منهم أحد جعل الفسق اسم دينه وإنما سموا بذلك عملهم والإجماع والنصوص قد صح كل ذلك على أنه لا دين إلا الإسلام أو الكفر من خرج من أحدهما دخل في الآخر ولا بد إذ ليس بينهما وسيطة وكذلك قال رسول الله ﷺ: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " وهذا حديث قد أطبق جميع الفرق المنتمية إلى الإسلام على صحته وعلى القول به فلم يجعل عليه السلام ديناً غير الكفر والإسلام ولم يجعل هاهنا ديناً ثالثاً أصلاً.
قال أبو محمد: واحتجت المعتزلة أيضاً بأن قالت قال الله تعالى: " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى قال: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون " فصح أن هؤلاء الذين سماهم الله تعالى مجرمين و فساقاً وأخرجهم عن المؤمنين نصاً فإنهم ليسوا على دين الإسلام وإذا لم يكونوا على دين الإسلام فهم كفار بلا شك إذ لا دين ها هنا غيرهما أصلاً برهان هذا قوله تعالى: " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وقد علمنا ضرورة أنه لا دار إلا الجنة والنار وأن الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون المسلمون فقط ونص الله تعالى على أن النار لا يدخلها إلا المكذب المتولي والمتولي المكذب كافر بلا خلاف فلا يخلد في النار إلا كافر ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فصح أنه لا دين إلا الإيمان والكفر فقط وإذ ذلك كذلك فهؤلاء الذين سماهم الله عز وجل مجرمين وفاسقين وأخرجهم عن المؤمنين فهم كفار مشركون لا يجوز غير ذلك وقال المؤمن محمود محسن ولي لله عز وجل والمذنب مذموم مسيء عدو لله قالوا ومن المحال أن يكون إنسان واحد محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً.
قال أبو محمد: وهذا الذي أنكروه لا نكرة فيه بل هو أمر موجود مشاهد فمن أحسن من وجه وأساء من وجه آخر كمن صلى ثم زنى فهو محسن محمود ولي لله فيما أحسن فيه من صلاة وهو مسيء مذموم عدو لله فيما أساء فيه من الزنا قال عز وجل: " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " فبالضرورة ندري أن العمل الذي شهد الله عز وجل أنه سيء فإن عامله فيه مذموم مسيء عاص لله تعالى ثم يقال لهم ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه فقالوا من المحال أن يكون إنساناً واحداً محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله ولياً له معاً ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية وإسقاط الذم والإساءة والعداوة كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة وإسقاط الحمد والإحسان والولاية بما ينفصلون عنهم فإن قالت المعتزلة أن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر قلنا لهم فإن عارضتكم المرجئة فقالت أن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد فإن قالت المعتزلة أن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم أن الله تعالى قد حمد الحسنات ووعد عليها وأراد بذلك تغليب الحمد كما أردتم تغليب الذم فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة.
قال أبو محمد: وهذا ما لا مخلص للمعتزلة منه ولا للمرجئة أيضاً فوضح بهذا أن كلا الطائفتين مخطئة وأن الحق هو جمع كل ما تعلقت به كلتا الطائفتين من النصوص التي في القرآن والسنن ويكفر من هذا كله قول الله عز وجل: " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقال تعالى: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " وقال تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فصح بهذا كله أنه لا يخرجه عن اسم الإيمان إلا الكفر ولا يخرجه عن اسم الكفر إلا الإيمان وأن الأعمال حسنها حسن إيمان وقبيحها قبيح ليس إيماناً والموازنة تقضي على كل ذلك ولا يحبط الأعمال إلا الشرك قال تعالى: " لئن أشركت ليحبطن عملك " وقالوا إذا أقررتم أن أعمال البر كلها إيمان وأن المعاصي ليست أيماناً فهو عندكم مؤمن غير مؤمن قلنا نعم ولا نكرة في ذلك وهو مؤمن بالعمل الصالح غير مؤمن بالعمل السيء كما نقول محسن بما أحسن فيه مسيء غير محسن معاً بما أساء فيه وليس الإيمان عندنا التصديق وحده فيلزمنا التناقض وهذا هو معنى قول النبي ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أي ليس مطيعاً في زناه ذلك وهو مؤمن بسائر حسناته واحتجوا بقول الله تعالى: " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون " ففرق تعالى بين الفسق والإيمان.
قال أبو محمد: نعم وقد أوضحنا أن الإيمان هو كل عمل صالح فبيقين ندري أن الفسق ليس إيماناً فمن فسق فلم يؤمن بذلك العمل الذي هو الفسق ولم يقل عز وجل أنه لا يؤمن في شيء من سائر أعماله وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " فهؤلاء قد شهد الله تعالى لهم بالإيمان فإذا وقع منهم فسق ليس إيماناً فمن المحال أن يبطل فسقه إيمانه في سائر أعماله وأن يبطل إيمانه في سائر الأعمال فسقه بل شهادة الله تعالى له بالإيمان في جهاده حق وبأنه لم يؤمن في فسقه حق أيضاً فإن الله عز وجل قال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص قال أبو محمد: وأما نحن فنقول أن كل من كفر فهو فاسق ظالم عاص وليس كل فاسق ظالم عاص كافراً بل قد يكون مؤمناً وبالله تعالى التوفيق وقد قال تعالى: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " فبعض الظلم مغفور بنص القرآن.
قال أبو محمد: وقالوا قد وجب لعن الفساق والظالمين وقال تعالى: " ألا لعنة الله على الظالمين " والمؤمن يجب ولايته والدعاء له بالرحمة وقد لعن رسول الله ﷺ السارق ومن لعن أباه ومن غير منار الأرض فيلزمكم أن تدعوا على المرء الواحد باللعنة والمغفرة معاً.
قال أبو محمد: فنقول أن المؤمن الفاسق يتولى دينه وملته وعقده وإقراره ويتبرأ من عمله الذي هو الفسق والبراءة والولاية ليست من عين الإنسان مجردة فقط وإنما هي له أو منه بعمله الصالح أو الفاسد فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن المحسن في بعض أفعاله من المؤمنين نتولاه من أجل ما أحسن فيه ونبرأ من عمله السيء فقط وأما الله تعالى فإنه يتولى عمله الصالح عنده ويعادي عمله الفاسد وأما الدعاء باللعنة والرحمة معاً فلسنا ننكره بل هو معنى صحيح وما جاء عن الله قط ولا عن رسول الله ﷺ نهي أن يلعن العاصي على معصيته ويترحم عليه لإحسانه ولو أن امرأ زنى أو سرق وحال الحول على ماله وجاهد لوجب أن يحد للزنا والسرقة ولو لعن لأحسن لاعنه ويعطي نصيبه من المغنم ونقبض زكاة ماله ونصلي عليه عند ذلك لقول الله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " وبيقين ندري أن قد كان في أولئك الذين كان عليهم السلام يقبض صدقاتهم ويصلي عليهم مذنبون عصاة لا يمكن البتة أن يخلوا جميع جزيرة العرب من عاص وكذلك كل من مات في عصره عليه السلام وصلى عليه هو عليه السلام والمسلمون معه وبعده فبيقين ندري أنه قد كان فيهم مذنب بلا شك وإذا صلى عليه ودعا له بالرحمة وإن ذكر عمله القبيح لعن وذم.
قال أبو محمد: ونعكس عليهم هذا السؤال نفسه في أصحاب الصغاير الذين يوقع عليهم المعتزلة اسم الإيمان فهذه السؤالات كلها لازمة لهم إذ الصغاير ذنوب ومعاص بلا شك إلا أننا لا نوقع عليها اسم فسق ولا ظلم إذا انفردت عن الكباير لأن الله تعالى ضمن غفرانها لمن اجتنب الكباير ومن غفر له ذنبه فمن المحال أن يوقع عليه اسم فاسق أو اسم ظالم لأن هذين اسمان يسقطان قبول الشهادة ومجتنب الكباير وإن تستر بالصغاير فشهادته مقبولة لأنه لا ذنب له وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ولنا على المعتزلة الزامات أيضاً تعمهم والخوارج المكفرة ننبه عليها عند نقضنا أقوال المكفرة إن شاء الله تعالى وبه نتأيد.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة كافر قال الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول ونص تعالى على أن القاتل عمداً وولي المقتول أخوان وقد قال تعالى: " إنما المؤمنون أخوة " فصح أن القاتل عمداً مؤمن بنص القرآن وحكم له بأخوة الإيمان ولا يكون للكافر مع المؤمن بتلك الأخوة وقال تعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " فهذه الآية رافعة للشك جملة في قوله تعالى أن الطائفة الباغية على الطائفة الأخرى من المؤمنين المأمور سائر المؤمنين بقتالها حتى تفيء إلى أمر الله تعالى أخوة للمؤمنين المقاتلين وهذا أمر لا يضل عنه إلاضال وهذه الآيتان حجة قاطعة أيضاً على المعتزلة أيضاً المسقطة اسم الإيمان عن القاتل وعن كل من أسقط عن صاحب الكباير اسم الإيمان وليس لأحد أن يقول أنه تعالى إنما جعلهم إخواننا إذا تابوا لأن نص الآية أنهم إخوان في حالة البغي وقبل الفئة إلى الحق.
قال أبو محمد: وقال بعضهم أن هذا الاقتتال إنما هو التضارب.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أنه دعوى بلا برهان وتخصيص الآية بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل بلا شك والثاني أن ضرب المسلم للمسلم ظلماً وبغياً فسق ومعصية ووجه ثالث وهو أن الله تعالى لو لم يرد القتال المعهود لما أمرنا بقتال من لا يزيد على الملاطمة وقد عم تعالى فيها باسم البغي فكل بغي فهو داخل تحت هذا الحكم.
قال أبو محمد: وقد ذكروا قول الله عز وجل: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ".
قال أبو محمد: فهذه الآية بظاهرها دون تأويل حجة لنا عليهم لأنه ليس فيها أن القاتل العامل ليس مؤمناً وإنما فيها نهي المؤمن عن قتل المؤمن عمداً فقط لأنه تعالى قال: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " وهكذا نقول ليس للمؤمن قتل المؤمن عمداً ثم قال تعالى: " إلا خطأ " فاستثنى الله عز وجل الخطاء في القتل من جملة ما حرم من قتل المؤمن للمؤمن لأنه لا يجوز النهي عما لا يمكن الانتهاء عنه ولا يقدر عليه لأن الله تعالى أمننا من أن يكلفنا ما لا طاقة لنا به وكل فعل خطأ فلم ننه عنه بل قد قال تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " فبطل تعلقهم بهذه الآية وكذلك قول رسول الله ﷺ: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " فهو أيضاً على ظاهره وإنما في هذا اللفظ النهي عن أن يرتدوا بعده إلى الكفر فيقتتلوا في ذلك فقط وليس في هذا اللفظ أن القاتل كافر ولا فيه أيضاً النهي عن القتل المجرد أصلاً وإنما نهى عنه في نصوص أخر من القرآن والسنن كما ليس في هذا اللفظ أيضاً نهي عن الزنا ولا عن السرقة وليس في كل حديث حكم كل شريعة فبطل تعلقهم بهذا الخبر وكذلك قوله عليه السلام: " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر " فهو أيضاً على عمومه لأن قوله عليه السلام المسلم هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمداً والمقاتل مؤمنان وكلامه عليه السلام لا يتعارض ولا يختلف وكذلك قوله عليه السلام: " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر لكم أن ترغبوا عن آبائكم " فإنه عليه السلام لم يقل كفر منكم ولم يقل أنه كفر بالله تعالى نعم ونحن نقر أن من رغب عن أبيه فقد كفر بأبيه وجحده ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافر أو فاسق ألم يقل الله عز وجل: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " وقال تعالى: " فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " وقال تعالى: " وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ " وقال تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين " وفي سورة النساء محصنات غير مسافحات فهذه آيات في غاية البيان في أنه ليس في الأرض إلا مؤمن أو كافر أو مؤمنة أو كافرة ولا يوجد دين ثالث وأن المؤمنة حلال نكاحها للمؤمن وحرام نكاحها على الكافر وأن الكتابية حلال للمؤمن بالزواج وللكافر فخبرونا إذا زنت المرأة وهي غير محصنة أو وهي محصنة أو إذا سرقت أو شربت الخمر أو قذفت أو أكلت مال يتيم أو تعمدت ترك الغسل حتى خرج وقت الصلاة وهي عالمة بذلك أو لم تخرج زكاة مالها فكانت عندكم بذلك كافرة أو بريئة من الإسلام خارجة عن الإيمان وخارجة من جملة المؤمنين أيحل للمؤمن الفاضل ابتداء نكاحها والبقاء معها على الزوجية إن كان قد تزوجها قبل ذلك أو يحرم على أبيها الفاضل أو أخيها البر أن يكونا لها وليين في تزويجها وأخبرونا إذا زنا الرجل أو سرق أو قذف أو أكل مال يتيم أو فر من الزحف أو سحر أو ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها أو لم يخرج زكاة ماله فصار بذلك عندكم كافراً أو بريء من الإسلام وخرج عن الإيمان وعن جملة المؤمنين أيحرم عليه ابتداء نكاح امرأة مؤمنة أو وطؤها بملك اليمين أو تحرم عليه امرأته المؤمنة التي في عصمته فينفسخ نكاحها منه أو يحرم عليه أن يكون ولياً لابنته المؤمنة أو أخته المؤمنة في تزويجها وهل يحرم على التي ذكرنا والرجل الذي ذكرنا ميراث وليه المؤمن أو يحرم على وليهما المؤمن ميراثهما أو يحرم أكل ذبيحته لأنه قد فارق الإسلام في زعمكم وخرج عن جملة المؤمنين فإنهم كلهم لا يقولون بشيء من هذا فمن الخلاف المجرد منهم لله تعالى أن يحرم الله تعالى المؤمنة على من ليس بمؤمن فيحلونها هم ويحرم الله تعالى التي ليست مؤمنة على المؤمن ألا تكون كتابية فيحلونها هم ويقطع الله تعالى الولاية بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيبقونها هم في الإنكاح ويحرم الله تعالى ذبائح من ليس مؤمناً إلا أن يكون كتابياً فيحلونها هم ويقطع عز وجل الموارثة بين المؤمن ومن ليس مؤمناً فيثبتونها هم ومن خالف القرآن وثبت على ذلك بعد قيام الحجة عليه فنحن نبرأ إلى الله تعالى منه.
قال أبو محمد: وأكثر هذه الأمور التي ذكرنا فإنه لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيها ولا بين فرقة من الفرق المنتمية إلى الإسلام وفي بعضها خلاف نشير إليه لئلا يظن ظان أننا أغفلناه فمن ذلك الخلاف في الزاني والزانية فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسخ النكاح قبل الدخول بوقوعه من أحدهما والحسن البصري وغيره من السلف لا يجيزون للزاني ابتداء النكاح مع مسلمة البتة ولا للزانية أيضاً إلا أن يتوبا وبهذا نقول نحن ليس لأنهما ليسا مسلمين بل هما مسلمان ولكنها شريعة من الله تعالى واردة في القرآن في ذلك كما يحرم على المحرم النكاح مادام محرماً وبالله تعالى التوفيق وذلك قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ". قال أبو محمد: وفي هذه الآية أيضاً نص جلي على أن الزاني والزانية ليسا مشركين لأن الله تعالى فرق بينهما فرقاً لا يحتمل البتة أن يكون على سبيل التأكيد بل على أنهما صفتان مختلفان وإذا لم يكونا مشركين فهما ضرورة مسلمان بما قد بينا قبل من أن كل كافر فهو مشرك وكل مشرك فهو كافر ومن لم يكن كافراً مشركاً فهو مؤمن إذ لا سبيل إلى دين ثالث وبالله تعالى التوفيق ومن الخلاف في بعض ما ذكرنا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإبراهيم النخعي أن المسلم إذا ارتد والمسلمة إذا لم يسلم زوجها فهي امرأته كما كانت إلا أنه لا يطؤها وروي عن عمر أيضاً أنها تخير في البقاء معه أو فراقه وكل هذا لا حجة فيه ولا حجة إلا في نص قرآن أو سنة واردة عن رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الله عز وجل قد أمر بقتل المشركين ولم يستثن منهم أحداً إلا كتابياً يغرم الجزية مع الصغار أو رسولاً حتى يؤدي رسالته ويرجع إلى مأمنه أو مستجيراً ليسمع كلام الله تعالى ثم يبلغ إلى مأمنه وأمر رسول الله ﷺ بقتل من بدل دينه فنسأل كل من قال بأن صاحب الكبيرة قد خرج من الإيمان وبطل إسلامه وصار في دين آخر إما الكفر وإما الفسق إذا كان الزاني والقاتل والسارق والشارب للخمر والقاذف والفار من الزحف وآكل مال اليتيم قد خرج عن الإسلام وترك دينه أيقتلونه كما أمر رسول الله ﷺ عن الله أم لا يقتلونه فيخالفون الله تعالى ورسوله ﷺ ومن قولهم كلهم خوارجهم ومعتزليهم أنهم لا يقتلونه وأما في بعض ذلك حدود معروفة من قطع يد أو جلد مائة أو ثمانين وفي بعض ذلك أدب فقط وأنه لا يحل الدم بشيء من ذلك وهذا انقطاع ظاهر وبطلان لقولهم لا خفاء به.
قال أبو محمد: وبعض شاذة الخوارج جسر فقال تقام الحدود عليهم ثم يستتابون فيقتلون.
قال أبو محمد: وهذا خلاف الإجماع المتيقن وخلاف للقرآن مجرد لأن الله تعالى يقول: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا " فقد حرم الله تعالى قتلهم وافترض استبقاءهم مع إصرارهم ولم يجعل فيهم إلا رد شهادتهم فقط ولو جاز قتلهم فطيف كانوا يؤدون شهادة لا تقبل بعد قتلهم.
قال أبو محمد: وقال الله عز وجل: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ".
قال أبو محمد: لا خلاف بيننا وبينهم ولا بين أحد من الأمة في أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله واستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فإنه مؤمن مسلم فلو كان الفاسق غير مؤمن لكان كافراً ولا بد ولو كان كافراً لكان مرتداً يجب قتله وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل: " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم " وقال تعالى: " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " فوجب يقيناً بأمر الله عز وجل ألا يترك يعمر مساجد الله بالصلاة فيها إلا المؤمنون وكلهم متفق معنا على أن الفاسق صاحب الكبائر مدعو ملزم عمارة المساجد للصلاة مجبر على ذلك وفي إجماع الأمة كلها على ذلك وعلى تركهم يصلون معنا وإلزامهم أداء الزكاة وأخذها منهم وإلزامهم صيام رمضان وحج البيت برهان واضح لا إشكال فيه على أنه لم يخرج عن دين المؤمنين وأنه مسلم مؤمن وقال عز وجل: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ " إلى قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " فخاطب تعالى المؤمنين باياس الكافرين عن دينهم ولا سبيل إلى قسم ثالث وقال تعالى: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه " فصح أن لا دين إلا دين الإسلام وما عداه شيء غير مقبول وصاحبه يوم القيامة خاسر وبالله تعالى التوفيق وقال عز وجل " المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض " وقال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وقال تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير " فصح يقيناً أنه ليس في الناس ولا في الجن إلا مؤمن أو كافر فمن خرج عن أحدهما دخل في الآخر فنسألهم عن رجل من المسلمين فسق وجاهر بالكباير وله أختان إحداهما نصرانية والثانية مسلمة فاضلة لأيتهما يكون هذا الفاسق ولياً في النكاح ووارثاً وعن امرأة سرقت وزنت ولها ابنا عم أحدهما يهودي والآخر مسلم فاضل أيهما يحل له نكاحها وهذا ما لا خلاف فيه ولا خفاء به فصح أن صاحب الكباير مؤمن وقال الله تعالى: " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا " وقال تعالى: " إنما يتقبل الله من المتقين " فأخبرونا أتأمرون الزاني والسارق والقاذف والقاتل بالصلاة وتؤدبونه أن لم يصل أم لا فمن قولهم نعم ولو قالوا لا لخالفوا الإجماع المتيقن فنقول لهم أفتأمرونه بما هو عليه أم بما ليس عليه وربما يمكن أن يقبله الله تعالى أم بما يوقن أنه لا يقبله فإن قالوا نأمره بما ليس عليه ظهر تناقضهم إذ لا يجوز أن يلزم أحد ما لا يلزمه وإن قالوا بل بما عليه قطعوا بأنه مؤمن لأن الله تعالى أخبر أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً وإن قالوا نأمره بما لا يمكن أن يقبل منه أحالوا إذ من المحال أن يؤمر أحد بعمل هو على يقين بأنه لا يقبل منه وإن قالوا بل نأمره بما نرجو أن يقبل منه قلنا صدقتم وقد صح بهذا أن الفاسق من المتقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من عمل صالح فقط ومن الفاسقين فيما عمل من المعاصي ونسألهم أيأمرون صاحب الكبيرة بتمتيع المطلقة إن طلقها أم لا فإن قالوا نأمره بذلك لزمهم أنه من المحسنين المتقين لأن الله تعالى يقول في المتعة حقاً على المحسنين وحقاً على المتقين فصح أن الفاسق محسن فيما عمل من صالح ومسيء فيما عمل من سيء فإن قالوا أن الصلاة عليه كما هي عندكم على الكفار أجمعين قلنا لا سواء لأنها وإن كان الكافر وغير المتوضئ والجنب مأمورين بالصلاة معذبين على تركها فإنا لا نتركهم يقيمونها أصلاً بل نمنعهم منها حتى يسلم الكافر ويتوضأ المحدث ويغتسل الجنب ويتوضأ أو يتيمم وليس كذلك الفاسق بل نجبره على إقامتها.
قال أبو محمد: وهذا لا خلاف فيه من أحد إلا أن الجبائي المعتزلي ومحمد بن الطيب الباقلاني ذهبا من بين جميع الأمة إلى إن كانت له ذنوب فإنه لا تقبل له توبة من شيء منها حتى يتوب من الجميع واتبعهما على ذلك قوم وقد ناظرنا بعضهم في ذلك وألزمناهم أن يوجبوا على كل من أذنب ذنباً واحداً أن يترك الصلاة الفرض والزكاة وصوم رمضان والجمعة والحج والجهاد لأن إقامة كل ذلك توبة إلى الله من تركها فإذا كانت توبته لا تقبل من شيء حتى يتوب من كل ذنب له فإنه لا يقبل له توبة من ترك صلاة ولا من ترك صوم ولا من ترك زكاة إلا حتى يتوب من كل ذنب له وهذا خلاف لجميع الأمة إن قالوه أو تناقض إن لم يقولوه مع أنه قول لا دليل لهم على تصحيحه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل قال الله تعالى: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " وقال تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " وقال تعالى: " وصالح المؤمنين " فصح يقيناً بهذا اللفظ أن فينا غير عدل وغير صالح وهما منا ونحن المؤمنون فهو مؤمن بلا شك وقال تعالى: " فإن تابوا " يعني من الشرك " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " وهذا نص جلي على أن من صلى من أهل شهادة الإسلام وزكى فهو أخونا في الدين ولم يقل تعالى ما لم يأت بكبيرة فصح أنه منا وإن أتى بالكباير.
قال أبو محمد: فإن ذكروا قول الله تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " وقوله تعالى: " ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم " وراموا بذلك إثبات أنه لا مؤمن ولا كافر فهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما وصف بذلك المنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام فهم لا مع الكفار ولا منهم ولا إليهم لأن هؤلاء يظهرون الإسلام وأولئك لا يظهرونه ولا هم مع المسلمين ولا منهم ولا إليهم لإبطانهم الكفر وليس في هاتين الآيتين أنهم ليسوا كفاراً وقد قال عز وجل: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فصح يقيناً أنهم كفار لا مؤمنون أصلاً وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال أن صاحب الكبيرة منافق ما معنى هذه الكلمة فجوابهم الذي لا جواب لأحد في هذه المسألة غيره هو أن المنافق من كان النفاق صفته ومعنى النفاق في الشريعة هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر فيقال له وبالله تعالى التوفيق لا يعلم ما في النفوس إلا الله تعالى ثم تلك النفس التي ذلك الشيء فيها فقط ولا يجوز أن نقطع على اعتقاد أحد الكفر إلا بإقراره بلسانه بالكفر وبوحي من عند الله تعالى ومن تعاطى علم ما في النفوس فقد تعاطى علم الغيب وهذا خطأ متيقن يعلم بالضرورة وحسبك من القول سقوطاً أن يؤدي إلى المحال المتيقن وقد قيل لرسول الله ﷺ: " رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه " فقال عليه السلام: " إني لم أبعث لأشق على قلوب الناس " وقد ذكر الله تعالى المنافقين فقال لرسول الله ﷺ: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " فإذا كان رسول الله ﷺ لا يعرف المنافقين وهم معه وهو يراهم ويشاهد أفعالهم فمن بعده أحرى أن لا يعلمهم ولقد كان الزناة على عهده ﷺ والسرقة والشراب ومضيعوا فرض الصلاة في الجماعة والقاتلون عمداً والقذفة فما سمى عليه السلام قط أحداً منهم منافقين بل أقام الحدود في ذلك وتوعد بحرق المنازل وأمر بالدية والعفو وأبقاهم في جملة المؤمنين وأبقى عليهم حكم الإيمان واسمه وقد قلنا أن التسمية في الشريعة لله عز وجل لا لأحد دونه ولم يأت قط عن الله عز وجل تسمية صاحب الكبيرة منافقاً فإن قالوا قد صح عن النبي ﷺ أنه قال وقد ذكر خصالاً من كن فيه كان منافقاً خالصاً وإن صام وصلى وقال إني مسلم وذكر عليه السلام تلك الخصال فمنها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وذكر عليه السلام أن من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها قلنا له وبالله تعالى التوفيق صدق رسول الله ﷺ وقد أخبرناك أن المنافق هو من أظهر شيئاً وأبطن خلافه مأخوذ في أصل اللغة من نافقاء اليربوع وهو باب في جانب جحره مفتوح قد غطاه بشيء من تراب وهذه الخلال كلها التي ذكرها رسول الله ﷺ كلها باطن صاحبها بخلاف ما يظهر فهو منافق هذا النوع من النفاق وليس هو النفاق الذي يظن صاحبه الكفر بالله برهان ذلك ما ذكرناه آنفاً من إجماع الأمة على أخذ زكاة مال كل من وصف رسول الله ﷺ بالنفاق وعلى إنكاحه ونكاحها إن كانت امرأة وموارثته وأكل ذبيحته وتركه يصلي مع المسلمين وعلى تحريم دمه وماله ولو تيقنا أنه يبطن الكفر لوجب قتله وحرم نكاحه ونكاحها وموارثته وأكل ذبيحته ولم نتركه يصلي مع المسلمين ولكن تسمية النبي ﷺ من ذكر منافقاً كتسمية الله عز وجل الذراع كفاراً إذ يقول الله تعالى: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته " لأن أصل الكفر في اللغة التغطية فمن ستر شيئاً فهو كافر له وأصل النفاق في اللغة ستر شيء وإظهار خلافه فمن ستر شيئاً وأظهر خلافه فهو منافق فيه وليس هذان من الكفر الديني ولا من النفاق الشرعي في شيء وبهذا تتألف الآيات والأحاديث كلها وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لمن قال بهذا القول هل أتيت بكبيرة قط فإن قال لا قيل له هذا القول كبيرة لأنه تذكية وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فقال تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم " وقد علمنا أنه لا يعرى أحد من ذنب إلا الملائكة والنبيين صلى الله عليهم وسلم وأما من دونهم فغير معصوم بل قد اختلف الناس في عصمة الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام وإن كنا قاطعين على خطأ من جوز على أحد من الملائكة ذنباً صغيراً أو كبيراً بعمد أو خطأ وعلى خطأ من جوز على أحد من النبيين ذنباً بعمد صغيراً أو كبيراً لكنا أعلمنا أنه لم يتفق على ذلك قط وإن قال بلى قد كان لي كبيرة قيل هل كنت في حال مواقعتك الكبيرة شاكاً في الله عز وجل أو في رسوله ﷺ أو كافراً بهما أم كنت موقناً بالله تعالى وبالرسول ﷺ وبما أتى به موقناً بأنك مسيء مخطئ في ذنبك فإن قال كنت كافراً أو شاكاً فهو أعلم بنفسه ويلزمه أن يفارق وأمته المسلمتين ولا يرث من مات له من المسلمين ثم بعد ذلك لا يجوز له أن يقطع على غيره من المذنبين بمثل اعتقاده في الجحد ونحن نعلم بالضرورة كذب دعواه وندري أننا في حين ما كان منا ذنب مؤمنون بالله تعالى وبرسوله ﷺ وإن قال بل كنت مؤمناً بالله تعالى وبرسوله ﷺ في حال ذنبي قيل له هذا إبطال منك للقول بالنفاق والقطع به على المذنبين.
قال أبو محمد: ففي إجماع الأمة كلها دون مختلف من أحد منهم على أن صاحب الكبيرة مأمور بالصلاة مع المسلمين وبصوم شهر رمضان والحج وبأخذ زكاة ماله وإباحة مناكحته وموارثته وأكل ذبيحته وبتركه يتزوج المرأة المسلمة الفاضلة ويبتاع الأمة المسلمة الفاضلة ويطأها وتحريم دمه وماله وأن لا يؤخذ منه جزية ولا يصغر برهان صحيح على أنه مسلم مؤمن وفي إجماع الأمة كلها دون مخالف على تحريم قبول شهادته وخبره برهان على أنه فاسق فصح يقيناً أنه مؤمن فاسق ناقص الإيمان عن المؤمن الذي ليس بفاسق قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " فأما من قال أنه كافر نعمة فما لهم حجة أصلاً إلا أن بعضهم نزغ بقول الله تعالى: " الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن نص الآية مبطل لقولهم لأن الله تعالى يقول متصلاً بقوله: " وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله " فصح أن الآية في المشركين بلا شك وأيضاً فقد يكفر المرء نعمة الله ولا يكون كافراً بل مؤمناً بالله تعالى كافراً لأنعمه بمعاصيه لا كافراً على الإطلاق وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد أو في شيء من مسائل الفتيا فهو كافر وذهبت طائفة إلى أنه كافر في بعض ذلك فاسق غير كافر في بعضه على حسب ما أدتهم إليه عقولهم وظنونهم وذهبت طائفة إلى أن من خالفهم في مسائل الاعتقاد فهو كافر وأن من خالفهم في مسائل الأحكام والعبادات فليس كافراً ولا فاسقاً ولكنه مجتهد معذور أن الخطأ مأجور بنيته وقالت طائفة بمثل هذا فيمن خالفهم في مسائل العبادات وقالوا فيمن خالفهم في مسائل الاعتقادات أن كان الخلاف في صفات الله عز وجل فهو كافر وإن كان فيما دون ذلك فهو فاسق وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلي وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عن جميعهم وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي الله عنهم لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً إلا من ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها أو ترك أداء الزكاة أو ترك الحج أو ترك صيام رمضان أو شرب الخمر واحتج من كفر بالخلاف في الاعتقادات بأشياء نوردها إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: ذكروا حديثاً عن رسول الله ﷺ أن القدرية والمرجئية مجوس بهذه الأمة وحديثاً آخر تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة حاشا واحدة فهي في الجنة.
قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به واحتجوا بالخبر الثابت عن رسول الله ﷺ: " من قال لأخيه فقد باء بالكفر أحدهما ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن لفظه يقتضي أنه يأثم برميه للكفر ولم يقل عليه السلام أنه بذلك كافر. قال أبو محمد: و الجمهور من المحتجين بهذا الخبر لا يكفرون من قال لمسلم يا كافر في مشاتمة تجري بينهما وبهذا خالفوا الخبر الذي احتجوا به.
قال أبو محمد: والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع وأما بالدعوة والافتراء فلا فوجب أن لا يكفر أحد بقول قاله إلا بأن يخالف ما قد صح عنده أن الله تعالى قاله أو أن رسول الله ﷺ قاله فستجيز خلاف الله تعالى وخلاف رسوله عليه الصلاة والسلام وسواء كان ذلك في عقد دين أو في نحلة أو في فتيا وسواء كان ما صح من ذلك عن رسول الله ﷺ منقولاً نقل إجماع تواتر أو نقل آحاد إلا أن من خالف الإجماع المتقين المقطوع على صحته فهو أظهر في قطع حجته ووجوب تكفيره لا تفاق الجميع على معرفة الإجماع وعلى تكفير مخالفته برهان صحة قولنا قول الله تعالى: " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ".
قال أبو محمد: هذه الآية نص بتكفير من فعل ذلك فإن قال قائل أن من اتبع غير سبيل المؤمنين فليس من المؤمنين قلنا له وبالله تعالى التوفيق ليس كل من اتبع غير سبيل المؤمنين كافراً لأن الزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس بالباطل ليست من سبيل المؤمنين وقد علمنا أن من اتبعها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وليس مع ذلك كافراً ولكن البرهان في هذا قول الله عز وجل: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " قال أبو محمد: فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلاً ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلاً ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان.
قال أبو محمد: وأما ما لم تقم الحجة على المخالف للحق في أي شيء كان فلا يكون كافراً إلا أن يأتي نص بتكفيره فيوقف عنده كمن بلغه وهو في أقاصي الزنج ذكر النبي ﷺ فقط فيمسك عن البحث عن خبره فإنه كافر فإن قال قائل فما تقولون فيمن قال أنا أشهد أن محمداً رسول الله ولا أدري أهو قرشي أم تميمي أم فارسي ولا هل كان بالحجاز أو بخرسان ولا أدري أحي هو أو ميت ولا أدري لعله هذا الرجل الحاضر أم غيره قيل له إن كان جاهلاً لا علم عنده بشيء من الأخبار والسير لم يضره ذلك شيئاً ووجب تعليمه ووجب تعليمه فإذا علم وصح عنده الحق فإن عاند فهو كافر حلال دمه وماله محكوم عليه حكم المرتد وقد علمنا أن كثيراً ممن يتعاطى الفتيا في دين الله عز وجل نعم وكثيراً من الصالحين لا يدري كم لموت النبي ﷺ ولا أين كان ولا في أي بلد كان ويكفيه من كل ذلك إقراره بقلبه ولسانه أن رجلاً اسمه محمد أرسله الله تعالى إلينا بهذا الدين.
قال أبو محمد: وكذلك من قال أن ربه جسم فإنه إن كان جاهلاً أو متأولاً فهو معذور لا شيء عليه ويجب تعليمه فإذا قامت الحجة عليه من القرآن والسنن فخالف ما فيهما عناداً فهو كافر يحكم عليه بحكم المرتد وأم من قال أن الله عز وجل هو فلان لإنسان بعينه أو أن الله تعالى يحل في جسم من أجسام خلقه أو أن بعد محمد ﷺ نبياً غير عيسى بن مريم فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد ولو أمكن أن قال أبو محمد: وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً بل قد أحسن إذا فر من الكفر وأيضاً فإنه ليس للناس قول إلا ومخالف ذلك القول يلزم خصمه الكفر في فساد قوله وطرده فالمعتزلة تنسب إلينا تجوير الله عز وجل وتشبيهه بخلقه ونحن ننسب إليهم مثل ذلك سواء بسواء ونلزمهم أيضاً تعجيز الله عز وجل وأنهم يزعمون أنهم يخلقون كخلقه وأن له شركاء في الخلق وأنهم مستغنون عن الله عز وجل ومن أثبت الصفات يسمي من نفاها باقية لأنهم قالوا تعبدون غير الله تعالى لأن الله تعالى له صفات وأنتم تعبدون من لا صفة له ومن نفى الصفات يقول لمن أثبتها أنتم تجعلون مع الله عز وجل لم تزل وتشركون به غيره وتعبدون غير الله لأن الله تعالى لا أحد معه ولا شيء معه في الأزل وأنتم تعبدون شيئاً من جملة أشياء لم تزل وهكذا في كل ما اختلف فيه حتى في الكون والجزء وحتى في مسائل الأحكام والعبادات فأصحاب القياس يدعون علينا خلاف الإجماع وأصحابنا يثبتون عليهم خلاف الإجماع وإحداث شرائع لم يأذن الله عز وجل بها وكل فرقة فهي تنتفي بما تسميها به الأخرى وتكفر من قال شيئاً من ذلك فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله ونص معتقده ولا ينتفع أحد بأن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به قبحه لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط وأما الأحاديث الواردة في أن ترك الصلاة شرك فلا تصح من طريق الإسناد وأما الأخبار التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقد جاءت أحاديث أخر بزيادة على هذا الخبر لا يجوز ترك تلك الزيادة وهي قوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فهذا هو الذي لا إيمان لأحد بدونه.
قال أبو محمد: واحتج بعض من يكفر من سب الصحابة رضي الله عنهم بقول الله عز وجل: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " إلى قوله: " ليغيظ بهم الكفار " قال فكل من أغاظه أحد من أصحاب رسول الله ﷺ فهو كافر.
قال أبو محمد: وقد أخطأ من حمل الآية على هذا لأن الله عز وجل لم يقل قط أن كل من غاظه واحد منهم فهو كافر وإنما أخبر تعالى أنه يغيظ بهم الكفار فقط ونعم هذا حق لا ينكره مسلم وكل مسلم فهو يغيظ الكفار وأيضاً فإنه لا يشك أحد ذو حس سليم في أن علياً قد غاظ معاوية وأن معاوية وعمرو بن العاص غاظا علياً وأن عماراً غاظ أبا العادية وكلهم أصحاب رسول الله ﷺ فقد غاظ بعضهم بعضاً فيلزم على هذا تكفير من ذكرنا وحاشا لله من هذا.
قال أبو محمد: ونقول لمن كفر إنساناً بنفس مقالته دون أن تقوم عليه الحجة فيعاند رسول الله ﷺ ويجد في نفسه الحرج مما أتى به أخبرنا هل ترك رسول الله ﷺ شيئاً من الإسلام الذي يكفر من لم يقل به إلا وقد بينه ودعا إليه الناس كافة فلا بد من نعم ومن أنكر هذا فهو كافر بلا خلاف فإذا أقر بذلك سئل هل جاء قط عن النبي ﷺ أنه لم يقبل إيمان أهل قرية أو أهل محلة أو إنسان أتاه من حر أو عبداً أو امرأة إلا حتى يقران الاستطاعة قبل الفعل أو مع الفعل أو أن القرآن مخلوق أو أن الله تعالى يرى أو لا يرى أو أن له سمعاً وبصراً وحياة أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطان بينهم ليوقع بينهم العداوة والبغضاء فإن ادعى أن النبي ﷺ لم يدع أحداً يسلم إلا حتى يوقفه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض وقال ما يدري أنه فيه كاذب وادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام وهذا محال ممتنع في الطبيعة ثم فيه نسبة الكفر إليهم إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به وإن قالوا أنه ﷺ لم يدع قط أحداً إلى شيء من هذا ولكنه مودع في القرآن وفي كلامه ﷺ قيل له صدقت وقد صح بهذا أنه لو كان جهل شيء من هذا كله كفراً لما ضيع رسول الله ﷺ بيان ذلك للحر والعبد والحرة والأمة ومن جوز هذا فقد قال أن رسول الله ﷺ لم يبلغ كما أمر وهذا كفر مجرد ممن أجازه فصح ضرورة أن الجهل بكل ذلك لا يضر شيئاً وإنما يلزم الكلام منها إذا خاض فيها الناس فيلزم حينئذ بيان الحق من القرآن والسنة لقول الله عز وجل: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " ولقول الله عز وجل: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " فمن عند حينئذ بعد بيان الحق فهو كافر لأنه لم يحكم رسول الله ﷺ ولا سلم لما قضى به وقد صح عن رسول الله ﷺ أن رجلاً لم يعمل خيراً قط فلما حضره الموت قال لأهله إذا مت فأحرقوني ثم ذروا رمادي في يوم راح نصفه في البحر ونصفه في البر فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحد من خلقه وأن الله عز وجل جمع رماده فأحياه وسأله ما حملك على ذلك قال خوفك يا رب وأن الله تعالى غفر له لهذا القول.
قال أبو محمد: فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله علي إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ".
قال أبو محمد: وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي وأيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما قال أبو محمد: وأبين شيء من هذا قول الله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " إلى قوله: " ونعلم إن قد صدقتنا " فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا ما لا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبيينهم لها.
قال أبو محمد: وبرهان ضروري لا خلاف فيه وهو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك وأسقط كلمة عمداً كذلك أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها ثم أن المرء يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة وينقص أخرى ويبدل كلامه جاهلاً مقدراً أنه مصيب ويكابر في ذلك ويناظر قبل أن يتبين له الحق ولا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ولا فاسقاً ولا آثماً فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره فإن تمادى على خطاه فهو عند الأمة كلها كافر بذلك لا محالة وهذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة.
قال أبو محمد: واحتج بعضهم بأن قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ".
قال أبو محمد: وآخر هذه الآية مبطل لتأويلهم لأن الله عز وجل وصل قوله يحسنون صنعاً بقوله: " أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا " فهذا يبين أن أول الآية في الكفار المخالفين لديانة الإسلام جملة ثم نقول لهم لو نزلت هذه الآية في المتأولين من جملة أهل الإسلام كما تزعمون لدخل في جملتها كل متأول مخطئ في تأويل في فتيا لزمه تكفير جميع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم قد اختلفوا وبيقين ندري أن كل امرأ منهم فقد يصيب ويخطأ بل يلزمه تكفير جميع الأمة لأنهم كلهم لا بد من أن يصيب كل امرئ منهم ويخطئ بل يلزمه تكفير نفسه لأنه لا بد لكل من تكلم في شيء من الديانة من أن يرجع عن قول قاله إلى قول آخر يتبين له أنه أصح إلا أن يكون مقلداً فهذه أسوأ لأن التقليد خطأ كله لا يصح ومن بلغ إلى هاهنا فقد لاح غوامر قوله وبالله تعالى التوفيق وقد أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه أنه لم يفهم آية الكلالة فما كفره بذلك ولا فسقه ولا أخبره أنه آثم بذلك لكن أغلظ له في كثرة تكراره السؤال عنها فقط وكذلك أخطأ جماعة من صحابة رضي الله عنهم في حياة رسول الله ﷺ في الفتيا فبلغه عليه السلام ذلك فما كفر بذلك أحد منهم ولا فسقه ولا جعله بذلك إثماً لأنه لم يعانده عليه السلام أحد منهم وهذا كفتيا أبي السنابل بعكك في آخر الأجلين والذين أفتوا على الزاني غير المحصن الرجم وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم بكتاب الأحكام في أصول الأحكام هذا وأيضاً فإن الآية المذكورة لا تخرج على قول أحد ممن خالفنا إلا بحذف وذلك أنهم يقولون أن الذين في قوله تعالى الذين ضل سعيهم في الحيلة الدنيا هو خبراً ابتداء مضمر ولا يكون ذلك إلا بحذف الابتداء كأنه قال هم الذين لا يجوز لأحد أن يقول في القرآن حذفاً إلا بنص آخر جلي يوجب ذلك أو إجماع على ذلك أو ضرورة حس فبطل قولهم وصار دعوى بلا دليل وأما نحن فإن لفظة الدين عندنا على موضوعها دون حذف وهو نعت للأخسرين ويكون خبراً لابتداء قوله تعالى: " أولئك الذين كفروا " وكذلك قوله تعالى: " فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ " فنعم هذه صفة القول الذين وصفهم الله تعالى بهذا في أول الآية ورد الضمير إليهم وهم الكفار بنص أول الآية وقال قائلهم أيضاً فإذا عذرتم للمجتهدين إذا أخطأوا فأعذروا اليهود والنصارى والمجوس وسائر الملل فإنهم أيضاً مجتهدون قاصدون الخير فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أننا لم نعذر من عذرنا بآرائنا ولا كفرنا من كفرنا بظننا وهوانا وهذه خطة لم يؤتها الله عز وجل أحداً دونه ولا يدخل الجنة والنار أحد بل الله تعالى يدخلها من شاء فنحن لا نسمي بالإيمان إلا من سماه الله تعالى به كل ذلك على لسان رسول الله ﷺ ولا يختلف اثنان من أهل الأرض لا نقول من المسلمين بل من كل ملة في أن رسول الله ﷺ قطع بالكفر على أهل كل ملة غير الإسلام الذين تبرأ أهله من كل ملة حاشى التي أتاهم بها عليه السلام فقط فوقفنا عند ذلك ولا يختلف أيضاً اثنان في أنه عليه السلام قنع باسم الإيمان على كل من اتبعه وصدق بكل ما جاء به وتبرأ من كل دين سوى ذلك فوقفنا أيضاً عند ذلك ولا مزيد فمن جاء نص في إخراجه عن الإسلام بعد حصول اسم الإسلام له أخرجناه منه سواء أجمع على خروجه منه أو لا يجمع وكذلك من أجمع من أهل الإسلام على خروجه عن الإسلام فواجب اتباع الإجماع في ذلك وأما من لا نص في خروجه عن الإسلام بعد حصول الإسلام له ولا إجماع في خروجه أيضاً عنه فلا يجوز إخراجه عما قد صح يقيناً حصوله فيه وقد نص الله تعالى على ما قلنا فقال: " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " وقال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً " وقال تعالى: " قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ " فهؤلاء كلهم كفار بالنص وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله ﷺ أتى به فقد كفر وصح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر ومن قال بنبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام أو جحد شيئاً صح عنده بأن النبي ﷺ قال فهو كافر لأنه لم يحكم النبي ﷺ فيما شجر بينه وبين خصمه.
قال أبو محمد: وقد شقق أصحاب الكلام فقالوا ما تقولون فيمن قال له النبي ﷺ قم صل فقال لا أفعل أو قال له النبي ﷺ ناولني ذلك السيف أدفع به عن نفسي فقال له لا أفعل.
قال أبو محمد: وهذا أمر قد كفوا وقوعه ولا فضول أعظم من فضول من اشتغل بشيء قد أيقن أنه لا يكون أبداً ولكن الذي كان ووقع فإننا نتكلم فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد: قد أمر النبي ﷺ أفضل أهل الأرض وهم أهل الحديبية بأن يحلقوا وينحروا فتوقفوا حتى أمرهم ثلاثاً وغضب عليه السلام وشكا ذلك إلى أم سلمة فما كفروا بذلك ولكن كانت معصية تداركهم الله بالتوبة منها وما قال مسلم قط أنهم كفروا بذلك لأنهم لم يعاندوه ولا كذبوه وقد قال سعد بن عبادة والله يا رسول الله لئن وجدت لكاع يتفخذها رجل ادعهما حتى آتى بأربعة شهداء قال نعم قال إذاً والله يقضي إربه والله لا تجللنهما بالسيف فلم يكن بذلك كافراً إذ لم يكن عانداً ولا مكذباً بل أقر أنه يدري أن الله تعالى أمر بخلاف ذلك وسألوا أيضاً عمن قال أنا أدري أن الحج إلى مكة فرض ولكن لا أدري أهي بالحجاز أم بخراسان أم بالأندلس وأنا أدري أن الخنزير حرام ولكن لا أدري أهو هذا الموصوف الأقرن أم الذي يحرث به.
قال أبو محمد: وجوابنا هو أن من قال هذا فإن كان جاهلاً علم ولا شيء عليه فإن المشببين لا يعرفون هذا إذا أسلموا حتى يعلموا وإن كان عالماً فهو عابث مستهزئ بآيات الله تعالى فهو كافر مرتد حلال الدم والمال ومن قذف عائشة رضي الله عنها فهو كافر لتكذيبه القرآن وقد قذفها مسطح وحمنة فلم يكفرا لأنهما لم يكونا حينئذ مكذبين لله تعالى ولو قذفاها بعد نزول الآية لكفر وأم ما سب أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان جاهلاً فمعذور وإن قامت عليه الحجة فتمادى غير معاند فهو فاسق كمن زنى وسرق وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله ﷺ فهو كافر وقد قال عمر رضي الله عنه بحضرة النبي ﷺ عن حاطب وحاطب مهاجر بدرى دعني أضرب عنق هذا المنافق فما كان عمر بتكفيره حاطباً كافراً بل كان مخطئاً متأولاً وقد قال رسول الله ﷺ آية النفاق بغض قال أبو محمد: ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي ﷺ فهو كافر لأنه وجد الحرج في نفسه مما قد قضى الله تعالى ورسوله ﷺ من إظهار الإيمان بأيديهم ومن عاد علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر وكذلك من عادى من ينصر الإسلام لأجل نصرة الإسلام لا لغير ذلك وقد فرق بعضهم في الاختلاف في الفتيا والاختلاف في الاعتقاد بأن قال قد اختلف أصحاب رسول الله ﷺ في الفتيا فلم يكفر بعضهم بعضاً ولا فسق بعضهم بعضاً.
قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء فقد حدث إنكار القدر في أيامهم فما كفرهم أكثر الصحابة رضي الله عنهم وقد اختلفوا في الفتيا واقتتلوا على ذلك وسفكت الدماء كاختلافهم في تقديم بيعة علي على النظر في قتلة عثمان رضي الله عنهم وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: من شاء بأهلته عند الحجر الأسود أن الذي أحصى رمل عالج لم يجعل في فريضة واحدة نصفاً ونصفاً وثلثاً.
قال أبو محمد: وهنا أقوال غريبة جداً فاسدة منها أن أقواماً من الخوارج قالوا كل معصية فيها حد فليست كفراً وكل معصية لا حد فيها فهي كفر.
قال أبو محمد: وهذا تحكم بلا برهان ودعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل قال تعالى: " قال أبو محمد: فصح بما قلنا أن كل من كان على غير الإسلام وقد بلغه أمر الإسلام فهو كافر ومن تأول من أهل الإسلام فأخطأ فإن كان لم تقم عليه الحجة ولا تبين له الحق فهو معذور مأجور آجراً واحداً لطلبه الحق وقصده إليه مغفور له خطؤه إذ لم يعتمده لقول الله تعالى: " وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ " وإن كان مصيباً فله أجران أجر لإصابته وأجر آخر لطلبه إياه وإن كان قد قامت الحجة عليه وتبين له الحق فعند عن الحق غير معارض له تعالى ولا لرسوله ﷺ فهو فاسق لجراءته على الله تعالى بإصراره على الأمر الحرام فإن عند عن الحق معارضاً لله تعالى ولرسوله ﷺ فهو كافر مرتد حلال الدم والمال لا فرق في هذه الأحكام بين الخطأ في الاعتقاد في أي شيء كان من الشريعة وبين الخطأ في الفتيا في أي شيء كان على ما بينا قبل.
قال أبو محمد: ونحن نختصرها هنا أن شاء الله تعالى ونوضح كل ما أطلنا فيه قال تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " وقال تعالى: " لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ " وقال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلم تسليماً " فهذه الآيات فيها بيان جميع هذا الباب فصح أنه لا يكفر أحد حتى يبلغه أمر النبي ﷺ فإن بلغه فلم يؤمن به فهو كافر فإن آمن به ثم اعتقد ما شاء الله أن يعتقده في نحلة أو فتيا أو عمل ما شاء الله تعالى أن يعمله دون أن يبلغه في ذلك عن النبي ﷺ حكم بخلاف ما اعتقد أو قال أو عمل فلا شيء عليه أصلاً حتى يبلغه فإن بلغه وصح عنه فإن خالفه مجتهداً فيما لم يبين له وجه الحق في ذلك فهو مخطئ معذور مأجور مرة واحدة كما قال عليه السلام: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر " وكل معتقد أو قائل أو عامل فهو حاكم في ذلك الشيء وإن خالفه بعمله معانداً للحق معتقداً بخلاف ما عمل به فهو مؤمن فاسق وإن خالفه معانداً بقوله أو قلبه فهو كافر مشرك سواء ذلك في المعتقدات والفتيا للنصوص التي أوردنا وهو قول اسحق بن راهوية وغيره وبه نقول وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في تعبد الملائكة وتعبد الحور العين
والخلق المستأنف وهل يعصي ملك أم لا قال أبو محمد: قد نص الله عز وجل على أن الملائكة متعبون قال تعالى: " ويفعلون ما يؤمرون " ونص تعالى على أنه أمرهم بالسجود لآدم وقال تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " إلى قوله: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال تعالى: " وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ويفعلون ما يؤمرون ".
قال أبو محمد: فنص الله تعالى على أنهم مأمورون منهيون متوعدون مكرومون موعودون بإيصال الكرامة أبداً مصرفون في كتاب الأعمال وقبض الأرواح وأداء الرسالة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتوكل بما في العالم الأعلى والأدنى وغير ذلك كما خالقهم عز وجل به عليم وقوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فأخبر عز وجل أن جبريل عليه السلام مطاع في السموات أمين هنالك فصح أن هنالك أوامر وتدبير وأمانات وطاعة ومراتب ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون بقوله عز وجل: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وبقوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون " وبقوله: " فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ " فنص تعالى على أنهم كلهم لا يسأمون من العبادة ولا يفترون من التسبيح والطاعة لا ساعة ولا وقتاً ولا يستحسرون من ذلك وهذا خبر عن التأييد لا يستحيل أبداً ووجب أنهم متنعمون بذلك مكرمون به مفضلون بتلك الحال وبالتذاذهم بذلك ونص تعالى على أنهم كلهم معصومون قد حقت لهم ولاية ربهم عز وجل أبد الأبد بلا نهاية فقال تعالى " قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " فكفر تعالى من عادى أحد منهم فإن قال قائل كيف لا يعصون والله تعالى يقول: " ومن يقل منهم أني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم " قلنا نعم هم متوعدون هم متوعدون على المعاصي كما توعد رسول الله ﷺ إذ يقول له ربه عز وجل: " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وقد علم عز وجل أنه عليه السلام لا يشرك أبداً وإن الملائكة لا يقول أحد منهم أبداً إني إله من دون الله وكذلك قوله تعالى: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين " وهو تعالى قد برأهن وعلم أنه لا يأتي أحد منهن بفاحشة أبداً بقوله تعالى: " الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " لكن الله تعالى يقول مل شاء ويشرع ما شاء ويفعل ما يشاء ولا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فأخبر عز وجل بحكم هذه الأمور لو كانت وقد علم أنها لا تكون كما قال تعالى: " لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " وكما قال: " لو أراد الله أن يتخذ ولداً لأصطفى مما يخلق ما يشاء " وكما قال تعالى: " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " وكما قال تعالى: " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً " وكل هذا قد علم الله تعالى أنه لا يكون أبداً وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أن الملائكة مأمورون ولا منهيون قلنا هذا باطل لأن كل مأمور بشيء فهو منهي عن تركه وقوله تعالى: " يخافون ربهم من فوقهم " يدل على أنهم منهيون عن أشياء يخافون من فعلها وقال عز وجل: " وما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين ". قال أبو محمد: وهذا مبطل ظن من ظن أن هاروت وماروت كانا ملكين فعصيا بشرب الخمر والزنا والقتل وقد أعاذ الله عز وجل الملائكة من مثل هذه الصفة بما ذكرنا آنفاً أنهم لا يعصون الله ويفعلون ما يؤمرون وبإخباره تعالى أنهم لا يسأمون ولا يفترون ولا يستحسرون عن طاعته عز وجل فوجب يقيناً أنه ليس في الملائكة البتة عاص لا بعمد ولا بخطأ ولا بنسيان وقال عز وجل: " جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع " فكل الملائكة رسل الله عز وجل بنص القرآن والرسل معصومون فصح أن هاروت وماروت المذكورين في القرآن لا يخلو أمرهما من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أنم يكونا جنين من أحياء الجن كما روينا عن خالد بن أبي عمران وغيره وموضعهما حينئذ في الجو بدل من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين كفروا هاروت وماروت ويكون الوقوف على قوله ما أنزل على الملكين ببابل ويتم الكلام هنا وأما أن يكونا ملكين أنزل الله عز وجل عليهما شريعة حق ثم مسخها فصارت كفراً كما فعل بشريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فتمادى الشياطين على تعليمها وهي بعد كفر كأنه قال تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " ثم ذكر عز وجل ما كان يفعله ذلك الملكان فقال تعالى: " وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ".
قال أبو محمد: فقول الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر قولاً صحيح ونهي عن المنكر وأما الفتنة فقد تكون ضلالاً وتكون هدى قال الله عز وجل حاكياً عن موسى عليه السلام أنه قال لربه: " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا أن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " فصدق الله عز وجل قوله وصح أن يهدي بالفتنة من يشاء ويضل بها من يشاء وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وليس كل أحد يضل بماله وولده فقد كان للنبي ﷺ أولاد ومال وكذلك لكثير من الرسل عليهم السلام وقال تعالى " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتو الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً " وقال تعالى: " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتنهم فيه " فهذا سقياً الماء التي هي جزاء عن الاستقامة قد سماها الله تعالى فتنة فصح أن من الفتنة خيراً وهدى ومنها ضلالاً وكفراً والملكان المذكوران كذلك كانا فتنة يهتدي من اتبع أمرها في أن لا يكفر ويضل عصاهما في ذلك وقوله تعالى: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " حق لأن اتباع رسل الله عليهم الصلاة والسلام هذه صفتهم يؤمن الزوج فيفرق إيمانه بينه وبين امرأته التي لم تؤمن وتؤمن فيفرق إيمانها بينها وبين زوج الذي لم يؤمن في الدنيا والآخرة وفي الولاية ثم رجع تعالى إلى الخبر عن الشياطين فقال عز وجل: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " وهذا حق لأن الشياطين في تعليمهم ما قد نسخه الله عز وجل وأبطله ضارون من لإذن الله تعالى باستضراره به وهكذا إلى آخر الآية وما قال عز وجل قط أن هاروت وماروت علما سحراً ولا كفراً ولا أنهما عصيا وإنما ذكر ذلك في خرافة موضوعة لا تصح من طريق الإسناد أصلاً ولا هي أيضاً مع ذلك عن رسول الله ﷺ وإنما هي موقوفة على من دونه عليه السلام فسقط التعلق بها وصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين وهذا التفسير الأخير هو نص الآية دون تكلف تأويل ولا تقديم ولا تأخير ولا زيادة في الآية ولا نقص منها بل هو ظاهرها والحق المقطوع به عند الله تعالى يقيناً وبالله تعالى التوفيق فإن قيل كيف تصح هذه الترجمة أو الأخرى وأنتم تقولون أن الملائكة لا يمكن أن يراهم إلا نبي وكذلك الشيطان ولا فرق فكيف تعلم الملائكة الناس أو كيف تعلم الجن الناس قلنا وبالله تعالى التوفيق أما الملائكة فيعلمون من أرسلوا إليه من الأنبياء خاصة وينهونهم عن الكفر كما نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الكفر في نص القرآن وأما الشياطين فتعلم الناس بالوسوسة في الصدور وتزيين البطل أو يتمثل في صورة إنسان كما تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم قال تعالى: " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " وأما الحور العين فنسوا أن مكرمات مخلوقات في الجنة لأولياء الله عز وجل عاقلات مميزات مطيعات لله تعالى في النعيم خلقن فيه ويخلدن بلا نهاية لا يعصين البتة والجنة إذا دخلها أهلها المخلدون فليست دار معصية وكذلك أهل الجنة لا يعصون فيها أصلاً بل هم في نعيم وحمد لله تعالى وذكر له والتذاذ بأكل وشراب ولباس ووطء لا يختلف في ذلك من أهل الإسلام اثنان وبذلك جاء القرآن والحمد لله رب العالمين وأما الولدان المخلدون فهم أولاد الناس الذين ماتوا قبل البلوغ كما جاء عن النبي ﷺ وقد صح عن رسول الله ﷺ أن الله تعالى يخلق خلقاً يملأ بهم الجنة فنحن نقر بهذا ولا ندري أمتعبدون مطيعون أم مبتدئون في الجنة والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وأما الجن فإن رسول الله ﷺ بعث إليهم بدين الإسلام هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة فكافرهم في النار مع كافرنا وأما مؤمنهم فقد اختلف الناس فيهم فقال أبو حنيفة لا ثواب لهم وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف وجمهور الناس إنهم في الجنة وبهذا نقول لقول الله عز وجل: " أعدت للمتقين " لقوله تعالى حاكياً عنهم ومصدقاً لمن قال ذلك منهم " و وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا " وقوله تعالى حاكياً عنه: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به " وقوله تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ " إلى السورة وهذه صفة تعم الجن والإنس عموماً لا يجوز البتة أن يخص منها أحد النوعين فيكون فاعل ذلك قائلاً على الله ما لا يعلم وهذا حرام ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يخبرنا بخبر عام وهو لا يريد إلا بعض ما أخبرنا به ثم لا يبين ذلك لنا هذا هو ضد البيان الذي ضمنه الله عز وجل لنا فكيف وقد نص عز وجل على أنهم آمنوا فوجب أهم من جملة المؤمنين الذين يدخلون الجنة ولا بد.
قال أبو محمد: وإذا الجن متعبدون فقد قال رسول الله ﷺ فضلت على الأنبياء بست فذكرنا فيها أن عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وكان من قبله من الأنبياء إنما يبعث إلى قومه خاصة وقد نص عليه السلام على أنه بعث إلى الجن وقال عز وجل: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ " إلى قوله تعالى: " وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا " وإذ الأمر كما ذكرنا في يبعث إلى الجن نبي من الإنس البتة قبل محمد ﷺ لأنه ليس الجن من قوم أنسي وباليقين ندري أنهم قد أنذروا فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم قال تعالى: " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " وبالله تعالى التوفيق.
===========
4
الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الرابع
محتويات
1 الجزء الرابع
1.1 هل تعصى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
1.2 الكلام في آدم عليه السلام
1.3 الكلام في نوح عليه السلام
1.4 الكلام في إبراهيم عليه السلام
1.5 الكلام في أخوة يوسف عليهم السلام
1.6 الكلام في يوسف عليه السلام
1.7 الكلام في موسى عليه السلام وأمه
1.8 الكلام على يونس عليه السلام
1.9 الكلام في سليمان عليه السلام
1.10 فصل وذكروا قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين "
1.11 الكلام في محمد ﷺ
1.12 هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلا من استدل
1.13 الكلام في الوعد والوعيد
1.14 الموافاة
1.15 الكلام في من لم تبلغه الدعوة
1.16 الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
1.17 مستقر الأرواح
1.18 الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
1.19 الكلام في القيامة وتغيير الأجساد
1.20 الكلام في خلق الجنة والنار
1.21 الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبداً
1.22 الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
1.23 الكلام في إمامة المفضول
1.24 الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
1.25 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
1.26 الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك
1.27 ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع المعتزلة والخوارج والمرجئية والشيع
1.28 ذكر شنع الشيعة
1.29 ذكر شنع الخوارج
1.30 ذكر شنع المعتزلة
1.31 شنع المرجئية
1.32 ذكر شنع لقوم لا نعرف فرقهم
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
هل تعصى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال أبو محمد اختلف الناس في هل تعصى الأنبياء عليهم السلام أم لا فذهبت طائفة إلى أن رسل الله ﷺ يعصون الله في جميع الكبائر والصغائر عمداً حاشى الكذب في التبليغ فقد وهذا قول الكرامية من المرجئة وقول ابن الطيب الباقلاني من الأشعرية ومن اتبعه وهو قول اليهود والنصارى وسمعت من يحكي عن بعض الكرامية أنهم يجوزون على الرسل عليهم السلام الكذب في البتليغ أيضاً وأما هذا الباقلاني فانا رأينا في كتاب صاحبه أبي جعفر السمناني قاضي الموصل أنه كان يقول أن كل ذنب دق أو جل فإنه جائز على الرسل حاشى الكذب في التبليغ فقط قال وجائز عليهم أن يكفروا قال وإذا نهى النبي عليه السلام عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أن ذلك النهي قد نسخ لأنه قد يفعله عاصياً لله عز وجل قال وليس لأصحابه أن ينكروا ذلك عليه وجوز أن يكون في أمة محمد عليه السلام من هو أفضل من قال أبو محمد وهذا كله كفر مجرد وشرك محض وردة عن الإسلام قاطعة للولاية مبيحة دم من دان بها وما له موجبة للبراءة منه في الدنيا ويوم يقوم الإشهاد وذهبت طائفة إلى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم كبيرة من الكبائر أصلاً وجوزوا عليهم الصغائر بالعمد وهو قول ابن فورك الأشعري وذهبت جميع أهل الإسلام من أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلا أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي أصلاً معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة وهو قول ابن مجاهد الأشعري شيخ ابن فورك والباقلاني المذكورين.
قال أبو محمد وهذا قول الذي يدين الله تعالى به ولا يحل لأحد أن يدين بسواه ونقول أنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد ويقع منهم أيضاً قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى والتقرب به منه فيوافق خلاف مراد الله تعالى إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلاً بل ينبههم على ذلك ولا يداثر وقوعه منهم ويظهر عز وجل ذلك لعباده ويبين لهم كما فعل نبيه ﷺ في أمر زينب أم المؤمنين وطلاق زيد لها رضي الله عنهما وفي قصة ابن مكتوم رضي الله عنه وربما يبغض المكروه في الدنيا كالذي أصاب آدم ويونس عليهما الصلاة والسلام والأنبياء عليهم السلام بخلافنا في هذا فإننا غير مؤآخذين بما سهونا فيه ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل فلم يصادف مراده تعالى بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجراً واحداً وقد أخبر رسول الله ﷺ أن الله تعالى قرن بكل أحد شيطاناً وأن الله تعالى أعانه على شيطانه فاسلم فلا يأمره إلا بخير وأما الملائكة فبرآء من كل هذا لأنهم خلقوا من نور محض لا شوب فيه والنور خير كله لا كدر فيه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف.
قال أبو محمد واحتجت الطائفة الأولى بآيات من القرآن وأخبار وردت ونحن إن شاء الله عز وجل نذكرها ونبين غلطهم فيها بالبراهين الواضحة الضرورية وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في آدم عليه السلام
قال أبو محمد فمما احتجوا به قول الله عز وجل " وعصى آدم ربه فغوى وقوله تعالى " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " قال وا فقربها آدم فكان من الظالمين وقد عصى وغوى و قال تعالى " فتاب عليه " والمتاب لا يكون إلا من ذنب و قال تعالى " فأزلهما الشيطان " وإزلال الشيطان معصية وذكروا قول الله تعالى " فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " هذا كل ما ذكروا في آدم عليه السلام.
قال أبو محمد وهذا كله بخلاف ما ظنوا أما قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى فقد علمنا أن كل خلاف لأمر آمر فصورته صورة المعصية فيسمى معصية لذلك وغواية إلا أنه منه ما يكون عن عمد وذكر فهذه معصية على الحقيقة لأن فاعلها قاصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وهذا هو الذي نزهنا عنه الأنبياء عليهم السلام ومنه ما يكون عن قصد إلى خلاف ما أمر به وهو يتاول في ذلك الخير ولا يدري أنه عاص بذلك بل يظن أنه مطيع لله تعالى أو أن ذلك مباح له لأنه يتاول أن لأمر الوارد عليه ليس على معنى الإيجاب ولا على التحريم لكن أما على الندب أن كان بلفظ الأمر أو الكراهية إن كان بلفظ النهي وهذا شيء يقع فيه العلماء والفقهاء والأفاضل كثيراً وهذا هو الذي يقع من الأنبياء عليهم السلام ويؤاخذون به إذا وقع منهم وعلى هذا السبيل أكل آدم من الشجرة ومعنى قوله تعالى " فتكونا من الظالمين " أي ظالمين لأنفسكما والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه فمن وضع الأمر أو النهي في موضع الندب أو الكراهة فقد وضع الشيء في غير موضعه وهذا الظلم من هذا النوع من الظلم الذي يقع بغير قصد وليس معصية لا الظلم الذي هو القصد إلى المعصية وهو يدري أنها معصية وبرهان هذا ما قد نصه الله تعالى من أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة إلا بعد أن أقسم له إبليس أن نهى الله عز وجل لهما عن أكل الشجرة ليس على التحريم وإنهما لا يستحقان بذلك عقوبة أصلاً بل يستحقان بذلك الجزاء الحسن وفوز الأبد قال تعالى حاكياً عن إبليس أنه " فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ " وقد قال عز وجل " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ".
قال أبو محمد فلما نسي آدم عليه السلام عهد الله إليه في أن إبليس عدو له أحسن الظن بيمينه.
قال أبو محمد ولا سلامة ولا براءة من القصد إلى المعصية ولا أبعد من الجراءة على الذنوب أعظم من حال من ظن أن أحداً لا يحلف حانثاً وهكذا فعل آدم عليه السلام فإنه إنما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسياً بنص القرآن ومتأولا وقاصداً إلى الخير لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله تعالى فيكون ملكا مقرباً أو خالداً فيما هو فيه أبدا فأداه ذلك إلى خلاف ما أمره الله عز وجل به وكان الواجب أن يحمل أمر ربه عز وجل على ظاهره لكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ولو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجور ولكن آدم عليه السلام لما فعله ووجد به خراجه عن الجنة إلى نكد الدنيا كان بذلك ظالماً لنفسه وقد سمى الله عز وجل قاتل الخطأ قاتلاً كما سمى العامد والمخطئ لم يتعمد كعصية وجعل في الخطأ في ذلك كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين لمن عجز عن الرقبة وهو لم يتعمد ذنباً وأما قوله عز وجل " فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " فهذا تكفير لآدم عليه السلام ومن نسب لآدم عليه السلام الشرك والكفر كفراً مجرداً بلا خلاف من أحد من الأمة ونحن ننكر على من كفر المسلمين العصاة العشارين القتالين والشرط الفاسقين فكيف من كفر الأنبياء عليهم السلام وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه السلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء لم يصح سندها قط وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها وحتى لو صح أنها نزلت في آدم وهذا لا يصح أصلاً لما كانت فيه للمخالف حجة لأنه كان يكون الشرك أو الشركاء المذكورون في الآية حينئذ على غير الشرك الذي هو الكفر لكن بمعنى أنهما جعلا مع توكلهما شركة من حفظه ومعناه كما قال يعقوب عليه السلام " يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وأنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فأخبرنا عز وجل أن يعقوب عليه السلام أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة إشفاقاً عليهم أما من إصابة العين وإما من تعرض عدو أو مستريب باجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم ولكن لما كانت طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا " إن نحن إلا بشر مثلكم " حملهم ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزاعها وتوقها إلى سلامة من يحب وإن كان ذلك لا يغني شيئاً كما كان عليه السلام يحب الفال المحسن فكان يكون على هذا معنى الشرك والشركاء أن يكون عوذة أو تميمة أو نحو هذا فكيف ولم تنزل الآية قط إلا في الكفار لا في آدم عليه السلام.
الكلام في نوح عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا قول الله عز وجل لنوح " فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ".
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن نوحاً عليه السلام تاول وعد الله تعالى أن يخلصه وأهله فظن أن ابنه من أهله على ظاهر القرابة وهذا لو فعله أحد لكان مأجوراً ولم يسأل نوح تخليص من أيقن أنه ليس من أهله فتفرع على ذلك نهى عن أن يكون من الجاهلين فتندم عليه السلام من ذلك ونزع وليس هاهنا عند للمعصية البتة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إبراهيم عليه السلام
قال أبو محمد ذكروا ما روى عن رسول الله ﷺ من أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات وأنه قال إذ نظر في النجوم أني سقيم وبقوله في الكوكب والشمس والقمر هذا ربي وبقوله في سارة هذه أختي وبقوله في الأصنام إذ كسرها بل فعله كبيرهم هذا وبطلبه إذ طلب رؤية إحياء الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي. قال أبو محمد وهذا كله ليس على ما ظنوه بل هو حجة لنا والحمد لله رب العالمين أما الحديث أنه عليه السلام كذب ثلاث كذبات فليس كل كذب معصية بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصى من تركه صح أن رسول الله ﷺ قال ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيمنى خيراً وقد أباح عليه السلام كذب الرجل لمرأته فيما يستجلب به مودتها وكذلك الكذب في الحرب وفد أجمع أهل الإسلام على أن إنساناً لو سمع مظلوماً قد ظلمه سلطان وطلبه ليقتله بغير حق ويأخذ ماله غصباً فاستتر عنده وسمعه يدعو على من ظلمه قاصداً بذلك السلطان فسأل السلطان ذلك السامع عما سمعه منه وعن موضعه فإنه إن كتم ما سمع وأنكر أن يكون سمعه أو أنه يعرف موضعه أو موضع ماله فإنه محسن مأجور مطيع لله عز وجل وأنه إن صدق فأخبره بما سمعه منه وبموضعه وموضع ماله كان فاسقاً عاصياً لله عز وجل فاعل كبيرة مذموماً نماماً وقد ابيح الكذب في إظهار الكفر في التقية وكل ما روى عن إبراهيم عليه السلام في تلك الكذبات فهو داخل في الصفة المحمودة لا في الكذب الذي نهى عنه وأما قوله عن سارة هي أختي فصدق هي أخته من وجهين قال الله تعالى " إنما المؤمنون أخوة " و قال عليه السلام " لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه " والوجه الثاني القرابة وإنها من قومه ومن مستجيبيه قال عز وجل " وإلى مدين أخاهم شعيباً " فمن عد هذا كذباً مذموماً من إبراهيم عليه السلام فليعده كذباً من ربه عز وجل وهذا كفر مجرد فصح أنه عليه السلام صادق في قوله سارة أخته وأما قوله " فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم " فليس هذا كذباً ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على نعول البحر وكدلالة الرعد على تولد الكمأة وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه واعذاره وارتفاعه وامتلائه ونقصه وإنما المنكر قول من قال أن الكواكب هي الفاعلة المدبرة لذلك دون الله تعالى أو مشتركة معه فهذا كفر من قائله وأما قوله عليه السلام بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى " ذق أنك أنت العزيز الكريم " وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق لأن كبيرهم فعله إذ الكذب إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصداً إلى تحقيق ذلك وأما قوله عليه السلام إذ رأى الشمس والقمر هذا ربي ف قال قوم إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك محققاً أول خروجه من الغار وهذا خرافة موضوعة مكذوبة ظاهرة الافتعال ومن المحال الممتنع أن يبلغ أحد حد التمييز والكلام بمثل هذا وهو لم ير قط شمساً ولا قمراً ولا كوكباً وقد أكذب الله هذا الظن الكاذب بقوله الصادق " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " فمحال أن يكون من اتاه الله رشده من قبل يدخل في عقله أن الكواكب ربه أو أن الشمس ربه من أجل أنها أكبر قرصاً من القمر هذا ما لا يظنه إلا مجنون العقل والصحيح من ذلك أنه عليه السلام إنما قال ذلك موبخاً لقومه كما قال لهم نحو ذلك في الكبير من الأصنام ولا فرق لأنهم كانوا على دين الصابئين يعبدون الكواكب ويصورون الأصنام على صورها وأسمائها في هياكلهم ويعيدون لها الأعياد ويذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرب والقرابين والدخن ويقولون أنها تعقل وتدبر وتضر وتنفع ويقيمون لكل كوكب منها شريعة محدودة فوبخهم الخليل عليه السلام على ذلك وسخر منهم وجعل يريهم تعظيم الشمس لكبر جرمها كما قال تعالى " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " فاراهم ضعف عقولهم في تعظيمهم لهذه الأجرام المسخرة الجمادية وبين لهم أنهم مخطئون وأنها مدبرة تنتقل في الأماكن ومعاذ الله أن يكون الخليل عليه السلام أشرك قط بربه أو شك في أن الفلك بكل ما فيه مخلوق وبرهان قولنا هذا أن الله تعالى لم يعاتبه على شيء مما ذكر ولا عنفه على ذلك بل صدقه تعالى بقوله " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء " فصح أن هذا بخلاف ما وقع لآدم وغيره بل وافق مراد الله عز وجل بما قال من ذلك وبما فعل وأما قوله عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " فلم يقرره ربنا عز وجل وهو يشك في إيمان إبراهيم عبده وخليله ورسوله عليه السلام تعالى الله عن ذلك ولكن تقرير الإيمان في قلبه وإن لم ير كيفية إحياء الموتى فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه مؤمن مصدق وإنما أراد أن يرى الكيفية فقط ويعتبر بذلك وما شك إبراهيم عليه السلام في أن الله تعالى يحيي الموتى وإنما أراد أن يرى الهيئة كما أننا لا نشك في صحة وجود الفيل والتمساح والكسوف وزيادة النهر والخليفة ثم يرغب من لم ير ذلك منا في أن يرى كل ذلك ولا يشك في أنه حق ليرى العجب الذي يتمثله ولم تقع عليه حاسة بصره فقط وأما ما روى عن النبي ﷺ نحن أحق بالشك من إبراهيم فمن ظن أن النبي ﷺ شك قط في قدرة ربه عز وجل على إحياء الموتى فقد كفر وهذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكاً لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك.
قال أبو محمد ومن نسب هاهنا إلى الخليل عليه السلام الشك فقد نسب إليه الكفر ومن كفر نبياً فقد كفر وأيضاً فإن كان ذلك شكاً من إبراهيم عليه السلام وكنا نحن أحق بالشك منه فنحن إذاً شكاك جاحدون كفار وهذا كلام نعلم والحمد لله بطلانه من أنفسنا بل نحن ولله الحمد مؤمنون مصدقون بالله تعالى وقدرته على كل شيء يسأل عنه السائل وذكروا قول إبراهيم عليه السلام لأبيه واستغفاره له وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن نهى عن ذلك قال تعالى " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " فاثنى الله تعالى عليه بذلك فصح أن استغفار إبراهيم لأبيه إنما كان مدة حياته راجياً إيمانه فلما مات كافراً تبرأ منه ولم يستغفر له بعدها تم الكلام في إبراهيم عليه السلام.
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى في لوط عليه السلام أنه قال " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " فقال رسول الله ﷺ رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد فظنوا أن هذا القول منه عليه السلام إنكار على لوط عليه السلام أيضاً " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ".
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أما قوله عليه السلام لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد فليس مخالفاً لقول رسول الله ﷺ رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد بل كلا القولين منهما عليهما السلام حق متفق عليه لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش من قرابة أو عشيرة أو اتباع مؤمنين وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى أمنع قوة وأشد ركن ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس فقد قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " فهذا الذي طلب لوط عليه السلام وقد طلب رسول الله ﷺ من الأنصار والمهاجرين منعة حتى يبلغ كلام ربه تعالى فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله عليه السلام تالله ما أنكر ذلك رسول الله ﷺ وإنما أخبر عليه السلام أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد يعني من نصر الله له بالملائكة ولم يكن لوط علم بذلك ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر وهذا أيضاً ظن سخيف إذ من الممتنع أن يظن برب أراه المعجزات وهو دائباً يدعو إليه هذا الظن وأما قوله عليه السلام هؤلاء بناتي هن فإنما أراد التزويج والوطء في المكان المباح فصح ما قلنا إذ من المحال أن يدعوهم إلى منكر وهو ينهاهم عن المنكر انقضى الكلام في لوط عليه السلام.
الكلام في أخوة يوسف عليهم السلام
قال أبو محمد واحتجوا بفعل أخوة يوسف وبيعهم أخاهم وكذبهم لأبيهم وهذا لا حجة لهم فيه لأن أخوة يوسف عليه السلام لم يكونوا أنبياء ولا جاء قط في أنهم أنبياء نص لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا من إجماع ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأما يوسف ﷺ فرسول الله بنص القرآن قال عز وجل " لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به " إلى قوله " من بعده رسولا " وأما أخوته فأفعالهم تشهد أنهم لم يكونوا متورعين عن العظائم فكيف أن يكونوا أنبياء ولكن الرسولين أباهم وأخاهم قد استغفر لهم وأسقطا التثريب عنهم وبرهان ما ذكرنا من كذب من يزعم أنهم كانوا أنبياء قول الله تعالى حاكياً عن الرسول أخيهم عليه السلام أنه قال لهم " أنتم شر مكاناً " ولا يجوز البتة أن يقول نبي من الأنبياء نعم ولا لقوم صالحين إذ توقير الأنبياء فرض على جميع الناس لأن الصالحين ليسوا شراً مكانا وقد عق ابن نوح أباه بأكثر مما عق به أخوة يوسف أباهم إلا أن أخوة يوسف لم يكفروا ولا يحل لمسلم أن يدخل في الأنبياء من لم يأت نص ولا إجماع أو نقل كافة بصحة نبوته ولا فرق بين التصديق بنبوة من ليس نبياً وبين التكذيب بنبوة من صحت نبوته منهم فإن ذكروا في ذلك ما روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو زيد بن أرقم إنما مات إبراهيم بن رسول الله ﷺ لأنه لا نبي بعد رسول الله ﷺ وأولاد الأنبياء أنبياء فهذه غفلة شديدة وزلة عالم من وجوه أولها أنه دعوى لا دليل على صحتها وثانيها أنه لو كان ما ذكر لأمكن أن ينبأ إبراهيم في المهد كما نبئ عيسى عليه السلام وكما أوتي يحيى الحكم صبيا فعلى هذا القول لعل إبراهيم كان نبيا وقد عاش عامين غير شهرين وحاشا لله من هذا وثالثها أن ولد نوح كان كافراً بنص القرآن عمل عملا غير صالح فلو كان أولاد الأنبياء أنبياء لكان هذا الكافر المسخوط عليه نبياً وحاشا لله من هذا ورابعها لو كان ذلك لوجب ولا بد أن تكون اليهود كلهم أنبياء إلى اليوم بل جميع أهل الأرض أنبياء لأنه يلزم أن يكون الكل من ولد آدم لصلبه أنبياء لأن أباهم نبي وأولاد أولاده أنبياء أيضاً لأن آباءهم أنبياء وهم أولاد أنبياء وهكذا أبداً حتى يبلغ الأمر إلينا وفي هذا من الكفر لمن قامت عليه الحجة وثبت عليه ما لا خفاء به وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد ولعل من جهل مرتين يقول عنا هذا ينكر نبوة أخوة يوسف ويثبت نبوة نبي المجوس ونبوة أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام فنحن نقول وبالله تعالى التوفيق وبه نعتصم لسنا نقر بنبوة من لم يخبر الله عز وجل بنبوته ولم ينص رسول الله ﷺ على نبوته ولا نقلت الكواف عن أمثالها نقلاً متصلاً منه إلينا معجزات النبوة عنه ممن كان قبل مبعث النبي ﷺ بل ندفع نبوة من قام البرهان على بطلان نبوته لأن تصديق نبوة من هذه صفته افتراء على الله تعالى لا يقدم عليه مسلم ولا ندفع نبوة من جاء القرآن بأن الله تعالى نبأه فأما أم موسى وأم عيسى وأم إسحق فالقرآن قد جاء بمخاطبة الملائكة لبعضهن بالوحي وإلى بعض منهن عن الله عز وجل بالأنباء بما يكون قبل أن يكون وهذه النبوة نفسها التي لا نبوة غيرها فصحت نبوتهن بنص القرآن وأما نبي المجوس فقد صح أنهم أهل كتاب بأخذ رسول الله ﷺ الجزية منهم ولم يبح الله تعالى له أخذ الجزية إلا من أهل الكتاب فقد نسب إليه أنه خالف ربه تعالى وأقدم على عظيمة تقشعر منها جلود المؤمنين فإذ نحن على يقين من أنهم أهل كتاب فلا سبيل البتة إلى نزول كتاب من عند الله تعالى على غير نبي مرسل بتبليغ ذلك الكتاب فقد صح بالبرهان الضروري أنهم قد كان لهم نبي مرسل يقيناً بلا شك ومع هذا فقد نقلت عنه كواف عظيمة معجزات الأنبياء عليهم السلام وكل ما نقلته كافة على شرط عدم التواطئ فواجب قبوله ولا فرق بين ما نقلته كواف الكافرين أو كواف المسلمين فيما شاهدته حواسهم ومن قال لا أصدق إلا ما نقلته كواف المسلمين فإنا نسأل بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضرهم مسلم أصلا وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى ومثل هذا كثير فإن كذب هذا غالط نفسه وعقله وكابر حسه وأيضاً فإن المسلمين إنما علمنا أنهم محقون لتحقيق نقل الكافة لصحة ما بأيديهم فبنقل الكافة علمنا هدى المسلمين ولا نعلم بالإسلام صحة نقل الكافة بل هو معلوم بالبينة وضرورة العقل وقد أخبر تعالى أن الأولين زبر و قال تعالى " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " وفي هذه كفاية وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في يوسف عليه السلام
وذكروا أيضاً أخذ يوسف عليه السلام أخاه وايحاشه أباه عليه السلام منه وأنه أقام مدة يقدر فيها على أن يعرف أباه خبره وهو يعلم ما يقاسى به من الوجد عليه فلم يفعل وليس بينه وبينه إلا عشر ليال وبإدخاله صواع الملك وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر أخوته ثم أمر من هتف أيتها العير أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا شيئاً وبقول الله تعالى " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " وبخدمته لفرعون وبقوله للذي كان معه في السجن " اذكرني عند ربك.
قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه ونحن نبين ذلك بحول الله تعالى وقوته فنقول وبالله تعالى نتأيد أما أخذه أخاه وايحاشه أباه منه فلا شك في أن ذلك ليرفق بأخيه وليعود أخوته إليه ولعلهم لو مضوا بأخيه لم يعودوا إليه وهم في مملكة أخرى وحيث لا طاعة ليوسف عليه السلام ولا لملك مصر هنالك وليكون ذلك سبباً لاجتماعه وجمع شمل جميعهم ولا سبيل إلى أن يظن برسول الله ﷺ الذي أوتى العلم والمعرفة بالتأويل إلا أحسن الوجوه وليس من خالفنا نص بخلاف ما ذكرنا ولا يحل أن يظن بمسلم فاضل عقوق أبيه فكيف برسول الله صلى الله عليه وأما ظنهم أنه أقام مدة يقدر فيها على تعريف أبيه خبره ولم يفعل فهذا جهل شديد ممن ظن هذا لأن يعقوب في أرض كنعان من عمل فلسطين في قوم رحالين خصاصين في لسان آخر وطاعة أخرى ودين آخر وأمة أخرى كالذي بيننا اليوم وبين من يضافينا من بلاد النصارى كفاليش وغيرها أو كصحراء البربر فلم يكن عند يوسف عليه السلام علم بعد فراقه أباه بما فعل ولا حي هو أو ميت أكثر من وعد الله تعالى بأن ينبئهم بفعلهم به ولا وجد أحداً يثق به فيرسل إليه للاختلاف الذي ذكرنا وإنما يستسهل هذا اليوم من يرى أرض الشام ومصر لأمير واحد وملة واحدة ولساناً واحداً وأمة واحدة والطريق سابل والتجار ذاهبون وراجعون والرفاق سائرة ومقبلة والبرد ناهضة وراجعة فظن كل بيضاء شحمة ولم يكن الأمر حينئذ كذلك ولكن كما قدمنا ودليل ذلك أنه حين أمكنه لم يؤخره واستجلب أباه وأهله أجمعين عند ضرورة الناس إليه وانقيادهم له للجوع الذي كان عم الأرض وامتيارهم من عنده فانتظر وعد ربه تعالى الذي وعده حين ألقوه في الجب فأتوه ضارعين راغبين كما وعده تعالى في رؤياه قبل أن يأتوه ورب رئيس جليل شاهدنا من أبناء البشاكس والافرنج لو قدر على أن يستجلب أبويه لكان أشد الناس بداراً إلى ذلك ولكن الأمر تعذر عليهم تعذراً أخرجه عن الإمكان إلى الامتناع فهذا كان أمر يوسف عليه السلام وأما قول يوسف لأخوته أنكم لسارقون وهم لم يسرقوا الصواع بل هو الذي كان قد أدخله في وعاء أخيه دونهم فقد صدق عليه السلام لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتم الصواع وإنما قال نفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقداً له بلا شك وأما خدمته عليه السلام لفرعون فإنما خدمه تقية وفي حق لاستنقاذ الله تعالى بحسن تدبيره ولعل الملك أو بعض خواصه قد آمن به إلا أن خدمته له على كل حال حسنة وفعل خير وتوصل إلى الاجتماع بأبيه وإلى العدل وإلى حياة النفوس إذ لم يقدر على المغالبة ولا أمكنه غير ذلك ولا مرية في أن ذلك كان مباحاً في شريعة يوسف عليه السلام بخلاف شريعتنا قال الله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما سجود أبويه فلم يكن ذلك محظوراً في شريعتهما بل كان فعلاً حسناً وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك وأما قوله عليه السلام للذي كان معه في السجن اذكرني عند ربك فما علمنا الرغبة في الانطلاق من السجن محظورة على أحد وليس في قوله ذلك دليل على أنه أغفل الدعاء إلى الله عز وجل لكنه رغب هذا الذي كان معه في السجن في فعل الخير وحضه عليه وهذا فرض من وجهين أحدهما وجوب السعي في كف الظلم عنه والثاني دعاؤه إلى الخير والحسنات وأما قوله تعالى " فأنساه الشيطان ذكر ربه " فالضمير الذي في أنساه وهو الهاء راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن أي أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ويحتمل أيضاً أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام وبرهان ذلك قول الله عز وجل " وادكر بعد أمة " فصح يقيناً أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء وأما قوله " همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فليس كما ظن من لم يمعن النظر حتى قال من المتأخرين من قال أنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم فكيف برسول الله ﷺ فإن قيل أن هذا قد روى عن ابن عباس رضي الله عنه من طريق جيدة الإسناد قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ فقط والوهم في تلك الرواية إنما هي بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ﷺ ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين أما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال تعالى " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " وكما يقول القائل لقد هممت بك لكنه عليه السلام امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدى عليه وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد من القميص والوجه الثاني أن الكلام عند قوله ولقد همت به ثم ابتدأ تعالى خبراً آخر فقال وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وهذا ظاهر الآية بلا تكلف تأويل وبهذا نقول حدثنا أحمد بن محمد ابن عبد الله الطلمنكي حدثنا ابن عون الله أنبأنا إبراهيم بن أحمد ابن فراس حدثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري أنا إسحق ابن راهوية أنا المومل بن إسماعيل الحميري حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناتي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب " قال رسول الله ﷺ لما قالها يوسف عليه السلام قال له جبريل يا يوسف اذكر همك فقال يوسف " وما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء " فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة ولكنه فيه أنه هم بأمر ما وهذا حق كما قلنا فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معاً إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانة لسيده إذ هم بضرب امرأته وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه نفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك وقد خشى النبي ﷺ الهلاك على من ظن به ذلك الظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما هذه صفية.
قال أبو محمد ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف عليه السلام هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم غير سوء فلا بد أنه سوء ولو قال أنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين وأيضاً فإنها قال ت " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً " وأنكر هو ذلك فشهد الصادق المصدق " إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " فصح أنها كذبت بنص القرآن وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوء فما هم بالزنا قط ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جداً وكذلك قوله تعالى عنه أنه قال " وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " فصح عنه أنه قط لم يصب إليها وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في يوسف عليه السلام.
الكلام في موسى عليه السلام وأمه
قال أبو محمد ذكروا قول الله تعالى " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " فمعناه فارغاً من الهم بموسى جملة لأن الله عز وجل قد وعدها برده إليها إذ قال لها تعالى " إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فمن الباطل المحض أن يكون الله تعالى ضمن لها رده إليها ثم يصبح قلبها مشغولاً لا بالهم بأمره هذا ما لا يظن بذي عقل أصلاً وإنما معنى قوله تعالى إن كادت لتبدي به أي سروراً بما أتاه الله عز وجل من الفضل وقولها لأخته قصيه إنما هو لترى أخته كيفية قدرة الله تعالى في تخليصه من يدي فرعون عدوه بعد وقوعه فيهما وليتم بها ما وعدها الله تعالى من رده إليها فبعثت أخته لترده بالوحي وذكروا قول الله تعالى عن موسى عليه السلام فأخذ برأس أخيه يجره إليه " قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " قالوا وهذه معصية أن يأخذ بلحية أخيه وشعره وهو نبي مثله وأسن منه ولا ذنب له.
قال أبو محمد وهذا ليس كما ظنوا وهو خارج على وجهين أحدهما أن أخذه برأس أخيه ليقبل بوجهه عليه ويسمع عتابه له إذ تأخر عن اتباعه إذ رآهم ضلوا ولم يأخذ بشعر أخيه قط إذ ليس ذلك في الآية أصلاً ومن زاد ذلك فيها فقد كذب على الله تعالى لكن هارون عليه السلام خشى بادرة من موسى عليه السلام وسطوة إذ رآه قد اشتد غضبه فأراد توقيفه بهذا الكلام عما تخوفه منه وليس في هذه الآية ما يوجب غير ما قلنا ولا أنه مد يده إلى أخيه أصلاً وبالله تعالى التوفيق والثاني أن يكون هارون عليه السلام قد يكون استحق في نظر موسى عليه السلام النكير لتأخيره عن لحاقه إذ رآهم ضلوا فأخذ برأسه منكراً عليه ولو كان هذا لكان إنما فعله مومى عليه السلام غضباً لربه عز وجل وقاصداً بذلك رضاء الله تعالى ولسنا نبعد هذا من الأنبياء علهم السلام وإنما نبعد القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية وهذا هو معنى ما ذكره الله تعالى عن إبراهيم خليله ﷺ إذ قال " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " وقول الله تعالى لمحمد ﷺ " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " إنما الخطيئة المذكورة والذنوب المغفورة ما وقع بنسيان أو بقصد إلى الله تعالى إرادة الخير فلم يوافق رضا الله عز وجل بذلك فقط وذكروا قول موسى عليه السلام للخضر عليه السلام " أقتلت نفساً زكية بغير نفس " فأنكر موسى عليه السلام الشيء وهو لا يعلمه وقد كان أخذ عليه العهد أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً فهذا أيضاً لا حجة لهم فيه لأن ذلك كان على سبيل النسيان وقد بين موسى عليه السلام ذلك بقوله " لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً " فرغب إليه أنه لا يؤاخذه بنسيانه ومؤاخذة الخضر له بالنسيان دليل على صحة ما قلنا من أنهم عليهم السلام مؤاخذون بالنسيان وبما قصدوا به الله عز وجل فلم يصادفوا بذلك مراد الله عز وجل وتكلم موسى عليه السلام على ظاهر الأمر وقدر أن الغلام زكي إذ لم يعلم له ذنباً وكان عند الخضر العلم الجلى بكفر ذلك الغلام واستحقاقه القتل فقصد موسى عليه السلام لكلامه في ذلك وجه الله تعالى والرحمة وإنكار ما لم يعلم وجهه وذكروا قول موسى عليه السلام " فعلتها إذاً وانا من الضالين " فقول صحيح وهو حاله قبل النبوة فإنه كان ضالاً عما اهتدى له بعد النبوة وضلال الغيب عن العلم كما تقول أضللت بعيري لا ضلال القصد إلى الإثم وهكذا قول الله تعالى لنبيه ﷺ " ووجدك ضالاً فهدى " أي ضالاً عن المعرفة وبالله تعالى التوفيق وذكروا قول الله عز وجل عن بني إسرائيل " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " قالوا وموسى قد سأل ربه مثل ذلك فقال " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " قالوا فقد سأل موسى عليه السلام أمراً عوقب سائلوه قبله.
قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه خارج على وجهين أحدهما أن موسى عليه السلام سأل ذلك قبل سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى وقبل أن يعلم أن سؤال ذلك لا يجوز فهذا لا مكروه فيه لأنه سأل فضيلة عظيمة أراد بها علو المنزلة عند ربه تعالى والثاني أن بني إسرائيل سألوا ذلك متعنتين وشكاكا في الله عز وجل وموسى سأل ذلك على الوجه الحسن الذي ذكرنا آنفاً.
الكلام على يونس عليه السلام
قال أبو محمد وذكروا أمر يونس عليه السلام وقول الله تعالى عنه " وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقوله تعالى " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " وقوله لنبيه عليه السلام " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم " وقوله تعالى " فالتقمه الحوت وهو مليم " قالوا ولا ذنب أعظم من المغاضبة لله عز وجل ومن أكبر ذنباً ممن ظن أن الله لا يقدر عليه وقد أخبر الله تعالى أن استحق الذم لولا أن تداركه نعمة الله عز وجل وأنه استحق الملامة وأنه أقر على نفسه أنه كان من الظالمين ونهى الله تعالى نبيه أن يكون مثله.
قال أبو محمد هذا كله لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا على صحة قولنا والحمد لله رب العالمين أما أخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً فلم يغاضب ربه قط ولا قال الله تعالى أنه غاضب ربه فمن زاد هذه الزيادة كان قائلاً على الله الكذب وزائداً في القرآن ما ليس فيه هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل أنه يغاضب ربه تعالى فكيف أن يفعل ذلك نبياً من الأنبياء فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل فعوقب بذلك وأن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل وأما قوله تعالى " فظن أن لن نقدر عليه " فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه وهو يرى أن آدمياً مثله يقدر عليه ولا شك في أن من نسب هذا للنبي ﷺ الفاضل فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه فكيف إلى يونس عليه السلام الذي يقول فيه رسول الله ﷺ لا تفضلوني على يونس بن متى فقد بطل ظنهم بلا شك وصح أن معنى قوله " فظن أن لن نقدر عليه " أي لن نضيق عليه كما قال تعالى " وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ " أي ضيق عليه فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك وإنما نهى الله عز وجل لمحمد ﷺ عن أن يكون كصاحب الحوت فنعم نهاه الله عز وجل عن مغضبته قومه وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم وأما قول الله تعالى أنه استحق الذم والملامة لولا النعمة التي تداركه بها للبث معاقباً في بطن الحوت فهذا نفس ما قلناه من ان الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عز وجل إذ لم يوافق مراد ربهم وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين والظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما وضع النبي ﷺ المغاضبة في غير موضعها اعترف في ذلك بالظلم لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم انقضى الكلام في يونس عليه السلام وبالله تعالى التوفيق.
وذكروا أيضاً قول الله تعالى حاكياً عن داود عليه السلام " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان " إلى قوله فغفرنا له ذلك.
قال أبو محمد وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزؤن الكاذبون المتعلقون بخرافات ولدها اليهود وإنما كان ذلك الخصم قوماً من بني آدم بلا شك مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم بغى أحدهما على الآخر على نص الآية ومن قال أنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عز وجل وقوله ما لم يقل وزاد في القرآن ما ليس فيه وكذب الله عز وجل وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة لأن الله تعالى يقول " هل أتاك نبأ الخصم " فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغي بعضهم على بعض ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ولا كان للآخر نعجة واحدة ولا قال له أكفلنيها فاعجبوا لم يقحمون فيه أهل الباطل أنفسهم ونعوذ بالله من الخذلان ثم كل ذلك بلا دليل بل الدعوى المجردة وتالله أن كل أمرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ثم يعرض زوجها للقتل عمداً ليتزوجها وعن أن يترك صلاته لطائر يراه هذه أفعال السفهاء المتكهوكين الفساق المتمردين لأفعال أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود ﷺ الذي أوحي إليه كتابه وأجرى على لسانه كلامه لقد نزهه الله عز وجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله فكيف أن يستضيف إلى أفعاله وأما استغفاره وخروره ساجداً ومغفرة الله تعالى له فالأنبياء عليهم السلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة والاستغفار فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ولا من غير مذنب فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى " ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " وأما قوله تعالى عن داود عليه السلام " وظن داود إنما فتناه " وقوله تعالى " فغفرنا له ذلك " فقد ظن داود عليه السلام أن يكون ما أتاه الله عز وجل من سعة الملك العظيم فتنة فقد كان رسول الله ﷺ يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه فأستغفر الله تعالى من هذا الظن فغفر الله تعالى له هذا الظن إذ لم يكن ما أتاه الله تعالى من ذلك فتنة.
الكلام في سليمان عليه السلام
وذكروا قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ".
قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا إذ معنى قوله تعالى فتنا سليمان أي أتيناه من الملك ما أختبرنا به طاعته كما قال تعالى مصدقاً لموسى عليه السلام في قوله تعالى " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " إن من الفتنة من يهدي الله من يشاء و قال تعالى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط وما عدا هذا فخرافات ولدها زنادقة اليهود وأشباههم وأما الجسد الملقى على كرسيه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد نؤمن بهذا كما هو ونقول صدق الله عز وجل كل من عند الله ربنا ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله ﷺ بتفسير هذا الجسد ما هو لقلنا به فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك فيكون كاذباً على الله عز وجل إلا أننا لا نشك البتة في بطلان قول من قال أنه كان جنيا تصور بصورته بل نقطع على أنه كذب والله تعالى لا يهتك ستر رسوله ﷺ هذا الهتك وكذلك نبعد قول من قال أنه كان ولداً له أرسله إلى السحاب ليربيه فسليمان عليه السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عز وجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة لم يصح اسنادها قط وذكروا أيضاً قول الله عز وجل عن سليمان عليه السلام " إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق " وتأولوا ذلك على ما قد نزه الله عنه من له أدنى مسكة من عقل من أهل زماننا وغيره فكيف بنبي معصوم مفضل في أنه قتل الخيل إذ اشتغل بها عن الصلاة.
قال أبو محمد وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها واتلاف مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف بنبي مرسل ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه عليه السلام أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده براً بها وإكراماً لها هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قاله ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ وذكروا أيضاً الحديث الثابت من قول رسول الله ﷺ أن سليمان عليه السلام قال لطوفن الليلة على كذا وكذا امرأة كل امرأة منهن تلد فارساً يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله.
قال أبو محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه فإن من قصد تكثير المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عز وجل فقد أحسن ولا يجوز أن يظن به أنه يجهل أن ذلك لا يكون إلا أن يشاء الله عز وجل وقد جاء في نص الحديث المذكور أنه إنما ترك إن شاء الله نسياناً فأوخذ بالنسيان في ذلك وقد قصد الخير وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين تم الكلام في سليمان عليه الصلاة والسلام.
فصل وذكروا قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين "
قال أبو محمد وهذا ما لاحجة لهم فيه لأنه ليس في نص الآية ولا عن رسول الله ﷺ أن هذا المذكور كان نبياً وقد يكون أنباء الله تعالى لهذا المذكور آياته أنه أرسل إليه رسولاً بآياته كما فعل بفرعون وغيره فأنسلخ منها بالتكذيب فكان من الغاوين وإذا صح أن نبياً يعصى الله عز وجل تعمداً فمن المحال أن يعاقبه الله تعالى على ما لا يفعل ولا عقوبة أعظم من الحط عن النبوة ولا يجوز أن يعاقب بذلك نبي البتة لأنه لا يكون منه ما يستحق به هذا العقاب وبالله تعالى التوفيق فصح يقيناً أن هذا المنسلخ لم يكن قط نبياً وذكروا قول رسول الله ﷺ أن ما من أحد إلا من ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو كلاماً هذا معناه.
قال أبو محمد وهذا صحيح وليس خلافاً لقولنا إذ قد بينا أن الأنبياء عليهم السلام يقع منهم النسيان وقصد الشيء يظنونه قربة إلى الله تعالى فأخبر عليه السلام أنه لم ينجح من هذا أحد إلا يحيى ابن زكريا عليهما السلام فيقوم من هذا أن يحيى لم ينس شيئاً واجباً عليه قط ولا فعل إلا ما وافق فيه مراد ربه عز وجل.
الكلام في محمد ﷺ
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " وقوله تعالى " عبس وتولى إن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك إلا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى " وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجي وذكروا قول الله تعالى " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وبقوله تعالى " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله " وإن الوحي امتسك عنه عليه السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف وبقوله تعالى " وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " وبما روى من قوله عليه السلام لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة إذ قبل الفداء وترك قتل السرى ببدر وبما روى من قوله عليه السلام لو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر لأن عمر أشار بقتلهم وذكروا أنه عليه السلام مال إلى رأي أبي بكر في الفدا والاستبقاء وبقوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قالوا فإن لم يكن له ذنب فماذا غفر له وبأي شيء أمتن الله عليه في ذلك وبقوله ﷺ لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت فإنما هذا إذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم " فأمسك عن الخروج من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك ما كان شك فيه فأخبر محمد ﷺ أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه كما ذكرنا من كلامه عليه السلام لو لبث في السجن ما لبث يوسف عليه السلام ثم دعيت لأجبت الداعي أو كلاماً هذا معناه وأما قول الله عز وجل " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " فقد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان أو بقصد إلى ما يظنون خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عز وجل له وأما قوله " لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله ﷺ وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين المتشتتين عليه يبين ذلك قوله تعالى " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى " يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا " تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة " فهذا نص القرآن وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله ﷺ وأما الخبر المذكور الذي فيه لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ولو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر فهذا خبر لا يصح لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي وهو ممن قد صح عليه وضع الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من انه قصد الخير بذلك وأما قوله تعالى " عبس وتولى " الآيات فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير وأظهر الدين وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية النظر للدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي وهذا نفس ما قلناه وكما سهى عليه السلام من اثنتين ومن ثلاث وقام من اثنتين ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً نعم ولا يفعل ذلك تعمداً إنساناً منا فيه خير وأما الحديث الذي فيه وأنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد وأما قوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان " الآية فلا حجة لهم فيها لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها وقد تمنى النبي ﷺ إسلام عمه أبي طالب ولم يرد الله عز وجل كون ذلك فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية وبالله تعالى التوفيق وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق وأما قوله " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا إن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت " فقد كفى الله عز وجل الكلام في ذلك ببيانه في أخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك وأما قوله تعالى " وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه " فقد انفنا من ذلك إذ لم يكن فيه معصية أصلاً ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره وإنما خشى النبي ﷺ الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولاً ويظنوا ظناً فيهلكوا كما قال عليه السلام للأنصاريين إنها صفية فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي ﷺ أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به عليه السلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي ﷺ تعمد المعاصي فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ بالله من الخذلان وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها.
قال أبو محمد فإن قال قائل أنكم تحتجون كثيراً بقول الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى " وبقوله " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " وبقوله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " وبقوله عليه السلام إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وآذر وتقولون من أجل هذه النصوص إن كل قول قاله عليه السلام فبوحي من الله قاله وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى ورضي منه عمله فأخبرونا عن سلامه ﷺ من ركعتين ومن ثلاث وقيامه من اثنتين وصلاته الظهر خمساً وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك أو بوحي من الله تعالى وبرضاه فعل كل ذلك أم كيف تقولون وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك أم لا.
قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكر هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله وكل من قدر ولم يشك في أنه قد أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم فإذا علم بعد ذلك أنه سهى فقد لزمته شريعة الاتمام وسجود السهو برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصداً إلى الزيادة في صلاته على تقديره أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطناً وظاهراً ولاستحق اسم الفسق والمعصية وكذلك من قدر أنه لم يصل إلا ركعة واحدة وأنه لم يتم صلاته فإن الله أمره بالزيادة في صلاته يقيناً حتى لا يشك في الإتمام وبأن يقوم إلى ثانية عنده فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمداً مستهزئاً أو سلم من ثلاث عنده متعمداً لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به وكذلك أمره الله وأمرنا بالحكم بالبينة العدلة عندنا وباليمين من المنكر وباقرار المقر وإن كانت البينة عامدة للكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمن علينا وهكذا في الفروج والأموال برهان ذلك أن حاكماً لو شهد عنده بينة عدل عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقاً بلا خلاف عاصياً لله عز وجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به وإن وافق حقاً لم يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا " بتخفيف الذال وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدهم من نصرهم ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عز وجل ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ومن أجار إلى نبي الكفر فهو المرتد بلا شك والذي قلنا هو ظاهر الآية وليس فيها أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا وذكروا أيضاً قول الله تعالى " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قال أبو محمد إنما عهدنا هذا الاعتراض من أهل الكتاب وغيرهم وأما من يدعى أنه مسلم فلا ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى الله عليه السلام كان شاكا في صحة الوحي إليه ولنا في هذه الآية رسالة مشهودة وجملة حل هذا الشك إن في هذه الآية المذكورة بمعنى ما التي للجحد بمعنى " وما كنت في شك مما أنزلنا إليك " ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريراً لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة والانجيل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا وبالله التوفيق ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في الإتيان بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا قال الله تعالى " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامةمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ /C_QURAN> " فوجدنا الله تعالى وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم السلام الغلول والكفر ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب قد صح الإجماع بذلك وأن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئاً من تعمد الذنب جوز عليهم الغلول ومن نفى عنهم الغلول نفى عنهم سائر الذنوب وقد صح نفي الغلول عنهم بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء الغلول و قال عز وجل " أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون ".
قال أبو محمد فلا يخلو مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهم السلام قد اجترحوا السيئآت من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول في سائر الناس من لم يعص ولا اجترح سيئة قيل له فمن هؤلاء الذين نفي الله عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئآت مثلهم إذ كانوا غير موجودين في العالم فلا بد من أن يجعل كلام الله عز وجل هذا فارغاً لا معنى له وهذا كفر من قائله أو يقول هم الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها " سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون " ولا نص ولا إجماع على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به بل البرهان موجب أن لا يموتوا لأن الجنة دار لا موت فيها والملائكة سكان الجنان فيها خلقوا وفيها يخلدون أبداً وكذلك الحور العين وأيضاً فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المراكب وقد نص رسول الله ﷺ على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيهم شيء يفارق شيئاً فيسمى موتاً فإن اعترض معترض بقوله " كل نفس ذائقة الموت " لزمه أن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة دار موت وقد أبعدها الله تعالى عنه قال الله تعالى " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " فعلمنا بهذا النص أن قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت " إنما عنى به من كان في غير الجنة من الجن والأنس وسائر الحيوان المركب الذي يفارق روحه جسده وبالله تعالى التوفيق ويرد أيضاً قوله أن قال بهذا رسول الله ﷺ ما من أحد إلا وقد ألم أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح السيئات لا يساويهم كما قال هز وجل فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنده يجترحون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها فوجب أن يكون في الناس من هو أفضل من الأنبياء عليهم السلام وهذا كفر وما قدرنا أن أحداً ممن ينتمي إلى أهل الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطلق لسانه بهذا حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي ﷺ من هو أفضل من النبي ﷺ من حين يبعث إلى حين يموت فاستعظمنا ذلك وهذا شرك مجرد وقدح في النبوة لا خفاء به وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون أن الولي أفضل من النبي وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الارتداد.
قال أبو محمد ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ويدري فضيلة النبوة لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا التكذيب للنبي ﷺ إذ يقول أني لأتقاكم لله وإني لست كهيئتكم وإني لست مثلكم فإذ قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئة وإن من اجترح السيئآت لا يساويهم عند الله عز وجل فالأنبياء عليهم السلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام بقول الله عز وجل " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه وقد اعترض علينا بعض المخالفين بأن قال فما تقول فيمن بلغ فآمن وذكر الله مرات ومات أثر ذلك أو في كافر أسلم وقاتل مجاهداً وقتل فجوابنا وبالله التوفيق أن نقول أما من كان كافراً ثم أسلم فقد اجترح من السيئآت بكفره ما هو أعظم من السموات والأرض وإن كان قد غفر له بإيمانه ولكن قد حصل بلا شك من جملة من فد اجترح السيئآت وأما من بلغ فآمن وذكر الله تعالى ثم مات فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لولا قول الله عز وجل " أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " فإن الله تعالى قطع قطعاً لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجتراح السيئآت كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم أثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي ﷺ أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصفه فإذ هذا كما قلنا فقول الله عز وجل وقول رسوله ﷺ أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليه السلام ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا فنحن نقطع قطعاً بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئآت الله أعلم بها وبالله التوفيق.
قال أبو محمد ومن البرهان على أنه لم يكن البتة أن يعصي نبي قوله ﷺ ما كان لنبي أن تكون له خائنة إلا عين لما قال له الأنصاري هلا أو مأت إلى في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفي عليه السلام عن جميع الأنبياء عليهم السلام أن تكون لهم خائنة إلا عين وهو أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الباطن للظاهر فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها.
قال أبو محمد وأيضاً فإننا مندوبون إلى الإقتداء بالأنبياء عليهم السلام وإلى الإيتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " و قال تعالى " أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ " فصح يقيناً أنه لو جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهم السلام ذنب تعمد صغيراً وكبيراً كان الله عز وجل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب وهذا كفر مجرد ممن أجازه فقد صح يقيناً أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق.
قال أبو محمد وأيضاً فقد صح عن النبي ﷺ عظيم إنكاره على ذي الخويصرة لعنه الله ولعن أمثاله إذ قال الكافر اعدل يا محمد إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ف قال له رسول الله ﷺ ويحك من يعدل إذا أنا لم أعدل ايأمنيني الله ولا تأمنوني وقوله عليه السلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في رمضان إلا أخبرتها أني فعلت ذلك وغضب عليه السلام إذ قال له لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فأنكر عليه السلام إذ جعل له ذنباً بعمد وإن صغر و قال عليه السلام إني والله لأعلمكم بالله وأتقاكم لله أو كلاماً هذا معناه فإن قال قائل فهلا نفيتم عنهم عليهم السلام السهو بدليل الندب إلى الايتساء بهم عليهم السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق والسهو منهم قد ثبت بيقين وأيضاً فإن ندب الله تعالى لنا إلى الايتساء بهم عليهم السلام لا يمنع من وقوع السهو منهم لأن الايتساء بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهواً ولا يجوز أيضاً أن ننهي عن السهو لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا وقد قال تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " ونقول أيضاً إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله ﷺ إذ سها وأيضاً فإن الله تعالى لا يقر الأنبياء عليهم السلام على السهو بل ينبههم في الوقت ولو لم يفعل ذلك تعالى لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول تعالى " تبياناً لكل شيء " وإذ يقول " اليوم أكملت لكم دينكم " وقوله تعالى " وقد فصل لكم ما حرم عليكم ".
قال أبو محمد فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهم السلام شيئاً من الذنوب بالعمد صغيرها وكبيرها إذا لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلاً وإذ قد قامت البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة.
قال أبو محمد ولو جاز من الأنبياء عليهم السلام شيء من المعاصي وقد ندبنا إلى الايتساء بهم وبأفعالهم لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ولعل كل ما عمله عليه السلام معاص ولقد قلت يوماً لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر بالعمد أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها ف قال نعم قلت تجوز أنه يظن بالنبي ﷺ أنه يقبل امرأة غيره متعمداً ف قال معاذ الله من هذا ورجع إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد قال الله تعالى " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً ".
قال أبو محمد ومن الباطل المحال أن يتم الله نعمته على عبد ويعصى الله بما كبر وما صغر إذ لو كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة بل ناقصة إذ خذله فيما عصى فيه و قال تعالى " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " و قال الله تعالى " لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ".
قال أبو محمد وما وقر رسول الله ﷺ ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلى الله عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا زناة ولاطة وبغائين ووالله ما نعلم كفراً أعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه المقالة وليت شعري ما الذي أمنهم من كذبهم في البليغ لأنا لا ندري لعلهم بلغوا إلينا الكذب عن الله تعالى.
قال أبو محمد فنقول لهم ولعل أفعاله التي نأتى بها تبديل للدين ومعاص لله عز وجل ولا فرق.
قال أبو محمد وما نعلم أهل قرية أشد سعياً في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه المقالة فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه وصرحت هذه الفئة مع ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا وأنه لا حكم الله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا وإن كان مختلفاً متناقضاً وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن نعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد فإن قائل قائل إنكم تقولون أن الأنبياء عليهم السلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير إذا لم يوافق مراد الله تعالى فهلا أوخذ رسول الله ﷺ بسهوه في الصلاة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد عفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهذه فضيلة مما فضل به على جميع النبيين عليهم السلام وهكذا نص عليه السلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي فكل ذكر خطيئة أو سكت فلما ذكروا النبي ﷺ قال قائلهم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبطل أن يؤاخذ بما غفره الله وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد فإن قال قائل أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهم السلام يأتي معصية قبل أن يتنبأ قلنا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون متعبداً بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليه السلام وإما أن يكون قد نشأ في قوم درست شريعتهم ودثرت ونسيت كما في بعثة محمد ﷺ في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام قال تعالى " ووجدك ضالا فهدى " و قال تعالى " لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم " فإن كان النبي متعبداً بشريعة ما فقد أبطلنا آنفاً أن يكون نبي يعصى ربه أصلاً وإن كان نشأ في قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ولا مأمور بما لم يأته أمر الله تعالى به فليس عاصياً لله تعالى في شيء يفعله أو يتركه إلا أننا ندري أن الله عز وجل قد طهر أنبياءه وصانهم من كل ما يعابون به لأن العيب أذى وقد حرم الله عز وجل أن يؤذى رسوله قال تعالى " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا ".
قال أبو محمد فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من أولاد بغى أو من بغايا بل بعثهم الله تعالى في حسب قومهم فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة فدخل في ذلك السرقة والعدوان والقسوة والزنا واللياطة والبغي وأذى الناس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره وقد صح عن النبي ﷺ في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن فرج انا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنبأنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري انا إسحاق بن راهويه انا وهب بن جرير بن حازم انا أبي أنبأنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منها قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم فلما خرجت فجئت أدني دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزمير فقلت ما هذا قالوا فلان تزوج فلانة لرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئاً فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته.
قال أبو محمد فصح أنه عليه السلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة لا قبل النبوة ولا بعدها ولا هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ولا بعدها إلا مرتين بالسمر حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهى عنه بعد والهم حينئذ بالسمر ليس هماً بزنا ولكنه بما يحذوا إليه طبع البرية من استحسان منظر حسن فقط وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت وتزيدها هنا بيناً في ذلك وبالله تعالى التوفيق إن قوماً نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر وحكما بالزور وقتلا النفس وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكباً وهي الزهرة وأنهما عذبا في غار ببابل وأنهما يعلمان الناس السحر وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة يقال له النخعى ومرة يقال له الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليس أيضاً عن رسول الله ﷺ ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله ﷺ وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا.
قال أبو محمد ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى " الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ " فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق بل كا ذلك من الباطل ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا النبي بالوحي فقط وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا " فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس و قال تعالى " ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون " فكذب الله عز وجل كل من قال أن ملكا نزل قط من السماء ظاهراً إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط و قال عز وجل " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا " الآية فرفع الله تعالى الأشكال بهذا النص في هذه المسألة وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيها فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز وأن من قال ذلك فقد قال حجراً محجوراً أي ممتنعاً وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمى هذا الفعل استكباراً وعتواً وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبداً إلى يوم القيامة فقط وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قبل إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن ما في قوله " وما أنزل على الملكين " نفى لأن ينزل على الملكين ويكون هاروت وماروت حينئذٍ بدلاً من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا يعلمان الناس السحر وقد روينا هذا القول عن خالد ابن أبي عمران وغيره وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام وكان يقول أن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين وقد اعترض بعض الجهال ف قال لي أبلغ من رفق الشيطان أن يقول للذي يتعلم السحر لا تكفر فقلت له هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات أحدهما أن نقول لك وما المانع من أن يقول الشيطان ذلك أما سخرياً وأما لما شاء الله فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا والثاني أنه قد نص الله عز وجل على أن الشيطان قال إني أخاف الله فقال تعالى " وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إلى قوله تعالى " إني أخاف الله والله شديد العقاب " وقال تعالى " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخاف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم و قال أني أخاف الله فأي فرق بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغره ثم يتبرأ منه ويقول أني أخاف الله وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر والثالث أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكاً أو شيطاناً قد علمه على قولك ما لا يحل و قال له لا تكفر فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك وأنت تنسب إليه أنه يعلم السحر الذي عندك ضلال وكفر وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق بعلم ما على أنبياء فعلماهم الدين و قال ا لهم لا تكفروا نهياً عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر ويهدي بهما من آمن به قال تعالى عن موسى أنه قال له " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " وكما قال تعالى " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين فصار كفراً بعد أن كان إيماناً كما نسخ تعالى شرائع التوراة والانجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو إقحام أقحم بالآية بالكذب والافك بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل " ولا يجوز أن يجعل المعطوف عليه شيئاً واحد ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا وأيضاً فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان ذلك لما خفى مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعليق بهاروت وماروت والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكاً فعصا وحاشا لله من هذا لأن الله تعالى قد أكذب هذا القول بقوله تعالى " إلا إبليس كان من الجن " وبقوله " افتتخذونه وذريته أولياء من دوني " ولا ذرية للملائكة وبقوله تعالى " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم وصح عن النبي ﷺ أنه قال خلقت الملائكة من نور والنور غير النار بلا شك فصح أن الجن غير الملائكة والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن والجن والأنس فيهما مذموم ومحمود فإن قال قائل أن الله عز وجل ذكر أنهم قالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " وهذا تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " قلنا وبالله تعالى التوفيق مدح المرء نفسه ينقسم قسمين أحدهما ما قصد به المرء افتخاراً بغياً وانتقاصاً لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جداً والآخر ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله ﷺ أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفضلت على الأنبياء وكقول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ولا يسمى هذا تزكية ومن هذا الباب قول الملائكة ههنا برهان هذا أنه لو كان قولهم مذموماً لأنكره الله عز وجل عليهم فإذ لم ينكره الله تعالى فهو صدق ومن هذا الباب قولنا نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين نحن أنصار الله فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر فهو خير فإن قال قائل أن الله تعالى قال لهم " إني أعلم ما لا تعلمون " قلنا نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون وليس هذا إنكاراً وأما الجن فقد قلنا أنهم متعبدون بملة الإسلام وقد صح عن النبي ﷺ أن الروث والعظام طعام إخواننا من الجن وهذا بخلاف حكمنا فقد يخصهم الله عز وجل بأوامر خلاف أوامرنا كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم وكل ذلك دين الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مؤمناً مسلماً إلا من استدل
قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري والأشعرية كلها حاشا السمناني إلى أنه لا يكون مسلماً إلا من استدل وإلا فليس مسلما وقال الطبري من بلغ الاحتلام أو الاشعار من الرجال والنساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله عز وجل بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال وقال أنه إذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمها وتدريبهما على الاستدلال على ذلك وقالت الأشعرية لا يلزمها الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ.
قال أبو محمد وقال سائر أهل الإسلام كل من اعتقد بقلبه اعتقاداً لا يشك فيه وقال بلسانه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن كل ما جاء به حق وبرئ من كل دين سوى دين محمد ﷺ فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك.
قال أبو محمد فاحتجت الطائفة الأولى بأن قالت قد اتفق الجميع على أن التقليد مذموم وما لم يكن يعرف باستدلال فإنما هو تقليد لا واسطة بينهما وذكروا قول الله عز وجل " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وقال تعالى " قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ " وقال تعالى " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ " وقال تعالى " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " وقالوا فذم الله تعالى اتباع الآباء والرؤساء قالوا وبيقين ندري أنه لا يعلم أحد أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الآباء شيأ أو لا يعلمون إلا بالدليل وقالوا كل مل لم يكن يصح بدليل فهو دعوي ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما لكن بالدليل قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " قالوا فمن لا برهان له فليس صادقاً في قوله وقالوا ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا يعرف صحة الصحيح منها من بطلان الباطل منها بالحواس أصلاً فصح أنه لا يعلم ذلك إلا عن طريق الاستدلال فإذا لم يكن الاستدلال فليس المرء عالما بما لم يستدل عليه وإذا لم يكن عالما فهو شاك ضال وذكروا قول رسول الله ﷺ في مسآئله الملك في القبر ما تقول في هذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن فإنه يقول هو محمد رسول الله قال وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته قالوا وقد ذكر الله عز وجل الاستدلال على الربوبية والنبوة في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن دليل كما قلنا.
قال أبو محمد هذا كلما موهوا به قد تقصيناه لهم غاية التقصي وكل هذا لا حجة لهم في شيء منه على ما نبين بحول الله وقوته إن شاء الله تعالى لا إله إلا هو بعد أن نقول قولاً نصصحه المشاهدة إن جمهور هذه الفرقة أبعد من كل من ينتمي إلى البحث والاستدلال عن المعرفة بصحة الدلائل فأعجبوا لهذا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
قال أبو محمد أما قولهم قد أجمع الجميع على أن التقليد مذموم وأن ما لا يعرف باستدلال فإنما هو أخذ تقليد إذ لا واسطة بينهما فإنهم شغبوا في هذا الإمكان وولبوا فتركوا التقسيم الصحيح ونعم أن التقليد لا يحل البتة وإنما التقليد أخذ المرء قول من دون رسول الله ﷺ ممن لم يأمرنا الله عز وجل باتباعه قط ولا بأخذ قوله بل حرم علينا ذلك ونهانا عنه وأما أخذ المرء قول رسول الله ﷺ الذي افترض علينا طاعته وألزمنا اتباعه وتصديقه وحذرنا عن مخالفة أمره وتوعدنا على ذلك أشد الوعيد فليس تقليداً بل هو إيمان وتصديق واتباع للحق وطاعة لله عز وجل وأداء للمفترض فموه هؤلاء القوم بأن أطلقوا على الحق الذي هو اتباع الحق اسم التقليد الذي هو باطل وبرهان ما ذكرنا أن امراءً لو اتبع أحداً دون رسول الله ﷺ في قول قاله لأن فلاناً قاله فقط واعتقد أنه لو لم يقل ذلك الفلان ذلك القول لم يقل به هو أيضاً فإن فاعل هذا القول مقلد مخطى عاص لله تعالى ولرسوه ظالم آثم سواء كان قد وافق قوله ذلك الحق الذي قاله الله ورسوله أو خالفه وإنما فسق لأنه اتبع من لم يؤمر باتباعه وفعل غير ما أمره الله عز وجل أن يفعله ولو أن امراءً اتبع قول الله عز وجل وقول رسول الله ﷺ لكان مطيعاً نحسناً مأجوراً غير مقلد وسواء وافق الحق أو وهم فأخطأ وإنما ذكرنا هذا لنبين أن الذي أمرنا به وافترض علينا هو اتباع ما جاء به رسول الله ﷺ فقط وأن الذي حرم علينا هو اتباع من دونه أو اختراع قول لم يأذن به الله تعالى فقط وقد صح أن التقليد باطل لا يحل فمن الباطل الممتنع أن يكون الحق باطلاً معا والمحسن مسيئاً من وجه واحد معا فإذ ذلك كذلك فمتبع من أمر الله تعالى باتباعه ليس مقلداً ولا فعله تقليداً وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فسقط تمويههم بذم التقليد وصح أنهم وضعوه في غير موضعه وأوقعوا اسم التقليد على ما ليس تقليداً وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بذم الله تعالى اتباع الأباء والكبراء فهو مما قلنا آنفا سواء بسواء لأن اتباع الأباء والكبراء وكل من دون رسول الله ﷺ فهو من التقليد المحرم المذموم فاعله فقط قال الله عز وجل " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " فهذا نص ما قلنا ولله الحمد.
قال أبو محمد وأما احتجاجهم أنه لا يعرف أي الأمرين أهدى ولا هل يعلم الأباء شيئاً أم لا إلا بالدلايل وإن كل ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما وذكرهم قول الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى البرهان ولا تستقر نفسه إلى تصديق ما جاء به مات شاكا أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما يثلج صدره فقد مات كافراً وهو مخلد في النار وهو بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد رسول الله ﷺ حتى رأى المعجزات فهذا أيضاً لو مات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر قال الله عز وجل " قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " فقد افترض الله عز وجل على كل أحد أن يقي نفسه النار فهؤلاء قسم وهم الأقل من الناس والقسم الثاني من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله ﷺ وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقاً من الله عز وجل له وتيسيراً لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والاكرة والعباد وأصحاب الحديث الأيمة الذين يذمون الكلام والجدل والمرآء في الدين.
قال أبو محمد هم الذين قال لهم الله فيهم " وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وقال تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء.
قال أبو محمد قد سمى الله عز وجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم الكفر والمعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله تعالى للإيمان في قلوبهم ابتدأ وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله تعالى في ذلك استدلالاً أصلاً وبالله تعالى التوفيق وليس هؤلاء مقلدين لابابهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن اباؤهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل أبائهم ورؤسائهم والبرأة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً وشاهدناه في ذواتنا يقيناً فلقد بقينا سنين كثيرة ولا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد ﷺ نجد أنفسنا في غاية السكون إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك ولقد كانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لهما كما أخبر رسول الله ﷺ إذ سئل عن ذلك فقالوا له أن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما أنه يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر رسول الله ﷺ بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه من وسوسة الشيطان وأمر ﷺ في ذلك بما أمر به من التعوذ والقرأة والتفل عن اليسار ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها ولله تعالى الحمد فما زادنا يقيناً على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كمن عرف وقد أيقن بأن الفيل موجود سماعاً ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقيناً بصحة أنيته أصلاً لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط كالقول في الدين بالقياس وعلمنا أن كنا مقتدين بالخطأ في ذلك ولله تعالى الحمد وأن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من امحض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون وليسوا مقلدين أصلاً وإنما كانوا مقلدين لو أنهم قالوا واعتدقوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبرآءنا فقط ولو أن اباءنا وكبرآءنا تركوا دين محمد ﷺ لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبرآءهم الذين نهوا عن اتباعهم ولم يتبعوا النبي ﷺ الذين أمروا باتباعه وبالله تعالى التوفيق وإنما كلف الله تعالى الاتيان بالبرهان إن كانوا صادقين يعني الكفار المخالفين لما جاء به محمد ﷺ هذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الاتيان بالبراهين وإلا سقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفريق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي ﷺ فلا برهان له أصلاً فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً إن كانوا صادقين وليسوا صادقين بلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله ﷺ فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك البرهان أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح بالبرهان ولا برهان على ما سواه فهو محق والحمد لله رب العالمين وأما قولهم ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا والديانات لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال أبو محمد فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال فهذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بصحتها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز وجل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في حديث رسول الله ﷺ في مساءلة الملك فلا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم كما هو لمجرده لأن رسول الله ﷺ إنما قال فيه فأما المؤمن أو الموقن فيقول هو رسول الله ولم يقل عليه الصلاة والسلام فأما المستدل فحسبنا فوز المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه وقال عليه الصلاة والسلام وأما المنافق أو المرتاب ولم يقل غير المستدل فيقول سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فنعم هذا قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا صفة مقلد للناس لا محقق فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم كافية وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الله عز وجل قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذه أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم وأمر به فهذا لا يجدونه أبداً ولكن الله تعالى ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محفوض عليه كل من اطاقه لأنه تزود من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق نعوذ بالله عز وجل من البلا وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه هذا هو الباطل المحض وأما قولهم إن الله تعالى أوجب العلم به فنعم وأما قولهم والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هي الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً وأول بطلانها أنها دعوى بلا برهان وبالله تعالى العزيز الحكيم نتأيد.
قال أبو محمد هذا كلما شنعوا به قد نقضناه والحمد لله رب العالمين فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراة لم يأت بها نص قط ولا إجماع وبالله التوفيق.
قال أبو محمد ونحن الآن ذاكرون بعون الله وتوفيقه وتأييده البراهين على بطلان قولهم ولا حول قال أبو محمد يقال لمن قال لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا متى يجب عليه فرض الاستدلال أقبل البلوغ أم بعده ولا بد من أحد المرين فلما الطبري فإنه أجاب بأن ذلك واجب قبل البلوغ.
قال أبو محمد وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً وقد قال رسول الله ﷺ رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصغير حتى يحتلم فبطل جواب الطبري رحمه الله وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الإسلام وتصدء منها المسامع ويقطع ما بين قائلها وما بين الله عز وجل وهي أنهم قالوا لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤنة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق.
قال أبو محمد ما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم أنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله ﷺ صادق أم كاذب ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قبل هؤلاء أنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضاء الله عز وجل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله تعالى ربه لا إله إلا هو وأن محمداً رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان فو الله لولا خذلان الله تعالى الذي هو غالب على أمره ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة وهذا يكفي من تكلف النقص لهذه المقالة الملعونة ومن بلغ هذا المبلغ حسن السكوت عنه ونعوذ بالله من الضلال ثم نقول لهم أخبرونا عن هذا الذي أوجبتم عليه الشك في فرض أو الشك في صحة النبوة والرسالة كم تكون هذه المدة التي أوجبتم عليه فيه البقا شاكا مستدلا طالباً للدلائل وكيف أن لم يجد في قريته أو مدينته ولا في اقليمه محسناً للدلائل فرحل طالباً للدلائل فاعترضته أهوال ومخاوف وتعذر من بحر أو مرض فاتصل له ذلك ساعات وأياماً وجمعاً وشهوراً وسنين ما قولكم في ذلك فإن حدوا في المدة يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك كانوا متحكمين بلا دليلوقائلين بلا هدي من الله تعالى ولم يعجز أحد عن أن يقول في تحديد تلك المدة بزيادة أو نقصان ومن بلغ ها هنا فقد ظهر فساد قوله وأن قالوا لا يحد في ذلك حداً قلنا لهم فإن امتد كذلك حتى فنى عمره ومات في مدة استدلاله التي حددتم له وهو شاك في الله تعالى وفي النبوة أيموت مؤمناً ويجب له الجنة أم يموت كافراً وتجب له النار فإن قالوا يموت مؤمناً تجب له الجنة أتوا بأعظم الطوام وجعلوا الشكاك في الله الذين هم عندهم شكاك مؤمنين من أهل الجنة وهذا كفر محض وتناقض لا خفاء به وكانوا مع ذلك قد سمحوا في أن يبقى المرء دهره كله شاكاً في الله عز وجل وفي النبوة والرسالة فإن قالوا بل يموت كافراً تجب له النار قلنا لهم لقد أمرتموه بما فيه هلاكه وأوجبتم عليه ما فيه دماره وما يفعل الشيطان إلا هذا في أمره بما يؤدي إلى الخلود في النار وإن قالوا بل هو في حكم أهل الفترة قلنا لهم هذا باطل لأن أهل الفترة لم تأتهم النذارة ولا بلغهم خبر النبوة والنص إنما جاء في أهل الفترة ومن زاد في الخبر ما ليس فيه فقد كذب على الله عز وجل ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ما حد الاستدلال الموجب لاسم الإيمان عندكم وقد يسمع دليلا عليه اعتراض الجزية ذلك الدليل أم لا فإن قالوا يجزيه قلنا لهم ومن أين وجب أن يجزيه وهو ذليل معترض فيه وليس هذه الصفة من الدلائل المخرجة عن الجهل إلى العلم بل هي مؤدية إلى الجهل الذي كان عليه قبل الاستدلال فإن قالوا بل لا يجزيه إلا حتى يوقن أنه قد وقع على دليل لا يمكن الاعتراض فيه تكلفوا ما ليس في وسع أكثرهم وما لا يبلغه إلا قليل من الناس في طويل من الدهر وكثير من البحث ولقد درى الله تعالى أنهم أصفار من العلم بذلك يعنب أهل هذه المقالة الملعونة الخبيثة.
قال أبو محمد ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئاً من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله ﷺ مذ بعث لم يزل يدعو الناس الجماء الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقرباً إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وأصغاره ويقبل ممن آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام وفيهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه.
قال أبو محمد لسنا نقول أنه لم يبلغنا أنه عليه السلام قال ذلك لأحد بل نقطع نحن وجميع أهل الأرض قطعاً كقطعنا على ما شاهدناه أنه عليه السلام لم يقل قط هذا لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ثم جميع أهل الأرض إلى يومنا هذا ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم تتفق على إغفال ذلك أو تعمد عدم ذكره جميع أهل الإسلام وتبينه لهم هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله ﷺ فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خلاف للاجماع وخلاف لله تعالى ولرسوله ﷺ وجميع أهل الإسلام قاطبة فإن قالوا فما كانت حاجة الناس إلى الآيات المعجزات وإلى احتجاج الله عز وجل عليهم بالقرآن واعجازه به وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر وقلنا وبالله تعالى التوفيق إن الناس قسمان قسم لم تسكن قلوبهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذي يلزمهم طلب الاستدلال فرضاً ولا بد كما قلنا وقسم آخر وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق عز وجل في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى " بل الله يمن عليكم إن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين " فهؤلاء آمنوا به عليه السلام بلا تكليف.
قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار لا ألأقل وقد قال بعضهم أنهم مستدلون. قال أبو محمد وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لا يدري ما معنى الاستدلال فكيف أن يستعمله.
قال أبو محمد ويلزم من قال بهذه المقالة أن لا يأكل من اللحم إلا ما ذبحه هو أو من يدري أنه مستدل وأن لا يطأ إلا زوجة أنها مستدلة ويلزم أن يشهد على نفسه بالكفر ضرورة قبل استدلاله ومدة استدلاله وأن يفارق امرأته التي تزوج في تلك المدة وأن لا يرث أخاه ولا أباه ولا أمه إلا أن يكونوا مستدلين وأن يعمل عمل الخوارج الذين يقتلون غيلة وعمل المغيرية المنصورة في ذبح كل من أمكنهم وقتله وأن يستحلوا أموال أهل الأرض بل لا يحل لهم الكف عن شيء من هذا كله لأن جهاد الكفار فرض وهذا كله أن التزموا طرد أصولهم وكفروا أنفسهم وأن لم يقولوا بذلك تناقضوا فصح أن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به لسانه فهو مؤمن عند الله عز وجل ومن أهل الجنة سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو عن استدلال وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فنقول لهم هل استدل من مخالفيكم في أقوالكم التي تدينون بها أحد أم لم يستدل قط أحد غيركم فلا بد من إقرارهم بأن مخالفيهم أيضاً قد استدلوا وهم عندكم مخطئون كمن لم يستدل وأنتم عندهم أيضاً مخطئون فإن قالوا إن الأدلة امنتنا من أن نكون مخطئين قلنا لهم وهذا نفسه هو قول خصومكم فإنهم يدعون أن أدلتهم على صواب قولهم وخطأ قولكم ولا فرق ما زالوا على هذه الدعوى مذ كانوا إلى يومنا هذا فما نراكم حصلتم من استدلالكم إلا على ما حصل عليه من لم يستدل سواء بسواء ولا فرق فإن قالوا لنا فعلى قولكم هذا يبطل الاستدلال جملة ويبطل الدليل كافة قلنا معاذ الله من هذا لكن أريناك أنه قد يستدل من يخطئ وقد يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى فقط وقد لا يستدل من يخطئ وقد لا يستدل من يصيب بتوفيق الله تعالى وكل ميسر لما خلق له والبرهان والدلائل الصحاح غير المموهة فمن وافق الحق الذي قامت عند غيره البراهين الصحاح بصحته فهو مصيب محق مؤمن استدل أو لم يستدل ومن يسر للباطل الذي قام البرهان عند غيره ببطلانه فهو مبطل مخطئ أو كافر سواء استدل أو لم يستدل وهذا هو الذي قام البرهان بصحته والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الوعد والوعيد
قال أبو محمد اختلف الناس في الوعد والوعيد فذهبت كل طائفة لقول منهم من قال أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً ولكنه كافراً وفاسق وأن كل من مات مصراً على كبيرة من الكبائر فلم يمت مسلماً وإذا لم يمت مسلماً فهو مخلد في النار أبداً وإن من مات ولا كبيرة له أة تاب عن كبائره قبل موته فإنه مؤمن من أهل الجنة لا يدخل النار أصلاً ومنهم من قال بأن كل ذنب صغير أو كبير فهو مخرج عن الإيمان والإسلام فإن مات عليه فهو غير مسلم وغير مسلم مخلد في النار وهذه م قال ات الخوارج والمعتزلة إلا أن بكر ابن أخت عبد الواحد ابن زيد قال في طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما كافران من أهل الجنة لأنهما من أهل بدر وقد قال رسول الله ﷺ أن الله تعالى قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال فأهل بدر إن كفروا فمغفور لهم لأنهم بخلاف غيرهم وقال بعض المرجئة لا تضر مع الإسلام سيئة كما لا ينفع مع الكفر حسنة قالوا فكل مسلم ولو بلغ على معصية فهو من أهل الجنة لا يرى ناراً وإنما النار للكفار وكل هاتين الطائفتين تقربان أحداً لا يدخل النار ثم يخرج عنها بل من دخل النار فهو مخلد فيها أبداً ومن كان من أهل الجنة فهو لا يدخل النار وقال أهل السنة والحسين النجار وأصحابه وبشر بن غياث المريسي وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن كيسان الأصم البصري وغيلان ابن مروان الدمشقي القدري ومحمد بن شبيب ويونس بن عمران وأبو العباس الناشي والأشعري وأصحابه ومحمد بن كرام وأصحابه أن الكفار مخلدون في النار وأن المؤمنين كلهم في الجنة وإن كانوا أصحاب كبائر ماتوا مصرين عليها وأنهم طائفتان طائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها أي من النار إلى الجنة. وطائفة لا تدخل النار إلا أن كل من ذكرنا قالوا لله عز وجل أن يعذب من شاء من المؤمنين أصحاب الكبائر بالنار ثم يدخلهم الجنة وله أن يغفر لهم ويدخلهم الجنة بدون أن يعذبهم.
ثم افترقوا فقالت طائفة منهم وهو محمد بن شبيب ويونس والناشي إن عذب الله تعالى واحداً من أصحاب الكبائر عذب جميعهم ولا بد ثم أدخلهم الجنة. وإن غفر لواحد منهم غفر لجميعهم ولا بد. و قالت طائفة بل يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإن كانت ذنوبهم كثيرة مستوية وقد يغفر لمن هو أعظم جرماً ويعذب من هو أقل جرماً.
و قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يغفر لمن يشاء من أصحاب الكبائر ويعذب من يشاء منهم إلا القاتل عمداً فإنه مخلد في النار أبداً وقالت طائفة منهم من لقى الله عز وجل مسلماً تائباً من كل كبيرة أو لم يكن عمل كبيرة قط فسيئآته كلها مغفورة وهو من أهل الجنة لا يدخل النار ولو بلغت سيئآته ما شاء الله أن يبلغ ومن لقى الله عز وجل وله كبيرة لم يتب منها فالحكم في ذلك الموازنة فمن رجحت حسناته على كبائره وسيئآته كلها تسقط وهو من أهل الجنة ولا يدخل النار وإن استوت حسناته مع كبائره وسيئآته فهؤلاء أهل الأعراف ولهم وقفة ولا يدخلون النار ثم يدخلون الجنة ومن رجحت كبائره وسيئآته بحسناته فهؤلاء مجازون بقدر ما رجح لهم من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة بشفاعة رسول الله ﷺ وبرحمة الله تعالى وكل من ذكرنا يجازون في الجنة بعد بما فضل لهم من الحسنات وأما من لم يفضل له حسنة من أهل الأعراف فمن دونهم وكل من خرج من النار بالشفاعة وبرحمة الله تعالى فهم كلهم سواء في الجنة ممن رجحت له حسنة فصاعداً.
قال أبو محمد فأما من قال بأن صاحب الكبيرة يخلد وصاحب الذنب كذلك فإن حجتهم قول الله عز وجل " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وقوله تعالى " مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " وقوله تعالى " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها " وبقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما " وقوله " ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن " وقوله تعالى " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً " وقوله تعالى " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة " الآية وقوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " وقوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا " إلى قوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وقوله تعالى " الذين يأكلون الربا " الآية وذكروا أحاديث صحت عن النبي ﷺ في وعيد شارب الخمر وقاتل الهرة ومن قتل نفسه بسم أو حديد أو تردى من جبل فإنه يفعل ذلك به في جهنم خالداً ومن قتل نفسه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وذكروا أن الكبيرة تزيل اسم الإيمان فبعضهم قال إلى شرك وبعضهم قال إلى كفر نعمة وبعضهم قال إلى نفاق وبعضهم قال إلى فسق فإذ ليس مؤمناً فلا يدخل الجنة لأنه لا يدخل الجنة المؤمنون هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة أصلاً غير ما ذكرنا وأما من خص القاتل بالتخليد فإنهم احتجوا بقوله تعالى " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فقط وأما من قطع باسقاط الوعيد عن كل مسلم فاحتجوا بقول الله تعالى " لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى " قالوا وهذه الآية مثبتة أن كل من توعده الله عز وجل على قتل أو زنا أو ربا أو غير ذلك فإنما هم الكفار خاصة لا غيرهم واحتجوا بقول رسول الله ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف أبي ذر وقول الله عز وجل " إن رحمة الله قريب من المحسنين " قالوا ومن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد أحسن فهو محسن فرحمة الله قريب منه ومن رحمه الله فلا يعذب وقالوا كما أن الكفر محبط لكل حسنة فإن الإيمان يكفر كل سيئة والرحمة والعفو أولى بالله عز وجل.
قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلاً أو يدخل فيما ذكرنا ولا يخرج عنه وبالله تعالى التوفيق وأما من قال إن الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقد يعذب من هو أقل ذنوباً ممن يغفر له فإنهم احتجوا بقول الله عز وجل " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وبعموم قوله تعالى " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وبقول رسول الله ﷺ خمس صلوات كتبهن الله على العبد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وجعلوا الآيتين اللتين ذكرنا قاضيتين على جميع الآيات التي تعلقت بها سائر الطوائف وقالوا لله الأمر كله لا معقب لحكمه فهو يفعل ما يشاء ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا.
قال أبو محمد وأما من قال بمثل هذا إلا أنه قال الله تعالى إن عذب واحداً منهم عذب الجميع وإن غفر لواحد منهم غفر للجميع فإنهم قدرية جنحوا بهذا القول نحو العدل ورأوا أن المغفرة لواحد وتعذيب من له مثل ذنوبه جور ومحاباة ولا يوصف الله عز وجل بذلك وأما من قال بالموازنة فإنهم احتجوا فقالوا إن آيات الوعيد وأخبار الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج فإنها لا يجوز أن تخص بالتعلق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد وهي لا يجوز التعلق بها دون الآيات التي احتج بها من أثبت الوعيد بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله قالوا ووجدنا الله عز وجل قد قال " وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا " وقال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل " الآية وقال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقال تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " وقال تعالى " فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئاً " الآية وقال تعالى " ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب " وقال تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ " وقال تعالى " لتجزى كل نفس بما تسعى " وقال تعالى " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " إلى قوله " الجزاء الأوفى " وقال تعالى " وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك " وقال تعالى " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا " الآية وقال تعالى " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " وقال تعالى " وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم " وقال تعالى " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " الآية وقال تعالى " لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " الآية وقال تعالى " وما يفعلوا من خير فلن يكفروه " وقال تعالى " إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا " وقال تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " وقال تعالى " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " إلى قوله تعالى " قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد " إلى قوله تعالى " وما أنا بظلام للعبيد " وقال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه " إلى آخر السورة وقال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " وقال تعالى " وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " وقال تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" هذا نص كلامه يوم القيامة وهو القاضي على كل مجمل قالوا فنص الله عز وجل أنه يضع الموازين القسط وأنه لا يظلم أحداً شيئاً ولا مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة من خير ومن شر فصح أن السيئة لا تحبط الحسنة وأن الإيمان لا يسقط الكبائر ونص الله تعالى أنه تجزى كل نفس بما كسبت وما عملت وما سعت وأنه ليس لأحد إلا ما سعى وأنه سيجزى بذلك من أساء بما عمل ومن أحسن بالحسنى وأنه تعالى يوفي الناس أعمالهم فدخل في ذلك الخير والشر وأنه تعالى يجازي بكل خير وبكل سوء وعمل وهذا كله يبطل قول من قال بالتخليد ضرورة وقول من قال باسقاط الوعيد جملة لأن المعتزلة تقول أن الإيمان يضيع ويحبط وهذا خلاف قول الله تعالى أنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا وقالوا هم أن الخير ساقط بسيئة واحدة وقال تعالى " إن الحسنات يذهبن السيئآت " فقالوا هم أن السيئآت يذهبن الحسنات وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه وقال تعالى " من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها " فلو كانت سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم وتحبط الأعمال الحسنة لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفراً ولتساوت السيئآت كلها وهذا خلاف النصوص وعلمنا بما ذكرنا أن الذين قال الله تعالى فيهم " لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " هم الذين رجحت حسناتهم على سيئآتهم فسقط كل سيئة قدموها وصح أن قوله تعالى " وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " هو فيمن رجحت كبائرهم حسناتهم وإن السيئة الموجبة للخلود هي الكفر لأن النصوص جاءت بتقسيم السيئآت فقال تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " فهذه سيئآت مغفورة باجتناب الكبائر وقال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقال تعالى " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " فأخبر تعالى أن من السيئات المجازى لها ما هو مقدار ذرة ومنها ما هو أكبر ولا شك أن الكفر أكبر السيئآت فلو كانت كل كبيرة جزاءها الخلود لكانت كلها كفراً ولكانت كلها سواء وليست كذلك بالنص وأما وعيد الله بالخلود في القاتل وغيره فلو لم يأت إلا هذه النصوص لوجب الوقوف عندها لكنه قد قال تعالى " لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وكلامه تعالى لا يختلف ولا يتناقض وقد صح أن القاتل ليس كافراً وإن الزاني ليس كافراً وأن أصحاب تلك الذنوب المتوعد عليها ليسوا كفاراً بما ذكرنا قبل من أنهم مباح لهم نكاح المسلمات وأنهم مأمورون بالصلوات وأن زكاة أموالهم مقبوضة وأنهم لا يقتلون وأنه إن عفى عن القاتل فقتله مسلم فإنه يقتل ربه وأنه يرث ويورث وتؤكل ذبيحته فإذ ليس كافراً فبيقين ندري أن خلوده إنما هو مقام مدة ما وإن الصلى الذي نفاه الله تعالى عن كل من لم يكذب ولا تولى إنما هو صلى الخلود لا يجوز البتة غير هذا وبهذا تتألف النصوص وتتفق ومن المعهود في المخاطبة أن من وفد من بلد إلى بلد فحبس فيه لأمر أوجب احتباسه فيه مدة ما فإنه ليس من أهل ذلك البلد الذي حبس فيه فمن دخل في النار ثم أخرجه منها فقد انقطع عنه صليها فليس من أهلها وإنما أهلها وأهل صليها على الاطلاق والجملة هم الكفار المخلدون فيها أبداً فهكذا جاء في الحديث الصحيح فقد ذكر عليه السلام فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها ثم قال ﷺ وأما أهل النار الذين هم أهلها يعني الكفار المخلدين فيها وقد قال عز وجل " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فقد بين عليه السلام ذلك بقوله في الخبر الصحيح ثم يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فبالقرآن وكلام رسول الله ﷺ صح أن ممر الناس من محشرهم إلى الجنة إنما هو بخوضهم وسط جهنم وينجي الله أولياءه من حرها وهم الذين لا كبائر لهم أو لهم كبائر تابوا عنها ورجحت حسناتهم بكبائرهم أو تساوت كبائرهم وسيئاتهم بحسناتهم وأنه تعالى يمحص من رجحت كبائره وسيئاته بحسناته ثم يخرجهم عنها إلى الجنة بإيمانهم ويمحق الكفار بتخليدهم في النار كما قال تعالى " وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " وأيضاً فإن كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذنبين فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون أن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد فقد تركوا ظاهر تلك النصوص فإن قالوا إنما قلنا ذلك بنصوص اخر أوجبت ذلك قيل لهم نعم وكذلك فعلنا بنصوص أخر وهي آيات الموازنة وأنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق ويقال لمن أسقط آيات الوعيد جملة وقال أنها كلها إنما جاءت في الكفار إن هذا باطل لأن نص القرآن بالوعيد على الفار من الزحف ليس إلا على المؤمن بيقين بنص الآية في قوله تعالى " ومن يولهم يومئذ دبره " ولا يمكن أن يكون هذا في كافر أصلاً فسقط قول من قال بالتخليد وقول من قال بإسقاط الوعيد ولم يبق إلا قول من أجمل جواز المغفرة وجوز العقاب.
قال أبو محمد فوجدنا هذا القول مجملاً قد فسرته آيات الموازنة وقوله تعالى الذي تعلقوا به " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " حق على ظاهرها وعلى عمومها وقد فسرتها بإقرارهم آيات أخر لأنه لا يختلف في أن الله تعالى يغفر أن يشرك به لمن تاب من الشرك بلا شك وكذلك قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فهذا كله حق إلا أنه قد بين من هم الذين شاء أن يغفر لهم فإن صرتم إلى بيان الله تعالى فهو الحق وأن أبيتم إلا الثبات على الأجمال فأخبرونا عن قول الله تعالى " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً " وقوله تعالى " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " أترون أن هذا العموم تقولون به فتجيزون أنه يغفر الكفر لأنه ذنب من الذنوب أم لا وأخبرونا عن قول الله عز وجل حاكياً عن عيسى عليه السلام أنه يقول له تعالى يوم القيمة " يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " إلى قوله " وأنت على كل شيء شهيد " إلى قوله تجري من تحتها الأنهار أيدخل النصارى الذين اتخذوا عيسى وأمه الهين من دون الله تعالى في جواز المغفرة لهم لصدق قول الله تعالى في هذا القول من التخبير بين المغفرة لهم أو تعذيبهم وأخبرونا عن قوله تعالى " قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة " فمن قولهم أن المغفرة لا تكون البتة لمن كفر ومات كافراً وأنهم خارجون من هذا العموم ومن هذه الجملة بقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قيل لهم ولم خصصتم هذه الجملة بهذا النص ولم تخصوا قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " وبقوله تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " وهذا خبر لا نسخ فيه فإن قالوا نعم إلا أن يشاء أن يغفر لهم قيل لهم قد أخبر الله تعالى أنه لا يشاء ذلك بإخباره تعالى أنه في ذلك اليوم يجزي كل نفس ما كسبت ولا فرق.
قال أبو محمد وقد أخبر النبي ﷺ أن الرجل يأتي يوم القيمة وله صدقة وصيام وصلاة فيوجد قد سفك دم هذا وشتم هذا فتؤخذ حسناته كلها فيقتص لهم منها فإذا لم يبق له حسنة قذف من سيئاتهم عليه ورمى في النار وهكذا أخبر عليه السلام في قوم يخرجون من النار حتى إذا نقوا وهذبوا أدخلوا الجنة وقد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك ثم من لم يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام فوجب الوقوف عند هذه النصوص كلها المفسرة للنص المجمل ثم يقال أخبرونا عمن لم يعمل شراً قط إلا اللمم ومن هم بالشر فلم يفعله فمن قول أهل الحق أنه مغفور له جملة بقوله تعالى " إلا اللمم " وبقول رسول الله ﷺ أن الله تجاوز قال أبو محمد وهذا ينقسم أقساماً أحدها من هم بسيئة أي شيء كانت من السيئآت ثم تركها مختاراً لله تعالى فهذا تكتب له حسنة فإن تركها مغلوباً لا مختاراً لم تكتب له حسنة ولا سيئة تفضيلاً من الله عز وجل ولو عملها كتبت له سيئة واحدة ولو هم بحسنة ولم يعلمها كتبت له حسنة واحدة فإن عملها كتب له عشر حسنات وهذا كله نص رسول الله ﷺ وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا فذهب إلى أن الهم بالسيئة إصرار عليها فقلت له هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً قال الله تعالى: " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " ثم نسألهم عن عمل بالسيئات حاشا الكبائر عدداً عظيماً ولم يأت كبيرة قط ومات على ذلك أيجوزون أن يعذبه الله تعالى على ما عمل من السيئات أم يقولون أنها مغفورة له ولا بد فإن قالوا أنها مغفورة ولا بد صدقوا وكانوا قد خصوا قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وتركوا حمل هذه الآية على عمومها فلا ينكروا ذلك على من خصها أيضاً بنص آخر وإن قالوا بل جائز أن يعذبهم الله تعالى على ذلك أكذبهم الله بقوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً " ونعوذ بالله من تكذيب الله عز وجل ثم نسألهم عمن عمل من الكبائر ومات عليها وعمل حسنات رجحت بكبائره عند الموازنة أيجوز أن يعذبه الله تعالى بما عمل من تلك الكبائر أم هي مغفورة له ساقطة عنه فإن قالوا بل هي مغفورة وساقطة صدقوا وكانوا قد خصوا عموم قوله تعالى ويغفو ما دون ذلك لمن يشاء وجعلوا هؤلاء ممن شاء ولا بد أن يغفر لهم وإن قالوا بل جايز أن يعذبهم أكذبهم الله تعالى بقوله " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبقوله " إن الحسنات يذهبن السيئات ".
قال أبو محمد: وكذلك القول فيمن تساوت حسناته وكبائره وهم أهل الأعراف فلا يعذبون أصلاً فقد صح يقيناً أن هؤلاء الطبقات الأربع هم الذين شاء الله تعالى أن يغفر لهم بلا شك فبقي الذين لم يشاء الله تعالى أن يغفر لهم ولم يبق من الطبقات أحد إلا من رجحت كبائره في الموازنة على حسناته فهو الذين يجازون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون من النار بالشفاعة وبرحمة الله عز وجل فقالوا من هؤلاء من يغفر الله تعالى له ومنهم من يعذبه قلنا لهم أعندكم بهذا البيان نص وهم لا يجدونه أبداً فظهر تحكمهم بلا برهان وخلافهم لجميع الآيات التي تعلقوا بها فإنهم مقرون على أنها ليست على عمومها بل هي مخصوصة لأن الله تعالى قال إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولا خلاف في أنه تعالى يغفر الشرك لمن آمن فصح أنها مجملة تفسيرها ساير الآيات والأخبار وكذلك حديث عبادة خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد من جاء بهن لم ينقص من حدودهن شيئاً كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإنهم متفقون على أن من جاء بهن لم ينتقص من حدودهن شيئاً إلا أنه قتل وزنى وسرق فإنه قد يعذب ويقولون إن لم يأت بهن فإنه لا يعذب على التأييد بل يعذب ثم يخرج عن النار.
قال أبو محمد: هذا ترك منهم أيضاً لظاهر هذا الخبر.
قال أبو محمد: ولا فرق بين قول الله تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " وبين قوله " وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " كلاهما خبران جاز إبطال أحدهما جاز إبطال الآخر ومعاذ الله من هذا القول وكذلك قد منع الله تعالى من هذا القول بقوله تعالى " لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " ونحن نقول أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وأنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن كل أحد فهو في مشيئة الله تعالى إلا أننا نقول أنه تعالى قد بين من يغفر له ومن يعذب وإن الموازين حق والموازنة حق والشفاعة حق وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد بن بيان حدثنا أحمد بن عبد النصير حدثنا القاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الختني حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله تعالى " وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " قال ما وعدوا فيه من خير وشر وهذا هو نص وإني وإن واعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي قال أبو محمد: وهذا لا شيء قد جعل فخر صبي أحمق كافر حجة على الله تعالى والعرب تفخر بالظلم قال الراجز: أحيا أباه هاشم بن حرمله ترى الملوك حوله مغربله يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له وقد جعلت العرب مخلف الوعد كاذبا قال الشاعر أنشده أبو عبيدة معمر بن المثنى: أتوعدني وراء بني رباح كذبت لتقصرن يداك دوني فإن قالوا خصوا وعيد الشرك بالموازنة قلنا لا يجوز لأن الله تعالى منع من ذلك قال تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فمن حبط عمله فلا خير له.
قال أبو محمد: وأهل النار متفاضلون في عذاب النار فأقلهم عذاباً أبو طالب فإنه توضع جمرتان من نار في أخمصيه إلى أن يبلغ الأمر إلى قوله تعالى " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقوله تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" ولا يكون الأشد إلا إلى جلب إلا دون وقال تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ".
قال أبو محمد: والكفار معذبون على المعاصي التي عملوا من غير الكفر برهان ذلك قول الله سبحانه وتعالى " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين " فنص تعالى على أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة وعلى ترك الطعام للمسكين.
قال أبو محمد: وأما من عمل منهم العتق والصدقة أو نحو ذلك من أعمال البر فحابط كل ذلك لأن الله عز وجل قال أنه من مات وهو كافر حيط عمله لكن لا يعذب الله أحداً إلا على ما عمل ما لم يعمل قال الله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فلما كان من لا يطعم المسكين من الكفار يعذب على ذلك عذاباً زائداً فالذي أطعم المسكين مع كفره لا يعذب ذلك العذاب الزائد فهو أقل عذاباً لأنه لم يفعل من الشر ما عمل من هو أشد عذاباً لأنه عمل خيراً.
قال أبو محمد: وكل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير مكتوب مجازى به في الجنة وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه برهان ذلك حديث حكيم بن حزام عن رسول الله ﷺ أنه قال يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم فقال له رسول الله ﷺ أسلمت على ما سلف لك من خير فأخبر أنه خير وأنه له إذا أسلم وقالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه كان يصل الرحم ويقرى الضيف أينفع ذلك قال لا لأنه لم يقل يوماً " وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ " فأخبر عليه السلام أنه لم ينتفع بذلك لأنه لم يسلم فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك وأما مؤاخذته بما عمل فحديث ابن مسعود رضي الله عنه بنص ما قلنا عن رسول الله ﷺ كما قلناه فإن اعترض معترض بقول الله تعالى " لئن أشركت ليحبطن عملك " ومن أسلم فليس من الخاسرين وقد بين ذلك بقوله " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " وإن اعترضوا فيما قلنا من المؤاخذة بما عمل في الكفر بقوله تعالى " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " قلنا لهم هذا حجة لنا لأن من انتهى عن الكفر غفر له وإن انتهى عن الزنا غفر له وإن لم ينته عن الزنا لم يغفر له ما انتهى عنه ولم يغفر له ما لم ينته عنه ولم يقل تعالى إن ينتهوا عن الكفر يغفر لهم سائر ذنوبهم والزيادة على الآية كذب على الله تعالى وهي أعمال متغايرة كما ترى ليست التوبة عن بعضها توبة عن سائرها فلكل واحد منها حكم فإن ذكروا حديث عمرو بن العاص عن النبي ﷺ الإسلام يجب ما قبله فقد قلنا أن الإسلام اسم لجميع الطاعات فمن أصر على المعصية فليس فعله في المعصية التي يتمادى عليها إسلاماً ولا إيماناً كما قال رسول الله ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فصح أن الإسلام والإيمان هو جميع الطاعات فإذا أسلم من الكفر وتاب من جميع معاصيه فهو الإسلام الذي يجب ما قبله وإذا لم يتب من معاصيه فلم يحسن في الإسلام فهو مأخوذ بالأول والآخر كما قال رسول الله ﷺ وبهذا تتفق الأحاديث وكذلك قوله عليه السلام والهجرة تجب ما قبلها فقد صح عنه عليه السلام أن المهاجر من هجر ما نهاه الله عنه فمن تاب من جميع المعاصي التي سلفت منه فقد هجر ما نهاه الله عنه فهذه هي الهجرة التي تجب ما قبلها وأما قوله عليه السلام والحج يجب ما قبله فقد جاء أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فهذا على الموازنة التي ربنا عز وجل عالم بمراتبها ومقاديرها وإنما نقف حيث وقفنا الله تعالى ورسوله ﷺ وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: واستدركنا قول رسول الله ﷺ في قاتل نفسه حرم عليه الجنة وأوجب له النار مع قوله من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم عليه النار وأوجب له الجنة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فصح أن كلامه ﷺ كله وحي من عند الله تعالى وقال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فمن عند الله تعالى وأنه لا اختلاف في شيء منه وأنه كله متفق عليه فإذ ذلك كذلك فواجب ضم هذه الأخبار بعضها إلى بعض فيلوح الحق حينئذ بحول الله وقوته فمعنى قوله ﷺ في القاتل حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار مبني على الموازنة فإن رجحت كبيرة قتله نفسه على حسناته حرم الله عليه الجنة حتى يقتص منه بالنار التي أوجبها الله تعالى جزاء على فعله وبرهان هذا حديث الذي أسلم وهاجر مع عمرو بن الحممة الدوسي ثم قتل نفسه لجراح جرح به فتألم به فقطع عروق يده فنزف حتى مات فرآه بعض أصحاب النبي ﷺ في حال حسنة إلا يده وذكر أنه قيل له لن يصلح منك ما أفسدت فقال رسول الله صلى الله وسلم اللهم وليديه فاغفر ومعنى قول رسول الله ﷺ من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرم الله عليه النار وأوجب له الجنة فهذا لا يختلف فيه مسلمان أنه ليس على ظاهره منفرداً لكن يضمه إلى غيره من الإيمان لمحمد ﷺ والبراءة من كل دين حاشا دين الإسلام ومعناه حينئذ أن الله عز وجل أوجب له الجنة ولا بد إما بعد الاقتصاص وإما دون الاقتصاص على ما توجبه الموازنة وحرم الله عليه أن يخلد فيها ويكون من أهلها القاطنين فيها على ما بينا قبل من قوله تعالى " لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا " وقوله تعالى " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " فنص الآية أنها في الكفار هكذا في نص الآية.
قال أبو محمد: وأما الكفارة فإن الله تعالى قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ".
قال أبو محمد: ومن المحال أن يحرم الله تعالى علينا أمراً ويفرق بين أحكامه ويجعل بعضه مغفوراً باجتناب بعض ومؤاخذاً به إن لم يجتنب البعض الآخر ثم لا يبين لنا المهلكات من غيرها فنظرنا في ذلك فوجدنا قوماً يقولون أن كل ذنب فهو كبيرة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأن نص القرآن مفرق كما قلنا بين الكبائر وغيرها وبالضرورة ندري أنه لا يقال كبيرة إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها والكبائر أيضاً تتفاضل فالشرك أكبر مما دونه والقتل أكبر من غيره وقد قال رسول الله ﷺ أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وأنه لكبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخبر عليه السلام أنهما كبير وما هما بكبير وهذا بين لأنهما كبيران بالإضافة إلى الصغائر المغفورة باجتناب الكبائر وليسا بكبيرين بالإضافة إلى الكفر والقتل.
قال أبو محمد: فبطل القول المذكور فنظرنا في ذلك فوجدنا معرفة الكبير من الذنوب مما ليس بكبير منها لا يعلم البتة إلا بنص وارد فيها إذ هذا من أحكام الله تعالى التي لا تعرف إلا من عنده تعالى فبحثنا عن ذلك فوجدنا الله تعالى قد نص بالوعيد على ذنوب في القرآن وعلى لسان رسوله ﷺ ووجدنا ذنوباً أخر لم ينص عليها بوعيد فعلمنا يقيناً أن كل ما توعد الله تعالى عليه بالنار أو توعد عليه رسوله ﷺ بالنار فهو كبير وكل ما نص عليه رسول الله صلى الله وسلم باستعظامه فهو كبير كقوله عليه السلام اتقوا السبع الموبقات الشرك والسحر والقتل والزنا وذكر الحديث وكقوله عليه السلام عقوق الوالدين من الكبائر وكل ما لم يأت نص باستعظامه ولا جاء فيه وعيد بالنار فليس بكبير ولا يمكن أن يكون الوعيد بالنار على الصغائر على انفرادها لأنها مغفورة باجتناب الكبائر فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.
الموافاة
قال أبو محمد: اختلف المتكلمون في معنى عبروا عنه بلفظ الموافاة وهم أنهم قالوا في إنسان مؤمن صالح مجتهد في العبادة ثم مات مرتداً كافراً وآخر كافر متمرد أو فاس ثم مات مسلماً تائباً كيف كان حكم كل واحد منهما قبل أن ينتقل إلى ما مات عليه عند الله تعالى فهذب هشام بن عمرو الفوطي وجميع الأشعرية إلى أن الله عز وجل لم يزل راضياً عن الذي مات مسلماً تائباً ولم يزل ساخطاً على الذي مات كافراً أو فاسقاً واحتجوا في ذلك بأن الله عز وجل لا يتغير علمه ولا يرضى ما سخط ولا يسخط ما رضي وقالت الأشعرية الرضا من الله عز وجل لا يتغير منه تعالى صفات الذات لأين ولآن ولا يتغير إن وذهب سائر المسلمين إلى أن الله عز وجل كان ساخطاً على الكافر والفاسق ثم رضي الله عنهما إذا أسلم الكافر وتاب الفاسق وأنه كان تعالى راضياً عن المسلم وعن الصالح ثم سخط عليهما إذا كفر المسلم وفسق الصالح.
قال أبو محمد: احتجاج الأشعرية ها هنا هو احتجاج اليهود في إبطال النسخ ولا فرق ونحن نبين بطلان احتجاجهم وبطلان قولهم وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله عز وجل نتأيد أما قولهم عن علم الله عز وجل لا يتغير فصحيح ولكن معلوماته تتغير ولم نقل أن علمه يتغير ومعاذ الله من هذا ولم يزل علمه تعالى واحداً يعلم كل شيء على تصرفه في جميع حالاته فلم يزل يعلم أن زيداً سيكون صغيراً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم ميتاً ثم مبعوثاً ثم في الجنة أو في النار ولم يزل يعلم أن سيؤمن ثم يكفر أو أنه يكفر ثم يؤمن أو أنه يكفر ولا يؤمن أو أنه يؤمن ولا يكفر وكذلك القول في الفسق والصلاح ومعلوماته تعالى في ذلك متغيرة مختلفة ومن كابر هذا فقد كابر العيان والمشاهدات وأما قولهم أن الله تعالى لا يسخط ما رضي ولا يرضى ما سخط فباطل وكذب بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم ورضي لهم ذلك وسخط منهم خلافه وكذلك أحل لنا الخمر ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبغاء بلا صلاة وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك كله كما قال تعالى " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " ثم فرض علينا الصلاة والصوم وحرم علينا الخمر فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر ورضي لنا خلاف ذلك وهذا لا ينكره مسلم ولم يزل الله تعالى عليماً أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا وأنه سيرضى منه ثم أنه سيحرمه ويسخطه وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة ثم أنه يحله ويرضاه كما علم عز وجل أنه سيحيى من أحياه مدة كذا وأنه يعز من أعزه مدة ثم يذله وهكذا المؤمن يموت مرتداً والكافر يموت مسلماً فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافراً ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق ونص القرآن يشهد بذلك قال تعالى " ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " فصح يقيناً أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انت قال هذه الأحوال من الإنسان الواحد وقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن لا يمكن أن يحبط عمل إلا وقد كان غير حابط ومن المحل أن يحبط عمل لم يكن محسوباً قط فصح أن عمل المؤمن الذي ارتد ثم مات كافراً أنه كان محسوباً ثم حبط إذا ارتد وكذلك قال الله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " فصح أنه لا يمحو إلا ما كان قد كتبه ومن المحل أن يمحى ما لم يكن مكتوباً وهذا بطلان قولهم يقيناً ولله الحمد وكذلك نص قوله تعالى " أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات " فهذا نص قولنا وبطلان قولهم لأن الله تعالى سمى أفعالهم الماضية سيئات والسيئات مذمومة عنده تعالى بلا شك ثم أخبر تعالى أنه أحالها وبدلها حسنات مرضية فمن أنكر هذا فهو مكذب لله تعالى والله تعالى مكذب له وكذلك قال الله تعالى أنه سخط أكل آدم من الشجرة وذهاب يونس مغاضباً ثم أخبر عز وجل أنه تاب عليهما واجتبى يونس بعد أن لامه ولا يشك كل ذي عقل أن اللائمة غير الاجتباء.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أفي الكافر كفر إذا كان كافراً قبل أن يؤمن وفي الفاسق فسق قبل أن يتوب وفي المؤمن إيمان قبل أن يرتد أم لا فإن قالوا لا كابروا وأحالوا وإن قالوا نعم قلنا لهم فهل يسخط الله الكفر والفسق أو يرضى عنهما فإن قالوا بل يسخطهما تركوا قولهم وإن قالوا بل يرضى عن الكفر والفسق كفروا ونسألهم عن قتل وحشى حمزة رضي الله عنه إرضاء كان لله تعالى فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا بل ما كان إلا سخطاً سألناهم أيؤاخذه الله تعالى به إذا أسلم فمن قولهم لا وهكذا في كل حسنة وسيئة فظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الكلام في من لم تبلغه الدعوة
ومن تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع فيما تاب عنه قال أبو محمد: قال الله عز وجل " لأنذركم به ومن بلغ " وقال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " فنص تعالى ذلك على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه وهكذا جاء النص عن رسول الله ﷺ أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف والأصلح الأصم ومن كان في الفترة والمجنون فيقول المجنون يا رب أتاني الإسلام وأنا لا أعقل ويقول الخرف والأصم والذي في الفترة أشياء ذكرها فيوقد لهم نار ويقال لهم ادخلوها فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين فإنه معذور لا ملامة عليه وقد كان جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم بأرض الحبشة ورسول الله ﷺ بالمدينة والقرآن ينزل والشرائع تشرع فلا يبلغ إلى جعفر وأصحابه أصلاً لانقطاع الطرق جملة من المدينة إلى أرض الحبشة وبقوا كذلك ست سنين فما ضرهم ذلك في دينهم شيئاً إذ عملوا بالمحرم وتركوا المفروض.
قال أبو محمد: ورأيت قوماً يذهبون إلى أن الشرائع لا تلزم من كان جاهلاً بها ولا من لم تبلغه.
قال أبو محمد: وهذا باطل بل هي لازمة له لأن رسول الله صلى الله وسلم بعث إلى الإنس كلهم وإلى الجن كلهم وإلى كل من لم يولد إذ بلغ بعد الولادة.
قال أبو محمد: قال الله تعالى آمراً أن يقول " إني رسول الله إليكم جميعاً " وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه أحداً وقال تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " فأبطل سبحانه أن يكون أحد سدى والسدى هو المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهي فأبطل عز وجل هذا الأمر ولكنه معذور بجهله ومغيبه عن المعرفة فقط وأن من بلغه ذكر النبي ﷺ حيث ما كان من أقاصي الأرض ففرض عليه البحث عنه فإذا بلغته نذارته ففرض عليه التصديق به وأتباعه وطلب الدين اللازم له والخروج عن وطنه لذلك وإلا فقد استحق الكفر والخلود في النار والعذاب بنص القرآن وكل ما ذكرنا يبطل قول من قال من الخوارج أن في حين بعث النبي ﷺ يلزم من في أقاصي الأرض الإيمان به ومعرفة شرائعه فإن ماتوا في تلك الحال ماتوا كفاراً إلى النار ويبطل هذا قول الله عز وجل " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وليس في وسع أحد علم الغيب فإن قالوا فهذه حجة الطائفة القائلة أنه لا يلزم أحداً شيء من الشرائع حتى تبلغه قلنا لا حجة لهم فيها لأن كل ما كلف الناس فهو في وسعهم واحتمال بنيتهم إلا أنهم معذورون بمغيب ذلك عنهم ولم يكلفوا ذلك تكليفاً يعذبون به إن لم يفعلوه وإنما كلفوه تكليف من لا يعذبون حتى يبلغهم ومن بلغه عن رسول الله ﷺ أن له أمراً من الحكم مجملاً ولم يبلغه نصه ففرض عليه اجتهاد نفسه في طلب ذلك الأمر وإلا فهو عاص لله عز وجل قال الله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وبقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وأما من تاب عن ذنب أو كفر ثم رجع إلى ما تاب عنه فإنه إن كان توبته تلك وهو معتقد للعودة فهو عابث مستهزئ مخادع لله تعالى قال الله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم " إلى قوله " عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وأما من كانت توبته نصوحاً ثابت العزيمة في أن لا يعود فهي توبة صحيحة مقبولة بلا شك مسقطة لكل ما تاب عنه بالنص قال عز وجل " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً " فإن عاد بعد ذلك إلى الذنب الذي تاب منه فلا يعود عليه ذنب قد غفره الله له أبداً فإن ارتد ومات كافراً فقد سقط عنه الكفر وغيره.
قال أبو محمد: ولا تكون التوبة إلا بالندم والاستغفار وترك المعاودة والعزيمة على ذلك والخروج من مظلمة إن تاب عنها إلى صاحبها بتحلل أو إنصاف ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن يفجور المعروف بابن الأخشيد وهو أحد أركان المعتزلة وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة من الأتراك وولى أبوه الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي فرأيت له في بعض كتبه يقول أن التوبة هي الندم فقط وإن لم ينو مع ذلك ترك المراجعة لتلك الكبيرة.
قال أبو محمد: هذا أشنع ما يكون من قول المرجئة لأن كل معتقد للإسلام فبلا شك ندري أنه نادم على كل ذنب يعمله عالماً بأنه مسيء فيه مستغفر منه ومن كان بخلاف هذه الصفة لكن مستحسناً لما فعل غير نادم عليه فليس مسلماً فكل صاحب كبيرة فهو على قول ابن الأخشيد غير مؤاخذ بها لأنه تائب منها وهذا خلاف الوعيد فإن قال قائل فإنكم تقطعون على قبول إيمان المؤمن أفتقطعون على قبول توبة التائب وعمل العامل للخير إن كل ذلك مقبول وهل تقطعون على المكثر من السيئات أنه في النار قلنا وبالله تعالى التوفيق أن الأعمال لها شروط من توفية النية حقها وتوفية العمل حقه فلو أيقنا أن العمل وقع كاملاً كما أمر الله تعالى لقطعنا على قبول الله عز وجل له وأما التوبة فإذا وقعت نصوحاً فنحن نقطع بقبولها وأما القطع على مظهر الخير بأنه في الجنة وعلى مظهر الشر والمعاصي بأنه في النار فهذا خطأ لأننا لا نعلم ما في النفوس ولعل المظهر الخير مبطن للكفر أو مبطن على كباير لا نعلمها فواجب أن لا نقطع من أجل ذلك عليه بشيء وكذلك المعلن بالكبائر فإنه يمكن أن يبطن الكفر في باطن أمره فإذا قرب من الموت آمن فاستحق الجنة أو لعل له حسنات في باطن أمره تفيء على سيئاته فيكون من أهل الجنة فلهذا وجب أن لا نقطع على أحد بعينه بجنة ولا نار حاشا من جاء النص فيه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم في الجنة وبأن الله علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأهل بدر وأخل السوابق فإنا نقطع على هؤلاء بالجنة لأن الله تعالى أخبرنا بذلك على لسان رسوله ﷺ وحاشا من مات معلناً للكفر فإنا نقطع عليه بالنار ونقف فيمن عدا هؤلاء إذا أننا نقطع على الصفات فنقول من مات معلناً للكفر أو مبطناً له فهو في النار خالداً فيها ومن لقي الله تعالى راجح الحسنات على السيئات والكبائر أو متسايهما فهو في الجنة لا يعذب بالنار ومن لقي الله تعالى راجح الكبائر على الحسنات ففي النار ويخرج منها بالشفاعة إلى الجنة وبالله قال أبو محمد: ورأيت بعض أصحابنا يذهب إلى شيء يسميه شاهد الحال وهو أن من كان مظهر الشيء من الديانات متحملاً للأذى فيه غير مستجلب بما يلقي من ذلك حالاً فإنه مقطوع على باطنه وظاهره قطعاً لا شك فيه كعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين ومن جرى مجراهم ممن قبلهم أو بعدهم فإن هؤلاء رضي الله عنهم رفضوا من الدنيا ما لو استعملوه لما حط من وجاهتهم شيئاً واحتملوا من المضض ما لو خففوه عن أنفسهم لم يقدح لهم ذلك فيهم عند أحد فهؤلاء مقطوع على إسلامهم عند الله عز وجل وعلى خيرهم وفضلهم وكذلك نقطع على أن عمر بن عبيد كان يدين بأبطال القدر بلا شك في باطن أمره وأن أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كانا في باطن أمرهما يدينان الله تعالى بالقياس وأن داود بن علي كان في باطن الأمر يدين الله تعالى بإبطال القياس بلا شك وأن أحمد بن حنبل رضي الله عنه كان يدين الله تعالى بالتدين بالحديث في باطن أمره بلا شك وبأن القرآن غير مخلوق بلا شك وهكذا كل من تناصرت أحواله وظهر جده في معتقد وترك المسامحة فيه واحتمل الأذى والمضض من أجله.
قال أبو محمد: وهذا قول صحيح لا شك فيه إذ لا يمكن البتة في بنية الطبائع أن يحتمل أحد أذى ومشقة لغير فائدة يتعجلها أو يتأجلها وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل ذي عقد من أن يتبين عليه شاهد عقده بما يبدو منه من مسامحة فيه أو صبر عليه وأما من كان بغير هذه الصفة فلا نقطع على عقده وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الشفاعة والميزان والحوض وعذاب القبر والكتبة
قال أبو محمد: اختلف الناس في الشفاعة فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج وكل من تبع أن لا يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها وذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة واحتج المانعون بقول الله عز وجل " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وبقوله عز وجل " يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله " وبقوله تعالى " قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً " وبقوله تعالى " واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة " وبقوله تعالى " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وبقوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " وبقوله تعالى " وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ".
قال أبو محمد: من يؤمن بالشفاعة أنه لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض السنن دون بعض ولا على القرآن دون بيان رسول الله ﷺ الذي قال له ربه عز وجل " لتبين للناس ما نزل إليهم " وقد نص الله على صحة الشفاعة في القرآن فقال تعالى " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً " فأوجب عزل وجل الشفاعة إلا من اتخذ عنده عهداً بالشفاعة وصحت بذلك الأخبار المتواترة المتناصرة بنقل الكواف لها قال تعالى " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً " وقال تعالى " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فنص تعالى على أن الشفاعة يوم القيامة تنفع عنده عز وجل ممن أذن له فيها ورضي قوله ولا أحد من الناس أولى بذلك من محمد ﷺ لأنه أفضل ولد آدم عليه السلام وقال تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكم من ملوك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وقال تعالى " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " فقد صحت الشفاعة بنص القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فصح يقيناً أن الشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي غير الشفاعة التي أثبتها عز وجل وإذ لا شك في ذلك فالشفاعة التي أبطلها الله عز وجل هي الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار قال تعالى لا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا نعوذ بالله منها فإذ لا شك فيه فقد صح يقيناً أن الشفاعة التي أوجب الله عز وجل لمن أذن له واتخذ عنده عهداً ورضي قوله فإنما هي لمذنبي أهل الإسلام وهكذا جاء الخبر الثابت.
قال أبو محمد: وهما شفاعتان إحداهما الموقف ومسعه الحال وهو المقام المحمود الذي جاء النص في القرآن به في قوله " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " وهكذا جاء الخبر الثابت نصاً والشفاعة الثانية في إخراج أهل الكبائر من النار طبقة طبقة على ما صح في ذلك الخبر وأما قول الله تعالى " قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ولا تملك نفس لنفس شيئاً " فما خالفناهم في هذا أصلاً وليس هذا من الشفاعة في شيء فنعم لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً ولا رشداً ولا هدى وإنما الشفاعة رغبة إلى الله تعالى وضراعة ودعاء وقال بعض منكري الشفاعة أن الشفاعة ليست غلا في المحسنين فقط واحتجوا بقوله تعالى " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن من أذن الله في إخراجه من النار وأدخله الجنة وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه وهذا حق وفضل الله تعالى على من قد غفر له ذنوب بأن رجحت حسناته على كبائره أو بأن لم تكن له كبيرة أو بأن تاب عنها فهو مغن له عن شفاعة كل شافع فقد حصلت له الرحمة والفوز من الله تعالى وأمر به إلى الجنة ففيما ذا يشفع له وإنما الفقير إلى الشفاعة من غلبت كبائره حسناته فأدخل النار ولم يأذن تعالى بإخراجه منها إلا بالشفاعة وكذلك الخلق في كونهم في الموقف هم أيضاً في مقام شنيع فهم أيضاً محتاجون إلى الشفاعة وبالله تعالى التوفيق وبما صحت الأخبار من ذلك نقول.
وأما الميزان فقد أنكره قوم فخالفوا كلام الله تعالى وإقداماً وتنطع آخرون فقالوا هو ميزان بكفتين من ذهب وهذا إقدام آخر لا يحل قال الله عز وجل " ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ".
قال أبو محمد: وأمور الآخرة لا تعلم إلا بما جاء في القرآن أو بما جاء عن رسول الله ﷺ ولم يأت عنه عليه السلام شيء يصح في صفة الميزان ولو صح عنه عليه السلام في ذلك شيء لقلنا به فإذ لا يصح عنه عليه السلام في ذلك فلا يحل لأحد أن يقول على الله عز وجل ما لم يخبرنا به لكن نقول كما قال الله عز وجل " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة " إلى قوله " وكفى بنا حاسبين " وقال تعالى " والوزن يومئذ الحق " وقال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية " فنقطع على أن الموازين توضع يوم القيامة لوزن أعمال العباد قال تعالى عن الكفار " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً " وليس هذا على أن لا توزن أعمالهم بل توزن لكن أعمالهم شائلة وموازينهم خفاف قد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول " ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " إلى قوله " فكنتم بها تكذبون " فأخبر عز وجل أن هؤلاء المكذبين بآياته خفت موازينهم والمكذبون بآيات الله عز وجل كفار بلا شك ونقطع على أن تلك الموازين أشياء يبين الله عز وجل بها لعباده مقادير أعمالهم من خير أو شر من مقدار الذرة التي لا تحس وزنها في موازيننا أصلاً فما زاد ولا ندري كيف تلك الموازين إلا أننا ندري أنها بخلاف موازين الدنيا وأن ميزان من تصدق بدينار أو بلؤلؤة أثفل ممن تصدق بكذآنة وليس هذا وزناً وندري أن إثم القاتل أعظم من إثم اللاطم وأن ميزان مصلي الفريضة أعظم من ميزان مصلي التطوع بل بعض الفرائض أعظم من بعض فقد صح عن النبي ﷺ أن من صلى الصبح في جماعة كمن قام ليلة ومن صلى العتمة في جماعة فكأنما قام نصف ليلة وكلاهما فرض وهكذا جميع الأعمال فإنما يوزن عمل العبد خيره مع شره ولو نصح المعتزلة أنفسهم لعلموا أن هذا عين العدل وأما من قال بما لا يدري أن ذلك الميزان ذو كفتين فإنما قاله قياساً على موازين الدنيا وقد أخطأ في قياسه إذ في موازين الدنيا ما لا كفة له كالقرطسون وأما نحن فإنما اتبعنا النصوص الواردة في ذلك فقط ولا نقول إلا بما جاء به قرآن أو سنة صحيحة عن النبي ﷺ ولا ننكر إلا ما لم يأت فيهما ولا نكذب إلا بما فيهما إبطاله وبالله تعالى التوفيق.
وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي ﷺ ولمن ورد عليه من أمته ولا ندري لمن أنكره متعلقاً ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي ﷺ في هذا وغيره وبالله تعالى التوفيق.
وأما الصراط فقد ذكرناه في الباب الأول الذي قبل هذا وأنه كما قال رسول الله ﷺ يوضع الصراط بين ظهراني جهنم ويمر علهي الناس فمخدوج وناج ومكردس في نار جهنم وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم كمر الطرف فما دون ذلك إلى من يقع في النار وهو طريق أهل الجنة إليها من المحشر في الأرض إلى السماء وهو معنى قول الله تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " وأما كتاب الملائكة لأعمالنا فحق قال الله تعالى " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين " وقال تعالى " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " وقال تعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك " وقال تعالى " إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ".
قال أبو محمد وكل هذا ما لا خلاف فيه بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام إلا أنه لا يعلم أحد من الناس كيفية ذلك الكتاب.
عذاب القبر قال أبو محمد ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله ﷺ به.
قال أبو محمد: وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وبقوله قال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر وقال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " وقال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " فهذا العرض المذكور هو عذاب القبر وإنما قيل عذاب القبر فأضيف إلى القبر لأن المعهود في أكثر الموتى أنهم يقبرون وقد علمنا أن فيهم أكيل السبع والغريق تأكله دواب البحر والمحرق والمصلوب والمعلق فلو كان على ما يقدر من يظن أنه لا عذاب إلا في القبر المعهود لما كان لهؤلاء فتنة ولا عذاب قبر ولا مساءلة ونعوذ بالله من هذا بل كل ميت فلا بد له من فتنة وسؤال وبعد ذلك سرور أو نكد إلى يوم القيامة فيوفون حينئذ أجورهم وينقلبون إلى الجنة أو النار وأيضاً فإن جسد كل إنسان فلا بد من العود إلى التراب يوماً ما كما قال الله تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " فكل من ذكرنا من مصلوب أو معلق أو محرق أو أكيل سبع أو دابة فإنه يعود رماداً أو رجيعاً ويتقطع فيعود إلى الأرض ولا بد وكل مكان استقرت فيه النفس أثر خروجها من الجسد فهو قبر لها إلى يوم القيامة وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثة وأحياناً ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء و " الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " و " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه " وكذلك قوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها " إلى قوله " إلى أجل مسمى " فصح بنص القرآن أن روح من مات لا يرجع إلى جسده إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أنه رأى الأرواح ليلة أسرى به عند سماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام أرواح أهل السعادة وعن شماله أهل الشقاء وأخير عليه السلام يوم بدر إذ خاطب القتلى وأخبر أنهم وجدوا ما توعدهم به حقاً قبل أن يكون لهم قبور فقال المسلمون يا رسول الله أتخاطب قوماً قد جيفوا فقال عليه السلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم فلم ينكر عليه السلام على المسلمين قولهم أنهم قد جيفوا وأعلمهم أنهم سامعون فصح أن ذلك لأرواحهم فقط بلا شك وأما الجسد فلا حس له.
قال أبو محمد: ولم يأت قط عن رسول الله ﷺ في خبر يصح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة ولو صح ذلك عنه عليه السالم لقلنا به فإذ لا يصح فلا يحل لأحد أن يقول وإنما انفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح المنهال بن عمرو وحده وليس بالقوى تركه شعبة وغيره وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم لم يصح عن أحد منهم غير ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد ابن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن جده محمد بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن منصور ابن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت دخل ابن عمر المسجد فأبصر ابن الزبير مطروحاً قبل أن يصلب فقيل له هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق فمال إليها فعزاها وقال أن هذه الجثث ليست بشيء وأن الأرواح عند الله فقالت أسماء وما يمنعني وقد أهدى رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل وحدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عون الله حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الحسيني ثنا أبو موسى محمد بن المثني الزمن ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي اسحق السبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود في قول الله عز وجل " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال ابن مسعود هي التي في البقرة " وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فهذا ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم ولا مخلاف من الصحابة رضي الله عنهم تقطع أسماء وابن عمر على أن الأرواح باقية عند الله وأن الجثث ليست بشيء ويقطع ابن مسعود بأن الحياة مرتان قال أبو محمد: وقد صح عن النبي ﷺ أنه رأى موسى عليه السالم قائماً في قبره يصلي ليلة الإسراء وأخبر أنه رآه في السماء السادسة أو السابعة وبلا شك إنما رأى روحه وأما جسده فموارى بالتراب بلا شك فعلى هذا أن موضع كل روح يسمى قبراً فتعذب الأرواح حينئذ وتسأل حيث كانت وبالله تعالى التوفيق.
مستقر الأرواح
قال أبو محمد اختلف الناس في مستقر الأرواح وقد ذكرنا بطلان قول أصحاب التناسخ في صدر كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فذهب قوم من الروافض إلى أن أرواح الكفار ببيرهونت وهو بئر بحضرموت وأن أرواح المؤمنين بموضع آخر أظنه الجابية وهذا قول فاسد لأنه لا دليل عليه أصلاً وما لا دليل عليه فهو ساقط ولا يعجز أحد عن أن يدعي للأرواح مكاناً آخر غير ما ادعاه هؤلاء وما كان هكذا فلا يدين به إلا مخذول وبالله تعالى التوفيق.
وذهب عوام أصحاب الحديث إلى أن الأرواح على أفنية قبورها وهذا قول لا حجة له أصلاً تصححه الأخبر ضعيف لا يحتج بمثله لأنه في غاية السقوط لا يشتغل به أحد من علماء الحديث وما كان هكذا فهو ساقط أيضاً وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلاً ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفني وهكذا أبداً وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام وزاد بعضهم فقال إن صحت الآثار في عذاب الأرواح فإن الحياة ترد إلى أقل جزء لا يتجزأ من الجسم فهو يعذب وهذا أيضاً حمق آخر ودعاوي في غاية الفساد وبلغني عن بعضهم أنه يزعم أن الحياة ترد إلى عجب الذنب فهو يعذب أو ينعم وتعلق بالحديث الثابت عن رسول الله ﷺ كان ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا الخبر صحيح إلا أنه لا حجة فيه لأنه ليس فيه أن عجب الذنب يحيا ولا أنه يركب فيه حياة ولا أنه يعذب ولا ينتقم وهذا كله مفحم في كلام النبي ﷺ وإنما في الحديث أن عجب الذنب خاصة لا يأكله التراب فلا يحول تراباً وأنه منه ابتداء خلق المرء ومنه يبتدأ إنشاؤه ثانية فقط وهذا خارج أحسن خروج على ظاهره وأن عجب الذنب خاصة تتبدد أجزاؤه وهي عظام تحسها لا تحول تراباً وأن الله تعالى يبتدئ الإنشاء الثاني يجمعها ثم يركب تمام الخلق للإنسان عليه وأنه أول ما خلق من جسم الإنسان ثم ركب عليه سائره وإذ هذا ممكن لو لم يأت به نص فخبر رسول الله ﷺ أحق بالتصديق من كل خبر لأنه عن الله عز وجل قال تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " وقال تعالى " مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا " وقال أبو بكر بن كيسان الأصم لا أدري ما الروح ولم يثبت شيء غير الجسد.
قال أبو محمد: وسنبين إن شاء الله تعالى فساد هاتين الم قال تين في باب الكلام في الروح والنفس من كتابنا هذا بحول الله وقوته والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله الله تعالى ونبيه ﷺ لا يتعداه فهو البرهان الواضحوهو أن الله تعالى قال " وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " وقال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا " فصح أن الله عز وجل خلق الأرواح جملة وهي الأنفس وكذلك أخبر عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
قال أبو محمد: وهي العاقلة الحساسة وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام وقبل أن يدخلها في الأجساد والأجساد يومئذ تراب وماء ثم أقرها تعالى حيث شاء لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها عز وجل حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت لا تزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء كما قال تعالى " ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " وقال عز وجل " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً " الآية وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أنه يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح وهذا نص قولنا والحمد لله فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله ﷺ ليلة أسرى بع عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه السلام وأرواح أهل السقاوة عن يساره عليه السلام وذلك عند منقطع العناصر وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه وقال على هذا أجمع أهل العلم.
قال أبو محمد: وهو قول جميع أهل الإسلام حتى خالف من ذكرنا وهذا هو قول الله عز وجل " فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " وقوله تعالى " وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ " ولا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور فتقوم الساعة ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد وهي الحياة الثانية ويحاسب الخلق فريق في الجنة وفريق في السعير مخلدين أبداً.
قال أبو محمد: قول بعض الأشعرية معنى قول النبي ﷺ في العهد المأخوذ في قول الله عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم " إن إذ هاهنا بمعنى إذا فقول في غاية السقوط لوجوه خمسة أولها أنه دعوى بلا دليل والثانية أن إذ بمعنى إذا لا يعرف في اللغة وثالثها أنه لو صح له تأويله هذا الفاسد وهو لا يصح لكان كلاماً لا يعقل ولا يفهم وإنما أورده عز وجل حجة علينا ولا يحتج الله عز وجل إلا بما يفهم لا بما لا يفهم لأن الله تعالى قد تطول علينا بإسقاط الأصر عنا ولا أصر أعظن من تكليفنا فهم ما ليس في بنيتنا فهمه ورابعها أنه لو كان كما ادعى لما كان على ظهر الأرض إلا مؤمن والعيان يبطل هذا لأننا نشاهد كثيراً من الناس لم يقولوا قط ربنا الله ممن نشأ على الكفر وولد عليه إلى أن مات وممن يقول بأن العالم لم يزل ولا محدث له من الأوائل والمتأخرين وخامسها أن الله عز وجل إنما أخبر بهذه الآية عما فعل ودلنا بذلك على أن الذكر يعود بعد فراق الروح للجسد كما كان قبل حلوله فيه لأنه تعالى أخبرنا أنه أقام علينا الحجة بذلك الإشهاد دليلاً كراهية أن نقول يوم القيامة أنا كنا نحن فيها عن هذا غافلين أي عن ذلك الإشهاد المذكور فصح أن ذلك الإشهاد قبل هذه الدار التي نحن فيها التي أخبرنا الله عز وجل فيها بذلك الخبر وقبل يوم القيامة أيضاً فبطل بذلك قول بعض الأشعرية وغيرها وصح أن قولنا هو نص الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وإنما أتى المخالفون منهم أنهم عقدوا على أقوال ثم راموا رد كلام الله تعالى وكلام رسول الله ﷺ إليها وهذا هو الباطل الذي لا يحل ونحن ولله الحمد إنما أتينا إلى ما قاله عز وجل وما صح عن رسول ﷺ فقلنا به ولم نحكم في ذلك بطراً ولا هوى ولا رددناهما إلى قول أحد بل رددنا جميع الأقوال إلى نصوص القرآن والسنن والحمد لله رب العالمين كثيراً وهذا هو الحق الذي لا يحق تعديه.
قال أبو محمد: وأما أرواح الأنبياء عليهم السلام فهم الذين ذكر الله تعالى أنهم المقربون في جنات النعيم وأنهم غير أصحاب اليمين وكذلك أخبر عليهم السلام أنه رآهم في السموات ليلة أسرى به في سماء سماء وكذلك الشهداء أيضاً هم في الجنة لقول الله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " وهذا الرزق للأرواح بلا شك ولا يكون إلا في الجنة وقد بين رسول الله ﷺ بالحديث الذي روي نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش وروينا هذا الحديث مبيناً من طريق ابن مسعود رضي الله عنه وأنهم الشهداء وبهذا تتألف الأحاديث والآيات والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل كيف تخرج الأنبياء عليهم السلام والشهداء من الجنة إلى حضور الموقف يوم القيامة قيل له وبالله التوفيق لسنا ننكر شهادة القرآن والحديث الصحيح بدخول الجنة والخروج عنها قبل يوم القيامة فقد خلق الله عز وجل فيها آدم عليه السلام وحواء ثم أخرجهما منها إلى الدنيا والملائكة في الجنة ويخرجون منها برسالات رب العالمين إلى الرسل والأنبياء إلى الدنيا وكل ما جاء به نص قرآن أو سنة فلا ينكره إلا جاهل أو مغفل أو رديء الدين وأما الذي ينكر ولا يجوز أن يكون البتة فخروج روح من دخل الجنة إلى النار فالمنع من هذا إجماع من جميع الأمة متيقن مقطوع به وكذلك من دخلها يوم القيامة جزاء أو تفضلاً من الله عز وجل فلا سبيل إلى خروجه منها أبداً بالنص وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من مات من أطفال المسلمين والمشركين قبل البلوغ
قال أبو محمد: اختلف الناس في حكم من مات من أطفال المسلمين والمشركين ذكورهم وإناثهم فقالت الأزارقة من الخوارج أما أطفال المشركين ففي النار وذهبت طائفة إلى أنهم يوقد لهم يوم القيامة نار ويؤمرون باقتحامها فمن دخلها منهم دخل الجنة ومن لم يدخلها منهم أدخل النار وذهب آخرون إلى الوقوف فيهم وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول.
قال أبو محمد: فأما الأزارقة فاحتجوا بقول الله تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً أنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً " ويقول روي عن رسول الله ﷺ أن خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قلت يا رسول الله أين أطفالي منك قال في الجنة قالت فأطفال من غيرك قال في النار فأعادت عليه فقال لها إن شئت أسمعتك تضاغيهم وبحديث آخر فيه الوائدة والموءودة في النار وقالوا إن كانوا عندكم في الجنة فهم مؤمنون لأنه لا يدخل الجنة الأنفس مسلمة فإن كانوا مؤمنين فيلزمكم أن تدفنوا أطفال المشركين مع المسلمين وأن لا تتركوه يلتزم إذا بلغ دين أبيه فتكون ردة وخروجاً عن الإسلام والكفر وينبغي لكم أن ترثوه وتورثوه من أقاربه من المسلمين.
قال أبو محمد: هذا كلما احتجوا به ما يعلم لهم حجة غير هذا أصلاً وكله لا حجة لهم فيه البتة أما قول نوح عليه السلام فلم يقل ذلك على كل كافر بل قال ذلك على كفار قومه خاصة لأن الله تعالى قال له " أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فأيقن نوح عليه السلام بهذا الوحي أنه لا يحدث فيهم مؤمن أبداً وإن كل من ولدوه إن ولدوه لم يكن إلا كافراً ولا بد وهذا هو نص الآية لأنه تعالى حكي أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً " وإنما أراد كفار وقته الذين كانوا على الأرض حينئذ فقط ولو كان للأزارقة أدنى علم وفقه لعلموا أن هذا من كلام نوح عليه السلام ليس على كل كافر لكن على قوم نوح خاصة لأن إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم كانا أبواهما كافرين مشركين وقد ولدا خير الأنس والجن من المؤمنين وأكمل الناس إيماناً ولكن الأزارقة كانوا أعراباً جهالاً كالأنعام بل هم أضل سبيلاً وهكذا صح عن النبي ﷺ من طريق الأسود بن سريع التميمي أنه عليه السلام قال أوليس خياركم أولاد المشركين.
قال أبو محمد: وهل كان أفاضل الصحابة رضي الله عنهم الذين يتولاهم الأزارقة كابن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وخديجة أم المؤمنين وغيرهم رضي الله عنهم إلا أولاد الكفار فهل ولد آباؤهم كفاراً وهل ولدوا إلا أهل الإيمان الصريح ثم آباء الأزارقة أنفسهم كوالدنا نافع ابن الأزرق وغيرهم من شيوخهم هل كانوا إلا أولاد المشركين ولكن من يضلل الله فلا هادي له وأما حديث خديجة رضي الله عنها فساقط مطرح لم يروه قط من فيه خير وأما حديث الوائدة فإنه جاء كما نذكره حدثنا يوسف بن عبد البر أنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن اصبغ حدثنا بكر بن حماد حدثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التميمي قال سمعت داود بن أبي هند يحدث عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد الجعفي قال أتيت أنا وأخي رسول الله ﷺ فقلنا له أن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم فهل ينفعها من عملها ذلك شيء قال لا قلنا فإن أمنا وأدت أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال رسول الله ﷺ الموءودة والوائدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم.
قال أبو محمد: وهذه اللفظة يعني لم تبلغ الحنث ليست بلا شك من كلام رسول الله ﷺ ولكنها من كلام سلمة بن يزيد الجعفي وأخيه فلما أخبر عليه السلام بأن تلك الموءودة في النار كان ذلك إنكاراً وإبطالاً لقولهما أنها لم تبلغ الحنث وتصحيحها لأنها قد كانت بلغت الحنث بخلاف ظنها لا يجوز إلا هذا القول لأن كلامه عليه السلام لا يتناقض ولا يتكاذب ولا يخالف كلام ربه عز وجل بل كلامه عليه السلام يصدق بعضه بعضاً ويوافق لما أخبر به عز وجل ومعاذ الله من غير ذلك وقد صح أخبار النبي ﷺ بأن أطفال المشركين في الجنة قال الله تعالى " وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ " فنص تعالى على أنه لا ذنب للموءودة فكان هذا مبين لأن أخبار النبي ﷺ بأن تلك الموءودة في النار أخبار عن أنها قد كانت بغت الحنث بخلاف ظن أخويها وقد روي هذا الحديث عن داود بن أبي هند محمد بن عدي وليس هو دون المعتمر ولم يذكر فيه لم تبلغ الحنث ورواه أيضاً داود بن أبي هند عبيدة بن حميد فلم يذكر هذه اللفظة التي ذكرها المعتمر فأما حديث عبيدة فحدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال أنا وهب بن ميسرة قال حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيدة ابن حميد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة بن قيس عن سلمة بن يزيد قال أتيت النبي ﷺ أنا وأخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا كانت تقرى الضيف وتصل الرحم في الجاهلية فهل ينفعها ذلك شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لنا في الجاهلية فهل ينفع ذلك أختنا شيئاً قال لا الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الإسلام فيعفوا الله عنها وأما حديث ابن أبي عدي فحدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا أبو بدر عبد بن أحمد الهروي الأنصاري حدثنا أبو محمد سعيد الخليل بن أحمد السجستاني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال انطلقت أنا وأخي إلى النبي ﷺ فقلنا يا رسول الله إن مليكة كانت تصل الرحم وتقرى الضيف وتفعل هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً قال لا قال فإنها وأدت أختاً لها في الجاهلية فهل قال أبو محمد: هكذا رويناه لها بالهاء على أنها أخت الوائدة.
قال أبو محمد: وهذا حديث قد رويناه مختصراً كما حدثاه عبد الله ابن ربيع التميمي حدثنا عمر ابن عبد الملك الخولاني حدثنا محمد ابن بكر الوراق البصري حدثنا أبو داود السجستاني حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثني أبي عن عامر الشعبي قال قال رسول الله ﷺ الوائدة والموءودة في النار قال يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال أبي فحدثني أبو إسحاق بن عامر حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي ﷺ.
قال أبو محمد: وهذا مختصر وهو على ما ذكرنا أنه عليه السلام إنما عنى بذلك التي بلغت لا يجوز غير هذا لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بقول رسول الله ﷺ هم من آبائهم فإنما قاله عليه السلام في الحكم لا في الدين ولله تعالى أن يفرق بين أحكام عباده ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه وأيضاً فلا متعلق لهم بهذا اللفظ أصلاً لأنه إنما فيه أنهم من آبائهم وهذا لا شك فيه أنهم توالدوا من آبائهم ولم يقل عليه السلام أنهم على دين آبائهم وأما قولهم ينبغي أن تصلوا على أطفال المشركين وتورثوهم وترثوهم وأن لا تتركونهم يلتزموا دين آبائهم إذا بلغوا فإنها ردة فليس لهم أن يعترضوا على الله تعالى فليس تركنا الصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين فإن العبد مؤمن فاضل لا يرث ولا يورث وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات وكثير من الفقهاء يورثون الكافر مال العبد من عبيده يسلم ثم يموت قبل أن يباع عليه وكثير من الفقهاء يورثون المسلمين مال المرتد إذ مات كافراً مرتداً وقتل على الردة وهذا معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومسروق بن الأجدع وغيرهم من الأئمة رضي الله عنهم يورثون المسلمين من أقاربهم الكفار إذا ماتوا ولله تعالى أن يفرق بين أحكام من شاء من عباده وإنما نقف حيث أوقفنا النص ولا مزيد وكذلك دفنهم في مقابر آبائهم أيضاً وكذلك تركهم يخرجون إلى أديان آبائهم إذا بلغوا فإن الله تعالى أوجب علينا أن نتركهم وذلك ولا نعترض على أحكام الله عز وجل ولا يسأل عما يفعل وقد قال رسول الله ﷺ كل مولود على الملة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه.
قال أبو محمد فبطل أن يكون لهم في شيء مما ذكرنا متعلق وإنما هو تشغيب موهوا به لأن كا ما ذكرنا فإنما هي أحكام مجردة فقط وليس في شيء من هذه الاستدلالات نص على أن أطفال المشركين كفار ولا على أنهم غير كفار وهذه النكتتان هما اللتان قصدنا بالكلام فقط وبالله تعالى التوفيق وأما من قال فيهم بالوقف فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ إذ سئل عن الأطفال يموتون فقال عليه السلام الله أعلم بما كانوا عاملين وبقوله ﷺ لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ مات صبي من أبناء الأنصار فقالت عصفور من عصافير الجنة فقال لها عليه السلام وما يدريك يا عائشة أن الله خلق خلقاً للنار وهم في أصلاب آبائهم.
قال أبو محمد وهذان الخبران لا حجة لهم في شيء منهما إلا أنهما إنما قال هما رسول الله ﷺ قبل أن يوحى إليه أنهم في الجنة وقد قال تعالى آمراً لرسوله ﷺ أن يقول " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه قد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخير وكما قال رسول الله ﷺ عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه وما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي وكان هذا قبل أن يخبره الله عز وجل بأنه لا يدخل النار من شهد بدر أو هو عليه السلام لا يقول إلا ما جاء به الوحي كما أمر الله عز وجل أن يقول " أن اتبع إلا ما يوحى إلي " فحكم كل شيء من الدين لم يأت به الوحي أن يتوقف فيه المرء فإذا جاء للبيان فلا يحل التوقف عن القول بما جاء به النص وقد صح الإجماع على أن ما علمت الأطفال قبل بلوغهم من قتل أو وطئ أجنبية أو شرب خمر أو قذف أو تعطيل صلاة أو صوم فإنهم غير مؤاخذين في الآخرة بشيء من ذلك ما لم يبلغوا وكذلك لا خلاف في أنه لا يؤاخذ الله عز وجل أحداً بما لم يفعله بل قد صح عن رسول الله ﷺ أن من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فمن المحال المنفي أن يكون الله عز وجل يؤاخذ الأطفال بما لم يعملوا مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بما عملوا ولا يختلف اثنان في أن إنساناً بالغاً مات مما لو عاشوا بعده لعملوه وهم لا يؤاخذهم بالزنا الذي لم يعمله وقد أكذب الله عز وجل من ظن هذا بقوله الصادق " الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ " وبقوله تعالى " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فصح أنه لا يجزي أحد بما لم يعمل ولا مما لم يسن فصح أن قول رسول الله ﷺ الله أعلم بما كانوا عاملين به مما لم يعملوه بعد وفي هذا اختلفنا لا فيما عداه وإنما فيه أن الله تعالى يعلم ما لم يكن وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فقط ونعم هذا حق لا يشك فيه مسلم فبطل أن يكون لأهل التوقف حجة في شيء من هذين الخبرين إذ لم يصح عن رسول الله ﷺ في هذه المسألة بيان وأما من قال أنهم يعذبون بعذاب آبائهم فباطل لأن الله تعالى يقول " ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " وأما من قال أنهم توقد لهم نار فباطل لأن الأثر الذي فيه هذه القصة إنما جاء في المجانين وفيمن لا يبلغه ذكر الإسلام من البالغين على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد فلما بطلت هذه الأقاويل كلها وجب النظر فيما صح من النصوص من حكم هذه المسألة ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " وقال عز وجل " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " إلى قوله " لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " إلى قوله " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " فنص عز وجل على أن فطر الناس على الإيمان وأن الإيمان هو صبغة الله تعالى وقال عز وجل " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " فصح يقيناً أن كل نفس خلقها الله تعالى من بني آدم ومن الجن والملائكة فمؤمنون كلهم عقلاً مميزون فإذ ذلك كذلك فقد استحقوا كلهم الجنة بإيمانهم حاشا من بدل هذا العهد وهذه الفطرة وهذه الصبغة وخرج عنها إلى غيرها ومات على التبديل وبيقين ندري أن الأطفال لم يغيروا شيئاً من ذلك فهم من أهل الجنة وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وروي عنه عليه السلام أنه قال على الملة فأباه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاً وهل يجدون فهيا من جدعاء حتى تكونوا أنتم الذي تجدعونها وهذا تفسير الآيات المذكورات حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن إسحاق السكن حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث حدثنا الحسن بن علي حدثنا الحجاج بن المنهال قال سمعت حماد بن سلمة يفسر حديث كل مولود يولد على الفطرة فقال هذا عندنا حيث أخذ الله العهد عليهم في أصلاب آبائهم حيث قال " ألست بربكم قالوا بلى " وقد صح أيضاً عن رسول الله ﷺ من طريق عياض بن حمار المجاشعي قال عن الله تعالى أنه قال خلقت عبادي حفناء كلهم فاجتالهم الشياطين عن دينهم فصح يقيناً أنه كل من مات قبل أن تجتاله الشياطين عن دينه فقد مات حنيفاً وهذا حديث تدخل فيه الملائكة والجن والإنس عباد له عز وجل مخلوقين وأيضاً فإن الله عز وجل أخبر بقول إبليس له تعالى أن يغوي الناس فقال تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين " فصح يقيناً أن الغواية داخلة على الإيمان وأن الأصل من كل واحد فهو الإيمان وكل مؤمن ففي الجنة وأيضاً فإن الله تعالى قال " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى " وليست هذه صفة الصبيان فصح أنهم لا يدخلون النار ولا دار إلا الجنة أو النار فإذا لم يدخلوا النار فهم بلا شك في الجنة وقد صح عن رسول الله ﷺ في الرؤيا الكبيرة التي رآها أنه رأى إبراهيم عليه السلام في روضة خضراً مفتخر وفيها من كل نور ونعيم وحواليه من أحسن صبيان وأكثرهم فسأل عليه السلام عنهم فأخبر أنهم من مات من أولاد الناس قبل أن يبلغوا فقيل له يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين فارتفع الإشكال وصح بالثابت من السنن وصحيحها أن جميع من لم يبلغ من أطفال المسلمين والمشركين ففي الجنة ولا يحل لأحد تعدى ما صح بالقرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم أن النار دار جزاء فالجنة كذلك ولا جزاء للصبيان قلنا وبالله تعالى التوفيق إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة قد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط وأن الجنة دار جزاء وتفضل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم ولمن لا عمل له دار تفضل من الله تعالى مجرد وقد قال قوم أن الصبان هم خدم أهل الجنة وقد ذكر الله تعالى الوالدان المخلدين في غير موضع من كتابه وأنهم خدم أهل الجنة فلعلهم هؤلاء والله أعلم.
قال أبو محمد: وأما المجانين لا يعقلون حتى يموتوا فإنهم كما ذكرنا يولدون على الملة حفناء مؤمنين ولم يغيروا ولا بدلوا فماتوا مؤمنين فهم في الجنة حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي بالثغري قال حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى بن المفرج القاضي حدثنا محمد بن أيوب السموط البرقي أنبأنا محمد بن عمر بن عبد الخالق البزاز حدثنا محمد بن المثني أبو موسى الزمن حدثنا معاذ بن هشام الدستواني حدثنا أبي عن قتادة عن الأسود بن سريع التميمي عن النبي ﷺ قال يعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام ولم أسمع شيئاً ويقول الأحمق جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ويقول الذي مات في الفترة ما أتانا لك من رسول قال البزاز وذهب عني ما قال الرابع قال فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله إليهم ادخلوا النار فوا الذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلام.
الكلام في القيامة وتغيير الأجساد
اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيمة وعلى تكثير من أنكر ذلك ومعنى هذا القول أن لمكث الناس وتناسلهم في دار الابتلا التي هي الدنيا أمداً يعلمه الله تعالى فإذا انتهى ذلك الأمد مات كل من في الأرض ثم يحيى الله عز وجل كل من مات مذ خلق الله عز وجل الحيوان إلى انقضاء الأمد المذكور ورد أرواحهم التي كانت بأعيانها وجمعهم في موقف واحد وحاسبهم عن جميع أعمالهم ووفاهم جزاؤهم ففريق من الجن والإنس في الجنة وفريق في السعير وبهذا جاء القرآن والسنن قال تعالى " من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقال تعالى " وإن الله يبعث من في القبور " وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " إلى آخر الآية وقال تعالى " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " وقال تعالى فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبث مائة عام " إلى قوله " وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً " الآية وقال تعالى عن المسيح عليه السلام " وأحيي الموتى بإذن الله " ولا يمكن البتة أن يكون الإحيا المذكور في جميع هذه الآيات إلا رد الروح إلى الجسد ورجوع الحس والحركة الإرادية التي بعد عدمها منه لم يكن غير هذا البتة إلا أن أبا العاص حكم بن المنذر بن سعيد القاضي أخبرني عن إسماعيل بن عبد الله الرعيني أنه كان ينكر بعث الأجساد ويقول أن النفس حال فراقها الجسد تصير إلى معادها في الجنة أو النار ووقفت على هذا القول بعض العارفين بإسماعيل فذكر لي ثقاة منهم أنهم سمعوه يقول أن الله تعالى يأخذ من الأجساد جزء الحياة منها.
قال أبو محمد: وهذا تلبيس من القول لم يخرج به عن ما حكي لي عنه حكم بن المنذر لأنه ليس في الأجساد جزء الحياة إلا النفس وحدها.
قال أبو محمد: ولم ألق إسماعيل الرعيني قط على أني قد أدركته وكان ساكناً معي في مدينة من مداين الأندلس تسمى نجاية مدة ولكنه كان مختفياً وكان له اجتهاد عظيم ونسك وعبادة وصلاة وصيام والله أعلم وحكم بن المنذر ثقة في قوله بعيد من الكذب وتبرأ منه حكم بن المنذر وكان قبل ذلك يجمعهما مذهب بن مسرة في القدر وتبرأ منه أيضاً إبراهيم بن سهل الأريواني وكان من روس المرية وتبرأ منه أيضاً صهره أحمد الطبيب وجماعة من المرية وتولته جماعة منهم وبلغني عنه أنه كان يحتج لقوله هذا بقول رسول الله ﷺ إذا وقف على ميت فقال أما هذا فقد قامت قيامته وبأنه عليه السلام كانت الأعراب تسأله عن الساعة فينظر إلى أصغرهم فيخبرهم أنه استوفى عن يمت حتى تقوم قيامتهم أو ساعتهم.
قال أبو محمد: وإنما عني رسول الله ﷺ بهذا قيام الموت فقط بعد ذلك إلى يوم البعث كما قال عز وجل " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " فنص تعالى على أن البعث يوم القيامة بعد الموت بلفظة ثم التي هي للمهلة وهكذا أخبر عز وجل عن قولهم يوم القيامة " قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ " وأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة وأنه يحيي العظام ويبعث من في القبور في مواضع كثيرة من القرآن وبرهان ضروري وهو أن الجنة والنار موضعان ومكانان وكل موضع ومكان ومساحة متناهية بحدوده بالبرهان الذي قدمنا على وجوب تناهي الإجسام وتناهى كل ما له عدد وبقول الله تعالى " جنة عرضها السماوات والأرض " فلو لم يكن لتولد الخلق نهاية لكانوا أبداً يحدثون بلا آخر وقد علمنا أن مصيرهم الجنة أو النار ومحال ممتنع غير ممكن أن يسع ما لا نهاية له فيما له نهاية من الأماكن فوجب ضرورة أن للخلق نهاية فإذ ذلك واجب فقد وجب تناهى عالم الذر والتناسل ضرورة وإنما كلامنا هذا مع من يؤمن بالقرآن وبنبوة محمد ﷺ وادعى الإسلام وأما من أنكر الإسلام فكلامنا معه على ما رتبناه في ديواننا هذا من النقض على أهل الإلحاد حتى تثبت نبوة محمد ﷺ وصحة ما جاء به فنرجع إليه بعد التنازع وبالله تعالى التوفيق وقد نص الله تعالى على أن العظام يعيدها ويحييها كما كانت أول مرة وأما اللحم فإنما هو كسوة كما قال " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " إلى قوله " فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " فأخبر عز جل أن عنصر الإنسان إنما هو العظام الذي انتقلت عن السلالة التي من طين إلى النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى العظام وأن اللحم كسوة العظام وهذا أمر مشاهد لأن اللحم يذهب بالمرض حتى لا يبقى منه ما لا قدر له ثم يكثر عليه لحم آخر إذا خصب الجسم وكذلك أخبرنا عز وجل أنه يبدل الخلق في الآخرة فقال " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب " وفي الآثار الثابتة أن جلود الكفار تغلظ حتى تكون نيفاً وسبعين ذراعاً وأن ضرسه في النار كأحد وكذلك نجد اللحم الذي في جسد الإنسان يتغذى به حيوان آخر فيستحيل لحماً لذلك الحيوان إذ ينقلب دوداً فصح بنص القرآن العظام هي التي تحيى يوم القيامة ومن أنكر ما جاء به القرآن فلا حظ له في الإسلام
الكلام في خلق الجنة والنار
ذهبت طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أن الجنة والنار لم يخلقا بعد وذهب جمهور المسلمين إلى أنهما قد خلقتا وما نعلم لمن قال أنهما لم يخلقا بعد حجة أصلاً أكثر من أن بعضهم قال قد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال وذكر أشياء من أعمال البر من عملها غرس له في الجنة كذا وكذا شجرة وبقول الله تعالى حاكياً عن امرأة فرعون أنها قالت " رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة " قالوا ولو كانت مخلوقة لم يكن في الدعاء في استئناف البناء والغرس معنى.
قال أبو محمد: وإنما قلنا أنهما مخلوقتان على الجملة كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من البنيان.
قال أبو محمد: والبرهان على أنهما مخلوقتان بعد أخبار النبي ﷺ أنه رأى الجنة ليلة الإسراء وأخبر عليه السلام أنه رأى سدرة المنتهى في السماء السادسة وقال تعالى " عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى " فصح أن جنة المأوى هي السماء السادسة وقد أخبر الله عز وجل أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى " لهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون " فليس لأحد بعد هذا أن يقول أنها جنة غير جنة الخلد وأخبر عليه السالم أنه رأي الأنبياء عليهم السلام في السماوات سماء سماء ولا شك في أن أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الجنة فصح أن الجنات هي السماوات وكذلك أخبر عليه السلام أن الفردوس الأعلى من الجنة التي أمرنا الله تعالى أن نسأله إياها فوقها عرش الرحمن والعرش مخلوق بعد الجنة فالجنة مخلوقة وكذلك أخبر عليه السلام أن النار اشتكت إلى رباه فأذن لها بنفسين وأن ذلك أشد ما نجده من الحر والبرد وكان القاضي منذر بن سعيد يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول أنها ليست التي كان في آدم عليه السلام وامرأته واحتج في ذلك بأشياء منها أنه لو كانت جنة الخلد لما أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين واحتج أيضاً بأن جنة الخلد لا كذب فيها وقد كذب فيها إبليس وقال من دخل الجنة لم يخرج منها وآدم وامرأته عليهما السلام قد خرجا منها.
قال أبو محمد: كل هذا لا دليل له فيه أما قوله أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة رجاء أن يكون من الخالدين فقد علمنا أن أكله من الشجرة لم يكن ظنه في صواباً ولا أكله لها صواباً وإنما كان ظناً ولا حجة فيما كان هذه صفته والله عز وجل لم يخبره بأنه مخلد في الجنة بل قد كان في علم الله تعالى أنه سيخرجه منها فأكل عليه السلام من الشجرة رجاء الخلد الذي لم يضمن له ولا تيقن به لنفسه وأما قوله أن الجنة لا كذب فيها وأن من دخلها لم يخرج منها وقد كذب فيها إبليس وقد خرج منها آدم وامرأته فهذا لا حجة له فيه وإنما تكون كذلك إذا كانت جزاء لأهلها كما أخبر عز وجل عنها حيث يقول " لا تسمع فيها لاغية " فإنما هذا على المستأنف لا على ما سلف ولا نص معه على ما ادعى ولا إجماع واحتج أيضاً بقول الله عز وجل لآدم عليه السلام " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " قال وقد عرى فيها آدم عليه السلام.
قال أبو محمد: وهذا لا يحجة فيه بل هو حجة عليه لأن الله عز وجل وصف الجنة التي أسكن فيها آدم بأنها لا يجاع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى وهذه صفة الجنة بلا شك وليس في شيء مما دون السماء مكان هذه صفته بلا شك بل كل موضع دون السماء فإنه لا بد أن يجاع فيه ويعرى ويظمأ ويضحى ولا بد من ذلك ضرورة فصح أنه إنما سكن المكان الذي هذه صفته وليس هذا غير الجنة البتة وإنما عرى آدم حين أكل من الشجرة فأهبط عقوبة له وقال أيضاً قال الله عز وجل " لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً " وأخبر آدم أنه لا يضحى.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليه لأنه لو كان في المكان الذي هو فيه شمس لأضحى فيه ولا بد فصح أن الجنة التي أسكن فيها آدم كانت لا شمس فيها فهي جنة الخلد بلا شك وأيضاً فإن قوله عز وجل " اسكن أنت وزوجك الجنة " إشارة إلى بالألف واللام ولا يكون ذلك إلى على معهود ولا تنطلق الجنة هكذا إلا على جنة الخلد ولا ينطلق هذا الاسم على غيرها إلا بالإضافة وأيضاً فلو أسكن آدم عليه السلام جنة في الأرض لم كان في إخراجه منها إلى غيرها من الأرض عقوبة بل قد بين تعالى أنها ليست في الأرض بقوله تعالى " وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " فصح يقيناً بالنص أنه قد أهبط من الجنة إلى الأرض فصح أنها لم تكن في الأرض البتة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في بقاء أهل الجنة والنار أبداً
قال أبو محمد: اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها ولا للنار ولا لعذابها الأجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض فأما جهم فقال أن الجنة وانلار يفنيان ويفنى أهلهما وقال أبو الهذيل أن الجنة والنار لا يفنيان ولا يفنى أهلهما إلا أن حركاتهم تفنى ويبقون بمنزلة الجماد لا يتحركون وهم في ذلك أحياء متلذذون أو معذبون وقالت تلك الطائفة من الروافض أن أهل الجنة يخرجون من الجنة وكذلك أهل النار إلى حيث شاء الله.
قال أبو محمد: أما هذه المقالة ففي غاية الغثاثة والتعري من شيء يشغب به فكيف من إقناع أو برهان وما كان هكذا فهو ساقط وأما قول أبي الهذيل فإنه لا حجة له إلا أنه قال كلما قال أبو محمد: فظن أبو الهذيل لجهله بحدود الكلام وطبايع الموجودات أن ما لم يخرج إلى الفعل فإنه يقع عليه العدد وهذا خطأ فاحش لأن ما لم يخرج إلى الفعل فليس شيئاً ولا يجوز أن يقع العدد إلا على شيء وإنما يقع العدد على ما خرج إلى الفعل من حركات أهل النار والجنة متى ما خرج فهو محدود متناه وهكذا أبداً وقد أحكمنا هذا المعنى في أول هذا الكتاب في باب إيجاب حدوث العالم وتناهي الموجودات فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق فبطل ما موه به أبو الهذيل ولله الحمد ثم نقول أن قوله هذا خلاف للإجماع المتيقن وأيضاً فإن الذي فر منه في الحركات فإنه لازم له في مدد سكونهم وتنعمهم وتألمهم لأنه مقر بأنهم يبقون ساكنين متنعمين متألمين بالعذاب وبالضرورة ندري أن للسكون والنعيم والعذاب مدداً يعد كل ذلك كما تعد الحركة ومددها ولا فرق أيضاً فلو كان ما قاله أبو الهذيل صحيحاً لكان أهل الجنة في عذاب واصب وفي صفة المخدور والمفلوج ومن أخذه الكابوس ومن سقى البنج وهذا غاية النكد والشقاء ونعوذ بالله من هذا الحال وأما جهم بن صفوان فإنه احتج بقول الله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " وبقوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " وقال كما لا يجوز أن يوجد شيء لم يزل غير الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يوجد شيء لا يزال غير الله تعالى.
قال أبو محمد: ما نعلم له حجة غير هذا أصلاً وكل هذا لا حجة له فيه أما قوله تعالى " كل شيء هالك إلا وجهه " فإنما عنى تعالى الاستحالة من شيء إلى شيء ومن حال إلى حال وهذا عام لجميع المخلوقات دون الله تعالى وكذلك مدد النعيم في الجنة والعذاب في النار كلما فنيت مدة أحدث الله عز وجل أخرى وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر يدل على هذا ما نذكره بعد أن شاء الله تعالى من الدلائل على خلود الجنة والنار وأهلها وأما قوله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " فإن اسم الشيء لا يقع إلا على موجود والإحصاء لا يقع على ما ذكرنا إلا على ما خرج إلى الفعل ووجد بعد وإذا لم يخرج من الفعل فهو لا شيء بعد ولا يجوز أن يعد لا شيء وكل ما خرج إلى الفعل من مدة بقاء الجنة والنار وأهلهما فمحصي بلا شك ثم يحدث الله تعالى لهم مدداً آخر وهكذا أبداً بلا نهاية ولا آخر وقالوا هل أحاط الله تعالى علماً بجميع مدة الجنة والنار أم لا فإن قلتم لا جهلتم الله وإن قلتم نعم جعلتم مدتها محاطاً بها وهذا هو التناهي نفسه.
قال أبو محمد: إن الله تعالى إنما يعلم بالأشياء على ما هي عليه لأن من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فهو جاهل به مخطئ في اعتقاده ظان للباطل وليس علماً ولا حقاً ولا هو عالم به وهذا ما لا شك فيه وعلم الله عز وجل هو الحق اليقين على ما هي معلوماته عليه فكل ما كان ذا نهاية فهو في علم الله تعالى ذو نهاية ولا سبيل إلى غير هذا البتة وليس للجنة والنار مدد غير متناهية محاط بها وإنما لهما مدد كل ما خرج منها إلى الفعل فهو محصي محاط بعدده وما لم يخرج إلى الفعل فليس بمحصي لكن علم الله تعالى أحاط أنه لا نهاية لهما وأما قوله كما لا يجوز أن يوجد شيء غير الله تعالى لا نهاية له لم يزل فإن هذه قضية فاسدة وقياس فاسد لا يصح والفرق محال في الوجود كما ذكرنا في الرد على من قال بأن العالم لم يزل فأغنى عن إعادته وليس كذلك قولنا لا يزال لأن إحداث الله تعالى شيئاً بعد شيء أبداً بلا غاية متوهم ممكن لا حوالة فيه فقياس الممكن المتوهم على الممتنع المستحيل الذي لا يتوهم باطل عند القائلين بالقياس فكيف عند من لا يقول به فإن قال قائل أن كل ما ماله أول فله آخر قلنا له هذه قضية فاسدة ودعوى مجزدة وما وجب هذا قط لا بقضية عقل ولا بخبر لأن كون الموجودات لها أوائل معلوم بالضرورة لأن ما وجد بعد فقد حصره عدد زمان وجوده وكل ما حصره عدد فلذلك العدد أول ضرورة وهو قولنا واحد ثم يتمادى العدد أبداً فيمكن الزيادة بلا نهاية وتمادي الموجود بخلاف المبدأ لأنه إذا أبقى وقتاً جاز أن يبقى وقتين وهكذا أبداً بلا نهاية وكل ما خرج من مدد البقاء إلى حد الفعل فذو نهاية با شك كذلك من العدد أيضاً ولم نقل أن بقاء الناس في هذه الدنيا له نهاية إلا من النص ولو أخبر الله تعالى بذلك لأمكن وجاز أن تبقى الدنيا أبداً بلا نهاية ولكان الله تعالى قادراً على ذلك ولكن النص لا يحل خلافه وكذلك لولا قال أبو محمد: والبرهان على بقاء الجنة والنار بلا نهاية قول الله تعالى " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " وقوله تعالى في غير موضع من القرآن " خالدين فيها أبدًا " وقوله تعالى " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " مع صحة الإجماع بذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص لو أقام أهل النار في النار ما شاء الله أن يبقوا لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيها منها.
قال أبو محمد: وهذا إنما هو في أهل الإسلام الداخلين في النار بكبائرهم ثم يخرجون منها بالشفاعة ويبقى ذلك المكان خالياً ولا يحل لأحد أن يظن في الصالحين الفاضلين خلاف القرآن وحاشا لهما من ذلك وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإيمان والوعيد وتوابعه بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم === لا إله إلى الله عدة للقائه الكلام في الإمامة والمفاضلة ===
قال الفقيه الإمام الأوحد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله ﷺ حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة.
قال أبو محمد: وقول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه وإبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه والقرآن والسنة قد ورد بإيجاب الإمام من ذلك قول الله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة وإيجاب الإمامة وأيضاً فإن الله عز وجل يقول " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " فوجب اليقين بأن الله تعالى لا يكلف الناس ما ليس في بنيتهم واحتمالهم وقد علمنا بضرورة العقل وبديهته أن قيام الناس بما أوجبه الله تعالى من الأحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح والطلاق وسائر الأحكام كلها ومنع الظالم وإنصاف المظلوم وأخذ القصاص على تباعد أقطارهم وشواغلهم واختلاف آرائهم وامتناع من تحرى في كل ذلك ممتنع غير ممكن إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم إما لأنها ترد في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء وإما خلافاً مجرداً عليهم وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم حق ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد أو إلى أكثر من واحد فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعداً بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد فاضل عالم حسن السياسة قوي على الإنفاذ إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ولا يجوز إلا إمام واحد إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد واحتج هؤلاء بقول الأنصار أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير واحتجوا أيضاً بأمر علي والحسن مع معاوية رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه لأن قول الأنصار رضي الله عنهم ما ذكرنا لم يكن صواباً بل كان خطأ إذا أداهم إليه الاجتهاد وخالفهم فيه المهاجرون ولا بد إذا اختلف القائلان على قولين متنافين من أن يكون أحدهما حقاً والآخر خطأ وإذ ذلك كذلك فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله ﷺ قد قال إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما وقال تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وقال تعالى " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى وقلنا ما لا يحل لنا وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان ومدعياً بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل عالم إمام أو في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد إماماً وخليفة في منزله وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا فصح أن قول الأنصار رضي الله عنهم وهلة وخطأ رجعوا عنه إلى الحق وعصمهم الله تعالى من التمادي عليه وأما أمر علي والحسن ومعاوية فقد صح عن النبي ﷺ أنه أنذر بخارحة تخرج من طائفتين من أمة يقتلها أولي الطائفتين بالحق فكان قاتل تلك الطائفة علي رضي الله عنه فهو صاحب الحق بلا شك وكذلك أنذر عليه السلام بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فصح أن علياً هو صاحب الحق وكان علي السابق إلى الإمامة فصح بعد أنه صاحبها وأن من نازعه فيها فمخطئ فمعاوية رحمه الله مخطئ مأجور مرة لأنه مجتهد ولا حجة في خطأ المخطئ فبطل قول هذه الطائفة وأيضاً فإن قول الأنصار رضي الله عنهم منا أمير يخرج على أنهم إنما أرادوا أن يلي وال منهم فإذا مات ولي من المهاجرين آخر وهكذا أبداً لا على أن يكون إمامان في وقت وهذا هو الأظهر من كلامهم وأما علي ومعاوية رضي الله عنهما فما سلم قط أحدهما للآخر بل كل واحد منهما يزعم أنه المحق وكذلك كان الحسن رضي الله عنه إلى أن أسلم الأمر إلى معاوية فإذ هذا كذلك فقد صح الإجماع على بطلان قول ابن كرام وأبي الصباح وبطل أن يكون لهم تعلق في شيء أصلاً وبالله تعالى التوفيق ثم اختلف القائلون بوجوب الإمامة على قريش فذهب أهل السنة وجميع الشيعة وبعض المعتزلة وجمهور المرجئة إلى أن الإمامة لا تجوز إلا في قريش خاصة من كان من ولد فهر بن مالك وأنها لا تجوز فيمن كان أبوه من غير بني فهر بن مالك وإن كانت أمه من قريش ولا في حليف ولا في مولى وذهبت الخوارج كلها وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة إلى أنها جايزة في كل من قام بالكتاب والسنة قرشياً كان أو عربياً أو ابن عبد وقال ضرار بن عمرو الغطفاني إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة فالواجب أن يقدم الحبشي لأنه قال أبو محمد: وبوجوب الإمامة في ولد فهر بن مالك خاصة نقول بنص رسول الله ﷺ على أن الأئمة من قريش وعلى أن الإمامة في قريش وهذه رواية جاءت مجيء التواتر ورواها أنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب ومعاوية وروي جابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها ومما يدل على صحة ذلك إذعان الأنصار رضي الله عنهم يوم السقيفة وهم أهل الدار والمنعة والعدة والعدد والسابقة في الإسلام رضي الله عنهم ومن المحال أن يتركوا اجتهادهم لاجتهاد غيرهم لولا قيام الحجة عليهم بنص رسول الله ﷺ على أن الحق لغيرهم في ذلك فإن قال قائل أن قول رسول الله ﷺ الأئمة من قريش يدخل في ذلك الحليف والمولى وابن الأخت لقول رسول الله ﷺ مولي القوم منهم ومن أنفسهم وابن أخت القوم منهم فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الإجماع قد تيقن وصح على أن حكم الحليف والمولى وابن الأخت كحكم من ليس له حليف ولا مولى ولا ابن أخت فمن أجاز الإمامة في غير هؤلاء جوزها في هؤلاء ومن منعها من غير قريش منعها من الحليف والمولى وابن الأخت فإذا صح البرهان بأن لا يكون إلا في قريش لا فيمن ليس قرشياً صح بالإجماع أن حليف قريش ومولاهم وابن أختهم كحكم من ليس قرشياً وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه العالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما قلنا نعم لا يقع على هؤلاء إلا بالإضافة لا بالإطلاق في قال فلان إمام في الدين وإمام بني فلان فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف من أحد من الأمة إلا على المتولي لأمور أهل الإسلام فإن قال قائل بأن اسم الإمارة واقع بلا خلاف على من ولي جهة من جهات المسلمين وقد سمي بالأمارة كل من ولاه رسول الله ﷺ جهة من الجهات أو سرية أو جيشاً وهؤلاء مؤمنون فما المانع من أن يوقع على كل واحد اسم أمير المؤمنين فجوابنا وبالله التوفيق أن الكذب محرم بلا خلاف وكل ما ذكرنا فإنما هو أمير لبعض المؤمنين لا لكلهم فلو سمي أمير المؤمنين لكان مسميه بذلك كاذباً لأن هذه اللفظة تقتضي عموم جميع المؤمنين وهو ليس كذلك وإنما هو أمير بعض المؤمنين فصح أنه ليس يجوز البتة أن يوقع اسم الإمامة مطلقاً ولا اسم أمير المؤمنين إلا على القرشي المتولي لجميع أمور المؤمنين كلهم أو الواجب له ذلك وإن عصاه كثير من المؤمنين وخرجوا عن الواجب عليهم من طاعته والمفترض عليهم من بيعته فكانوا بذلك فئة باغية حلالاً قتالهم وحربهم وكذلك اسم الخلافة بإطلاق لا يجوز أيضاً إلا لمن هذه صفته وبالله التوفيق واختلف القائلون بأن الإمامة لا تجوز إلا في صلبة قريش فقالت طائفة هي جائزة في جميع ولد فهر بن مالك فقط وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة وبعض المعتزلة وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلى في ولد العباس بن عبد المطلب وهو قول الراوندية وقالت طائفة لا تجوز الخلافة إلا في ولد علي ابن أبي طالب ثم قصروها على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد المطلب خاصة ويراها في جميع ولد عبد المطلب وهم أبو طالب وأبو لهب والحارث والعباس وبلغنا عن رجل كان بالأردن يقول لا تجوز الخلافة إلا في بني أمية بن عبد شمس وكان له في ذلك تأليف مجموع وروينا كتاباً مؤلفاً لرجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتج فيه بأن الخلافة لا تجوز إلا لولد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: فأما هذه الفرق الأربع فما وجدنا لهم شبهة يستحق أن يشتغل بها إلا دعاوي كاذبة لا وجه لها وإنما الكلام مع الذين يرون الأمر لولد العباس أو لولد علي فقط لكثرة عددهم.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى أن الخلافة لا تجوز إلى في ولد العباس فقط على أن الخلفاء من ولده وكل من له حظ من علم من غير الخلفاء منهم لا يرضون بهذا ولا يقولون به لكن تلك الطائفة قالت كان العباس عصب رسول الله ﷺ ووارثه فإذا كان ذلك قال أبو محمد: وهذا ليس بشيء لأن ميراث العباس رضي الله عنه لو وجب له لكان ذلك في المال خاصة وأما المرتبة فما جاء قط في الديانات أنها تورث فبطل هذا التمويه جملة ولله الحمد ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولاه رسول الله ﷺ مكاناً ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه وهذا ما لا يقولونه فكيف وقد صح بإجماع جميع أهل القبلة حاشا الروافض أن رسول الله ﷺ قال لا نورث ما تركناه صدقة فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " وورث سليمان داود " وبقوله تعالى حاكياً عن زكريا عليه السلام أنه قال " فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً ".
قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه لأن الرواة حملة الأخبار وجميع التواريخ القديمة كلها وكواف بني إسرائيل ينقلون بلا خلاف نقلاً يوجب العلم أن داود عليه السلام كان له بنون غير سليمان عليه السلام فصح أنه ورث النبوة وبرهان ذلك أنهم كلهم مجمعون على أنه عليه السلام ولي مكان أبيه عليهما السلام وليس له إلا اثنتي عشرة سنة ولداود أربعة وعشرون ابناً كباراً وصغاراً وهكذا القول في ميراث يحيى بن زكريا عليهما السلام وبرهان ذلك من نص الآية نفسها قوله عليه السلام " يرثني ويرث من آل يعقوب " وهم مئوا ألوف يرث عنه النبوة فقط وأيضاً فمن المحال أن يرغب زكريا عليه السلام في ولد يحجب عصبته عن ميراث فإنما يرغب في هذه الخطة ذو الحرص على الدنيا وحطامها وقد نزه الله عز وجل مريم عليها السلام التي كانت في كفالته من المعجزات قال تعالى " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " إلى قوله " إنك سميع الدعاء " وعلى هذا المعنى دعا فقال " هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً " وأما من اغتر بقوله تعالى حاكياً عنه عليه السلام أنه قال " وإني خفت الموالي من ورائي " قيل له بطلان هذا الظن أن الله تعالى لم يعطه ولداً يكون له عقب فيتصل الميراث لهم بل أعطاه ولداً محصوراً لا يقرب النساء قال تعالى " وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين " فصح ضرورة أنه عليه السلام إنما طلب ولداً نبياً لا ولداً يرث المال وأيضاً فلم يكن العباس محيطاً بميراث النبي ﷺ وإنما كان يكون له ثلاثة أثمانه فقط وأما ميراث المكانة فقد كان العباس رضي الله عنه حياً قائماً إذ مات النبي ﷺ فما ادعي العباس لنفسه قط في ذلك حقاً لا حينئذ ولا بعد ذلك وجاءت الشورى فما ذكر فيها ولا أنكر هو ولا غيره ترك ذكره فيها فصح أنه رأى محدث فاسد لا وجه للاشتغال به والخلفاء من ولده والأفاضل منهم من غير الخلفاء لا يرون لأنفسهم بهذه الدعوى ترفعاً عن سقوطها ووهيها وبالله تعالى التوفيق " وأما القائلون بأن الإمامة لا تكون إلا في ولد علي بن أبي طالب أنه الخليفة بعده وأن الصحابة بعده عليه السلام اتفقوا على ظلمه وعلى كتمان نص النبي ﷺ وهؤلاء المسمون الروافض وطائفة قالت لم ينص النبي ﷺ على علي لكنه كان أفصل الناس بعد رسول الله ﷺ وأحقهم بالأمر وهؤلاء هم الزيدية نسبوا إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ثم اختلفت الزيدية فرقاً فقالت طائفة أن الصحابة ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة وهم الجارودية وقالت أخرى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يظلموه لكنه طابت نفسه بتسليم حقه إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنهما إماما هدى ووقف بعضهم في عثمان رضي الله عنه وتولاه بعضهم وذكرت طائفة أن هذا كان مذهب الفقيه الحسن بن صالح بن حي الهمداني.
قال أبو محمد: وهذا خطأ وقد رأيت لهشام بن الحكم الرافضي الكوفي في كتابه المعروف بالميزان وقد ذكر الحسن بن حي وأن مذهبه كان أن الإمامة في جميع ولد فهر بن مالك.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يليق بالحسن بن حي غيره فإنه كان أحد أئمة الدين وهشام ابن الحكم أعلم به ممن نسب إليه غير ذلك لأن هشاماً كان جاره بالكوفة وأعرف الناس به وأدركه وشاهده والحسن بن حي رحمه الله يحتج بمعاوية رضي الله عنه وبابن الزبير رضي الله عنهما وهذا مشهور عنه في كتبه ورواياته من روي عنه وجميع الزيدية لا يختلفون في أن الإمامة في جميع ولد علي بن أبي طالب من خرج منهم يدعو إلى الكتاب والسنة وجب سل السيف معه وقالت الروافض الإمامة في علي وحده بالنص عليه ثم في الحسن ثم في الحسين وادعوا نصاً آخر من النبي ﷺ عليهما بعد أبيهما ثم علي بن الحسين لقول الله عز وجل " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " قالوا فولد الحسين أحق من أخيه ثم محمد بن علي بن الحسين ثم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين وهذا مذهب جميع متكلميهم كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي وداود المواري وداود الرقي وعلي بن منصور وعلي بن هيثم وأبي علي السكاك تلميذ هشام بن الحكم ومحمد بن جعفر بن النعمان شيطان الطاق وأبي ملك الحضرمي وغيرهم ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء المذكورين وموت جعفر بن محمد فقالت طائفة بإمامة ابنه إسماعيل بن جعفر وقالت طائفة بإمامة ابنه محمد بن جعفر وهم قليل وقالت طائفة جعفر حي لم يمت وقال جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي بن موسى ثم علي بن محمد بن علي بن موسى ثم الحسن بن علي ثم مات الحسن عن غير عقب فافترقوا فرقاً وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن علي ولد فأخفاه وقيل بل ولد له بعد موته من جارية له اسمها صقيل وهو الأشهر وقال بعضهم بل من جارية اسمها نرجس وقال بعضهم بل من جارية له اسمها سوسن والأظهر أن اسمها صقيل لأن صقيل هذه ادعت الحمل بعد الحسن بن علي سيدها فوقف ميراثه لذلك سبع سنين ونازعها في ذلك أخوه جعفر بن علي وتعصب لها جماعة من أرباب الدولة وتعصب لجعفر آخرون ثم انفش ذلك الحمل وبطل وأخذ الميراث جعفر أخوه وكان موت الحسن هذا سنة ستين ومائتين وزادت فتنة الروافض بصقيل هذه ودعواها إلى أن حبسها المعتضد بعد نيف وعشرين سنة من موت سيدها وقد عير بها أنها في منزل الحسن بن جعفر النوبختي الكاتب فوجدت فيه وحملت إلى قصر المعتضد فبقيت هنالك إلى أن ماتت في القصر في أيام المقتدر فهم إلى اليوم ينتظرون ضالة منذ مائة عام وثمانين عاماً وكانت طائفة قديمة قد بادت كان رئيسهم المختار بن أبي عبيد وكيسان أبا عمرة وغيرهما يذهبون إلى أن الإمام بعد الحسين محمد أخوه المعروف بابن الحنيفة ومن هذه الطائفة كان السيد الحميري وكثير عزة الشاعران وكانوا يقولون أن محمد ابن الحنيفة حي بجبل رضوي ولهم من التخليط ما تضيق عنه الصحف.
قال أبو محمد: وعمدة هذه الطوائف كلها في الاحتجاج أحاديث موضوعة مكذوبة لا يعجز عن توليد مثلها من لا دين له ولا حياء.
قال أبو محمد: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها وإنما يجب أن يحتج الخصوم بعضهم على بعض بما يصدقه الذي تقام عليه الحجة به سواء صدقه المحتج أو لم يصدقه لأن من صدق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري فيصير الخصم يومئذ مكابراً منقطعاً أن ثبت على ما كان عليه إلا أن بعض ما يشغبون به أحاديث صحاح نوافقهم على صحتها منها قول رسول الله ﷺ لعلي رضي الله عنه أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
قال أبو محمد: وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله ﷺ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله ﷺ بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله ﷺ هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله ﷺ فشكى ذلك إليه فقال له رسول الله ﷺ حينئذ أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام هارون عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين.
قال أبو محمد: وعمدة ما احتجت به الإمامية أن قالوا لا بد من أن يكون إمام معصوم عنده جميع الشريعة ترجع الناس إليه في أحكام الدين ليكونوا مما تعبدوا به على يقين.
قال أبو محمد: هذا لا شك فيه وذلك معروف ببراهينه الواضحة واعلامه المعجزة وآياته الباهرة وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺ إلينا تبيان دينه الذي ألزمنا إياه ﷺ فكان كلامه وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى حجة نافذة معصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى من كان في حياته غائباً عن حضرته وإلى كل من يأتي بعد موته ﷺ إلى يوم القيامة من جن وإنس قال عز وجل " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء " فهذا نص ما قلنا وإبطال اتباع أحد دون رسول الله ﷺ وإنما الحاجة إلى فرض الإمامة لتنفيذ الإمام عهود الله تعالى الواردة إلينا على من عند فقط لا لأن يأتي الناس ما لا يشاؤنه في معرفته من الدين الذي أتاهم به رسول الله ﷺ ووجدنا علي رضي الله عنه إذ دعي إلى التحاكم إلى القرآن أجاب وأخبر أن التحاكم إلى القرآن حق فإن كان علي أصاب في ذلك فهو قولنا وإن كان أجاب إلى الباطل فهذه غير صفته رضي الله عنه ولو كان التحاكم إلى القرآن لا يجوز بحضرة الإمام ل قال علي حينئذ كيف تطلبون تحكيم القرآن وأنا الإمام المبلغ عن رسول الله ﷺ فإن قالوا إذ مات رسول الله ﷺ فلا بد من إمام يبلغ الدين قلنا هذا باطل ودعوى بلا برهان وقول لا دليل على صحته وإنما الذي يحتاج إليه أهل الأرض من رسول الله ﷺ بيانه وتبليغه فقط سواء في ذلك من كان بحضرته ومن غاب عنه ومن جاء بعده إذ ليس في شخصه ﷺ إذا لم يتكلم بيان عن شيء من الدين فالمراد منه عليه السلام كلام باق أبداً مبلغ إلى كل من في الأرض وأيضاً فلو كان ما قالوا من الحاجة إلى إمام موجود أبداً لا ننقض ذلك عليهم بمن كان غائباً عن حضرة الإمام في أقطار الأرض إذ لا سبيل إلى أن يشاهد الإمام جميع أهل الأرض الذين في المشرق والمغرب من فقير وضعيف وامرأة ومريض ومشغول بمعاشه الذي يضيع إن أغفله فلا بد من التبليغ عن الإمام فالتبليغ عن رسول الله ﷺ أولى بالاتباع من التبليغ عمن هو دونه وهذا ما لا انفكاك لهم منه.
قال أبو محمد: لا سيما وجميع أئمتهم الذين يدعون بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ما أمروا قط في غير منازل سكناهم وما حكموا على قرية فما فوقها بحكم فما الحاجة إليهم لا سيما مذ مائة عام وثمانين عاماً فإنهم يدعون إماماً ضالاً لم يخلق كعنقاء مغرب وهم أولو فحش وقحة وبهتان ودعوى كاذبة لم يعجز عن مثلها أحد وأيضاً فإن الإمام المعصوم لا يعرف أنه معصوم إلا بمعجزة ظاهرة عليه أو بنص تنقله العلماء عن النبي ﷺ على كل إمام بعينه واسمه ونسبه وإلا فهي دعوى لا يعجز عن مثلها أحد لنفسه أو لمن شاء ولقد يلزم كل ذي عقل سليم أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الجهل الغث البارد السخيف الذي ترتفع عقول الصبيان عنه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وبرهان آخر ضروري وهو أن رسول الله ﷺ مات وجمهور الصحابة رضي الله عنهم حاشا من كان منهم في النواحي يعلم الناس الدين فما منهم أحد أشار إلى علي بكلمة يذكر فيها أن رسول الله ﷺ نص عليه ولا ادعى ذلك قط لا في ذلك الوقت ولا بعده ولا ادعاه له أحد في ذلك الوقت ولا بعده ومن المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة ولا يجوز اتفاق أكثر من عشرين ألف إنسان متنابذي الهمم والنيات والأنساب أكثرهم موتون في صاحبه في الدماء من الجاهلية على طي عهد عاهده رسول الله ﷺ إليهم وما وجدنا قط رواية عن أحد بهذا النص المدعى إلا رواية واحدة واهية عن مجهولين إلى مجهول يكنى بالحمراء لا يعرف من هو في الخلق ووجدنا علياً رضي الله عنه تأخر عن البيعة ستة أشهر فما أكرهه أبو بكر على البيعة حتى بايع طائعاً مراجعاً غير مكره فكيف حل لعلي رضي الله عنه عند هؤلاء النوكى أن يبائع طايعاً رجلاً إما كافراً وإما فاسقاً جاحداً لنص رسول الله ﷺ ويعينه على أمره ويجالسه في مجالسه ويواليه إلى أن مات ثم يبايع بعده عمر بن الخطاب مبادراً غير متردد ساعة فما فوقها غير مكره بل طائعاً وصحبه وأعانه على أمره وانكحه من ابنته فاطمة رضي الله عنها ثم أقبل ادخاله في الشورى أحد ستة رجال فكيف حل لعلي عند هؤلاء الجهال أن يشارك بنفسه في شورى ضالة وكفر ويغر الأمة هذا الغرور وهذا الأمر أدى أبا كامل إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه في زعمه أعان الكفار على كفرهم وأيدهم على كتمان الديانة وعلى ما لا يتم الدين إلا به.
قال أبو محمد: ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه انه أمسك عن ذكر النص عليه خوف الموت وهو الأسد الشجاع قد عرض نفسه للموت بين يدي رسول الله ﷺ مرات يوم الجمل وصفين فما الذي جبنه بين هاتين الحالتين وما الذي ألف بين بصار الناس على كتمان حق علي ومنعه ما هو أحق به مذ مات رسول الله ﷺ إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه ثم ما الذي جلى بصائرهم في عونه إذ دعا إلى نفسه فقامت معه طوائف من المسلمين عظيمة وبذلوا دماءهم دونه ورأوه حينئذ صاحب الأمر والأولى بالحق ممن نازعه فما الذي منعه ومنعهم من الكلام وإظهار النص الذي يدعيه الكذابون إذ مات عمر رضي الله عنه وبقي الناس بلا رأس ثلاثة أيام أو يوم السقيفة وأظرف من هذا كله بقاؤه ممسكاً عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه ستة أشهر فما سئلها ولا أجبر عليها ولا كلفها وهو متصرف بينهم في أموره فلولا أنه رأى الحق فيها واستدرك أمره فبايع طالباً حظ نفسه في دينه راجعاً إلى الحق لما بايع فإن قالت الروافض أنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقاً لا ما فعل علي رضي الله عنه ثم ولى علي رضي الله عنه فما غير حكماً من أحكام أبي بكر وعمر وعثمان ولا أبطل عهداً من عهودهم ولو كان ذلك عنده باطلاً لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه وقد ارتفعت التقية عنه وأيضاً فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعاً وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع أحد من لقائه فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفسح للوعيد ولا سلاح مأخوذ ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أنجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك للحرب مع قيصر الروم بمؤنة وغيرها ولكسرى والفرس ببصرى من يخاطبهم يدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ولا إلى موال ولا إلى عصبة ولا مال فرجعوا إليه وهو عندهم مبطل وبايعوه بلا تردد ولا تطويل وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف ولا ظهور الحق إليهم فمن المحال اتفاق أهواء هذا العدد العظيم على ما يعرفون أنه باطل دون خوف يضطرهم إلى ذلك دون طمع يتعجلونه من مال أو جاه بل فيما ترك العز والدنيا والرياسة وتسليم كل ذلك إلى رجل لا عشيرة له ولا منعة ولا حاجب ولا حرس على بابه ولا قصر ممتنع فيه ولا موالي ولا مال فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة من بني هاشم وبني المطلب من قتل هذا الشيخ الذي لا دافع دونه لو كان عنده ظالماً وعن منعه وزجره بل فد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وإن من خالفه على الباطل فأذعن للحق بعد أن عرضت له فيه كبوة كذلك الأنصار رضي الله عنهم وإذ قد بطل كل هذا فلم يبق إلا أن علياً والأنصار رضي الله عنهم إنما رجعوا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه لبرهان حق صح عندهم عن النبي صلى الله عليه لا لاجتهاد كاجتهادهم ولا لظن كظنونهم فإذ قد بطل أن يكون الأمر في الأنصار وزالت الرياسة عنهم فما الذي حملهم كلهم أولهم عن آخرهم على أن يتفقوا على جحد نص النبي ﷺ على إمامة علي ومن المحال أن تتفق آراؤهم كلهم على معونة من ظلمهم وغصبهم حقهم إلا أن تدعي الروافض أنهم كلهم اتفق لهم نسيان ذلك العهد فهذه أعجوبة من المحال غير ممكنة ثم لو أمكنت لجاز لكل أحد أن يدعي فيما شاء من المحال أنه قد كان وإن الناس كلهم نسوه وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأيضاً فإن كان جميع أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على جحد ذلك النص وكتمانه واتفقت طبائعهم كلهم على نسيانه فمن أين وقع إلى الروافض أمره ومن بلغه إليهم وكل هذا عو هوس ومحال فبطل أمر النص على علي رضي الله عنه بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإن قال قائل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان قد قتل الأقارب بين يدي رسول الله ﷺ فتولد له بذلك حقد في قلوب جماعة من الصحابة ولذلك انحرفوا عنه قيل له هذا تمويه ضعيف كاذب لأنه إن ساغ لكم ذلك في بني عبد شمس وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني عامر لأنه قتل من كل قبيلة من هذه القبائل رجلاً أو رجالاً فقتل من بني عامر بن لؤي رجلاً واحداً وهو عمرو بن ود وقتل من بني مخزوم وبني عبد الدار رجالاً وقتل من بني عبد شمس الوليد بن عقبة والعاص بن سهل بن العاص بلا شك وشارك في قتل عتبة بن ربيعة وقيل قتل عقبة بن أبي معيط وقيل قتله غيره وهو عاصم بن ثابت الأنصاري ولا مزيد فقد علم كل من له أقل علم بالأخبار أنه لم يكن لهذه القبائل ولا لأحد منهم يوم السقيفة حل ولا عقد ولا رأي ولا أمر اللهم إلا أن أبا سفيان بن حرب بن أمية كان مائلاً إلى علي في ذلك الوقت عصبية للقرابة لا تديناً وكان ابنه يزيد وخالد بن سعيد بن العاص والحارث بن هشام ابن المغيرة والمخزومي مائلين إلى الأنصار تديناً والأنصار قتلوا أبا جهل بن هشام أخاه وقد كان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة شديد الميل إلى علي حين قصة عثمان وبعدها حتى قتله معاوية على ذلك فعرفونا من قتل علي من بني تيم بن مرة أو من بني عدي بن كعب حتى يظن أهل القحة أنهما حقدا عليه ثم أخبرونا من قتل من الأنصار أو من جرح منهم أو من أذى منهم ألم يكونوا معه في تلك المشاهد كلها بعضهم متقدم وبعضهم مساو له وبعضهم متأخر عنه فأي حقد كان له في قلوب الأنصار حتى يتفقوا كلهم على جحد النص عليه وعلى إبطال حقه وعلى ترك ذكر اسمه جملة وإيثار سعد بن عبادة عليه ثم على إيثار أبي بكر عليه وعمر عليه والمسارعة إلى بيعته بالخلافة دونه وهو معهم وبين أظهرهم يرونه غدواً وعشياً لا يحول بينهم وبينه أحد ثم أخبرونا من قتل علي من أقارب أولاد المهاجرين من العرب من مضر وربيعة واليمن وقضاعة حتى يصفقوا كلهم على كراهية ولايته ويتفقوا كلهم على جحد النص عليه إن هذه لعجائب لا يمكن اتفاق مثلها في العالم أصلاً ولقد كان لطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من القتل في المشركين كالذي كان لعلي فما الذي خصه باعتقاد الأحقاد له دونهم لو كان للروافض حياء أو عقل ولقد كان لأبي بكر رحمه الله ورضي الله عنه في مضادة قريش في الدعاء إلى الإسلام ما لم يكن لعلي فما منعهم ذلك من بيعته وهو أسوأ الناس أثراً عند كفارهم ولقد كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في مغالبة كفار قريش وإعلانه الإسلام على زعمهم ما لم يكن لعلي رضي الله عنه فليت شعري ما الذي أوجب أن ينسى آثار هؤلاء كلهم ويعادوا علياً من بينهم كلهم لولا قلة حياء الروافض وصفاقة وجوههم حتى بلغ الأمر بهم إلى أن عدوا على سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد مولى رسول الله ﷺ ورافع بن خديج الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن ثابت الأنصاري وأبي هريرة وأبي الدراء وجماعة غير هؤلاء من المهاجرين أنهم لم يبايعوا علياً إذ ولي الخلافة ثم بايعوا معاوية ويزيد ابنه من أدركه وادعوا أن تلك الأحقاد حملتهم على ذلك.
قال أبو محمد: حمق الرافضة وشدة ظلمة جهلهم وقلة حيائهم هورهم في الدمار والبوار والعار والنار وقلة المبالاة بالفضائح وليت شعري أي حماسة وأي كلمة حسنة كانت بين علي وبين هؤلاء أو أحد منهم وإنما كان هؤلاء ومن جرى مجراهم لا يرون بيعة في فرقة فلما أصفق المسلمون على ما أصفقوا عليه كائناً من كان دخلوا في الجماعة وهكذا فعل من أدرك من هؤلاء ابن الزبير رضي الله عنه ومروان فإنهم قعدوا عنهما فلما انفرد عبد الملك بن مروان بايعه من أدركه منهم لا رضا عنه ولا عداوة لابن الزبير ولا تفضيلاً لعبد الملك علي ابن الزبير لكن لما ذكرنا وهكذا كان أمرهم في علي ومعاوية فلاحت نوكة هؤلاء المجانين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وهذا زيد بن حارثة قتل يوم بدر حنظلة بن أبي سفيان وهذا الزبير بن العوام قتل يوم بدر أيضاً عبيدة بن سعيد بن العاص وهذا عمر بن الخطاب قتل يومئذ العاص بن هشام بن المغيرة فهلا عاداهم أهل هؤلاء المقتولين وما الذي خص علياً أولياء من قتل دون سائر من قلنا لولا جنون الرافضة وعدم الحياء من وجوههم ثم لو كان ما ذكروه حقاً فما الذي كان دعا عمر إلى إدخاله في الشورى مع من أدخله فيها ولو أخرجه منها كما أخرج سعيد بن زيد أو قصد إلى رجل غيره فولاه ما اعترض عليه أحد في ذلك بكلمة فصح ضرورة بكل ما ذكرنا أن القوم أنزلوه منزلته غير عالين ولا مقصرين رضي الله عنهم أجمعين وأنهم قدموا الأحق فالأحق والأفضل فالأفضل وساووه بنظرائه منهم ثم أوضح برهان وأبين بيان في بطلان أكاذيب الرافضة أن علياً رضي الله عنه لما ادعي إلى نفسه بعد قتل عثمان رضي الله عنه سارعت طوائف المهاجرين والأنصار إلى بيعته فهل ذلك أحد من الناس أن أحداً منهم اعتذر إليه مما سلف من بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أو هل تاب أحد منهم من جحده للنص على إماماته أو قال أحد منهم لقد ذكرت هذا النص الذي كنت أنسيته في أمر هذا الرجل أن عقولاً خفي عليها هذا الظاهر اللائح لعقول مخذولة لم يرد الله أن يهديها ثم مات عمر رضي الله عنه وترك الأمر شورى بين ستة من الصحابة علي أحدهم ولم يكن في تلك الأيام الثلاثة سلطان يخاف ولا رئيس يتوقى ولا مخافة من أحد ولا جند معد للتغلب أفترى لو كان لعلي رضي الله عنه حق ظاهر يختص به من نص عليه من رسول الله ﷺ أو من فضل بائن على من معه ينفرد به عنهم أما كان الواجب على علي أن يقول أيها الناس كم هذا الظلم لي وكم هذا الكتمان بحقي وكم هذا الجحد لنص رسول الله ﷺ وكم هذا الإعراض عن فضلي البائن على هؤلاء المقرونين لي فإذ لم يفعل لا يدري لماذا أما كان في بني هاشم أحد له دين يقول هذا الكلام أما العباس عمه وجميع العالمين على توقيره وتعظيمه حتى أن عمر توسل به إلى الله تعالى بحضرة الناس في الاستسقاء وأما أحد بنيه وأما عقيل أخوه وأما أحد بني جعفر أخيه أو غيرهم فإذ لم يكن في بني هاشم أحد يتقي الله عز وجل ولا يأخذه في قول الحق مادهنة أما كان في جميع أهل الإسلام من المهاجرين والأ صار وغيرهم واحد يقول يا معشر المسلمين قد زالت الرقبة وهذا علي له حق واجب بالنص وله فضل بائن ظاهر لا يمترى فيه فبايعوه فأمره بين أن أصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك إذ صار الحق حقه وقتلوا أنفسهم دونه فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى وقال هشام بن الحكم كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النص على علي وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضاً فهل يحسن بهم الظن في هذا.
قال أبو محمد: لو علم الفاسق أن هذا القول أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حين افترق الناس فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق لعلي في قتاله ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله وبالله تعالى التوفيق فإن خصه متحكم كان كمن خص غيره منهم متحكماً ولا فرق وأيضاً فإن اقتتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلاً بل قاتل كل فريق منهم على ما رأوه حقاً ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل على أنه لو كان عندهم نص على علي أو عند واحد منهم لأظهروه أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه فإن قالوا قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر لا بنص قرآن أو خبر صحيح وهذا أيضاً مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله التوفيق أن رسول ﷺ نص على وجوب الإمامة وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة وافترض علينا بنص قوله الطاعة للقرشي إماماً واحداً لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عز وجل فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة وصفة من يؤم في الصلاة وصفة من يجوز نكاحها من النساء وكذلك سائر الشريعة كلها ولا يحتاج إلى ذكر الأسماء إذ لم يكلفنا الله عز وجل ذلك فكل قرشي بالغ عاقل بادر إثر موت الإمام الذي لم يعهد إلى أحد فبايعه واحد فصاعداً فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله ﷺ الذي أمر الكتاب باتباعها فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك أو أقيم عليه الحد والحق فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره منهم فإن قالوا قد اختلف الناس في تأويل القرآن والسنة ومنع من تأويلهما بغير نص آخر قلنا أن التأويل الذي لم يقم عليه برهان تحريف الكلم عن مواضعه وقد جاء النص بالمنع من ذلك وليس الاختلاف حجة وإنما الحجة في نص القرآن والسنن وما اقتضاء لفظهما العربي الذي خوطبنا به وبه ألزمتنا الشريعة.
قال أبو محمد: ثم نسألهم فنقول لهم أن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط أحدهما النص عليه باسمه والثاني شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإمامة من أخوته زيد وعمر وعبد الله وعلي والحسين فإن ادعوا نصاً من أبيه عليه أو من النبي ﷺ أنه الباقر لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنفية وإن ادعوا أنه كان من فضل من اخوته كانت أيضاً دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهره وكذلك يسألون أيضاً ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد أو إسحاق أو علي فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلاً وكذلك أيضاً يسألون ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون اخوته وهم سبعة عشر ذكراً فلا يجدون شيئاً غير الدعوى وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي وما الذي جعل علي بن محمد أولى بالإمامة من أخيه موسى بن محمد وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي فهل هاهنا شيء غير الدعوى الكاذبة الذي لا حياء لصاحبها والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن أو لعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لابن أخيه علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين ولو قلت أو رقعة من الحياء فبطل وجه النص وأما وجه الحاجة إليه في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشيء مما اختلف فيه الناس وما بأيديهم من ذلك شيء إلا دعاوي مفتعلة قد اختلفوا أيضاً فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء سواء إلا أنهم أسوأ حالاً من غيرهم لأن كل من قلد إنساناً كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد فإن لهؤلاء المذكورين أصحاباً مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن علي بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي وأما من بعد الحسن بن علي فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة وأما من قبل موسى بن جعفر فلو جمع كل ما روى في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما لما بلغ عشر أوراق فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل لا عندهم ولا عند غيرهم ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا أحداً ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذلين المنتمين إلى الإمامية القائلين بأن الدين عند أئمتهم فما رأينا إلا دعاوي باردة وارأ فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحاً لهم فيه فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإسلام وهذا فكر مجرد وهم لا يقولون بهذا أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن صحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك فإذ قد صاروا إلى هذا الشغب فإن لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم قال هشام بن الحكم لا بد أن يكون في أخوة الإمام آفات يبين بها أنهم لا يستحقون الإمامة.
قال أبو محمد: وهذه دعوى مردودة تزيد في الحماقة ولا ندري في زيد وعمرو وعبد الله والحسن وعلي بن علي بن الحسين آفات تمنع إلا أن الحسن أخا زيد ومحمد كان أعرج وما علمنا أن العرج عيب يمنع من الإمامة إنما هو عيب في العبيد المتخذين للمشي وما يعجز خصومهم أن يدعوا في محمد بن علي وفي جعفر بن محمد وفي سائر أئمتهم تلك الآفات التي ادعاها هشام لأخوتهم ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين فنسألهم من أي علم هذا الصغير جميع علم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة وأن يدعوا له معجزة تصحح قوله فهذه دعوى باطلة ما ظهر منها قط شيء أو يدعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى.
قال أبو محمد: ولو لم يكن من الحجة على أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويزين لكل أمة عملها إلا وجود من يعتقد هذه الأقوال السخيفة لكان أقوى حجة وأوضح برهان وإلا فما خلق الله عقلاً يسع فيه مثل هذه الحماقات والحمد لله على عظيم منته علينا وهو المسؤول منه دوامها بمنه آمنين.
قال أبو محمد: وأيضاً فلو كان الأمر في الإمامة على ما يقول هؤلاء السخفاء لما كان الحسن رضي الله عنه في سعة من أن يسلمها لمعاوية رضي الله عنه فيعينه على الضلال وعلى إبطال الحق وهدم الدين فيكون شريكه في كل مظلمة ويبطل عهد رسول الله ﷺ ويوافقه على ذلك الحسين أخوه رضي الله عنهما فما نقض قط بيعة معاوية إلى أن مات فكيف استحل الحسن والحسين رضي الله عنهما إبطال عهد رسول الله ﷺ إليهما طائعين غير مكرهين فلما مات معاوية قام الحسين يطلب حقه إذ رأى أنها بيعة ضلالة فلولا أنه رأى بيعة معاوية حقاً لما سلمها له ولفعل كما فعل بيزيد إذ ولي يزيد هذا مالا يمتري فيه ذو إنصاف هذا ومع الحسن أزيد من مائة ألف عنان يموتون دونه فتالله لولا أن الحسن رضي الله عنه علم أنه في سعة من إسلامها إلى معاوية وفي سعة من أن لا يسلمها لما جمع بين الأمرين فأمسكها ستة أشهر لنفسه وهي حقه وسلمها بعد ذلك لغير ضرورة وذلك له مباح بل هو الأفضل بلا شك لأن جده رسول الله ﷺ قد خطب بذلك على المنبر بحضرة المسلمين وأراهم الحسن معه على المنبر وقال أن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين رويناه من طريق البخاري حدثنا صدقة أنبأنا ابن عيينة أنا موسى أنا الحسن سمع أبا بكرة يقول أنه سمع ذلك وشهده من رسول الله ﷺ وهذا من أعلامه ﷺ وإنذاره بالغيوب التي لا تعلم البتة إلا بالوحي ولقد امتنع زيادة وهو فقعة القاع لا عشيرة ولا نسب ولا سابقة ولا قدم فما أطاقه معاوية إلا بالمداراة وحتى أرضاه وولاه فإن ادعوا أنه قد كان في ذلك عند الحسن عهد فقد كفروا لأن رسول الله ﷺ لا يأمر أحداً بالعون على إطفاء نور الإسلام بالكفر وعلى نقض عهود الله تعالى بالباطل عن غير ضرورة ولا إكراه وهذه صفة الحسن والحسين رضي الله عنهما عند الروافض واحتج بعض الإمامية وجميع الزيدية بأن علياً كان أحق الناس بالإمامة لبينونة فضله على جميعهم ولكثرة فضائله دونهم.
قال أبو محمد: وهذا يقع الكلام فيه إن شاء الله تعالى في الكلام في المفاضلة بين أصحاب رسول الله ﷺ وأن الكلام هاهنا في الإمامة فقط فنقول وبالله تعالى التوفيق عبكم أنكم وجدتم لعلي رضي الله عنه فضائل معلومة كالسبق إلى الإسلام والجهاد مع رسول الله ﷺ وسعة العلم والزهد فهل وجدتم مثل ذلك للحسن والحسين رضي الله عنهما حتى أوجبتم لهما بذلك فضلاً في شيء مما ذكرنا على سعد بن أبي وقاس وسعيد بن زيد وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس هذا ما لا يقدر أحد على أن يدعي لهما فيه كلمة فما فوقها يعني مما يكونان به فوق من قد ذكرنا في شيء من هذه الفضائل فلم يبق إلا دعوى النص عليهما وهذا ما لا يعجز عن مثله أحد ولو استجازت الخوارج التوقح بالكذب في دعوى النص على عبد الله بن وهب الراسي لما كان إلا مثل الرافضة في ذلك سواء بسواء ولو استحلت الأموية أن تجاهر بالكذب في دعوى النص على معاوية لكان أمرهم في ذلك أقوى من أمر الرافضة لقوله تعالى " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل أنه كان منصوراً " ولكن كل أمة ما عدا الرافضة والنصارى فإنها تستحي وتصون أنفسها عما لا تصون النصارى والروافض أنفسهم عنه من الكذب الفاضح البارد وقلة الحياء فيما يأتون به ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وكذلك لا يجدون لعلي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل على سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ولا على أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ولا على ابن عمه الحسن بن الحسن وكذلك لا يجدون لمحمد بن علي بن الحسين بسوقا في علم ولا في عمل ولا ورع على عبد الرحمن بن القاسم بن محمد ولا على محمد بن عمر وبن أبي بكر المنكدر ولا على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ولا على أخيه زيد بن علي ولا على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ولا على عمر بن عبد العزيز وكذلك لا يجدون لجعفر بن محمد بسوقا في علم ولا في دين ولا في عمل على محمد بن مسلم الزهري ولا على ابن أبي ذؤيب ولا على عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر ولا على بيد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر ولا على ابني عمه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وعلى بن الحسن بن الحسن بن الحسن بل كل من ذكرنا فوقه في العلم والزهد وكلهم أرفع محلاً في الفتيا والحديث لا يمنع أحد منهم من شيء من ذلك وهذا ابن عباس رضي الله عنه قد جمع فقه في عشرين كتاباً ويبلغ حديثه نحو ذلك إذا تقصى ولا تبلغ فتيا الحسن والحسين ورقتين ويبلغ حديثهما ورقة أو ورقتين وكذلك على بن الحسين إلا أن محمد بن علي يبلغ حديثه وفتياه جزأ صغيراً وكذلك جعفر بن محمد وهم يقولون أن الإمام عنده جميع علم الشريعة فما بال من ذكرنا أظهروا بعض ذلك وهو الأقل الأنقص وكتموا سائره وهو الأكثر الأعظم فإن كان فرضهم الكتمان فقد خالفوا الحق إذ أعلنوا ما أعلنوا وإن كان فرضهم البيان فقد خالفوا الحق إذ كتموا ما كتموا وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علماً أصلاً لا من رواية ولا من فتيا على قرب عدهم منا ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه فبطلت دعواهم الظاهرة الكاذبة اللائحة السخيفة التي هي من خرافات السمر ومضاحك السخفاء فإن رجعوا إلى ادعاء المعجزات لهم قلنا لهم أن المعجزات لا تثبت إلا بنقل التواتر لا بنقل الأحاد الثقات فكيف بولد الوقحا الكذابين الذين لا يدري من هم وقد وجدنا من يروي لبشر الحافي وشيبان الراعي ورابعة العدوية أضعاف ما يدعونه من الكذب للأئمتهم وأظهر وأفشى وكل ذلك حماقة لا يشتغل ذو دين ولا ذو عقل بها ونحمد الله على السلامة فإذ قد بطل ما يدعونه ولله تعالى الحمد فلنقل على الإمامة بعد رسول الله ﷺ بالبرهان وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: قد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة أن النبي ﷺ لم يستخلف أحداً ثم اختلفوا فقال بعضهم لكن لما استخلف أبا بكر رضي الله عنه على الصلاة كان ذلك دليلاً على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمور وقال بعضهم لا ولكن كان ابينهم فضلاً فقدموه لذلك وقالت طائفة بل نص رسول الله ﷺ على استخلاف أبي بكر بعده على أمور الناس نصاً جلياً.
قال أبو محمد: وبهذا نقول لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " فقد أصفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله ﷺ ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو لا يجوز غير هذه البتة في اللغة بلا خلاف تقول استخلف فلا فلاناً يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه فإن قام مكانه دون أن يستخلفه هو لم يقل إلا خلف فلان فلاناً يخلفه فهو خالف ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين أحدهما أنه لا يستحق أبو بكر هذا الاسم على الإطلاق في حياة رسول الله ﷺ وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقيناً أن خلافته المسمى هو بها هي غير خلافته على الصلاة والثاني أن كل من استخلفه رسول الله ﷺ في حياته كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان ابن عفان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على البلاد باليمن والبحرين والطائف وغيرها لم يستحق أحد منهم قط بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول الله ﷺ على الإطلاق فصح يقيناً بالضرورة التي لا محيد عنها أنها للخلافة بعده على أمته ومن الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو عليه السلام لم يستخلفه نصاً ولم لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر أولى بهذه التسمية من غيره ممن ذكرنا وهذا برهان ضروري نعارض به جميع الخصوم وأيضاً فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله أرأيت أن رجعت ولم أجدك كأنها تريد الموت قال فأت أبا بكر وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر وأيضاً فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله ﷺ قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فاكتب كتاباً وأعهد عهداً لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وروي أيضاً ويأبي الله والنبيون إلا أبا بكر فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده.
قال أبو محمد: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو ابلسوا أسفاً لاحتججنا بما روى اقتدروا باللذين من بعيد أبي بكر وعمر.
قال أبو محمد: ولكنه لم يصح ويعيذنا من الاحتجاج بما لا يصح.
قال أبو محمد: واحتج من قال لم يستخلف رسول الله ﷺ بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال أن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وأن لا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني رسول الله ﷺ وبما روى عن عائشة رضي الله عنها من كان رسول الله ﷺ مستخلفاً لو استخلف فمن المحال أن يعارض الإجماع من الصحابة الذي ذكرنا والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله ﷺ من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة رضي الله عنهما مما لا يقوم به حجة مما له وجه ظاهر من أن هذا الأثر خفي على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله ﷺ كالاستئذان وغيره أو أنه أراد استخلافاً بعهد مكتوب ونحن نقر أن استخلاف أبي بكر لم يكن بكتاب مكتوب وأما الخبر في ذلك عن عائشة فكذلك نصاً وقد يخرج كلامها على سؤال سائل وإنما الحجة في روايتها لا في قولها وأما من ادعى أنه إنما قدم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فباطل بيقين لأنه ليس كل من استحق الإمامة في الصلاة يستحق الإمامة في الخلافة إذ يستحق الإمامة في الصلاة اقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ولا يستحق الخلاف إلا قرشي فكيف والقياس كله باطل.
قال أبو محمد: في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً لنبيه ﷺ في الأعراب " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً " وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم في سورة براءة ولم يغز عليه السلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات ﷺ وقال تعالى أيضاً " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل " فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله ﷺ وغلق باب التوبة فقال تعالى " قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً " فأخبر تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.
قال أبو محمد: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله ﷺ إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجب طاعة أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فرضاً فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم وليس هذا بموجب تقليدهم في غير ما أمر الله تعالى بطاعتهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر بذلك إلا في دعائهم إلى قتال هؤلاء القوم وفيما يجب الطاعة فيه للأئمة جملة وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما أفتوا به باجتهادهم فما أوجبوا هم قط اتباع أقوالهم فيه فكيف أن يوجب ذلك غيرهم وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن هذا إجماع الأئمة كلها إذ ليس أحد من أهل العلم إلا وقد خالف بعض فتاوي هؤلاء الأئمة الثلاثة رضي الله عنهم فصح ما ذكرنا والحمد لله رب العالمين. فصل قال أبو محمد: وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة امرأة ولا إمامة صبي لم يبلغ إلا الرافضة فإنها يجيز إمامة الصغير الذي لم يبلغ والحمل في بطن أمه وهذا خطأ لأن من لم يبلغ فهو غير مخاطب والإمام مخاطب بإقامة الدين وبالله تعالى التوفيق.
قال الباقلاني واجب أن يكون الإمام أفضل الأمة.
قال أبو محمد: وهذا خطأ متيقن لبرهانين أحدهما أنه لا يمكن أن يعرف الأفضل إلا بالظن في ظاهر أمره وقد قال تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " والثاني أن قريشاً قد كثرت وطبقت الأرض من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال ولا سبيل أن يعرف الأفضل من قوم هذا مبلغ عددهم بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلاً ثم يكفي من بطلان هذا القول إجماع الأمة على بطلانه فإن جميع من أدرك من الصحابة رضي الله عنه من جميع المسلمين في ذلك العصر قد أجمعوا على صحة إمامة الحسن أو معاوية وقد كان في أفضل منهم بلا شك كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم فلو كان ما قاله الباقلاني حقاً لكانت إمامة الحسن ومعاوية باطلة وحاشا لله عز وجل من ذلك.
وأيضاً فإن هذا القول الذي قاله هذا المذكور دعوي فاسدة ولا على صحتها دليل لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس والعجب كله أن يقول أنه جائز أن يكون في هذه الأمة من أفضل من رسول الله ﷺ من حيث بعث إلى أن مات ثم لا يجيز أن يكون أحد أفضل من الإمام. قال أبو محمد: وهذا القول منه في النبي ﷺ كفر مجرد ولا خفاء به وفيه خلاف لأهل الإسلام وإنما يجب أن يكون الإمام قرشياً بالغاً ذكراً مميزاً بريئاً من المعاصي الظاهرة حاكماً بالقرآن والسنة فقط ولا يجوز خلعه ما دام يمكن منعه من الظلم فإن لم يمكن إلا بإزالته ففرض أن يقام كل ما يوصل به إلى دفع الظلم لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة
قال أبو محمد: اختلف المسلمون فيمن هو أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام فذهب بعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة وجميع الشيعة إلى أن أفضل الأمة بعد رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وقد روينا هذا القول نصاً عن بعض الصحابة رضي الله عنهم وعن جماعة من التابعين والفقهاء وذهبت الخوارج كلها وبعض أهل السنة وبعض المعتزلة وبعض المرجئة إلى أن أفضل الصحابة بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر.
وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ جعفر بن أبي طالب وبهذا قال أبو عاصم النبيل وهو الضحاك بن مخلد وعيسى بن حاضر قال عيسى وبعد جعفر حمزة رضي الله عنه.
وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مات رسول الله ﷺ وثلاث رجال لا يعد أحد عليهم بفضل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر وروينا عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها تذكرت الفضل ومن هو خير فقالت ومن هو خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ وروينا عن مسروق بن الأجدع وتميم بن حذلم وإبراهيم النخعي وغيرهم أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عبد الله بن مسعود قال تميم وهو من كبار التابعين رأيت أبا بكر وعمر فما رأيت مثل عبد الله بن مسعود وروينا عن بعض من أدرك النبي ﷺ أن أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب وأنه أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما وبلغني عن محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنه كان يذهب إلى هذا القول.
قال داود بن علي الفقيه رضي الله عنه أفضل الناس بعد الأنبياء أصحاب رسول الله ﷺ وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين ثم الأولون من الأنصار ثم بعدهم منهم ولا نقطع على إنسان منهم بعينه أنه أفضل من آخر من طبقته ولقد رأينا من متقدمي أهل العمل ممن يذهب إلى هذا القول وقال لي يوسف بن عبد الله بن عبد البر النميري غير ما مرة أن هذا هو قوله ومعتقده.
قال أبو محمد: والذي نقول به وندين الله تعالى عليه ونقطع على أنه الحق عند الله عز وجل أن أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام نساء رسول الله ﷺ ثم أبو بكر ولا خلاف بين أحد من المسلمين في أن أمة محمد ﷺ أفضل الأمم لقول الله عز وجل " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وإن هذه قاضية على قوله تعالى لبني إسرائيل " وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ " وإنها مبينة لأن مراد الله تعالى من ذلك عالم الأمم حاشا هذه الأمة.
قال أبو محمد: ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إن الكلام المهمل دون تحقيق المعنى المراد بذلك الكلام فإنه طمس للمعاني وصد عن إدراك الصواب وتعريج عن الحق وإبعاد عن الفهم وتخليط وعمي فنبدأ بعون الله تعالى وتأييده بتقسيم وجوه الفضل التي بها يستحق التفاضل فإذا استبان معنى الفضل وعلى ماذا تقع هذه اللفظة فبالضرورة نعلم حينئذ أن من وجدت فيه هذه الصفات أكثر فهو أفضل بلا شك فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أن الفضل ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما فضل اختصاص من الله عز وجل بلا عمل وفضل مجازاة من الله تعالى بعمل فأما فضل الاختصاص دون عمل فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات والأعراض كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الخلق وكفضل الأنبياء في ابتداء خلقهم على سائر الجن والأنس وكفضل إبراهيم ابن النبي ﷺ على سائر الأطفال وكفضل ناقة صالح عليه السلام على سائر النوق وكفضل ذبيحة إبراهيم عليه السلام على سائر الذبائح وكفضل مكة على سائر البلاد وكفضل المدينة بعد مكة على غيرها من البلاد وكفضل المساجد على سائر البقاع وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور وكفضل يوم الجمعة وعرفة وعاشوراء والعشر على سائر الأيام وكفضل ليلة القدر على سائر الليالي وكفضل صلاة الفرض على النافلة وكفضل صلاة العصر وصلاة الصبح على سائر الصلوات وكفضل السجود على القعود وكفضل بعض الذكر على بعض فهذا هو فضل الاختصاص المجرد بلا عمل فأما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والأنس والجن فقط وهذا هو القسم الذي تنازع الناس فيه في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به فوجب أن ننظر أيضاً في أقسام هذا القسم التي بها يستحق الفضل فيه والتقدم فنحصرها ونذكرها بحول الله وقوته ثم ننظر حينئذٍ من هو أحق به وأسعد بالنسوق فيه فيكون بلا شك أفضل ممن هو أقل حظاً فيها بلا شك وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نستعين إن العامل يفضل العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامن لها وهي المائية وهي عين العمل وذاته والكمية وهي العرض في العمل والكيفية والكم والزمان والمكان والإضافة فأما المائية فهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موافاة كلها ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل أو يكون كلاهما وفي جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر كأن يكون أحدهما يكثر الذكر في الصلاة والآخر يكثر في الذكر في حال جلوسه وما أشبه هذا وكإنسانين قاتل أحدهما في المعركة والموضع المخوف وقاتل الآخر في الردء أو جاهد أحدهما واشتغل الآخر بصيام وصلاة تطوع أو يجتهدان فيصادف أحدهما ويحرمه الآخر فيفضل أحدهما الآخر في هذه الوجوه بنفس عمله أو بان ذات عمله أفضل من ذات عمل الآخر فهذا التفاضل في المائية من العمل وأما الكمية وهي العرض فإن يكون أحدهما يقصد بعمله وجه الله تعالى لا يمزج به شيئاً البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله إلا أنه ربما مزج بعمله شيئاً من حب البر في الدنيا وأن يستدفع بذلك الأذى عن نفسه وربما مزجه بشيء من الرياء ففضله الأول بعرضه في عمله وأما الكيفية فأن يكون أحدهما يوفي عمله جميع حقوقه ورتبه لا منتقصاً ولا متزيداً ويكون الآخر ربما انتقص بعض رتب ذلك العمل وسننه وإن لم يعطل منه فرضاً أو يكون أحدهما يصفى عمله من الكبائر وربما أتي الآخر ببعض الكبائر ففضله الآخر بكيفية عمله وأما الكم فأن يستويا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر نوافل ففضله هذا بكثرة عدد نوافله كما روي في رجلين أسلما وهاجرا أيام رسول الله ﷺ ثم استشهد أحدهما وعاش الآخر بعده سنة ثم مات على فراشه فرأى بعض أصحاب النبي ﷺ أحدهما في النوم وهو آخرهما موتاً في أفضل من حال الشهيد فسأل عن ذلك رسول الله ﷺ فقال عليه السلام كلاماً معناه فأين صلاته وصيامه بعده ففضل أحدهما الآخر بالزيادة التي زادها عليه في عدد أعماله وأما الزمان فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين وعمل غيره بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك ولذلك قال رسول الله ﷺ دعو إلى أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله عز وجل بعد ذلك قال الله تعالى " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ".
قال أبو محمد: هذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو محمد: وهذا يكذب قول أبي هاشم محمد بن علي الجبائي وقول محمد بن الطيب الباقلاني فإن الجبائي قال جائز أن طال عمر امرئ أن يعمل ما يوازي عمل نبي من الأنبياء وقال الباقلاني جائز أن يكون في الناس من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حيث بعث بالنبوة إلى أن مات.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد وردة وخروج عن دين الإسلام بلا مرية وتكذيب لرسول الله ﷺ في إخباره أنا لا ندرك أحداً من أصحابه وفي إخباره عليه السلام عن أصحابه رضي الله عنهم بأنه ليس مثلهم وإنه أتقاهم وأعلمهم بما يأتي وما يذر وكذلك قالت الخوارج والشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله عز وجل على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا عليا والحسن والحسين وعمار بن ياسر والخوارج يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى وكلاب النار على عثمان وعلي وطلحة والزبير ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وكذلك القليل من الجهاد والصدقة في زمان الشدائد أفضل من كثيرهما في وقت القوة والسعة وكذلك صدقة المرء بدرهم في زمان فقره وصحته يرجو الحياة ويخاف الفقر أفضل من الكبير يتصدق به في عرض غناه وفي وصيته بعد موته وقد صح عن رسول الله ﷺ سبق درهم مائة ألف وهو إنسان كان له درهمان تصدق بأحدهما والآخر عمد إلى عرض ماله تصدق منه بمائة ألف وكذلك صبر المرء على أداء الفرائض في حال خوفه ومرضه وقليل تنقله في زمان مرضه وخوفه أفضل من عمله وكثير تنقله في زمان صحته وأمنه ففضل من ذكرنا غيرهم بزمان عملهم وكذلك من وفق لعمل الخير في زمان آخر أجله هو أفضل ممن خلط في زمان آخر أجله وأما المكان فكصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما وتفضل الصلاة في المسجد الحرام على الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ بمائة درجة وكصيام في بلد العدو أو في الجهاد على صيام في غير الجهاد ففضل من عمل في المكان الفاضل غيره ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله وإن تساوى العملان وأما الإضافة فركعة من نبي أو ركعة مع نبي أو صدقة من نبي أو صدقة معه أو ذكر منه أو ذكر معه وسائر أعمال البر منه أو معه فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفاً من قول الله عز وجل " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " وإخباره عليه السلام أم أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ نصف مد من أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن كل عمل عملوه بأنفسهم بعد موت النبي ﷺ لا يوازي شيئاً من البر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي ﷺ ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي ﷺ ولو كان غير ما نقول لجاز أن يكون أنس وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن بسر وعبد الله بن الحارث بن جزء وسهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنهم أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ وعثمان بن مظعون وسائر السابقين من المهاجرين والأنصار المتقدمين رضي الله عنهم أجمعين لأن بعض أولئك عبدوا الله عز وجل بعد موت أولئك بعضهم بعد موت بعض بتسعين عاماً فما بين ذلك إلى خمسين عاماً وهذا ما لا يقوله أحد يعتد به.
قال أبو محمد: وبهذا قطعنا على أن من كان من الصحابة حين موت رسول الله ﷺ أفضل من آخر منهم فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذ أبداً وإن طال عمر المفضول وتعجل موت الفاضل وبهذا أيضاً لم نقطع على فضل أحد منهم رضي الله عنهم حاشا من ورد فيه النص من النبي ﷺ ممن مات منهم في حياة النبي ﷺ بل نقف في هؤلاء على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فهذه وجوه الفضائل بالأعمال التي لا يفضل ذو عمل ذا عمل فيما سواها البتة نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضاً لا ثالث لهما البتة أحدهما إيجاب الله تعالى تعظيم الفاضل في الدنيا على المفضول فهذا الوجه يشترك فيه كل فاضل بعمل أو اختصاص مجرد بلا عمل من عرض أو جماد أو حي ناطق أو غير ناطق وقد أمرنا الله تعالى بتعظيم الكعبة والمساجد ويوم الجمعة والشهر الحرام وشهر رمضان وناقة صالح وإبراهيم ابن رسول الله ﷺ وذكر الله والملائكة والنبيين على حميعهم صلوات الله وسلامه والصحابة أكثر تعظيمنا وتوقيرنا غير ما ذكرنا من المواضع والأيام والنوق والأطفال والكلام والناس هذا ما لا شك فيه وهذا خاصة كل فاضل لا يخلو منها فاضل أصلاً ولا يكون البتة إلا لفاضل والوجه الثاني هو إيجاب الله تعالى للفاضل درجة في الجنة أعلى من درجة المفضول إذ لا يجوز عند أحد من خلق الله تعالى أن يأمر بإجلال المفضول أكثر من إجلال الفاضل ولا أن يكون المفضول أعلى درجة في الجنة من الفاضل ولو جاز ذلك لبطل معنى الفضل جملة ولكان لفظاً لا حقيقة له ولا معنى تحية وهذا الوجه الثاني الذي هو علو الدرجة في الجنة هو خاصة لكل فاضل بعمل فقط من الملائكة والأنس والجن وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فكل مأمور بتعظيمه فاضل وكل فاضل فمأمور بتعظيمه وليس الإحسان والبر والتوقير والتذلل المفترض في الأبوين الكافرين من التعظيم في شيء فقد يحسن المرء إلى من لا يعظم ولا يهين كإحسان المرء إلى جاره وغلامه وأجيره ولا يكون ذلك تعظيماً وقد يبر الإنسان جاره والشيخ من أكرته ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يوقر الإنسان من يخاف ضره ولا يسمى ذلك تعظيماً وقد يتذلل الإنسان للمتسلط الظالم ولا يسمى ذلك تعظيماً وفرض قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم وأبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وقال عز وجل " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " فقد صح بيقين أن ما وجب للأبوين الكافرين من بر وإحسان وتذلل ليس هو التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل لأن التعظيم الواجب لمن فضله الله عز وجل هو مودة في الله ومحبة فيه وولاية له وأما البر الواجب للأبوين الكافرين والتذلل لهما والإحسان إليهما فكل ذلك مرتبط بالعداوة لله تعالى وللبراءة منه وإسقاط المودة كما قال الله تعالى في نص القرآن وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقد يكون دخول الجنة اختصاصاً مجرداً دون عمل وذلك للأطفال كما ذكرنا قبل فإذا قد صح ما ذكرنا قبل يقيناً بلا خلاف من أحد في شيء منه فبيقين ندري أنه لا تعظيم يستحقه أحد من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوكد مما ألزمنا الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي ﷺ بقول الله تعالى " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " فأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مسلم هذا سوى حق إعظامهن بالصحبة مع رسول الله ﷺ فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حق الصحبة له كسائر الصحابة إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم فهن أعلى درجة في الصحبة من جميع الصحابة ثم فضلن سائر الصحابة بحق زائد وهو حق الأمومية الواجب لهن كلهن بنص القرآن فوجدنا الحق الذي به استحق الصحابة الفضل قد شاركنهم فيه وفضلنهم فيه أيضاً ثم فضلنهم بحق زائد وهو حق الأمومية ثم وجدناهن لا عمل من الصلاة والصدقة والصيام والحج وحضور الجهاد يسبق فيه صاحب من الصحابة إلا كان فيهن فقد كن يجهدن أنفسهن في ضيق عيشهن على الكد في العمل بالصدقة والعتق ويشهدن الجهاد معه عليه السلام وفي هذا كفاية بينة في أنهن أفضل من كل صاحب ثم لا شك عند كل مسلم وبشهادة نص القرآن إذ خيرهن الله عز وجل بين الدنيا وبين الدار الآخرة والله ورسوله فاخترن الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة فهن أزواجه في الآخرة بيقين فإذ هن كذلك فهن معه ﷺ بلا شك في درجة واحدة في الجنة في قصوره وعلى سرره إذ لا يمكن البتة أن يحال بينه وبينهن في الجنة ولا أن ينحط عليه السلام إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة هذا ما لا يظنه مسلم فإذ لا شك في حصولهن على هذه المنزلة فبالنص والإجماع علمنا أنهن لم يؤتين ذلك اختصاصاً مجرداً دون عمل بل باستحقاقهن لذلك باختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة إذ أمره الله عز وجل أن يخيرهن فاخترن الله عز وجل ونبيه ﷺ وهو أفضل الناس ثم قد حصل لهن أفضل الأعمال في جميع الوجوه السبعة التي قدمنا آنفاً أنه لا يكون التفاضل إلا بها في الأعمال خاصة ثم قد حصل لهن على ذلك أوكد التعظيم في الدنيا ثم قد حصل لهن أرفع الدرجات في الآخرة فلا وجه من وجوه الفضل إلا ولن فيه أعلى الحظوظ كلها بلا شك ومارية أم إبراهيم داخلة معهن في ذلك لأنها معه عليه السلام في الجنة ومع انبها منه بلا شك فإذ قد ثبت كل ذلك على رغم الأبي فقد وجب ضرورة أن يشهد لهن كلهن بأنهن أفضل من جميع الخلق كلهن بعد الملائكة والنبيين عليهم السلام وكيف ومعنا نص النبي ﷺ كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا محمد بنا أحمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقى الصموت ثنا أحمد بن عمر وبن عبد الخالق البزاز ثنا أحمد بن عمر وحدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك قال عائشة قال من الرجال قال فأبوها حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي قال حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب ابن قيس حدثنا أحمد بن محمد الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى بن خالد بن عبد الله هو الطحان عن خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ بعثه إلى جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك فقال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر فعد رجالاً فهذان عدلان أنس وعمر ويشهد أن رسول الله ﷺ أخبر بأن عائشة أحب الناس إليه ثم أبوها وقد قال الله عز وجل عنه عليه السلام " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فصح أن كلامه عليه السلام أنها أحب الناس إليه وحي أوحاه الله تعالى إليه ليكون كذلك ويخبر بذلك لا عن هوى له ومن ظن ذلك فقد كذب الله تعالى لكن لاستحقاقها لذلك الفضل في الدين والتقدم فيه على جميع الناس الموجب لأن يحبها رسول الله ﷺ أكثر من محبته لجميع الناس فقد فضلها رسول الله ﷺ على أبيها وعلى عمر وعلي وعلى فاطمة تفضيلاً ظاهراً بلا شك فإن قال قائل فقل إن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم لكونه مع أبيه عليه السلام في الجنة في درجة واحدة قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن إبراهيم بن رسول الله ﷺ ما استحق تلك المنزلة بعمل كان منه وإنما هو اختصاص مجرد وإنما تقع المفاضلة بين الفاضلين إذا كان فضلهما واحداً من وجه واحد فتفاضلا فيه وأما إن كان الفضل من وجهين اثنين فلا سبيل إلى المفاضلة بينهما لأن معنى قول القائل أي هذين أفضل إنما هو أي هذين أكثر أوصافاً في الباب الذي اشتركا فيها ألا ترى أنه لا يقال أيهما أفضل رمضان أو ناقة صالح ولا أيهما أفضل الكعبة أو الصلاة بل نقول أيهما أفضل مكة أو المدينة وأيهما أفضل رمضان أو ذو الحجة وأيهما أفضل الزكاة أم الصلاة وأيهما أفضل ناقة صالح أو ناقة غيره من الأنبياء فقد صح أن التفاضل إنما يكون في وجه اشترك فيه المسؤول عنهما فبسق أحدهما فيه فاستحق أن يكون أفضل وفضل إبراهيم ليس على عمل أصلاً وإنما هو اختصاص مجرد وإكرام لأبيه ﷺ وأما نساؤه عليه السلام فكونهن وكون سائر أصحابه عليهم السلام في الجنة إنما هو جزاء لهن ولهم على أعمالهن وأعمالهم قال الله بعد ذكر الصحابة رضي الله عنهم " جزاء بما كانوا يعملون " وقال بعد ذكر الصحابة " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً " وقال تعالى مخاطباً لنسائه عليه السلام " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين " وهذا نص قولنا ولله الحمد وقال تعالى " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " وقال تعالى " غرف من فوقها غرف مبنية " وقال تعالى " وإن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " فإن قال قائل فكيف تقولون في قوله عليه السلام لن يدخل الجنة أحد بعمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل قلنا نعم هذا حق موافق للآيات المذكورة وهكذا نقول أنه لو عمل الإنسان دهره كله ما استحق على الله تعالى شيئاً لأنه لا يجب على الله تعالى شيء إذ لا موجب للأشياء الواجبة غيره تعالى لأنه المبتدي لكل ما في العالم والخالق له فلولا أن الله تعالى رحم عباده فحكم بأن طاعتهم له يعطيهم بها الجنة لما وجب ذلك عليه فصح أنه لا يدخل أحد الجنة بعمله مجرداً دون رحمة الله تعالى لكن يدخلها برحمة الله تعالى التي جعل بها الجنة جزاء على أعمالهم التي أطاعوه بها فاتفقت الآيات مع هذا الحديث والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإذ لا شك في هذا كله فقد امتنع يقيناً أن يجازى بالأفضل من كان أنقص فضلاً وأن يجازي بالأنقص من كان أتم فضلاً وصح ضرورة أنه لا يجزى أحد من أهل الأعمال في الجنة إلا بما استحقه برحمة الله تعالى جزاء على عمله ولله تعالى أن يتفضل على من شاء بما شاء وجائز أن يقدم على ذوي الأعمال الرفيعة قال تعالى " يختص برحمته من يشاء " وقال تعالى " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " فلا يجوز خلاف هذه النصوص لأحد لأن من خالفها كذب القرآن ولولا هذه النصوص لما أبعدنا أن يعذب الله تعالى على الطاعة له وأن ينعم على معصيته وأن يجازي الأفضل بالأنقص والأنقص بالأفضل لأن كل شيء ملكه وخلقه لا مالك لشيء سواه ولا معقب لحكمه ولا حق لأحد عليه لكن قد أمنا ذلك كله بأخبار الله تعالى أنه لا يجازي ذا عمل إلا بعمله وأنه يتفضل على من يشاء فلزم الإقرار بكل ذلك وبالله تعالى التوفيق فلو قال قائل أيما أفضل في الجنة وأعلى قدراً مكان إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أو مكان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قلنا مكان إبراهيم أعلى بلا شك ولكن ذلك المكان اختصاص مجرد لإبراهيم المذكور لم يستحقه بعمل ولا استحق أيضاً أن يقصر به عنه ومواضيع هؤلاء المذكورين جزاء لهم على قدر فضلهم وسوابقهم وكذلك نساؤه ﷺ مكانهن جزاء لهن على قدر فضلهن وسوابقهن فلا يقال أن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ أفضل من أبي بكر أو عمر ولا يقال أيضاً أن أبا بكر وعمر أفضل من إبراهيم والمفاضلة واقعة بين الصحابة وبين نساء رسول الله ﷺ لأن أعمالهم وسوابهم لها مراتب متناسبة بلا شك فإن قال قائل أنهن لولا رسول الله ﷺ ما حصلن تلك الدرجة وإنما تلك الدرجة له عليه السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم ولا شك أيضاً في أن جميع الصحابة لولا رسول الله ﷺ ما حصلوا أيضاً على الدرج التي لهم فيها فإنما هي إذا على قولكم لرسول الله ﷺ كما قلتم ولا فرق وبقي الفضل والتقدم لهن كما كان في كل ذلك ولا فرق.
قال أبو محمد: وأما فضلهن على بنات النبي ﷺ فبين بنص القرآن لا شك فيه قال الله عز وجل " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول " فهذا بيان قاطع لا يسع أحداً جهله فإن عارضنا معارض بقول رسول الله ﷺ خير نسائها فاطمة بنت محمد قلنا له وبالله تعالى التوفيق في هذا الحديث بيان جلي لما قلنا وهو أنه عليه السلام لم يقل خير النساء فاطمة وإنما قال خير نسائها فخص ولم يعم وتفضيل الله عز وجل لنساء النبي ﷺ على النساء عموم لا خصوص لا يجوز أن يستثني منه أحد إلا من استثناه نص آخر فصح أنه عليه السلام إنما فضل فاطمة على نساء المؤمنين بعد نسائه ﷺ فاتفقت الآية مع الحديث وقال رسول الله ﷺ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فهذا أيضاً عموم موافق الآية ووجب أن يستثني ما خصه النبي ﷺ بقوله نسائها من هذا العموم فصح أن نساءه عليه السلام افضل النساء جملة حاشا اللواتي خصهن الله تعالى بالنبوة كأم إسحاق وأم موسى وأم عيسى عليهم السلام وقد نص الله تعالى على هذا بقوله الصادق " يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " ولا خلاف بين المسلمين في أن جميع الأنبياء كل نبي منهم أفضل ممن ليس بنبي من سائر الناس ومن خالف هذا فقد كفر وكذلك أخبر عليه السلام فاطمة أنها سيدة نساء المؤمنين ولم يدخل نفسه ﷺ في هذه الجملة بل أخبر عمن سواه وبرهان آخر وهو قول الله تعالى مخاطباً لهن " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين ".
قال أبو محمد: فهذا فضل ظاهر وبيان لائح في أنهن أفضل من جميع الصحابة رضي الله عنهم وبهذه الآية صحة متيقنة لا يمتري فيها مسلم فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة وسائر الصحابة رضي الله عنهم إذا عمل الواحد منهم عملاً يستحق عليه مقداراً ما من الأجر وعملت امرأة من نساء النبي ﷺ مثل ذلك العمل بعينه كان لها مثل ذلك المقدار من الأجر فإذا كان نصيف الصحابى وفاطمة رضي الله عنهم يفي بأكثر من مثل جبل أحد ذهباً ممن بعده كان للمرأة من نسائه عليه السلام في نصيفها أكثر من مثلي جبلين اثنين مثل جبل أحد ذهباً وهذه فضيلة ليست لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام إلا هن وقد صح عن النبي ﷺ أنه يوعك كوعك رجلين من أصحابه لأن له على ذلك كفلين من الأجر.
قال أبو محمد: وليس بعد هذا بيان في فضلهن على كل أحد من الصحابة إلا من أعمى الله قلبه عن الحق ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وقد اعترض علينا بعض أصحابنا في هذا المكان بقول الله تعالى عن أهل الكتاب إذ آمنوا " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " قال فيلزم أنهم أفضل منا فقلت له أن هذه الآية والخبر الذي فيه ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر مؤمن أهل الكتاب والعبد الناصح ومعتق أمته ثم يتزوجها فيهما بيان الوجه الذي أجروا به مرتين وهو الإيمان بالنبي ﷺ وبالنبي الأول المبعوث بالكتاب الأول ونحن نؤمن بهذا كله كما آمنوا فنحن شركاء ذلك المؤمن منهم في ذينك الإيمانين وكذلك العبد الناصح يؤجر لطاعة سيده أجراً ولطاعة الله أجراً وكذلك معتق أمته ثم يتزوجها يؤجر على عتقه أجراً ثم على نكاحه إذا أراد به وجه الله تعالى أجراً ثانياً فصح بالنص يقيناً أن هؤلاء إنما يؤتون أجرهم مرتين في خاص من أعمالهم لا في جميع أعمالهم وليس في هذا ما يمنع من أن يؤجر غيرهم في غير هذه الأعمال أكثر من أجور هؤلاء وأيضاً فإنما يضاعف لهؤلاء على ما عمله أهل طبقتهم وليست المضاعفة لأجور نساء النبي ﷺ مرتين من هذا في ورد ولا صدر لأن المضاعفة لهن إنما هي في كل عمل عملنه بنص القرآن إذ يقول تعالى " ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين " فكل عمل عمله صاحب من الصحابة له فيه أجر فلكل امرأة منهن في مثل ذلك العمل أجران والمضاعفة لهن إنما تكون على ما عمله طبقتهن من الصحابة قد علمنا أن بين عمل الصاحب وعمل غيره أعظم مما بين أحد ذهباً ونصف مد شعير فيقع لكل واحدة منهن مثلا ذلك مرتين وهذا لا يخفى على ذي حس سليم فبطلت المعارضة التي ذكرناها والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واعترض علينا أيضاً بعض الناس في الحديث الذي فيه أن عائشة أحب الناس إليه ومن الرجال أبوها بأن قال قد صح عن النبي ﷺ أنه قال لأسامة بن زيد أن أباه أحب الناس إلي وأن هذا أحب الناس إلي بعده وصح أنه عليه السلام قال للأنصار أنكم أحب الناس إلي.
قال أبو محمد: وأما هذا اللفظ الذي في حديث أسامة بن زيد أنه أحب الناس إليه عليه السلام فقد روي من طريق حماد بن سلمة عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه وأما الذي فيه ذكر أسامة وزيد رضي الله عنهما فإنما رواه عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله عن أبيه وعمر بن حمزة هذا ضعيف والصحيح من هذا الخبر هو ما رواه عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي ﷺ بإسناد لا مغمز فيه فذكر فيه أنه عليه السلام قال يعني لزيد بن حارثة إيم الله إن كان لخليق بالإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وأن هذا من أحب الناس إلي بعده وهذا يقضي على حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه لأنه مختصر من حديث عبد الله بن دينار وبهذا ينتفي التعارض بين الروايتين عن أبن عمر وعن أنس وعمرو وإلا فليس أحدهما أولى من الآخر وأما حديث الأنصار فرووه كما ذكره هشام بن زيد عن أنس ورواه عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال أنتم من أحب الناس إلي وهو حديث واحد وزيادة العدل مقبولة فصح بزيادة من في الحديث من طريق العدول أن الأنصار وزياداً وأسامة رضي الله عنهم من جملة قوم هم أحب الناس إلى رسول الله ﷺ وهذا حق لا يشك فيه لأنهم من أصحابه وأصحابه أحب الناس إليه بلا شك وليس هكذا جوابه في عائشة رضي الله عنها إذ سئل من أحب الناس إليك فقال عائشة فقيل من الرجال قال أبوها لأن هذا قطع على بيان ما سأل عنه السائل من معرفة من المنفرد البائن عن الناس بمحبته عليه السلام واعترض علينا بعض الأشعرية بأن قال أن الله تعالى يقول " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " فصح أن محبته عليه السلام لمن أحب ليس فضلاً لأنه قد أحب عمه وهو كافر.
قال أبو محمد: فقلنا أن هذه الآية ليست على ما ظن وإنما مراد الله تعالى " إنك لا تهدي من أحببت " أي أحببت هداه برهان ذلك قوله تعالى " ولكن الله يهدي من يشاء " أي من يشاء هداه وفرض على النبي ﷺ وعلينا أن نحب الهدى لكل كافر لا أن نحب الكافر وأيضاً فلو صح أن معنى الآية من أحببت كما ظن هذا المعترض لما كان علينا بذلك حجة لأن هذه آية مكية نزلت في أبي طالب ثم أنزل الله تعالى في المدينة " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " وأنزل الله تعالى في المدينة " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " وإن كان رسول الله ﷺ أحب أبا طالب فقد حرم الله تعالى عليه بعد ذلك ونهاه عن محبته وافترض عليه عداوته وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن العداوة والمحبة لا يجتمعان أصلاً والمودة هي المحبة في اللغة التي بها نزل القرآن بلا خلاف من أحد من أهل اللغة فقد بطل أن يحب النبي ﷺ أحداً غير مؤمن وقد صحت النصوص والإجماع على أن محبة رسول الله ﷺ لمن أحب فضيلة وذلك كقوله عليه السلام لعلي لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فإذ لا شك ولا خلاف في أن محبة رسول الله ﷺ بخلاف ما قال أهل الجهل والكذب فقد صح يقيناً أن كل من كان أتم حظاً في الفضيلة فهو أفضل ممن هو أقل حظاً في تلك الفضيلة هذا شيء يعلم ضرورة فإذا كانت عائشة أتم حظاً في المحبة التي هي أتم فضيلة فهي أفضل ممن حظه في ذلك أقل من حظها ولذلك لما قيل له عليه السلام من الرجال قال أبوها ثم عمر فكان ذلك موجباً لفضل أبي بكر ثم عمر في الفضل من أجل تقدمهما في المحبة عليهما وما نعلم نصاً في وجوب القول بتقديم ابن بكر ثم عمر على سائر الصحابة إلا هذا الخبر قال أبو محمد: وقد نص النبي ﷺ على ما ينكح له من النساء فذكر الحسب والمال والجمال والدين ونهي ﷺ عن كل ذلك بقوله فعليك بذات الدين تربت يداك فمن المحال الممتنع أن يكون يحض على نكاح النساء واختيارهن للدين فقط ثم يكون هو عليه السلام يخالف ذلك فيحب عائشة لغير الدين وكذلك قوله عليه السلام فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام لا يحل لمسلم أن يظن في ذلك شيئاً غير الفضل عند الله تعالى في الدين فوصف الرجل امرأته للرجال لا يرضه به إلا خسيس نذل ساقط ولا يحل لمن له أدنى مسكة من عقل أن يمر هذا بباله عن فاضل من الناس فكيف عن المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس ﷺ.
قال أبو محمد: ولولا أنه بلغنا عن بعض من يصدر لنشر العلم من زماننا وهو المهلب بن أبي صفرة التميمي صاحب عبد الله بن إبراهيم الأصيل أن أشار إلى هذا المعنى القبيح وصرح به ما انطلق لنا بالإيمان إليه لسان ولكن المنكر إذا ظهر وجب على المسلمين تغييره فرضاً على حسب طاقتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال أبو محمد: وكذلك عرض الملك لها رضي الله عنها على رسول الله ﷺ قبل ولادتها في سرقة من حرير يقول له هذه زوجتك فيقول عليه السلام إن يكن من عند الله قال أبو محمد: واعترض علينا مكي بن أبي طالب المقري بأن قال يلزم على هذا أن تكون امرأة أبي بكر أفضل من علي لأن امرأة أبي بكر أعلى من منزلة علي فهي أفضل من علي.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن قلنا له وبالله تعالى نتأيد أن هذا الاعتراض ليس بشيء لوجوه أحدها أن ما بين درجة أبي بكر ودرجة علي في الفضل الموجب لعلو درجته في الجنة على درجة علي ليست من التباين بحيث هو ما بين درجة النبي ﷺ وبين درجة أبي بكر في الفضل الموجب لعلو درجته عليه السلام على درجات سائر الصحابة رضي الله عنهم بل قد أيقنا أن درجة أقل رجل منا في الفضل أقرب نسبة من أعلى درجة لأعلى رجل من الصحابة من نسبة درجة أفضل الصحابة إلى درجة النبي ﷺ وأيضاً فليس بين أبي بكر وعلي في المباينة في الفضل ما يوجب أن تكون امرأة أبي بكر التابعة له أفضل من علي بل منازل المهاجرين الأولين الذين أوذوا في سبيل الله عز وجل متقاربة وإن تفاضلت ثم كذلك أهل السوابق مشهداً مشهداً درجهم في الفضل ثم كذلك من أسلم بعد الفتح أيضاً ويزداد الأفضل فالأفضل من المشركين في المشاهد جزاء على ذلك فنقول أن امرأة أبي بكر المستحقة بعملها الكون معه في درجته مثل أم رومان لسنا ندري أهي أفضل أم علي لأنا لا نص معنا في ذلك والتفضيل لا يعرف إلا بنص وقد قال عليه السلام خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم أو كما قال عليه السلام فجعلهم طبقات في الخير والفضل فلا شك هم كذلك في الجزاء في الجنة وإلا فكان يكون الفضل لا معنى له وقال عز وجل " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " وأيضاً فلسنا نشك أن المهاجرات الأولات من نساء الصحابة رضي الله عنهم يشاركن الصحابة في الفضل ففاضلة ومفضولة وفاضل ومفضول ففيهن من يفضل كثيراً من الرجال وفي الرجال من يفضل كثيراً منهن وما ذكر الله تعالى منزلة من الفضل إلا وقرن النساء مع الرجال فيها كقوله تعالى " إن المسلمين والمسلمات " الآية حاشا الجهاد فإنه فرض على الرجال دون النساء ولسنا ننكر أن يكون لأبي بكر رضي الله عنه قصور ومنازل مقدمة على جميع الصحابة ثم يكون لمن لم تستأهل من نسائه تلك المنزلة منازل في الجنة دون منازل من هو أفضل منهن من الصحابة فقد نكح الصحابة رضي عنهم التابعيات بعد الصاحبات وعليهن فتكون تلك المنازل زائدة في فضل أزواجهن من الصحابة فينزلون إليهن ثم ينصرفون إلى منازلهن العالية بل قد صح هذا عن النبي ﷺ وأنه قال كلاماً معناه وأكثر نصه أنه عليه السلام زعيم بيت في ربض الجنة وفي وسط الجنة وفي أعلى الجنة لم فعل كذا أمراً وصفه رسول الله ﷺ فصح نص ما قلنا من أن لمن دونه عليه السلام منازل عالية وآخر مسفلة عن تلك المنازل ينزلون إليها ثم يصعدون إلى الأعالي وهذا معبد عن النبي ﷺ لوجهين أحدهما أن جميع نسائه عليه السلام لهن حق الصحبة التي يشتركن فيها جميع الصحابة ويفضلنهم فيها بقرب الخاصة فليس في نسائه عليه السلام ولا واحدة يفضلها بالصحبة التي هي فضيلتهم التي بها بانوا عمن سواهم فقط وقد كفينا الباب والوجه الثاني أن تأخر بعض الصحابة عن بعضهم في بعض الأماكن موجود وإن كان ذلك المتأخر في بعض الأماكن متقدماً في مكان آخر فقد علمنا أن بلالاً عذب في الله عز وجل ما لم يعذب علي وأن علياً قاتل ما لم يقاتل بلال وأن عثمان أنفق ما لم ينفق بلال ولا علي فيكون المفضول منهم في الجملة متقدماً للذي فضله في بعض فضائله ولا سبيل أن يوجد هذا فيما بينهم وبين النبي ﷺ ولا يجوز أن يتقدمه أحد من ولد آدم في شيء من الفضائل أولها عن آخرها ولا إلى أن يلحقه لاحق في شيء من الفضائل من بني آدم فلا سبيل إلى أن ينسفل النبي ﷺ إلى درجة يوازيه فيها صاحب من الصحابة فكيف أن يعلو عليه الصاحب هذا أمر تقشعر منه جلود المؤمنين وقد استعظم أبو أيوب رضي الله عنه أن يسكن في غرفة على بيت يسكنه النبي ﷺ فكيف يظن بأن هذا يكون في دار الجزاء فإذا كان العالي من الصحابة في أكثر منازله ينسفل أيضاً في بعضها عن صاحب آخر قد علاه في منازل أخر على قدر تفاضلهم في أعمالهم كما ذكرنا آنفاً فقد أخبر النبي ﷺ أن الصائمين يدعون من باب الريان وأن المجاهدين يدعون من باب الجهاد وأن المتصدقين يدعون من باب الصدقة وأن أبا بكر يرجو له رسول الله ﷺ أن يدعي من جميع تلك الأبواب وقد يجوز أن يفضل أبا بكر رضي الله عنه غيره من الصحابة في بعض تلك الوجوه ممن انفرد بباب منها ولا يجوز أن يفضل أحد رسول الله ﷺ في شيء من أبواب البر فبطل هذا الاعتراض جملة والحمد لله رب العالمين واعترض أيضاً علينا مكي بن أبي طالب بأن قال إذا كان رسول الله ﷺ أفضل من موسى عليه السلام ومن كل واحد من الأنبياء عليهم السلام وكان عليه السلام أعلى درجة في الجنة من جميع الأنبياء عليهم السلام وكان نساؤه عليه السلام معه في درجته في الجنة فدرجتهن فيها أعلى من درجة موسى عليه السلام ومن درج سائر الأنبياء عليهم السلام فهن على هذا الحكم أفضل من موسى وسائر الأنبياء عليهم السلام.
قال أبو محمد: فأجبناه بأن هذا الاعتراض أيضاً لا يلزمنا ولله الحمد لأن الجنة دار ملك وطاعة وعلو منزلة ورياسة واتباع من التابع للمتبوع كما قال عز وجل " وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً " وقال تعالى عن موسى عليه السلام " وكان عند الله وجيهاً " وأخبر عز وجل عن جبريل ﷺ " فقال ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فقد علمنا أن ملك الدنيا غرور وأن ملك الآخرة هو الحقيقة وقد أخبر عليه السلام أنه رأى الأنبياء عليهم السلام مع اتباعهم فالنبي معه الواحد والاثنان والثلاثة والنفر والجماعة فأخبر عز وجل أن هنالك الملك الكبير والطاعة والوجاهة والاتباع والاستئمار وإنما عرض الله تعالى علينا في الدنيا من الملك طرفاً لنعلم به مقدار الملك الذي في دار الجزاء كما عرض علينا من اللذات والحرير والديباج والخمر والذهب والفضة والمسك والجواري والحلي وأعلمنا أن هذا كله خالصة لنا هنالك وكما صح عن النبي ﷺ أن آخر من يدخل الجنة يزكو على أعظم ملك عرفه في الدنيا فيتمنى مثل ملكه فيعطيه الله تعالى مثل الدنيا عشر مرات.
قال أبو محمد: فلما صح ما ذكرنا وكانت الملائكة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها وكانت طبقة المرسلين النبيين طبقة واحدة والنبيون غير المرسلون طبقة واحدة لأنهم أيضاً يتفاضلون فيها وكل الصحابة طبقة واحدة إلا أنهم يتفاضلون فيها فوجب بلا شك أن لا يكون اتباع الرسل من النساء والأصحاب كالمتبوعين الذين هم الرسل لأن بالضرورة نعلم أن تابع الأعلى ليس لاحقاً نظير متبوعه فكيف أن يكون أعلى منه كما أن التابعيات من نساء الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقن نظراء أزواجهن من الصحابة إذ ليس هن معهم في طبقة وإنما ينظر بين أهل كل طبقة ومن هو في طبقته ونساء النبي ﷺ طبقة واحدة مع الصحابة فصح التفاضل بينهم وليس واحدة منهن ولا منهم مع الأنبياء في طبقة فلم يجزان ينظر بينهم وقد أخبر عليه السلام أنه رأى ليلة الإسراء الأنبياء عليهم السلام في السموات سماء سماء وبالضرورة نعلم أن منزلة النبي الذي هو متبوع في سماء الدنيا أمره هناك مطاع أعلى من منزلة التابع في السماء السابعة للنبي الذي هناك وإذ صح عن النبي ﷺ أن كل نبي يأتي مع أمته فنحن مع نبينا ﷺ فإن كان ما ألزمناه مكي لازماً لنا فيلزمه مثل ذلك فينا أيضاً أن نكون أفضل من الأنبياء وهذا غير لازم لما ذكرنا من أنه لا ينظر في الفضل إلا بين من كان من أهل طبقة واحدة فمن كان منهم أعلى منزلة من الآخر كان أفضل منه بلا شك وليس ذلك في الطباق المختلفة ألا ترى أن كون مالك خازن النار في مكان غير مكان خازن الجنة وغير مكان جبرائيل لا تحط درجته عن درجة من في الجنة من الناس الذين الملائكة جملة أفضل منهم لأن مالكا متبوع للنار ومقدم مطاع مفضل بذلك على التابعين والخدمة في الجنة بلا شك فبطل هذا الشغب ويجمع هذا الجواب باختصار وهو أن الرؤساء والمتبوعين في كل طبقة في الجنة أعلى من التابعين لهم ونساء النبي ﷺ وأصحابه كلهم أتباع له عليه السلام وجميع الأنبياء متبوعون فإنما ينظر بين المتبوعين أيهم أفضل وينظر بين الأتباع أيهم أفضل ويعلم الفضل بعلو درجة كل فاضل من دونه في الفضل ولا يجوز أن ينظر بين الأتباع والمتبوعين لأن المتبوعين لا يكونون البتة أحط درجة من التابعين وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل فكيف يقولون في الحور العين أهن أفضل من الناس ومن الأنبياء كما قلتم في الملائكة.
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن الفضل لا يعرف إلا ببرهان مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام الرسول ﷺ ولم نجد الله تعالى نص على فضل الحور العين كما نص على فضل الملائكة وإنما نص على أنهن مطهرات حسان عرب أتراب يجامعن ويشاركن أزواجهن في اللذات كلها وأنهن خلقن ليلتذ بهن المؤمنون فإذا الأمر هكذا فإنما محل الحور العين محل من هن له فقط إن ذلك اختصاص لهن بلا عمل وتكليف فهن خلاف الملائكة في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومما يؤكد قولنا قول الله تعالى أن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون وهذا النص إذ قد صح فقد وجب الإقرار به فلو عجزنا عن تفضيل بعض أقسام هذه الاعتراضات لما ألزمنا في ذلك نقصاً إذ لا يجوز الاعتراض على هذا النص وكلما صح بيقين فلا يجوز أن يعارض بيقين آخر والبرهان لا ببطله برهان وقد أوضحنا أن الجنة دار جزاء على أعمال المكلفين فأعلاهم درجة أعلاهم فضلاً ونساء النبي ﷺ أعلا درجة في الجنة من جميع الصحابة فهن أفضل منهن فمن أبي هذا فليخبرنا ما معنى الفضل عنده إذ لا بد أن يكون لهذه الكلمة معنى فإن قال لا معنى لها فقد كفانا مؤنته وإن قال إن لها معنى سألناه ما هو فإنه لا يجد غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فكيف وقد أبينا بتأييد الله عز وجل لنا على كلما اعترض علينا به في هذا الباب ولاح الوجه في ذلك بيناً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: واستدركنا بياناً زائداً في قول النبي ﷺ في أن فاطمة سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث وإنما ذكر عليه السلام في هذا الحديث السادة ولم يذكر الفضل وذكر عليه السلام في حديث عائشة الفضل نصاً بقوله عليه السلام " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ".
قال أبو محمد: والسادة غير الفضل ولا شك أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين بولادة النبي ﷺ لها فالسادة من باب الشرف لا من باب الفضل فلا تعارض بين الحديثين والحمد لله رب العالمين وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما وهو حجة في اللغة العربية كان أبو بكر خيراً وأفضل من معاوية وكان معاوية أسود من أبي بكر ففرق ابن عمر بين السادة والفضل والخير وقد علمنا أن الفضل هو الخير نفسه لأن الشيء إذا كان خيراً من شيء آخر فهو أفضل منه بلا شك.
قال أبو محمد: وقد قال قائل ممن يخالفنا في هذا قال الله عز وجل " وليس الذكر كالانثى " فقلنا وبالله تعالى التوفيق فأنت إذا عند نفسك أفضل من مريم وعائشة وفاطمة لأنك ذكر وهؤلاء أناث فإن قال هذا الحق بالنوكي وكفر فإن سئل عن معنى الآية قيل له الآية على ظاهرها ولا شك في أن الذكر ليس كالأنثى لأنه لو كان كالأنثى لكان أنثى والأنثى أيضاً ليست كالذكر لأن هذه أنثى وهذا ذكر وليس هذا من الفضل في شيء البتة وكذلك الحمرة غير الخضرة والخضرة ليست كالحمرة وليس هذا من باب الفضل فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " وللرجال عليهن درجة " قيل له إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام ومن نساء النبي ﷺ وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " إنما ذلك في تقصيرهم في الأغلب عن المحاجة لقلة ذريتهم وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن فإن اعترض معترض فقال الذي أمرنا بطاعتهم من خلفاء الصحابة رضي الله عنهم أفضل من نساء النبي ﷺ بقوله تعالى " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا خطأ من جهات إحداها أن نساء النبي ﷺ من جملة أولي الأمر منا الذين أمرنا بطاعتهم فيما بلغن إلينا عن النبي ﷺ كالأئمة من الصحابة سواء ولا فرق والوجه الثاني أن الخلافة ليست من قبل فضل الواحد في دينه فقط وجبت لمن وجبت له وكذلك الإمارة لأن الإمارة قد تجوز لمن غيره أفضل منه وقد كان عمر رضي الله عنه مأموراً بطاعة عمرو بن العاص إذ أمره رسول الله ﷺ في غزوة ذات السلاسل فبطل أن تكون الطاعة إنما تجب للأفضل وقد أمر النبي ﷺ عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ولم يؤمر أبا ذر وأبو ذر أفضل خير منهما بلا شك وأيضاً فإنما وجبت طاعة الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم في أوامرهم مذ ولوا لا قبل ذلك ولا خلاف في أن الولاية لم تزدهم فضلاً على ما كانوا عليه وإنما زادهم فضلاً عدلهم في الولاية لا الولاية نفسها وعدلهم داخل في جملة أعمالهم التي يستحقون الفضل بها ألا ترى أن معاوية والحسن إذ وليا كانت طاعتهما واجبة على سعد بن أبي وقاص وسعد أفضل منهما ببون بعيد جداً وهو حي معهما مأمور بطاعتهما وكذلك القول في جابر وأنس بن مالك وابن عمر رضي الله عنهم في وجوب طاعة عبد الملك بن مروان والذي بين جابر وأنس وابن عمر وبين عبد الملك في الفضل كالذي بين النور والظلمة فليس في وجوب طاعة الولاة ما يوجب لهم فضلاً في الجنة فإن اعترض معترض بقول الله تعالى " والذين أمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين " فبيان اعتراضه ظاهر في آخر الآية وهو أن إلحاق الذرية بالأباء لا يقتضي كونهم معهم في درجة ولا هذا مفهوم من نص الآية بل إنما فيها إلحاقهم بهم فيما ساووهم فيه بنص الآية ثم بين تعالى ذلك ولم يدعنا في شك بقوله " كل امرئ بما كسب رهين " فصح أن كل واحد من الأباء والأبناء يجازى حسب ما كسب فقط وليس حكم الأزواج كذلك بل أزواج النبي ﷺ معه في قصوره وعلى سرره ملتذ بهن ومعهن جزاء لهن بما عملن من الخير وبصبرهن واختيارهن الله تعالى ورسوله ﷺ والدار الآخرة وهذه منزلة لا يحلها أحد بعد النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فهن أفضل من كل واحد دون الأنبياء عليهم السلام فإن شغب مشغب بقول رسول الله ﷺ ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل من إحداكن قلنا له وبالله تعالى التوفيق إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر وإن قال لا سقط اعتراضه واعترف بأن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء فإن سأل عن معنى هذا الحديث.
قيل له قد بين رسول الله ﷺ وجه ذلك النقص وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم ديناً وعقلاً غير الوجوه التي ذكر النبي ﷺ لا يقول إلا حقاً فصح يقيناً أنه إنما عبر عليه السلام ما قد بينه في الحديث نفسه من الشهادة والحيض فقط وليس ذلك مما ينقص الفضل فقد علمنا أن أبا بكر وعمر وعلياً لو شهدوا في زنا لم يحكم بشهادتهم ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن يقفا فيها عند ما حده النص فقط ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل ديناً ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين.
وأيضاً فقول الله تعالى " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء مخرج لهن عن سائر النساء في كل ما اعترض به معترض مما ذكرناه وشبهه.
قال أبو محمد: فإن اعترض معترض بقول النبي ﷺ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة وقد يتفاضلون أيضاً فيها فيكون بعض الأنبياء أكمل من بعض ويكون بعض الرسل أكمل من بعض قال الله عز وجل " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " فإنما ذكر في هذا الخبر من بلغ غاية الكمال في طبقته ولم يتقدمه منهم أحد وبالله تعالى التوفيق فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة فلا حجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلال وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم.
قال أبو محمد: وأما أفضل نسائه فعائشة وخديجة رضي الله عنهما لعظم فضائلهما وإخباره عليه السلام أن عائشة أحب الناس إليه وأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقد ذكر عليه السلام خديجة بنت خويلد فقال أفضل نسائها مريم بنت عمران وأفضل نسائها خديجة بنت خويلد مع سابقة خديجة في الإسلام وثباتها رضي الله عنها ولأم سلمة وسودة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وحفصة سوابق في الإسلام عظيمة وأحمال للمشقات في الله عز وجل ورسوله ﷺ والهجرة والغربة عن الوطن والدعاء إلى الإسلام والبلاء في الله عز وجل ورسوله ﷺ ولكلهن بعد ذلك الفضل المبين رضوان الله عليهن أجمعين.
قال أبو محمد: وهذه مسألة نقطع فيها على أننا المحققون عند الله عز وجل وأن من خالفنا فيها مخطئ عند الله عز وجل بلا شك وليست مما يسع الشك فيه أصلاً.
قال أبو محمد: فإن قال قائل هل قال هذا أحد قبلكم قلنا له وبالله تعالى التوفيق وهل قال غير هذا أحد من قبل يخالفنا الآن وقد علمنا ضرورة أن لنساء النبي ﷺ منزلة من الفضل بلا شك فلا بد من البحث عنها فليقل مخالفنا في أي منزلة نضعهن أبعد جميع الصحابة كلهم فهذا ما لا يقوله أحد أم بعد طائفة منهم فعليه الدليل وهذا ما لا سبيل له إلى وجوده وإذ قد بطل هذان القولان أحدهما بالإجماع على أنه باطل والثاني لأنه دعوى لا دليل عليها ولا برهان فلم يبق إلا قولنا والحمد لله رب العالمين الموفق للصواب بفضله ثم نقول وبالله تعالى نستعين قد صح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس حين ولي بعد موت رسول الله ﷺ فقال أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم فقد صح عنه رضي الله عنه أنه أعلن بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس بخيرهم ولم ينكر هذا القول منهم أحد فدل على متابعتهم له ولا خلاف أنه ليس في أحد من الحاضرين لخطبته إنسان يقول فيه أحد من الناس أنه خير من أبي بكر إلا علي وابن مسعود وعمرو أما جمهور الحاضرين من مخالفينا في هذه المسألة من أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والخوارج فإنهم لا يختلفون في أن أبا بكر أفضل من علي وعمر وابن مسعود وخير منهم فصح أنه لم يبق إلا أزواج النبي ﷺ فإن قال قائل إنما قال أبو بكر هذا تواضعاً قلنا له هذا هو الباطل المتيقن لأن الصديق الذي سماه رسول الله ﷺ بهذا الاسم لا يجوز أن يكذب وحاشا له من ذلك ولا يقول إلا الحق والصدق فصح أن الصحابة متفقون في الأغلب على تصديقه في ذلك فإذ ذلك كذلك وسقط بالبرهان الواضح أن يكون أحد من الصحابة رضي الله عنهم خيراً من أبي بكر لم يبق إلا أزواج النبي ﷺ ونساؤه ووضح أننا لو قلنا أنه إجماع من جمهور الصحابة لم يبعد من الصدق.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن يوسف بن عبد الله النمري حدثنا قال حدثنا خلف بن قاسم ثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي الكندي حدثنا محمد بن العباس البغدادي ثنا إبراهيم ابن محمد البصري ثنا أبو أيوب سليمان بن داود الشاذكوني قال كان عمار بن ياسر والحسن ابن علي يفضلان علي بن أبي طالب على أبي بكر الصديق وعمر حدثنا أحمد بن محمد الخوزي ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد فخطبهم عمار وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم إني أقول لكم ووالله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله ﷺ في الجنة كما هي زوجته في الدنيا ولكن الله ابتلاكم بها لتطيعوها أو لتطيعوه فقال له مسروق أو أبو الأسود يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له فسكت عمار وقال له الحسن اعن نفسك عنا فهذا عمار والحسن وكل من حضر من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والكوفة يؤمئذٍ مملؤة منهم يسمعون تفضيل عائشة على علي وهو عند عمار والحسن أفضل من أبي بكر وعمر فلا ينكرون ذلك ولا يعترضونه أحوج ما كانوا إلى إنكاره فصح أنهم متفقون على أنها وأزواجه عليه السلام أفضل من كل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ومما نبين أن أبا بكر رضي الله عنه لم يقل وليتكم ولست بخيركم إلا محقاً صادقاً لا تواضعاً يقول فيه الباطل وحاشا له من ذلك ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي قال حدثنا أحمد بن محمد بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرفي أنا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البران ثنا عبد الملك ابن سعد ثنا عقبة بن خالد ثنا شعبة بن الحجاج ثنا الحريري عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ألست أحق الناس بها أو لست أول من أسلم ألست صاحب كداء.
قال أبو محمد: فهذا أبو بكر رضي الله عنه يذكر فضائل نفسه إذ كان صادقاً فيها فلو كان أفضلهم لصرح به وما كتمه وقد نزهه الله تعالى عن الكذب فصح قولنا نصاً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي ﷺ فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة أو الثلاثة إلا سهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له ل قال به ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن علياً أفضل أكثر فوجب أن أتى بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد افضل الأعمال.
قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهراً وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلاً وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر وبقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله ﷺ لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله ﷺ الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويداً وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله ﷺ له بذلك واستظهاراً برأيه في الحرب وأنساً بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضاً وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا علياً رضي الله عنه لم ينفرد بالنسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد ابن معاذ وسماك ابن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله ﷺ وموازرته في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله ﷺ على البعوث أكثر مما بعث علياً وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثاً إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا علياً في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم.
قال أبو محمد: واحتج أيضاً من قال بأن علياً كان أكثرهم علماً.
قال أبو محمد: كذب هذا القائل وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي ﷺ له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي ﷺ من لا علم له وهذه أكبر شهادات على الهلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي ﷺ قد ولي أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمرو ابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الفزوة لم يستخلف إلى على النساء وذو الأعذار فقط فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرايعها وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين ووجدناه ﷺ قد استعمله علىالصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضاً عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالماً بما استعمله عليه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه فوجدناه عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعايم الإسلام ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله ﷺ على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالماً به فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومآمرته وظعنه وإقامته أبا بكر مشاعد أحكامه عليه السالم وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله ﷺ إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة غلا حاجاً أو معتمراً ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله ﷺ لأن كل من حواليه أدركوا النبي ﷺ وعلى ذلك كله فقد روي عنه عن النبي ﷺ مائة حديث واثنان وأربعون حدثناً مسندة ولم يرو عن علي إلا خمس مائة وست وثمانون حديثناً مسندة يصح منها نحو خمسين وقد عاش بعد رسول الله ﷺ أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم وكثر سماع أهل الأفاق منه مرة بصفين وأعواماً بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري على البلاد بلداً بلداً وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوي من فتاوي علم كل ذي حظ من العلم إن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من عمر من أصحاب رسول الله ﷺ عمراً قليلاً قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاماً غير أشهر ومسند عمر خمسماية حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء فكلما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثاً في هذه المدة الطويلة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثناً أو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثاً إلى حديث وفتاوي إلى فتاوي علم كل ذي حس علماً ضرورياً أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ثم وجدنا الأمر كل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلثماية مسند وأربع وسبعين مسنداً ووجدنا مسند بن عمر وأنس قريباً من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس لك واحد منهما أزيد من ألف وخمسماية ووجدنا لابن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها فبطل قول هذه الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحيا لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الأفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيهم هم المتهمون فيه إما له وإما عليه وبعد هذا كله وليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي ﷺ وبمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قالوا إن رسول الله ﷺ قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضا باليمن قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله ﷺ أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله ﷺ أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله ﷺ وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا.
و قال هذا القائل أن علينا كان إقرا الصحابة.
قال أبو محمد: وهذه القحة المتجردة والبهتان لوجوه أولها أنه رد على رسول الله ﷺ لأنه عليه السلام قال يوم القوم اقرؤهم فإن استووا فافقهم فإن استووا فأقدمهم هجرة ثم وجدناه عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فياه وعلي بالحضرة يراه النبي ﷺ غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحداً أحق من أبي بكر بها فصح أنه كان اقرؤهم وأفقهم وأقدمهم هجرة وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب اقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلاً هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سوار القرآن كله ظاهراً إلا أنه قد وجب يقيناً بتقديم النبي ﷺ لأبي بكر على الصلة وعلي حاضر إن أبا بكر أقرأ من علي وما كان النبي ﷺ ليقدم إلى الإمامة الأقل علماً بالقراة على الأقرأ أو الأقل فقهاً قال أبو محمد: كذب هذا الأفك ولقد كان علي رضي الله عنه تقياً إلى أن الفاضل بتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبا بكر والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله ﷺ في كلمة ولا خالف إرادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تظلم رسول الله ﷺ على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفاً عن شيء أمر به رسول الله ﷺ إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله ﷺ وأجاز له فعله وهي إذ أتى رسول الله ﷺ من قبا فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي ﷺ أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله ﷺ فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله ﷺ ما منعك أن تثبت حين أمرتك فقال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله ﷺ وما أنكر عليه السلام ذلك عليه وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله ﷺ فقد وجب أنه أخشاهم لله عز وجل قال الله عز وجل " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والتقي هو الخشية لله عز وجل وقال قائلون علي كان أزهدهم.
قال أبو محمد: كذب هذا الجاهل وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو غروب النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما غروب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً جلداً يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل حتى هاجر مع رسول الله ﷺ ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله ﷺ ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز وجل حتى لم يبق له شيء في عبادة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عز وجل أزهد ممن أنفق وأمسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من شهامة في المغازي والمقاسم مع رسول الله ﷺ فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله ﷺ وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز وجل لهم إلا أن من أثر على نفسه فضل ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله فهذا هو الزهد في المال واللذات ولقد تلا أبو بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم وماسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ومن جملة عقاره التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها فأين هذا من هذا وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي ﷺ صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر فما استعمل أبو بكر رضي الله عنه منهم أحداً على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة استعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطايف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلاً ولكن خشي المحاباة ويوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحداً على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم ابن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الملك على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي له الناس وكان لذلك أهلاً ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ووجدنا علياً رضي الله عنه إذ ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر ورضي ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهد أو أعرب عن جميع معاني الدنيا نفساً ممن أخذه منها أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده وقال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة.
قال أبو محمد: وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز وجل فأشهر من أن تخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغنا في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه وقالوا علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا.
قال أبو محمد: أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن علياًمات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة فصح أنه كان حين هاجر النبي ﷺ ابن ثلاث وعشرين سنة وكانت مدة النبي ﷺ بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثماً إن أبى فإن أخذ الأمر على قول من قال أن علياً مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي ﷺ ابن خمسة أعوام وكان إسلام ابي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز وجل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي.
وأما عمر فإنه كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن عناءه كان أكثر من عناء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ على حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي ﷺ وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي وأما كونه لم يعبد وثناً فنحن وكل مولود في الإسلام لم يعبد قط وثناً وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلاً زائداً وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي ﷺ بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلي ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي ﷺ بسنين وعبد الله بن عمر أيضاً أسلم أبوه وله أربع سنين لم يعبد قط وثناً فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة.
و قال بعضهم علي كان أسوسهم.
قال أبو محمد: وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي ﷺ وأذعن الجميع للبقية وقبول ما ادعت إليه العرب حاشا أبا بكر فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجاً كما خرجوا منه أفواجاً وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع حدودهم ونكس راياتهم وظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرؤوا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشكت بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيراً مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة فأين سياسة من سياسة.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل كلما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلا على دعاوي ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والسبق المبرز والحظ الأسنى في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي ﷺ.
قال أبو محمد: ولم يحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي ﷺ يقيناً فكيف والنص على خلافته صحيح وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضاً بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعاً ثم أجمعت الأمة كلها أيضاً بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه.
قال أبو محمد: ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عز وجل " إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله ﷺ في أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.
قال أبو محمد: فاعترض في هذا بعض أهل القحة فقال قد قال الله عز وجل " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًااً " قال وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله ﷺ عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز وجل لما نهاه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وهذه مجاهره بالباطل أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المجاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب فليس هكذا قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله تعالى لهما وإخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن.
وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله ﷺ كان غاية الرضا لله لأنه كان إشفاقاً على رسول الله ﷺ ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله ﷺ عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيباً عليه لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله ﷺ عيباً لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لموسى " قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى " فهذا رسول الله ﷺ وكليمه قد كان أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه لا تخف فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان رضا لما نهاه رسول الله ﷺ لزم أشد منه لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضاً لله تعالى قبل أن ينهى عنه ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن وأما محمد ﷺ فإن الله عز وجل قال " ومن كفر فلا يحزنك كفره " وقال تعالى " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق " وقال تعالى " ولا يحزنك قولهم أن العزة لله جميعاً " وقال تعالى " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وقال تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ووجدناه عز وجل قد قال " ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون " وقاله أيضاً في الأنعام فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله ﷺ يحزنه الذي يقولون ونهاه عز وجل عن ذلك نصاً فيلزمهم في حزن رسول الله ﷺ الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أرادوا في حزن أبي بكر سواء سواء ونعم إن حزن رسول الله ﷺ بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز وجل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز وجل قبل أن ينهاه الله عز وجل عن الحزن وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يمئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ برآءة من أبي بكر وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرائتها عليهم.
قال أبو محمد: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك وسورة برآءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي ﷺ وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: إلا أن تراجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد ﷺ وأخبرنا بأنه أوحاه الله تعالى إليه فمن تعرض هذا فقد أقر بعين عدوه.
قال أبو محمد: وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار علي رسول الله ﷺ راد لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: ولسنا من كذبهم في تأويلهم " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " وإن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك.
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي ﷺ بالبراهين المذكورة وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله ﷺ في أبي بكر دعوا لي صاحبي فإن الناس قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت وقوله ﷺ لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وهذا الذي لا يصح غيره وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ومنها أمره ﷺ بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر وهذا هو الذي لا يصح غيره ومنها غضبه ﷺ على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة ومنها قوله ﷺ إن أمن الناس علي في ماله أبو بكر وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي ﷺ هو قول رسول الله ﷺ إذ سئل من أحب الناس إليك يا رسول الله قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها قيل ثم من يا رسول الله قال عمر.
قال أبو محمد: فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله ﷺ بياناً لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص.
قال أبو محمد: واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما.
قال أبو محمد: والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان اقرء وكان أكثر فتيا ورواية ولعلي أيضاً حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضاً حظ قوي في الفتيا والرواية ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ثم انفرد عثمان بأن رسول الله ﷺ بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدراً فألحقه الله عز وجل فيهم بأجره التام وسهمه فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن أتبعه على الحق والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي ﷺ أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله عليه السلام لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل وعهده عليه السلام أن علياً لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.
قال أبو محمد: ونقول تفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعاً إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهداً مشهداً فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر وكلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى " والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " وكقوله عز وجل " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا " قال أبو محمد: فمن أخبرنا أن الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة ولقول رسول الله ﷺ لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر ولإخباره عليه السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله ﷺ بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز وجل " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " وقال تعالى " وعد الله لا يخلف الله وعده " وقال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ " فصح بالضرورة أن كل من أنفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم والله تعالى لا يفضل إلا مؤمناً فاضلاً وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله ﷺ فكيف نحن قال الله تعالى " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ".
قال أبو محمد: فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه لكن نقول كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقيناً لأنه قد وعدهم تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده وإن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز وجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البرئة منهم خلافاً لله عز وجل وعناداً له ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على غيبهم واحداً واحداً إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير غرض استعجله إلا أننا لا ندري على ما ذا مات وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعاً ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار لكن نرجو لهم ونخاف عليهم إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز وجل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله ﷺ خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلاً بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة وبرهان ذلك أنه قد كان في عصر التابعين من هوا أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلحة القيني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم فمن خالفنا قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول أن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وداود بن علي رضي الله عنهم وهذا ما لا يقوله أحد وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز وجل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلاً والحديث المأثور في أويس القرني لا يصح لأن مداره على اسيد بن جابر وليس بالقوى وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم بهم عن اويس القرني فلم يعرفه في قومه وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله ﷺ فضلاً بالقرابة فقط واحتج بقول الله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض " وبقوله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " وبقوله تعالى " وأبعث فيهم رسولاً منهم ".
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمني أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا لأن آزر ولد إبراهيم عليه السلام كان كافراً هدواً لله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران وآل إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين فأي حجة هاهنا لبني هاشم فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " وقال رسول الله ﷺ اللهم صل على آل أبي أو في هذا الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنوا هاشم وغيرهم في اطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق وقال تعالى " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر فاستوى في هذا كله بنوا هاشم وقريش والعرب والعجم من كان جميعهم بهذه الصفة وأيضاً فيلزم من احتج بقوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " أن يقول إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص.
قال أبو محمد: فصح يقيناً أن الله عز جل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط وبين هذا بياناً جلياً قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام الظالمين من ذرية غيره وقال عز وجل إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائناً من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل وأما قول الله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " فهذا حق على ظاهره وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسلمان وسالم مولي أبي حذيفة وأما قوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام " وابعث فيهم رسولاً منهم " فقد قال عز وجل " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " وقال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ممن هم قومه فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه السلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي وأن يكون بنوا لاوي من بني إسحاق عليه السلام وكل نبي من عشيرته التي هو منها ولا يجوز غير هذا البتة ونسأل من أراد حمل هذا الحديث على غير هذا المعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا فإن أنكروا هذا كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن وقد قال عليه السلام أبي وأبوك في النار وإن أبا طالب في النار وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار كذلك قال الله تعالى " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ " فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس.
قال أبو محمد: ويكذب هذا الظن الفاسد قول رسول الله ﷺ يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً وأبين من هذا كله قول الله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقوله تعالى " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم " وقوله تعالى " واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " وقال تعالى وذكر عاداً وثموداً وقوم نوح وقوم لوط ثم قال " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ " فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى الله عليه ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه وأمه نبية وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد على رسل الله الصلاة والسلام ما فيه الكفاية وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فصح ضرورة أن بلال وصهبا والمقداد وعمار وسالماً وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقم ومعبد وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعهم بشهادة الله تعالى فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات وليست الدنيا دار جزاء فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية والكرم والفوز لمن اتقى الله عز وجل حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا عبد السلام ابن الخثن حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الرحمن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن فايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً رضي الله عنهم
قال أبو محمد: اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق فقال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة أن علياً كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطاء وقالواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة أن علياً مصيب في قتاله معاوية وأهل النهر ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل وقالوا إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي وقالت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطئ في قتاله أهل النهر وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين وقد أشار إلى هذا أيضاً أبو بكر بن كيسان.
قال أبو محمد: أما الخوارج فقد أوضحنا خطاؤهم وخطاء أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم علي الحكمين فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد لله رب العالمين وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه وذكروا أيضاً أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين.
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز وجل " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " وقال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " قالوا ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم قالوا وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامته على من فعل ذلك ووجوب حربه قالوا وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه فقد ينفذ مثلها سراً ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها قالوا وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام لأنهم إنما أنكروا عليه استيثاراً بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها وتولية أقاربه فلما شكو إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفي رسول الله ﷺ للحكم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفي أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم قالوا وايوآء على المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله ﷺ لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله ﷺ أعظم والمنع من غنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك قالوا وامتناع معاوية من بيعة علي كامتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية ومعاوية في تأخره عن بيعة علي أعذر وأفسح م قال اً من علي في تأخره عن بيعة أبي بكر لأن علياً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير وأما بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه وما تابعه فيهم إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك وأيضاً فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي ﷺ كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف ولا عن شورى فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رآى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك قالوا فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله ﷺ على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله ﷺ أبا بكر إلى الصلاة وأمر علياً بأن يصلي ورآه في جماعة المسلمين فتأخره عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله ﷺ حقاً لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله ﷺ على تقديمه إلى الصلاة وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله ﷺ لذنب ثم تاب منه وأيضاً فإن علياً قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبو بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها قالوا والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته قالوا فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر وإن كان فعلهم صواباً فقد برئوا من الخطأ جملة قالوا والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جداً فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل شفوق عليهم ولا على واحد منهم وأما البون بين علي وأبي بكر أبين وأظهر فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر لخفاء التفاضل قالوا وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الارت فإن القصتين استويا في التحريم فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز وجل وعلى المسلمين أعظم جرماً وأوسع خرقاً وأشنع إثماً وأهول فيقاً من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب قالوا وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.
قال أبو محمد: هذا كلما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده.
قال أبو محمد: نبدء بعون الله عز وجل بإنكار الخوارج للتحكيم. قال أبو محمد: قالوا حكم على الرجال في دين الله تعالى والله عز وجل قد حرم ذلك بقوله " إن الحكم إلا لله " وبقوله تعالى " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ".
قال أبو محمد: ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلاً في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما حكم كلام الله عز وجل كما افترض الله تعالى عليه وإنما اتفق القوم كلهم إذ رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدلياً بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن الذي لا يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم فصح يقيناً لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا الذي لا يجوز غيره ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعراباً قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمر ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سليمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ولو لم يكن من جهلهم لأقرب عهدهم بخير الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاماً وأشهر وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي ﷺ ولا فرق لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله ﷺ ونقلوا إليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص نقلوا إليهم خبرة السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش وهم يقرون ويقرؤن قوله تعالى " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وقوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً " الآية وقوله تعالى " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا " ثم أعماهم الشيطان وضلهم الله تعالى على علم فحلوا بيعة مثل علي واعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل واعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز وجل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز وجل شهد بذلك فلم يبايعوا أحداً منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي ﷺ حتى تداركه الله عز وجل ففر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحداً يمينه ذو خويصرة الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله ﷺ في حكمه والاستدراك ورأى نفسه أورع من رسول الله ﷺ هذا وهو يقر أنه رسول الله ﷺ إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حماراً أو أضل ونعوذ بالله من الخذلان وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير إليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض وإذ ذلك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب وقد ذكرنا وجوب الايتمام بالإمام فإذ هذا كله كما ذكرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام ياتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعداً فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد ما فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيد أو من يستحق الإمامة لكانت أيضاً بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت أمامته وهذا برهان لا محيد عنه وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا شك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الاراغة والتدبير عليهم فبينوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وإضرامه فكلتي الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله ﷺ فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يديرونه عن إسلام مروان إليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت فهو على ذلك وجماعات من الصحابة فهم الحسن والحسين أبناء علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعماية من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تثبتاً إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه ولا خبر من ذلك عند أحد لعن الله من قتله والراضين بقتله فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم والحرام وأما قوله من قال أنه رضي الله عنه أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وأفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وجماعة غيرهم هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ولقد أمر رسول الله ﷺ برمي أجساد قتلا الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق الله تعالى وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلاً ميتاً ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا نبالي مؤمناً كان أو كافراً ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحة لأنه لا يخلو أن يكون عثمان كافراً أو فاسقاً أو مؤمناً فإن كان كافراً أو فاسقاً عنده فقد كان فرضاً على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمناً عنده فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمناًمطروحاً ميتاً على مزبلة لا يأمر بمواراته أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافراً أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة.
قال أبو محمد: ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن علياً رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه وإتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهزهم علياً وهم معه في المدينة وغيرها نعم والخوارج وهم يصيحون في نواحي المسجد بأعلا أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله فيقول لهم رضي الله عنه لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال ولم يبدءوهم بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب فلما قالوا كلنا قتله قاتلهم حينئذ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجهل لامتناعهم من بيعته هذا أفك ظاهر وجنون مختلف وكذب بحت بلا شك.
قال أبو محمد: وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله ﷺ عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له كبر كبر وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كان أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله ﷺ أن لهم أجراً واحداً وللعصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحاً لليث والبتي وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداوود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتيين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بموثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وإن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً وأيضاً في الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه أخبر عن ماوقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولي الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح أنهم أولي الطائفتين بالحق وأيضاً الخبر الصحيح عن رسول الله ﷺ تقتل عمارا الفئة الباغية.
قال أبو محمد: المجتهد المخطي إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصداً الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية وإن كان مأجوراً ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطي وبيان ذلك قول الله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " إلى قوله " إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم " فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باعين بعضهم أخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان وإنما هم مخطئون فقط باغون ولا يريد واحد منهم قتل آخر وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطي فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد احصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن علياً هو صاحب الحق فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن وكذلك إن كانت معاً باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه ﷺ لأنه كله من عند الله عز وجل قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى " وقال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفاً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحاربين لله تعالى ولرسوله ﷺ الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والإمامة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البرآءة منهم ولكنهم كانوا عدداً ضخماً جماً لا طاقة له عليهم فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق قال الله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وقال رسول الله ﷺ إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ولو أن معاوية بايع علياً لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة وعلي قد است قال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل سوآء كان هنالك من هو مثله أو أفضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته على غيره ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق فصح أن علياً هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذا استبان له وربما لم يستبن له حتى يموت عليه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وهو المسئول العصمة والهداية لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: فطلب علي حقه فقاتل عليه وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله ﷺ إذ قال ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي فغبطه رسول الله ﷺ بذلك ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إمامة المفضول
قال أبو محمد: ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من العتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه.
قال أبو محمد: وأما الرافضة فقالوا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين وما نعلم لمن قال أن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني أبا عبيدة وعمر وأبو بكر أفضل منهما بلا شك فما قال أحد من المسلمين أنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ثم عهدهم عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلاً وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الأعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث إلى أن مات.
قال أبو محمد: ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا والحمد لله على الإسلام فإن قال قائل كيف تحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله ﷺ وكيف تحتجون في هذا أيضاً بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافة أبي بكر عندكم نص من رسول الله ﷺ فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله ﷺ قلنا وبالله تعالى التوفيق إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين أحدهما تقديم من ليس قرشياً وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعاً فقامت به الحجة وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق وأما أمر أبي بكر فإن الحق كله له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله ﷺ وبين منزلة صبرها رسول الله ﷺ لإنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع محال لأن قريشاً مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحاري البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن والحكم بالظن لا يحل قال الله تعالى ذاماً لقوم " إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين " وقال تعالى " ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يخرصون " وقال تعالى " قتل الخراصون " وقال تعالى " إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى " وقال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وقال رسول الله ﷺ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وأيضاً فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ثم قد وجدنا رسول الله ﷺ قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلي عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب ابن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود وبلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا فصح يقيناً أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل وأيضاً فإن الفضائل كثيرة جداً منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائناً في بعضها ومتأخراً في بعضها ففي أيها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول فإن اقتصر على بعضها كان مدعياً بلا دليل وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبداً في أحد بعد رسول الله ﷺ فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطاً وهذا أيضاً دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها أن يكون صليبة من قريش لإخبار رسول الله ﷺ إن الإمامة فيهم وأن يكون بالغاً مميزاً لقول رسول الله ﷺ رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق وأن يكون رجلاً لقول رسول الله ﷺ لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة وأن يكون مسلماً لأن الله تعالى يقول " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى باصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا وأن يكون متقدماً لأمره عالماً بما يلزمه من فرائض الدين متقياً لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " لأن من قدم من لا يتق الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء أو معلناً بالفساد في الأرض غير مأمون أو من لا ينفذ أمراً أو من لا يدري شيئاً من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى وقد قال رسول الله ﷺ من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وقال عليه السلام يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقال تعالى " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً " الآية فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون ولياً للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلاً ثم يستحب أن يكون عالماً بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤدياً للفرائض كلها لا يخل بشيء منها مجتنباً لجميع الكبائر سراً وجهراً مستتراً بالصغائر إن كانت منه فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقاً بالناس في غير ضعف شديداً في إنكار المنكر من غير عنف ولا تجاوز للواجب مستيقظاً غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذر له في غير حقه ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائماً بأحكام القرآن وسنن رسول الله ﷺ فهذا يجمع كل فضيلة.
قال أبو محمد: ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلاً بل قال تعالى " كونوا قوامين بالقسط " فمن قام بالقسط فقد ادى ما أمر به ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة وذهب أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمس رجال ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه وأنبأ أن كل ذلك دعاو لا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحياء من قال أبو محمد: أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج والله تعالى لا يكلف نفساً وقال تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج ".
قال أبو محمد: ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة إلى طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى اسبنجاب وفرغانة واسروسنه إلى أقاصي خراسان إلى الجوزجان إلى كابل المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكناً لما لزم لأنه دعوى بلا برهان وإنما قال تعالى " تعاونوا على البر والتقوى وكونوا قوامين بالقسط " فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعداً لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحداً قيا بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبداً لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلاً فارغاً وهذا خروج عن الإسلام فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.
قال أو محمد: وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عرى عن ذلك من القرآن أو من سنة رسول الله ﷺ أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين قال الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه فسقط هذا القول أيضاً وأما قول الجبائي فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحداً منهم فصار الاختيار منهم بخمسة فقط.
قال أبو محمد: وهذا ليس شيء لوجوه أولها أن عمر لم يقل أن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلاً للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له إن كل هذا عندك اعتراضاً فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم وهذا مما لا مخلص منه أصلاً فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله ﷺ بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
قال أبو محمد: إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته والوجه الثاني إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعوا لي نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غير أمره وصوب ذلك رسول الله ﷺ إذ بلغه فعله وساعد خالداً جميع المسلمين رضي الله عنهم أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن لك معاونة على الإثم والعدوان وقد قال عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " كما فعل زيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثبات عن رسول الله ﷺ من قوله من بات ليلة ليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك والزيادة على ذلك باطل لا يحل على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة.
قال أبو محمد: فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله ﷺ فوابيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائناً من كان فلو قام اثنان فصاعداً معاً في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ومن البر تقليد الاسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلاً إذا كان مؤدياً للفرائض والسنن مجتنباً للكبائر مستتراً بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور فإن استويا في الفضل والسياسة اقرع بينهما أو نظر في غيرهما والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو محمد: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وبه قالت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه المقالة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل وقد روينا عن ابن عمر أنه قال لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها.
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر المعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قالوا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعدو حنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر الوراق ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه قال أبو محمد: احتجت الطائفة المذكورة أولاً بأحاديث فيها انقاتلهم يا رسول الله قال لا ما صلوا وفي بعضها إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب الضرب وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله وفي بعضها فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وفي بعضها كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وبقوله تعالى " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " الآية.
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبراً خبراً بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملاً كافية وبالله تعالى نتأيد أما أمره ﷺ بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وإما أن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله ﷺ بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وقد علمنا أن كلام رسول الله ﷺ لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " وقال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قاله رسول الله ﷺ فهو وحي من عند الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض فإذا كان هذا كذلك فبيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن من أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله ﷺ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلم ماله للأخذ ظلماً وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن " وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا قال الله عز وجل " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله ﷺ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان شيء وصح عن رسول الله ﷺ قال لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وإنه عليه السلام قال من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد وقال عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده فكان ظاهر هذه الأخبار معارضاً للآخر فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال عليه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زايدة وهي القتال هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به فقال على الله ما لم يعلم وهذا لا يحل ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخاً لقوله تعالى في القرآن تبياناً لكل شيء وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء " لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقاً لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفاً لها فهو المنسوخ المرفوع وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص قال أبو محمد: وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم وقد جاء عن رسول الله ﷺ أن سائلاً سأله عن من طلب ماله بغير حق فقال عليه السلام لا تعطه قال فإن قاتلني قال قاتله قال فإن قتلته قال إلى النار قال فإن قتلني قال فأنت في الجنة أو كلاماً هذا معناه وصح عنه عليه السلام أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله ﷺ وهذا يبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبه السلطان فاقتصر عليه السلام معها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام ولو اجتمع أهل الحق ما قاوا هم أهل الباطل نسأل الله المعونة والتوفيق.
قال أبو محمد: وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرونه فقط وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضاً فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه وقال بعضهم إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر فقال لهم الآخرون كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريماً ولا أن يأخذ مالاً بغير حق ولا أن يتعرض من لا يقاتله فإن فعل شيئاً من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره وأيضاً فلو كان خوف ما ذكروا مانعاً من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعاً من جهاد أهل الحرب وهذا ما لا يقوله مسلم وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة.
قال أبو محمد: ويقال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة فإن قالوا لا يجوز القيام عليه قيل لهم أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة وهذا أن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه وإن قالوا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم فإن قالوا فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قالوا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك. قال أبو محمد: والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الصلاة خلف الفاسق والجهاد معه والحج ودفع الزكاة إليه ونفاذ أحكامه من الأقضية والحدود وغير ذلك
قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أنه لا يجوز الصلاة إلا خلف الفاضل وهو قول الخوارج والزيدية والروافض وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة وقال آخرون إلا الجمعة والعيدين وهو قول لعض أهل السنة وذهبت طائفة الصحابة كلهم دون خلاف من أحد منهم وجميع فقهاء التابعين كلهم دون خلاف من أحد منهم وأكثر من بعدهم وجمهور أصحاب الحديثوهو قول أحمد والشافعي وأبي حنيفة وداود وغيرهم إلى جواز الصلاة خلف الفاسق الجمعة وغيرها وبهذا نقول وخلاف هذا القول بدعة محدثة فما تأخر قط أحد من الصحابة الذين أدركوا المختار بن عبيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وحبيش بن دلجة وغيرهم عن الصلاة خلفهم وهؤلاء أفسق الفساق وأما المختار فكان متهما في دينه مظنوناً به الكفر.
قال أبو محمد: احتج من يقول بمنع الصلاة خلفهم بقول الله تعالى " إنما يتقبل الله من المتقين ".
قال أبو محمد: في قال لهم كل فاسق إذا نوى بصلاته رحمة الله تعالى فهو في ذلك من المتقين فصلاته متقبلة ولو لم يكن من المتقين إلا من لا ذنب له ما استحق أحد هذا الاسم بعد رسول الله ﷺ قال الله عز وجل " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " ولا يجوز القطع على الفاسق بأنه لم يرد بصلاته وجه الله تعالى ومن قطع بهذا فقد قفا ما لا علم له به وقال ما لا يعلم وهذا حرام وقال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " وقال عز وجل " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " وقال بعضهم إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام.
قال أبو محمد: وهذا غاية الفساد لأنه قول بلا دليل بل البرهان يبطله لقوله تعالى " ولا تكسب كل نفس إلا عليها " وقول تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ودعوى الارتباط هاهنا قول بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من معقول وهم قد أجمعوا على أن طهارة الإمام لا تنوب عن طهارة المأموم ولا قيامه عن قيامه ولا قعوده عن قعوده ولا سجوده عن سجوده ولا ركوعه عن ركوعه ولا نيته عن نيته فما معنى هذا الارتباط الذي تدعونه إذاً وأيضاً فإن القطع عن سريرة الذي ظاهره الفضل لا يجوز وإنما هو ظن فاستوى الأمر في ذلك في الفاضل والفاسق وصح أنه لا يصلي أحد عن أحد وإن كل أحد يصلي عن نفسه وقال تعالى " أجيبوا داعي الله " فوجب بذلك ضرورة أن كل داع دعا إلى خير من صلاة أو حج أو جهاد أو تعاون على بر وتقوى ففرض إجابته وعمل ذلك الخير معه لقول الله تعالى " تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وإن كل داع دعى إلى شر فلا يجوز إجابته بل فرض دفاعه ومنعه وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الفسق منزلة نقص عمن هو أفضل منه والذي لا شك فيه أن النسبة بين أفجر فاجر من المسلمين وبين أفضل الصحابة رضي الله عنهم أقرب من النسبة بين أفضل الصحابة رضي الله عنهم وبين رسول الله ﷺ وما عرى أحد من تعمد ذنب وتقصير بعد رسول الله ﷺ وإنما تفاضل المسلمون في كثرة الذنوب وقلتها وفي اجتناب الكبائر ومواقعتها وأما الصغائر فما نجا منها أحد بعد الأنبياء عليهم السلام وقد صلى رسول الله ﷺ خلف أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وبهذا صح أن أمر رسول الله ﷺ أن يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن استووا فأفقههم ندب لا فرض فليس لفاضل بعد هذا أن يمتنع من الصلاة خلف من هو دونه في القصوى من الغايات.
قال أبو محمد: وأما دفع الزكاة إلى الإمام فإن كان الإمام القرشي الفاضل أو الفاسق لم ينازعه فاضل فهي جارية لقول رسول الله ﷺ ارضوا مصديقكم ولا يكون مصدقاً كل من سمى نفسه مصدقاً لكن من قام البرهان بأنه مصدق بإرسال الإمام الواجبة طاعته له وإما من سألها من هو غير الإمام المذكور أو غير مصدقه فهو عابر سبيل لا حق له في قبضها فلا يجزي دفعها إليه لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه وقد قال رسول الله ﷺ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد وهكذا القول في الأحكام كلها من الحدود وغيرها إن أقامها الإمام الواجبة طاعته والذي لا بد منه فإن وافقت القرآن والسنة نفذت وإلا فهي مردودة لما ذكرنا وإن أقامها غير الإمام أو واليه فهي كلها مردودة ولا يحتسب بها لأنه أقامها من لم يؤمر بإقامتها فإن لم يقدر عليها الإمام فكل من قام بشيء من الحق حينئذ نفذ لأمر الله تعالى لنا بأن نكون قوامين بالقسط ولا خلاف بين أحد من الأمة إذ كان الإمام حاضراً متمكناً أو أميره أو واليه فإن من بادر إلى تنفيذ حكم هوالي الإمام فإنه إما مظلمة ترد وإما عزل لا ينفذ على هذا جرى عمل رسول الله ﷺ وجميع عماله في البلاد بنقل جميع المسلمين عصراً بعد عصر ثم عمل جميع الصحابة رضي الله عنهم وأما الجهاد فهو واجب مع كل إمام وكل متغلب وكل باغ وكل محارب من المسلمين لأنه تعاون على البر والتقوى وفرض على كل أحد الدعا إلى الله تعالى وإلى دين الإسلام ومنع المسلمين ممن أرادهم قال تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " الآية فهذا عموم لكل مسلم بنص الآية في كل مكان وكل زمان وبالله تعالى التوفيق تم كتاب الإمامة والمفاضلة بحمد الله تعالى وشكره.
ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع المعتزلة والخوارج والمرجئية والشيع
قال أبو محمد: قد كتبنا في ديواننا هذا من فضايح الملل المخالفة لدين الإسلام الذي في كتبهم من اليهود والنصارى والمجوس ما لا بقية لهم بعدها ولا يمتري أحد وقف عليها إنهم في ضلال وباطل ونكتب إن شاء الله تعالى على هذه الفرق الأربعة من فواحش أقوالهم ما لا يخفى على أحد قراه أنهم في ضلال وباطل ليكون ذلك زاجراً لمن أراد الله توفيقه عن مضامتهم أو التمادي فيهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما لم يقله نصاً وإن آل قوله إليه إذ قد لا يلزم ما ينتجه قوله فيتناقض فاعلموا أن تقويل القائل كافراً كان أو مبتدعاً أو مخطئاً ما لا يقوله نصاً كذب عليه ولا يحل الكذب على أحد لكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل ويحسن النظر بهم من أتباعهم وليبعد فهم تلك العظيمة على العامة من مخالفتهم كقول طوائف من أهل البدعة والضلالة لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال ولا على الظلم ولا على الكذب ولا على غير ما علم أنه يكون فأخفوا أعظم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تأنيس الأغمار من أتباعهم وتسكين الدهما من مخالفيهم فراراً عن كشف معتقدهم صراحاً الذي هو أنه تعالى لا يقدر على الظلم ولا له قوة على الكذب ولا به طاقة على المحال ولا بد لنا من إيضاح ما موهوه هكذا وإيراده بأظهر عباراته كشفاً لتمويههم وتقرباً إلى الله تعالى بهتك أستارهم وكشف أسرارهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ذكر شنع الشيعة
قال أبو محمد: أهل الشنع من هذه الفرقة ثلاث طوايف أولها الجارودية من الزيدية ثم الإمامية من الرافضة ثم الغالية فأما الجارودية فإن طائفة منهم قالت أن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب القائم بالمدينة علي ابن جعفر المنصور فوجه إليه المنصور عيسى بن موسى بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس فقتل محمد بن عبد الله بن الحسن رحمه الله فقالت هذه الطائفة أن محمداً المذكور حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة أخرى منهم أنه يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالكوفة أيام المستعين فوجه إليه محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بأمر المستعين ابن عمة الحسن بن إسماعيل ابن الحسين وهو ابن أخي طاهر بن الحسين فقتل يحيى بن عمر رحمه الله فقالت الطائفة المذكورة أن يحيى بن عمر هذا حي لم يقتل ولا مات ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة منهم أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القايم بالطالقان أيام المعتصم حي لم يمت ولا قتل ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت الكيسايية وهم أصحاب المختار بن أبي عبيد وهم عندنا شعبة من الزيدية في سبيلهم أن محمد بن علي بن أبي طالب وهو ابن الحنفية حي بجبال رضوي عن يمينه أسد وعن يساره نمر تحدثه الملائكة يأتيه رزقه غدواً وعشياً لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقال بعض الروافض الإمامية وهي الفرقة التي تدعي الممطورة أن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقالت طائفة منهم وهم الناووسية أصحاب ناوس المصري مثل ذلك في أبيه جعفر بن محمد وقالت طائفة منهم مثل ذلك في أخيه إسماعيل بن جعفر وقالت السبابية أصحاب عبد الله بن سبا الحميري اليهودي مثل ذلك في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا أنه في السحاب فليت شعري في أي سحابة هو من السحاب والسحاب كثير في أقطار الهواء مسخر بين السماء والأرض كما قال الله تعالى وقال عبد الله بن سبا إذ بلغه قتل علي رضي الله عنه لو أتيتمونا بدماغه سبعين مرة ما صدقنا موته ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وقال بعض الكيسانية بأن أبا مسلم السراج حي لم يمت وسيظهر ولا بد وقال بعض الكيسانية بأنه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حي بجبال أصبهان إلى اليوم ولا بد له من أن يظهر وعبد الله هذا هو القائم بفارس أيام مروان بن محمد وقتله أبو مسلم بعد أن سجنه دهراً وكان عبد الله هذا ردي الدين معطلاً مستصحباً للدهرية.
قال أبو محمد: فصار هؤلاء في سبيل اليهود القائلين بأن ملكصيدق بن عامر بن ارفخشد بن سام ابن نوح والعبد الذي وجهه إبراهيم عليه السلام ليخطب ريقا بنت بنؤال بن ناخور بن تارخ علي إسحاق ابنه عليه السلام والياس عليه السلام وفنحاس بن العازار بن هارون عليه السلام أحياء إلى اليوم وسلك هذا السبيل بعض تركي الصوفية فزعموا أن الخضر والياس عليهما السلام حيان إلى اليوم وادعى بعضهم أنه يلقي الياس في الفلوات والخضر في المروج والرياض وأنه متى ذكر حضر على ذاكره.
قال أبو محمد: فإن ذكر في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وفي ألف موضع في دقيقة واحدة كيف يصنع ولقد لقينا من يذهب إلى هذا خلقاً وكلمناهم منهم المعروف بابن شق الليل المحدث بطلبيره وهو مع ذلك من أهل العناية وسعة الرواية ومنهم محمد بن عبد الله الكاتب وأخبرني أنه جالس الخضر وكلمه مراراً وغيره كثير هذا مع سماعهم قول الله تعالى " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وقول رسول الله ﷺ لا نبي بعدي فكيف يستجيز مسلم أن يثبت بعده عليه السلام نبياً في الأرض حاشا ما استثناه رسول الله ﷺ في الآثار المسندة الثابتة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان وكفار برغواطه إلى اليوم ينتظرون صالح بن طريق الذي شرع لهم دينهم وقالت القطيعية من الإمامية الرافضة كلهم وهم جمهور الشيعة ومنهم المتكلمون والنظارون والعدد العظيم بأن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب حي لم يمت ولا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وهو عندهم المهدي المنتظر وبقول طائفة منهم أن مولد هذا الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين سنة موت أبيه وقالت طائفة منهم بل بعد موت أبيه بمدة وقالت طائفة منهم بل في حياة أبيه ورووا ذلك عن حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى وأنها شهدت ولادته وسمعته يتكلم حين سقط من بطن أمه ويقرأ القرآن وأن أمه نرجس وأنها كانت هي القابلة وقال جمهورهم بل أمه صقيل وقالت طائفة منهم بل أمه سوسن وكل هذا هوس ولم يعب الحسن المذكور لا ذكراً ولا أنثى فهذا أول نوك الشيعة ومفتاح عظيماتهم وأخفها وإن كانت مهلكة ثم قالوا كلهم إذ سئلوا عن الحجة فيما يقولون حجتنا الإلهام وأن من خالفنا ليس لرشده فكان هذا طريقاً جداً وليت شعري ما الفرق بينهم وبين عيار مثلهم يدعي في إبطال قولهم الإلهام وأن الشيعة ليسوا رشدة أو أنهم نوكة أو أنهم جملة ذووا شعبة من جنون في رؤوسهم وما قولهم فيمن كان منهم ثم صار في غيرهم أو من كان في غيرهم فصار فيهم أتراه ينتقل من ولادة الغية إلى ولادة الرشدة ومن ولادة الرشدة إلى ولادة الغية فإن قالوا حكمه لما يموت عليه قيل لهم فلعلكم أولاد غية إذ لا يؤمن رجوع الواحد فالواحد منكم إلى خلاف ما هو عليه اليوم والقوم بالجملة ذووا أديان فاسدة وعقول مدخولة وعديموا حياء ونعوذ بالله من الضلال وذكر عمرو بن بحر الجاحظ وهو وإن كان أحد المجان ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلال المضلين فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها وإن كان كثيراً لا يراد كذب غيره قال أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قال ا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق ويحك أما استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة أن الله تعالى لم يقل قط في القرآن " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " قال ا فضحك والله شيطان الطاق ضحكاً طويلاً حتى كأنا نحن الذي أذنبنا قال النظام وكنا نكلم علي ابن ميتم الصابوني وكل من شيوخ الرافضة ومتكلميهم فنسأله أرأي أم سماع عن الأئمة فينكر أن يقوله برأي فتخبره بقوله فيها قبل ذلك قال فوالله ما رأيته خجل من ذلك ولا استحيا لفعله هذا قط ومن قول الإمامية كلها قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير وبدل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن ابن علي ابن أبي طالب وكان إمامياً يظاهر بالاعتزال مع ذلك فإنه كان ينكر هذا القول ويكفر من قاله وكذلك صاحباه أبو يعلي ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي.
قال أبو محمد: القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صحيح وتكذيب لرسول الله ﷺ وقالت طائفة من الكيسانية بتناسخ الأرواح وبهذا يقول السيد الحمري الشاعر لعنه الله ويبلغ الأمر بمن يذهب إلى هذا إلى أن يأخذ أحدهم البغل أو الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه فأعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له وما الذي خص هذا البغل الشقي أو الحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير وكذلك يفعلون بالعنز على أن روح أم المؤمنين رضي الله عنها فيها وجمهور متكلميهم كهشام ابن الحكم الكوفي وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقول أن علم الله تعالى محدث وأنه لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماًوهذا كفر صريح وقد قال هشام هذا في حين مناظرته لأبي الهذيل العلاف أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه وهذا كفر صحيح وكان داود الجوازي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الإنسان ولا يختلفون في أن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين أفيكون في صفاقة الوجه وصلابة الخد وعدم الحياء والجرأة على الكذب أكثر من هذا على قرب العهد وكثرة الخلق وطائفة منهم تقول أن الله تعالى يريد الشيء ويعزم عليه ثم يبدو له فلا يفعله وهذا مشهور للكيسانية ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة ومنهم من يحرم الكرنب لأنه إنما نبت على دم الحسين ولم يكن قبل ذلك وهذا في قلة الحياء قريب مما قبله وكما يزعم كثير منهم أن علياً لم يكن له سمى قبله وهذا جهل عظيم بل كان في العرب كثير يسمون هذا الاسم كعلي بن بكر بن وايل إليه يرجع كل بكري في العالم في نسبه وفي الأزد علي وفي بجيله علي وعيرها كل ذلك في الجاهلي مشهور وأقرب من ذلك عامر بن الطفيل يكني أبا علي ومجاهراتهم أكثر مما ذكرنا ومنهم طائفة تقول بفناء الجنة والنار وفي الكيسانية من يقول أن الدنيا لا تفنى أبداً ومنهم طائفة تسمى النحيلة نسبوا إلى الحسن بن علي بن ورصند النحلي كان من أهل نفطة من عمل قفصة وقسطيلية من كور أفريقية ثم نهض هذا الكافر إلى السوس في أقاصي بلاد المصامدة فأضلهم وأضل أمير السوس أحمد بن إدريس بن يحيى بن إدريس ابن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب فهم هنالك كثير سكان في ربض مدينة السوس معلنون بكفرهم وصلاتهم خلاف صلاة المسلمين لا يأكلون شيئاً من الثمار زبل أصله ويقولون أن الإمامة في ولد الحسن دون ولد الحسين ومنهم أصحاب أبي كامل ومن قولهم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم كفروا بعد موت النبي ﷺ إذ جحدوا إمامة علي وأن علياً كفر إذا سلم الأمر إلى أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم قال جمهورهم أن علياً ومن ابتعه رجعوا إلى الإسلام إذ دعى إلى نفسه قتل عثمان وإذ كشف وجهه وسل سيفه وأنه وإياهم كانوا قبل ذلك مرتدين عن الإسلام كفاراً مشركين ومنهم من يرد الذنب في ذلك إلى النبي ﷺ إذ لم يبين الأمر بياناً رافعاً للأشكال.
قال أبو محمد: وكل هذا كفر صريح لا خفاء به فهذه مذاهب الإمامية وهي المتوسطة في الغوة من فرق الشيعة وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان قسم أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ لغيره والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله عز وجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي ﷺ فرق منهم الغرابية وقولهم أن محمداً ﷺ كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب وأن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط وقالت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل وكفروه ولعنوه لعنهم الله.
قال أبو محمد: فهل سمع بأضعف عقولاً وأتم رقاعة من قوم يقولون أن محمداً ﷺ كان يشبه علي بن أبي طالب فيا للناس أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام ثم محمد عليه السلام فوق الربعة إلى الطول قويم القناة كث اللحية ادلج العينين ممتلي الساقي ﷺ قليل شعر الجسد أفرع وعلي دون الرعبة إلى القصر منكب شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر عظيم اللحية قد ملئت صدره من منكب إلى منكب إذ التحي ثقيل العينين دقيق الساقين أصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره يسير كثير شعر اللحية فأعجبوا لحمق هذه الطبقة ثم لو جاز أن يغلط جبريل وحاشا لروح القدس الأمين كيف غفل الله عز وجل عن تقويمه وتنبيهه وتركه على غلطه ثلاثاً وعشرين سنة ثم أظرف من هذا كله من أخبرهم بهذا الخبر ومن خفرهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام ثم شاهد خلافه فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق وفرقة قالت بنبوة علي وفرقة قالت بأن علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بم محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي والحسن بن محمد والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط وهم طائفة من القرامطة وفرقة قالت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط وهم طائفة من الكيسانية وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه وسجع اسجاعاً وأنذر بالغيوب عن الله وأتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة وقال بإمامة محمد بن الحنفية وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة وهو الذي أحرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار وكان لعنه الله يقول أن معبوده صورة رجل على رأسه تاج وأن أعضاءه على عدد حرف الهجا الألف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً وكان لعنه الله يقول أن معبوده لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأكبر فوقع على تاجه ثم كتب بإصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات فلما رأى المعاصي أرفض به عرقاً فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني نير عذب ثم اطلع في البحر فرأى ظلمة فذهب ليأخذه فطار فأخذه فقلع عيني ذلك الظل ومحقه فخلق من عينيه الشمس وشمساً أخرى وخلق الكفار من البحر المالح وخلق المؤمنين من البحر العذب في تخليط لهم كثير وكان مما يقول أن الأنبياء لم يختلفوا قط في شيء من الشرايع وقد قيل أن جابر بن يزيد الجعفي الذي يروي عن الشعبي كان خليفة المغيرة ابن سعيد إذ حرقه خالد بن عبد الله القسري فلما مات جابر خلفه بكر الأعور الهجري فلما مات فوضوا أمرهم إلى عبد الله بن المغيرة رئيسهم المذكور وكان لهم عدد ضخم بالكوفة وآخر ما وقف عليه المغيرة ابن سعيد القول بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وتحريم ماء الفرات وكل ماء نهر أو عين أو بئر وقعت فيه نجاسة فبرئت منه عند ذلك القائلون بالإمامة في ولد الحسين وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي صلبه وأحرقه خالد بن عبد القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد وجبن المغيرة بن سعيد عن اعتناق حزمة الحطب جبناً شديداً حتى ضم إليها قهراً وبادر بيان بن سمعان إلى الحزمة فاعتنقها من غير إكراه ولم يظهر منه جزع فقال خالد لأصحابهما في كل شيء أنتم مجانين هذا كان ينبغي أن يكون رئيسكم لا هذا الفسل وكان بيان لعنه الله يقول أن الله تعالى يفنى كله حاشا وجهه فقط وظن المجنون أنه تعلق في كفره هذا بقول الله تعالى " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك " ولو كان له أدنى عقل أو فهم لعلم أن الله تعالى إنما أخبر بالفناء عما على الأرض فقط بنص قوله الصادق " كل من عليها فان " ولم يصف عز وجل بالفناء غير ما على الأرض ووجه الله تعالى هو الله وليس هو شيئاً غيره وحاشا لله من أن يوصف بالتبعيص والتجزي هذه صفة المخلوقين المحدودين لا صفة من لا يحد ولا له مثل وكان لعنه الله يقول أنه المعني بقول الله تعالى " هذا بيان للناس " وكان يذهب إلى أن الإمام هو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية ثم هي في سائر ولد علي كلهم وقالت فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي وهو الملقب بالكسف وكان يقال أنه المراد بقول الله عز وجل " وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً " وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة وكان لعنه الله يقول أنه عرج به إلى السماء وأن الله تعالى مسح رأسه بيده وقال له ابني اذهب فبلغ عني وكان يمين أصحابه لا والكلة وكان لعنه الله يقول بأن أول من خلق الله تعالى عيسى بن مريم ثم علي بن أبي طالب وكان يقول بتواتر الرسل وأباح المحرمات من الزنا والخمر والميتة والخنزير والدم وقال إنما هم أسماء رجال وجمهور الرافضة اليوم على هذا أسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج وأصحابه كلهمخناقون رضاخون وكذلك أصحاب المغيرة بن سعيد ومعناهم في ذلك أنهم لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذي ينتظرونه فهم قتلون الناس بالخنق وبالحجارة والخشبية بالخشب فقط وذكر هشام بن الحكم الرافضي في كتابه المعروف بالميزان وهو أعلم الناس بهم لأنه جارهم بالكوفة وجارهم في المذهب أن الكسفية خاصة يقتلون من كان منهم ومن خالفهم ويقولون نعجل المؤمن إلى الجنة والكافر إلى النار وكانوا بعد موت أبي منصور يؤدون الخمس مما يأخذون ممن خنقوه إلى الحسن بن أبي المنصور وأصحابه فرقتان فرقة قالت أن الإمام بعد محمد بن علي بن الحسن صارت إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وفرقة قالت بل إلى أبي النمصور الكسف ولا تعود في ولد علي أبداً وقالت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة وإن وقع هذه الدعوة لهم في حايك لظريفة وفرقة قالت بنبوة معمر بايع الحنطة بالكوفة وقالت فرقة بنبوة عمير التبان بالكوفة وكان لعنه الله يقول لأصحابه لو شئت أن أعيد هذا التبن تبراً لفعلت وقدم إلى خالد بن عبد الله القسري بالكوفة فتجلد وسب خالداً فأمر خالد بضرب عنقه فقتل إلى لعنة الله وهذه الفرق الخمس كلها من فرق الخطابية وقالت فرقة من أولئك شيعة بني العباس بنبوة عمار الملقب بخداش فظفر به أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري فقتله إلى لعنة الله والقسم الثاني من فرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبا الحميري لعنه الله أتوا إلى علي بن أبي طالب فقالوا مشافهة أنت هو فقال لهم ومن هو قالوا أنت الله فاستعظم الأمر وأمر بنار فأججت وأحرقهم بالنار فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار الآن صح عندنا أنه الله لأنه لا يعذب بالنار إلا الله وفي ذلك يقول رضي الله عنه: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناراً ودعوت قنبرا يريد قنبراً مولاه وهو الذي تولى طرحهم في النار نعوذ بالله من أن نفتتن بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق فإن محنة أبي الحسن رضي الله عنه بين أصحابه رضي الله عنهم كمحنة عيسى ﷺ بين أصحابه من الرسل عليهم السالم وهذه الفرقة باقية إلى اليوم فاشية عظيمة العدد يسمون العليانية منهم كان إسحاق بن محمد النخعي الأحمر الكوفي وكان من متكلميهم وله في ذلك كتاب سماه الصراط نقض عليه البهنكي والفياض لما ذكرنا ويقولون أن محمداً رسول علي وقالت طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية أن محمداً عليه السلام هو الله تعالى الله عن كفرهم ومن هؤلاء كان البهنكي والفياض بن علي وله في هذا المعنى كتاب سماه القسطاس وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ثم لأمير المؤمنين المعتضد وفيه يقول البحتري القصيدة المشهورة التي أولها: شط من مساكن الغرير مرارة وطوته البلاد والله حارة والفياض هذا لعنه الله قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب لكونه من جملة من سعى به أيام المعتضد والقصة مشهورة وفرقة قالت بإلاهية آدم عليه السلام والنبيين بعده نبياً نبياً إلى محمد عليه السلام ثم بإلاهية علي ثم بإلاهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ووقفوا هاهنا وأعلنت الخطابية بذلك نهاراً بالكوفة في ولا ية عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فخرجوا صدر النهار في جموع عظيمة في أزراوردية محرمين ينادون بأعلى أصواتهم لبيك جعفر لبيك جعفر قال ابن عياش وغيره كأني أنظر إليهم يومئذ فخرج إليهم عيسى بن موسى فقاتلوه فقتلهم واصطلمهم ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالت بإلاهية محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد وهم القرامطة وفيهم من قال بإلاهية أبي سعيد الحسن بن بهرام الجبائي وأبنائه بعده ومنهم من قال بإلاهية أبي القاسم النجار القائم باليمن في بلاد همدان المسمى بالمنصور وقالت طائفة منهم بإلاهية عبيد الله ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا وقالت طائفة بإلاهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد بالكوفة وكثر عددهم بها حتى تجاوزوا الألوف وقالوا هو إله وجعفر بن محمد إله إلا أن أبا الخطاب أكبر منه وكانوا يقولون جميع أولاد الحسن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون أنهم لا يموتون ولكنهم يرفعون إلى السماء وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون ثم قالت طائفة منهم بإلاهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه وكان من أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله أجمعين وقالت طائفة بإلاهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعي الوزير ابن حامد بن العباس رحمه الله أيام المقتدر وقالت طائفة بإلاهية محمد بن علي بن السلمعان الكاتب المقتول ببغداد أيام الراضي وكان أم أصحابه أن يفسق الأرفع قدراً منهم به ليولج فيه النور وكل هذه الفرق ترى الاشتراك في النساء وقالت طائفة منهم بإلاهية شباش المغيم في وقتنا هذا حياً بالبصرة وقالت طائفة منهم بإلاهية أبي مسلم السراج ثم قالت طائفة من هؤلاء بإلاهية المقنع الأعور القصار القائم بثار أبي مسلم واسم هذا القصار هاشم وقتل لعنه الله أيام المنصور وأعلنوا بذلك فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم إلى لعنة الله وقالت الرنودية بإلاهية أبي جعفر المنصور وقالت طائفة منهم بإلاهية عبد الله ابن الخرب الكندي الكوفي وعبدوه وكان يقول بتناسخ الأرواح وفرض عليهم تسعة عشر صلاة في اليوم والليلة في كل صلاة خمسة عشر ركعة إلى أن ناظره رجل من متكلمي الصفرية وأوضح له براهين الدين فأسلم وصح إسلامه وتبرأ من كل ما كان عليه وأعلم أصحابه بذلك وأظهر التوبة فتبرأ منه جميع أصحابه الذين كانوا يعبدونه ويقولون بإلاهيته ولعنوه وفارقوه ورجعوا كلهم إلى القول بإمامة عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب وبقي عبد الله بن الخرب على الإسلام وعلى مذهب الصفرية إلى أن مات وطائفته إلى اليوم تعرف بالحزبية ومن السابية القائلين بإلاهية علي وطائفة تدعى النصرية وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن والشام وعلى مدينة طبرية خاصة ومن قولهم لهن فاطمة بنت رسول الله ﷺ ولعن الحسن والحسين ابني علي رضي الله عنهم وسبهم بأقذع السب وقذفهم بكل بلية والقطع بأنها وابنيها رضي الله عنهم ولعن مبغضهم شياطين تصوروا في صورة الإنسان وقولهم في عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي رضي الله عنه عن علي ولعنة الله على ابن ملجم فيقول هؤلاء أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي أفضل أهل الأرض وأكرمهم في الآخرة لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره فأعجبوا لهذا الجنون واسألوا الله العافية من بلاد الدنيا والآخرة فهي بيده لا بيد أحد سواه جعل الله حظنا منها الأوفى واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية فإن من الصوفية من يقول أن من عرف الله تعالى سقطت عنه الشرايع وزاد بعضهم واتصل بالله تعالى وبلغنا أن بنيسابور اليوم في عصرنا هذا رجلاً يكنى أبا سعيد أبا الخير هكذا معاً من الصوفية مرة يلبس الصوف ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال ومرة يصلي في اليوم ألف ركعة ومرة لا يصلي لا فرضية ولا نافلة وهذا كفر محض ونعوذ بالله من الضلال.
ذكر شنع الخوارج
ذكر بعض من جمع مقالات المنتمين إلى الإسلام أن فرقة من الأباضية رئيسهم رجل يدعى زيد بن أبي أبيسه وهو غير المحدث المشهور كان يقول أن في هذه الأمة شاهدين عليها هو أحدهما والآخر لا يدري من هو ولا متى هو ولا يدري لعله قد كان قبله وإن من كان من اليهود والنصارى يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى العرب لا إلينا كما تقول العيسوية من اليهود قال فإنهم مؤمنون أولياء الله تعالى وإن ماتوا على هذا العقد وعلى التزام شرائع اليهود والنصارى وإن دين الإسلام سيسنخ بنبي من العجم يأتي بدين الصابئين وبقرآن آخر ينزل عليه جملة واحدة.
قال أبو محمد إلا أن جميع الأباضية يكفرون من قال بشيء من هذه المقالات ويبرؤون منه ويستحلون دمه وماله وقالت طائفة من أصحاب الحرث الأباضي أن من زنا أو سرق أو قذف فإنه يقام عليه الحد ثم يستتاب مما فعل فإن تاب ترك وإن أبى التوبة قتل على الردة.
قال أبو محمد: وشاهدنا الأباضية عندنا بالأندلس يحرمون طعام أهل الكتب ويحرمون أكل قضيب التيس والثور والكبش ويوجبون القضاء على من نام نهاراً في رمضان فاحتلم ويتيممون وهم على الآبار التي يشربون منها إلا قليلاً منهم وقال أبو إسماعيل البطيحي وأصحابه وهم من الخوارج أن لا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وركعة أخرى بالعشي فقط ويرون الحج في جميع شهور السنة ويحرمون أكل السمك حتى يذبح ولا يرون أخذ الجزية من المجوس ويكفرون من خطب في الفطرة والأضحى ويقولون أن أهل النار في النار في لذة ونعيم وأهل الجنة كذلك.
قال أبو محمد: وأصل أبي إسماعيل هذا من الأزارقة إلا أنه على عن سائر الأزارقة وزاد عليهم وقالت سائر الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق بإبطال رجم من زنى وهو محصن وقطعوا يد السارق من المنكب وأوجبوا على الحائض الصلاة والصيام في حيضها وقال بعضهم لا ولكن تقضي الصلاة إذا ظهرت كما تقتضي الصيام وأباحوا دم الأطفال ممن لم يكن في عسكرهم وقتل النساء أيضاً ممن ليس في عسكرهم وبرئت الأزارقة ممن قعدهن الخروج لضعف أو غيره وكفروا من خالف هذا القول بعد موت أول من قال به منهم ولم يكفروا من خالفه فيه في حياته وقالوا باستعراض كل من لقوه من غير أهل عسكرهم ويقتلونه إذا قال أنا مسلم ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو النصارى أو إلى المجوس وبهذا شهد رسول الله ﷺ بالمروق من الدين كما يمرق السهم من الرميه إذ قال عليه السلام أنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان وهذا من أعلام نبوته ﷺ إذ أنذر بذلك وهو من جزئيات الغيب فخرج نصاً كما قال.
قال أبو محمد: وقد بادت الأزارقة إنما كانوا هل عسكر واحد أو لهم نافع بن الأزرق وآخرهم عبدة بن هلال العسكري واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة إلا أني أشك في صبيح مولى سوار بن الأسعر المازني مازن تميم أخرج برأي الأزارقة أيام هشام بن عبد الملك أم برأي الصفرية لأن أمره لم يطل أسر أثر خروجه وقتل وقالت النجدات وهم أصحاب نجدة بن عويم الحنفي ليس على الناس أن يتخذوا إماماً إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وقالوا من ضعف عن الهجرة إلى عسكرهم فهو منافق واستحلوا دم القعدة وأموالهم وقالوا من كذب كذبة صغيرة أو عمل عملاً صغيراً فأصر على ذلك فهو كافر مشرك وكذلك أيضاً في الكبائر وأن من عمل من الكبائر غير مصر عليها فهو مسلم وقالوا جائز أن يعذب الله المؤمنين بذنوبهم لكن في غير النار وأما النار فلا وقالوا أصحاب الكبائر منهم ليسوا كفاراً وأصحاب الكبائر من غيرهم كفار وقد بادت النجدات وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر وكانوا يؤلون الحق بالباطل وقد بادت هذه الطائفة وقالت الميمونية وهم فرقة من العجاردة فرقة من الصفرية بإجازة نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات بني الأخوة والأخوات وذكر ذلك عنهم الحسين بن علي الكراسي وهو أحد الأئمة في الدين والحديث ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الإباضية والصفرية فقط وقالت طائفة من أصحاب البهيسية وهم أصحاب أبي بيهس وهم من فرق الصفرية إن كان صاحب كبيرة فيها حد فإنه لا يكفر حتى يرفع إلى الإمام فإذا أقام عليه الحد فحينئذ يكفر وقالت الرشيدية وهم من فرق الثعالبة والثعالبة من فرق الصفرية أن الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالأنهار والعيون وقالت العونية وهم طائفة من البيهسية التي ذكرنا آنفاً أن الإمام إذا قضي قضية جور وهو بخراسان أو بغيرها حيث كان من البلد ففي ذلك الحين نفسه يكفر هو وجميع رعيته حيث كانوا من شرق الأرض وغربها ولو بالأندلس واليمن فما بين ذلك من البلاد وقالوا أيضاً لو وقعت قطرة خمر ف يجب ماء بفلاة من الأرض فإن كل من خطر على ذلك الجب فشرب منه وهو لا دري ما وقع فيه كافر بالله تعالى قالوا إلا أن الله تعالى يوفق المؤمن لاجتنابه وقالت الفضيلية من الصفرية من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بلسانه ولم يعتقد ذلك بقلبه بل اعتقد الكفر أو الدهرية أو اليهودية أو النصرانية فهو مسلم عند الله مؤمن ولا يضره إذ قال الحق بلسانه ما اعتقد بقلبه وقالت طائفة من الصفرية أن النبي ﷺ إذا بعث ففي حين بعثه في ذلك الوقت من ذلك اليوم لزم جميع أهل المشرق والمغرب الإيمان به وإن لم يعرفو جميع ما جاء به من الشرائع فمن مات منهم قبل أن يبلغه شيء من ذلك مات كافراً وقالت العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد من الصفرية أن من بلغ الحلم من أولادهم وبناتهم فهم براء منه ومن دينه حتى يقر بالإسلام فيتولوه حينئذ.
قال أبو محمد: فعلى هذا إن قتله قاتل قبل أن يلفظ بالإسلام فلا قود ولا دية وإن مات لم يرث ولم يورث وقالت طائفة من العجاردة لا نتولى الأطفال قبل البلوغ ولا نبرأ منهم لكن نقف قال أبو محمد: والعجاردة هم الغالبون على خوارج خراسان كما أن النكار من الإباضية هم الغالبون على خوارج الأندلس وقالت المكرمية وهم أصحاب أبي مكرم وهم من الثعالبة أصحاب ثعلبة وهو من الصفرية وإلى قول الثعالبة رجع عبد الله بن أباض فبرئ منه أصحابه فهم لا يعرفونه اليوم ولقد سألنا من هو مقدمهم في علمهم ومذهبهم عنهم فما عرفه أحد منهم وكان من قول المكرمية هولاء أن من أتى كبيرة فقد جهل الله تعالى فهو كافر ليس من أجل الكبيرة كفر كلن لأنه جهل الله عز وجل فهو كافر بجهله بالله تعالى وقالت طائفة من الخوارج ما كان من المعاصي فيه حد كالزنا والسرقة والقذف فليس فاعله كافراً ولا مؤمناً ولا منافقاً وأما ما كان من المعاصي لأحد فيه فهو كفر وفاعله كافر وقالت الحفصية وهم أصحاب حفص بن ابي المقدام من الأباضية من عرف الله تعالى وكفر بالنبي ﷺ فهو كافر وليس بمشرك وإن جهل الله تعالى أو جحده فهو حينئذ مشرك وقال بعض أصحاب الحرث الأباضي المنافقون على عهد رسول الله ﷺ إنما كانوا موحدين لله تعالى أصحاب كبائر ومن حماقتهم قول بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد فإنه كان يقول كل ذنب صغير أو كبير ولو كان أخذ حبة خردل بغير حق أو كذبة خفيفة على سبيل المزاح فهي شرك بالله وفاعلها كافر مشرك مخلد في النار إلا أن يكون من أهل بدر فهو كافر مشرك من أهل الجنة وهذا حكم طلحة والزبير رضي الله عنهما عندهم ومن حماقاتهم قول عبد الله بن عيسى تلميذ بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد المذكور فإنه كان يقول أن المجانين والبهايم والأطفال ما لم يبلغوا الحلم فإنهم لا يألمون البتة لشيء مما ينزل بهم من العلل وحجته في ذلك أن الله تعالى لا يظلم أحداً.
قال أبو محمد: لعمري لقد طرد أصل المعتزلة وأن من خالفه في هذه المتلوث في الحماقة متكسع في التناقض.
ذكر شنع المعتزلة
قال أبو محمد: قالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطغاني الكوفي ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وأعمالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل ثم اختلفوا فقالت طائفة خلقها فاعلوها دون الله تعالى وقالت طائفة هي أفعال موجودة لا خالق لها أصلاً وقالت طائفة هي أفعال الطبيعة وهذا قول أهل الدهر بلا تكلف وقالت المعتزلة كلها حاشا ضرار بن عمرو المذكور وحاشا أبا سهل بشر بن العمير البغدادي النخاس بالرقيق أن الله عز وجل لا يقدر البتة على لطف يلطف به للكافر حتى يؤمن إيماناً يستحق به الجنة والله عز وجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا وإن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر.
قال أبو محمد: هذا تعجيز مجرد للباري تعالى ووصف له بالنقص وكلهم لا نحاشى أحداً يقول أنه لا يقدر على المحال وعلى أن يجعل الجسم ساكناً متحركاً معاً في حال واحدة ولا على أن يجعل إنساناً واحداً في مكانين.
قال أبو محمد: وهذا تعجيز مجرد لله تعالى وإيجاب النهاية والإنقضاء لقدرته تعالى الله عن ذلك وقال أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولى عبد القيس بصري أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم أن لما يقدر الله تعالى عليه آخراً ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك على شيء أصلاً ولا على خلق ذرة فما فوقها ولا إحياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئاً أصلاً.
قال أبو محمد: وهذه حالة من الضعف والمهانة والعجز قد ارتفعت البق والبراغيث والدود مدة حياتها عنها وعن أن توصف بها وهذا كفر مجرد لا خفاء به يزعم أبو الهذيل أيضاً أن أهل الجنة وأهل النار تفنى حركاتهم حتى يصيروا جماداً لا يقدرون على تحريك شيء من أعضائهم ولا على البراح من مواضعهم وهم في تلك الحال متلذذون ومتألمون إلا أنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يطئون بعد هذا أبداً وكان يزعم أيضاً أن لما يعلمه عز وجل آخر أو نهاية وكلا لا يعلم الله شيئاً سواه وادعى قوم من المعتزلة أنه تاب عن هذه الطوام الثلاث.
قال أبو محمد: وهذا لا يصح وإنما ادعوا ذلك حياء من هذه الكفرات الصلع لإمام إمام الضلالة وذكر عن أبي الهذيل أيضاً أنه قال أن الله عز وجل ليس خلافاً لخلقه والعجب أنه مع الإقدام العظيم ينكر الشبيه وهذا عين التشبيه لأنه ليس إلا خلاف أو مثل أو ضد فإذا بطل أن يكون خلافاً وضداً فهو مثل ولا بد تعالى الله عن هذا علواً كبيراً وكان أبو الهذيل يقول أن الله لم يزل عليماً وكان ينكر أن يقال أن الله لم يزل سميعاً بصيراً.
قال أبو محمد: وهذا خلاف القرآن لأن الله عز وجل قال " وكان الله سميعاً بصيراً " كما قال " وكان الله عليماً حكيماً " وكلهم قال أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من مات كافراً فإنه لا يؤمن أبداً وأنه تعالى حكم وقال أن أبا لهب وامرأته سيصليان النار كافرين ثم قطعوا كلهم بأن أبا لهب وامرأته كانا قادرين على الإيمان وعلى أن لا تمسهما النار وأنهما كان ممكناً لهما تكذيب الله عز وجل وأنهما كانا قادرين على إبطال علم الله عز وجل وعلى أن يجعلاه كاذباً في قوله هذا نص قولهم بلا تأويل قال وكان إبراهيم بن سيار النظام أبو إسحاق البصري مولى بني بحير بن الحارث بن عباد الضبعي أكبر شيوخ المعتزلة ومقدمة علمائهم يقول أن الله تعالى لا يقدر على ظلم أحد أصلاً ولا على شيء من الشر وأن الناس يقدرون على كل ذلك وأنه تعالى لو كان قادراً على ذلك لكنا لا نأمن أن يفعله أو أنه قد فعله فكان الناس عنده أتم قدرة من الله تعالى وكان يصرح بأن الله تعالى لا يقدر على إخراج أحد من جهنم ولا إخراج أحد من أهل الجنة عنها ولا على طرح طفل من جهنم وأن الناس وكل واحد من الجن والملائكة يقدرون على ذلك فكان الله عز وجل عنده أعجز من كل ضعيف من خلقه وكان كل أحد من الخلق أتم قدرة من الله تعالى وهذا الكفر المجرد الذي نعوذ بالله منه ومن العجب اتفاق النظام والعلاف شيخي المعتزلة على أنه ليس يقدر الله تعالى من الخير على أصلح مما عمل فاتفقا على أن قدرته على الخير متناهية ثم قال النظام أنه تعالى لا يقدر على الشر جملة فجعله عديم قدرة على الشر عاجزاً عنه وقال العلاف بل هو قادر على الشر جملة فجعل ربه متناهي القدرة على الخير وغير متناهي القدرة على الشر فهل سمع بأخبث صفة من الصفة التي وصف بها العلاف ربه وهل في الموصوفين أخبث طبيعة من الموصوف الذي ادعى العلاف أنه ربه ونعوذ بالله مما ابتلاهم به وأما أبو المعتمر معمر بن عمرو العطار البصري مولى بني سليم أحد شيوخهم وأئمتهم فكان يقول بأن في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها ولا يحصيها الباري تعالى ولا أحد أيضاً غيره ولا لها عنده مقدار ولا عدد وذلك أنه كان يقول أن الأشياء تختلف بمعان فيها وأن تلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وتلك المعاني تختلف بمعان أخر فيها وهكذا بلا نهاية أيضاً تكذيب واضح لله تعالى في قوله " وكل شيء عنده بمقدار " وفي قوله تعالى " وأحصى كل شيء عدداً " وتوافقه الدهرية في قولهم بوجود أشياء لا نهاية لها وعلى هذا طلبته المعتزلة بالبصرة عند السلطان حتى فر إلى بغداد ومات بها مختفياً عند إبراهيم بن السيد بن شاهك وكان معمر أيضاً يزعم أن الله عز وجل لم يخلق شيئاً من الألوان ولا طولاً ولا عرضاً ولا طعماً ولا رائحة ولا خشونة ولا أملاساً ولا حسناً ولا قبيحاً ولا صوتاً ولا قوة ولا ضعفاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشرواً ولا مرضاً ولا صحة ولا عافية ولا سقماً ولا عمى ولا بكماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا فصاحة ولا فساداً للثمار ولا صلاحها وإن كل ذلك فعل الأجسام التي وجدت فيها هذه الأعراض بطباعها فاعلموا أن هذا الفاسق قد أخرج نصف العالم عن خلق الله تعالى لأنه ليس للعالم شيء إلا الجواهر الحاملة والأعراض المحمولة فقط فالنصف الواحد عنده غير مخلوق لعنه الله من مكذب لله تعالى في نص قوله تعالى " خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " وقد عورض معمر بهذه الآية فقال إنما أراد أنه خلق الإماتة والإحياء وذكر عنه أنه كان ينكر أن يكون الله عز وجل عالماً بنفسه وذلك لأن العالم إنما يعلم غيره ولا يعلم نفسه وكان يزعم أن النفس ليست جسماً ولا عرضاً ولا هي في مكان أصلاً ولا تماس شيئاً ولا قال أبو محمد: وهذا قول أهل الإلحاد محضاً بلا تأويل يعني القائلين منهم بقدم النفس وأنها الخالقة للإنسان نعوذ بالله من الضلال وكان يقول أن الله تعالى لا يعلم نفسه ولا يجهلها لأن العالم غير المعلوم ومحال أن يقدر على الموجودات أو أن يعملها أو أن يجهلها وقال أبو العباس عبد الله بن محمد الأنباري المعروف بالناشي ولقبه شرسير في كتابه في المقالات أن الله تعالى عن كفره لا يقدر على أن يسوي بنان الإنسان بعد أن سبق في علمه أنه لا يسويها.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب محض لله تعالى في قوله " أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه " ورأيت للجاحظ في كتابه البرهان لو أن سائلاً سأله وقال أيقدر الله على أن يخلق قبل الدنيا دنيا أخرى فجوابه نعم بمعنى أنه يخلق تلك الدنيا حين خلق هذه فتكون مثل هذه.
كن أبو محمد: هذا تعجيز منه للباري تعالى كما قدمنا إذ لم تحصل له تعالى قدرة على خلق دنيا قبل هذه إلا على الوجه الذي ذكره وأما على غيره فلا فإن قيل كيف تجيبون قلنا جوابنا نعم على الإطلاق فإن قيل لنا كيف يصح هذا السؤال وأنتم تقولون أنه لا يجوز أن يقال أن قبل العالم شيئاً لأن قبل وبعد من الزمان ولا زمان هنالك قلنا معنى قولنا نعم أي أنه تعالى لم يزل قادراً على أن يخلق عالماً لو خلقه لكان له زمان قبل زمان هذا العالم وهكذا أبداً وبالله تعالى التوفيق وأما ضرار بن عمر فإنه كان يقول إن ممكناً أن يكون جميع من في الأرض ممن يظهر الإسلام كفاراً كلهم في باطن أمرهم لأن كل ذلك جائز على كل واحد منهم في ذاته ومن حماقات ضرار أنه كان يقول أن الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة وأن النار ليس فيها حر ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في العروق دم وإن كل ذلك إنما يخلقه الله عز وجل عند القطع والذوق والعصر واللمس فقط وأما أبو عثمان عمرو بن الجاحظ القصري الكناني صليبه وقيل بل مولى وهو تلميذ النظام وأحد شيوخ المعتزلة فإنه كان يقول أن الله تعالى لا يقدر على إفناء الأجسام البتة إلا أن يرققها ويفرق أجزائها فقط وأما إعدامها فلا يقدر على ذلك أصلاً وأما أبو معمر وثمامة بن أشرس النميري صليبه بصري أحد شيوخ المعتزلة وعلمائهم فذكر عنه أنه كان يقول أن العالم فعل الله عز وجل بطباعه تعالى الله عن هذا الكفر الشنيع علواً كبيراً وكان يزعم أن المقلدين من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان لا يدخلون النار يوم القيامة لكن يصيرون تراباً وإن كل من مات من أهل الإسلام والإيمان المحض والاجتهاد في العبادة مصراً على كبيرة من الكبائر كشرب الخمر ونحوها وإن كان لم يواقع ذلك إلا مرة في الدهر فإنه مخلد بين أطباق النيران أبداً مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل.
قال أبو محمد: فأي كفر أعجب من قول من يقول أن كثيراً من الكفار لا يدخلون النار وإن كثيراً من المسلمين لا يدخلون الجنة وكان ثمامة بن إبراهيم ابن رسول الله ﷺ وجميع أولاد المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وجميع مجانين الإسلام لا يدخلون الجنة أبداً لكن يصيرون تراباً وأما هشام بن عمرو الفوطي أحد شيوخ المعتزلة فكان يقول إذا خلق الله تعالى شيئاً فإنه لا يقدر على أن يخلق مثل ذلك الشيء أبداً لكن يقدر على أن يخلق غيره والغيران عنده لا يكونان مثلين وكان لا يجيز لأحد أن يقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا أن الله يعذب الكفار بالنار ولا أنه يحيي الأرض بالمطر ويرى هذا القول والقول بأن الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء ضلالاً وإلحاداً.
قال أبو محمد: وهذا رد الله جهاراً وكان يقول لا يحل القول بشيء من هذا إلا عند قراءة القرآن فقط وكان يقول قولوا حسبنا الله ونعم المتوكل عليه وكان يقول قولوا أن الله يعذب الكفار في النار ويحيي الأرض عند نزول المطر وكان لا يجيز القول بأن الله ألف بين قلوب المؤمنين ولا أن القرآن عماً على الكافرين وكان يقول أن من هو الآن مؤمن عابد إلا أن في علم الله إنه يموت كافراً فإنه الآن عند الله كافر وإن من كان الآن كافراً مجوسياً أو نصرانياً أو دهرياً أو زنديقاً إلا أن في علم الله عز وجل أنه يموت مؤمناً فإنه الآن عند الله مؤمن وأما عبد بن سليمان تلميذ هشام الفوطي المذكور فكان يزعم أن الله تعالى لا يقدر على غير ما فعل من الصلاح ولا يجيز أن يقال أن الله خلق المؤمنين ولا أنه خلق الكافرين ولكن يقال خلق الناس وذلك زعم لأن المؤمن عنده إنسان وإيمان والكفار إنسان وكفر وأن الله تعالى إنما خلق عنده الإنسان فقط ولم يخلق الإيمان ولا الكفر وكان يقول أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق غير ما خلق وأنه تعالى لم يخلق المجاعة ولا القحط وكلهم يزعم أن الله تعالى لم يأمر الكفار قط بأن يؤمنوا في حال كفرهم ولا نهى المؤمنين قط عن الكفر في حال إيمانهم لأنه لا يقدر أحد قط على الجمع بين الفعلين المتضادين.
قال أبو محمد: وهم مقرون أن الله تعالى لم يزل يعلم أن من يؤمن بعد كفره فإنه لا يزال في كفره إلى أن يؤمن وأن من يكفر بعد إيمانه فإنه لا يزال في إيمانه حتى يكفر وأن من لا يؤمن من الكفار أبداً فإنه لا يزال في كفره إلى أن يموت وأن من لا يكفر من المؤمنين فإنه لا يزال في إيمانه إلى أن يموت وليس أحد من المأمورين يخرج عن أحد هذه الوجوه الأربعة ضرورة فإذا كان عندهم لم يؤمر قط كافر بالإيمان في حال كفره ولا نهى مؤمن عن الكفر في حال إيمانه فإن من لم يزل مؤمناً إلى أن مات لم ينهه الله عز وجل عن الكفر قط وأن من لم يزل كافراً إلى أن مات فإن الله لم يأمره قط بالإيمان وأن الله تعالى لم يأمر قط بالإيمان من آمن بعد كفره إلا حين آمن ولا نهى قط عن الكفر من كفر بعد إيمانه إلا حين كفر وهذا تكذيب مجرد لله تعالى في أمره الكفار وأهل الكتاب بالإيمان ونهيه المؤمنين عن الكفر وكان بشر بن المعتمر أيضاً يقول أن الله تعالى لم يخلق قط لوناً ولا طعماً ولا رائحة ولا مجسة ولا شدة ولا ضعفاً ولا عماً ولا بصراً ولا سمعاً ولا صمماً ولا جبناً ولا شجاعة ولا كشفاً ولا عجزاً ولا صحة ولا مرضاً وأن الناس يفعلون كل ذلك فقط وأما جعفر القصبي بايع القصب والأشج وهما من رؤسائهم فكانا يقولان أن القرآن ليس هو في المصاحف إنما في المصاحف شيء آخر وهو حكاية القرآن.
قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد وخلاف جميع أهل الإسلام قديماً وحديثاً وكان على الأسواري البصري أحد شيوخالمعتزلة يقول أن الله عز وجل لا يقدر على غير ما فعل وإن من علم الله تعالى أنه يموت ابن ثمانين سنة فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك وأن من علم الله تعالى من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلاً فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبريه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعد ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها وأن الناس يقدرون كل حين على إماتة من علم الله أن لا يموت إلا وقت كذا وأن الله لا يقدر على ذلك وهذا كفر ما سمع قط بأفظع منه وأما أبو غفار أحد شيوخ المعتزلة فكان يزعم أن شحم الخنزير ودماغه حلال.
قال أبو محمد: وهذا كفر صريح لا خفاء به وكان يزعم أن تفخيذ الرجال الذكور حلال وقد ذكر هذا عن ثمامة أيضاً وكل هذا كفر محض وأما أحمد ابن خابط والفضل الحربي البصريان وكانا تلميذين لإبراهيم النظام فكانا يزعمان أن للعالم خالقين أحدهما قديم وهو الله تعالى والآخر حادث وهو كلمة الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم التي بها خلق العالم وكانا لعنهما الله يطعنان على النبي ﷺ بالتزويج وأن أبا ذر كان أزهد منه وكان أحمد بن خابط يزعم أن الذي يجيء به يوم القيامة مع الملائكة صفاً صفاً في ظلل من الغمام إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن الذي خلق آدم على صورته إنما هو المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وإن المسيح هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة وكان أحمد بن خابط لعنه الله يقول أن في كل نوع من أنواع الطير والسمك وسائر حيوان البر حتى البق والبراغيث والقمل والقرود والكلاب والفيران والتيوس والحمير والدور والوزغ والجعلان أنبياء الله تعالى رسالة إلى أنواعهم مما ذكرنا ومن سائر الأنواع وكان لعنه الله يقول بالتناسخ والكرور وأن الله تعالى ابتدا جميع الخلق فخلقهم كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة فالعتال يبلتي بالريح كالغنم والإبل والبقر وغير ذلك من البراغيث وكل ما يقتل في الأغلب وإن من كان منهم في فسقه وقتله للناس عفيفاً كوفي بالقوة على السفناد كالتيس والعصفور والكبش وغير ذلك من كان زانياً أوزانية كوفيا بالمنع من الجمال كالبغال والبغلات ومن كان جباراً كوفي بالمهانة كالدود والقمل ولا يزالون كذلك حتى يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم كرر أيضاً كذلك هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية معها فينتقل إلى الجنة من وقته أو يعصي معصية لا طاعة معها فينتقل إلى جهنم من وقته وإنما حمله على القول بكل هذا لزومه أصل المعتزلة في العدل وطرده إياه ومشبه معه واعلموا أن كل من لم يقل من المعتزلة بهذا القول فإنه متناقض تارك لأصلهم في العدل وكان لعنه الله يقول أن للثواب دارين إحداهما لا أكل فيها ولا شرب وهي أرفع قدراً من الثانية والثانية فيها أكل وشرب وهي أنقص قدراً.
قال أبو محمد: هذا كله كفر محض وكان لهذا الكافر أحمد بن خابط تلميذ على مذهبه يقال له أحمد بن سابوس كان يقول بقول معلمه في التناسخ ثم ادعى النبوة وقال أنه المراد بقول الله عز وجل ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وكان محمد بن عبد الله بن مرة بن نجيح الأندلسي يوافق المعتزلة في القدر وكان يقول أن علم الله وقدرته صفتان محدثتان مخلوقتان وأن لله تعالى علمين أحدهما أحدثه جملة وهو علم الكتاب وهو علم الغيب كعلمه أنه سيكون كفار ومؤمنون والقيامة والجزا ونحو ذلك والثاني علم الجزئيات وهو علم الشهادة وهو كفر زيد وإيمان عمر ونحو ذلك فإنه لا يعلم الله تعالى من ذلك شيئاً حتى يكون وذكر قول الله تعالى " عالم الغيب والشهادة ".
قال أبو محمد: وهذا ليس كما ظن بل على ظاهره أنه يعلم ما تفعلون وإن أخفيتم ويعلم ما غاب عنكم مما كان أو يكون أو هو كائن.
قال أبو محمد: وإنما حمله على هذا القول طرده لأصول المعتزلة حقاً فإن من قال منهم إن الله تعالى لم يزل يعلم أن فلاناً لا يؤمن أبداً وأن فلاناً لا يكفر أبداً ثم جعل الناس قادرين على تكذيب كلام ربهم وعلى إبطال ما لم يزل وهذا تناقض فاحش لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان وكان من أصحابه جماعة يكفرون من قال أنه عز وجل لم يزل يعلم كل ما يكون قبل أن يكون وكان من أصحاب مذهبه رجل يقال له إسماعيل بن عبد الله الرعيني متأخر الوقت وكان من المجتهدين في العبادة المنقطعين في الزهد وأدركته إلا أني لم ألقه ثم أحدث أقوالاً سبعة فبرئ منه سائر المرية وكفروه إلا من اتبعه منهم فمما أحدث قوله أن الأجساد لا تبعث أبداً وإنما تبعث الأرواح صح هذا عندنا عنه وذكر عنه أنه كان يقول أنه حين موت الإنسان وفراق روحه لجسده تلقى روحه الحساب ويصير إما إلى الجنة أو إلى النار وأنه كان لا يقر بالبعث إلا على هذا الوجه وأنه كان يقول أن العالم لا يفنى أبداً بل هكذا يكون الأمر بلا نهاية وحدثني الفقيه أبو أحمد المعارفي الطليطلي صاحبنا أحسن الله ذكره قال أخبرني يحيى بن أحمد الطبيب وهو ابن ابنة إسماعيل الرعيني المذكور قال أن جدي كان يقول أن العرش هو المدبر للعالم وأن الله تعالى أجل من أن يوصف بفعل شيء أصلاً وكان ينسب هذا القول إلى محمد بن عبد الله بن مسرة ويحتج بألفاظ في كتبه ليس فيها لعمري دليل على هذا القول وكان يقول لسائر المرية إنكم لن تفهموا عن الشيخ فبرئت منه المرية أيضاً على هذا القول وكان أحمد الطبيب صهره ممن برئ منه وتثبتت ابنته على هذه الأقوال متبعة لأبيها مخالفة لزوجها وابنها وكانت متكلمة ناسكة مجتهدة وواقفت أبا هارون بن إسماعيل الرعيني على هذا القول فأنكره وبرئ من قائله وكذب ابن أخيه فميا ذكر عن أبيه وكان مخالفوه من المرية وكثير من موافقيه ينسبون إليه القول باكتساب النبوة وأن من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة وأنها ليست اختصاصاً أصلاً وقد رأينا منهم من ينسب هذا القول إلى ابن مرة ويستدل على ذلك بألفاظ كثيرة في كتبه هي لعمري لتشير إلى ذلك ورأينا سائرهم ينكر هذا فالله أعلم ورأيت أنا من أصحاب إسماعيل الرعيني المذكور من يصفه بفهم منطق الطير وبأنه كان ينذر بأشياء قبل أن تكون فتكون وأما الذي لا شك فيه فإنه كان عند فرقته إماماً واجبة طاعته يؤدون إليه زكاة أموالهم وكان يذهب إلى أن الحرام قد عم الأرض وأنه لا فرق بين ما يكتسبه المرء من صناعة أو تجارة أم ميراث أو بين ما يكتسبه من الرفاق وإن الذي يحل للمسلم من كل ذلك قوته كيف ما أخذه هذا أمر صحيح عندنا عنه يقيناً وأخبرنا عنه بعض من عرف باطن أمورهم أنه كان يرى الدار دار كفر مباحة دماؤهم وأموالهم إلا أصحابه فقط وصح عندنا عنه أنه كان يقول بنكاح المتعة وهذا لا يقدح إيمانه ولا في عدالته لو قاله مجتهداً ولم تقم عليه الحجة بنسخه لو سلم من الكفرات الصلع التي ذكرنا وإنما ذكرنا عنه ما جرى لنا من ذكره ولغرابة هذا القول اليوم وقلة القائلين به من الناس ورأيت لأبي هاشم عبد السلام ابن محمد بن عبد الوهاب الجنائي كبير المعتزلة وابن كبيرهم القطع بأن لله تعالى أحوالاً مختصة به وهذه عظيمة جداً إذ جعله حاملاً للأعراض تعالى الله عن هذا الأفك ورأيت له القطع في كتبه كثيراً يردد القول بأنه يجب على الله أن يزيح علل العباد في كل ما أمرهم به ولا يزال يقول في كتبه أن أمر كذا لم يزل واجباً على الله.
قال أبو محمد: وهذا كلام تقشعر منه ذوائب المؤمن ليت شعري من الموجب ذلك على الله تعالى والحاكم عليه بذلك والملزم له ما ذكر هذا النذل لزومه للباري تعالى ووجوبه عليه فيا لله لمن قال أن الفعل أوجب ذلك على الله تعالى أو ذكر شيئاً دونه تعالى ليصرحن بأن الله تعالى متعبد للذي أوجب عليه ما أوجب محكوم عليه مدبر وأنه للكفر الصراح ولئن قال أنه تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه فالإيجاب فعل فاعل لا شك فإن كان الله لم يزل موجباً ذلك على نفسه فلم يزل فاعلاً فالأفعال قديمة ولا بد لم تزل وهذه دهرية محضة وإن كان تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن موجباً له فقد بطل انتفاعه بهذا القول في أصله الفاسد لأنه قد كان تعالى غير واجب عليه ما ذكر ورأيت لبعض المعتزلة سوء الأسائل عنه أبا هاشم المذكور يقول فيه ما بال كل من بعثه النبي ﷺ داعياً إلى الإسلام إلى اليمن والبحرين وعمان والملوك وسائر البلاد وكل من يدعو إلى مثل ذلك إلى يوم البعث لا يسمى رسول الله كما سمى محمد عليه السلام إذ أمره الملك عن الله عز وجل بالدعاء إلى الإسلام والأمر واحد والعمل سواء.
قال أبو محمد: فأعجبوا لتلاعب إبليس بهذه الفرقة الملعونة وسلوا الله العافية من أن يكلكم إلى أنفسكم فحق لمن دينه أن ربه لا يقدر على أن يهديه ولا على أن يضله إن يتمكن الشيطان منه هذا التمكن ولعمري أن هذا السؤال لقد لزم أصل المعتزلة المضل لهم ولمن التزمه والمورد لجميعهم نار جهنم وهو قولهم أن التسمية موكولة إلينا لا إلا الله عز وجل ورأيت لهذا الكافر أبي هاشم كلاماً رد فيه بزعمه على من يقول أنه ليس لأحد أن يسمي الله عز وجل إلا بما سبى به نفسه فقال هذا النذل لو كان هذا ولم يجز لأحد أن يسمي الله تعالى عز وجل إلا بما سمى به نفسه لكان غير جائز لله أن يسمي نفسه باسم حتى يسميه به غيره.
قال أبو محمد: فهل يأتي الممرور بأقبح من هذا الاستدلال وهل في التسمية أكثر من هذا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من أن يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فنهلك وكان أبو هاشم أيضاً يقول أنه لو طال عمر المسلم المحسن لجاز أن يعمل من الحسنات والخير أكثر مما عمل النبي ﷺ.
قال أبو محمد: لا والله ولا كرامة ولو عمر أحدنا الدهر كله في طاعات متصلة ما وازى عمل أمرء صحب النبي ﷺ من غير المنافقين والكفار المجاهرين ساعة واحدة فما فوقها مع قوله ﷺ أنه لو كان لأحدثنا مثل أحد ذهباً فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فمتى يطمع ذو عقل أن يدرك أحداً من الصحابة مع هذا البون الممتنع إدراكه قطعاً وكان أبو هاشم المذكور يقول أنه لا يقبل توبة أحد من ذنب عمله أي ذنب كان حتى يتوب من جميع الذنوب.
قال أبو محمد: وحقاً أقول لقد طرد أصل المعتزلة الذي أطبقوا عليه من إخراج المرء عن الإسلام جملة بذنب واحد عمله يصر عليه وإيجابهم الخلود في النار عليه بذلك الذنب وحده فلو كان هذا لكان أبو هاشم صادقاً إذ لا منفعة له عندهم في تركه كل ذنب وهو بذنب واحد يصر عليه خارج عن الإيمان مخلد بين أطباق النيران وما ينكر هذا عليه من المعتزلة إلا جاهل بأصولهم أو عامد للتناقض وكان يقول إن تارك الصلاة وتارك الزكاة عامداً لكل ذلك لم يفعل شيئاً ولا أذنب ولا عصي وأنه مخلد بين أطباق النيران أبداً على غير فعل فعله ولا على شيء ارتكبه.
قال أبو محمد: فهل في التجوير لله على أصولهم وهل في مخالفة الإسلام جهاراً أكثر من هذا القول السخيف وكأن الذي حمله على قوله هذا قوله أنه ترك الفعل ليس فعلاً وجميع المعتزلة إلا هشام بن عمرو الفوطي يزعمون أن المعدومات أشياء على الحقيقة وأنها لم تزل وأنها لا نهاية لها.
قال أبو محمد: وهذه دهرية بلا مطل وأشياء لا نهاية لها لم تزل غير مخلوقة وكان عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط من أكابر المعتزلة ببغداد ممن يقول أن الأجسام المعدومة لم تزل أجساماً بلا نهاية لها لا في عدد ولا في زمان غير مخلوقة وقال أبو محمد عبد الله الاسكافي أحد رؤساء المعتزلة أن الله تعالى لم يخلق الطنابير ولا المزامير ولا المعازف.
قال أبو محمد: كان من تمام هذا الكفر أن يقول أن الله لم يخلق الخمر ولا الخنازير ولا مردة الشياطين وقالت المعتزلة بأسرها حاشا بشر بن المعتمر وضرار ابن عمرو أنه لا يحل لأحد تمني الشهادة ولا أن يريدها ولا أن يرضاها لأنها تغليب كافر على مسلم وإنما يجب على المسلم قال أبو محمد: وهذا خلاف دين الإسلام والقرآن والسنن والإجماع المتقين وقالوا كلهم حاشا ضراراً وبشراً أن الله لم يمت رسولاً ولا نبياً ولا صاحب نبي ولا أمهات المؤمنين وهو يدري أنهم لو عاشوا فعلوا خيراً لكن أمات كل من أمات منهم إذ علم أنه لو أبقاه طرفة عين لكفر أو فسق ولا بد هذا قولهم في أبي بكر وعمر وعلي وفاطمة بنت رسول الله ﷺ وعائشة وخديجة نعم وفي رسول الله ﷺ وموسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام فأعجبوا لهذه الضلالات الوحشية وكان الجعد وهو من شيوخهم يقول إذا كان الجماع يتولد منه الولد فأنا صانع ولدي ومدبره وفاعله لا فاعل له غيري وإنما يقال إن الله خلقه مجازاً لا حقيقة فأخذ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي الطرف الثاني من الكفر فقال إن الله تعالى خلق الحبل والموت وكل من فعل شيئاً فهو منسوب إليه فإن الله تعالى هو محبل النساء وهو أحبل مريم بنت عمران.
قال أبو محمد: يلزم ولا بد إذا كان أولادنا خلقاً لله عز وجل أن يضيفهم إليه فيقول هم أبناء الله والمسيح ابن الله ولا بد وقال أبو عمر وأحمد بن موسى بن احدير صاحب السكة وهو من شيوخ المعتزلة في بعض رسائله التي جرت بينه وبين القاضي منذر بن سعيد رحمه الله أن الله عاقل وأطلق عليه هذا الاسم وقال بعض شيوخ المعتزلة أن العبد إذا عصى الله عز وجل طبع على قلبه فيصير غير مأمور ولا منهي وأما حماقاتهم فإن أبا الهذيل العلاف قال من سرق خمسة دراهم أو قيمتها فهو فاس منسلخ من الإسلام مخلد أبداً في النيران إلا أن يتوب وقال بشر بن المعتمر أن من سرق عشرة دراهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد فإن سرق عشرة دراهم خرج عن الإسلام ووجب عليه الخلود إلا أن يتوب وقال النظام إن سرق مأتي درهم غير حبة فلا إثم عليه ولا وعيد وإن سرق مأتي درهم خرج عن الإسلام ولزمه الخلود إلا أن يتوب وقال أبو بكر أحمد بن علي بن أحور بن الأخشيد وهو أحد رؤسائهم الثلاثة الذين انتهت رياستهم إليهم وافترقت المعتزلة على مذاهبهم والثاني منهم أبو هاشم الجبائي والثالث عبد الله بن محمد بن محمود البلخي المعروف بالكعبي وكان والد أحمد بن علي المذكور أحد قواد الفراعنة وولي الثغور للمعتضد وللمكتفي فكان من قول أحمد المذكور أن من ارتكب كل ذنب في الدنيا وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره من القتل فما دونه إلا أنه ندم أثر فعله له فقد صحت توبته وسقط عنه ذلك الذنب أبداً وهكذا أبداً متى عاد لذلك الذنب أو لغيره.
قال أبو محمد: هذا قول لم يبلغه جماهير المرجئة وهو مع ذلك يدعي القول بإنفاذ الوعد والوعيد وما على أديم الأرض مسلم لا يندم على ذنبه وقال عبد الرحمن تلميذ أبي الهذيل أن الحجة لا تقوم في الأخبار إلا بنقل خمسة يكون فيهم ولي لله لا أعرفه بعينه وعن كل واحد من أولئك الخمسة خمسة مثلهم وهكذا أبداً وقال صالح تلميذ النظام أن من رأى رؤيا أنه بالهند أو أنه قتل أو أنه أي شيء رأى فإنه حق يقين كما رأى كما لو كان ذلك في اليقظة وقال عباد بن سليمان الحواس سبع وقال النظام الألوان جسم وقد يكون جسمان في مكان واحد وكان النظام يقول لا نعرف الأجسام بالأخبار أصلاً لكن كل من رأى جسماً سواء كان المرئي إنساناً أو غير إنسان فإن الناظر إليه اقتطع منه قطعة اختلطت بجسم الرائي ثم كل من أخبره ذلك الرائي عن ذلك الجسم فإن المخبر أيضاً أخذ من تلك القطعة قطعة وهكذا أبداً.
قال أبو محمد: وهذه قصة لولا أننا وجدناها عنه من طريق تلامذته المعظمين له ذكروها في كتبهم عنه ما عرفناهم على ذي مسكة من عقل فألزمه خصومه على هذا أن قطعاً من جبريل وميكائيل ومن النبي ﷺ ومن موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام في نار جهنم وأن قطعاً من فرعون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل في الجنة وكان يزعم أنه لا سكون في شيء من العالم أصلاً وأن كل سكون يعلم بتوسط البصر فهو حركة بلا شك وكان معمر يزعم أنه لا حركة في شيء من العالم وأن كل ما يسميه الناس حركة فهو سكون وكان عباد بن سليمان يقول أن الأمة إذا اجتمعت وصلحت ولم تتظالم احتاجت حينئذ إلى إمام يسوسها ويدبرها وإن عصت وفجرت وظلمت استغنت عن الإمام وكان أبو الهذيل يقول أن الإنسان لا يفعل شيئاً في حال استطاعته وإنما يفعل بالاستطاعة بعد ذهابها فألزمه خصومه أن الإنسان إنما يفعل إذا لم يكن مستطيعاً وأما إذا كان مستطيعاً فلا وإن الميت يفعل كل فعل في العالم.
قال أبو محمد: وحماقاتهم أكثر من ذلك نعوذ بالله من الخذلان.
شنع المرجئية
قال أبو محمد: غلاة المرجئية طائفتان إحداهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل ولي له عز وجل من أهل الجنة وهذا قول محمد ابن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب ون أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما فأما الجهمية فبخراسان وأما الأشعرية فكانوا ببغداد والبصرة ثم قامت له سوق بصقلية والقيروان والأندلس ثم رق أمرهم والحمد لله رب العالمين فمن فضايح الجهمية وشنعهم قولهم بأن علم الله تعالى محدث مخلوق وأنه تعالى لم يكن يعلم شيئاً حتى أحدث لنفسه علماً علم به وكذلك قولهم في القدرة وقال أيضاً أن الجنة والنار يفنيان ويفنى كل من فيهما وهذا خلاف القرآن والثابت عن رسول الله ﷺ وخلاف إجماع أهل الإسلام والمتيقن وقال بعض الكرامية المنافقون مؤمنون من أهل الجنة وقد أطلق ذلك بالمرية محمد بن عيسى الصوفي الألبيري وكانت الفاظه تدل على أنه يذهب مذهبهم في التجسيم وغيره وكان ناسكاً متقللاً من الدنيا واعظاً مفوهاً مهذاراً قليل الصواب كثير الخطأ رأيته مرة وسمعته يقول إن النبي ﷺ كان لا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون نبياً عبداً والعبد لا زكاة عليه ولذلك لم يورث ولا ورث فأمسكت عن معارضته لأن العامة كانت تحضره فخشيت لغطهم وتشنيعهم بالباطل ولم يكن معي أحد إلا يحيى بن عبد الكثير بن وافد كنت أتيت أنا وهو معي متنكرين لنسمع كلامه وبلغتني عنه شنع منها القول بحلول الله فيما يشاء من خلقه أخبرني عنه بهذا أبو أحمد الفقيه المعافري عن أبي علي المقري وكان على بنت محمد بن عيسى المذكور وغير هذا أيضاً ونعوذ بالله من الضلال وقالت طائفة من الكرامية المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار وقالت طائفة منهم أيضاً من آمن بالله وكفر بالنبي ﷺ فهو مؤمن كافر معاً ليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً إلى الإطلاق وقال مقاتل ابن سليمان وكان من كبار المرجئة لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلاً ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً وكان مقاتل هذا مع جهم بخراسان في وقت واحد وكان يخالفه في التجسيم كان جهم يقول ليس الله تعالى شيئاً ولا هو أيضاً لا شيء لأنه تعالى خالق كل شيء فلا شيء إلا مخلوق وكان مقاتل يقول إن الله جسم ولحم ودم على صورة الإنسان وقالت الكرامية الأنبياء يجوز منهم كبائر المعاصي كلها حاشا الكذب في البلاغ فقط فإنهم معصومون منه وذكر لي سليمان بن خلف الباجي وهو من رؤوس الأشعرية أن فيهم من يقول أيضاً أن الكذب في البلاغ أيضاً جائز من الأنبياء والرسول عليهم السلام.
قال أبو محمد: وكل هذا كفر محض وذكر عنهم محمد بن الحسن بن فورك الأشعري أنهم يقولون أن الله تعالى يفعل كما يفعل في ذاته وأنه لا يقدر على إفناء خلقه كله حتى يبقى وحده كما كان قبل أن يخلق وقالوا أيضاً أن كلام الله تعالى أصوات وحروف هجاء مجتمعة كلها أبداً لم تزل ولا تزال وقالوا أيضاً لا يقدر الله على غير ما فعل وقالوا أيضاً أنه متحرك أبيض اللون وذكر عنهم أنهم يقولون أنه تعالى لا يقدر على إعادة الأجسام بعد بلائها لكن يقدر على أن يخلق مثلها ومن حماقاتها أنهم يجيزون كون إمامين وأكثر في وقت واحد وأما الأشعرية فقالوا أن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم وإعلان التكذيب بها باللسان بلا تقية ولا حكاية والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شيء من ذلك كفرا ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا لكنه دليل على أن في قلبه كفراً فقلنا لهم وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل فقالوا لا وقالت الأشعرية أن إبليس قد فكر ثم أعلن بعصيان الله تعالى في السجود لآدم عليه السلام فإن إبليس من حينئذ لم يعرف أن الله تعالى حقاً ولا أنه خلقه من نار ولا أنه خلق آدم من تراب وطين ولا عرف أن الله أمره بالسجود لآدم بعدها قط ولا عرف بعد هذا قط أن الله كرم آدم ومن قولهم بأجمعهم أن إبليس لم يسأل الله قط أن ينظره إلى يوم البعث فقلنا لهم ويلكم إن هذا تكذيب لله عز وجل ولرسوله ﷺ ورد للقرآن قالوا لنا إن إبليس إنما قال كل ذلك هازئاً مستهزئاً بلا معرفة ولا اعتقاد كان هذا أشنع كفر وأبرده بعد كفر الغالية من الرافضة وقالوا إن إبليس لم يكفر بمعصيته الله في ترك السجود لآدم ولا بقوله عن آدم أنا خير منه وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.
قال أبو محمد: هذا خلاف للقرآن وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به وقالت الأشعرية أيضاً أن فرعون لم يعرف قط أن موسى إنما جاء بتلك الآيات من عند الله حقاً وأن اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد النبي ﷺ لم يعرفوا قط أن محمد رسول الله ﷺ حقاً ولا عرفوا أنه مكتوب في التوراة والإنجيل وأن من عرف ذلك منهم وكتمه وتمادى على إعلان الكفر ومحاربة النبي ﷺ بخيبر ومن بني قريظة وغيرهم فإنهم كانوا مؤمنين عند الله عز وجل أولياء لله من أهل الجنة فقلنا لهم ويلكم هذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول " يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل " و " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " و " فإنهم لا يكذبونك " فقالوا لنا معنى أنهم وجدوا خطاً مكتوباً عندهم لم يفهموا معناه ولا دروا ما هو ونعم عرفوا صورته فقط ودروا أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب كما يعرف الإنسان جاره فقط فكان هذا كفراً بارداً أو تحريفاً لكلام الله تعالى عن مواضعه ومكابرة سمجة وحماقة ودفعاً للضرورة وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا رسمه كتاب اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين تقصينا فيه كلام رجل من كبارهم من أهل القيروان اسمه عطاف بن دوتاس في كتاب ألفه في نصر هذه المقالة وكان لشيخهم الأشعري في إعجاز القرآن قولان أحدهما كما يقول المسلمون أنه معجز النظم والآخر إنما هو المعجز الذي لم يفارق الله عز وجل قط والذي لم يزل غير مخلوق ولا نزل إلينا ولا سمعناه قط ولا سمعه جبريل ولا محمد عليهما السلام قط وأما الذي يقرأ في المصاحف ونسمعه فليس معجزاً بل مقدوراً على مثله وهذا كفر صحيح وخلاف الله تعالى ولجميع أهل الإسلام وقال كبيرهم وهو محمد بن الطيب الباقلاني أن لله تعالى خمسة عشر صفة كلها قديمة لم تزل مع الله تعالى كلها غير الله وخلاف الله تعالى وكل واحدة منهن غير الأخرى منهن وخلاف لسائرها وإن الله تعالى غيرهن وخلافهن.
قال أبو محمد: هذا والله أعظم من قول النصارى وأدخل في الكفر والشرك لأن النصارى لم يجعلوا مع الله تعالى إلا اثنين هو ثالثهما وهؤلاء جعلوا معه تعالى خمسة عشر هو السادس عشر لهم وقد صرح الأشعري في كتابه المعروف بالمجالس بأن مع الله تعالى أشياء سواه لم تزل كما لم يزل.
قال أبو محمد: وهذا إبطال التوحيد علانية وإنما حملهم على هذا الضلال ظنهم أن ثبات علم الله تعالى وقدرته وعزته وكلامه لا يثبت إلا بهذه الطريقة المعلونة ومعاذ الله من هذا بل كل ذلك حق لم يزل غير مخلوق ليس شيء من ذلك غير الله تعالى ولا يقال في شيء من ذلك هو الله تعالى لأن هذه تسمية له عز وجل وتسميته لا تجوز إلا بنص وقد تقصينا الكلام في هذا في صدر ديواننا هذا والحمد لله رب العالمين وإنما جعلنا هاهنا شنع أهل البدع تنفيراً عنهم وإيحاشا للأغمار من المسلمين من الأنس بهم ومن حسن الظن بكلامهم الفاسد ولقد قلت لبعضهم إذا قلتم أن مع الله تعالى خمسة عشر صفة كلها غيره وكلها لم تزل فما الذي أنكرتم على النصارى إذ قالوا أن الله ثالث ثلاثة فقال لي إنما أنكرنا عليهم إذ جعلوا معه شيئين فقط ولم يجعلوا معه أكثر ولقد قال لي بعضهم اسم الله تعالى وهو قولنا الله عبارة تقع على ذات الباري وجميع صفاته لا على ذاته دون صفاته فقلت له أتعبد الله أم لا فقال لي نعم فقلت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك الخالق وغيره معه فيكفيك فنفر نفرة وقال معاذ الله من هذا ما أعبد إلا الخالق وحده فقت له فإنما تعبد إذاً بإقرارك بعض ما يسمى به الله فنفر أخرى وقال معاذ الله من هذا وأنا واقف في هذه المسألة وقال شيخ لهم قديم وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري أن صفات الله تعالى ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة لكنها لم تزل غير مخلوقة هذا مع تصريحه بأن الله قديم باق ومن حماقات الأشعرية قولهم أن للناس أحوالاً ومعاثي لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا أزلية ولا محدثة ولا حق ولا باطل وهي علم العالم بأن له علماً ووجود الواجد لوجوده كلما يجد هذا أمر سمعناه منهم نصاً رأيناه في كتبهم فهل في الرعونة أكثر من هذا وهل يمكن الموسوس والمبرسم أن يأتي بأكثر من هذا ولقد حاورني سليمان بن خلف الباجي كبيرهم في هذه المسألة في مجلس حافل فقلت له هذا كما تقول العامة عندنا عنب لا من كرم ولا من دالية ومن هوسهم قولهم أن الحق غير الحقيقة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا أم في أي شرع وارد أم في أي طبيعة ظفروا به فقالوا أن الكفر حقيقة وليس بحق وقلنا كلا بل وجوده عن حقيقة ومعناه باطل لا حق ولا حقيقة وقالوا كلهم إن الله حامل لصفاته في ذاته هذا نص قول أبي جعفر السمناني المكفوف قاضي الموصل وهو أكبر أصحاب الباقلاني ومقدم الأشعرية في وقتنا هذا وقال هذا السمناني أيضاً من سمي الله تعالى جسماً من أجل أنه حامل لصفاته في ذاته فقد أصاب المعنى وأخطأ في التسمية فقط وقال هذا السمناني أن الله تعالى مشارك للعالم في الوجود وفي قيامه بنفسه كقيام الجواهر والأجسام وفي أنه ذو صفات قائمة به موجودة بذاته كما ثبت ذلك فيما هو موصوف بهذه الصفات من جملة أجسام العالم وجواهره هذا نص كلام السمناني حرفاً حرفاً.
قال أبو محمد: ما أعلم أحداً من غلاة المشبهة أقدم على أن يطلق ما أطلق هذا المبتدع الجاهل الملحد المتهور من أن الله تعالى مشارك للعالم حاشا لله من هذا وقال السمناني عن شيوخه من الأشعرية أن معنى قول النبي ﷺ أن الله خلق آدم على صورته إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار وإجماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان الله تعالى كل ذلك.
قال أبو محمد: هذا نص كلامه حرفاً حرفاً وهذا كفر صريح وشرك بواح إذ صرح بأن آدم على صفة الرحمن من اجتماع صفات الكمال فيهما فالله تعالى وآدم عنده مثلان مشتبهان في اجتماع صفات الكمال فيهما ثم لم يقنع بهذه السوءة حتى صرح بأن سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل وحاشا لله من هذا لأن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة وديانة لخالقهم وسجودهم لآدم سجود سلام وتحية وتشريف منهم لآدم وإكرام له بذلك كسجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام فقط ثم زاد اللعين كفراً على كفر بنصه أن الله تعالى جعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله تعالى ذلك وهذا شرك لا خفاء به كشرك النصارى في المسيح ولا فرق ونسأل الله تعالى العافية وقال هذا السمناني أن مذهب شيوخه أنهم لا يقولون أن الأمر بالشيء دال على كونه مراداً للآمر قديماً كان أو محدثاً ولا يدل النهي على كونه مكروهاً هذا نص كلامه وهذا خلاف الإسلام والإجماع والمعقول وتصريح بأن الله تعالى إذ أمر بالصلاة والزكاة والحج والصيام والجهاد وشهادة الإسلام فليس في ذلك دليل على أنه يريد شيئاً من ذلك وإذ نهى عن الكفر والزنا والبغي والسرقة وقتل النفس ظلماً فليس ذلك دليلاً على أنه يكره شيئاً من ذلك وما في الأقوال انتين من هذا القول وقال هذا السمناني أنه لا يصح القول بأن علم الله تعالى مخالف للعلوم كلها ولا أن قدرته مخالفة للقدر كلها لأنها كلها داخلة تحت قولنا ووصفنا للقدر والعلوم هذا نص كلامه وهذا بيان بأن دينهم أن علم الله تعالى وقدرته من نوع علمنا وقدرتنا وإذ الأمر كذلك عنده فعلمنا وقدرتنا عرضان فينا مخلوقان فوجب ضرورة أن علم الله تعالى وقدرته عرضان في الله مخلوقان إذ من الممتنع وقوع ما لم يزل مع المحدث المخلوق تحت حد واحد ونوع واحد ونص هذا السمناني ومحمد بن الحسن بن فورك في صدر كلامه في كتاب الأصول أن الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث قالوا ذلك في كلامهم في علم الله تعالى في تحديدهم لمعنى العلم بصفة يقع تحتها علم الله تعالى وعلوم الناس وهذا نص منهم على أن الله تعالى محدود واقع معنا تحت الحدود وهو علمه وقدرته وهو شر من قول جهم شيخهم في الحقيقة وأبين من قول كل مشبه في الأرض ونص هذا السمناني على أن العالم والقادر والمريد من الله تعالى وخلقه إنما كان محتاجاً إلى هذه الصفات لكونه موصوفاً بها لا لجوازها عليه هذا نص كلامه وهذا تصريح منهم بلا تكلف ولا تأويل بأن الله تعالى عن كفر هذا الأرعن محتاج إلى الصفات وهذا كفر ما يدري أن أحداً بلغه ونص هذا السمناني أيضاً على أن الله تعالى لما كان حياً عالماً كان موصوفاً بالحياة والعلم والقدرة والإرادة حتى لا يختلف الحال في ذلك في الشاهد والغائب هذا نص كلامه وهذا تصريح منه على أن الله تعالى حالا لم يخالفه فيها خلقه بل هو وهم فيها سواء ونصهذا السمناني على أنه إذا كانت الصفات الواجبة لله تعالى في كونه عالماً قادراً لا يغني وجوبها له عن ما هو مصحح لها من الحياة فيه كما لا يوجب غناه عما يوجب كونه عالماً قادراً عن القدرة والعلم.
قال أبو محمد: هذا نص جلي على أن الله تعالى غير غني عن شيء هو غيره لأن الصفات عندهم هي غيره تعالى والله تعالى عندهم غير غني عنها تعالى الله وإذا لم يكن غنياً عنها فهو فقير إليها هكذا قالت اليهود أن الله فقير تعالى الله عن هذا بل هو الغني جملة عما سواه وكل من دونه فقير إليه تعالى وقال السمناني إن قال قائل لم أنكرتم أن يكون الله مريداً لنفسه حسب ما قاله النجار والجاحظ قيل له أنكرنا ذلك لما قدمنا ذكره من أن الواحد من الخلق مريد بإرادة ولا يخلو أن يكون حقيقة المريد من له الإرادة أو كونه مريداً وجود الإرادة له وأي الأمرين كان وجبت مساواة الغائب الشاهد في هذا الباب.
قال أبو محمد: وهذا نص جلي على مساواة الله تعالى لخلقه عند هذا الجاهل وهذا أعظم في الكفر من قول كل مجسم لأن جميع المجسمين لم يقدم أحد منهم قط على القول بأن الله تعالى مساو لخلقه قبل هذه الفرقة الملعونة ثم العجب قطعهم بأن الله عز وجل غائب غير شاهد وحاشا الله عن هذا بل هو معنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد كما قال عز وجل أنه حاضر في العقول غير غائب وقال الباقلاني ما وجد في الله تعالى من التسميات فإنه يجوز إطلاقها عليه وإن لم يسم بذلك نفسه ما لم يرد شرع يمنع من ذلك.
قال أبو محمد: هذا نص منه على أن هاهنا معاني توجد في الله تعالى مع الإلحاد في أسمائه إذ جاز تسميته بما لم يسم به عز وجل نفسه تعالى الله عن هذا علواً كبيراً وقالوا كلهم أن الله تعالى ليس له إلا كلام واحد وليس له كلمات كثيرة.
قال أبو محمد: هذا كفر مجرد لخلافه القرآن وتكذيب لله عز وجل في قوله " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً " وإذ يقول تعالى " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " مع أن قولهم ليس لله تعالى إلا كلام واحد قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان شرعي ولا تشكل في هاجس ولا يوجبه عقل إنما هو هذيان محض ويقال لهم لا يخلو القرآن عندهم من أنه كلام الله تعالى أو ليس هو كلام الله تعالى فإن قالوا ليس هو كلام الله تعالى كفروا من قرب وكفى الله تعالى مؤنتهم وإن قالوا هو كلام الله تعالى فالقرآن مائة سورة وأربعة عشر سورة فيها ستة آلاف آية ونيف كل سورة منها عند أهل الإسلام غير الأخرى وكل آية غير الأخرى فكيف يقول هؤلاء النوكى أنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد أما هذا من الكفر البارد والقحة السمجة ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام وإنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله وأن القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز وإن الذي نرى في المصاحف ونسمع من القراء ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة ولا شيء منه كلام الله البتة بل شيء آخر وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز وجل.
قال أبو محمد: وهذا من أعظم الكفر لأن الله تعالى قال " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " وقال تعالى " نزل به الروح الأمين على قلبك " وقال تعالى " فأجره حتى يسمع كلام الله " وقال تعالى " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم " وقال رسول الله ﷺ إني أحب أن أسمعه من غيري يعني القرآن وقال عليه السلام الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة ونهيه ﷺ أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول حفظ فلان القرآن وقرأ فلان القرآن وكتب فلان القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس وقال السمناني أيضاً أن الباقلاني وشيوخه قالوا أن النبي ﷺ إنما أطلق القول بأن ما أنزل الله هو القرآن وهو كلام الله تعالى إنما هو على معنى قال أبو محمد: ويقال لهم أخبرونا عن قولكم أن الكتاب في المصحف والقراءة المسموعة في المحارب كل ذلك عبارة عن القرآن ماذا تعنون بذلك وهذا هذا منكم إلا تمويه ضعيف وهل كل ما في المصحف إلا عبارة عن معانيه التي أرادها الله تعالى في شرع دينه من الصلاة والصيام والإيمان وغير ذلك وأخبار الأمم السالفة وصفة الجنة والنار والبعث وغير ذلك مما لا يختلف من أهل الإسلام أحد في أن المعبر عنه بذلك الكلام ليس هو كلام الله أصلاً لأن ذات الجنة وذات النار وحركات المصلي وعمل الحاج وعمل الصائم وأجسام عاد وأشخاص ثمود ليس شيء من ذلك كلام الله تعالى ولا قرآناً فثبت أن ليس هو القرآن ولا هو كلام الله إلا العبارة المسموعة فقط والكلام المقروء والخط المكتوب في المصحف بلا شك إذ لم يبق غير ذلك أو الكفر وتكذيب الله تعالى وتكذيب رسول الله ﷺ في أن القرآن أنزل عليه وأننا نسمع كلام الله فأوهمتهم الضعفاء أن الذي هو كلام الله والقرآن عند جميع أهل الإسلام ليس هو القرآن ولا هو كلام الله ثم أوهمتموهم باستخفافكم أن حركات المتحركين وذات الجنة وذات النار هي كلام الله تعالى وهي القرآن فهل في الضلال والسخرية بضعفة المسلمين والهزء بآيات الله تعالى أكثر من هذا ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي الصوفي أنه رأى بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله قال فأكبرت ذلك وقلت له ويحك هكذا تصنع بالمصحف وفيه كلام الله تعالى فقال لي ويلك والله ما فيه إلا السخام والسواد وأما كلام الله فلا ونحو هذا من القول الذي هذا معناه وكتب إلي أبو المرحي بن رزوار المصري أن بعض ثقاة أهل مصر أخبره من طلاب السنن أن رجلاً من الأشعرية قال له مشافهة على من يقول أن الله قال قل هو أحد الله الصمد ألف لعنة.
قال أبو محمد: بل على من يقول إن الله عز ول لم يقلها ألف ألف لعنة تترى وعلى من ينكر أننا نسمع كلام الله ونقرأ كلام الله ونحفظ كلام الله ونكتب كلام الله ألف ألف لعنة تترى من الله عز وجل فإن قول هذه الفرقة في هذه المسألة نهاية الكفر بالله عز وجل ومخالفة للقرآن والنبي ﷺ ومخالفة جميع أهل الإسلام قبل حدوث هذه الطائفة الملعونة.
قال أبو محمد: وقالت الأشعرية كلها أن الله عز وجل لم يزل قائلاً لكل ما خلق أو يخلق في المستأنف كن إلا أن الأشياء لم تكن إلا حين كونها وهذا تكذيب منهم مكشوف لله عز وجل إذ يقول " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فبين الله تعالى أنه لا يقول للشيء كن إلا إذا أراد تكوينه وأنه إذا قال له كن كان الشيء في الوقت بلا مهلة لأن هذا هو مقتضى الفاء في لغة العرب التي بها نزل القرآن فجمعوا إلى تكذيب الله عز وجل في خبريه جميعاً إيجاب أزلية العالم لأن الله تعالى إذا كان لم يزل قائلاً لما يكون كن فإن التكوين لم يزل وهذه دهرية محضة ثم قال السمناني بعد أسطر لأنه لو وجب وجود ما وجد في الوقت الذي وجد فيه لأجل قول الله تعالى كن لوجب لأجل قول غيره له كن لأن صفة الاقتضاء لا تختلف في ذلك بين القديم والمحدث.
قال أبو محمد: هذا نص كلام هذا الفاسق الملحد حرفاً حرفاً وهذا كفر محض وحماقة لا خفاء بها أما الكفر فإبطاله أن وجود الأشياء في الأوقات التي وجدت فيها إنما وجدت لأجل قول الله تعالى لها كن وإيجابه أن الأشياء لم توجد في أحيان وجودها لقول الله تعالى لها كن وهذا تكذيب لله تعالى وصرف وخروج عن إجماع أهل الإسلام وكل من يصلي إلى القبلة قبلهم ومن الكفر الصريح أيضاً في هذا الكلام الملعون قوله أن صفة الاقتضاء في ذلك لا تختلف بين القديم والمحدث فسوى بين الله تعالى وخلقه وأما الحماقة فقوله لو وجدت الأشياء من أجل قول الله تعالى لها كن لوجب أن يوجد لأجل قول غيره لها كن فيا للمسلمين هل سمع في الحمق والرعونة وقلة الحياء أكثر من قول من سوى بين قول الله عز وجل كن للشيء إذا أراد تكوينه وبين قول غيره من الناس كن وهذا أخبث من قول الدهرية ونعوذ بالله من الضلال فلولا الخذلان ما انطلق بهذا النوك لسان من لا يقذف بالحجارة في الشوار وما شبهت بهذا الكلام إلا كلام النذل أبي هاشم الجبائي لو لم يجز لنا أن نسمي الله تعالى باسم حتى يأذن لنا في ذلك لوجب أن لا قال أبو محمد: وهذه أقوال لو قال ها صبيان يسيل مخاطهم لأيس من فلاحهم وتالله لقد لعب الشيطان بهم كما شاء فإنا لله وإنا إليه راجعون وقالت الأشعرية كلها إن الله لا يقدر على ظلم أحد البتة ولا يقدر على الكذب ولا على قول أن المسيح ابن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت النصارى وأنه لا يقدر على أن يقول عزير ابن الله حتى يقول قبل ذلك وقالت اليهود وأنه لا يقدر على أن يتخذ ولداً وأنه لا يقدر البتة على إظهار معجزة على يدي كذاب يدعي النبوة فإن ادعى الإلهية كان الله تعالى قادراً على إظهار المعجزات على يديه وأنه تعالى لا يقدر على شيء من المحال ولا على إحالة الأمور عن حقائقها ولا على قلب الأجناس عن ماهيتها وأنه تعالى لا يقدر البتة على أن يقسم الجزء الذي لا يتجزأ ولا على أن يدعو أحداً إلى غير التوحيد هذا نص كلامهم وحقيقة معتقدهم فجعلوه تعالى عاجزاً متناهي القوة محدود القدرة يقدر مرة ولا يقدر أخرى ويقدر على شيء ولا يقدر على آخر وهذه صفة النقص وهم مع هذا يقولون أن الساحر يقدر على قلب الأعيان وعلى أن يمسخ إنساناً فيجعله حماراً على الحقيقة وعلى المشي في الهواء وعلى الماء فكان الساحر عندهم أقوى من الله تعالى.
قال أبو محمد: وخشوا مبادرة أهل الإسلام لهم بالاصطلام فخنسوا عن أن يصرحروا بأن الله تعالى لا يقدر فقالوا لا يوصف الله بالقدرة على شيء مما ذكرنا.
قال أبو محمد: ولا راحة لهم في هذا لأننا نقول لهم ولم لا نصفه بالقدرة على ذلك ألأنه يقدر على شيء من ذلك ولا له قدرة على كل ذلك أم لأنه لا يقدر على كل ذلك ولا له قدرة على شيء من ذلك ولا بد من أحدهما بضرورة العقل وهنا ضلت جبلتهم الضعيفة ولا بد لهم من القطع بأنه لا يقدر وبأنه لا قدرة له على ذلك وإذ قد صرحوا بهذا بالضرورة فأول العقل ومسموع اللغة كلاهما يوجبان أن من لا يقدر على شيء فهو عاجز عنه وأن من لا قدرة له على شيء فصفة العجز والضعف لاحقة به فلا بد لهم ضرورة من إطلاق اسم العجز على الله تعالى ووصفه بأنه عاجز وهذا حقيقة مذهبهم يقيناً إلا أنهم يخافون البوار إن أظهروه وقال هذا الباقلاني لا فرق بين النبي والساحر الكذاب المتنبي فيما يأتينا فيه إلا التحدي فقط وقول النبي لمن بحضرته هات من يعمل كعملي وهذا إبطال للنبوة مجرد وقال الباقلاني وابن فورك وأشياعهما من أهل الضلالة والجهالة ليس لله تعالى أسماء البتة وإنما له تعالى اسم واحد فقط ليس له اسم غيره وأن قول الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " إنما أراد أن يقول لله التسميات الحسنى فذروا الذين يلحدون في تسمياته فقال لله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه قالوا وكذلك قول رسول الله ﷺ أن الله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد إنما أراد أن يقول تسعاً وتسعين قال أبو محمد: ما في البرهان على قلة الحياء وفساد الدين واستسهال الكذب أكثر من هذا وليت شعري من أخبرهم عن الله تعالى وعن رسول الله ﷺ بهذا الأفك ثم ليت شعري إذ زعموا أن الله تعالى أراد أن يقول التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى لأي شيء فعل ذلك اللكنة أم غفلة أم تعمد لا ضلال عباده ولا سبيل والله إلى رابع فأعجبوا لعظيم ما حل بهؤلاء القوم من الدمار والتبار والكذب على الله عز وجل جهاراً وعلى رسول الله ﷺ بلا رهبة ونعوذ بالله من الضلال مع أن هذا قول ما سبقهم إليه أحد وقالوا كلهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ليس هو رسول الله اليوم لكنه كان رسول الله.
قال أبو محمد: فكذبوا القرآن في قول الله عز وجل " محمد رسول الله " وكذبوا الآذان وكذبوا الإقامة التي افترضها الله تعالى خمس مرات كل يوم وليلة على كل جماعة من المسلمين وكذبوا دعوة جميع المسلمين التي اتفقوا على دعاء الكفار إليها وعلى أنه لا نجاة من النار إلا بها وكذبوا جميع أعصار المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في أطباق جميعهم برهم وفاجرهم على الإعلان بلا إله إلا الله محمد رسول الله ووجب على قولهم هذا الملعون أنه يكذب المؤذنون والمقيمون ودعاة الإسلام في قولهم محمد رسول الله وأن الواجبأن تقولوا محمد كان رسول الله وعلى هذه المسألة قتل الأمير محمود بن سبكتكين مولى أمير المؤمنين وصاحب خراسان رحمه الله ابن فورك شيخ الأشعرية فأحسن الله جزاء محمود على ذلك ولعن ابن فورك وأشياعه وأتباعه.
قال أبو محمد: إنما حملهم على هذا الكفر الفاحش قول لهم آخر في نهاية الضلال والإنسلاخ من الإسلام وهي قولهم أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين وأن روح كل واحد منا الآن هو غير روحه الذي كان له قبل ذلك بطرفة عين وأن كل واحد منا يبدل أزيد من ألف ألف روح في كل ساعة زمانية وأن النفس إنما هو هذا الهواء الخارج بالتنفس حاراً بعد دخوله بارداً وأن الإنسان إذا مات فني روحه وبطل وأنه ليس لمحمد ولا لأحد من الأنبياء عند الله تعالى روح ثابتة تنعم ولا نفس قائمة تكرم وهذا خروج عن إجماع الإسلام فما قال بهذا أحد ممن ينتمي إلى الإسلام قبل أبي الهذيل العلاف ثم تلاه هؤلاء وهذا خلاف مجرد للقرآن وتكذيب لله عز وجل إذ يقول " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " وإذ يقول عز وجل " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وقال عز وجل " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " ولقوله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " وخلاف للسنن الثابتة عن رسول الله ﷺ المنقولة نقول التواتر من رؤيته ﷺ الأنبياء عليهم السلام ليلة أسري به في السماء وما جرى له مع موسى عليه السلام في عدد الصلوات المفروضات وأن أرواح الشهداء نسمة تعلق في ثمار الجنة وما يلقى الروح عند خروجه من الفتنة والمسائلة وإخباره عليه السلام أنه رأى عن يمين آدم أسودة نسم بنيه من أهل الجنة وعن يساره اسودة نسم بنيه من أهل النار وسائر السنن المأثورة.
قال أبو محمد: ثم خجلوا من هذه العظيمة وتبرأ منهم إبليس الذي ورطهم فيها فشلوا فقالوا في كتبهم فإن لم يكن هذا فإن الروح تنتقل عند خروجها من الجسم إلى جسم آخر هكذا نص الباقلاني في أحد كتبه وأظنه الرسالة المعروفة بالحرة وهذا مذهب التناسخ بلا كلفة وقال السمناني في كتابه أن الباقلاني وأصحابه قالوا أن كل ما جاء في الخبر من نقل أرواح الشهداء إلى حواصل طير خضر وأن روح الميت ترد إليه في قبره وما جرى مجرى ذلك من وصف الروح بالقرب والبعد والحركة والانت قال والسكون والعذاب فكل ذلك محمول على أقل جزء من أجزاء الميت والشهيد أو الكافر وإعادة الحياة في ذلك الجوء.
قال أبو محمد: وهذا طريق من الهوس جداً وتطايب بالدين ولقد أخبرني ثقة من أصحابي أنه سمع بعض مقدميهم يقول أن الروح إنما تبقى في عجب الذنب لقول رسول الله ﷺ كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا التأويل أقرب إلى الهزل منه إلى أقوال أهل الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان فإنما هذه ستائر دون مذهبهم الخبيث الذي ذكرنا آنفاً وقالوا كلهم أن النظر في دلائل الإسلام فرض وأنه لا يكون مسلماً حتى ينظر فيها وأن من شرط الناظر فيها أن يكون ولا بد شاكا في الله عز وجل وفي صحة النبوة ولا يصح النظر في دلائل النبوة ودلائل التوحيد لمن يعتقد صحتها.
قال أبو محمد: والله ما سمع سامع قط بادخل في الكفر من قول من أوجب الشك في الله تعالى وفي صحة النبوة فرضاً على كل متعلم لا نجاة له إلا به ولا دين لأحد دونه وأن اعتقاد صحة التوحيد لله تعالى وصحة النبوة باطل لا يحل فحصل من كلامهم أن من لم يشك في الله تعالى ولا في صحة النبوة فهو كافر ومن شك فيهما فهو محسن مؤد ما وجب عليه وهذه فضيحة وحماقة اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول ومن كل قائل به ثم لم يحدوا في أمد الاستدلال حداً فليت شعري على هذا القول الملعون هو ومعتقده والداعي إليه كيف يكون حال من قبل وصيتهم هذه التي هي وصية الشيطان الرجيم فتبين بالشك في الله تعالى وفي النبوة وامتد به أمد الاستدلال أياماً وأشهراً وساعات مات فيها أين مستقره ومصيره إلى النار والله خالداً مخلداً أبداً وبيقين ندري أن قائل هذه الأقوال مطالب للإسلام كائد له مرصد لأهله داعية إلى الكفر ونعوذ بالله من الضلال وقالوا كلهم أن إطعام رسول الله ﷺ المئين والعشرات من صاع شعير مرة بعد مرة وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه وحنين الجذع ومجيء الشجرة وتكلم الذراع وشكوى البعير ومجيء الذئب ليس شيء من ذلك دلالة على صدق رسول الله ﷺ في نبوته لأنه عليه السلام لم يتحد الناس بذلك ولا يكون عندهم آية إلا ما تحدى به الكفار فقط وهذا تكذيب منهم للنبي ﷺ في قوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله وهذا أيضاً قول افتروه خالفوا فيه جميع أهل الإسلام وقالوا كلهم ليس لشيء من الأشياء نصف ولا ثلث ولا ربع ولا سدس ولا ثمن ولا عشر ولا بعض وأنه لا يجوز أن يقال الفرد عشر العشرة ولا أنه بعض الخمسة وحجتهم في ذلك أنه لو جاز أن يقال ذلك لكان عشراً لنفسه وبعض نفسه.
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأنه إنما هو بعض من جملة يكون سائرها غيره وعشر جملة يكون سائرها غيره ونسوا أنفسهم فقالوا بالجزء الذي لا يتجزأ ونسوا إلزام أنفسهم أن يكون جزءاً لنفسه وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول في القرآن فلها النصف فلامه الثلث فلامه السدس ولكم الربع ولهن الثمن بعضهم أولياء بعض وهذا عن النبي ﷺ كثير مع مخالفتهم في ذلك جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ومخالفة كل لغة والمعقول والطبائع وقالوا كلهم من قال أن النار تحرق أو تلفح أو أن الأرض تهتز أو تنبت شيئاً أو أن الخمر يسكر أو أن الخبز يشبع أو أن الماء يروي أو أن الله تعالى ينبت الزرع والشجر بالماء فقد ألحد وافترى وقال الباقلاني من آخر السفر الرابع من كتابه المعروف بالانتصار في القرآن نحن ننكر فعل النار للتسخين والإحراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للإسكار كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار وكذلك فعل الحجر لجذب شيء أو رده أو حبسه أو إطلاقه من حديد أو غيره هذا نص كلامه.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب منهم لله عز وجل إذ يقول " تلفح وجوههم النار " ولقوله تعالى " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ " وقوله تعالى " إنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم " الآية وقوله تعالى " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " وقد صككت بهذا وجه بعض مقدميهم في المناظرة فدهش وبلد وهو أيضاً تكذيب لقول رسول الله ﷺ إذ يقول كل مسكر حرام وكل شراب أسكر حرام مع مخالفتهم لكل لغة ولكل ذي حس من مسلم وكافر ومكابرة العيان وإبطال المشاهدة ثم أظرف شيء احتجاجهم في هذه الطامة بأن الله عز وجل هو الذي خلق ذلك كله فقلنا لهم أوليس فعل كل حي مختار واختياره خلقاً لله عز وجل فلا بد من قولهم نعم في قال لهم فمن أين نسبتم الفعل إلى الأحياء وهي خلق الله تعالى ومنعتم من نسبة الفعل إلى الجمادات لأنه خلق الله تعالى ولافرق ولكنهم قوم لا يعقلون.
قال أبو محمد: وسمعت بعض مقدميهم يقول أن من كان على معاصي خمسة من زنا وسرقة وترك صلاة وتضييع زكاة وغير ذلك ثم تاب عن بعضها دون بعض فإن توبته تلك لا تقبل وقد نص السمناني على أن هذا قول الباقلاني وهو قول أبي هاشم الجبائي ثم قال السمناني هذا قول خارق للإجماع جملة وخلاف لدين الأمة هذا نص قول السمناني في شيخه وشهدوا على أنفسهم وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون.
قال أبو محمد: هذا القول مخالف للقرآن والسنن لأن الله تعالى يقول " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً " الآية وقال تعالى " إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى " وبالضرورة يدري كل ذي مسكة من عقل أن التوبة من الزنا خير كثير فهذا الجاهل يقول أنه لا يراه صاحبه وأنه عمل ضائع عند الله عز وجل من مسلم مؤمن ومعاذ الله من هذا وسر هذا القول الملعون وحقيقته التي لا بد لقائله منه أنه لا معنى لمن أصر على الزنا أو شرب الخمر في أن يصلي ولا أن يزكي فقد صار يأمر بترك الصلاة الخمس والزكاة وصوم رمضان والحج فعلى هذا القول وقائله لعائن الله تتري ما دار الليل والنهار ونص السمناني عن الباقلاني شيخه أنه كان يقول أن الله تعالى لا يغفر الصغائر باجتناب الكبائر.
قال أبو محمد: وأنا سمعت بعض مقدميهم ينكر أن يكون في الذنوب صغائر وناظرته بقول الله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " وقلت بالضرورة يدري كل ذي فهم أنه لا كبائر إلا بالإضافة إلى ما هو أصغر منها وهي السيئات المغفورة باجتناب الكبائر بنص كلام الله تعالى فقولك هذا خلاف للقرآن مجرد فخلط ولجأ إلى الحرد وهذا منهم تكذيب لله عز وجل ورد لحكمه بلا كلفة ومن شنعهم الممزوجة بالهوس وصفاقة الوجه قولهم أنه لا حر في النار ولا في الثلج برد ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة وإنما خلق الله تعالى ذلك عند اللمس والذوق وهذا حمق عتيق قادهم إليه إنكارهم الطبائع وقد ناظرناهم على ذلك هذا مع قول شيخهم الباقلاني أن لقشور العنب رائحة وللزجاج والحصا طعماً ورائحة وزادوا حتى بلغوا إلى أن قالوا أن للفلك طعماً ورائحة فليت شعري متى ذاقوه أو شموه أو من أخبرهم بهذا وهذا لا يعرفه إلا الله ثم الملائكة الذين هنالك ولكن من ذاق طعم الزجاج وشم رائحته فغير منكر أن يدعى مشاهدة الفلك ولمسه وشمه وذوقه ومن شنعهم قولهم أن من كان الآن على دين الإسلام مخلصاً بقلبه ولسانه مجتهداً في العبادة إلا أن الله عز وجل يعلم أنه لا يموت إلا كافراً فهو الآن عند الله كافراً وإن من كان الآن كافراً يسجد للنار وللصليب أو يهودياً أو زنديقاً مصر حين بتكذيب رسول الله ﷺ إلا أن في علم الله تعالى لا يموت غلا مسلماً فإنه الآن عند الله مسلم.
قال أبو محمد: ما قال هذا مسلم قط قبل هشام الفوطي وهذه مكابرة للعيان وتكذيب لله عز وجل كأنهم ما سمعوا قط قول الله تعالى " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " فسماهم مؤمنين ثم أبخر تعالى بأنهم كفروا وقوله تعالى " ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر " فجعل الإسلام ديناً لما كان عليه إذ كان عليه وإن ارتد معه ومات كافراً وقوله تعالى مخاطباً للمسلمين من أصحاب النبي ﷺ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " ويلزمهم أن الذي يسلم أبوه ولا يسلم هو لأنه كان بالغاً ثم مات أبوه فلم يرثه لكفره ثم أسلم أن يفسخوا حكمهم ويورثوه من أبيه لأنه عندهم كان إذ مات أبوه مؤمناً عند الله تعالى ويلزمهم إن من كان صبياً ثم عاش حتى شاخ أنه لم يكن عند الله قط إلا شيخاً ولو جمع ما يدخل عليهم لقام منه سفر ضخم وقالوا كلهم أنه ليس على ظهر الأرض يهودي ولا نصراني يقر بقلبه أن الله حق.
قال أبو محمد: هذا تكذيب للقرآن على ما بينا قبل ومكابرة للعيان لأنا لا نحصي كم دخل في الإسلام منهم وصلح إيمانه وصار عدلاً وكلهم لا يختلف في أنه كان قبل إسلامه مقراً بالله عز وجل عالماً به كما هو بعد إسلامه لم يزد في توحيده شيء فكابروا العيان وكذبوا القرآن بحمق وقلة حياء لا نظير له وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن معنى قول الله تعالى " لا يرضى لعباده الكفر " وقوله تعالى " لا يحب الفساد " إنما معناه لا يحب الفساد لأهل الصلاح ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا ولم يرد أنه لا يرضاه لأحد من خلقه ولا يحبه لأحد منهم ثم قال وإن كان قد أحب ذلك ورضيه لأهل الكفر والفساد.
قال أبو محمد: وهذا تكذيب لله تعالى مجرد ثم أيضاً أخبر بأن الكفار فعلوا من الكفر أمراً رضيه الله تعالى منهم وأحبه منهم فكيف يدخل هذا في عقل مسلم مع قوله تعالى " اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " وأعجبوا لظلمة جهله إذ لم يفرق بين إرادة الكفر والمشيئة والخلق له وبين الرضا والمحبة وقال أيضاً فيه أن أقل من سورة من القرآن ليس بمعجز أصلاً بل هو مقدور على مثله وقال أيضاً في السفر الخامس من الديوان المذكور أن قيل كيف تقولون أكان يجوز من الله أن يؤلف القرآن تأليفاً آخر غير هذا يعجز الخلق عن مقابلته قلنا نعم هو تعالى قادر على ذلك وعلى ما لا غاية له من هذا الباب وعلى أقدار كثيرة وأعداد لا يحصيها غيره إلا أن كان تأليف الكلام ونظم الألفاظ لا بد أن يبلغ إلى غاية وحد لا يحتمل الكلام أكثر منه ولا أوسع ولا يبقى وراء تلك الأعداد نص والأوزان شيء تتناوله القدرة قال ولنا في هذه المسألة نظر في تأليف الكلام ونظم الأجسام وتصوير الأشخاص هل يجب أن يكون نهاية لا يحتمل المؤلف والمنظوم فوقها ولا ما هو أكثر منها أم لا.
قال أبو محمد: هنا صرح بالشك في قدرة الله تعالى الها نهاية كما يقول أبو الهذيل أخوه في الضلالة والكفر أم لا نهاية لها كما يقول أهل الإسلام ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: ولقد أخبرني بعض من كان يداخلهم وكان له فيهم سبب قوي وكان من أهل الفهم والذكاء وكان يزري في باطن أمره عليهم أنهم يقولون أن الله تعالى مذ خلق الأرض فإنه خلق جسماً عظيماً يمسكها عن أن تهوى هابطة فلما خلق ذلك الجسم أفناه في الوقت بلا زمان وخلق آخر مثله يمسكها أيضاً فلما خلقه أفناه إثر خلقه بلا زمان أيضاً وخلق آخر وهكذا أبداً أبداً بلا نهاية قال لي وحجتهم في هذا الوسواس والكذب على الله تعالى فيه مما لم يقله أحد قبلهم مما يكذبه الحس والمشاهدة أنه لابد للأرض من جسم ممسك والاهوت فلو كان ذلك الممسك يبقى وقتين أو مقدار طرفة عين لسقط هو أيضاً معها فهو إذا خلق ثم أفنى إثر خلقه ولم يقع لأن الجسم عندهم في ابتداء خلقه لا ساكن ولا متحرك.
قال أبو محمد: وهذا احتجاج للحمق بالحمق وما عقل أحد قط جسماً لا ساكناً ولا متحركاً بل الجسم في ابتداء خلق الله تعالى له في مكان محيط به في جهاته ولا شك ساكن في مكانه ثم تحرك وكأنهم لم يسمعوا لقول الله تعالى " إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا " فأخبر تعالى أنه يمسكها كما شاء دون تكلف ما لم يخبرنا الله تعالى به ولا جعل في العقول دليلاً عليه ولو أن قائل هذا الحمق وقف على الحق وطالع شيئاً من براهين الهيئة لخجل مما أتي به من الهوس ومن شنعهم قول هذا الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن أن تفسيم آيات القرآن وترتيب مواضع سوره شيء فعله الناس وليس هو من عند الله ولا من أمر رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: فقد كذب هذا الجاهل وأفك أتراه ما سمع قول الله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " وقول رسول الله ﷺ في آية الكرسي وآية الكلالة والخبر أنه عليه السلام كان يأمر إذا نزلت الآية أن تجعل في سورة كذا وموضع كذا ولو أن الناس رتبوا سوره لما تعدوا أحد وجوه ثلاثة إما أن يرتبوها على الأول فالأول نزولاً أو الأطول فما دونه أو الأقصر فما فوقه فإذ ليس ذلك كذلك فقد صح أنه أمر رسول الله ﷺ الذي لا يعارض عن الله عز وجل لا يجوز غير ذلك أصلاً ومن شنعهم قول الباقلاني في كتابه في مذاهب القرامطة قرب آخر الكتاب في باب ترجمته ذكر جمل م قال ات الدهرية والفلاسفة والثنوية قال الباقلاني فأما ما يستحيل بقاؤه من أجناس الحوادث وهي الأعراض فإنما يجب عدمها في الثاني من حال حدوثها من غير معدم ولا شيء يفنيها هذا نص كلامه وقال متصلاً بهذا الفصل وأما نحن فنقول أنها تفني الجواهر نعني بقطع الأكوان عنها من حيث لا يصح لها وجود لا في مكان ولا فيما يقدر تقدير المكان وإذا لم يلحق فيها شيء من الأكوان فعدم ما كان يخلق فيها منها أوجب عدمها هذا نص كلامه وهذا قول بإفناء الجواهر والأعراض وهو فناء وإعدام لا فاعل لهما وإن الله تعالى لم يفن الفاني ونعوذ بالله من هذا الضلال والإلحاد المحض وقالوا بأجمعهم ليس لله تعالى على الكفار نعمة دينية أصلاً وقال الأشعري شيخهم ولا له على الكفار نعمة دنيوية أصلاً وهذا تكذيب منه ومن أتباعه الضلال لله عز وجل إذ يقول " بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " وإذ يقول عز وجل " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين " وإنما خاطب تعالى بهذا كفاراً جحدواً نعمة الله تعالى تبكيتاً لهم وأما الدنيوية فكثير قال تعالى " قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره " إلى قوله " فلينظر الإنسان إلى طعامه " الآية ومثله من القرآن كثير وقال الباقلاني في كتابه المعروف بالانتصار في القرآن في باب مترجم بباب الدلالة على أن القرآن معجز للنبي ﷺ وذكروا سؤال الملحدين عن الدليل على صحة ما ادعاه المسلمون من أن القرآن معجز فقال الباقلاني يقال لهم ما معنى وصف القرآن وغيره من آيات الرسول ﷺ بأنه معجز فإنما معناه أنه مما لا يقدر العباد عليه وأن يكونوا عاجزين على الحقيقة وإنما وصف القرآن وغيره من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام كعصى موسى وخروج الناقة من الصخرة وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بأنه معجز وإن لم يتعلق به عجز عاجز عنه على وجه التسمية بما يعجز عنه العاجز من الأمور التي صح عجزهم عنها وقدرتهم عليها لأنهم لم يقدروا على معارضات آيات الرسل غير عن عدم قدرتهم على ذلك فالعجز عنه تشبيهاً له بالمعجوز عنه قال الباقلاني ومما يدل على أن العرب لا يجوز أن تعجز عن مثل القرآن لأنه قد صح وثبت أن العجز لا يكون عجزاً إلا عن موجود فلو كانوا على هذا الأصل عاجزين عن مثل القرآن وعصى موسى وإحياء الموتى وخلق الأجسام والأسماع والأبصار وكشف البلوى والعاهات لوجب أن يكون ذلك المثل موجوداً فيهم ومنهم كما أنهم لو كانوا قادرين على ذلك لوجب أن يكون ذلك منهم ولما لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه لا يجوز عجز العباد على الحقيقة عن مثل القرآن مع عدمه منهم وكونه غير موجود لهم ولا عن قلب عصى موسى حية ولا عن مثل ذلك.
قال أبو محمد: أينتظر كفر بعد هذا الكفر في تصريحه أن العباد والعرب لا يجوز أن يعجزوا عن مثل القرآن ولا عن قلب العصا حية ولا يغتر ضعيف بقوله إنهم غير قادرين على ذلك فإنما هو على قوله المعروف من أن الله لا يقدر على غير ما فعل وظهر منه فقط ومن عظيم المحال قوله في هذا الفصل أنه لا يجوز أن يعجز العاجز إلا عما يقدر عليه مع أن هذا الكلام منه موجب أنهم إن عجزوا عن مثل القرآن قدروا عليه وما يمترى في أنه كان كائداً للإسلام ملحداً لا شك فيه فهذه الأقوال لا ينطلق بها لسان مسلم ومن أعظم البراهين على كفر الباقلاني وكيده للدين قوله في فصل آخر من الباب المذكور في الكتاب المذكور أنه لا يجب على من سمع القرآن من محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ﷺ أن يبادر إلى القطع على أنه له آية أو أنه على يده ظهر ومن قبله نجم حتى يسأل أهل النواحي والأطراف ونقلة الأخبار ويتعرف حال المتكلمين بذلك اللسان في الآفاق فإذا علم بعد التثبت والنظر أنه لم يسبقه إلى ذلك أحد لزمه حينئذ اعتقاد نبوته.
قال أبو محمد: وهذا إنسان خاف معاجلة الأمة له بالرجم كما يرجم الكلب إن صرح بأن نوبة محمد ﷺ باطل فصرح لهم بما يؤدي إلى ذلك من قرب إذا وجب بأن لا يقر أحد بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله ﷺ ولا بأنه أتى بالقرآن ولا بأنه آية من آياته على صحة نبوته إلا حتى يسأل أهل النواحي والأطراف وينتظر الأخبار ويتعرف حال المتكلم بالعربية في الآفاق.
قال أبو محمد: فأحال والله على عمل لا نهاية له ولو عمر الإنسان عمر نوح عليه الصلاة والسلام لأن سؤال أهل النواحي والأطراف لا ينقضي في ألف عام وانتظار الأخبار ليس له حد وليت شعري متى تصل المخدرة وطالب المعاش إلى طرف من هذا المحال لأن أهل النواحي هم من بين صدر الصين إلى آخر الأندلس إلى بلاد الزنج إلى بلد الص قال بة فما بين ذلك فلاح كفر هذا الجاهل الملحد وكيده للإسلام لكل من له أدنى حس مع ضعف كيده في ذلك قال الله تعالى " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا " ويكفي من كل هزراتي به في هذا الفصل الملعون قائله أن من له علم قوي بالعربية والأخبار فيكفيه تيقن عجز العرب عن معارضته فمن بعدهم إلى اليوم وأنه من عنده ضرورة لأنه لم ينزل القرآن جملة فيمكن فيه الدعوى من أحد وإنما نزل مقطعاً في كل قصة تنزل فينزل فيها قرآن وهذه ضرورة موجبة أنه عند عليه الصلاة والسلام ظهر بوحي الله تعالى إليه وبما فيه من الغيوب التي قد ظهر إنذاره بها وأما من لا علم له باللغة والأخبار فيكفيه أخبار من يقع له العلم بخبره بأن العرب عجزت عن مثله وأنه أتى به مفصلاً عند حلول القصص التي أنزل الله تعالى فيها الآية والآيتين والكلمة والكلمتين من القرآن والتوراة حتى تم كما هو فهذا الحق وذلك الإلحاد المحض والكلام الغث السخيف ومن كفراتهم الصلع قول السمناني إذ نص على أن الباقلاني كان يقول أن جميع المعاصي كلها ألا نحاشى شيئاً منها مما يجب أن يستغفر الله منه جايز وقوعها من النبي ﷺ حاشا الكذب في البلاغ فقط وقال الباقلاني وإذا نهي النبي ﷺ عن شيء ثم فعله فليس ذلك دليلاً على أنه منسوخ إذ قد يفعله عاصياً لله عز وجل قال الباقلاني وليس على أصحابه فرضاً أن ينكروا ذلك عليه وقال السمناني في كتاب الإمامة لو لا دلالة العقل على وجوب كون النبي ﷺ معصوماً في البلاغ عن الله عز وجل لما وجب كونه معصوماً في البلاغ كما لا يجب فيما سواه من أفعاله وأقواله وقال أيضاً في مكان آخر منه وكذلك يجوز أن يكفر النبي ﷺ بعد أداء الرسال.
قال أبو محمد: بالله الذي لا إله إلا هو إن كان قال هذا القول ناصراً له وداعياً إليه مسلم قط وما كان قائله إلا كافراً ملحداً فاعلموا أيها الناس أنه قد جوز على النبي ﷺ الكفر والزنا واللياطة والبغاء والسرقة وجميع المعاصي وأي كيد للإسلام يالناس أعظم من هذا وأما صاحبه ابن فورك فإنه منع من هذا وأنكره وأجاز على النبي ﷺ صغار المعاصي كقتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان ونحو ذلك وأما شيخهما ابن مجاهد البصري ليس بالمقري فإنه منع من كل ذلك وحاشا الله أن يجوز النبي ﷺ ذنب بعمد لا صغير ولا كبير لقول الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ومن المحال أن يأمرنا الله تعالى أن نتأسي بعاص في معصيته صغرت أو كبرت وأعجبوا لاستخفاف هذا الملحد بالدين وبالمسلمين إذ يقول هاهنا أنه ليس فرضاً على أصحاب النبي ﷺ أن ينكروا عليه عصيان ربه ومخالفة أمره الذي أمرهم به وهو يقول في نصره للقياس أن قياس من قاس من الصحابة وسكوت من سكت منهم عن إنكاره دليل على وجوب الحكم بالقياس لأنهم لا يقرون على منكر فأوجب إقرارهم على المنكر من النبي ﷺ حاشا لله من هذا وأنكر إقراره على القياس لو كان منكراً فجمع بين هذه المناقضة والكذب في دعوى القياس على الصحابة ودعوى معرفة جميعهم بقياس من قاس منهم ودعوى أنهم لم ينكروه وهذه صفات الكذابين المتلاعبين بالدين ومن طوامهم ما حكاه السمناني عن الباقلاني أنه قال واختلفوا في وجوب كون النبي ﷺ أفضل أهل وقته في حال الرسالة وما بعدها إلى حين موته فأوجب ذلك قائلون وأسقطه آخرون وقال الباقلاني وهذا هو الصحيح وبه نقول.
قال أبو محمد: وهذا والله الكفر الذي لا خفاء به إذ جوز أن يكون أحد ممن في عصر النبي ﷺ فما بعده أفضل من رسول الله ﷺ وما أنكرنا على أحمد بن خابط الدون هذا إذ قال أن أب ذر كان أزهد من النبي ﷺ هذا مع قول هذا المستخف الباقلاني الذي ذكره عنه السمناني في كتابه الكبير في كتاب الإمامة منه أن من شرط الإمامة أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه.
قال أبو محمد: يا للعيارة بالدين يجوز عنه هذا الكافر أن يكون في الناس غير الرسل أفضل من رسول الله ﷺ ولا يجوز عنده أن يلي الإمامة أحد يوجد في الناس أفضل منه ثم حمقه أيضاً في هذا حمق عتيق لأنه تكليف ما لا يطاق ولا سبيل إلى القطع بفضل أحد على أحد إلا بنص من الله عز وجل وكيف يحاط بالأفضل من قريش وهم مبثوثون من أقصى السند وكابل ومكران إلى الأشوته إلى سواحل البحر المحيط ومن سواحل بحر اليمن إلى ئغور أرمينية وأذربيجان فما بين ذلك اللهم العن من لا يستحق ومن العجب أن هذا النذل الباقلاني قطع بخلاف الإجماع على أبي حنيفة بإجازته القراة الفارسية وصرح بأن ترتيب الآيات في القرآن إجماع وقد أجاز مالك لمن قرأ عند غروب الشمس وطلوعها فجاءته آية سجدة أن يصل التي قبلها بالتي بعدها فمالك عنده مخالف للإجماع وقطع بأن الشافعي مخالف للإجماع في قوله " بسم الله الرحمن الرحيم " آية من أم القرآن وإن داود خالف الإجماع في قوله بإبطال القياس أفلا يستحي هذا الجاهل من أن يصف العلماء بصفته مع عظيم جهله بأن عاصماً وابن كثير وغيرهما من القراء وطائفة من الصحابة تقول بقول الشافعي الذي جعله خلافاً للإجماع وأنه لم يأت قط عن أحد من الصحابة إيجاب الحكم بالقياس من طريق تثبت وأنه قد قال بإنكاره ابن مسعود ومسروق والشعبي وغيرهم ولكن من يضلل الله فلا هادي له ومن عجائبه قوله أن العامي إذا أنزلت به النازلة ففرضه أن يسأل أفقه أهل بلده فإذا أفتاه فهو فرضه فإن نزلت به تلك النازلة ثانية لم يجز له أن يعمل بتلك الفتيا لكن يسأل ثانية إما ذلك الفقيه وإما غيره ففرضه أن يعمل بالفتيا الثانية وهكذا أبداً.
قال أبو محمد: هذا تكليف ما لا يطاق إذ أوجب على كل أحد من العامة أن يسأل أبداً عن كل ما ينوبه في صلاته وصيامه وزكاته ونكاحه وبيوعه ويكرر السؤال عن كل ذلك كل يوم بل كل ساعة فهل في الحماقة أكثر من هذا ونعوذ بالله من الخذلان.
ذكر شنع لقوم لا نعرف فرقهم
قال أبو محمد: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل وقالوا من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك واستباحوا بهذا نساء غيرهم وقالوا أننا نرى الله ونكلمه وكلما قذف في نفوسنا فهو حق ورأيت لرجل منهم يعرف بابن شمعون كلماً نصه أن الله تعالى ماية اسم وأن الموفي ماية هو ستة وثلاثون حرفاً ليس منها في حروف الهجاء شيء إلا واحد فقط وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق وقال أيضاً أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مد رجله يوماً فنودي ما هكذا مجالس الملوك فلم يمد رجله بعدها يعني أنه كان مديماً لمجالسة الله تعالى وقال أبو حاضر النصيبي من أهل نصيبين وأبو الصياح السمرقندي وأصحابهما أن الخلق لم يزالوا مع الله تعالى وقال أبو الصياح لا تحل ذبائح أهل الكتاب وخطأ فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة وصوب قول الصحابة الذين رجعوا عنه في حربهم وقال أبو شعيب القلال أنه ربه جسم في صورة إنسان لحم ودم ويفرح ويحزن ويمرض ويفيق وقال بعض الصوفية أن ربه يمشي في الأزقة حتى أنه يمشي في صورة مجنون يتبعه الصبيان بالحجارة حتى تدموا عقبيه فاعلموا رحمكم الله أن هذه كلها كفرات صلع وأقوال قوم يكيدون الإسلام وصدق القائل: شهدت بأن ابن المعلم هازل بأصحابه والباقلاني أهزل وما الجعل الملعون في ذاك دونه وكلهم في الأفك والكفر منزل وساع مع السلطان يسعى عليهم ومحترس من مثله وهو حارس واعلموا رحمكم الله أن جميع فرق الضلالة لم يجر الله على أيديهم خيراً ولا فتح بهم من بلاد الكفر قرية ولا رفع للإسلام راية وما زالوا يسعون في قلب نظام المسلمين ويفرقون كلمة المؤمنين ويسلون السيف على أهل الدين ويسعون في الأرض مفسدين أما الخوارج والشيعة فأمرهم في هذا أشهر من أن يتكلف ذكره ما توصلت الباطنية إلى كيد الإسلام وإخراج الضعفاء منه إلى الكفر الأعلى السنة الشيعة وأما المرجئية فكذلك إلا أن الحارث بن سريح خرج بزعمه منكراً للجور ثم لحق بالترك فقادهم إلى أرض الإسلام فأنهب الديار وهتك الأستار والمعتزلة في سبيل ذلك إلا أنه ابتلى بتقليد بعضهم المعتصم والواثق جهلاً وظناً أنهم على شيء وكانت للمعتصم فتوحات محمودة كبابل والمازيار وغيرهم فالله الله أيها المسلمون تحفظوا بدينكم ونحن نجمع لكم بعون الله الكلام في ذلك الزموا القرآن وسنن رسول الله ﷺ وما مضى عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأصحاب الحديث عصراً عصراً الذين طلبوا الأثر فالزموا الإثر ودعوا كل محدثة فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في شنع المبتدعة أهل الأهواء والنحل المضلة والحمد لله رب العالمين.
تصنيف:
=============
5.
الفصل في الملل والأهواء والنحل/الجزء الخامس
< الفصل في الملل والأهواء والنحلاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
الفصل في الملل والأهواء والنحل
محتويات
1 الجزء الخامس
1.1 المعاني التي يسميها أهل الكلام اللطائف والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا
1.2 الكلام في الجن ووسوسة الشيطان وفعله في المصروع
1.3 الكلام في الطبائع
1.4 نبوة النساء
1.5 الكلام في الرؤيا
1.6 الكلام في أي الخلق أفضل
1.7 الكلام في الفقر والغنى
1.8 الكلام في الاسم والمسمى
1.9 والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا
1.10 الكلام في خلق الله تعالى للشيء أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم
1.11 الكلام في البقاء والفناء والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد
1.12 الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا
1.13 الكلام في الأحوال مع الأشعرية ومن وافقهم
1.14 مسألة أخرى
1.15 الكلام في خلق الله عز وجل للعالم في كل وقت وزيادته في كل دقيقة
1.16 الكلام في الحركة والسكون
1.17 الكلام في التولد
1.18 الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون
1.19 الكلام في الاستحالة
1.20 الكلام في الطفرة
1.21 الكلام في الإنسان
1.22 الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم وما النفس
1.23 الكلام في المعارف
1.24 الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة
1.25 الكلام في الألوان
1.26 الكلام في المتوالد والمتولد
الجزء الخامس
الفصل بكسر ففتح جمع فصلى بفتح فسكون كقصعة وقصع النخلة المنقولة من محلها إلى محل آخر لتثمر
بسم الله الرحمن الرحيم
المعاني التي يسميها أهل الكلام اللطائف والكلام في السحر وفي المعجزات التي فيها إحالة الطبائع يجوز واحدها لغير الأنبياء أم لا
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن السحر قلب للأعيان وإحالة للطبائع وأنهم يرون أعين الناس ما لا يرى وأجازوا للصالحين على سبيل كرامة الله عز وجل لهم اختراع الأجسام وقلب الأعيان وجميع إحالة الطبائع وكل معجز للأنبياء عليهم السلام ورأيت لمحمد ابن الطيب الباقلاني أن الساحر يمشي على الماء على الحقيقة وفي الهواء ويقلب الإنسان حماراً على الحقيقة وإن كل هذا موجود من الصالحين على سبيل الكرامة وأنه لا فرق بين آيات الأنبياء وبين ما يظهر من الإنسان الفاضل ومن الساحر أصلاً إلا بالتحدي فإن النبي يتحدى الناس بأن يأتوا بمثل ما جاء هو به فلا يقدر أحد على ذلك فقط وان كل ما لم يتحد به النبي ﷺ الناس فليست آية له وقطع بأن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على لسان متنبئ كاذب وذهب أهل الحق إلى أنه لا يقلب أحد عينا ولا يحيل طبيعة إلا الله عز وجل لأنبيائه فقط سواء تحدوا بذلك أو لم يتحدوا وكل ذلك آيات لهم عليهم الصلاة والسلام تحدوا بذلك أم لا والتحدي لا معنى له وأنه لا يمكن وجود شيء من ذلك لصالح ولا لساحر ولا لأحد غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والله تعالى قادر على إظهار الآيات على أيدي الكذابين المدعين للنبوة لكنه تعالى لا يفعل كما لا يفعل ما لا يريد أن يفعله من سائر ما هو قادر عليه.
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره برهان ذلك قوله عز وجل " وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته " وقال عز وجل " وعلم آدم الأسماء كلها " وقال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فصح أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله عز وجل الترتيب الذي لا يتبدل وصح أن الله عز وجل أوقع كل اسم على مسماه فلا يجوز أن يوقع اسم من تلك الأسماء على غير مسماه الذي أوقعه الله تعالى عليه لأنه كان يكون تبديلاً لكلمات الله تعالى التي أبطل الله عز وجل أن تبدل ومنع من أن يكون لها مبدل ولو جاز أن تحال صفات مسمى منها التي بوجودها فيه استحق وقوع ذلك الاسم عليه لوجب أن يسقط عنه ذلك الاسم الذي أوقعه الله تعالى عليه فإذ ذلك كذلك فقد وجب أن كل ما في العالم مما قد رتبه الله على ما هو عليه من فصوله الذاتية وأنواعه وأجناسه فلا يتبدل شيء منه قطعا إلا حيث قام البرهان على تبدله وليس ذلك إلا على أحد وجهين إما استحالة معهودة جارية على رتبة واحدة وعلى ما بنى الله تعالى عليه العالم من استحالة المني حيوانا والنوي والبزور شجرة ونباتا وسائر الاستحالات المعهودات وإما استحالة لم تعهد قط ولا نبي الله تعالى العالم عليها ولذلك قد صح للانبياء عليهم السلام شواهد لهم على صحة نبوتهم وجود ذلك بالمشاهدة ممن شهدهم ونقله إلى من لي يشاهدهم بالتواتر الموجب للعلم الضروري فوجب الإقرار بذلك وبقي ماعدا أمر الأنبياء عليهم السلام على الامتناع فلا يجوز البتة وجود ذلك لا من ساحر ولا من صالح بوجه من الوجوه لأنه لم يقم برهان بوجود ذلك ولا صح به نقل وهو ممتنع في العقل كما قدمنا ولو كان ذلك ممكنا لاستوى الممتنع والممكن والواجب وبطلت الحقائق كلها وامكن كل ممتنع ومن لحق هاهنا لحق بالسوفسطائية على الحقيقة ونسأل من جوز ذلك للساحر والفاضل هل يجوز لكل أحد غير هذين أ لا يجوز إلا لهذين فقط فان قال إن ذلك للساحر والفاضل فقط وهذا هو قولهم سألناهم عن الفرق بين هذين وبين سائر الناس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هؤلاء وبين غيرهم إلا بالدعوى التي لا يعجز عنها أحد وإن قالوا أن ذلك جائزاً أيضاً لغير الساحر والفاضل لحقوا بالسوفسطائية حقا ولم يثبتوا حقيقة وجاز تصديق من يدعي أنه يصعد إلى السماء ويرى الملائكة وانه يكلم الطير و يجتني من شجر الخروب التمر والعناب وان رجالا حملوا وولدوا وسائر التخليط الذي من صار إليه وجب أن يعامل بما هو أهله إن أمكن أو أن يعرض عنه لجنونه وقلة حيائه قال أبو محمد: لا فرق بين من ادعى شيئا مما ذكرنا لفاضل وبين دعوى الرافضة رد الشمس على علي بن أبي طالب مرتين حتى ادعى بعضهم أن حبيب بن أوس قال: فردت علينا الشمس والليل راغم بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضا ضوءها سبغ الدجنة وانطوى أبهجتها فوق السماء المرجع فوالله ما أدرى علي بدا لنا فردت له أم كان في القوم يوشع وكذلك دعوى النصارى لرهبانهم وقدمائهم فانهم يدعون لهم من قلب الأعيان أضعاف ما يدعيه هؤلاء وكذلك دعوى اليهود لأحبارهم ورؤوس المثايب عندهم ان رجلا منهم رحل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد وانه اثبت قرنين في رأس رجل مسلم من بنى الاسكندراني كان يسكن بقرطبة عند باب اليهود وهذا كله باطل موضوع وبنو الاسكندراني كانوا أقواماً أشرافاً معروفين لم يعرف لأحد منهم شيء من هذا والحماقة لا حد لها وهذا برهان كاف لمن نصح نفسه.
قال أبو محمد وأما السحر فانه ضروب منه ما هو من قبل الكواكب كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب ومن هذا الباب كانت الطلسمات وليست إحالة طبيعة ولا قلب عين ولكنها قوي ركبها الله عز وجل مدافعة لقوى اخر كدفع الحر للبرد ودفع البرد للحر وكقبل القمر للدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه إذا كانت دبرتها مكشوفة للقمر ولا يمكن دفع الطلسمات لأننا قد شاهدنا بأنفسنا أثارها ظاهرة إلى الآن من قرى لا تدخلها جرادة ولا يقع فيه برد وكسر قطة التي لا يدخلها جيش إلا أن يدخل كرها وغير ذلك كثير جدا لا ينكره إلا معاند وهي أعمال قد ذهب من كان يحسنها جملة وانقطع من العالم ولم يبق إلا آثار صناعاتهم فقط ومن هذا الباب كان ما تذكره الأوائل في كتبهم في المويسيقا وانه كان يؤلف به بين الطبائع وينافر به أيضاً بينها ونوع آخر من السحر يكون بالرقي وهو كلام مجموع من حروف مقطعه في طوالع معروفة أيضاً يحدث لذلك التركيب قوة تستثار بها الطبائع وتدافع قوى أخر وقد شاهدنا وجربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول ظهوره فييبس يبدأ من يومه ذلك بالذبول ويتم يبسه في اليوم الثالث ويقلع كما تقلع قشرة القرحة إذا تم يبسها جربنا من ذلك مالا نحصيه وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد دفعا على إنسان واحد ولا ترقي الثاني فييبس الذي رقت ويتم ظهور الذي لم ترق ويلقي حامله منه أذى الشديد وشاهدنا من كان يرقي الورم المعروف بالخنازير فيندمل ما يفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ كل ذلك البرء التام كان لا يزال يفعل ذلك في الناس والدواب ومثل هذا كثير جدا وقد اخبرنا من خبره عندنا كمشاهدتنا لثقته وتجريبنا لصدقة وفضله انه شاهد ما لا يحصى نساء يتكلمن على الذي يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا وملاقاة ضعف القلب بالكندر وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة من طلب علم ذلك أدركه ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلاً.
قال أبو محمد: وكل هذه الوجوه التي ذكرناها ليست من باب معجزات الأنبياء عليهم السلام ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة والصالحين لأن معجز الأنبياء هو خارج عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم لا يجري شيء من ذلك على قانون ولا على سنن معلوم لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر وفلق البحر واختراع طعام وماء وقلب العصا حية وإحياء ميت قد أرم وإخراج ناقة من صخرة ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكورا ومن أن يأتوا بمثله وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية التي بوجودها تستحق الأسماء.
ومنها تقوم الحدود وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر والفاضل قال أبو محمد: وإنما يلوح الفرق جداً بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما يسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها وما يثبت منها ثبات الذاتي وان لم يكن ذاتياً والفرق بين البرهان وبين ما نظن أنه برهان وليس برهاناً والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو حدثنا محمد بن بيان ثنا أحمد بن عبد البصير قال ثنا قاسم بن اصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثني ثنا عبد الرحمن ابن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن بشير بن عمرو قال ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب فقالوا انهم يتحولون فقال عمر انه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له ولكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين كثيرا وقد نص الله عز وجل على ما قلنا فقال تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فاخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخييلا لا حقيقة له وقال تعالى " إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " فأخبر تعالى أنه كيد لا حقيقة له فإن قيل قد قال الله عز وجل " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " قلنا نعم إنها حيل عظيمة وإثم عظيم إذ قصدوا بها معارضة معجزات رسول الله ﷺ وانهم كادوا عيون الناس إذ أوهموهم أن تلك الحبال والعصي تسعي فاتفقت الآيات كلها والحمد لله رب العالمين وكان الذي قدر ممن لا يدري حيلهم من أنها تسعى ظنا أصله اليقين وذلك انهم رأوا صفة حيات رقط طوال تضطرب فسارعوا إلى الظن وقدروا أنها ذات حيات ولوا معنوا الظن وفتشوها لوقفوا على الحيلة فيها وأنها ملئت زئبقا ولد فيها تلك الحركات كما يفعل العجائبي الذي يضرب بسكينة في جسم إنسان فيظن من رآه ممن لا يدري حيلته أن السكين غاصب في جسد المضروب وليس كذلك بل كان نصاب السكين مثقوبا فقط فغاصت السكين في النصاب وكإدخاله خيطا في حلقة خاتم يمسك إنسان غير متهم طرفي الخيط بيديه ثم يأخذ العجائبي الخاتم الذي فيه الخيط بفيه وفي ذلك المقام أدخله تحت يده وكان في فيه خاتم أخرى يري من حضر حلقة الخاتم الذي في فيه يوهمهم انه قد أخرجه من الخيط ثم يرد فمه إلى الخيط ويرفع يديه وفمه فينظر الخاتم الذي كان فيه الخيط وكذلك سائر حيلهم وقد وقفنا على جميعها فهذا هو معنى قوله تعالى سحروا أعين الناس واسترهبوهم أي انهم أوهموا الناس فيما رأوا ظنونا متوهمة لا حقيقة لها ولو فتشوها للاح لهم الحق وكذلك قوله تعالى " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " فهذا أمر ممكن يفعله النمام وكذلك ما روي أن النبي ﷺ سحره لبيد بن الأعصم فولد ذلك عليه مرضا حتى كان يظن انه فعل الشيء وهو لم يفعله فليس في هذا أيضا إحالة طبيعية ولا قلب عين وإنما هو تأثير بقوة لتلك الصناعة كما قلنا في الطلسمات والرقي فلا فرق ونحن نجد الإنسان يسب أو يقابل بحركة يغضب منها فيستحيل من الحلم إلى الطيش وعن السكون إلى الحركة والنزق حتى يقارب حال المجانين وربما أمرضه ذلك وقد قال عليه السلام إن من البيان لسحرا لأن من البيان ما يؤثر في النفس فيثيرها أو يسكنها عن ثورانها ويحيلها عن عزماتها وعلى هذا المعنى استعملت الشعراء ذكر سحر العيون لاستمالتها للنفوس فقط: قال أبو محمد: ويقال لمن قال أن السحر يحيل الأعيان ويقلب الطبائع أخبرونا إذا جاز هذا فأي فرق بين النبي ﷺ والساحر ولعل جميع الأنبياء كانوا سحرة كما قال فرعون عن موسى عليه السلام " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .
وإذا جاز أن يقلب سحرة موسى عليه السلام عصيهم وحبالهم حيات وقلب موسى عليه السلام عصاه حية وكان كلا الآمرين حقيقة فقد صدق فرعون بلا شك في انه ساحر مثلهم إلا انه أعلم منهم به فقط وحاشا لله من هذا بل كان فعل السحرة إلا من حيل أبي العجائب فقط فان لجئوا إلى ما ذكره الباقلاني من التحدي قيل لهم هذا باطل من وجوه أحدها إن اشتراط التحدي في كون آية النبي آية دعوى كاذبة سخيفة لا دليل على صحتها لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من حجة عقل ولا قال بهذا أحد قط قبل هذه الفرقة الضعيفة وما كان هكذا فهو في غاية السقوط والهجنة قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين " فوجب ضرورة أن من لا برهان له على صحة قوله فهو كاذب فيها غير صادق وثانيها أنه لو كان ما قالوا لسقطت اكثر آيات رسول الله ﷺ كنبعان الماء من بين أصابعه وإطعامه المئين والعشرات من صاع شعير وعناق ومرة أخرى من كسر ملفوفة في خمار وكتفله في العين فجاشت بماء غزير إلى اليوم وحنين الجذع وتكليم الذراع وشكوى البعير والذئب والأخبار بالغيوب وتمر جابر وسائر معجزاته العظام لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتحد بذلك كله أحداً ولا عمله إلا بحضرة أهل اليقين من أصحابه رضى الله عنهم ولم يبق له آية حاشا القرآن ودعاء اليهود إلى تمنى الموت وشق القمر فقط وكفى نحسا بقول أدى إلى مثل هذا فان ادعوا انه عليه السلام تحدى بها من حصر وغاب وان تمادوا على أن كل هذه ليست معجزات ولا آيات أكذبهم رسول الله ﷺ بقوله إذ فعل ذلك أشهد أني رسول الله والثالث وهو البرهان الدافع هو قول الله تعالى " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " وقوله " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " فسمى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء عليهم السلام آيات ولم يشترط عز وجل في ذلك تحديا من غيره فصح أن اشتراط التحدي باطل محض وسح أنها إذا ظهرت فهي آية كان هنالك تحد أو لم يكن وقد صح إجماع الأمة المتيقن على أن الآيات لا يأتي بها ساحر ولا غير نبي فصح أن المعجزات إذا هي آيات لا تكون لساحر ولا لأحد ليس نبيا والرابع أنه لو صح حكم التحدي لكان حجة عليه لأن التحدي عندهم يوجب أن لا يقدر على مثل ذلك أحد إذ لو أمكن أن يوجد مثل ذلك من أحد لكان قد بطل تحديه وقيل له قد وجد من يعمل مثل عملك هذا إما صالح وإما ساحر والخامس أنه لو كان ما قالوا وجاز ظهور معجزة من ساحر لا يتحدى بها أو فاضل لا يتحدى بها لامكن أن يتحدى لهما بها بعد موتهما من ضل فيهما كما فعات الغلاة بعلي رضي الله عنه فعلى كل حال قولهم ساقط والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما من ادعى أنه يشبه الساحر على العيون فيريهم ما لا يرى فان هذه الطائفة لم تكتف بالكفر بإبطال النبوات إذ لعل ما أتى به النبي ﷺ كان تشبيهاً على العيون لا حقيقة له حتى رامت إبطال الحقائق كلها أولها عن آخرها ولحقت بالسوفسطائية لحاقاً صحيحاً بلا تكلف ويقال لهم إذا جاز أن يشبه على العيون حتى يرى المشبه عليها ما لا حقيقة له وما لا تراه فما يدريكم لعلكم كلكم الآن مشبه على عيونكم ولعل بعض السحرة قد شبه عليكم فأراكم أنكم تتوضئون وتصلون وأنتم لا تعقلون شيئاً من ذلك ولعلكم تظنون أنكم تزوجتم وإنما في بيوتكم ضأن ولا معز ولعلكم الآن على ظهر البحر ولعل كل ما تعتقدون من الدين تشبيه عليكم وهذا كله لا مخلص لهم منه وقد عاب الله عز وجل من ذهب إلى هذا فقال " ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون " فلو جاز أن يكون للسحر حقيقة ويشبه ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وأمكن أن يشبه على البصر ما ذمهم الله عز وجل بأن قالوا شيئاً يمكن كونه لكنهم لما قالوا ما لا يمكن البتة وتعلقوا بذلك في دفع الحقائق عابهم الله تعالى بذلك وأنكره عليهم.
قال أبو محمد: وليس غلط الحواس في بعض الأوقات من باب التشبيه عليها في شيء لأن أحدنا قد يرى شخصاً على بعد لا يشك فيه إلا أنه سارع فقطع أنه إنسان أو أنه فلان فقطع بظنه ولو أنه لم يعمل ظنه ولا قطع به لكان باقياً على ما أدرك من الحقيقة وهكذا في كل ما حكم فيه المرء بظنه وأما ذو الآفة كمن فيه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها فهو أيضاً كما ذكرنا وإنما الماء المطل على حدقته يوهمه أنه رأى شيئاً وقطع بذلك فإذا تثبت في كل ذلك لاح له الحق من الظن وكذلك من فسد مكان التخيل من دماغه فإن نفسه تظن ما يتوهمه فتقطع به ولو قوي تميزها لفرقت بين الحق والباطل وهكذا القول في إدراك السمع والذوق وهذا كله يجري على رتب مختلفة بمن أعمل ظنه وعلى رتب غير مختلفة في جمل هذه الأوقات بل هي ثابتة عند أهل التحقيق والمعرفة معروفة العلاج حتى يعود منها إلى صلاحه ما لم يستحكم فساده ولا يظن ظان أنه ممكن أن نكون في مثل حال هؤلاء إذ لو كان هذا لم نعرف شيئاً من العلوم على رتبه وأحكامه الجارية على سنن واحد وبالله تعالى التوفيق ثم نسألهم بأي شيء يعرفون أنه لم يشبه على عيونكم فقد عرفناكم نحن بماذا نعرف أن حواسنا سليمة وأن عقولنا سليمة ما دامت سالمة وبماذا نعرف الحواس المدخولة والعقول المدخولة وغير المدخولة وهو إجراء ما أدرك بالحواس السليمة والعقول السليمة على رتب محدودة معلومة لا تبدل عن حدودها أبداً وأجرأ ما أدرك بالحواس الفاسدة والعقول المدخولة على غير رتب محدودة فإنهم لا يقدرون على فرق أصلاً وبالله تعالى التوفيق: قال أبو محمد: وكذلك ما ذكر عمن ليس نبياً من قلب عين أو إحالة طبيعة فهو كذب إلا ما وجد من ذلك في عصر نبي فإنه آية كذلك لذلك النبي وذلك الذي ظهرت عليه آية بمنزلة الجذع الذي ظهر فيه الحنين والذراع الذي ظهر فيه النطق والعصا التي ظهرت فيها الحياة وسواء كان الذي ظهرت فيه الآية صالحاً أو فاسقاً وذلك كنحو النور الذي ظهر في سوط عمر بن حممه الدوسي وبرهان ذلك أنه لم يظهر فيه بعد موت النبي ﷺ.
قال أبو محمد: فإن قيل إذا أجزتم أن تظهر المعجزة في غير نبي لكن في عصر نبي لتكون آية لذلك النبي فهلا أجزتموه كذلك بعد موت النبي ﷺ لتكون آية له أيضاً ولا فرق بين الأمرين قلنا إنما أجزنا ذلك الشيء في الجماد وسائر الحيوان وفيمن شاء الله تعالى إظهار ذلك فيه من الناس ولا نخص بذلك فاضلاً لفضله ولا نمنع ذلك في فاسق لفسقه أو كافر وإنما ننكر على من خص بذلك الفاضل فجعلها كرامة له فلو جاز ذلك بعد موت النبي ﷺ لا شكل الأمر ولم نكن في أمن من دعوى من ادعى أنها آية لذلك الفاضل ولذلك الفاسق والإنسان من الناس يدعيها آية له ولو كان ذلك لكان إشكالاً في الدين وتلبيساً من الله تعالى على جميع عباده أولهم عن آخرهم وهذا خلاف وعد الله تعالى لنا وإخباره بأنه قد بين علينا الرشد من الغي وليس كذلك ما كان في عصر النبي ﷺ لأنه لا يكون إلا من قبل النبي ﷺ وبإخباره وإنذاره فبدت بذلك أنها له لا للذي قال أبو محمد: وأما الذي روي في ذلك عن الثلاثة أصحاب الغار وانفراج الصخرة ثلثاً ثلثاً عندما ذكروا من أعمالهم فلا تعلق لهم به لأن تكسير الصخرة ممكن في كل وقت ولكل أحد بلا إعجاز وما كان هكذا فجائز وقوعه بالدعاء وبغير الدعاء لكن وقع وفاقاً لتمنيه كمن دعا في موت عدوه أو تفريج همه أو بلوغ أمنيته في دنياه ولقد حدثني حكم بن منذر بن سعيد أن أباه رحمه الله كان في جماعة في سفرة في صحراء فعطشوا وأيقنوا بالهلكة ونزلوا في ظل جبل ينتظرون الموت قال فأسندت رأسي إلى حجر ناتئ فتأذيت به فقلعته فاندفع الماء العذب من تحته فشربنا وتزودنا ومثل هذا كثير مما يفرج وحتى لو كانت معجزة لوجب بلا شك أن يكونوا أنبياء أو لنبي ممن في زمن نبي لابد مما قدمناه.
قال أبو محمد: ولا عجب أعجب من قول من يجيز قلب الأعيان للساحر وهو عندهم فاسق أو كافر ويجيز مثل ذلك للصالح وللنبي فقد جاز عندهم قلب الأعيان للنبي وللصالح وللفاسق وللكافر فوجب أن قلب الأعيان جائز من كل أحد وبؤساً لقول أدى إلى مثل هذا وهم يجيزون للمغيرة بن سعيد وبيان ومنصور الكشف وقلب الأعيان على سبيل السحر وقد جاء بعدهم من يدعي لهم النبوة بها فاستوى عند هؤلاء المخذولين النبي والساحر نعوذ بالله من الضلال المبين.
قال أبو محمد: فان اعترضوا بقول الله تعالى " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ " وبقوله تعالى " أجيب دعوة الداع إذا دعان " فهذا حق وإنما هو بلا شك أنه في الممكنات التي علم الله تعالى أنها تكون لا فيما في علم الله تعالى أنها لا تكون ولا في المحال ونسألهم عمن دعا إلى الله تعالى في أن يجعله نبياً أو في أن ينسخ دين الإسلام أو بأن يجعل القيامة قبل وقتها أو يمسخ الناس كلهم قردة أو بأن يجعل له عيناً ثالثة أو بأن يدخل الكفار الجنة أو المؤمنين النار وما أشبه هذا فإن أجازوا كل هذا كفروا ولحقوا مع كفرهم بالمجانين وإن منعوا من كل هذا تركوا استدلالهم بالآيات المذكورة وصح أن الإجابة إنما تكون في خاص من الدعاء لا في العموم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وصح أن رسول الله ﷺ قال لأسامة وخالد هلا شققت عن قلبه لتعلم أ قال ها متعوذا أم لا.
قال أبو محمد: فلو جاز ظهور المعجزة على غير نبي على سبيل الكرامة لوجب القطع على ما في قلبه وأنه ولي الله تعالى وهذا لا يعلم من أحد بعد الصحابة رضى الله عنهم الذين ورد فيهم النص وأما قول الباقلاني أن الله تعالى لا يقدر على إظهار آية على يد كذاب فهو داخل في جملة تعجيزه الباري تعالى وهو أيضاً تعجيز سخيف داخل في جملة المحال وذلك أنه جعل الله تعالى قادراً على إظهار الآيات على كل ساحر فإن علم أنه يقول أنه نبي لم يقدر على أن يظهرها عليه وهذا قول في غاية الفساد لأن من قدر على شيء لم يجز أن يبطل قوته عليه علمه بأن ذلك الذي يظهر فيه الفعل يقول أنا نبي ولا يتوهم هذا ولا يتشكل في العقل ولا يمكن البتة وإنما هم قوم أهملوا حكم الله تعالى عليهم وأطلقوا حكمهم عليه تعالى وما في الكفر أسمج من هذا ولا أطم ولا أبرد.
قال أبو محمد: ورأيت للباقلاني في فصل من كلامه أن الناس ليسوا عاجزين عن مثل هذا القرآن ولا قادرين عليه ولا هم عاجزون عن الصعود إلى السماء ولا عن إحياء الموتى ولا عن خلق الأجسام ولا اختراعها ولا قادرين على ذلك هذا نص كلامه دون تأويل منا عليه ثم قال إن القدرة لا تقع إلا حيث يقع العجز.
قال أبو محمد: وكل هذا هوس لا يأتي به إلا الممرور وأطم من ذلك احتجاجه بأن العجز لا يقع إلا حيث تقع القدرة ولا ندري في أي لغة وجدوا هذا الكذب أم في أي عقل وجد هذا السخف وما شك ذو علم باللغة من الخاصة والعامة في بطلان قوله وفي أن العجز ضد القدرة وأن ما قدر الإنسان عليه فلم يعجز عنه في حين قدرته عليه وأن ما عجز عنه فلم يقدر عليه في حين عجزه عنه وإن نفي القدرة إثبات للعجز وأن نفي العجز إثبات للقدرة ما يجهل هذا عامي ولا خاصي أصلاً وهو أيضاً معروف بأول العقل والعجب أن يأتي بمثل هذه الدعاوي السخيفة بغير دليل أصلاً لكن حماقات وضلالات يطلقها هذا الجاهل وأمثاله من الفساق في دين الله تعالى فيتلقفها عنهم من أضله الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان وقد قال الله تعالى " واعلموا أنكم غير معجزي الله " فاقتضى هذا أنهم مقدور عليهم لله تعالى وقال تعالى " ليس بمعجز في الأرض " فوجب أنه مقدور عليه وقال تعالى " والله على كل شيء قدير " فصح أنه غير عاجز وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكلام في الجن ووسوسة الشيطان وفعله في المصروع
قال أبو محمد: لم ندرك بالحواس ولا علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل لكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء وبين أن يخلق خلقا عنصرهم النار والهواء فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلا يخرجهم به عن هذا الظاهر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال قال تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ".
قال أبو محمد: وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل " إلا إبليس كان من الجن ".
قال أبو محمد: وإذ أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله ﷺ أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقا يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله ﷺ ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله ﷺ وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه.
قال أبو محمد: وهم أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساما صافية رقاقا هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتوصلون بها إلى قذف ما يوسوسون به في النفوس برهان ذلك قول الله تعالى " من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " ونحن نشاهد الإنسان يرى من له عنده ثار فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط ويرى من يخاف فتحدث له حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحل بها طبائعه فيغضبه مرة ويخجله أخرى ويفزعه ثالثة ويرضيه رابعة وكذلك يحيله أيضا بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونها إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر: قال أبو محمد: وأما الصرع فان الله عز وجل قال " الذي يتخبطه الشيطان من المس " فذكر عز وجل تأثير الشيطان في المصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئا ومن زاد على هذا شيئا فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل " ولا تقف ما ليس لك به علم " وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه ﷺ ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه كما جاء في القرآن يثير به طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد وأما قول رسول الله ﷺ أن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا أجنحت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات أو كما قال عليه السلام مما هذا معناه بلا شك فقد قلنا أنه عليه السلام لا يقول إلا الحق وأن كلامه كله على ظاهره إلا أن يأتي نص بأن هذا النص ليس على ظاهره فنسمع ونطيع أي يقوم بذلك برهان من ضرورة حس أو أول عقل فنعلم أنه عليه السلام إنما أراد ما قد قام بصحته البرهان لا يجوز غير ذلك وقد علمنا يقينا أن الشمس في كل دقيقة طالعة على أفق من الآفاق مرتفعة على آخر مستوية على ثالث زائلة عن رابع جانحة للغروب على خامس غاربة على سادس هذا ما لاشك فيه عند كل ذي علم بالهيئة فإذ ذلك كذلك فقد صح يقينا أنه عليه السلام إنما عني بذلك أفقا ما دون سائر الآفاق لا يجوز غير ذلك إذ لو أراد كل أفق لكان الإخبار بأنه يفارقها كذبا وحاشا له من ذلك فإذ لا شك في هذا كله فلا مرية أنه عليه الصلاة والسلام إنما عني به أفق المدينة إذ هو الأفق الذي أخبر أهله بهذا الخبر فأنبأهم بما يقارن الشمس في تلك الأحوال وما يفارقها من الشيطان والله أعلم بذلك القرآن ما هو لا نزيد على هذا إذ لا بيان عندنا فيما بينه إلا أنه ليس شيء من ذلك بممتنع أصلاً فصح بما ذكرنا أن أول الخبر خاص كما وصفنا وأن نهيه عن الصلاة في الأوقات قصة أخرى وقضية ثانية وحكم غير الأول فهو على عمومه في كل زمان وكل مكان إلا ما قام البرهان على تخصيصه من هذا الحكم بنص آخر كما بينا في غير هذا الكتاب في كتب الصلاة من تآليفنا والحمد لله رب العالمين كثيرا.
الكلام في الطبائع
قال أبو محمد: ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة وقالوا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً وقالوا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة قالوا ولا في الخمر طبيعة إسكار ولا في المني قوة يحدث بها حيوان ولكن الله عز وجل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكنا أن يحدث من مني الرجال جملا ومن مني الحمار إنسانا ومن زريعة الكزبر نخلا.
قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له إن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والبحيرة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بالجيم ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية وسمعها النبي ﷺ فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به وقد قال امرؤ القيس: وإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقال حميد بن ثور الهلالي الكندي: لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة وتفرق ما بين الرجال الطبائع وقال النابغة: لهم سيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب وقال رسول الله ﷺ للجارود إذ أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود الله جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب فقال رسول الله ﷺ بل الله جبلك عليهما ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقوال بهذا في الناس خاصة فقلت له وأني لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه.
قال أبو محمد: وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط.
قال أبو محمد: معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلاً لأن المادة في لغة العرب والدأب والدين والديدان والهجري ألفاظ مترادفة على معنى واحد وهي في أكثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن تركه إياه ولا ينكر زواله عنه بل هو ممكن وجود غيره ومثله بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع فالعادة في استعمال العرب العامة التلحي وحمل القناة وتحمل بعض الناس القلنسوة وكاستعمال بعضهم حلق الشعر وبعضهم توفيره. تقول وقد دارت لها وضيني أهذا دينه أبدا وديني وقال آخر ومن عاداته الخلق الكريم. و قال آخر: قد عود الطير عادات وثقن بها فهن يصحبنه في كل مرتحل وقال آخر عودت كندة عادات فصبرا لها. و قال آخر: وشديد عادة منتزعه. فذكر أن انتزاع العادة يشتد إلا أنه ممكن غير ممتنع بخلاف إزالة الطبيعة التي لا سبيل إليها وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما قال حميد بن ثور الهلالي: سلي الربع إن يممت يا أم سالم وهل عادة للربع أن يتكلما قال أبو محمد: وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكنا له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك وكطبيعة البر أن لا ينبت شعيرا ولا جوزا وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلاً وبطل اسم الخمر عنها وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلا وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شئ له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل حامله ولا فارقه اسمه وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة فأحدها ممتنع الزوال كالغطس والقصر والزرق وسواد الزنجي ونحو ذلك إلا أنه لو توهم زايلا لبقي الإنسان إنسانا بحاله وثانيها بطيء لزوال كالمرودة وسواد الشعر وما أشبه ذلك وثالثها سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل وكمدة الهم ونحو ذلك فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان.
نبوة النساء
قال أبو محمد: هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة وفي زماننا فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدعت من قال ذلك وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك.
قال أبو محمد: ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلاً إلا أن بعضهم نازع في ذلك بقول الله قال أبو محمد: وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدع أحد أن الله تعالى أرسل امرأة وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الأنباء وهو الإعلام فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحي إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة كقول الله تعالى " وأوحى ربك إلى النحل " ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب وفيه يقول الله عز وجل " شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله ﷺ ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم ولا من باب الرؤيا التي لا يدري أصدقت أم كذبت بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ويكون عند الوحي به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة يحدث الله عز وجل لمن أوحى به إليه علما ضروريا بصحة ما أوحي به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء لا مجال للشك في شيء منه إما بمجئ الملك به إليه وإما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرفونا ما معناها فإنهم لا يأتون بشيء أصلاً فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله عز وجل أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالي قال عز وجل " وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ " فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عز وجل بالبشارة لها بإسحاق ثم يعقوب ثم بقولهم لها أتعجبين من أمر الله ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهما السلام بخطابها وقال لها " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من تعالى إليها وكان زكريا عليه السلام يجد عندها من الله تعالى رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ووجدنا أم موسى عليهما الصلاة والسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليم وأعلمها أنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا فهذه نبوة لا شك فيها وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عز وجل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجستها في غاية الجنون والمرار الهائج ولو فعل ذلك أحدنا لكان غاية الفسق أو في غاية الجنون مستحقا لمعاناة دماغه في البيمارستان لا يشك في هذا أحد فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق أو مجنونا في غاية الجنون هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس فصحت نبوتهن بيقين ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهم السلام في سورة كهعيص ذكر مريم في جملتهم ثم قال عز وجل " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم وليس قوله عز وجل وأمه صديقة بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعال " يوسف أيها الصديق " وهو مع ذلك نبي رسول وهذا ظاهر وبالله تعالى التوفيق ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله ﷺ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون أو كما قال عليه الصلاة والسلام والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك وكان تخصيصه ﷺ مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة فلم يكمل فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما فيه امرأة غيرهما أصلاً وإن كن بنصوص القرآن نبيات وقد قال تعالى " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض " فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ومنه نبينا وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام بلا شك للنصوص الواردة بذلك في فضلهما على غيرهما وكمل من النساء من ذكر عليه الصلاة والسلام.
الكلام في الرؤيا
قال أبو محمد: ذهب صالح تلميذ النظام إلى أن الذي يري أحدنا في الرؤيا حق كما هو وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس فإن الله عز وجل اخترعه في ذلك الوقت بالصين.
قال أبو محمد: وهذا القول في غاية الفساد لأن العيان والعقل يضطران إلى كذب هذا القول وبطلانه أما العيان فلأننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحالات من كونه مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك وقد صح عن رسول الله ﷺ أن رجلا قص عليه رؤيا فقال لا تخبر بتلعب الشيطان بك.
قال أبو محمد: والقول الصحيح في الرؤيا هو أنها أنواع فمنها ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط ومنها ما يكون من حديث النفس وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدو أو لقاء حبيب أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ومنها ما يكون من غلبة الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار ولزهر والحمرة والسرور ورؤية من غلب عليه الصفراء للنيران ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه وكرؤية من غلب عليه السوداء الكهوف والظلم والمخاوف ومنها ما يريه الله عز وجل نفس الحالم إذا صفت من أكدار الجسد وتخلصت من الأفكار الفاسدة فيشرف الله تعالى به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما يراه في الصدق وقد جاء عن النبي ﷺ أنه لم يبق بعده من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له وأنها جزء من ستة وعشرين جزأ من النبوة إلى جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة إلى جزء من سبعين جزأ من النبوة وهذا نص جلي على ما ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط وقد تخرج هذه النسب والأقسام على أنه عليه السلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهم السلام فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزأ من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ومنهم من رؤياه جزء من ستة وأربعين جزأ من نبوته وخصايصه وفضايله ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزأ من نبوته وخصائصه وفضائله وهذا هو الأظهر والله أعلم ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل بتكلف وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته حاشا رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته كرؤيا إبراهيم عليه السلام ولو رأى ذلك غير نبى في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك وقد تصدق رؤيا الكافر ولا تكون حينئذ جزأ من النبوة ولا مبشرات ولكن إنذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالي التوفيق.
الكلام في أي الخلق أفضل
قال أبو محمد: ذهب قوم إلا أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة وذهبت طائفة تنتسب إلى الإسلام أن الصالحين غير النبيين أفضل من الملائكة وذهب بعضهم إلى أن الولي أفضل من النبي وأنه يكون في هذه الأمة من هو أفضل من عيسى بن مريم ورأيت الباقلاني يقول جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله ﷺ من حين بعث إلى أن مات ورأيت لأبي هاشم الجبائى أنه لو طال عمر إنسان من المسلمين في الأعمال الصالحة لأمكن أن يوازي عمل النبي ﷺ كذب لعنه الله.
قال أبو محمد: ولولا أنه استحيا قليلا مما لم يستحي من نظيره الباقلاني لقال ما يوجبه هذا القول من أنه كان يزيد فضلا على رسول الله ﷺ.
قال أبو محمد: وهذه الأقوال كفر مجرد لا تردد فيه وحاشا لله تعالى من أن يكون أحد ولو عمر عمر الدهر يلحق فضل صاحب فكيف فضل رسول الله ﷺ أو نبي من الأنبياء عليهم السلام فكيف يكون أفضل من رسول الله صلى لله عليه وسلم هذا ما لا تقبله نفس مسلم كأنهم ما سمعوا قول الله عز وجل " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا " وقول النبي ﷺ دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
قال أبو محمد: فكيف يلحق أبدا من أن تصدق هو بمثل جبل أحد ذهبا وتصدق الصاحب بنصف مد من شعير كان نصف مد الشعير لا يلحقه في الفضل جبل الذهب فكيف برسول الله ﷺ قال أهل الحق أن الملائكة أفضل من كل خلق حلقه الله تعالى ثم بعدهم الرسل من النبيين عليهم السلام ثم بعدهم الأنبياء غير الرسل عليهم السلام ثم أصحاب رسول الله ﷺ على ما رتبنا قبل.
قال أبو محمد: ومن صحب رسول الله ﷺ من الجن له من الفضل ما لسائر الصحابة بعموم قوله ﷺ دعوا إلي أصحابي وأفضل الرسل محمد ﷺ أما فضل الملائكة على الرسل من غير الملائكة فلبراهين منها قول الله عز وجل أمراً لرسول الله ﷺ أن يقول " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ " فلو كان الرسول أرفع من الملك أو مثله ما أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يقول لهم هذا القول الذي إنما قاله منحطا عن الترفع بأن يظن أنه عنده حزائن الله أو أنه يعلم الغيب أو أنه ملك منزل لنفسه المقدسة في مرتبته التي هي دون هذه المراتب بلا شك إذ لا يمكن البتة أن يقول هذا عن مراتب هو أرفع منها وأيضا فأن الله عز وجل ذكر محمدا الذي هو أفضل الرسل بعد الملائكة وذكر جبريل عليهما السلام وكان التباين من الله عز بينهما تبايناً بعيدا وهو أنه عز وجل قال " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " فهذه صفة جبريل عليه السلام ثم ذكر محمدا ﷺ فقال " وما صاحبكم بمجنون " ثم زاد تعالى بيانا رافعا للإشكال جملة فقال " ولقد رآه بالأفق المبين " فعظم الله تعالى من شأن أكرم الأنبياء والرسل بأن رأى جبريل عليه السلام ثم قال " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى " فأمتن الله تعالى كما ترى على محمد ﷺ بأن أراه جبريل مرتين وإنما يتفاضل الناس كما قدمنا بوجهين فقط أحدهما الاختصاص المجرد وأعظم الاختصاص الرسالة والتعظيم فقد حصل ذلك للملائكة قال تعالى " جاعل الملائكة رسلا " فهم كلهم رسل الله ثم اختصهم تعالى بأن ابتدأهم في الجنة وحوالي عرشه في المكان الذي وعد رسله ومن اتبعهم بأن نهاية كرامتهم مصيرهم إليه وهو موضع خلق الملائكة ومحلهم بلا نهاية مذ خلقوا وذكرهم عز وجل في غير موضع من كتابه فأثنى على جميعهم ووصفهم بأنهم لا يفترون ولا يسأمون ولا يعصون الله فنفي عنهم الزلل والفترة والسآمة والسهو وهذا أمر لم ينفه عز وجل عن الرسل صلوات الله عليهم بل السهو جائز عليهم وبالضرورة نعلم من عصم من السهو أفضل ممن لم يعصم منه وأن من عصم من العمد كالأنبياء عليهم السلام أفضل ممن لم يعصم ممن سواهم فإن اعترض معترض بقول الله عز وجل " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " قيل له ليس هذا معارضا لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فإن كل آية فإنما تحمل على مقتضاها وموجب لفظها ففي هذه الآية إن بعض الملائكة رسل وهذا حق لا شك فيه وليس إخبارا عن سائرهم بشيء لا بأنهم رسل ولا بأنهم ليسوا رسلا فلا يحل لأحد أن يزيد في الآية ما ليس فيها ثم في الآية الأخرى زيادة على ما في هذه الآية وإخبار بأن جميع الملائكة رسل ففي تلك الآية بعض ما في هذه الآية وفي هذه الآية كل ما في تلك وزيادة ففرض قبول كل ذلك كما أن الله عز وجل إذ ذكر في كهعيص من ذكر من النبيين فقال " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا " وقد قال تعالى " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " أفترى الرسل الذين لم يقصصهم الله تعالى عليه جملة أو في هذه السورة خاصة لم ينعم عليهم معاذ الله من هذا فما يقوله مسلم والوجه الثاني من أوجه الفضل هو تفاضل العاملين بتفاضل منازلهم في أعمال الطاعة والعصمة من المعاصي والدنيات وقد نص الله تعالى على أن الملائكة لا يفترون من الطاعة ولا يسأمون منها ولا يعصون البتة في شيء أمروا به فقد صح أن الله عز وجل عصمهم من الطبائع الناقصة الداعية إلى الفتور والكسل كالطعام والتغوط وشهوة الجماع والنوم فصح يقينا أنهم أفضل من الرسل الذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما.
قال أبو محمد: واحتج بعض المخالفين في هذا بأن قال قال الله عز وجل " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " قالوا فدخل في العالمين الملائكة وغيرهم.
قال أبو محمد: وهذه الآية قد صح البرهان بأنها ليست على عمومها لأنه تعالى لم يذكر فيها محمدا ﷺ ولا خلاف في أنه أفضل الناس قال الله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فإن قال أن آل إبراهيم هم آل محمد قيل له فنحن إذا أفضل من جميع الأنبياء حاشا آل عمران وآدم ونوحا فقط وهذا لا يقوله مسلم فصح يقينا أن هذه الآية ليست على عمومها فإذ لاشك في ذلك فقد صح أن الله عز وجل إنما أراد بها عالمي زمانهم من الناس لا من الرسل ولا من النبين نعم ولا من عالمي غير زمانهم أننا بلا شك أفضل من آل عمران فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة وبالله تعالى التوفيق وصح أنها مثل قوله تعالى " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وإني فضلتكم على العالمين " ولا شك في أنهم لم يفضلوا على الرسل ولا على النبيين ولا على أمتنا ولا على الصالحين من غيرهم فكيف على الملائكة ونحن لا ننكر إزالة للنص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان العقل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذكر بعضهم قول الله عز وجل " الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " قال أبو محمد: وهذا مما لاحجة لهم فيه أصلاً لأن هذه الصفة تعم كل مؤمن صالح من الإنس ومن الجن نعم وجميع الملائكة عموما مستويا فإنما هذه لآية تفضيل الملائكة والصالحين من اإنس والجن على سائر البرية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وهذا أعظم حجة عليهم لأن السجود المأمور به لا يخلو من أن يكون سجود عبادة وهذا كفر ممن قاله ولا يجوز أن يكون الله عز وجل يأمر أحداً من خلقه بعبادة غيره وإما ان يكون سجود تحية وكرامة وهو كذلك بلا خلاف من أحد من الناس فإذ هو كذلك فلا دليل أدل على فضل الملائكة على آدم من أن يكون الله تعالى بلغ الغاية في إعظامه وكرامته بأن تحييهم الملائكة لأنهم لو كانوا دونه لم يكن له كرامة ولا مزية في تحيتهم له وقد أخبر الله عز وجل يوسف عليه السلام فقال " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا " وكانت رؤياه هي التي ذكر الله عز وجل عنه إذ يقول " إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ".
قال أبو محمد: وليس في سجود يعقوب عليه السلام ليوسف ما يوجب أن يوسف أفضل من يعقوب واحتجوا أيضا بأن الملائكة لم يعلموا أسماء الأشياء حتى أنبأهم بها آدم على جميعهم السلام بتعليم الله عز وجل آدم إياها.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عز وجل يعلم من هو أنقص فضلا وعلما في الجملة أشياء لا يعلمها من هو أفضل منه وأعلم منه بما عدا تلك الأشياء فعلم الملائكة ما لا يعلمه آدم وعلم آدم أسماء الأشياء ثم أمره بأن يعلمها الملائكة كما خص الخضر عليه السلام بعلم لم يعلمه موسى عليه السلام حتى اتبعه موسى عليه السلام ليتعلم منه وعلم أيضا موسى عليه السلام علوما لم يعلمها الخضر وهكذا صح عن النبي ﷺ أن الخضر قال لموسى عليه السلام إنى على علم من علم الله لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله لا أعلمه أنا.
قال أبو محمد: ولي في هذا أن الخضر أفضل من موسى عليه السلام.
قال أبو محمد: وقد قال بعض الجهال إن الله تعالى جعل الملائكة خدام أهل الجنة يأتونهم بالتحف من عند ربهم عز وجل قال تعالى " تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " وقال تعالى " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ".
قال أبو محمد: أما خدمة الملائكة لأهل الجنة وإقبالهم إليهم بالتحف فشيء ما علمناه قط ولا سمعناه إلا من القصاص بالخرافات والتكاذيب وإنما الحق من ذلك ما ذكره الله عز وجل في النص الذي أوردنا وهو ولله الحمد من أقوى الحجج في فضل الملائكة على من سواهم ويلزم هذا المحتج إذ كان إقبال الملائكة بالبشارات إلى أهل الجنة دليلا على فضل أهل الجنة عليهم أن يكون إقبال الرسل إلينا مبشرين ومنذرين بالبشارات من عند الله عز وجل دليلا على أننا أفضل منهم وهذا كفر مجرد ولكن الحقيقة هي أن الفضل إذ كان للأنبياء عليهم السلام على الناس بأنهم رسل الله اليهم ووسائط بين ربهم تعالى وبينهم فالفضل واجب للملائكة على الأنبياء والرسل لكونهم رسل الله تعالى إليهم ووسائط بينهم وبين ربهم تعالى وأما تفضل الله تعالى على أهل الجنة بالأكل والشرب والجماع واللباس والآلات والقصور فإنما فضلهم الله عز وجل من ذلك بما يوافق طباعهم وقد نزه الله سبحانه الملائكة عن هذه الطبائع المستدعية لهذه اللذات بل أبانهم وفضلهم بل جعل طبائعهم لا تلتذ بشئ من ذلك إلا بذكر الله عز وجل وعبادته وطاعته في تنفيذ أوامره تعالى فلا منزلة أعلى من هذه وعجل لهم سكنى المحل الرفيع الذي جعل تعالى غاية إكرامنا الوصول إليه بعد لقاء الأمرين في التعب في عمارة هذه الدنيا النكدة وفي كلف الأعمال ففي ذلك المكان خلق الله عز وجل الملائكة منذ ابتدأهم وفيه خلدهم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال بعض السخفاء أن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح.
قال أبو محمد: وهذا كذب وقحة وجنون لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلا متعبدون منهيون مأمورون وليس كذلك الهواء والرياح لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة بل هي مسخرة مصرفة ولا اختيار لها قال تعالى " والسحاب المسخر بين السماء والارض " وقال تعالى " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام " وذكر تعالى الملائكة فقال " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " وقال تعالى " ويستغفرون لمن في الأرض " وقال تعالى " وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا " فقرن تعالى نزول الملائكة برؤيته تعالى وقرن تعالى إتيانه بإتيان الملائكة فقال عز وجل " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " واعلم أن إعراب الملائكة هاهنا بالرفع عطفا على الله عز وجل لا على الغمام ونص تعالى على أن آدم عليه الصلاة والسلام إنما أكل من الشجرة ليكون ملكا أو ليخلد كما قص تعالى علينا إذ يقول عز وجل " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ".
قال أبو محمد: فبيقين ندري أن آدم عليه السلام لولا يقينه بأن الملائكة أفضل منه وطمعه بأن يصير ملكا لما قبل من أبليس ما غره به من أكل الشجرة التي نهاه الله عز وجل عنها ولو علم آدم أن الملك مثله أو دونه لما حمل نفسه على مخالفة أمر الله تعالى لينحط عن منزلته الرفيعة إلى الدون هذا ما لايظنه ذو عقل أصلاً.
قال أبو محمد: وقال عز وجل " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون " فقوله عز وجل بعد ذكر المسيح ولا الملائكة المقربون بلوغ الغاية في علو درجتهم على المسيح عليه السلام لأن بنية الكلام ورتبته إنما هي إذا أراد القائل نفي صفة ما عن متواضع عنها أن يبدأ بالأدني ثم بالأعلى وإذا أراد نفي صفة ما عن مترفع عنها أن يبدأ بالأعلى ثم بالأدني فنقول في القسم الأول ما يطمع في الجلوس بين يدي الخليفة خازنه ولا وزيره ولا أخوه ونقول في القسم الثاني ما ينحط إلى الأكل في السوق وال ولا ذو مرتبة ولا متصاون من التجار أو الصناع لا يجوز البتة غير هذا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وأيضا فإن رسول الله ﷺ أخبر بأن الله سبحانه وتعالى خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار.
قال أبو محمد: ولا يجهل فضل النور على الطين وعلى النار أحد إلا من لم يجعل الله له نورا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وقد صح أن رسول الله ﷺ دعا ربه في أن يجعل في قلبه نورا فالملائكة من جوهر دعا أفضل البشر ربه في أن يجعل في قلبه منه وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد: وقال عز وجل " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر " إلى قوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فإنما فضل الله تعالى بنص كلامه عز وجل بني آدم على كثير ممن خلق لا على كل من خلق وبلا شك أن بنى آدم يفضلون على الجن وعلى جميع الحيوان الصامت وعلى ما ليس حيوانا فلم يبق خلق يستثني من تفضيل الله تعالى بني آدم عليه إلا الملائكة فقط.
قال أبو محمد: وأما فضل رسول الله ﷺ على كل رسول قبله فالثابت عنه عليه السلام أنه قال فضلت على الأنبياء بست وروي بخمس وروي بأربع وروي بثلاث رواه جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وبقوله ﷺ أنا سيد ولد آدم ولا فخر وإنه عليه السلام بعث إلى الأحمر والأسود وأنه عليه السلام أكثر الأنبياء اتباعا وأنه ذو الشفاعة التي يحتاج إليها يوم القيامة فيها النبيون فمن دونهم أماتنا الله على ملته ولا خالف بنا عنع وهو أيضاً عليه السلام خليل الله وكليمه.
الكلام في الفقر والغنى
قال أبو محمد: اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى.
قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو العامل لا الحالة محمولة فيه إلا أن يأتي نص بتفضيل الله عز وجل حالا على حال وليس هاهنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى.
قال أبو محمد: وإنما الصواب أن يقال أيما أفضل الغني أم الفقير والجواب هاهنا هو ما قاله الله تعالى إذا يقول " هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " فإن كان الغني أفضل عملا من الفقير فالغنى أفضل وإن كان الفقير أفضل عملا من الغنى فالفقير أفضل وإن كان عملهما متساويا فهما سواء قال عز وجل "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد استعاذ النبي صلى الله عليه ومن فتنة الفقر وفتنة الغنى وجعل الله عز وجل الشكر بإزاء الغنى والصبر بإزاء الفقر فمن أبقى الله عز وجل فهو الفاضل غنيا كان أو فقيرا وقد اعترض بعضهم ها هنا بالحديث الوارد أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا خريفا ونازع الآخرون بقول الله عز وجل " ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ".
قال أبو محمد: والغنى نعمة إذا قام بها حاملها بالواجب عليه فيها وأما فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغني فيهم قليلا والأمر كله منهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص والإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على فقر ليس معه عمل خير ولا على غنى ليس معه عمل خير وبالله التوفيق.
الكلام في الاسم والمسمى
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الاسم هو المسمي وقال آخرون الاسم غير المسمى واحتج من قال أن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى " تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " ويقرأ أيضا ذو الجلال والإكرام قال ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك وبقوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " فقالوا ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل بأن يسبح غيره وبقوله عز وجل " ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " وقالوا الاسم مشتق من السمو وأنكروا على من قال أنه مشتق من الوسم وهو العلامة وذكروا قول لبيد " إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وقالوا قال سيبويه الأفعال أمثلة احدث من لفظ أحداث الأسماء قالوا وإنما أراد المسمين هذا كل ما احتجوا به قد تقصيناه لهم ولا حجة لهم في شئ منه أما قول الله عز وجل تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام وذو الجلال فحق ومعنى تبارك تفاعل من البركة والبركة واجبة لاسم الله عز وجل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجله ونكرمه فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى وله الإكرام من الله تعالى ومنا حيثما كان من قرطاس أو في شيء منقوش فيه أو مذكور بالألسنة ومن لم يجل اسم الله عز وجل كذلك ولا إكرامه فهو كافر بلا شك فالآية على ظاهرها دون تأويل فبطل تعلقهم بها جملة ولله تعالى الحمد وكل شيء نص الله تعالى عليه أنه تبارك فذلك حق ولو نص تعالى بذلك على أي شئ كان من خلقه كان واجبا لذلك الشيء وأما قوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عز وجل هو تنزيه الشئ عن السوء وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به ووجه آخر وهو أن معني قوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " ومعنى قوله تعالى " إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم " معنى واحد وهو أن يسبح الله تعالى باسمه ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص ولا فرق بين قوله تعالى " فسبح باسم ربك العظيم " وبين قوله " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ " والحمد بلا شك هو غير الله وهو تعالى نسبح بحمده كما نسبح باسمه ولا فرق فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: أما قوله تعالى " ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " فقول الله عز وجل حق على ظاهره ولهذه الآية وجهان كلاهما صحيح أحدهما أن معنى قوله عز وجل " ما تعبدون من دونه إلا أسماء أي إلا أصحاب أسماء برهان " هذا قوله تعالى إثر ذلك متصلا بها سميتموها أنتم وآباؤكم فصح يقينا أنه تعالى لم يعن بالأسماء هاهنا ذوات المعبودين لأن العابدين لها لم يحدثوا قط ذوات المعبودين بل الله تعالى توحد بإحداثها هذا ما لا شك فيه والوجه الثاني أن أؤلئك الكفار إنما كانوا يعبدون أوثانا من حجارة أو بعض المعادن أو من خشب وبيقين ندري انهم قبل أن يسموا تلك الجمل من الحجارة ومن المعادن ومن الخشب باسم اللات والعزي ومناة وهبل وود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وبعل قد كانت ذواتها بلا شك موجودات قائمة وهم لا يعبدونها ولا تستحق عندهم عبادة فلما أوقعوا عليها هذه الأسماء عبدوها حينئذ فصح يقينا أنهم لم يقصدوا بالعبادة إلا الأسماء كما قال الله تعالى لا الذوات المسميات فعادت الآية حجة عليهم وبرهانا على أن الاسم غير المسمي بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم أن الاسم مشتق من السمو وقول بعض من خالفهم انه مشتق من الوسم فقولان فاسدان كلاهما باطل افتعله أهل النحو لم يصح قط عن العرب شيئا منهما وما اشتق لفظ الاسم قط من شيء بل هو اسم موضوع مثل حجر وجبل وخشبة وسائر الأسماء لا اشتقاق لها وأول ما تبطل به دعواهم هذه الفاسدة أن يقال لهم قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فصح أن من لا برهان له على صحة دعواه فليس صادقا في قوله فهاتوا برهانكم على أن الاسم مشتق من السمو أو من الوسم وإلا فهي كذبة كذبتموها على العرب وافتريتموها عليهم أو على الله تعالى الواضع للغات كلها وقول عليه تعالى أو على العرب بغير علم وإلا فمن أين لكم أن العرب اجتمعوا فقالوا نشتق لفظة اسم من السمو أو من الوسم والكذب لا يستحله مسلم ولا يستسهله فاضل ولا سبيل لهم إلى برهان أصلاً بذلك وأيضا فلو كان الاسم مشتقا من السمو كما تزعمون فتسمية العذرة والكلب والجيفة والقذر والشرك والخنزير والخساسة رفعة لها وسمو لهذه المسميات وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد وأيضاً فهبك أنه قد سلم لهم قولهم أن الاسم مشتق من السمو أي حجة في ذلك على أن الاسم هو المسمى بل هو حجة عليهم لأن ذات المسمي ليست مشتقة أصلاً ولا يجوز عليها الاشتقاق من السمو ولا من غيره فصح بلا شك أن ما كان مشتقا فهو غير ما ليس مشتقا والاسم بإقرارهم مشتق والذات المسماى غير مشتقة فالاسم غير الذات المسماة وهذا يليح لكل من نصح نفسه أن المحتج بمثل هذا السفه عيار مستهزيء بالناس متلاعب بكلامه ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وهذا قول يؤدي من اتبعه وطرده إلى الكفر المجرد لأنهم قطعوا أن الاسم مشتق من السمو وقطعوا أن الاسم هو الله نفسه فعلى قولهم المهلك الخبيث أن الله يشتق و أن ذاته نفسها مشتقة وهذا ما لا ندري كافرا بلغه والحمد لله على ما من به من الهدي وأيضا فإن الله تعالي يقول " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " إلى قوله تعالى " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ".
قال أبو محمد: فلا يخلو أن يكون الله عز وجل علم آدم الاسماء كلها كما قال عز وجل إما بالعربية وإما بلغة أخرى أو بكل لغة فإن كان عز وجل علمه الأسماء بالعربية فإن لفظة اسم من جملة ما علمه لقوله تعالي الأسماء كلها ولأمر تعالى آدم بأن يقول للملائكة أنبئوني بأسماء هؤلاء فلا يجوز أن يخص من هذا العموم شيء أصلاً بل هو لفظ موقف عليه كسائر الأسماء ولا فرق وهو من جملة ما علمه الله تعالى آدم عليه السلام إلا أن يدعوا أن الله تعالى لشتقه فالقوم كثيرا ما يستسهلون الكذب على الله تعالى والإخبار عنه بما لا علم لهم به فصح يقينا أن لفظة الاسم لا اشتقاق لها وإنما هي اسم مبتدأ كسائر الأسماء والأنواع والأجناس وأن كان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها بغير العربية فإن اللغة العربية موضوعة للترجمة عن تلك اللغة بدل كل اسم من تلك اللغة اسم من العربية موضوع للعبارة عن تلك الألفاظ وإذا كان هذا فلا مدخل للاشتقاق في شيء من الأسماء أصلاً لا لفظة اسم ولا غيرها وإن كان تعالى علمه الأسماء بالعربية وبغيرها من اللغات العربية فلفظة اسم من جملة ما علمه وبطل أن يكون مشتقا أصلاً والحمد لله رب العالمين فبطل قولهم في اشتقاق الاسم وعاد حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وأما بيت لبيد فإنه يخرج على وجهين أحدهما أن السلام اسم من أسماء الله تعالى قال ى تعالى " الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن " ولبيد رحمه الله مسلم صحيح الصحبة للنبى ﷺ و معناه ثم اسم الله عليكما حافظ لكما والوجه الثاني أنه أراد بالسلام التحية ولبيد لا يقدر هو ولا غيره على إيقاع التحية عليهما وإنما يقدر لبيد وغيره على إيقاع اسم التحية والدعاء بها فقط فأي الأمرين كان فاسم السلام في بيت هو غير معنى السلام فالاسم في ذلك البيت غير المسمى ولا بد ثم لو صح ما يدعونه على لبيد ولو صح لكان قول عائشة رحمها الله ورضي الله عنها إنما أهجر اسمك بيانا أن الاسم غير المسمى وأن اسمه عليه السلام غيره لأنها أخبرت أنها لا تهجره وإنما تهجر اسمه رضوان الله عليها وهى ليست في الفصاحة دون لبيد وهي أولى بان تكون حجة من لبيد فكيف وقول لبيد حجة عليهم لا لهم والحمد الله رب العالمين وقد قال رؤبة - باسم الذي في كل سورة سمر - ورؤبة ليس دون لبيد في الفصاحة وذات الباري تعالى ليست في كل سورة وإنما في السورة اسم الله تعالى فلا شك أن الذي في السورة غير الذي ليس فيها وقال أبو ساسان حصين بن المنذر ابن الحارث بن وعلة الرقاشي لابنه غياظ: وسميت غياظا ولست بغياظ عدوا ولكن الصديق تغيظ فصرح بأن الاسم غير المسمي تصريحا لا يحتمل التأويل بخلاف ما ادعوه على لبيد وأما قول سيبويه أن الأفعال أمثلة أحدث من لفظ إحداث الأسماء فلا حجة لهم فيه فبيقين ندري أنه أراد إحداث أصحاب الأسماء برهان ذلك قوله في غير ما موضع من كتابه أمثلة الأسماء من الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي والسباعي وقطعه بأن السداسى والسباعي من الأسماء مزيدان ولا بد وأن الثلاثي من الأسماء أصلي ولا بد وأن الرباعي والخماسي من الأسماء يكونان أصليين كجعفر وسفرجل ويكونان مزيدين وأن الثنائى من الأسماء منقوص مثل يد ودم ولو تتبعنا قطعه على أن الأسماء هي الأبنية المسموعة الموضوعة ليعرف بها المسميات لبلغ أزيد من ثلثمائة موضع أفلا يستحي من يدري هذا من كلام سيبويه اطلاقا لعلمه بأن مراده لا يخفى على أحد قرأ من من كتابه ورقتيين ونعوذ بالله من قلة الحياء وأول سطر في كتاب سيبويه بعد البسملة هذا باب علم ما الكلم من العربية فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل فالاسم رجل وفرس فهذا بيان جلي من سيبويه ومن كل من تكلم في النحو قبله وبعده على أن الأسماء هي بعض الكلام وان الاسم هو كلمة من الكلم ولا خلاف بين أحد له حس سليم في أن المسمي ليس كلمة ثم قال بعد أسطر يسيرة والرفع والجر والنصب والجزم بحروف الإعراب وحروف الإعراب الأسماء المتمكنة والأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين وهذا منه بيان لا إشكال فيه أن الأسماء غير الفاعلين وهي التي تضارعها الأفعال التي في أوائلها الزوائد الأربع وما قال قط من يرمي بالحجارة أن الأفعال تضارع المسمين ثم قال والنصب في الأسماء رأيت زيدا والجر مررت بزيد والرفع هذا زيد وليس في الأسماء جزم لتمكنها وإلحاق التنوين وهذا كله بيان أن الأسماء هي الكلمات المؤلفة من الحروف المقطعة لا المسمون بها ولو تتبع هذا في أبواب الجمع وأبواب التصغير والنداء والترخيم وغيرها لكثر جداً وكاد يفوت التحصيل.
قال أبو محمد: فسقط كل ما شغب به القائلون بأن الاسم هو المسمى وكل قول سقط احتجاج أهله وعري عن البرهان فهو باطل ثم نظرنا فيما احتج به القائلون أن الاسم غير المسمى فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قالوا والله عز وجل واحد والأسماء كثيرة وقد تعالى الله عن أن يكون اثنين أو أكثر وقد قال رسول الله ﷺ أن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة قالوا ومن قال أن خالقه أو معبوده تسعة وتسعون فهو شر من النصارى الذين لم يجعلوه إلا ثلاثة.
قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري لازم ورأيت لمحمد بن الطيب الباقلاني ولمحمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني أنه ليس لله تعالى إلا اسم واحد فقط.
قال أبو محمد: وهذا معارضة وتكذيب لله عز وجل وللقرآن ولرسول الله ﷺ ولجميع العالمين ثم عطفا فقال ا معنى قول الله عز وجل ولله الأسماء الحسنى وقول رسول الله ﷺ أن لله تسعة وتسعين اسما إنما هو التسمية لا الأسماء.
قال أبو محمد: وكان هذا التقسيم أدخل في الضلال من ذلك الإجمال ويقال لهم فعلى قولكم هذا أراد الله تعالى أن يقول لله التسميات الحسنى فقال الأسماء الحسنى وأراد رسوله ﷺ أن يقول أن لله تسعة وتسعين تسمية فقال تسعة وتسعين اسما أعن غلط وخطأ قال الله تعالى ذلك ورسوله ﷺ أم عن عمد ليضل بذلك أهل الاسلام أم عن جهل باللغة التي تنبهتما لها أنتما ولا بد من أحد هذه الوجوه ضرورة لا محيد عنها وكلها كفر مجرد ولا بد لهم من أحدها أو ترك ما قال وه من الكذب على الله تعالى ورسوله ﷺ هذا ودعواهم في ذلك ظاهر الكذب بلا دليل ولا يرضي بهذا لنفسه عاقل. الاسم على المسمى فهي شىء ثالث غير الاسم وغير المسمى فذات الخالق تعالى هي الله المسمى والتسمية هي تحريكنا عضل الصدر واللسان عند نطقنا بهذه الحروف وهي غير الحروف لأن الحروف هي الهواء المندفع بالتحريك فهو المحرك بفتح الراء والإنسان هو المحرك بكسر الراء والحركة هي فعل المحرك في دفع المحرك وهذا أمر معلوم بالحس مشاهد بالضرورة متفق عليه في جميع اللغات واحتجوا أيضا بقول الله تعالى " يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا " وهذا نص لا يحتمل تأويلا في أن الاسم هو الياء والحاء والياء والألف ولو كان الاسم هو المسمي لما عقل أحد معنى قوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا ولا فهم ولكان فارغا حاشا لله من هذا ولا خلاف في أن معناه لم يعلق هذا الاسم على أحد قبله وذكروا أيضا قول الله عز وجل عن نفسه هل تعلم له سميا وهذا نص جلي على أن أسماء الله تعالى التي اختص بها لا تقع على غيره ولو كان ما يدعونه لما عقل هذا اللفظ أحد أيضا حاشا لله من هذا واحتجوا أيضا بقول الله تعالى مبشرا برسوله يأتي من بعدي اسمه أحمد وهذا نص على أن الاسم هو الألف والحاء والميم والدال إذا اجتمعت واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين إلى قوله قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم الآية وهذا نص جلى على أن الأسماء كلها غير المسميات لأن المسميات كانت أعيانا قائمة وذوات ثابته تراها الملائكة وإنما جهلت الأسماء فقط التي علمها الله آدم وعلمها آدم الملائكة وذكروا قول الله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى وهذا ما لا حيلة لهم فيه لأن لفظة الله هي غير لفظة الرحمن بلا شك وهي بنص القرآن أسماء الله تعالى والمسمى واحد لا يتغاير بلا شك وذكروا قول الله عز وجل " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " وهذا بيانا أيضا جلي مجمع عليه من أهل الإسلام أن الذي عنده التذكية فهو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة مثل الله والرحمن والرحيم وسائر أسمائه عز وجل واحتجوا من الإجماع بأن جميع أهل الإسلام لا نحاشى منهم أحدا قد أجمعوا على القول بأن من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه الكفارة ولا خلاف في أن ذلك لازم فيمن قال والله أو والرحمن أو والصمد أو أي اسم من أسماء الله عز وجل حلف بها فما أسخف عقولا يدخل فيها تخطئة ما جاء به الله عز وجل في القرآن وما قاله رسول الله ﷺ وما أجمع عليه أهل الإسلام وما أطبق عليه أهل الأرض قاطبة من أن الاسم هو الكلمة المجموعة من الحروف المقطعة وتصويب الباقلاني وابن فورك في أن ذلك ليس هو الاسم وإنما هو التسمية والحمد لله الذى لم يجعلنا من أهل هذه الصنعة المرذولة ولا من هذه العصابة المخذولة واحتجوا أيضا بقول رسول الله ﷺ إذا أرسلت كلبك فذكرت اسم الله فكل فصح أن اللفظ المذكور هو اسم الله تعالى وقول رسول الله ﷺ أن له أسماء وهي احمد ومحمد والعاقب والحاشر والماحي فيالله وياللمسلمين أيجوز أن يظن ذو مسكة عقل أن رسول الله ﷺ خمس ذوات تبارك الذي يخلق ما لا نعلم وذكروا قول رسول الله ﷺ تسموا بأسمي ولا تكنوا بكنيتى فصح أن الاسم هو الميم والحاء والميم والدال بيقين لا شك فيه واحتجوا بقول عائشة رضى الله عنها بحضرة رسول الله ﷺ وقد قال لها عليه السلام إذا كنت راضية عني قلت لا ورب محمد وإذا كنت ساخطة قلت لا ورب إبراهيم قالت أجل والله يارسول الله ما أهجر إلا اسمك فلم ينكر رسول الله ﷺ عليها ذلك القول فصح أن اسمه غيره بلا شك لأنها لم تهجر ذاته وإنما هجرت اسمه واحتجوا أيضا بقول رسول الله ﷺ أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام والحارث وروى أكذبهما خالد ومالك وهذا كله يبين أن الاسم غير المسمى فقد يسمى عبد الله وعبد الرحمن من يبغضه الله عز وجل وقد يسمى من يكون كذابا الحارث وهماماويسمى الصادق خالد ومالكا فهم بخلاف أسمائهم واحتجوا أيضا بأن قالوا قد اجتمعت الأمم كلها على أنه إذا سئل المرء ما اسمك قال فلان وإذا قيل له كيف سميت ابنك وعبدك قال سميته فلانا فصح أن تسميته هي اختياره وإيقاعه ذلك الاسم على المسمى وأن الاسم غير المسمى واحتجوا من طريق النظر بأن قالوا انتم تقولون أن اسم الله تعالى هو الله نفسه ثم لا تبالون بأن تقولوا أسماء الله تعالى مشتقة من صفاته فعليم مشتق من علم وقدير مشتق من قدرة وحي من حياة فإذا اسم الله هو الله واسم الله مشتق فالله تعالى على قولكم مشتق وهذا كفر بارد وكلام سخيف ولا مخلص لهم منه فصحت البراهين المذكورة من القرآن والسنن والإجماع والعقل واللغة والنحو على أن الاسم غير المسمى بلا شك ولقد أحسن أحمد بن جدار ما شاء أن يحسن إذ يقول: هيهات يا أخت آل بما غلطت في الاسم والمسمى لو كان هذا وقيل سم مات إذا من يقول سما قال أبو محمد: وأخبرني أبو عبد الله السائح القطان أنه شاهد بعضهم قد كتب الله في سحاة وجعل يصلى إليها قال فقلت له ما هذا قال معبود قال فنفخت فيها فطارت فقلت له قد طار معبودك قال فضربني.
قال أبو محمد: وموهوا فقالوا فأسماء الله عز وجل إذا مخلوقة إذ هي كثيرة وإذ هى غير الله تعالى قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق أن كنتم تعنون الأصوات التي هي حروف الهجاء والمداد المخطوط به في القراطيس فما يختلف مسلمان في أن كل ذلك مخلوق وإن كنتم تريدون الإيهام والتمويه بإطلاق الخلق على الله تعالى فمن أطلق ذلك فهو كافر بل أن أشار مشير إلى كتاب مكتوب فيه الله أو بعض أسماء الله تعالى أو إلى كلامه إذ قال يا الله أو قال بعض أسمائه عز وجل فقال هذا مخلوق أو هذا ليس ربكم أو تكفرون بهذا لما حل لمسلم إلا أن يقول حاشا الله من أن يكون مخلوقا بل هو ربي وخالقي أؤمن به ولا أكفر به ولو قال غير هذا لكان كافرا حلال الدم لأنه لا يمكن أن يسأل عن ذات الباري تعالى ولا عن الذي هو ربنا عز وجل وخالقنا والذي هو المسمى بهذه الأسماء ولا إلى الذي يخبر عنه ولا إلى الذي يذكر إلا بذكر اسمه ولا بد فلما كان الجواب في هذه المسألة يموه أهل الجهل بإيصال ما لا يجوز إلى ذات الله تعالى لم يجز أن يطلق الجواب في ذلك البتة إلا بتقسيم كما ذكرنا وكذلك لو كتب إنسان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أو نطلق بذلك ثم قال لنا هذا رسول الله ﷺ أم ليس رسول الله وتؤمنون بهذا أن تكفرون به لكان من قال ليس رسول الله ﷺ وأنا أكفر به كافرا حلال الدم بإجماع أهل الاسلام ولكن نقول بل هو رسول الله ﷺ ونحن نؤمن به ولا يختلف اثنان في الصوت المسموع والخط المكتوب ليس هو الله ولا رسول الله وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا أن أحمد بن حنبل وأبا زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وأبا حاتم محمد بن إدريس النظلي الراويين رحمهما الله تعالى إن الاسم هو المسمي قلنا لهم هؤلاء رضي الله عنهم وإن كانوا من أهل السنة ومن أئمتنا فليسوا معصومين من الخطأ ولا أمرنا الله عز وجل بتقليدهم واتباعهم في كل ما قال وه وهؤلاء رحمهم الله أراهم اختيار هذا القول قولهم الصحيح أن القرآن هو المسموع من القرآن المخطوط في المصاحف نفسه وهذا قول صحيح ولا يوجب أن يكون الاسم هو المسمى على ما قد بينا في هذا الباب وفي باب الكلام في القرآن والحمد لله رب العالمين وإنما العجب كله ممن قلب الحق وفارق هؤلاء المذكورين حيث أصابوا وحيث لا يحل خلافهم وتعلق بهم حيث وهموا من هؤلاء المنتمين إلى الأشعرية القائلين بأن القرآن لم ينزل قط إلينا ولا سمعناه قط ولا نزل به جبريل على قلب رسول الله ﷺ وإن الذي في المصاحف هو شيء آخر غير القرآن ثم أتبعوا هذه الفكرة الصلعاء بأن قالوا إن اسم الله هو الله وأنه ليس إلا اسم واحد وكذبوا الله تعالى ورسوله في أن لله أسماء كثيرة تسعة وتسعين ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ولو أن إنساناً يشير إلى كتاب مكتوب فيه الله فقال هذا ليس ربي وأنا كافر بهذا لكان كافراً ولو قال هذا المداد ليس ربي وأنا كافر بربوبية هذا الصوت لكان صادقاً وهذا لا ينكر وإنما نقف حيث وقفنا ولو أن إنساناً قال محمد رسول الله رحمه الله لم يبعد من الاستخفاف فلوا قال اللهم أرحك محمد وآل محمد لكان محسناً ولو أن إنساناً يذكر من أبويه العضو المستور باسمه لكان عاقاً أتى كبيرة وإن كان صادقاً وبالله تعالى التوفيق.
والكلام في هل يعقل الفلك والنجوم أم لا
قال أبو محمد: زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع ولا تذوق ولا تشم وهذه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مردود عند كل طائفة بأول العقل إذ ليست أصح من دعوى أخرى تضادها وتعارضها وبرهان صحة الحكم بأن الفلك والنجوم لا تعقل أصلاً هو أن حركتها أبداً على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد المدبر الذي لا اختيار له فقالوا الدليل على هذا أن الأفضل لا يختار إلا الأفضل للعمل فقلنا لهم ومن أين لكم بأن الحركة أفضل من السكون الاختياري لأننا وجدنا الحركة حركتين اختيارية واضطرارية ووجدنا السكون سكونين اختيارياً واضطرارياً فلا دليل على أن الحركة الاختيارية أفضل من السكون الاختياري ثم من لكم بأن الحركة الدورية أفضل من سائر الحركات يميناً أو يساراً أو أمام أو وراء ثم من لكم بأن الحركة من شرق إلى غرب كما يتحرك الفلك الأكبر أفضل من الحركة من غرب إلى شرق كما تتحرك سائر الأفلاك وجميع الكواكب فلاح أن قولهم مخرقة فاسدة ودعوى كاذبة مموهة وقال بعضهم لما كنا نحن نعقل وكانت الكواكب تدبرنا كانت أولى بالعقل والحياة منا فقلنا هاتان دعوتان مجموعتان في نسق أحدهما القول بأنها تدبرنا فهي دعوى كاذبة بلا برهان على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى والثاني الحكم بأن من تدبرنا أحق بالعقل والحياة منا فقد وجدنا التدبير يكون طبيعياً ويكون اختيارياً فلو صح أنها تدبرنا لكان تدبيراً طبيعياً كتدبير الغذاء لنا وكتدبير الهواء والماء لنا وكل ذلك ليس حياً ولا عاقلاً بالمشاهدة وقد أبطلنا الآن أن يكون تدبير الكواكب لنا اختيارياً بما ذكرنا من جريها على حركة واحدة ورتبة واحدة لا تنتقل عنها أصلاً وأما القول بقضايا النجوم فإنا نقول في ذلك لائحاً ظاهراً إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: أما معرفة قطعها في أفلاكها وآناء ذلك ومطالعها وأبعادها وارتفاعاتها واختلاف مراكز أفلاكها فعلم حسن صحيح رفيع يشرف به الناظر فيه على عظيم قدرة الله عز وجل وعلى يقين تأثيره وصنعته واختراعه تعالى للعالم بما فيه وفيه الذي يضطر كل ذلك إلى الإقرار بالخالق ولا يستغني عن ذلك في معرفة القبلة وأوقات الصلاة وينتج من هذا معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين برهان ذلك قول الله تعالى " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " وقال تعالى " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وقال تعالى " والسماء ذات البروج " وقال تعالى " لتعلموا عدد السنين والحساب " وهذا نفس ما قلنا وبالله تعالى التوفيق.
وأما القضاء بها فالقطع به خطأ لما نذكره إن شاء الله تعالى وأهل القضاء ينقسمون قسمين أحدهما القائلون بأنها والفلك عاقلة مميزة فاعلة مدبرة دون الله تعالى أو معه وأنها لم تزل فهذه الطائفة كفار مشركون حلال دماؤهم وأموالهم بإجماع الأمة وهؤلاء عني رسول الله ﷺ إذ يقول أن الله تعالى قال أصبح من عبادي كافر بي مؤمن بالكواكب وفسره رسول الله ﷺ أنه القائل مطرنا بنوء كذا وكذا وأما من قال بأنها مخلوقة وأنها غير عاقلة لكن الله عز وجل خلقها وجعلها دلائل على الكوائن.
فهذا ليس كافراً ولا مبتدعاً وهذا هو الذي قلنا فيه أنه خطأ لأن قائل هذا إنما يحيل على التجارب فما كان من تلك التجارب ظاهراً إلى الحس كالمد والجزر الحادثين عند طلوع القمر واستوائه وأفوله وامتلائه ونقصانه وكتأثير القمر في قتل الدابة الدبرة إذا لاقى الدبرة ضوءه وكتأثيره في القرع والقثاء المسموع لنموها مع القمر صوت قوي وكتأثيره في الدماغ والدم والشعر وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات وكتأثيرها في أعين السنانير غدوة ونصف النهار وبالعشي ونصف الليل وسائر ما يوجد حساً فهو حق لا يدقعه ذو حس سليم وكل ذلك خلق الله عز وجل فهو خلق القوي وما يتولد عنها ويوجد بها كما قال تعالى " وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ " وأما ما كان من تلك التجارب خارجاً عما ذكرنا فهو دعاوي لا تصح لوجوه أحدها أن التجربة لا تصح إلا بتكرر كثير موثوق بدوامه تضطر النفوس إلى الإقرار به كاضطرارنا إلى الإقرار بأن الإنسان إن بقي ثلاث ساعات تحت الماء مات وإن ادخل يده في النار احترق ولا يمكن هذا في القضاء بالنجوم لأن النصب الدالة عندهم على الكائنات لا تعود إلا في عشرات آلاف من السنين لا سبيل إلى أن يصح منها تجربة ولا إلى أن تبيقي دورة تراعي تكرار تلك الأدوار وهذا برهان مقطوع به على بطلان دعواهم في صحة القضايا بالنجوم وبرهان آخر وهو ان شروطهم في القضاء لا تمكنهم الإحاطة بها أصلاً من معرفة مواقع السهام ومطارح الشعاعات وتحقيق الدرج النيرة والغيمة والمظلمة والآثار والكواكب البنيانية وسائر شروطهم التي يقرون أنه لا يصح القضاء إلا بتحقيقها وبرهان ثالث وهو أنه ما دام يشتغل المعدل في تعديل كوكب زل عنه سائر الكواكب ولو دقيقة ولا بد وفي هذا فساد القضاء بإقرارهم وبرهان رابع وهو ظهور اليقين بالباطل في دعواهم إذ جعلوا طبع زحل البرد واليبس وطبع المريخ الحر واليبس وطبع القمر البرد والرطوبة وهذه الصفات إنما هي للعناصر التي دون فلك القمر وليس شيء منها في الأجرام العلوية لأنها خارجة عن محل حوامل هذه الصفات والأعراض لا تتعدى حواملها والحوامل لا تتعدى مواضعها التي رتبها الله فيها وبرهان خامس وهو ظهور كذبهم في قسمتهم الأرض على البروج والدراري ولسنا نقول في المدن التي يمكنهم فيها دعوى أن بناءها كان في طالع كذا ونصه كذا لكن في الأ قال يم والقطع من الأرض التي لم يتقدم كون بعضها كون بعض كذبهم فيما عليه بنوا قضاياهم في النجوم وكذلك قسمتهم أعضاء الجسم والفلزات على الدراري أيضاً وبرهان سادس أننا نجد نوعاً وأنواعاً من أنواع الحيوان قد فشا فيها الذبح فلا تكاد يموت شيء منها إلا مذبوحاً كالدجاج والحمام والضان والمعز والبقر التي لا تموت منها حتف أنفه إلا في غاية الشذوذ ونوعاً وأنواعاً لا تكاد تموت إلا حتف أنوفها كالحمير والبغال وكثير من السباع وبالضرورة يدري كل أحد أنها قد تستوي أوقات ولادتها فبطل قضاؤها بما يوجب الموت الطبيعي وبما يوجب الكرهى لاستواء جميعها في الولادات واختلافها في أنواع المنايا وبرهان سابع وهو أننا نرى الخصافا شيئاً في سكان الاقليم الأول وسكان الاقليم السابع ولا سبيل إلى وجوده البتة في سكان سائر الأ قال يم ولا شك ولا مرية في استوائهم في أوقات الولادة فبطل يقيناً قضاؤهم بما يوجب الخصا وبما لا يوجبه بما ذكرنا من تساويهم في أوقات التكون والولادة واختلافهم في الحكم ويكفي من هذا أن كلامهم في ذلك دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل مع اختلافهم فيما يوجبه الحكم عندهم والحق لا يكون في قولين مختلفين وأيضاً فإن المشاهدة توجب أننا قادرون على مخالفة أحكامهم متى أخبرونا بها فلو كانت حقاً وحتماً وما قدر أحد على خلافها وإذا أمكن خلافها فليست حقاً فصح أنها تخرص كالطرق بالحصا والضرب بالحب والنظر في الكتف والزجر والطيرة وسائر ما يدعي أهله فيه تقديم المعرفة بلا شك وما يخص ما شاهدناه وما صح عندنا مما حققه حذاقهم من التعديل في الموالد والمناجات وتحاول السنين ثم قضوا فيه فاخطؤا وما تقع أصابتهم من خطئهم إلا في جزء يسير فصح أنه تحرص لا حقيقة فيه لا سيما دعواهم في إخراج الضمير فهو كله كذب لمن تأمله وبالله تعالى التوفيق وكذلك قولهم في القرانات أيضاً ولو أمكن تحقيق تلك التجارب في كل ما ذكرنا لصدقناها وما يبدوا منها ولم يكن ذلك علم غيب لأن كل ما قام عليه دليل من خط أو كتف أو زجر أو تطير فليس غيباً لو صح وجه كل ذلك وإنما الغيب وعلمه هو أن يخبر المرء بكائنة من الكائنات دون صناعة أصلاً من شيء مما ذكرنا ولا من غيره فيصيب الجزئي والكلي وهذا لا يكون إلا لنبي وهو معجزة حينئذٍ وأما الكهانة فقد بطلت بمجيء النبي ﷺ فكان هذا من أعلامه وآياته وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في خلق الله تعالى للشيء أهو المخلوق نفسه أم غيره وهل فعل الله من دون الله تعالى هو المفعول أم
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن خلق الشيء هو غير الشيء المخلوق واحتج هؤلاء بقول الله عز وجل " ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم " قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذه الآية لأن الإشهاد هاهنا هو الإحضار بالمعرفة وهذا حق لأن الله تعالى لم يحضرنا عارفين ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء أنفسنا ووجدنا من قال أن خلق الشيء هو الشيء نفسه يحتج بقول الله تعالى هذا خلق الله وهذه إشارة إلى جميع المخلوقات فقد سمي الله تعالى جميع المخلوقات كلها خلقاً له وهذا برهان لا يعارض.
قال أبو محمد: ثم نسأل من قال أن خلق الشيء هو غير الشيء فنقول له أخبرنا عن خلق الله تعالى لما خلق أمخلوق هو أيضاً أم غير مخلوق فلا بد من أحد الأمرين فإن قالوا هو غير مخلوق أوجبوا بإزاء كل مخلوق شيئاً موجوداً غير مخلوق وهذا مضاهاة لقول الدهرية والبرهان قد قام بخلاف هذا وقال تعالى " خلق كل شيء فقدره تقديراً " وإن قالوا بل خلقه تعالى لما خلق قلنا فخلقه تعالى لذلك الخلق أبخلق أم بغير خلق فإن قالوا بغير خلق قيل لهم من أين قلتم أن خلقه للأشياء بمخلق هو غير المخلوق وقلتم في خلقه لذلك الخلق أنه بغير خلق وهذا تخليط وإن قالوا بل خلقه بخلق سألناهم الخلق هو أم بخلق هو غيره وهكذا أبداً فإن وقفوا في شيء من ذلك فقالوا خلقه هو هو سألناهم عن الفرق بين ما قالوا أن خلقه هو غيره وبين ما قالوا أن خلقه هو هو وإن تماد وأخرجوا إلى وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وقد قطع بهذا معمر بن عمرو العطار أحد رؤساء المعتزلة وسنذكر كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى متصلاً بهذا الباب وبالله تعالى نتأيد وأيضاً فإن الجميع مطبقون على أن الله عز وجل خلق ما خلق بلا معاياة فإذ لا شك في ذلك فقد صح يقيناً أنه لا واسطة بين الله تعالى وبين ما خلق ولا ثالث في الوجود غير الخالق والمخلوق وخلق الله تعالى ما خلق حق موجود وهو بلا شك مخلوق وهو بلا شك ليس هو الخالق فهو المخلوق نفسه بيقين لا شك فيه إذ لا ثالث هاهنا أصلاً وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وكل من دون الله تعالى فعله هو مفعوله نفسه لا غير لأنه لا يفعل أحد دون الله تعالى إلا حركة أو سكوناً أو تأثيراً أو معرفة أو فكرة أو إرادة ولا مفعول لشيء دون الله تعالى إلا ما ذكرنا فهي مفعولات الفاعلين وهي أفعال الفاعلين ولا فرق وما عدا هذا فإنما هو مفعول فيه كالمضروب والمقتول أو مفعول به كالسوط والإبرة وما أشبه ذلك أو مفعول له كالمطاع والمخدوم أو مفعول من أجله كالمكسوب والمحلوب فهذه أوجه المفعولات.
قال أبو محمد: وأما سائر أفعال الله تعالى فبخلاف ما قلنا في الخلق بل هي غير المفعول فيه أوله أو به أو من أجله وذلك كالأحياء فهو غير المحيا بلا شك وكلاهما مخلوق لله تعالى وخلقه تعالى لكل ذلك هو المخلوق نفسه كما قلنا وكالا ماتة فهي غير الممات ولو كان غير هذا وكان الأحياء هو المحيا والإماتة هي الممات وبيقين ندري أن المحيا هو الممات نفسه لوجب أن يكون الأحياء هو الإماتة وهذا محال وكالإبقاء فهو غير المبقي للبرهان الذي ذكرنا وبيقين ندري أن الشيء غير أعراضه التي هي قائمة به وقتاً وفانية عنه تارة وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في البقاء والفناء والمعاني التي يدعيها معمر والأحوال التي تدعيها الأشعرية وهل المعدوم شيء أم ليس شيئاً ومسئلة الأجزاء وهل يتجدد خلق الله للأشياء أم لا يتجدد
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن البقاء والفناء صفتان للباقي والفاني لا هما الباقي ولا الفاني ولا هما غير الباقي والفاني.
قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد لأن القضية الثانية بنقيض الأولى والأولى بنقيض الثانية لأنه إذا قال ليست هي فقد أوجب أنها غيره وإذا قال ليست غيره فقد أوجب أنه هو وهذا تناقض ظاهر وأيضاً فإنه لا فرق بين قول القائلين ليس هو هو ولا غيره وبين قوله هو هو وهو غيره والمعنى في تلك القضيتين سواء وأيضاً فلو كان البقاء ليس هو الباقي ولا هو غيره والفناء ليس هو الفاني ولا هو غيره فالباقي هو الفاني نفسه والباقي ليس هو الباقي ولا غيره وهذا مزيد من الجنون ومن التناقض وذهب معمر إلى أن الفناء صفة قائمة بغير الفاني.
قال أبو محمد: وهذا تخبيط لا يعقل ولا يتوهم ولا يقوم عليه دليل أصلاً وما كان هكذا فهو باطل والحقيقة في ذلك ظاهرة وهي أن البقاء هو وجود الشيء وكونه ثابتاً قائماً مدة زمان ما فإذ هو قائم كذلك فهو صفة موجودة في الباقي محمولة فيه قائمة به موجودة بوجوده فانية بفنائه وأما الفناء فهو عدم الشيء وبطلانه جملة وليس هو شيئاً أصلاً والفناء المذكور ليس موجوداً البتة في شيء من الجواهر وإنما هو عدم العرض فقط كحمرة الخجل إذا ذهبت عبر عن المعنى المراد بالإخبار عن ذهابها بلفظة الفناء كالغضب يفنى ويعقبه رضاً وما أشبه ذلك لو شاء الله عز وجل أن يعدم الجواهر لقدر على ذلك ولكنه لم يوجد ذلك إلى الآن ولا جاء به نص فيقف عنده فالفناء عدم كما قلنا.
الكلام في المعدوم أهو شيء أم لا
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في المعدوم أهو شيء أم لا فقال أهل السنة وطوائف من المرجئة كالأشعرية وغيرهم ليس شيئاً وبه يقول هشام بن عمرو الغوطي أحد شيوخ المعتزلة وقال سائر المعتزلة المعدوم شيء وقال عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخياط أحد شيوخ المعتزلة أن المعدوم جسم في حال عدمه إلا انه ليس متحركاً ولا ساكناً ولا مخلوقاً ولا محدثاً في حال عدمه.
قال أبو محمد: واحتج من قال بأن المعدوم شيء بان قالوا قال عز وجل إن زلزلة الساعة شيء عظيم فقالوا فقد أخبر الله عز وجل بأنها شيء وهي معدومة ومن الدليل على أن المعدوم شيء أنه يخبر عنه ويوصف ويتمنى ومن المحال أن يكون ما هذه صفته ليس شيئاً.
قال أبو محمد: أما قول الله عز وجل " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " فإن هذه القصة موصولة بقوله تعالى " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " فإنما تم الكلام عند قوله يوم ترونها فصح أن زلزلة الساعة يوم ترونها شيء عظيم وهذا هو قولنا ولم يقل تعالى قط أنها الآن شيء عظيم ثم أخبر تعالى بما يكون يومئذ من هول المرضعات ووضع الأحمال وكون الناس سكارى من غير خمر فبطل تعلقهم بالآية وما نعلم أنهم شغبوا بشيء غيرها وأما قولهم أن المعدوم يخبر عنه ويوصف ويتمنى ويسمى فجهل شديد وظن فاسد وذلك أن قولنا في شيء يذكر أنه معدوم ويخبر عنه أنه معدوم ويتمنى به إنما هو أن يذكر اسم ما فذلك الاسم موجود بلا شك يعرف ذلك بالحس كقولنا العنقاء وابن آوى وحبين وعرس ونبوة مسيلمة وما أشبه ذلك ثم كل اسم يتعلق به ويوجد ملفوظاً أو مكتوباً فإنه ضرورة لا بد له من أحد وجهين أما أن يكون له مسمى وإما أن يكون ليس له مسمى فإن كان له مسمى فهو موجود وهو شيء حينئذ وإن كان ليس له مسمى فأخبارنا بالعدم وتمنينا للمريض بالصحة إنما هو إخبار عن ذلك الاسم الموجود أنه ليس له مسمى ولا تحته شيء وتمن منا لأن يكون تحته مسمى فهكذا هو المر لا كما ظنه أهل الجهل فصح أن المعدوم لا يخبر عنه ولا يتمنى ونسألهم عمن قال ليت لي ثوباً أحمر وغلاماً أسود أخبرونا هل الثوب المتنى به عندكم أحمر أم لا فإن أثبتوا معنى وهو ثوباً أحمر أثبتوا عرضاً محمولاً فيه وهو الحمرة فوجب أن المعدوم يحمل الأعراض وإن قالوا لم يتمن شيئاً أصلاً صدقوا وصح أن المعدوم لا يتمنى لأنه ليس شيئاً ولا فرق بين قول القائل تمنيت لا شيء وبين قوله لم أتمن شيأ بل هما متلايمان بمعنى واحد وهذا أيضاً يخرج على وجه آخر وهو أنه لا يتمنى إلا شيأ موجود في العالم كثوب موجود او غلام موجود واما من اخرج لفظة التمني لما ليس في العالم فلم يتمن شيأ وأما قولهم يوصف فطريق عجب جداً لأن معنى قول القائل يوصف إخبار بأن له صفة محمولة فيه موجودة به فليت شعري كيف يحمل المعدوم الصفات من الحمرة والخضرة والقوة والطول والعرض إن هذا لعجيب جداً فظهر فساد ما موهوا به والحمد قال أبو محمد رضي الله عنه: وإذ قد عرا قولهم عن الدليل فقد صح أنه دعوى كاذبة ثم نقول وبالله التوفيق من البرهان على أن المعدوم اسم لا يقع على شيء أصلاً قول الله عز وجل وقد خلقتك من قبل ولم تك شيأ وقوله تعالى هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيأ مذكوراً وقوله وخلق كل شيء فقدره تقديرا وقال عز وجل إنا كل شيء خلقناه بقدر فيلزمهم ولا بد إن كان المعدوم شيأ أن يكون مخلوقاً بعد وهم لا يختلفون في أن المخلوق موجود وقد وجد وقتاً من الدهر فالمعدوم على هذا موجود وقد كان موجوداً وهذا خلاف قولهم وهذا غاية البيان في أن المعدوم ليس شيئاً.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ونسألهم ما معنى قولنا شيء فلا يجدون بداً من أن يقولوا أنه الموجود وأن يقولوا هو كل ما يخبر عنه فإن قالوا هو الموجود صاروا إلى الحق وإن قالوا هو كل ما يخبر عنه قلنا لهم إن المشركين يخبرون عن شريك الله عز وجل قال تعالى " أين شركائي ".
قال أبو محمد: وهذا معدوم لا مدخل له في الحقيقة واسم لا مسمى تحته فإن قالوا إن شركاء الله تعالى أشياء كانوا قد أفحشوا وأيضاً فإنه قد اتفقت جميع الأمم لا نحاشي أن المعدوم ليش شيئاً أو لا شيء أو ما يعبر به في كل لغة عن شيء ومن لا شيء إلا أن المعنى واحد فلو كان المعدوم شيئاً لكان ما أجمعوا عليه بلا شيء وليس شيئاً ولم يكن شيئاً باطلاً وهذا رد على جميع أهل الأرض مذ كانوا إلى أن يفنى العالم فصح أن الموجود هو الشيء فإذ هو الشيء فبضرورة العقل أن اللاشيء هو المعدوم ثم نسألهم أتقولون أن المعدوم عظيم أو صغير أو حسن أو قبيح أو طويل أو قصير أو ذو لون في حال عدمه فإن أبوا من هذا تناقض قولهم وسئلوا عن الفرق بين قولهم أنه شيء وبين قولهم أنه حسن او قبيح أو صغير أو كبير وكيفقالوا أنه شيء ثم قالوا أنه ليس حسناً ولا قبيحاً ولا صغيراً وكبيراً فإن قالوا نعم أوجبوا أن المعدوم يحمل الأعراض والصفات وهذا تخليط ناهيك به وسئلوا فيماذا يحمل الصفات أفي ذاته أو فيما ذا فإن قالوا في ذاته أوجبوا أنه له ذاتاً وهذه صفة الموجود ضرورة وإن قالوا بل يحمل الصفات في غيره كان ذلك أيضاً عجباً زائداً لا خفاء به.
قال أبو محمد: ونسألهم هل الإيمان موجود من أبي جهل أو معدوم فإن قولهم بلا شك أنه معدوم منه.
فنسألهم عن إيمان أبي جهل المعدوم حسن هو أم قبيح.
فإن قالوا لا حسن ولا قبيح قلنا لهم أيكون يعقل إيمان ليس حسناً هذا عظيم جداً.
وإن قالوا بل هو حسن أوجبوا أنه حاصل للحسن وكذلك نسألهم عن الكفر المعدوم من الأنبياء عليهم السلام أقبيح هو أم لا. فإن قالوا لا أوجبوا كفراً ليس قبيحا. وإن قالوا بل هو قبيح أوجبوا أن المعدوم يحمل الصفات ونسألهم عن ولد العقيم المعدوم منه أصغير هو أم كبير أم عاقل أم أحمق.
فإن منعوا من وجود شيء من هذه الصفات له كان عجباً أن يكون ولد لا صغير ولا كبير ولا حي ولا ميت وإن وصفوه بشيء من هذه الصفات أتوا بالزيادة من المحال ونسألهم عن الأشياء المعدومة ألها عدد أم لا عدد لها. فإن قالوا لا عدد لها كانوا قد أتوا بالمحال إذ أقروا بأشياء لا عدد لها. وإن قالوا بل لها عدد كان ذلك عجباً جداً أو محالاً لا خفاء به وسألناهم عن الأولاد المعدومين من العاقر والعقيم كم عددهم.
ونسألهم عن الأشياء المعدومة أهي في العالم ومن العالم أم ليست في العالم ولا من العالم فإن قالوا هي في العالم ومن العالم سألناهم عن مكانها فإن حددوا لها مكاناً سخفوا ما شاؤا وإن قالوا لا مكان لها قيل لهم وكيف يكون شيء في العالم لا مكان له فيه ولا حامل.
قال أبو محمد: ويلزمهم أن المعدومات إذا كانت أشياء لا عدد لها ولا نهاية ولا مبدأ فإنها لم تزل وهذه دهرية محققة وكفر مجرد أن تكون أشياء لا تحصى كثرة لم تزل مع الله تعالى ونعوذ بالله من مثل هذا الهوس.
قال أبو محمد: وقد ادعوا أن المعدوم يعلم وهذا جهل منهم بحدود الكلام لا سيما ممن أقر بأن المعدوم لا شيء وادعى مع ذلك أنه يعلم فألزمناهم على ذلك أنهم يعلمون لا شيء وأن الله تعالى يعلم لا شيء فجسر بعضهم على ذلك فقلنا لهم إن قولك علمت لا شيء وعلم الله تعالى لا شيء ملائم لقولك لم أعلم شيئاً ولقولك لم يعلم الله تعالى شيئاً لا فرق بين معنى القضيتين البتة بل هما واحد وإن اختلفت العبارتان وإذ هو كذلك فقد صح أن المعدوم لا يعلم فإن ألزمنا على هذا وسألنا هل يعلم الله تعالى الأشياء قبل كونها أم لا قلنا لم يزل الله تعالى يعلم أن ما يخلقه أبداً إلى ما لا نهاية له فإنه سيخلقه ويرتبه على الصفات التي يخلقها فيها إذا خلقه وأنه سيكون شيئاً إذا كونه ولم يزل عز وجل يعلم أن ما لم يخلق بعد فليس هو شيئاً حتى يخلقه ولم يزل تعالى يعلم أنه لا شيء معه وأنه ستكون الأشياء أشياء إذا خلقها لأنه تعالى إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علمها على خلاف ما هي عليه فلم يعلمها بل جهلها وليس هذا علماً بل هو ظن كاذب وجهل وبرهان هذا قول الله عز وجل " ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم " ولو في لغة العرب التي خاطبنا الله تعالى بها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فصح أنه تعالى لم يسمعهم لأنه لم يعلم فيهم خيراً أو لا خير فيهم فصح أن المعدوم لا يعلم أصلاً ولو علم لكان موجوداً وإنما يعلم الله تعالى أن لفظة المعدوم لا مسمى لها ولا شيء تحتها ويعلم عز وجل الآن أن الساعة غير قائمة وهو الآن تعالى لا يعلمها قائمة بل يعلم أنه سيقيمها فتقوم فتكون قيامة وساعة ويوم جزاء ويوم بعث وشيئاً عظيماً حين يخلق كل ذلك لا قبل أن يخلقه فأما علمه تعالى بأنه سيقيمها فتقوم فهو موجود حق فهذا معنى إطلاق العلم على ما لم يكن بعد من المعدومات كما أننا لا نعلم الآن الشمس طالعة طلوعها في غد بل نعلم أنها ستطلع غداً وكذلك لا نعلم موت الأحياء الآن بل نعلم أن الله تعالى سيخلق موتهم فنعلمه موتاً لهم إذا خلقه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فهذا نص جلى على أن المعدوم لا يعلم لأن الله تعالى أخبر أنه لا يدخل الجنة من لا يعمله الله تعالى مجاهداً ولا صابراً فصح أن من لم يجاهد ولا صبر فلم يعلمه الله تعالى قط مجاهداً ولا صابراً ولا علم له جهاداً ولا صبراً وإنما علمه غير مجاهد وغير صابر ولم يزل تعالى يعلم أن من كان منهم سيجاهد وسيصبر فإنه لم يزل يعلم أن سيجاهد وسيصبر فإذا جاهد وصبر علمه حينئذ صابراً مجاهداً والعلم لا يستحيل لأنه ليس شيئاً غير الباري تعالى وإنما استحال المعلوم فقط.
ثم نسألهم هل يعلم الله تعالى لحية الأطلس وقنا الأفطس أم لا يعلم ذلك وهل يعلم الله تعالى أولاد العقيم وإيمان الكافر وكفر المؤمن وكذب الصادق وصدق الكاذب أم لا يعلم شيئاً من ذلك.
فإن قالوا إن الله تعالى يعلم كل ذلك كانوا قد وصفوا الله تعالى باجهل وأنه يعلم الأشياء بخلاف ما هي عليه.
وإن قالوا أنه تعالى لا يعلم للعقيم أولاداً وإنما يعلمه لا ولد له ولا يعلم لحية الكلام في المعاني على معمر قال أبو محمد: وأما معمر ومن اتبعه فقالوا أنا وجدنا المتحرك والساكن فأيقنا أن معنى الحدث في المتحرك به فارق الساكن في صفته وإن معنى حدث في الساكن به أيضاً فارق المتحرك في صفته وكذلك علمنا أن في الحركة معنى به فارقت السكون وإن في السكون معنى به فارق الحركة وكذلك علمنا أن في ذلك المعنى الذي به خالفت الحركة السكون معنى به فارق المعنى الذي به فارقه السكون وهكذا أبداً أوجبوا أن في كل شيء في هذا العالم من جوهر أو عرض أي شيء كان معاني فارق كل معنى منها كل ما عداه في العالم وكذلك أيضاً في تلك المعاني لأنها أشياء موجودة متغايرة وأوجبوا بهذا وجود أشياء في زمان محدود في العالم لا نهاية لعددها.
قال أبو محمد: هذه جملة كل ما شغبوا به إلا أنهم فصلوها ومدوها في الكفر والكافر والإيمان والمؤمن وفي غير ذلك مما هو المعنى الذي أوردناه بعينه ولا زيادة فيه أصلاً.
قال أبو محمد: وهذا ليس شيئاً لأننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق العالم كله قسمان جوهر حامل وعرض محمول ولا مزيد ولا ثالث في العالم غير هذين القسمين هذا أمر يعرف بضرورة العقل وضرورة الحس فالجواهر مغايرة بعضها لبعض بذواتها التي هي أشخاصها يعني بالغيرية فيها وتختلف أيضاً بجنسها وهي أيضاً مفترق بعضها من بعض بالعرض المحمول في كل حامل من الجواهر وأما الأعراض فمغايرة للجواهر بذواتها بالغيرية فيها وكذلك هذه أيضاً بعضها مغاير لبعض بذواتها وبعضها مفارق لبعض بذواتها وإن كان بعض الأعراض أيضاً قد تحمل الأعراض كقولنا حمرة مشرقة وحمرة كذرة وعمل سيئ وعمل صالح وقوة شديدة وقوة دونها في الشدة ومثل هذا كثير إلا أن كل هذا يقف في عدد متناه لا يزيد وهذا أمر يعلم بالحس والعقل فالمتحرك يفارق الساكن هذا بحركته وهذا بسكونه والحركة تفارق السكون بذاتها ويفارقها السكون بذاته وبالنوعية والغيرية والحركة إلى الشرق تفارق الحركة إلى الغرب بكون هذه إلى الشرق وبكون هذه إلى الغرب بذاته وبالغيرية فقط وهكذا في كل شيء فكل شيئين وقعا تحت نوع واحد مما يلي الأشخاص فإنهما يختلفان بغيريتهما فإن كانا وقعا تحت نوعين فإنهما يختلفان بالغيرية في الشخص وبالغيرة في النوع أيضاً والغيرية أيضاً لها نوع جامع لجميع أشخاصها إلا أن كل ذلك واقف عند حد من العدد لا يزيد ولا بد ثم نسألهم خبرونا عن المعاني التي تدعونها في حركة واحدة أيما أكثر أهي أم المعاني التي تدعونها في حركتين فإن أثبتوا قلة وكثرة تركوا مذهبهم وأوجبوا النهاية في المعاني التي نفوا النهاية عنها وإن قالوا إلا قلة ولا كثرة هاهنا كابروا وأتوا بالمحال الناقض أيضاً لأقوالهم لأنهم إذا أوجبوا للحركة معنى أوجبوا للحركتين معنيين وهكذا أبداً فوجبت الكثرة والقلة ضرورة لا محيد عنها.
قال أبو محمد: فلم يكن لهم جواب أصلاً إلا أن بعضهم قال أخبرونا أليس الله تعالى قادراً على أن يخلق في جسم واحد حركات لا نهاية لها.
قال أبو محمد: فجواب أهل الإسلام في هذا السؤال نعم وأما من عجز ربه فأجابوا بلا فسقط هذا السؤال عنهم وكان سقوط الإسلام عنهم بهذا الجواب أشد من سقوط سؤال أصحاب معمر.
قال أبو محمد: فتمادى سؤالهم لأهل الحق فقالوا فأخبرونا أيما أكثر ما يقدر الله تعالى عليه من خلق الحركات في جسمين أو ما يقدر عليه من خلق الحركات في جسم واحد فكان جواب أهل الحق في ذلك أنه لا يقع عدد على معدوم ولا يقع العدد إلا على موجود معدود والذي يقدر الله تعالى عليه ولم يفعله فليس هو بعد شيئاً ولا له عدد ولا هو معدود ولا نهاية لقدرة الله تعالى وأما ما يقدر عليه تعالى ولم يفعله فلا يقال فيه أن له نهاية ولا أنه لا نهاية له وأما كل ما خلق الله تعالى فله نهاية بعد وكذا كل ما يخلق فإذا خلقه حدثت له نهاية حينئذ لا قبل ذلك وأما المعاني التي تدعونها فإنكم تدعون أنها موجودة قائمة فوجب أن يكون لها نهاية فإن نفيتم النهاية عنها لحقتم بأهل الدهر وكلمناكم بما كلمناهم به مما قدر ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق ثم لو تثبت لكم هذه العبارة من قول القائل أن ما يقدر الله تعالى عليه لا نهاية لعدده وهذا لا يصح بل الحق في هذا أن نقول أن الله تعالى قادر على أن يخلق ما لا نهاية له في وقت ذي نهاية ومكان ذي نهاية ولو شاء أن يخلق ذلك في وقت غير ذي نهاية وكان غير ذي نهاية لكان قادراً على كل ذلك لما وجب من ذلك إثبات ما ادعيتم من وجود معان في وقت واحد لا نهاية لها إذ ليس هاهنا عقل يوجب ذلك ولا خبر يوجب ذلك وإنما هو قياس منكم إذ قلتم لما كان قادراً على أن يخلق ما لا نهاية له قلنا أنه قد خلق ما لا نهاية له فهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو كان القياس حقاً لكان هذا منه باطلاً لأنه بزعمكم قياس موجود على معدوم وقياس وتشبيه لما قد خلقه بزعمكم على ما لم يخلقه وهذا في غاية الفساد ولا فرق بينكم في هذا القياس الفاسد وبين من يقول أن في بلد كذا قوماً يشمون من عيونهم ويسمعون من أنوفهم ويذوقون من آذانهم ويبصورون من ألسنتهم فإذا كذب في ذلك وسئل برهاناً على دعواه قال أتقرون أن الله قادر على خلق ذلك فقلنا له نعم قال فهذا دليل على صحة دعواي بل أنتم أسوأ حالاً لأن هذا أخبر عن متوهم لو كان كيف كان يكون فأنتم أتخبرون عن غير متوهم في النفس ولا متشكل في العقل وهو إقراركم بوجود معان لا نهاية لعددها في وقت واحد.
قال أبو محمد: فبطل هذا القول الفاسد والحمد لله رب العالمين وكان يكفي من بطلانها أنها دعوى لا برهان على صحتها وهي دعوى فاسدة غير ممكنة بل هي محال لا يتوهم ولا يتشكل وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الأحوال مع الأشعرية ومن وافقهم
قال أبو محمد وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا أن هاهنا أحوالاً ليست حقاً ولا باطلاً ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء وقالوا من هذا علم العالم بأن له علماً ووجوده لوجوده وقالوا فإن قلتم أن لكم علماً بأن لكم علماً بالباري تعالى وبما تعلمونه وأن لكم وجوداً لوجودكم ما تجدونه سألناكم ألكم علم بعلمكم بأن لكم علماً وهل لكم وجود لوجودكم وجودكم ما تجدونه فإن أقررتم بذلك لزمكم أن تسلسلوا هذا أبداً إلى ما لا نهاية له ودخلتم في قول أصحاب معمر والدهرية. وإن منعتم من ذلك سئلتم عن صحة الدليل على صحة منعكم ما منعتم من ذلك وصحة إيجابكم ما أوجبتم من ذلك وكذلك قالوا في قدم القديم وحدث المحدث وبقاء الباقي وفناء الفاني وظهور الظاهر وخفاء الخافي وقصد القاصد ونية الناوي وزمان الزمان وما أشبه ذلك.
و قالوا لو كان للباقي بقاء ولبقاء الباقي بقاء وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا فهذا يوجب وجود أشياء لا نهاية لها وهذا محال وهكذا قالوا في قدم القديم وقد قدمه وقدم قدم قدمه إلى ما لا نهاية له وفي حدوث المحدث وحدث حدثه وحدث حدث حدثه إلى ما لا نهاية له وهكذا قالوا في زمان الزمان وزمان زمان الزمان إلى ما لا نهاية وفي فناء الفاني وفناء فنائه وفناء فناء فنائه إلى ما لا نهاية له وكذلك ظهور الظاهر وظهور ظهوره وظهور ظهور ظهوره إلى ما لا نهاية له وكذلك القصد والقصد إلى القصد والقصد إلى القصد إلى القصد وهكذا إلا ما لا نهاية له وكذلك النية والنية للنية والنية للنية للنية إلى ما لا نهاية له وكذلك تحقيق الحق وتحقيق تحقيق الحق إلى ما لا نهاية له.
قال أبو محمد: أفكار السوء إذا ظن صاحبها أنه يدقق فيها فهي أضر عليه لأنها تخرجه إلى التخليط الذي ينسبونه إلى السوفسطائية وإلى الهذيان المحض وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
قال أبو محمد: وللكلام في هذا أبين من أن يشكل على عامي فكيف على فهم فكيف على عالم والحمد لله ونحن نتكلم على هذا إن شاء الله عز وجل كلاماً ظاهراً لائحاً لا يخفى على ذي حس سليم وبالله تعالى نتأيد فنقول وبالله تعالى التوفيق.
أما العدم فإنه من صفات الزمن ومن فيه تقول ملك أقدم من ملك وزمان أقدم من زمان وشيخ أقدم من شيخ أي أنه متقدم بزمانه عليه والزمان متقدم بذاته على الزمان ليس في العالم قدم قديم الأزماني هذا هو حكم اللغة التي لا يوجد فيها غيره أصلاً فالقدم هو التقدم والتقدم متقدم بنفسه على غيره فقط لأن القدم موجود معلوم وهي صفة المتقدم فلا يجوز إنكاره وأما قدم القديم فباطل لأنه لم يأت به نص ولا قام بوجوده دليل وما كان هكذا فهو باطل وأما وجود الموجود فبضرورة الحس أن الموجود حق وأنه يقتضي واجداً وأن الواجد يقتضي وجوداً لما وجد هو فعل الواجد وصفته فهو حق لما ذكرنا ووجود الواجد يوجد بذاته لا بوجود هو غيره لأن وجود الوجود لم يأت به نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما الباري عز وجل فإنه يجد نفسه ويعلمها ويجد ما دونه ويعلمه بذاته لا بوجود هو غيره ولا بعلم هو غيره فقط وكذلك العالم منا يقتضي علماً ولا بد هو فعل العالم وصفته المحمولة فيه عرضاً بيقين ويزيد ويذهب ويثبت أطواراً هذا ما لا شك فيه والعالم منا يعلم أنه يحمل علماً بعلمه ذلك لا بعلم هو غير علمه لأن العالم بالعلم لم يوجب وجوده نص ولا برهان وما كان هكذا فهو باطل وكذلك الباقي مثاله بلا شك والبقاء هو اتصال وجوده مدة بعد مدة وهذا معنى صحيح لا يجوز أن ينكره عاقل فإما بقاء البقاء فلم يأت بإيجاب وجود نص ولا قام به برهان وما كان هكذا فهو باطل ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالبقاء ولا أنه باق كما لا يوصف بالخلد ولا بأنه خالد ولا بالدوام ولا بأنه دائم ولا بالثبات ولا بأنه ثابت ولا بطول العمر ولا بطول المدة لأن الله عز وجل لم يسم نفسه بشيء من ذلك لا في القرآن ولا على لسان رسول الله ﷺ ولا قاله قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا قام به برهان بل البرهان قام ببطلان ذلك لأن كل ما ذكرنا من صفات المخلوقين ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بشيء من صفات المخلوقين إلا أن يأتي نص بأن يسمي باسم ما فيوقف عنده ولأن كل ما ذكرنا أعراض فيما هو فيه والله تعالى لا يحمل الأعراض وأيضاً فإنه عز وجل لا في زمان ولا يمر عليه زمان ولا هو متحرك ولا ساكن لكن يقال لم يزل الله تعالى ولا يزال وأما الفناء فإنه مدة للعدم تعدها أجزاء الحركات والسكون ولا يجوز أن تكون للمدة مدة لكنها مدة في نفسها ولنفسها فالقول بالزمان حق لأنه محسوس معلوم وأما القول بزمان الزمان فهو شيء لم يأت به نص ولا قام بحصته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما ظهور الظاهر فهو متيقن معلوم والظهور صفة الظاهر وفعله تقول ظهر يظهر ظهوراً والظهور معلوم ظاهر بنفسه ولا يجوز أن يقال أن للظهور ظهوراً لأنه لم يأت به نص ولا قام بصحته برهان وما كان هكذا فهو باطل وأما خفاء الخافي فهو عدم ظهوره والعدم ليس شيئاً كما قدمنا وأما القصد إلى الشي والنية له فإنما هما فعل القاصد والناوي وإرادتهما الشيء والقول بهما واجب لأنهما موجودات بالضرورة يجدهما كل أحد من نفسه ويعلمهما من غيره علماً ضرورياً وأما القصد إلى القصد والنية للنية فباطل لأنه لم يأت به نص ولا أوجبهما دليل وما كان هكذا فهو باطل والقول به لا يجوز فهذا وجه البيان فيما خفي عليهم حتى أتوا فيه بهذا التخليط والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أخبرونا إذا قلتم هذه أحوال أهي معان ومسميات مضبوطة محدودة متميز بعضها من بعض أم ليست معاني أصلاً ولا لها مسميات ولا هي مضبوطة ولا محدودة متميز بعضها من بعض فإن قالوا ليست معاني ولا محدودة ولا مضبوطة ولا متيزاً بعضها من بعض ولا لتك الأسماء مسميات أصلاً قيل له فهذا هو معنى العدم حقاً فلم قلتم أنها ليست معدومة ثم لم سميتموها أحوالاً وهي معدومة ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية وتسميتكم هذه المعاني أحوالاً ليست تسمية شريعة ولا لغوية ولا مصطلحاً عليها لبيان ما يقع عليه فهي باطل محض بيقين فإن قالوا هي معان مضبوطة ولها مسميات محدودة متميزة بعضها من بعض قيل لهم هذه صفة الموجودة ولا بد فلم قلتم أنها ليست موجودة وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ويقال لهم أيضاً هذه الأحوال التي تقولون أمعقولة هي أم غير معقولة فإن قالوا هي معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت فهي موجودة ولا بد والعدم ليس معقولاً لكنه لا معنى لهذه اللفظة أصلاً وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضاً هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لذي حال وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى يقال هذا حال فلان اليوم وكيف كانت حالك بالأمس وكيف يكون الحال غداً فإذا الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حق مخلوقة ولا بد فظهر فساد قولهم وأنه من أسخف الهذيان والمحال الممتنع الذي لا يرضي به عاقل ويقال لهم أيضاً قبل كل شيء وبعده فمن أين سميتم هذا الاسم يعني الأحوال ومن أين قلتم لا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا حق ولا باطل ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معدومة ولا موجودة ولا هي أشياء ولا غير أشياء أي دليل حداكم على هذا الحكم أقرآن أم سنة أم إجماع أو قول متقدم أم لغة أم ضرورة عقل أم دليل إقناعي أم قياس فهاتوه ولا سبيل إليه فلم يبق إلا الهذر والهوس وقلة المبالاة بما يكتبه اللكان ويسأل عنه رب العالمين والتهاون باستخفاف أهل العقول لمن قال بهذا الجنون ولا مزيد ونعوذ بالله من الخذلان وما ينبغي لهم بعد هذا أن ينكروا على من أتى بما لا يعقل ككون الجسم في مكانين والجسمين في مكان واحد وكون شيء قائماً قاعداً وكون أشياء غير متناهية في وقت واحد فإن قالوا هذا كفر قيل لهم بل الكفر ما جئتم به لأنه إبطال الحقائق كلها والعجب كل العجب أنهم لا يجوزون قدرة الله تعالى على ما هو محال عندهم وقد أتوا في هذا الفصل بعين المحال ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وكلامهم في هذه المسألة كلام ما سمع بأسخف منه ولا قول السوفسطائية ولا قول النصارى ولا قول الغالية على أن هذه الفرق أحمق الفرق أقوالاً أما السوفسطائية فإنهم قطعوا على أن الأشياء باطل لا حق أو أنها حق عند من هي عنده حق وباطل عند من هي عند باطل وأما النصارى والغالية فإن كانت هاتان الفرقتان قد أتتا بالعظائم فإنهم قطعوا بأنها حق وأما هؤلاء المخاذيل فإنهم أتوا بقول حققوه وأبطلوه ولم يحققوه وأبطلوه ولم يحققوه ولا أبطلوه كل ذلك معاً في وقت واحد من وجه واحد وهذا لا يأتي به إلا مبرسم أو مجنون أو ماجن يريد أن يضحك من معه.
قال أبو محمد: ونحن نتكلف بيان هذا التخليط التي أتوا به وإن كان مكتفياً بسماعه ولكن التزيد من إبطال الباطل ما أمكن حسن فنقول وبالله تعالى التوفيق أن قولهم لا هي حق ولا هي باطل فإن كل ذي حس سليم يدري أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فهو حق هذا لا يعقل غيره فكيف وقد قال الله تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " وقال تعالى " ليحق الحق ويبطل الباطل " وقال تعالى " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " وقال تعالى " خلق كل شيء فقدره " وقال تعالى " وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " وقال " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم ".
قال أبو محمد: وهؤلاء قوم ينتمون إلى الإسلام ويصدقون القرآن ولولا ذلك ما احتججنا عليهم فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل وليس إلا علم أو جهل وهو عدم العلم وليس إلا وجود أو عدم إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء ولا على مخلوق فقد أكذبهم الله عز وجل في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلاً فهو حق وما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن معلوماً فهو مجهول وما لم يكن مجهولاً فهو معلوم وما لم يكن شيئاً فهو لا شيء وما لم يكن لا شيء فهو شيء وما لم يكن موجوداً فهو معدوم وما لم يكن معدوماً فهو موجوداً وما لم يكن مخلوقاً فهو غير مخلوق وما لم يكن غير مخلوق فهو مخلوق هذا كله معلوم ضرورة ولا يعقل غيره فإذ هذا كذلك ولا فرق بين ما قال وه في هذه القضية وبين القول اللازم لهم ضرورة وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معاً حق باطل معاً معلومة مجهولة معاً مخلوقة غير مخلوقة معاً شيء لا شيء معاً وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه لأنهم إذ قالوا ليست حقاً فقد أوجبوا أنها باطل وإذ قالوا ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق وهكذا في سائر ما قال وه فأعجبوا لعقول وسع هذا فيها وسخموا به ورقهم وعجب آخر وهو قال أبو محمد: ولم يخلصوا من هذا من قول معمر في وجوب وجود أشياء لا نهاية لها أو أن يصيروا إلى قولنا في إبطال هذه التي يسمونها أحوالاً وإعدامها جملة وما نعلم هوساً إلا وقد انتظمته هذه المقالة ونعوذ بالله من الخذلان.
مسألة أخرى
قال أبو محمد: قالت الأشعرية ليس في العالم شيء له بعض أصلاً ولا شيء له نصف ولا ثلث ولا ربع ولا خمس ولا سدس ولا سبع ولا ثمن ولا تسع ولا عشر ولا جزء أصلاً واحتجوا في هذا بأن قالوا يلزم من قال أن الواحد عشر العشر وجزء من العشرة وبعض العشرة أن يقول ولا بد أن الواحد عشر من نفسه وجزء من نفسه وبعض نفسه وأنه جزء لغيره عشر لغيره لأن العشرة تسعة وواحد فلو كان الواحد عشر العشرة وبعضاً للعشرة وجزأ للعشرة لكان عشراً لنفسه وللتسعة التي هي غيره ولكان جزأ بعضاً لنفسه وللتسعة التي هي غيره.
قال أبو محمد: وهذا خبط شديد أول ذلك أنه رد على الله تعالى مجرد وتكذيب للقرآن وخلاف اللغة بل لجميع اللغات ومكابرة للعقول وللحواس قال تعالى " وإذا خلا بعضهم إلى بعض " وقال تعالى " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وقال تعالى " فلأمه الثلث فلامه السدس فلها النصف ولهن الربع ولهن الثمن " فقد كذبوا القرآن نصاً ثم هذا موجود في كل طبيعة في كل لغة ومحسوس بالحواس ثم يقال لهم لا فرق بينكم وبين من صحح ولم ينكر كون الشيء بعض نفسه وبعض غيره وجزأ لنفسه وجزأ لغيره وعشر نفسه وعشر غيره واحتج في تصحيح ذلك بالحجة التي رمتم بها إبطال ذلك ولا مزيد وكلاكما متكسع في ظلمة الخطأ ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق ليس الأمر كما ظننتم بل الأسماء موضوعة للتفاهم وللتميز بعض المسميات من بعض فالعشرة اسم للعشرة أفراد مجتمعات في العدد كذلك لتسعة وواحد ولثمانية اثنين ولسبعة وثلاثة ولستة وأربعة وخمسة وخمسة قال تعالى " ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " وهكذا جميع الأعداد لا ينكر ذلك إلا مخذول منكر للمشاهدة فبالضرورة ندري أن كل جزء من تلك الجملة فهو بعض لها وعشر لها وقسم منها لنسبة ما ولا يقال هو جزء لنفسه ولا جزء لغيره ولا أنه بعض لنفسه ولا أنه بعض لغيره ولا عشر لنفسه ولا عشر لغيره ومثل هذا البلق الذي هو اسم لاجتماع السواد والبياض معاً فالبياض بلا شك بعض البلق والسواد بعض البلق وليس البياض جزأ لنفسه وللسواد ولا بعضاً لنفسه وللسواد وكل واحد منهما جزء للبلق وكذلك الإنسان اسم للجملة المجتمعة من أعضائه ولا شك في أن العين بعض الإنسان وجزء من الإنسان ولا يحتمل أن يقال العين بعض نفسها وبعض الأذن واليد ولا أن يقال الأذن جزء لنفسها وللعين والأنف وهكذا في سائر الأعضاء فعلى قول هؤلاء النوكى يلزمهم أن لا تكون العين بعض الإنسان وأن يقولوا أن العين بعض نفسها وبعض الأذن ومن أبطل الأبعاض والأجزاء فقد أبطل الجمل لأن الجمل ليست شيئاً البتة غير أبعاضها ومن أبطل الجمل فقد بطل الكل والجزء وأبطال العالم بكل ما فيه وإذا بطل العالم بطل الدين والعقل وهذه حقيقة السفسطة وما نعلم في الأقوال أحمق من هذه المسألة ومن التي قبلها نعوذ بالله من الخذلان.
الكلام في خلق الله عز وجل للعالم في كل وقت وزيادته في كل دقيقة
قال أبو محمد: وذكر عن النظام أنه قال أن الله تعالى يخلق كل ما خلق في وقت واحد دون أن يعدمه وأنكر عليه القول بعض أهل الكلام.
قال أبو محمد: وقول النظام هاهنا صحيح لأننا إذا أثبتنا أن خلق الشيء هو الشيء نفسه فخلق الله تعالى قائم في كل موجود أبداً ما دام ذلك الموجود موجوداً وأيضاً فإنا نسألهم ما معنى قولكم خلق الله تعالى أمر كذا فجوابهم أن معنى خلقه تعالى أخرجه من العدم إلى الوجود فنقول لهم أليس معنى هذا القول منكم أنه أوجده ولم يكن موجود أفلا بد من قولهم نعم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق فالخلق هو الإيجاد عندكم بلا شك فأخبرونا أليس الله تعالى موجداً لكل موجود أبداً مدة وجوده فإن أنكروا ذلك أحالوا وأوجبوا أن الأشياء موجودة وليس الله تعالى موجداً لها الآن وهذا تناقض وإن قالوا نعم فإن الله تعالى موجد لكل موجود أبداً ما دام موجوداً قلنا لهم هذا هو الذي أنكرتم بعينه قد أقررتم به لأن الإيجاد هو الخلق نفسه والله تعالى موجد لكل ما يوجد في كل وقت أبداً وإن لم يفنه قبل ذلك والله تعالى خالق لكل مخلوق في كل وقت وإن لم يفنه قبل ذلك وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو قول الله تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " وصح البرهان بأن الله تعالى خلق التراب والماء الذي يتغذى آدم وبنوه بما استحال عنهما وصارت فيه دماء وأحاله الله تعالى منياً فثبت بهذا يقيناً أن جميع أجساد الحيوان والنوامى كلها متفرقة ثم جمعها الله تعالى فقام منها الحيوان والنوامى وقال عز وجل " ثم أنشأناه خلقاً آخر " وقال تعالى " خلقاً من بعد خلق " فصح أن في كل حين يحيل الله تعالى أحوال مخلوقاته فهو خلق جيد والله تعالى يخلق في كل حين جميع العالم مستأنفاً دون أن يفنيه وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الحركة والسكون
قال أبو محمد: ذهبت طائفة إلى أن لا حركة في العالم وأن كل ذلك سكون واحتجوا بأن قالوا وجدنا الشيء ساكناً في المكان الأول ساكناً في المكان الثاني وهكذا أبداً فعلمناه أن كل ذلك سكون وهذا قول منسوب إلى معمر بن عمرو العطار مولى بني سليم أحد رؤساء المعتزلة وذهبت طائفة إلى أنه لا سكون أصلاً وإنما هي حركة اعتماد وهذا قول ينسب إلى إبراهيم ابن سيار النظام واحتج غير النظام من أهل هذه المقالة بأن قالوا السكون إنما هو عدم الحركة والعدم ليس شيئاً وقال بعضهم هو ترك الحركة وترك الفعل ليس فعلاً ولا هو معنى وذهبت طائفة إلى إبطال الحركة والسكون معاً وقالوا إنما يوجد متحرك وساكن فقط وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وذهبت طائفة إلى أن الجسم في أول خلق الله تعالى ليس ساكناً ولا متحركاً وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون إلا أنها قالت أن الحركات أجسام وهو قول هشام بن الحكم شيخ الإمامية وجهم بن صفوان السمرقندي وذهبت طائفة إلى إثبات الحركة والسكون وأن كل ذلك أعراض وهذا هو الحق فأما من قال بنفي الحركة وأن كل ذلك سكون فقولهم يبطل بأننا قد علمنا بأن السكون إنما هو إقامة في المكان وأن الحركة نقلة عن ذلك المكان وزوال عنه ولا شك في أن الزوال عن الشيء هو غير الإقامة فيه فإذا الأمر كذلك فواجب أن يكون لهذين المعنيين المتغايرين لكل واحد منهما اسم غير اسم الآخر كما هما متغايران فاتفق في اللغة أن يسمى أحدهما حركة ويسمى الآخر سكوناً وأما قولهم أن كل حركة فهي سكون في المكان الثاني فليس كذلك لأن السكون إقامة لا نقلة فيها فإذا وجدت نقلة متصلة لا إقامة فيها فهي غير الإقامة التي لا نقلة فيها ونوع آخر له أيضاً أشخاص غير أشخاص النوع الآخر وبيقين ندري أن الشيء المتحرك من مكان إلى مكان فإنه وإن جاوز كل مكان يمر عليه فإنه غير واقف ولا مقيم هذا ما لا شك فيه يعرف ذلك بضرورة الحس فصح أن الحركة معنى وأن السكون معنى آخر وأما من قال أن السكون حركة اعتماد فاحتجاج لا يعقل فلا وجه للاشتغال به وأما حجة من احتج بأن السكون عدم الحركة والعدم ليس شيئاً فليس كما قال لأنه عقب الحركة إقامة موجودة ظاهرة فهي وإن كان معها بوجودها عدمت الحركة فليست هي عدماً كما أن القيام معنى صحيح موجود وأن كان قد عدمت معه سائر الحركات والأعمال من القعود والاتكاء والاضطجاع ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل الحركة ليست معنى لأنها عدم السكون فهذا ما لا انفكاك عنه وكذلك من قال أيضاً أن المرض ليس معنى لأنه عدم الصحة والصحة ليست معنى لأنها عدم المرض ومثل هذا كثير جداً وفي هذا إبطال الحقائق كلها وأما من قال أن الترك ليس معنى فخطأ لأن كل من دون الله تعالى فإنه إن ترك معنى ما وفعلاً ما فلا بد له ضرورة من فعل آخر ومعنى آخر هذا أمر يوجد بالمشاهدة والحس لا يمكن غير ذلك فصح أن ترك من دون الله تعالى لفعل ما هو أيضاً فعل صحيح بوجوده منه سمي تاركاً لما ترك وليس الله تعالى كذلك بل لم يزل غير فاعل ولم يكن بذلك فاعلاً للترك لأن ترك الإنسان للفعل كما بينا عرض موجود فيه وهو حامل له ولو كان لترك الله تعالى للفعل معنى لكان قائماً به تعالى معاذ الله من هذا من أن يكون عز وجل حاملاً لعرض فلو كان أيضاً قائماً بنفسه لكان جوهراً والترك ليس جوهراً ولو كان قائماً بغيره عز وجل لكان تعالى فاعلاً له غير تارك فصح الفرق وبالله تعالى التوفيق وأما من أبطل الحركة والسكون معاً فقول فاسد أيضاً لأنه أثبت المتحرك والساكن مع ذلك وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن من تحرك سكن فإن تلك العين المتحركة ثم الساكنة هي عين واحدة وذات واحدة لم تتبدل ذاتها وإنما تبدل عرضها المحمول فيها فبالضرورة ندري أنه حدث فيه أو له أو منه معنى من أجله استحق أن يسمى متحركاً وأنه حدث فيه أو له أو منه أيضاً معنى من أجله استحق أن يسمى ساكناً ولولا ذلك لم يكن بأن يسمى متحركاً أحق به منه بأن يسمى ساكناً هذا أمر محسوس مشاهد فذلك المعنى هو الحركة أو السكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب ونفى الحركة والسكون ولا فرق بينه وبين من أثبت الضارب والقائم والآكل وأبطل الضرب والأكل والقيام وهذه سفسطة صحيحة وبالله تعالى التوفيق وأما من قال أن الجسم في أول خلق الله عز وجل ليس ساكناً ولا متحركاً فكلام فاسد أيضاً لأنه لا يتوهم ولا يعقل معنى ثالث ليس حركة ولا سكوناً هذا شيء لا يتشكل في النفس ولا يثبته عقل ولا سمع وأيضاً فلأنه قول لا دليل عليه فهو باطل ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان فإذ لا شك في ذلك فالجسم في أول حدوثه ساكن في المكان الذي خلقه الله تعالى فيه ولو طرفة عين ثم إما يتصل سكونه فيه فتطول إقامته فيه وإما أن ينتقل عنه فيكون متحركاً عنه فإن قال قائل بل هو متحرك لأنه خارج عن العدم إلى الوجود قيل له هذا منك تسمية فاسدة لأن الحركة في اللغة وهي التي يتكلم عليها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان والعدم ليس مكاناً ولم يكن المخلوق شيئاً قبل أن يخلقه الله تعالى فحال خلقه هي أول أحواله التي لم يكن هو قبلها فكيف أن يكون له حال قبلها فلم ينتقل أصلاً بل ابتداه الله تعالى الآن وأما الجسم الكلي الذي هو جرم العالم جملة وهو الفلك الكلي فكل جزء منه مقدر مفروض فإن أجزائه المحيطة به من أربع جهات والجزء الذي يليه في جهة عمق الفلك هو مكانه ولا مكان له في الصفحة التي لا تلي الأجزاء التي ذكرنا والله تعالى يمسكه بقوته كما شاء ولا يلاقيه من صفحته العليا شيء أصلاً ولا هنالك مكان ولا زمان ولا خلاء ولا ملا.
قال أبو محمد: ورأيت بعض النوكى ممن ينتمي إلى الكلام قولاً ظريفاً وهو أنه قال أن الله تعالى إذ خلق الأرض خلق جرماً عظيماً يمسكها لئلاً تتحدر سفلاً فحين خلق ذلك الجرم أعدمه وخلق آخر وهكذا أبداً بلا نهاية لأنه زعم لو أبقاه وقتين لاحتاج إلى مسك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له كأن هذا الأنوك لم يسمع قول الله تعالى " إن الله يمسك السماوات والأرض إن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " فصح أن الله تعالى يمسك الكل كما هو دون عمد لا زيادة ولا جرم آخر ولو أن هؤلاء المخاذيل إذ عدموا العلم تمسكوا باتباع القرآن والسكوت عن الزيادة والخبر عن الله بما لا علم لهم به لكان أسلم لهم في الدين والدنيا ولكن من يضلل الله فلا هادي له ونعوذ بالله من الضلال وأما من قال أن الحركات أجسام فخطأ لأن الجسم في اللغة موضوع للطويل العريض العميق ذي المساحة وليست الحركة كذلك فليست جسماً ولا يجوز أن يوقع عليها اسم جسم إذ لم يأت ذلك في اللغة ولا في الشريعة ولا أوجبه دليل وأوضح أنها ليست جسماً فهي بلا شك عرض وأما من قال أن الحركة ترى فقول فاسد لأنه قد صح إن البصر لا يقع في هذا العالم إلا على لون في ملون فقط وبيقين ندري أن الحركة لا لون لها فإذ لا لون لها فلا سبيل إلى أن ترى وإنما علمنا كون الحركة لأننا رأينا لون المتحرك في مكان ما ثم رأيناه في مكان آخر علمنا أن ذلك الملون قد انتقل عن مكان إلى مكان بلا شك وهذا المعنى هو الحركة أو بأن يحس الجسم قد انتقل من مكان إلى مكان فيدري حينئذ من لامسه وإن كان أعمى أو مطبق العينين أنه تحرك وبرهان ما قلنا أن الهواء لما لم يكن له لون لم يره أحد وإنما يعلم تموجه وتحركه بملاقاته فإنه منتقل وهو هبوب الرياح وكذلك أيضاً علمنا حركة الصوت بإحساسنا الصوت يأتي من مكان ما وكذلك القول في الحركة في المشموم من الطيب والنتن وحركة المذوق فبطل قولاً من قال أن الحركات ترى وصح أن الحركة ليست لوناً ولا لها لون ولو كان لأمكن لآخر أن يدعي أنه يسمع الحركة وهذا خطأ لأنه لا يسمع إلا الصوت ولأمكن لآخر أن يدعي أن الحركة تلمس وهذا خطأ وإنما يلمس المجسة من الخشونة والإملاس أو غير ذلك من المجسات والحق من هذا إنما هو أن الحركة تعرف وتوجد بتوسط كل ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: والحركات النقلية المكانية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما حركة ضرورية أو اختيارية فالاختيارية هي فعل النفوس الحية من الملائكة والإنس والجن وساير الحيوان كله وهي التي تكون إلى جهات شتى على غير رتبة معلومة الأوقات وكذلك السكون الاختياري والحركة الضرورية تنقسم قسمين لا ثالث لهما أما طبيعة وأما قسرية والاضطرارية هي الحركة الكائنة ممن ظهرت منه عن غير قصد منه إليها وأما الطبيعة فهي حركة كل شيء غير حي مما بناه الله عليه كحركة الماء إلى وسط المركز وحركة الأرض كذلك وحركة الهواء والنار إلى مواضعها وحركة الأفلاك والكواكب دوراً وحركة عروق الجسد النوابض والسكون الطبيعي هو سكون كل ما ذكرنا في عنصره وأما القسرية فهي حركة كل شيء دخل عليه ما يحيل حركته عن طبيعته أو عن اختياره إلى غيرها كتحريك المرء قهراً وتحريكك الماء علواً والحجر وكذلك وكتحريك النار سفلاً والهواء وكذلك وكتصعيد الهواء والماء وكعكس الشمس لحر النار والسكون القسري هو توقيف الشيء في غير عنصره أو توقيف المختار كرهاً وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في التولد
قال أبو محمد: تنازع المتكلمون في معنى عبروا عنه بالتولد وهو أنهم اختلفوا فيمن رمى سهماً فجرح به إنساناً أو غيره وفي حرق النار وتبريد الثلج وساير الآثار الظاهرة من الجمادات فقالت طايفة ما تلود من ذلك عن فعل إنسان أو حي فهو فعل الإنسان والحي واختلفوا فيما تولد من غير حي فقالت طائفة هو فعل الله وقالت طائفة ما تولد من غير حي فهو فعل الطبيعة وقال آخرون كل ذلك فعل الله عز وجل.
قال أبو محمد: فهؤلاء مبطلون للحقائق غائبون عن موجبات العقول.
قال أبو محمد: والأمرأ بين من أن يطول فيه الخطاب والحمد لله رب العالمين والصواب في ذلك أن كل ما في العالم من جسم أو عرض في جسم أو أثر من جسم فهو خلق الله عز وجل فكل ذلك فعل الله عز وجل بمعنى أنه خلقه وكل ذلك مضاف بنص القرآن وبحكم اللغة إلى ما ظهرت منه من حي أو جماد قال تعالى " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " فنسب عز وجل الاهتزاز والإنبات والربو إلى الأرض وقال " تلفح وجوههم النار " فأخبر تعالى أن النار تلفح وقال تعالى " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " فأخبر عز وجل أن الماء يشوي الوجوه وقال تعالى " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فسمى تعالى المخطئ قاتلاً وأوجب عليه حكماً وهو لم يقصد قتله قط لكنه تولد عن فعله وقال تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فأخبر تعالى أن الكلم والعمل عرض من الأعراض وقال تعالى " أفإن مات أو قتل انقلبتم " وقال تعالى " على شفا جرف هار فانهار به " ولم تختلف أمة ولا لغة في صحة قول القائل مات فلا وسقط الحائط فنسب الله تعالى وجميع خلقه الموت إلى الميت والسقوط إلى الحائط والانهيار إلى الجرف لظهور كل ذلك منها ليس في القرآن ولا في السنن ولا في العقول شيء غير هذا الحكم ومن خالف هذا فقد اعترض على الله تعالى وعلى رسول الله ﷺ وعلى جميع الأمم وعلى جميع عقولهم وهذه صفة من عظمت مصيبته بنفسه ومن لا دين له ولا عقل ولا حياء ولا علم وصح بكل ما ذكرنا أن إضافة كل أثر في العالم إلى الله تعالى هي على غير إضافته إلى من ظهر منه وإنما إضافته إلى الله تعالى لأنه خلقه وأما إضافته إلى من ظهر منه أو تولد عنه فلظهوره منه اتباعاً للقرآن ولجميع اللغات ولسنن رسول الله ﷺ وكل هذه الإخبارات وكلتا هاتين الإضافتين حق لا مجاز في شيء من ذلك لأنه لا فرق بين ما ظهر من حي مختار أو من حي مختار في أن كل ذلك ظاهر مما ظهر منه وأنه مخلوق لله تعالى إلا أن الله تعالى خلق في الحي اختياراً لما ظهر منه ولم يخلق الاختيار فيما ليس حياً ولا مريداً فما تولد عن فعل فاعل فهو فعل الله عز وجل لمعنى أنه خلقه وهو فعل ما ظهر منه بمعنى أنه ظهر منه قال الله تعالى " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال تعالى " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في المداخلة والمجاورة والكمون
قال أبو محمد: ذهب القائلون بأن الألوان أجسام إلى المداخلة ومعنى هذه اللفظة أن الجسمين يتداخلان فيكونان جميعاً في مكان واحد.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد لما سنبينه إن شاء الله تعالى في باب الكلام في الأجسام والأعراض من ديواننا هذا وبالله التوفيق من ذلك أن كل جسم فله مساحة وإذا كان كذلك فله مكان زائد وإذ له مكان بقدر مساحته ولا بد فإن كل جسم زيد عليه جسم آخر فإن ذلك الجسم الزائد يحتاج إلى مكان زائد من أجل مساحته الزائدة هذا أمر يعلم بالمشاهدة فإن اختلط الأمر على من لم يتمرن في معرفة حدود الكلام من أجل ما يرى في الأجسام المتخلخلة من تخلل الأجسام المايعة لها فإنما هذا لأن في خلال أجزاء تلك الأجسام المتخلخلة خروقاً صغاراً مملوءة هواء فإذا صب عليها الماء أو مائع ما ملأ تلك الخروق وخرج عنها الهواء الذي كان فيها وهذا ظاهر للعين محسوس خروج الهواء عنها بنفاخات وصوت من كل ما يخرج عنه الهواء مسرعاً والذي ذكرنا فإنه إذا تم خروج الهواء عنها وزيد في عدد المائع ربا واحتاج إلى مكان زائد وأما الذي ذكرنا قبل فإنه في الأجسام المكتنزة كماء صب على ماء أو دهن على دهن أو دهن على ماء وهكذا في كل شيء من هذه الأنواع وغيرها فصح يقيناً أن الجسم إنما يكون في الجسم على سبيل المجاورة كل واحد في حيز غير حيز الآخر وإنما تكون المداخلة بين الأعراض والأجسام وبين الأعراض والأعراض لأن العرض لا يشغل مكاناً فيجد اللون والطعم والمجسة والرائحة والحر والبرد والسكون كل ذلك مداخل للجسم ومداخل بعضه بعضاً ولا يمكن أن يكون جسم واحد في مكانين ولا جسمان في مكان واحد ذم أن المجاورة بين الجسمين تنقسم ثلاثة أقسام أحدها أن يخلع أحد الجسمين كيفياته ويلبس كيفية الآخر كنقطة رميتها في دم خل أو دن مرق أو في لبن أو في مداد أو شيء يسير من بعض هذه في بعض أو من غيرها كذلك فإن الغالب منها يسلب المغلوب كيفياته الذاتية والغيرية ويذهبها عنه ويلبسا معاً كيفيات آخر كما الزاج إذا جاور العفص وكجسم الجير إذا جاور جسم الزرنيخ وكسائر المعاجن كلها والدقيق والماء وغير ذلك والثالث أن لا يخلع واحد منهما عن نفسه كيفية من كيفياته لا الذاتية ولا الغيرية بل يبقى كل واحد منهما كما كان كزيت أضيف إلى ماء وكحجر إلى حجر وثوب إلى ثوب فهذا حقيقة الكلام في المداخلة والمجاورة وأما الكمون فإن طائفة ذهبت إلى أن النار كامنة في الحجر وذهبت طائفة إلى إبطال هذا وقالت أنه لا نار في الحجر أصلاً وهو قول ضرار بن عمرو.
قال أبو محمد: وكل طائفة منهما فإنها تفرط على الأخرى فيما تدعى عليها فضرار ينسب إلى مخالفيه أنهم يقولون بأن النخلة بطولها وعرضها وعظمها كامنة في النواة وأن الإنسان بطوله وعرضه وعمقه وعظمه كامن في المني وخصومه ينسبون إليه أنه يقول ليس في النار حر ولا في العنب عصير ولا في الزيتون زيت ولا في الإنسان دم.
قال أبو محمد: وكلا القولين جنون محض ومكابرة للحواس والعقول والحق في ذلك أن في الأشياء ما هو كامن كالدم في الإنسان والعصير في العنب والزيت في الزيتون والماء في كل ما يعتصر منه وبرهان ذلك أن كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامناً فيه ضمر الباقي لخروج ما خرج وخف وزنه لذلك عما كان عليه قبل خروج الذي خرج ومن الأشياء ما ليس كامناً كالنار في الحجر والحديد لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوة إذا تضاغطا احتدم ما بينهما من الهواء فاستحال ناراً وهكذا يعرض لكل شيء منحرق فإن رطوباته تستحيل ناراً ثم دخاناً ثم هواء إذ في طبع النار استخراج ناريات الأجسام وتصعيد رطوباتها حتى يفني كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج ثم لو نفخت دهرك على ما بقي من الأرضية المحضة وهي الرماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نار فتخرج ولا ماء فيتصعد وكذلك دهن السراج فإنه كثير الناريات بطبعه فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخاناً هوائياً وتخرج ناريته حتى يذهب كله وأما القول في النوى والبزور والنطف فإن في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعة خلقها في كل ذلك الله عز وجل وهي قوة تحتذب الرطوبات الواردة عليها من الماء والزبل ولطيف التراب الواد كل ذلك على النواة والبزر فتحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالته إليه فيصير عوداً ولحاء وورقاً وزهراً وثمراً وخوصاً وكرماً ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعته التي خلقها الله تعالى فيه لحماً ودماً وعظماً وعصباً وعروقاً وشرائين وعضلاً وغضاريف وجلداً وظفراً وشعراً وكل ذلك خلق الله تعالى فتبارك الله أحسن الخالقين والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وذهب الباقلاني وسائر الأشعرية إلا أنه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في الإنسان دم وهذا أمر ناظرنا عليه من لاقيناه منهم والعجب كل العجب قولهم هذا التخليط وإنكارهم ما يعرف بالحواس وضرورة العقل ثم هم يقولون مع هذا أن للزجاج والحصا طعماً ورائحة وأن لقشور العنب رائحة وأن للفلك طعماً ورائحة وهذا إحدى عجائب الدنيا.
قال أبو محمد: وما وجدنا لهم في ذلك حجة غير دعواهم أن الله تعالى خلق كل حر نجده في النار عند مسنا إياها وكذلك خلق البرد في الثلج عند مسنا إياه وكذلك خلق الزيت عند عصر الزيتون والعصير عند عصر العنب والدم عند القطع والشرط.
قال أبو محمد: فإذا تعلقوا من هذا بحواسهم فمن أين قالوا أن للزجاج طعماً ورائحة للفلك طعماً ورائحة وهذا موضع تشهد الحواس بتكذيبهم في أحدهما ولا تدرك الحواس الآخر ويقال لهم لعل الناس ليس في الأرض منهم أحد وإنما خلفهم الله عند رؤيتكم لهم ولعل بطونكم لا مضارين فيها ورؤوسكم لا أدمغة فياه لكن الله عز وجل خلق كل ذلك عند الشدخ والشق.
قال أبو محمد: وقول الله تعالى يكذبهم إذ قال تعالى " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " فلولا أن النار تحرق بحرها ما كان يقول الله عز وجل " قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون " فصح أن الحر في النار موجود وكذلك أخبر رسول الله ﷺ أن نار جهنم أشد حراً من نارنا هذه سبعين درجة وقال تعالى " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " فأخبر أن الشجرة تنبت بها وقال تعالى " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً " فصح أن السكر والعصير الحلال مأخوذ من الثمر والأعناب ولو لم يكونا فيهما ما أخذا منهما وقد أطبقت الأمة كلها على إنكار هذا الجنون وعلى القول هذا أحلى من العسل وأمر من الصبر وأحر من النار ونحمد الله على السلامة.
الكلام في الاستحالة
قال أبو محمد: احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم أن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها باقية فيه بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه اثر وكذلك الفضة اليسير تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر وهكذا كل شيء قالوا لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قال أبو محمد: فقلنا لهم أن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عز وجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ولا ينكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلاً ما فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ونحن نقر معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول أن مقداراً ما من الماء يحيل مقداراً ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ولا يحيل أكثر منه مما يلقى فيه ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المستحيل من الماء لم يستحل من الماء بل أحال الهواء ماء وهكذا كلما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم وحدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمى ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئاً أصلاً ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضاً شيئاً من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأبارج ونقطة مداد في لبن وما أشبه ذلك وهذه رتبة العالم في مقتضى العقول وفيما تشاهد الحواس والذوق والشم واللمس ومن دفع هذا خرج عن المعقول ويلزم الحنيفيين من هذا اجتناب ماء البحر لأن فيه على عقولهم عذرة وبول لا ورطوبات ميتة وكذلك مياه جميع الأنهار أولها عن آخرها نعم وماء المطر أيضاً ونجد الدجاج يتغذى بالميتة والدم والعذرة والكبش يسقي خمراً أن ذلك كله قد استحال عن صفات كل ذلك وطبعه إلى لحم الدجاج والكبش فحل عندنا وعندهم ولو كثر تغذيها به حتى تضعف طبيعتها عن إحالته فوجد في خواصها وفيها صفة العذرة والميتة حرم أكله وهذا هو الذي أنكروه نفسه وهو مقرون معنا في أن الثمار والبقول تتغذى بالعذرة وتستحيل فيها مدة أنها قد حلت وهذا هو الذي أنكروه نفسه وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الطفرة
قال أبو محمد: نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام أنه قال أن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها.
قال أبو محمد: وهذا عين المحال والتخليط إذا إن كان هذا على قوله في أنه ليس في العالم إلا جسم حاشا الحركة فقط فإنه وإن كان قد أخطأ في هذه القصة فكلامه الذي ذكرنا خارج عليه خروجاً صحيحاً لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة غلا حاسة البصر فقط وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل بين الأدراكين في المدة أصلاً فصح ضرورة أن خلا البصر لو قطع المسافة التي بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسير أو أقل فصح يقيناً أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن يمر في شيء من المسافة التي بينهام ولا يحلها ولا يحازيها ولا يقطعها وأما في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصار بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم وذلك الضرب فصح يقيناً أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا يقطعها ولا ينتقل فيها فإذا صح البرهان بشيء ما لم يعترض عليها إلا عديم عقل أو عديم حياء أو عديم علم أو عديم دين وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الإنسان
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الاسم على ما يقع فذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على الجسد دون النفس وهو قول أبي الهذيل العلاف وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع على النفس دون الجسد وهو قول إبراهيم النظام وذهبت طائفة إلى أنه إنما يقع عليهما معاً كالبلق الذي لا يقع إلا على السواد والبياض معاً.
قال أبو محمد: واحتجت الطائفة التي ذكرنا بقول الله عز وجل " خلق الإنسان من صلصال كالفخار " وبقول الله تعالى " فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " وبقوله تعالى " أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى " وبآيات أخر غير هذه وهذه بلا شك صفة للجسد لا صفة للنفس لأن الروح إنما تنفخ بعد تمام خلق الإنسان الذي هو الجسد واحتجت الطائفة الأخرى بقوله تعالى " إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً " وهذا بلا خلاف صفة النفس لا صفة الجسد لأن الجسد موات والفعالة هي النفس وهي المميزة الحية حاملة لهذه الأخلاق وغيرها.
قال أبو محمد: وكلا هذين الاحتجاجين حق وليس أحدهما أولى بالقول من الآخر ولا يجوز أن يعارض أحدهما بالآخر لأن كليهما من عند الله عز وجل وما كان من عند الله فليس بمختلف قال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فإذ كل هذه الآيات حق فقد ثبت أن للإنسان اسم يقع على النفس دون الجسد ويقع أيضاً على الجسد دون النفس ويقع أيضاً على كليهما مجتمعين فنقول في الحي هذا إنسان وهو مشتمل على جسد وروح ونقول للميت هذا إنسان وهو جسد لا نفس فيه ونقول أن الإنسان يعذب قبل يوم القيامة وينعم يعني النفس دون الجسد وأما من قال أنه لا يقع إلا على النفس والجسد معاً فخطأ يبطله الذي ذكرنا من النصوص التي فيها وقوع اسم الإنسان على الجسد دون النفس وعلى النفس دون الجسد وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم وما النفس
قال أبو محمد: اختلف الناس في هذا الباب فذهب هشام بن الحكم إلى أنه ليس في العالم غلا جسم وأن الألوان والحركات أجسام واحتج أيضاً بأن الجسم إذا كان طويلاً عريضاً عميقاً فمن حيث وجدته وجدت اللون فهي فوجب الطول والعرض والعمق للون أيضاً فإذا وجب ذلك للون فاللون أيضاً طويل عريض عميق وكل طويل عريض عميق جسم فاللون جسم وذهب إبراهيم بن سيار النظام إلى مثل هذا سواء سواء غلا الحركات فإنه قال هي خاصة أعراض وذهب ضرار بن عمرو إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض وذهب سائر الناس إلى أن الأجسام هي كل ما كان طويلاً عريضاً عميقاً شاغلاً لمكان وإن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة.
قال أبو محمد: أما الجسم فمتفق على وجوده وأما الأعراض فإثباتها بين واضح بعون الله تعالى وهو أننا لم نجد في العالم غلا قائماً بنفسه حاملاً لغيره أو قائماً بغيره لا بنفسه محمولاً في غيره ووجدنا القائم بنفسه شاغلاً لمكان يملأه وجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكاناً بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ولا وجود قسم زائد على ما ذكرنا فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أن القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكاناً فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل لمكانه جسماً واتفقنا على أن سمينا ما لا يقوم بنفسه عرضاً وهذا بيان برهان مشاهد ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه فبينا نراه أبيض صار أخضر ثم أحمر ثم أصفر كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ فبالضرورة نعلم أن الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجوداً لم يفن وأنهما جميعاً غير الشيء الحامل لهما لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر لعدم بعدمه فدل بقاؤه بعده على أنه غيره ولا بد إذ من المحال الممتنع أن يكون الشيء معدوماً موجوداً في حالة واحدة في مكان واحد في زمان واحد وأيضاً فإن الأعراض هي الأفعال من الأكل والشرب والنوم والجماع والمشي والضرب وغير ذلك فمن أنكر الأعراض فقد أثبت الفاعلين وأبطل الأفعال ونفى الفاعلين وكل الطائفتين مبطلة لما يشاهد بالحواس ويدرك بالعقل سوفسطائيون حقاً لأن من الأعراض ما يدرك بالبصر وهو اللون إذا ما لا لون له لا يدرك بالشم كالنتن والطيب ومنها ما يدرك بالذوق كالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة ومنها ما يدرك باللمس كالحر والبرد ومنها ما يدرك السمع كحسن الصوت وقبحه وجهارته وجفوته ومنها ما يدرك بالعقل كالحركة والحمق والعقل والعدل والجوار والعلم والجهل فظهر فساد قول مبطلي الأعراض الأعراض يقيناً والحمد لله رب العالمين فإذ قد صح كل ما ذكرنا فإنما الأسماء عبارات وتمييز للمسميات ليتوصل بها المخاطبون إلى تفاهم مراداتهم من الوقوف على المعاني وفصل بعضها من بعض ليس للأسماء فائدة غير هذه فوجب ضرورة أن يوقع على القائم بنفسه الشاغل لمكانه الحامل لغيره أسماء تكون عبارة عنه وأن يوقع أيضاً على القائم بغيره لا بنفسه المحمول الذي لا يشغل مكاناً اسماً آخر يكون أيضاً عبارة عنه لينفصل بهذين الاسمين كل واحد من ذينك المسميين عن الآخر وإن لم يكن هذا وقع التخليط وعدم البيان واصطلحنا على أن سمينا القائم بنفسه الشاغل للمكان جسماً واتفقنا على أن سمينا القائم بغيره لا بنفسه عرضاً لأنه عرض في الجسم وحدث فيه هذا هو الحق المشاهد بالحس المعروف بالعقل وما عدا هذا فهذيان وتخليط لا يعقله قائله فكيف غيره فصح بهذا كله وجود الأعراض وبطلان قول من أنكرها وصح أيضاً بما ذكرنا أن حد اللون والحركة وكل ما لا يقوم بنفسه هو غير حد القائم بنفسه فإذ ذلك كذلك فلا جسم إلا القائم بنفسه وكل ما عداه فعرض فلاح بهذا صحة قول من قال بذلك وبطل قول هشام والنظام وبالله تعالى التوفيق.
وأما احتجاج هشام بوجود الطول والعرض والعمق الذي توهمها في اللون فإنما هو طول الجسم الملون وعرضه وعمقه فقط وليس للون طول ولا عرض ولا عمق وكذلك الطعم والمجسة والرائحة وبرهان ذلك أنه لو كان للجسم طول وعرض وعمق وكان للون طول غير طول الملون الحامل له وعرض آخر غير عرض الحامل له وعمق آخر غير عمق الملون الحامل له لاحتاج كل واحد منهما ذراع وعرضه ذراع وعمقه ذراع ثم يسعان جميعاً في واحد ليس هو إلا ذراع في ذراع فقط ويلزمه مثل هذا في الطعم والرائحة والمجسة لأن كل هذه الصفات توجد من كل جهة من جهات الجسم الذي هي فيه كما يوجد اللون ولا فرق وقد يذهب الطعم حتى يكون الشيء لا طعم له الرائحة والطعم والمجسة لا للون ولا للطعم مكان ولا للرائحة ولا للمجسة وقد نجد جسماً طويلاً عريضاً عميقاً لا لون له وهو الهواء ساكنه ومتحركه وبالضرورة ندري أنه لو كان له لون لم يزد ذلك في مساحته شيئاً.
قال أبو محمد: فإن بلغ الجهل بصاحبه إلى أن يقول ليس الهواء جسماً سألناه عما في داخل الزق المنفوخ ما هو وعما يلقي الذي يجرى فرساً جواداً بوجهه وجسمه فإنه لا شك في أنه جسم قوي متكثر محسوس وبرهان آخر وهو أن كل أحد يدري أن الطول والعرض والعمق لو كان لكل واحد منهما طول وعرض وعمق لاحتاج كل واحد منهما أيضاً إلى طول آخر وعرض آخر وعمق آخر وهكذا مسلسلاً إلى ما لا نهاية له وهذا باطل فبطل قول إبراهيم وهشام وبالله تعالى التوفيق وأما قول ضرار أن الأجسام مركبة من الأعراض فقول فاسد جداً لأن الأعراض قد صح كما ذكرنا أنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا تقوم بنفسها وصح أن الأجسام ذات أطوال وعروض وأعماق وقائمة بأنفسها ومن المحال أن يجتمع ما لا طول له ولا عرض ولا عمق مع مثله فيتقوم منها ما له طول وعرض وعمق وإنما غلط فياه من توهم أن الأجسام مركبة من السطوح وأن السطوح مركبة من الخطوط والخطوط مركبة من النقط.
قال أبو محمد: وهذا خطأ على كل حال لأن السطوح المطلقة فإنما هي تناهي الجسم وانقطاعه في تماديه من أوسع جهاته وعدم امتداده فقط وأما الخطوط المطلقة فإنما هي تناهي جهة السطح وانقطاع تماديها وأما النقط فهي تناهي جهات الجسم من أحد نهاياته كطرف السكين ونحوه فكل هذه الأبعاد إنما هي عدم التمادي ومن المحال أن يجتمع عدم فيقوم منه موجود وإنما السطوح المجسمة والخطوط المجسمة والنقط المجسمة فإنما هي أبعاض الجسم وأجزاؤه ولا تكون الأجزاء أجزاء إلا بعد القسمة فقط على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل وحد هذا الجوهر عند من أثبته أنه واحد بالذات قابل للمتضادات قائم بنفسه يحمل من كل عرض عرضاً واحداً فقط كاللون والطعم والرائحة والمجسة.
قال أبو محمد: وكلا هذين القولين والقول الذي اجتمعا عليه في غاية الفساد والبطلان أو لا أنها كلها دعاوي مجردة لا يقوم على صحة شيء منها دليل أصلاً لا برهاني ولا إقناعي بل البرهان العقلي والحسي يشهدان ببطلان كل ذلك وليس يعجز أحد أن يدعى ما شاء وما كان هكذا فهو باطل محض وبالله تعالى نتأيد وأما نحن فنقول أنه ليس في الوجود إلا الخالق وخلقه وأنه ليس الخلق إلا جوهراً حاملاً لأعراضه وأعراضاً محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعدي أحدهما عن الآخر فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ونجمع إن شاء الله تعالى كل شيء أوقعت عليه هتان الطائفتان اسم جوهر لا جسم ولا عرض ونبين إن شاء الله تعالى فساد كل ذلك بالبراهين الضرورية كما فعلنا في سائر كلامنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: حققنا ما أوقع عليه بعض الأوائل ومن قلدهم اسم جوه وقالوا أنه ليس جسماً ولا عرضاً فوجدناهم يذكرون الباري تعالى والنفس والهيولى والعقل والصورة وعبر بعضهم عن الهيولى بالطينة وبعضهم بالخميرة والمعنى في كل ذلك واحد إلا أن بعضهم قال المراد بذلك الجسم متعرياً من جميع أعراضه وأبعاده وبعضهم قال المراد بذلك الشيء الذي منه كون هذا العالم ومنه تكون على حسب اختلافهم في الخالق أو في إنكاره وزاد بعضهم في الجوهر الخلا والمدة اللذين لم يزالا عندهم يعنى بالخلا المكان المطلق لا المكان المعهود ويعني بالمدة الزمان المطلق لا الزمان المعهود.
قال أبو محمد: وهذه أقوال شيء منها لمن ينتمي إلى الإسلام وإنما هي للمجوس والصابئين والدهرية والنصاري في تسميتهم الباري تعالى جوهراً فإنهم سموه في أمانتهم التي لا يصح عندهم دين لملكي ولا لنسطوري ولا ليعقوبي ولا لهاروني إلا باعتقادها وإلا فهو كافر بالنصرانية قطعاً حاشا تسميته الاباري تعالى جوهراً فإنه للمجسمة أيضاً وحاشا القول بأن النفس جوهر لا جسم فإنه قد قال به العطار أحد رؤساء المعتزلة وأما المنتمون إلى الإسلام فإن الجوهر الذي ليس جسماً ولا عرضاً ليس هو عندهم شيئاً إلى الأجزاء الصغار التي لا تتجزأ إليها تنحل الأجسام بزعمهم وقد ذكر هذا عن بعض الأوائل أيضاً فهذه ثمانية أشياء كما ذكرنا لا نعلم أحداً سمي جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً وغيرها إلا أن قوماً جهالاً يظنون في القوي الذاتي أنها جواهر وهذا جهل منهم لأنها بلا خلاف محمولة فيما هي غير قائمة بنفسها وهذه صفة العرض لا صفة الجوهر بلا خلاف.
قال أبو محمد: فأما الخلا والمدة فقد تقدم إفسادنا لهذا القول في صدر ديواننا بالبراهين الضرورية وفي كتابنا الموسوم بالتحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحخمد بن زكريا الطيب وحللنا كل دعوى أوردها هو وغيره في هذا المعنى بأبين شرح والحمد لله رب العالمين كثيراً وأثبتنا في صدر كتابنا هذا وهنالك أنه ليس في العالم خلا البتة وأنه كله كرة مصمتة لا تخلل فيها وأنه وليس وراءها خلاء لا ملاء ولا شيء البتة وأن المدة ليست للأمد أحدث الله الفلك بما فيه من الأجسام الساكنة والمتحركة وأعراضها وبينا في كتاب التقريب لحدود الكلام أن الآلة المسماة الزرافة وسارقة الماء والآلة التي تدخل في إحليل من به أسر البول براهين ضرورية بتحقيق أن لا خلاء في العالم أصلاً وأن الخلاء عند القائلين به إنما هو مكان لا تمكن فيه وهذا محال بما ذكرنا لأنه لو خرج الماء من الثقب الذي في أسفل سارقة الماء وقد شد أعلاها لبقي مكانه خالياً بلا متمكن فيه فإذا لم يمكن ذلك أصلاً ولا كان فيه بنية العالم وجوده وقف الماء باقياً لا ينهرق حتى إذا فتح أعلاها ووجد الهواء مدخلاً خرج الماء وانهرق لوقته وخلفه الهواء وكذلك الزرافة والآلة المتخذة لمن به أسر البول فإنه إذا حصلت تلك في داخل الإحليل وأول المثانة ثم جبذ الزر المغلق ليقها إلى خارج اتبعه البول ضرورة وخرج إذ لم يخرج لبقي ثقب الآلة خالياً لا شيء فيه وهذا باطل ممتنع وقد بينا في صدر كتابنا كما اعترض به الملحدون المخالفون لنا في هذا المكان فأغني عن إعادته فإن قال قائل فالماء الذي اخترعه له والثريد الذي اخترع له من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملأ لا خلا فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد قلنا وبالله تعالى التوفيق لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون الله عز وجل أحال أجزاء من الهوى ماء وتمراً وثريداً فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير فسقط قولهم في الخلا والمدة والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانت قال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها عرض بلا شك وبالله تعالى التوفيق وأما العقل فلا خلاف بين أحد له عقل سليم في أنه عرض محمول في النفس وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والأضعف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضد لها وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط وقد اعترض في هذا بعض من يدعي له علم الفلسفة فقال ليس في العقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه فقلت للذي ذكر لي هذا البحث أن هذه سفسطة وجهل لو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ولا لشيء من الكيفيات ضد ولكن لوجودها ضد وهو عدمها فيبطل التضاد من جميع الكيفيات وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها وهذا أيضاً قول كل من له أدنى فهم من الأوايل والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما يحسن به المغبة في دار البقاء وعالم الجراء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا وبهذا أيضاً جاءت الرسل عليهم السلام قال الله عز وجل " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " وقال تعالى " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " وقال تعالى " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا " وقال تعالى " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " وقال تعالى " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون " فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات وقال تعالى عن الكفار " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ومثل هذا في القرآن كثير فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط من غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكاً فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن لفظة العقل عربية أتى بها المترجمون عبارة عن لفظة أخرى يعبر عنها في اليونانية أو في غيرها من اللغات عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية هذا ما لا خفاء به عند أحد ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبرة بها عن عرض وكان مدعى خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهتاً بلا شك ولقد قال بعض النوكي الجهال لو كان العقل عرضاً لكانت الأجسام أشرف منه فقلت للذي أتاني بهذا وهل للجوهر شرف إلا بأعراضه وهل شرف جوهر قط إلا بصفاته لا بذاته هل يخفى هذا على أحد ثم قلنا ويلزمهم هذا نفسه على قولهم السخيف في العلم والفضائل أن لا يخالفوننا في أنها أعراض فعلي مقدمتهم السخيفة يجب أن تكون الأجسام كلها اشرف منها وهذا كما ترى وأما الهيولى فهو الجسم نفسه الحامل لأعراضه كلها وإنما أفردته الأوائل بهذا الاسم إذ تكلموا عليه مفرداً في الكلام عليه عن سائر أعراضه كلها من الصورة وغيرها مفصولاً في الكلام عليه خاصة عن أعراضه وإن كان لا سبيل إلى أن يوجد خلياً عن أعراضه ولا متعرياً منها أصلاً ولا يتوهم وجوده كذلك ولا يتشكل في النفس ولا يتمثل ذلك أصلاً بل هو محال ممتنع جملة كما أن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوع أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد لأن قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا تقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام وبالله تعالى التوفيق لكن الأوائل سمتها وسمت الصفات الأوليات الذاتيات جوهريات لا جواهر وهذا صحيح لأنها منسوبة إلى الجواهر لملازمتها لها وأنها لا تفارقها البتة ولا يتوهم مفارقتها لها وبالله تعالى التوفيق فبطل قولهم في الخلا والمدة والصورة والعقل والهيولى والحمد لله رب العالمين وأما الباري تعالى فقد أخطأ من سماه جوهراً من المجسمة ومن النصارى لأن لفظة الجوهر لفظة عربية ومن أثبت الله عز وجل ففرض عليه إذ أقر أنه خالقه وإلاهه ومالك أمره ألا يقدم عليه في شيء إلا بعهد منه تعالى وإلا يخبر عنه إلا بعلم متيقن ولا علم ههنا إلا ما أخبر به عز وجل فقط فصح يقيناً أن تسمية الله عز وجل جوهراً والأخبار عنه بأنه جوهر حكم عليه تعالى بغير عهد منه وأخبار عنه تعالى بالكذب الذي لم يخبر قط تعالى به عن نفسه ولا سمي به نفسه وهذا إقدام لم يأتنا قط به برهان بإباحته وأيضاً فإن الجوهر حامل لأعراض ولو كان الباري تعالى حاملاً لعرض لكان مركباً من ذاته وأعراضه وهذا باطل وأما النصارى فليس لهم أن يتسوروا على اللغة العربية فيصرفوها عن موضعها فبطل أن يكون تعالى جوهراً لبراءته عن حد الجوهر وبطل أن يسمي جوهراً لأنه تعالى لم يسم نفسه به وبالله تعالى التوفيق فبطل قول من سمي الله تعالى جوهراً وأخبر عنه أنه تعالى جوهر ولله تعالى الحمد فلم يبق إلا النفس والجزء الذي لا يتجزأ ونحن إن شاء الله تعالى نتكلم فيهما كلاماً مبيناً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد: اختلف الناس في النفس فذكر عن أبي بكر عبد الرحمن ابن كيسان الأصم إنكار النفس جملة وقال لا أعرف إلا ما شاهدته بحواسي وقال جالينوس وأبو الهذيل محمد ابن الهذيل العلاف النفس عرض من الأعراض ثم اختلفا فقال جالينوس هي مزاج مجتمع متولد من تركيب أخلاط الجسد وقال أبو الهذيل هي عرض كسائر أعراض الجسم وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل الخارج بالتنفس فهي النفس وقالوا والروح عرض وهو الحياة فهو غير النفس وهذا قول الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية وقالت طائفة النفس جوهر ليست جسماً ولا عرضاً ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا هي في مكان ولا تتجزأ وأنها هي الفعالة المدبرة وهي الإنسان وهو قول بعض الأوائل وبه يقول معمر بن عمر والعطار أحد شيوخ المعتزلة وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالميعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان عاقلة مميزة مصرفة للجسد.
قال أبو محمد: وبهذا نقول والنفس والروح اسمان مترادفان لمسمى واحد ومعناهما واحد.
قال أبو محمد: أما قول أبي بكر ابن كيسان فإنه يبطله النص وبرهان العقل أما النص فبقول الله تعالى " اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ الآية " فصح أن النفس موجودة وأنها غير الجسد وأنها الخارجة عند الموت.
قال أبو محمد: وأما البرهان العقلي فإننا نرى المرء إذا أراد تصفية عقله وتصحيح رأيه أو فك مسألة عويصة عكس ذهنه وأفرد نفسه عن حواسها الجسدية وترك استعمال الجسد جملة وتبرأ منه حتى أنه لا يرى من بحضرته ولا يسمع ما يقال أمامه فحينئذ يكون رأيه وفكره أصفى ما كان فصح أن الفكر والذكر ليسا للجسد المتخلى منه عند إرادتهما وأيضاً فالذي يراه النائم مما يخرج حقاً على وجهه وليس ذلك غلا إذا تخلت النفس عن الجسد فبقي الجسد كجسد الميت ونجده حينئذ يرى في الرؤيا ويسمع ويتكلم ويذكر وقد بطل عمل بصره الجسدي وعمل أذنيه الجسدي وعمل ذوقه الجسدي وكلام لسانه الجسدي فصح يقيناً أن العقل المبصر السامع المتكلم الحساس الذائق هو شيء غير الجسد فصح أنه المسمى نفساً إذ لا شيء غير ذلك وكذلك ما تتخيله نفس الأعمى والغائب عن الشيء مما قد رآه قبل ذلك فيتمثله ويراه في نفسه كما هو فصح يقيناً أن ههنا متمثلاً مدركاً غير الجسد إذ لا أثر للجسد ولا للحواس في شيء مما ذكرنا البتة ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن ههنا مريداً للأشياء غير الجسد ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد ومنها ما يرى من بعض المحصرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحد ما كان ذهناً وأصح ما كان تميزاً وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة وأصحهم نظراً وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعال المميز الحي هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفساً وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد كأنها وقعت في طين مخمر فأنساها شغلها بها كلما سلف لها وأيضاً فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متمادياً وحياته متصلة في حال نومه وموته ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحاً سالماً لم ينتقض منه شيء من أعضائه وقد بطلت أفعاله كلها جملة فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة وإن الفعال الذاكر قد باينه وتبرأ منه وأيضاً فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضواً عضواً بالقطع والفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوي النفس باقية أوفر ما كان فصح ضرورة أن الفعال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان فإنه يبطل أيضاً قول جالينوس وأيضاً فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب والماء والهواء والنار فإنها كلها موات بطبعها ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجتمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي وكذلك محال أن تجتمع بوارد فيقوم منها حار أو حوار فيجتمع منها بارد أو حي وحي وحي فيقوم منها موات فبطل أن تكون النفس مزاجاً وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أنها عرض فقط وقول من قال إنما النفس النسيم الداخل والخارج من الهواء وأن الروح هو عرض وهو الحياة فإن كلى هذين القولين يبطلان بكل ما ذكرنا إبطال قول الأصم بن كيسان وأيضاً فإن أهل هذين القولين ينتمون إلى الإسلام والقرآن يبطل قولهم نصاً قال الله تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فصح ضرورة أن الأنفس غير الأجساد وأن الأنفس هي المتوفاة في النوم والموت ثم ترد عند اليقظة وتمسك عند الموت وليس هذا التوفي للأجساد أصلاً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أن العرض لا يمكن أن يتوفى فيفارق الجسم الحامل له ويبقى كذلك ثم يرد بعضه ويمسك بعضه هذا ما لا يكون ولا يجوز لأن العرض يبطل بمزايلته الحامل له وكذلك لا يمكن أن يظن ذو مسكة من عقل أن الهواء الخارج والداخل هو المتوفي عند النوم وكيف ذلك وهو باق في حال النوم كما كان في حال اليقظة ولا فرق وكذلك قوله تعالى " والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " فإنه لا يمكن أن يعذب العرض ولا الهواء وأيضاً فإن الله عز وجل يقول " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " الآية.
قال أبو محمد: فهذه آية ترفع الأشكال جملة وتبين أن النفس غير الجسد وإنما هي العاقلة المخاطبة المكلفة لأنه لا يشك ذو حس سليم في أن الأجساد حين أخذ الله عليها هذا العهد كانت مبددة في التراب والماء والهواء والنار ونص الآية يقتضي ما قلنا فكيف وفيها نص أن الأشهاد إنما وقع على النفوس وما أدري كيف تنشرح نفس مسلم بخلاف هذه النصوص وكذلك أخبار رسول الله ﷺ أنه رأى عند سماء الدنيا ليلة أسري به عن يمين آدم وعن يساره نسم بنيه فأهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن يساره عليه السلام ومن الباطل أن تكون الأعراض باقية هنالك أو أن يكون النسيم هنالك وهو هواء مترد في الهواء.
قال أبو محمد: ولو كان ما قاله أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقاً لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاثة مائة ألف نفس لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبداً فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفساً كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفاً وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول والحمد لله رب العالمين هذا مع تعريهما من الدليل جملة وأنها دعوى فقط وما كان هكذا فهو باطل وقد صرح الباقلاني عند ذكره لما يعترض في أرواح الشهداء وأرواح آل فرعون فقال هذا يخرج على وجهين بأن يوضع عرض الحياة في أقل جزء من أجزاء الجسم وقال بعض من شاهدناه منهم توضع الحياة في عجب الذنب واحتج بالخبر عن رسول الله ﷺ كل ابن آدم يأكله التراب الأعجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة وفي رواية منه خلق وفيه يركب.
قال أبو محمد: وهذا تمويه من المحتج بهذا الخبر لأنه ليس في الحديث لا نص ولا دليل ولا إشارة يمكن أن يتأول على أن عجب الذنب يحيا وإنما في الحديث أن عجب الذنب لا يأكله التراب وأنه من خلق الجسد وفيه يركب فقط فظهر تمويه هذا القائل وضعفه والحمد لله رب العالمين قال الباقلاني وأما أن يخلق لتلك الحياة جسد آخر فلا.
قال أبو محمد: وهذا مذهب أصحاب التناسخ بلا مؤونة واحتج لذلك بالحديث المأثور أن نسمة المؤمن طير يعلف من ثمار الجنة ويأوي إلى قناديل تحت العرش وفي بعضها أنها في حواصل طير خضر.
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا الخبر لأن معنى قوله عليه السلام طائر يعلف هو على ظاهره لا على ظن أهل الجهل وإنما أخبر عليه السلام أن نسمة المؤمن طائر بمعنى أنها تطير في الجنة فقط لا أنها تنسخ في صور طير فإن قيل أن النسمة مؤنثة قلنا قد صح عن عربي فصيح أنه قال أتتك كتابي فاستخففت بها فقيل له أتؤنث الكتاب فقال أوليس صحيفة وكذلك النسمة روح فتذكر لذلك وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها والحديثان معاً حديث واحد وخبر واحد.
قال أبو محمد: ولم يحصل من هذين الوجهين الفاسدين إلا على دعوى كاذبة بلا دليل يشبه الهزل أو على كفر مجرد في المصير إلى قول أصحاب التناسخ وعلى تحريف الحديث عن وجهه ونعوذ بالله من الخذلان فبطل هذان القولان والحمد لله رب العالمين وأما قول من قال أن النفس جوهر لا جسم من الأوائل ومعمر وأصحابه فإنهم موهوا بأشياء إقناعيات فوجب إيرادها ونقضها ليظهر البرهان على وجه الإنصاف للخصم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: قالوا لو كان النفس جسماً لكان بين تحريك المحرك رجله وبين إرادته تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله إذ النفس هي المحركة للجسد والمريدة لحركته قالوا فلو كان المحرك للرجل جسماً لكان لا يخلوا إما أن يكون حاصلاً في هذه الأعضاء وإما جائياً إليها فإن كان جائياً إليها احتاج إلى مدة ولا بد وإن كان حاصلاً فيها فنحن إذا قطعنا تلك العصبة التي بها تكون الحركة لم يبق منها في العضو الذي كان يتحرك شيء أصلاً فلو كان ذلك المحرك حاصلاً فيه لبقي منه شيء في ذلك العضو.
قال أبو محمد: وهذا لا معنى له لأن النفس لا تخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تكون مجللة لجميع الجسد من خارج كالثوب وإما أن تكون متخللة بجميعه من داخل كالماء في المدرة وإما أن تكون في مكان واحد من الجسد وهو القلب أو الدماغ وتكون قوها منبثة في جميع الجسد فأي هذه الوجوه كان فتحريكها لما يريد تحريكه من الجسد يكون مع إرادتها لذلك بلا زمان كإدراك البصر لما يلاقي في البعد بلا زمان وإذا قطعت العصبة لم ينقطع ما كان من جسم النفس مخللاً لذلك العضو إن كانت متخللة لجميع الجسد من داخل أو مجللة له من خارج بل يفارق العضو الذي يبطل حسه في الوقت وينفصل عنه بلا زمان وتكون مفارقتها لذلك العضو كمفارقة الهواء للإناء الذي ملئ ماء وأما أن كانت النفس ساكنة في موضع واحد من الجسد فلا يلزم على هذا القسم أن يسلب من العضو المقطوع بل يكون فعلها حينئذ في تحريكها الأعضاء كفعل حجر المغنطيس في الحديد وإن لم يلصق به بلا زمان فبطل هذا الإلزام الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن نعلم ببعضها أو قال أبو محمد: وهذا سؤال فاسد تقسيمه والجواب وبالله تعالى التوفيق أنها لا تعلم إلا بكلها أو ببعضها لأن كل بسيط غير مركب من طبائع شتى فهو طبيعة واحدة وما كان طبيعة واحدة فقوته في جميع أبعاضه وفي بعض أبعاضه سواء كالنار تحرق بكلها وببعضها ثم لا ندري ما وجه هذا الاعتراض علينا بهذا السؤال ولا ما وجه استدلالهم منه على أنها غير جسم ولو عكس عليهم في إبطال دعواهم أنها جوهر لا جسم لما كان بينهم وبين السائل لهم بذلك فرق أصلاً وقالوا أن من شأن الجسم أنك إذا زدت عليه جسماً آخر زاد في كميته وثقله قالوا فلو كانت النفس جسماً ثم داخلت الجسم الظاهر لوجب أن يكون الجسد حينئذ أثقل منه دون النفس ونحن نجد الجسد إذا فارقته النفس أثقل منه إذا كانت النفس فيه.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد ومقدمة باطلة كاذبة لأنه ليس كل جسم كما ذكروا من أنه إذا أزيد عليه جسم آخر كان أثقل منه وحده وإنما يعرض هذا في الأجسام التي تطلب المركز والوسط فقط يعني التي في طبعها أن تتحرك سفلاً وترسب من المائيات والأرضيات وأما التي تتحرك بطبعها علواً فلا يعرض ذلك فيها بل الأمر بالضد وإذا أضيف جسم منها إلى جسم ثقيل خففه فإنك ترى أنك لو نفخ زقا من جلد ثور أو جلد بعير لو أمكن حتى يمتلئ هو آثم وزنته فإنك لا تجد على وزنه زيادة على مقدار وزنه لو كان فارغاً أصلاً وكذلك ما صمد من الزقاق ولو أنه ورقة سوسنة منفوخة ونحن نجسد الجسم العظيم الذي إذا أضفته إلى الجسم الثقيل خففه جداً فإنك لو رميت الزق غير المنفوخ في الماء الرسب فإذا نفخته ورميت به خف وعام ولم يرسب وكذلك يستعمله العائمون لأنه يرفعهم عن الماء ويمنعهم من الرسوب وهكذا النفس مع الجسد وهو باب واحد كلى لأن النفس جسم علوي فلكي أخف من الهواء وأطلب للعلو فهي تخفف الجسد إذا كانت فيه فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً لو كانت النفس جسماً لكانت ذات خاصية إما خفيفة وإما ثقيلة وإما حارة وإما باردة وإما لينة وإما خشنة.
قال أبو محمد: نعم هي خفيفة في غاية الخفة ذاكرة عاقلة مميزة حية هذه خواصها وحدودها التي بانت بها عن سائر الأجسام المركبات مع سائر أعراضها المحمولة فيها من الفضائل والرذائل وأما الحر واليبس والبرد والرطوبة واللين والخشونة فإنما هي من أعراض عناصر الأجرام التي دون الفلك خاصة ولكن هذه الأعراض المذكورة مؤثرة في النفس اللذة أو الألم فهي منفعلة لكل ما ذكرنا وهذا يثبت أنها جسم قالوا إنما من كان الأجسام فكيفياته محسوسة وما لم تكن كيفياته محسوسة فليس بجسم وكيفيات النفس إنما هي الفضائل والرذائل وهذان الجنسان من الكيفيات ليسا محسوسين فالنفس ليست جسماً.
قال أبو محمد: وهذا شغب فاسد ومقدمة كاذبة لأن قولهم أن ما لا تحس كيفياته فليس جسماً دعوى كاذبة لا برهان عليها أصلاً لا عقلي ولا حسي وما كان هكذا فهو قول ساقط مطروح لا يعجز عن مثله أحد ولكنا لا نقنع بهذا دون أن نبطل هذه الدعوى ببرهان حسي ضروري بعون الله تعالى وهو أن الفلك جسم وكيفياته غير محسوسة وأما اللون اللازوردي الظاهر فإنما يتولد فيما دونه من امتزاج بعض العناصر ووقع خط البصر عليها وبرهان ذلك تبدل ذلك اللون بحسب العوارض المولدة له فمرة تراه أبيض صافي البياض ومرة ترى فيه حمرة ظاهرة فصح أن قولهم دعوى مجردة كاذبة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الجسم تتفاضل أنواعه في وقوع الحواس عليه فمنه ما يدرك لونه وطعمه وريحه ومنه ما لا يدرك منه إلا المجسة فقط كالهواء ومنها النار في عنصرها لا يقع عليها شيء من الحواس أصلاً بوجه من الوجوه وهي جسم عظيم المساحة محيط بالهواء كله فوجب من هذا أن الجسم كل ما زاد لطافة وصفاء لم تقع عليه الحواس وهذا حكم النفس وما دون النفس فأكثره محسوس للنفس لا حس البتة إلا للنفس ولا حساس إلا هي فهي حساسة لا محسوسة ولم يجب قط لا بعقل ولا بحس أن يكون كل حساس محسوساً فسقط قولهم جملة والحمد لله رب العالمين وقالوا أن كل جسم فإن لا يخلو من أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت بعضها والنفس لا تقع تحت كل الحواس ولا قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة كما ذكرنا آنفاً لأن ما عدم اللون من الأجسام لم يدرك بالبر كالهواء وكالنار في عنصرها وإن ما عدم الرائحة لم يدرك بالشم كالهواء والنار والحصى والزجاج وغير ذلك وما عدم الطعم لم يدرك بالذوق كالهواء والنار والحصا والزجاج وما عدم المجسة لم يدرك باللمس كالهواء الساكن والنفس عادمة اللون والطعم والمجسة والرائحة فلا تدرك بشيء من الحواس بل هي المدركة لكل هذه المدركات وهي الحساسة لكل هذه المحسوسات فهي حساسة لا محسوسة وإنما تعرف بآثارها وبراهين عقلية وسائر الأجسام والأعراض محسوسة لا حساسة ولا بد من حساس لهذه المحسوسات ولا حساس لها غير النفس وهي التي تعلم نفسها وغيرها وهي القابلة لأعراضها التي تتعاقب عليها من الفضائل والزرئل المعلومة بالعقل كقبول سائر الأجرام لما يتعاقب عليها من الأعراض بالعقل والنفس هي المتحركة باختيارها المحركة لسائر الأجسام هي مؤثرة فيها تألم وتلتذ وتفرح وتحزن وتغضب وترضى وتعلم وتجهل وتحب وتكره وتذكر وتنسي وتنتقل وتحل فبطل قول هؤلاء أن كل جسم فلا بد من أن يقع تحت الحواس أو تحت بعضها لأنها دعوى لا دليل عليها وكل دعوى عريت من دليل فهي باطلة وقالوا كل جسم فإنه لا محالة يلزمه الطول والعرض والعمق والسطح والشكل والكم والكيف فإن كانت النفس جسماً فلا بد أن تكون هذه الكيفيات فيها أو يكون بعضها فيها فأي الوجهين كان فهي إذا محاط بها وهي مدركة بالحواس أو من بعضها ولا نرى الحواس تدركها فليست جسماً.
قال أبو محمد: هذا كله صحيح وقضايا صادقة حاشا قضية واحدة ليست فيها وهي قولهم وهي مدركة من الحواس أو من بعضها فهذا هو الباطل المقحم بلا دليل وسائر ذلك صحيح وهذه القضية الفاسدة دعوى كاذبة وقد تقدم أيضاً إفسادنا لها آنفاً مع تعريها عن دليل يصححها ونعم فالنفس جسم طويل عريض عميق ذات سطح وخط وشكل ومساحة وكيفية يحاط بها ذات مكان وزمان لأن هذه خواص الجسم ولا بد والعجب من قلة حياء من أقحم مع هذا فهي إذاً مدركة بالحواس وهذا عين الباطل لأن حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس لا يقع شيء منها لا على الطول ولا على العرض ولا على العمق ولا على السطح ولا على الشكل ولا على المساحة ولا على الكيفية ولا على الخط وإنما تقع حاسة البصر على اللون فقط فإن كان في شيء مما ذكرنا لون وقعت عليه حاسة البصر وعلمت ذلك الملون بتوسط اللون وإلا فلا وإنما تقع حاسة السمع على الصوت فإن حدث في شيء مما ذكرنا صوت وقعت عليه حاسة السمع حينئذ وعلمت ذلك المصوت بتوسطه وإلا فلا وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسة الشم وعلمت حامل الرائحة بتوسط الرائحة وإلا فلا وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا وإن كل في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليه حاسة اللمس حينئذ وعلمت الملموس بتوسط المجسة وإلا فلا وقالوا أن من خاصة الجسم أن يقبل التجزي وإذا جزئ منه الجزء الصغير والكبير ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير فلا يخلوا حينئذ من أحد أمرين إما أن يكون كل جزء منها نفساً فيلزم من ذلك أن لا تكون النفس نفساً واحدة بل تكون حينئذ أنفساً كثيرة مركبة من أنفس وإما أن لا يكون كل جزء منها نفساً فيلزم أن لا تكون كلها نفساً.
قال أبو محمد: أما قولهم أن خاصة الجسم احتمال التجزي فهو صدق والنفس محتملة للتجزي لأنها جسم من الأجسام وأما قولهم أن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم وأما في غير ذلك فلا وأما قولهم أنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفساً وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزي بالقوة وإن كان التجزي بانقسامها غير موجود بالفعل وهكذا القول في الفلك والكواكب كل ذلك محتمل للتجزي بالقوة وليس التجزي موجوداً في شيء منها بالفعل وأما قولهم أنها مركبة من أنفس فشغب فاسد لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسميات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره وإلا فقد وقع الأشكال وبطل التفاهم وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق ووجدنا العالم ينقسم قسمين أحدهما مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركباً والثاني مؤلف من طبيعة واحدة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطاً ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالإنسان الجزئي فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنساناً فإذا تألف سمي المتألف منها إنساناً ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كله كالأرض والماء والهواء وكالنار وكالفلك فهو فلك وكل جزء من النفس نفس وليس ذلك موجباً أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء مؤلفاً من أهوية ولا أن يكون الفلك مؤلفاً من أفلاك ولا أن تكون النفس مؤلفة من أنفس وحتى لو قيل ذلك بمعنى أن كل بعض منها يسمى نفساً وكل بعض من الفلك يسمى فلكاً فما كان في ذلك ما يعترض به على أنها جسم كسائر الأجسام التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضاً طبع ذات الجسم أن يكون غير متحرك والنفس متحركة فإن كانت هذه الحركة التي فيها من قبل الباري تعالى فقد وجدنا لها حركات فاسدة فكيف يضاف ذلك إلى الباري تعالى.
قال أبو محمد: وهذا الكلام في غاية الفساد والهجنة ولقد كان ينبغي لمن ينتسب إلى العلم إن كان يدري مقدار سقوط هذه الاعتراضات وسخفها أن يصون نفسه عن الاعتراض بها لرذالتها وإن كان لا يدري رذالتها فكان الأولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم فأما قوله أن طبع ذات الجسم أن تكون غير متحركة فقول ظاهر الكذب والمجاهرة لأن للأفلاك والكواكب أجساماً وطبعها الحركة الدايمة المتصلة أبداً إلى أن يحيلها خالقها عن ذلك يوم القيامة وأن للعناصر دون الفلك أجساماً وطبعها الحركة إلى مقرها والسكون في مقرها وأما النفس فلأنها حية كان طبعها السكون الاختياري والحركة الاختيارية حيناً وحيناً هذا كله لا يجهله أحد به ذوق وأما قولهم أن لها حركات ردية فكيف تضاف إلى الباري تعالى فإنما كان بعض حركات النفس ردياً بمخالفة النفس أمر باريها في تلك الحركات وإنما أضيفت إلى الباري تعالى لأنه خلقها فقط على قولنا أو لأنه تعالى خلق تلك القوى التي بها كانت تلك الحركات فسقط إلزامهم الفاسد والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير واحتمال الإنقسام أبداً بلا غاية ليس شيء منها إلا هكذا أبداً فهي محتاجة إلى من يربطها ويشدها ويحفظها ويكون به تماسكها قالوا والفاعل لذلك النفس فلو كانت النفس جسماً لكانت محتاجة إلى من يربطها ويحلها فيلزم من ذلك أن تحتاج إلى نفس أخرى والأخرى إلى أخرى والأخرى كذلك إلى ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل.
قال أبو محمد: هذا أفسد من كل قول سبق من تشغيباتهم لأن مقدمته مغشوشة فاسدة كاذبة أما قولهم أن الأجسام في طبعها الاستحالة والتغير على الإطلاق كذب لأن الفلك جسم لا يقبل الاستحالة وإنما تجب الاستحالة والتغيير في الأجسام المركبة من طبائع شتى بخلعها كيفياتها ولباسها كيفيات أخرى وبانحلالها إلى عناصرها هكذا مدة ما أيضاً ثم تبقى غير منحلة ولا مستحيلة وأما النفس فإنها تقبل الاستحالة والتغيير في أعراضها فيتغير ويستحيل من علم إلى جهل ومن جهل إلى علم ومن حرص إلى قناعة ومن بخل إلى جود ومن رحمة إلى قسوة ومن لذة إلى ألم هذا كله موجود محسوس وأما أن تستحيل في ذاتها فتصير ليست نفساً فلا وهذا الكوكب هو جسم ولا يصير غير كوكب والفلك لا يصير غير فلك وأما قوله أن الأجسام محتاجة إلى ما يشدها ويربطها ويمسكها فصحيح وأما قوله أن النفس هي الفاعلة لذلك فكذب ودعوى بلا دليل عليها إقناعي ولا برهاني بل هو تمويه مدلس ليجوز باطله على أهل الغفلة وهكذا قول الدهرية وليس كذلك بل النفس من جملة الأجسام المحتاجة إلى ما يمسكها ويشدها ويقيمها وحاجتها إلى ذلك كحاجة سائر الأجسام التي في العالم ولا فرق والفاعل لكل ذلك في النفس وفي سائر الأجسام والممسك لها والحافظ لجميعها والمحيل لما استحال منها فهو المبدى للنفس ولكل ما في العالم من جسم أو عرض والمتمم لكل ذلك هو الخالق الباري المصور عز وجل فبعض أمسكها بطبائعها التي خلقها فيها وصرفها فضبطها لما هي فيه وبعض أمسكها برباطات ظاهرة كالعصب والعروق والجلود لا فاعل لشيء من ذلك دون الله تعالى وقد قدمنا البراهين على كل ذلك في صدر كتابنا هذا فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين وقالوا أيضاً كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فإن كانت النفس جسماً فهي متنفسة أي ذات نفس وإما لا متنفسة أي لا ذات نفس فإن كانت لا متنفسة فهذا خطأ لأنه يجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً وإن كان متنفسة أي ذات نفس فهي محتاجة إلى نفس وتلك النفس إلى أخرى والأخرى إلى أخرى وهذا يوجب ما لا نهاية له وما لا نهاية له باطل.
قال أبو محمد: هذه مقدمة صحيحة ركبوا عليها نتيجة فاسدة ليست منتجة على تلك المقدمة وأما قولهم أن كل جسم فهو إما ذو نفس وإما لا ذو نفس فصحيح وأما قولهم أن النفس إن كانت غير متنفسة وجب من ذلك أن تكون النفس لا نفساً فشغب فاسد بارد لا يلزم لأن معنى القول بأن الجسم ذو نفس إنما هو أن بعض الأجسام أضيفت غليه نفس حية حساسة متحركة بإرادة مدبرة لذلك الجسم الذي استضافت إليه ومعنى القول بأن هذا الجسم غير ذي نفس إنما هو أنه لم يستضف إليه نفس فالنفس الحية هي المتحركة المدبرة وهي غير محتاجة إلى جسم مدبر لها ولا محرك لها فلم يجب أن يحتاج إلى نفس ولا أن تكون ليست نفساً ولا فرق بينهم في قولهم هذا وبين من قال أن الجسم يحتاج إلى جسم كما قالوا أنه يجب أن تحتاج النفس إلى نفس أو قال يجب أن يكون الجسم لا جسماً كما قالوا يجب أن تكون النفس لا نفساً وهذا كله هوس وجهل والحمد لله رب العالمين وقالوا لو كانت النفس جسماً لكان الجسم نفساً.
قال أبو محمد: وهذا من الجهل المفرط المظلم ولو كان لقائل هذا الجنون أقل علم بحدود الكلام لم يأت بهذه الغثاثة لأن الموجبة الكلية لا تنعكس البتة انعكاساً مطرداً إلى موجبة جزئية لا كلية وكلامهم هذا بمنزلة من قال لما كان الإنسان جسماً وجب أن يكون الجسم إنساناً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون الجسم كلباً وهذا غاية الحمق والقحة لكن صواب القول في هذا أن يقول لما كانت النفس جسماً كان بعض الأجسام نفساً ولما كان الكلب جسماً وجب أن يكون بعض الأجسام كلباً وهذا هو العكس الصحيح المطرد اطراداً صحيحاً أبداً وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فهي بعض الأجسام وإذا كانت كذلك فكلية الأجسام أعظم مساحة منها فيجب أن تكون أشرف منها.
قال أبو محمد: من عدم الحياء والعقل لم يبال بما نطق به لسانه وهذه قضية في غاية الحمق لأنها توجب أن الشرف إنما هو بعظم الأجسام وكثرة المساحة ولو كان كذلك لكانت القضية والبلية وكان الحمار والبغل وكدس العذرة أشرف من الإنسان المنباء والفيلسوف لأن كل ذلك أعظم مساحة منه ولكانت الغرلة أشرف من ناظر العين والآلية أشرف من القلب والكبد والدماغ والصخر أشرف من اللؤلؤة وأف لكل علم أدى إلى مثل هذا نعم فإن كثيراً من الأجسام أعظم مساحة من النفس وليس ذلك موجباً أنها اشرف منها مع أن النفس الرذلة المضربة عما أوجبه التمييز وعن طاعة ربها إلى الكفر به فكل شيء في العالم أشرف منها ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا إن كانت النفس جسماً آخر مع الجسم فالجسم نفس وشيء آخر وإذا كان كذلك فالجسم أتم وإذا كان أتم فهو أشرف.
قال أبو محمد: وهذا جنون مردد لأنه ليس بكثرة العدد يجب الفضل والشرف ولا بعموم اللفظ يجب الشرف بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ولو كان ما قال وه لوجب أن تكون الأخلاق جملة شرف من الفضائل خاصة لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حملهم السخيف أشرف وهذا ما لا يقوله ذو عقل وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس لأنه نفس وشيء آخر وقد قالوا أن الحي يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامى أشرف من الحي لأنه حي وشيء آخر وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس وقالوا أيضاً كل جسم يتغذى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم.
قال أبو محمد: إن كان هؤلاء السخفاء إذ اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر لأن سكر الخمر سريع الإفاقة سكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وإن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط وهي أجساد الحيوان السكان في الماء والأرض والشجر والنبات فقط فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسماً فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كل ذلك جسماً وكفى بهذا جنوناً وخطأ ونحمد الله على السلامة وقالوا لو كانت النفس جسماً لكانت لها حركة لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسماً.
قال أبو محمد: هذه دعوى كاذبة وقد تناقضوا أيضاً فيها لأنها قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم أن الأجسام غير متحركة والنفس متحركة وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقولهم وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة وليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ويلزمهم إذ أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضاً لا يرونها ولا يسمونها ولا يلمسونها ولا يذوقونها وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقيناً وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك وإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح لا تلك الوساوس والأهذار ونحمد الله على نعمه عز وجل وقالوا لو كانت النفس جسماً لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة.
قال أبو محمد: فبعد هذا ماذا ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل وقالوا أيضاً إن كانت النفس جسماً فكيف يعرف الجسم بمماسة أو بغير مماسة.
قال أبو محمد: لأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئاً وإنما العلم والحس للنفس فقط فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خلقها أيضاً بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عز وجل وسؤالهم بارد وقالوا أيضاً أن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف وليست الأنفس كذلك لأننا نرى أنفس المعمرين اكثر ضياء وأنفذ فعلاً ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث فلو كانت النفس جسماً لنقص فعلها بنقصان البدن فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسماً.
قال أبو محمد: هذه مقدمة فاسدة الترتيب أما قولهم أن الجسم أجود ما يكون إذ انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبولية فقط كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ولا نماء له وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك والنفس كذلك منتقلة من عالم الابتداء إلى عالم الانتهاء إلى عالم البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء فتخلد فيه أبداً بلا نهاية وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفي نظراً وأصح علماً كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين.
قال أبو محمد: هذا ما موهوا به من كل نطيحة ومتردية قد تقصيناه لهم وبينا أن كله فساد وحماقات وتقصيناه بالبراهين الضرورية والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإذا بطل كل ما شغب به من يقول أن النفس ليست جسماً وسقط هذا القول لتعريه عن الأدلة جملة فنحن إن شاء الله تعالى نوضح بعون الله عز وجل وقوته البراهين الضرورية على أنها جسم وبالله تعالى نتأيد وذلك بعد أن نبين بتأييد الله عز وجل شغبين يمكن أن يعترض بهما إن قال قائل أتنمو النفس فإن قلتم لا قلنا نحن نجدها تنشأ من صغر إلى كبر وترتبط بالجسد بالغذاء وإذا انقطع الغذاء انحلت عن الجسد ونجدها تسوء أخلاقها ويقل صبرها بعدم الغذاء فإذا تغذت اعتدلت أخلاقها وصلحت.
قال أبو محمد: لا تتغذى ولا تنمو أما عدم غذائها فالبرهان القائم أنها ليست مركبة من الطبائع الأربع وأنها بخلاف الجسد هذا هو البرهان على أنها لا تتغذى وهو أن ما تركب من العناصر الأربعة فلا بد له من الغذاء ليستخلف ذلك الجسد أو تلك الشجرة أو ذلك النبات من رطوبات ذلك الغذاء أو أرضياته مثل ما تحلل من رطوباته بالهواء والحر وليست هذه صفة النفس إذ لو كانت لها هذه الصفة لكانت من الجسد أو مثله ولو كانت من الجسد أو مثله لكانت مواتاً كالجسد غير حساسة فإذ قد بطل أن تكون مركبة من طبائع العناصر بطل أن تكون متغذية نامية وأما ارتباطها بالجسد من أجل الغذاء فهو أمر لا يعرف كيفيته إلا خالقها عز وجل الذي هو مدبرها إلا أنه معلوم أنه كذلك فقط وهو كطحن المعدة للغذاء لا يدري كيف هو وغير ذلك مما يوجد الله عز وجل يعلمه ومن البرهان على أن النفس لا تتغذى ولا تنمو إن البرهان قد قام على أنها كانت قبل تركيب الجسد على آباد الدهور وأنها باقية بعد انحلاله وليس هنالك في ذينك العالمين غذاء يولد نماءً أصلاً وأما ما ظنوه من نشأتها من صغر إلى كبر فخطأ وإنما هو عودة من النفس إلى ذكرها الذي سقط عنها بأول ارتباطها بالجسد فإن سأل سائل أتمون النفس قلنا نعم لأن الله تعالى نص على ذلك فقال " كل نفس ذائقة الموت " وهذا الموت إنما هو فراقها للجسد فقط برهان ذلك قول الله تعالى " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " وقوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " فصح أن الحياة المذكورة إنما هي ضم الجسد إلى النفس وهو نفخ الروح فيه وأن الموت المذكور إنما هو التفريق بين الجسد والنفس فقط وليس موت النفس مما يظنه أهل الجهل وأهل الإلحاد من إنها تعدم جملة بل هي موجودة قائمة كما كانت قبل الموت وقبل الحياة الأولى ولا أنها يذهب حسها وعلمها بل حسها بعد الموت أصح ما كان وعلمها أتم ما كان وحياتها التي هي الحس والحركة الإرادية باقية بحسبها أكمل ما كانت قط قال عز وجل " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " وهي راجعة إلى البرزخ حيث رآها رسول الله ﷺ ليلة أسرى به عن الميمنة من آدم عليه السلام ومشئمته إلى أن تحيا ثانية بالجمع بينها وبين جسدها يوم القيامة وأما أنفس الجن وسائر الحيوان فحيث شاء الله تعالى ولا علم لنا إلا ما علمنا ولا يحل لأحد أن يقول بغير علم وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: فلنذكر الآن البراهين الضرورية على أن النفس جسم من الأجسام فمن الدليل على أن النفس جسم من الأجسام انقسامها على الأشخاص فنفس زيد غير نفس عمرو فلو كانت النفس واحدة لا تنقسم على ما يزعم الجاهلون القائلون أنها جوهر لا جسم لوجب ضرورة أن تكون نفس المحب هي نفس المبغض وهي نفس المحبوب وأن تكون نفس الفاسق الجاهل هي نفس الفاضل الحكيم العالم ولكانت نفس الخائف هي نفس المخوف منه ونفس القاتل هي نفس المقتول وهذا حمق لا خفاء به فصح أنها نفوس كثيرة متغايرة الأماكن مختلفة الصفات حاملة لأعراضها فصح أنها جسم بيقين لا شك فيه وبرهان آخر هو أن العلم لا خلاف في أنه من صفات النفس وخواصها لا مدخل للجسد فيه أصلاً ولا حظ فلو كانت النفس جوهراً واحداً لا تتجزئ نفوساً لوجب ضرورة أن يكون علم كل أحد مستوياً لا تفاضل فيه لأن النفس على قولهم واحدة وهي العالمة فكان يجب أن يكون كلما علمه زيد يعلمه عمرو لأنه نفسهما واحدة ندهم غير منقسمة ولا متجزئة فكان يلزم ولا بد أن يعلم جميع أهل الأرض ما يعلمه كل عالم في الدنيا لأن نفسهم واحدة لا تنقسم وهي العالمة وهذا ما لا انفكاك منه البتة فقد صح بما ذكرنا ضرورة أن نفس كل أحد غير نفس غيره وأن أنفس الناس أشخاص متغايرة تحت نوع نفس الإنسان وإن نفس الإنسان الكلية نوع تحت جنس النفس الكلية التي يقع تحتها نفس جميع الحيوان وإذ هي أشخاص متغايرة ذات أمكنة متغايرة حاملة لصفات متغايرة فهي أجسام ولا يمكن غير ذلك البتة وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن العالم كله محدود معروف أجسام وأعراض ولا مزيد فمن ادعى أن ههنا جوهراً ليس جسماً ولا عرضاً فقد ادعى ما لا دليل عليه البتة ولا يتشكل في العقل ولا يمكن توهمه وما كان هكذا فهو باطل مقطوع على بطلانه وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن النفس لا تخلوا من أن تكون خارج الفلك أو داخل الفلك فإن كانت خارج الفلك فهذا باطل إذ قام البرهان على تناهي جرم العالم فليس وراء النهاية شيء ولو كان وراءها شيء لم تكن نهاية فوجب ضرورة أنه ليس خارج الفلك الذي هو نهاية العالم شيء لا خلاء ولا ملاء وإن كانت في الفلك فهي ضرورة أما ذات مكان وأما محمولة في ذي مكان لأنه ليس في العالم شيء غير هذين أصلاً ومن ادعى أن في العالم شيئاً ثالثاً فقد ادعى المحال والباطل وما لا دليل له عليه وهذا لا يعجز عنه أحد وما كان هكذا باطل بيقين وقد قام الدليل على أن النفس ليست عرضا لأنها عالمة حساسة والعرض ليس عالماً ولا حساساً وصح أنها حاملة لصفاتها لا محمولة فإذ هي حاملة متمكنة فهي جسم لا شك فيه إذ ليس إلا جسم حامل أو عرض محمول وقد بطل أن تكون عرضاً محمولاً فهي جسم حامل وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فلا تخلو النفس من أن تكون واقعة تحت جنس أولاً فإن كانت لا واقعة تحت جنس فهي خارجة عن المقولات وليس في العالم شيء خارج عنها ولا في الوجود شيء خارج عنها إلا خالقها وحده لا شريك له وهم لا يقولون بهذا بل يوقعونها تحت جنس الجوهر فإذ هي واقعة تحت جنس الجوهر فإنا نسألهم عن الجوهر الجامع للنفس وغيرها إله طبيعة أم لا فإن قالوا لا ندري ما الطبيعة قلنا لهم إله صفة محمولة فيه لا يوجد دونها أم لا فلا بد من نعم وهذا هو معنى الطبيعة وإن قالوا بل له طبيعة وجب ضرورة أن يعطى كل ما تحته طبيعة لأن الأعلى يعطي لكل ما تحته اسمه وحدوده عطاء صحيحاً والنفس تحت الجوهر فالنفس ذات طبيعة بلا شك وإذ صح أن لها طبيعة فكل ما له طبيعة فقد حصرته الطبيعة وما حصرته الطبيعة فهو ذو نهاية محدودة وكل ذي نهاية فهو إما حامل وإما محمول والنفس بلا شك حاملة ولأعراضها من الأضداد كالعلم والجهل والذكاء والبلادة والنجدة والجبن والعدل والجور والقسوة والرحمة وغير ذلك واقعاً تحت جنس فهو نوع من أنواع ذلك الجنس وكل نوع فهو مركب من جنسه الأعلى العام له من أنواعه ومركب أيضاً مع ذلك من فصله الخاص به المميز له من سائر الأنواع الواقعة معه تحت جنس واحد فإنه موضوع وهو جنسه القابل لصورته وصورة غيره وله محمول وهو صورته التي خصته دون غيره فهو ذو موضوع ومحمول فهو مركب والنفس نوع للجوهر فهي مركبة من موضوع ومحمول وهي قائمة بنفسها فهي جسم ولا بد.
قال أبو محمد: وهذه براهين ضرورية حسية عقلية لا محيد عنها وبالله تعالى التوفيق وهذا قول جماعة من الأوائل ولم يقل ارسطاطاليس أن النفس ليست جسماً على ما ظنه أهل الجهل وإنما نفى أن تكون جسماً كدراً وهو الذي لا يليق بكل ذي علم سواه ثم لو صح أنه قال ها لكانت وهلة ودعوى لا برهان عليها وخطأ لا يجب اتباعه عليه وهو يقول في مواضع من كتبه اختلف أفلاطون والحق كلاهما إلينا حبيب غير أن الحق أحب إلينا وإذا جاز أن يختلف أفلاطون والحق فغير نكير ولا بديع أن يختلف ارسطاطاليس والحق وما عصم إنسان من الخطأ فكيف وما صح قط أنه قال ه.
قال أبو محمد: إنما قال أن النفس جوهر لا جسم من ذهب إلى أنه هي الخالقة لما دون الله تعالى على ما ذهب إليه بعض الصائبين ومن كني بها عن الله تعالى.
قال أبو محمد: وكلا القولين سخف وباطل لأن النفس والعقل لفظتان من لغة العرب موضوعتان فيها لمعنيين مختلفين فأحالتهما عن موضوعهما في اللغة سفسطة وجهل وقلة حياء وتلبيس وتدليس.
قال أبو محمد: وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسماً ممن ينتمي إلى الإسلام بزعمه فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة فأما القرآن فإن الله عز وجل قال " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " وقال تعالى " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم " وقال تعالى " كل امرئ بما كسب رهين " فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجزية المخطئة وقال تعالى " إن النفس لأمارة بالسوء " وقال تعالى " ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " وقال تعالى " وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " فصح أن الأنفس منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة فيعذب ومنها ما يرزق وينعم فرحاً ويكون مسروراً قبل يوم القيامة ولا شك أن أجساد آل فرعون وأجساد المقتولين في سبيل الله قد تقطعت أوصالها وأكلتها السباع والطير وحيوان الماء فصح أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان ولا شك في أن العرض لا يلقي العذاب ولا يحس فليست عرضاً وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به فصح ضرورة أنها جسم وأما من السنن فقول رسول الله ﷺ أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة وقوله ﷺ أنه رأي نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره فصح أن الأنفس مرئية في أماكنها وقوله عليه السلام أن نفس المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن وهذه صفة الأجسام ضرورة وأما عن الإجماع فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن نفس العباد منقولة بعد خروجها عن الأجساد إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب وهذه صفة الأجسام ومن خالف هذا فزعم أن الأنفس تعدم أو أنها تنتقل إلى أجسام أخر فهو كافر مشرك حلال الدم والمال بخرقه الإجماع ومخالفته القرآن والسنن ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: وقد ذكرنا في باب عذاب القبر أن الروح والنفس شيء واحد ومعني قول الله تعالى " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " إنما هو لأن الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظماً ثم لحماً ثم أمشاجاً وليس الروح كذلك وإنما قال الله تعالى أمر إله بالكون كن فكان فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد وقد يقع الروح أيضاً على غير هذا فجبريل عليه السلام الروح الأمين والقرآن روح من عند الله وبالله تعالى التوفيق فقد بطل قولهم في النفس وصح أنها جسم ولم يبق إلا الكلام في الجزء الذي قال أبو محمد: ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الأجسام تنحل إلى أجزاء صغار لا يمكن البتة أن يكون لها جزء وأن تلك الأجزاء جواهر لا أجسام لها وذهب النظام وكل من يحسن القول من الأوائل إلى أنه لا جزء وإن دق إلا وهو يحتمل التجزي أبداً بلا نهاية وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزء وإن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جسم أيضاً وإن دق أبداً.
قال أبو محمد: وعمدة القائلين بوجود الجزء الذي لا يتجزأ خمس مشاغب وكلها راجعة بحول الله وقوته عليهم ونحن إن شاء الله تعالى نذكرها كلها ونتقصي لهم كل ما موهوا به ونرى بعون الله عز وجل بطلان جميعها بالبراهين الضرورية ثم نرى بالبراهين الصحاح صحة القول بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً وأنه ليس في العالم جزؤ لا يتجزأ أصلا كما فعلنا بسائر الأقوال والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فأول مشاغبهم أن قالوا أخبرونا إذا قطع الماشي المسافة التي مشي فيها فهل قطع ذا نهاية أو غير ذي نهاية فإن قلتم قطع غير ذي نهاية فهذا محال وإن قلتم قطع ذا نهاية فهذا قولنا.
قال أبو محمد: فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن القوم أتوا من أحد وجهين إما أنهم لم يفهموا قولنا فتكلموا بجهل وهذا لا يرضاه ذو ورع ولا ذو عقل ولا حياء وإما أنهم لما عجزوا عن معارضة الحق رجعوا إلى الكذب والمباهتة وهذه شر من الأولى وفي أحد هذين القسمين وجدنا كل من ناظرناه منهم في هذه المسألة وهكذا عرض لنا سواء مع المخالفين لنا في القياس المدعين لتصحيحه فإنهم أيضاً أحد رجلين إما جاهل بقولنا فهو يقو لنا ما لا نقوله وليتكلم في غير ما اختلفنا فيه وإما مكابر ينسب إلينا ما لا نقوله مباهتة وجراءة على الكذب وعجزاً عن معارضة الحق من أننا ننكر اشتباه الأشياء وأننا ننكر قضايا العقول وأننا ننكر استواء حكم الشيئين فيما أوجبه لهما ما اشتبها فيه وهذا كله كذب علينا بل نقر بذلك كله ونقول به وإنما ننكر أن نحكم في الدين لشيئين بتحريم أو إيجاب أو تحليل من أجل أنهما اشتبها في صفة من صفاتهما فهذا هو الباطل البحث والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمه.
ونقول على هذا السؤال الذي سألونا عنه أننا لم نرفع النهاية عن الأجسام كلها من طريق المساحة بل نثبتها ونعرفها ونقطع على أن كل جسم فله مساحة أبداً محدودة ولله الحمد وإنما نفينا النهاية عن قدرة الله تعالى على قسمة كل جزء وإن دق وأثبتنا قدرة الله تعالى على ذلك وهذا هو شيء غير المساحة ولم يتكلف القاطع بالمشي أو بالذرع أو بالعمل قسمة ما قطع ولا تجزئته وإنما تكلف عملاً أو مشى في مساحة معدومة بالميل أو بالذراع أو بالشبر أو الإصبع أو ما شابه ذلك وكل هذا له نهاية ظاهرة وهذا غير الذي نفينا وجود النهاية فيه فبطل إلزامهم والحمد لله كثيراً ثم نعكس هذا الاعتراض عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق نحن القائلون بأن كل جسم فله طول وعرض وعمق وهو محتمل للانقسام والتجزئ وهذا هو إثبات النهاية لكل جزء انقسم الجسم إليه من طريق المساحة ضرورة وأنتم تقولون أن الجسم ينقسم إلى أجزاء ليس لشيء منها عرض ولا طول ولا عمق ولا مساحة ولا يتجزأ وليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء نفسها ليس هو شيء غيرها أصلاً وإن تلك الأجزاء ليس لشيء منها مساحة فلزمكم ضرورة إذ الجسم هو تلك الأجزاء ليست أجساماً وأن الجسم هو تلك الأجزاء وليس هو غيرها وكل جزء من تلك الأجزاء لا مساحة له إن الجسم لا مساحة له وهذا أمر يبطله العيان وإذا لم تكن له مساحة والمساحة هي النهاية في ذرع الأجسام فلا نهاية لما قطعه القاطع من الجسم على قولهم وهذا باطل والاعتراض الثاني إن قالوا لا بد أن يلي الجرم من الجرم الذي يليه جزء ينقطع ذلك الجرم فيه قالوا وهذا إقرار بجزء لا يتجزأ. قال أبو محمد: وهذا تمويه فاسد لأننا لم ندفع النهاية من طريق المساحة بل نقول أن لكل جرم نهاية وسطحاً ينقطع تماديه عنده وإن الذي ينقطع به الجرم إذا جزئ فهو متناه محدود ولكنه محتمل للتجزئ أيضاً وكل جزئ فذلك الجزء وهو الذي يلي الجرم الملاصق له بنهايته من جهته التي لاقاه منها لا ما ظنوا من أن حد الجرم جزء منه وهو وحده الملاصق للجرم الذي يلاصقه بل هو باطل بما ذكرنا لكن الجزء وهو الملاصق للجرم بسطحه فإذا جزء كان الجزء الملاصق للجرم بسطحه هو الملاصق له حينئذ بسطحه لا الذي خر عن ملاصقته وهكذا أبداً والكلام في هذا كالكلام في الذي قبله ولا فرق والاعتراض الثالث إن قالوا هل ألف أجزاء الجسم إلا الله تعالى فلا بد من نعم قالوا فهل يقدر الله على تفريق أجزاء حتى لا يكون فيها شيء من التأليف ولا تحتمل تلك الأجزاء التجزئ أم لا يقدر على ذلك قالوا فإن قلتم لا يقدر عجزتم ربكم تعالى وإن قلتم يقدر فهذا إقرار منكم بالجزء الذي لا يتجزأ.
قال أبو محمد: هذا هو من أقوى شبههم التي شغبوا بها وهو حجة لها عليهم والجواب أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أن سؤالكم سؤال فاسد وكلام فاسد ولم تكن قط أجزاء العالم متفرقة ثم جمعها الله عز وجل ولا كانت له أجزاء مجتمعة ثم فرقها الله عز وجل لكن الله عز وجل خلق العالم بكل ما فيه بأن قال له كن فكان أو بأن قال لكل جرم منه إذا أراد خلقه كن فكان ذلك الجرم ثم إن الله تعالى خلق جميع ما أراد جمعه من الأجرام التي خلقها مفترقة ثم جمعها وخلق تفريق كل جرم من الأجرام التي خلقها مجتمعة ثم فرقها فهذا هو الحق لا ذلك السؤال الفاسد الذي أجملتموه وأوهمتم به أهل الغفلة أن الله تعالى ألف العالم من أجزاء خلقها متفرقة وهذا باطل لأنه دعوى بلا برهان عليها ولا فرق بين من قال أن الله تعالى ألف أجزاء العالم وكانت متفرقة وبين من قال بل الله تعالى فرق العالم أجزاء وإنما كان جزأ واحداً وكلاهما دعوى ساقطة لا برهان عليها لا من نص ولا من عقل بل القرآن جاء بما قلناه نصاً قال تعالى " إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ " ولفظة شيء تقع على الجسم وعلى العرض فصح أن كل جسم صغر أو كبر وكل عرض في جسم فإن الله تعالى إذا أراد خلقه قال له كن فكان ولم يقل عز وجل قط أنه ألف كل جرم من أجزاء متفرقة فهذا هو الكذب على الله عز وجل حقاً فبطل ما ظنوا أنهم يلزموننا به ثم نقول لهم أن الله تعالى قادر على أن يخلق جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً جسماً لا ينقسم ولكنه لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه كما أنه تعالى قادر على أن يخلق عرضاً قائماً بنفسه ولكنه تعالى لم يخلقه في بنية هذا العالم ولا يخلقه لأنهما مما رتبه الله عز وجل محالاً في العقول والله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئاً منها إلا أنه تعالى لا يفعل كل ما يقدر عليه وإنما يفعل ما يشاء وما سبق في علمه أنه يفعله فقط وبالله تعالى التوفيق.
ثم نعطف هذا السؤال نفسه عليهم فنقول لهم هل يقدر الله عز وجل على أن يقسم كل جزء وينقسم كل قسم من أقسام الجسم أبداً بلا نهاية أم لا فإن قالوا لا يقدر على ذلك عجزوا ربهم حقاً وكفروا وهو قولهم دون تأول ولا إلزام ولكنهم يخافون من أهل الإسلام فيملحون ضلالتهم بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ جملة.
وإن قالوا إنه تعالى قادر على ذلك صدقوا ورجعوا إلى الحق الذي هو نفس قولنا وخلاف قولهم جملة ونحن لا نخالفهم قط في أن أجزاء طحين الدقيق لا يقدر مخلوق في العالم على تجزئة تلك الأجزاء وإنما خالفناهم في أن قلنا نحن أن الله تعالى قادر على ما لا نقدر نحن عليه من ذلك وقالوا هم بل هو غير قادر على ذلك تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً وقولهم في تناهي القدرة على قسمة الله تعالى الأجزاء هو القول بأن الله تعالى يبلغ من الخلق إلى مقدار ما ثم لا يقدر على الزيادة عليه ويبقي حسيراً عاجزاً تعالى الله عن هذا الكفر ولعمري أن أبا الهذيل شيخ المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ ليحن إلى هذا المذهب حنيناً شديداً وقد صرح بأن لما يقدر الله عليه كمالاً وآخراً لو خرج إلى الفعل لم يكن الله تعالى قادراً بعده على تحريك ساكن ولا تسكين متحرك ولا على فعل شيء أصلاً ثم تدارك كفره فقال ولا يخرج ذلك الآخر أبداً إلى حد الفعل.
قال أبو محمد: في قال له ما المانع من خروجه والنهاية حاصرة له والفعل قائم فلا بد مع طول الزمان من البلوغ إلى ذلك الآخر.
قال أبو محمد: نعوذ بالله من الضلال والاعتراض الرابع هو إن قالوا أيما أكثر أجزاء الجبل أو أجزاء الخردلة وأيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الخردلتين قالوا فإن قلتم بل أجزاء الخردلتين وأجزاء الجبل صدقتم وأقررتم بتناهي التجزي وهو القول بالجزء الذي لا يتجزأ وإن قلتم ليس أجزاء الجبل أكثر من أجزاء الخردلة ولا أجزاء الخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة كابرتم العيان لأنه لا يحدث في الخردلة جزء إلا ويحدث في الخردلتين جزآن وفي الجبل أجزاء وادعوا علينا أننا نقول أن في كل جسم أجزاء لا نهاية لعدده وقالوا أن عمدة حجتكم على الدهرية هو هذا المعنى نفسه في إلزامكم إياهم وجوب القلة والكثرة في عدد الأشخاص وأوقات الزمان وإيجابكم أن كل ما حصره العدد فذو نهاية وإنكاركم على الدهرية وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لعددها قالوا ثم نقضتم كل ذلك في هذا المكان.
قال أبو محمد: هو الذي قلنا أنهم إما لم يفهموا كلامنا في هذه المسألة فقولونا ما لا نقوله بظنونهم الكاذبة وأما أنهم عرفوا قولنا فحرفوه قلة حياء واستحلال الكذب وجراءة على عمل الفضيحة لهم في كذبهم وعجزاً منهم عن كسر الحق ونصر الباطل فاعلموا أن كل ما نسبوه غلينا من قولنا أن من قطع مكاناً أو شيئاً بالمشي أو بالجملتين فإنما قطع ما لا نهاية له فباطل ما قلناه قط بل ما قطع إذا ذا نهاية بمساحته وزمانه وأما احتجاجنا على الدهرية بما ذكروا فصحيح هو حجتنا على الدهرية وأما ادعاؤهم أننا نقضنا ذلك في هذا المكان فباطل والفرق بين ما قلناه من أنل كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وبين ما احتججنا به على الدهرية من إيجاب النهاية بوجود القلة والكثرة في أعداد الأشخاص والأزمان وإنكارنا عليهم وجود أشخاص وأزمان لا نهاية لها بل هو حكم واحد وباب واحد وقول واحد ومعنى واحد وذلك أن الدهرية أثبتت وجود أشخاص قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لعددها ووجود أزمان قد خرجت إلى الفعل لا نهاية لها وهذا محال ممتنع وهكذا قلنا في كل جزء خرج إلى أحد الفعل فإنها متناهية العدد بلا شك ولم نقل قط أن أجزائه موجودة منقسمة لا نهاية لعددها بل هذا باطل محال ثم إن الله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص وفي الأزمان وفي قسمة الجزء أبداً بلا نهاية لكن كل ما خرج إلى الفعل أو يخرج من الأشخاص أو الأزمان أو تجزئة الأجزاء فكل ذلك متناه بعدده إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ إذا خرج وهكذا أبداً وأما ما لم يخرج إلى حد الفعل بعد من شخص أو زمان أو تجزئ فليس شيئاً ولا هو عدداً ولا معدوماً ولا يقع عليه عدد ولا هو شخص بعد ولا زمان ولا جزؤ وكل ذلك عدم وإنما يكون جزء إذا جزئ بقطع أو برسم مميز لا قبل أن يجزئ وبهذا تتبين غناثة سؤالهم في أيما أكثر أجزاء الخردلة أو أجزاء الجبر أو أجزاء الخردلتين لأن الجبل إذا لم يجزأ والخردلة إن لم تجزأ والخردلتان إذا لم تجزئا فلا أجزاء لها أصلاً بعد بل الخردلة جزء واحد والجبل جزء واحد والخردلتان كل واحدة منهما جزء فإذا قسمت الخردلة على سبعة أجزاء وقسم الجبل جزأين وقسمت الخردلتان جزأين جزأين فالخردلة الواحد بيقين أكثر أجزاء من الجبل والخردلتين لأنها صارت سبعة أجزاء ولم يصر الجبل والخردلتان إلا ستة أجزاء فقط فلو قسمت الخردلة ستة أجزاء لكانت أجزاؤها وأجزاء الجبل والخردلتين سواء ولو قسمت الخردلة خمسة أجزاء وكانت أجزاء الجبل والخردلتين أكثر من أجزاء الخردلة وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقع التجزيء في شيء إلا إذا قسم لا قبل ذلك فإن كانوا يريدون في أيهما يمكننا التجزئة أكثر في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحدة فهذا ما لا شك فيه أن التجزيء أمكن لنا في الجبل والخردلتين أم في الخردلة الواحد لأن الخردلة الواحدة عن قريب تصغر أجزاؤها حتى لا نقدر نحن على قسمتها ويتمادى لنا الأمر في الجبل كثيراً حتى أنه يفنى عمر أحدنا قبل أن يبلغ تجزئته إلى أجزاء تدق عن قسمتنا وأما قدرة الله عز وجل على قسمة ما عجزنا نحن عن قسمته من ذلك فباقية غير متناهية وكل ذلك عليه هين سواء ليس بعضه أسهل عليه من بعض بل هو قادر على قسمة الخردلة أبداً بلا نهاية وعلى قسمة الفلك كذلك ولا فرق وبالله تعالى التوفيق ونزيد بياناً فنقول أن الشيء قبل أن يجزأ فليس متجزئاً فإذا جزء بنصفين أو جزأين فهو جزءان فقط فإذا جزء على ثلاثة أجزاء فقط فهو ثلاثة أجزاء وهكذا أبداً وأما من قال أو ظن أن الشيء قبل أن ينقسم وقبل أن يتجزأ أنه منقسم بعد ومتجزئ بعد فوسواس وظن كاذب لكنه محتمل الانقسام والتجزؤ وكل ما قسم وجزأ فكل جزء ظهر منه فهو معدود متناه وكذلك كل جسم فطوله وعرضه متناهيان بلا شك والله تعالى قادر على الزيادة فيهما أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما زاده تعالى في ذلك وأخرجه إلى حد الفعل فهو متناه ومعدود ومحدود وهكذا أبداً وكذلك الزيادة في أشخاص العالم وفي العدد فإن كل ما خرج إلى حد الفعل من الأشخاص ومن الأعداد فذو نهاية والله تعالى قادر على الزيادة في الأشخاص أبداً بلا نهاية والزيادة في العدد ممكنة أبداً بلا نهاية إلا أن كل ما خرج من الأشخاص والأعداد إلى الفعل صحبته النهاية ولا بد ثم نعكس هذا السؤال عليهم فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أتفضل عندكم قدرة الله تعالى على قسمة الجبل على قدرته على قسمة الخردلة وهل تأتى حال يكون الله فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة أم لا فإن قالوا بل قدرة الله تعالى على قسمة الجبل أتم من قدرته على قسمة الخردلة وأقروا بأنه تأتى حال يكون الله تعالى فيها قادراً على قسمة أجزاء الجبل غير قادر على قسمة أجزاء الخردلة كفروا وعجزوا ربهم وجعلوا قدرته محدثة متفاضلة متناهية وهذا كفر مجرد وإن أبوا من هذا وقالوا إن قدرة الله تعالى على قسمة الجبل والخردلة سواء وأنه لا سبيل إلى وجود حال يقدر الله تعالى فيها على تجزئة أجزاء الجبل ولا يقدر على تجزئة أجزاء الخردلة صدقوا ورجعوا إلى قولنا الذي هو الحق وما عداه ضلال وباطل والحمد لله رب العالمين والاعتراض الخامس هو أن قالوا هل لأجزاء الخردلة كل أم ليس لها كل وهل يعلم الله عدد أجزائها أم لا يعلمه فإن قلتم لا كل لها نفيتم النهاية عن المخلوقات الموجودات وهذا كفر وإن قلتم إن الله تعالى لا يعلم عدد أجزائها كفرتم وإن قلتم أن لها كلاً وإن الله تعالى يعلم أعداد أجزائها أقررتم بالجزء الذي لا يتجزأ.
قال أبو محمد: وهذا تمويه لائح ينبغي التنبيه عليه لئلا يجوز على أهل الغفلة وهو أنهم أقحموا لفظة كل حيث لا يوجد كل وسألوا هل يعلم الله تعالى عدد ما لا عدد له وهم في ذلك كمن سأل هل يعلم الله تعالى عدد شعر لحية الأحلس أم لا وهل يعلم جميع أولاد العقيم أم لا وهل يعلم كل حركات أهل الجنة والنار أم لا فهذه السؤالات كسؤالهم ولا فرق وجوابنا في ذلك كله أن الله عز وجل إنما يعلم الأشياء على ما هي عليه لا على خلاف ما هي عليه لأن من علم الشيء على ما هو عليه فقد علمه حقاً وأما من علم الشيء على خلاف ما هو عليه فلم يعلمه بل جهله وحاشا لله من هذه الصفة فما لا كل له ولا عدد له فإنما يعمله الله عز وجل أن لا عدد له ولا كل وما علم الله عز وجل قط عدداً ولا كلاً إلا لما له عدد وكل لا لما لا عدد له ولا كل وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد شعر لحية الأطلس ولا علم قط ولد العقيم فكيف أن يعرف لهم كلاً وكذلك لم يعلم الله عز وجل قط عدد أجزاء الجبل ولا الخردلة قبل أن يجزئا لأنهما لا جزء لهما قبل التجزئة وإنما علمهما غير متجزئين وعلمهما محتملين للتجزيء فإذا جزئا علمهما حينئذ متجزئين وعلم حينئذ عدد أجزائهما ولم يزل تعالى يعلم أنه يجزئ كل ما لا يتجزأ ولم يزل يعلم عدد الأجزاء التي لا تخرج في المستأنف إلى حد الفعل ولم يزل يعلم عدد ما يخرج من الأشخاص بخلقه في الأبد إلى حد الفعل أو لم يزل يعلم أنه لا أشخاص زائدة على ذلك ولا أجزاء لما لم ينقسم بعد وكذلك ليس للخردلة ولا للجبل قبل التجزيء أجزاء أصلاً وإذ ذلك كذلك فلا كل هاهنا ولا بعض فهذا بطلان سؤالهم والحمد لله رب العالمين ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الشخص الفرد من خردلة أو وبرة أو شعرة أو غير ذلك إذا جزأنا كل ذلك جزئين أو أكثر متى حدثت الأجزاء أحين جزئت أم قبل أن تجزء فإن قالوا قبل أن تجزئ ناقضوا أسمج مناقضة لأنهم أقروا بحدوث أجزاء كانت قبل حدوثها وهذا سخف وإن قالوا إنما حدثت لها الأجزاء حين جزئت لا قبل ذلك سألناهم متى علمها الله تعالى متجزئة حين حدث فيها التجزيء أم قبل أن يحدث فيها التجزيء فإن قالوا ب حين حدث فيها الجزيء صدقوا وأبطلوا قولهم في أجزاء الخردلة وإن قالوا بل علم أنها متجزئة وأن لها أجزاء قبل حدوث التجزيء فيها جهلوا ربهم تعالوا إذا خبروا أنه يعلم الشيء بخلاف ما هو قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به لم ندع لهم منه شيئاً إلا وقد أوردناه وبينا أنه كله لا حجة لهم في شيء منه وأنه كله عائد عليهم وحجة لنا والحمد لله رب العالمين ثم نبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد البراهين الضرورية على أن كل جسم في العالم فإنه متجزئ محتمل للتجزئة وكل جزء من جسم فهو أيضاً جسم محتمل للتجزيء وهكذا أبداً وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: يقال لهم وبالله تعالى نستعين أخبرونا عن هذا الجزء الذي قلتم أنه لا يتجزأ أهو في العالم أم ليس في العالم ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قالوا ليس هو في العالم صدقوا وأبطلوه إلا أنهم يلزمهم قول فاحش وهو أنهم يقولون أن جميع العالم مركب من أجزاء لا تتجزأ والكل ليس هو شيئاً غير تلك الأجزاء فإن كانت تلك الأجزاء ليست في العالم فالعالم عدم ليس في العالم وهذا تخليط كما ترى وإن قالوا بل هو في العالم قلنا لهم لا يخلوا إن كان في كرة العالم من أن يكون إما قائماً بنفسه حاملاً وإما أن يكون محمولاً غير قائم بنفسه لا بد ضرورة من أحد الأمرين إذ ليس العالم كله إلا على هذين القسمين فإن كان محمولاً غير قائم بنفسه فهو عرض من الأعراض وإن كان حاملاً قائماً بنفسه ذا مكان فهو جسم وثم يقال لهم أخبرونا عن الجزء الذي ذكرتم أنه لا يتجزأ وهو على قولكم في مكان لأنه بعض من أبعاض الجسم هل الملاقي منه للمشرق هو الملاقي للمغرب أم غيره وهل المحازي منه للسماء هو المحازى منه للأرض أم هو غيره فإن قالوا كل ذلك واحد والملاقي منه للمشرق هو الملاقي منه للمغرب والمحازى للسماء هو المحازى منه للأرض أتوا بإحدى العظائم وجعلوا جهة المشرق منه هي جهة المغرب وجعلوا السماء والأرض منه في جهة واحدة وهذا حمق لا يبلغه إلا الموسوس ومكابرة للعيان لا يرضاها لنفسه سالم البنية وإن قالوا بل الملاقي منه للمشرق هو غير الملاقي منه للمغرب وأن السماء والأرض منه في جهتين متقابلتين فوق وأسفل صدقوا وهكذا جهة الجنوب والشمال فإذ ذلك كذلك بلا شك فقد صح أنه ذو جهات ست متغايرة وهذا إقرار منهم بأنه ذو أجزاء إذ قطعوا بأن الملاقي منه للمغرب غير الملاقى منه للمشرق ومن للتبعيض وبطل قولهم من قرب والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فإن أرادوا إلزامنا مثل هذا في العرض قلنا ليس للعرض جهة ولا له مكان ولا يقوم بنفسه ولا يحاذى شيئاً وإنما يحاذى الأشياء حامل العرض لا العرض إذ لو ارتفع العرض لبقي حامله مالئاً لمكانه كما كان محاذياً من جميع جهاته ما كان يحاذى حين حمله للعرض سواء سواء ولو ارتفع في قولكم الجزاء الذي لا يتجزأ لبقي مكانه خالياً منه وقد أوضحنا أن عرضين وأعراضاً تكون في جسم واحد في جهة واحدة منه وهم يختلفون في أن جزئين كل واحد منهما لا يتجزأ فلا يمكن البتة أن يكونا جميعاً في مكان واحد بل لكل واحد منهما عندهم مكاناً غير مكان الآخر وبرهان آخر وهو أنهم يقولون أن الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا أضفتم إلى الجزء الذي لا يتجزأ عندكم جزءاً آخر مثله لا يتجزأ أليس قد حدث لهما طول فلا بد من قولهم نعم لا يختلفون في ذلك ولو أنهم قالوا لا يحدث لهما طول للزمهم مثل ذلك في إضافة جزء ثالث ورابع وأكثر حتى يقولوا أن الأجسام العظام لا طول لها ويحصلوا في مكابرة العيان فنقول لهم إذا قلتم أن جزءاً لا يتجزأ لا طول له إذا ضم إليه جزء آخر لا يتجزأ ولا طول له فأيهما يحدث له طول فقولوا لنا هل يخلو هذا الطول الحادث عندكم من أحد ولثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يكون هذا الطول لأحدهما دون الآخر أو لا لواحد منهما أو لكليهما فإن قلتم ليس هذا الطول لهما ولا لواحد منهما فقد أوجبتم طولاً لا لطويل وطولاً قائماً بنفسه والطول عرض والعرض لا يقوم بنفسه وصفة والصفة لا يمكن أن توجد إلا في موصوف بها ووجود طول لا لطويل مكابرة ومحال وإن قلتم أن ذلك الطول هو لأحد الجزأين دون الآخر فقد أحلتم وأتيتم بما لا شك بالحس وضرورة العقل في بطلانه ولزمكم أن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وإذا كان له طول فهو بلا شك يتجزأ وهذا ترك منكم لقولكم مع أنه أيضاً محال لأنه يجب من هذا أن يتجزأ ولا يتجزأ وإن قلتم أن ذلك الطول للجزأين معاً صدقتم وأقررتم بالحق في أن كل جزء منهما فله حصته من الطول والحصة من الطول طول بلا شك وإذا كان كل واحد منهما له طول فلكل واحد منهما له طول فكل واحد منهما يتجزأ وهذا خلاف قولكم أنه لا يتجزأ وهذا برهان ضروري أيضاً لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر.
قال أبو محمد: ونقول لهم أيما أطول جزآن لا يتجزأ كل واحد منهما وقد ضم أحدهما إلى الآخر ثم أحدهما غير مضموم إلى الآخر فلا يجوز أن يقول أحد إلا أن الجزأين المضمومين أطول من أحدهما غير مضموم إلى الآخر فإذ ذلك كذلك فمن المحال الممتنع الباطل أن يقال في شيء هذا أطول من هذا إلا وفي الآخر طول دون طول ما هو أطول منه فقد صح ضرورة أن الطول موجود لكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ وإذا كان له طول فهو منقسم بلا خلاف من أحد منا ومنهم وهكذا القول في عرضهما أن ضم أحدهما إلى الآخر وفي عمقهما كذلك ولا بد من أن يكون لكل واحد منهما حصة من العرض والعمق وإذ ذاك كذلك ضرورة فكل جزء قالوا فيه أنه لا يتجزأ فلا بد من أن يكون له طول وعرض وعمق وإذ ذلك كذلك فهو جسم يتجزأ ولا بد وهذا أيضاً برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق.
وقد رام أبو الهذيل التخلص من هذا الإلزام فبعد ذلك عليه لأنه رام محالاً فقال أن الطول الحادث للجزأين عند اجتماعهما إنما هو كالاجتماع الحادث لهما ولم يكن لهما ولا لأحدهما إذ كانا منفردين.
قال أبو محمد: وهذا تمويه ظاهر لأن الاجتماع هو ضم أحدهما إلى الآخر نفسه ليس هو شيئاً آخر ولم يكونا قبل الضم والجمع مضمومين ولا مجتمعين وليس معنى الطول والعرض والعمق كذلك بل هو شيء آخر غير الضم والجمع وإنما هو صفة للطويل مضموماً كان إلى غيره أو غير مضموم ولا يوجب الجمع والضم طولاً لم يكن واجباً قبل الضم والجمع فلم يزد أبو الهذيل على أن قال لما اجتمعا صارا مجتمعين وصارا طويلين وهذه دعوى فاسدة ونظر منحل لأن قوله لما اجتمعا صارا مجتمعين صحيح لا شك فيه وقوله وصارا طويلين دعوى مجردة من الدليل جملة وما كان هكذا فهو باطل وأيضاً فإن الاجتماع لما حدث بينهما بطل معنى آخر كان موجوداً فيهما وهو الافتراق الذي هو ضد الاجتماع فأخبرونا إذا حدث الطول بزعمكم فأي شيء هو المعنى الذي ذهب بوجود الطول وعاقبة الطول ولا سبيل لهم إلى وجوده فصح أن الطول كان موجوداً في كل جزء على انفراده وكذلك العرض والعمق ثم لم اجتمعا زاد الطول والعرض والعمق وهكذا أبدا وبالله تعالى التوفيق وهذا هو الذي تشهد له الحواس والمشاهدة والعقل والحمد لله رب العالمين وبرهان آخر وهو أن الجرم إن كان أحمر فكل جزؤ من أجزائه أحمر بلا شك فإن قالوا ليس أحمر قلنا لهم فلعله أخضر أو أصفر أو غير ذي لون وهذا عين المحال لأن الكل قد بينا أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فلو كان لون أجزائه غير لونه كله لكان لونه غير لونه وهذا محال فإذ لا شك فيما ذكرنا فالجزؤ الذي يدعون أنه لا يتجزأ هو ذو لون بلا شك وإذ هو ذو لون فهو جسم لا يعقل غير ذلك فهو يتجزى.
قال أو محمد: وقالت الأشعرية ههنا كلاما ظريفاً وهو أنهم قالوا هو ذو لون واحد.
قال أبو محمد: كل ملون فهو ذو لون واحد لا ذو ألوان كثيرة إلا أن يكون أبلق أو موشى برهان آخر أن وجود شيء في العالم قائم بنفسه ليس جسماً ولا عرضاً ولا قابلاً للتجزئ ولا طول ولا عرض ولا عمق فهو محال ممتنع إذ هذا المذكور ليس هو شيئاً غير الباري تعالى وجل تعالى أن يكون له في العالم شبه وبهذا بان عز وجل عن مخلوقاته ولم يكن له كفواً أحد وليس كمثله شيء برهان آخر.
قال أو محمد: كل شيء يحتمل أن يكون له أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يتجزأ إلى أٌل منها هذا ما لا تختلف العقول والإحساس فيه كشيء احتمل أن يقسم على أربعة أقسام فلا شك أنه يحتمل أن يقسم على ثلاثة وعلى اثنين وهكذا في كل عدد ومن دافع في هذا فإنما يدافع الضرورة ويكابر العقل فلوا أقمت خطا من ثلاثة أجزاء كل جزء منها لا يتجزأ على قولهم أو يعمل ذلك الخط من عشرة أجزاء وكذلك ومن ألف جزءٍ كذلك أو مما زاد فإنه لا يختلف أحد في أن الخط الذي هو من ثلاثة أجزاء فإنه ينقسم أثلاثاً في موضعين وأن الذي هو أربعة أجزاء فإنه ينقسم أرباعاً في ثلاثة مواضع وأن الذي من ألف جزؤ فإنه ينقسم أعشاراً وبنصفين وإذ لا شك في هذا فبيقين لا محيد عنه يدري كل ذي حس سليم ولو أنه عالم أو جاهل أن ما انقسم أثلاثاً فإنه ينقسم نصفين مستويين وما انقسم أرباعاً فإنه ينقسم أثلاثاً مستوية وإن ما كان من الخطوط فله أعشار وأخماس ونصف وأثلاث وأسداس وأسباع متساوية فإذ لا شك في هذا فإن القسمة لا بد أن تقع في نصف جزءٍ منها أو في أقل من نصفه فصح أن كل جسم فهو يتجزأ ضرورة وإن الجزء الذي لا يتجزأ باطل معدوم من العالم وهذا ما مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق برهان آخر.
قال أبو محمد: بلا شك نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين لا يلتقيان أبداً ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية وأنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين قام منهما مربع بلا شك فإذا أخرجت من زاوية ذلك المربع خطاً منحدراً من هنالك إلى الخط الأسفل فإن تلك الخطوط المخرجة من الضلع الذي ذكرنا وتلك الخطوط المخرجة من الزاوية لا تمر مع الخط الأعلى أبداً لأنها غير موازية له فإذ ذلك كذلك فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية برهان آخر.
قال أبو محمد: وبالضرورة ندري أن كل مربع متساوي الأضلاع فإن الخط القاطع من الزاوية العليا إلى الزاوية السفلى التي لا يوازيها يقوم منه في المربع مثلثان متساويان وأنه لا شك أطول من كل ضلع من أضلاع ذلك المربع على انفراده فنسألهم عن مائة جزءٍ لا يتجزأ رتبت متلاصقة عشرة عشرة فبالضرورة نجد فيها ما ذكرنا فبيقين نعلم حينئذ أن كل جزءٍ من الأجزاء المذكورة لولا أن له طولاً وعرضاً لما كان الخط المار بها القاطع للمربع القائم منها على مثلثين متساويين أطول من الخط المار بكل جهة من جهات ذلك المربع على استواء وموازاة للخطوط الأربعة المحيطة بذلك المربع وهو أطول منه بلا شك فصح ضرورة أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وأن ما له طول وعرض فهو متجزء بلا شك فصح أيضاً بما ذكرنا أن كل جزءٍ مر عليه الخط المذكور فقد انقسم برهان آخر وأيضاً فإننا لو أقمنا خطاً من أجزاء لا تتجزأ على قولهم مستقيماً ثم أدرناه حتى يلتقي طرفاه ويصير دائرة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الخط إذا أدير حتى يلتقي طرفاه فإن ما قابل من أجزائه مركز الدائرة أضعف مما يقابل منها خارج الدائرة فإذ ذلك كذلك فهذا لازم في هذا الخط المدار بلا شك وإذ لا شك في هذا فقد فضل أحد طرفي الجزء الذي لا يتجزأ عندهم فضلة على طرفه الآخر وهكذا كل جزءٍ من تلك الأجزاء بلا شك فصح ضرورة أنه محتمل للانقسام ولا بد وبالله تعالى التوفيق برهان آخر نسألهم عن دائرة قطرها أحد عشر جزءاً لا يتجزأ كل واحد منها عندهم أو أي عدد شئت على الحساب فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط ماراً على مركزها لا يقع البتة إلا في أنصاف تلك الأجزاء فصح ضرورة أنها لا تتجزأ ولو لم يمر ذلك الخط على أنصافها لما قسم الدائرة بنصفين وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أن نسألهم عن الجزء الذي لا يتجزأ الذي يحققونه إذا وضع على سطح زجاجة ملساء مستوية هل له حجم زائد على سطحها أم لا حجم له زائد على سطحها فإن قالوا لا حجم له زائداً على سطحها أعدموه ولم يجعلوا له مكاناً ولا جعلوه متمكناً أصلاً فنسألهم عن جزئين جعلا كذلك فلا بد من قولهم أن لهما حجماً فنسألهم عن ذلك الحجم ألهما معاً أم لأحدهما فأي ذلك قالوا أثبتوا ولا بد الحجم لهما وللجزء الذي هو أحدهما وإذا كان للجزء الذي لا يتجزأ حجم زائد فالذي لا شك فيه أن له ظلاً وإذا صح يقيناً أن له ظلاً فلا شك في أن الظل يزيد وينقص ويمتد ويتقلص ويذهب إذا سامتته الشمس فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أن ظله ينقص حتى يكون أقل من قدره وإذ ذلك فقد ظهر ووجب أن له تجزياً ومقداراً وبرهان آخر وهو أننا نسألهم عن جزؤ لا يتجزأ من الحديد أو من الذهب وجزؤ لا يتجزأ من خيط قطن هل ثقلهما ووزنهما سواء أم الذي من الذهب أو الحديد أثقل من الذي من القطن فإن قالوا ثقلهما ووزنهما سواء كابروا ولزمهم هذا في ألف جزؤ كذلك من الذهب أنهما ليستا أثقل من ألف جزؤ من القطن مجتمعة كانت الأجزاء أو متفرقة وهذا جنون ومكابرة وأن قالوا بل الذي من الذهب أوزن وأثقل صدقوا وأوجبوا أن له تجزياً يتفاضل الوزن ضرورة ولا بد.
قال أبو محمد: فهذه براهين ضرورية قاطعة بأن كل جزء فهو يتجزأ أبداً بلا نهاية وأن جزاء لا يتجزأ ليس في العالم أصلاً ولا يمكن وجوده بل هو من المحال الممتنع وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أما أبو الهذيل فخلط في هذا الباب وحق لمن رام نصر الباطل أن يخلط فقال وأنه الجزؤ الذي لا يتجزأ ذو حركة وسكون يتعاقبان عليه وأن يشغل مكاناً لا يسع فيه معه غيره وأنه أقرب إلى السماء من مكانه الذي هو عليه من الأرض وهذا غاية التناقص إذ ما كان هكذا فله مساحة بلا شك وهو ذو جهات ست فللمساحة أجزاء من نصف وثلث وأقل وأكثر وما كان ذا جهات فالذي منه في كل جهة غير الذي منه في الجهة الأخرى بلا شك وما كان هذا فهو محتمل للتجزي بلا شك وما عدا هذا فوسواس نعوذ بالله منه.
قال أبو محمد: في تخليطهم هذا اختلافاً ظريفاً أيضاً فأجمعوا أنه إذا ضم جزؤ لا يتجزء إلى جزؤ لا يتجزأ فصار اثنين فقد حدث لهما طول ثم اختلفوا متى يصير جسماً له طول وعرض وعمق فقال بعضهم إذ صار جزئين صار جسماً وهو قول الأشعرية وقال بعضهم إذا صارا أربعة أجزاء وقال بعضهم بل إذا صارا ستة أجزاء واتفقوا على أنه إذا صارا ثمانية أجزاء فقد صار جسماً له طول وعرض وعمق وكل هذا تخليط ناهيك به وجهل شديد كان الأولى بأهله أن يتعلموا قبل أن يتكلموا بهذه الحماقات برهان ذلك أنهم لم يختلفوا أنهم إذا صفوا أربعة أجزاء لا يتجزأ وتحتها أربعة أجزاء لا يتجزأ فإنه قد صار عندهم الجميع من هذه الأجزاء جسماً طويلاً عيضاً عميقاً.
قال أبو محمد: وهذا الذي طابت نفوسهم عليه وأنست عقولهم إليه في الثمانية وسهل على بعضهم دون بعض في ثلاثة أجزاء تحتها ثلاثة أجزاء وفي جزئين تحتها جزآن ومنعوا كلهم من ذلك في جزؤ على جزؤ حاشا الأشعرية فإنه بعينه موجود على أصولهم المخذولة وأقوالهم المرذولة في جزؤ على جزؤ على جزؤ سواء سواء بعينه وذلك أن أربعة أجزاء على أربعة جزاء فإنما الحاصل منها جزؤ على جزء فقط من كل جهة فإذا جعلوا الأربعة على الأربعة طولاً فإنما جعلوه في جزؤ إلى جنب جزؤ كذلك فعلوا في العرض وكذلك فعلوا في العمق وإذ هو كذلك والطول عندهم يوجد في جزء إلى جنب جزء والعرض يوجد جنب الطول لأن العرض لا يكون أكثر من الطول أصلاً والعمق موجود فيهما أيضاً فظهر أن لكل جزء منها طولاً وعرضاً وعمقاً قال أبو محمد: فإذا قد بطل قولهم في الجزء الذي لا يتجزأ وفي كل ما أوجبوه أنه جوهر لا جسم ولا عرض فقد صح أن العالم كله حامل قائم بنفسه ومحمول لا يقوم بنفسه ولا يمكن وجود أحدهما متخلياً فالمحمول هو العرض والحامل هو الجوهر وهو الجسم سمه كيف شئت ولا يمكن في الوجود غيرهما وغير الخالق لهما تعالى وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وقال هؤلاء الجهال أن العرض لا يبقى وقتين وأنه لا يحمل عرضاً.
قال أبو محمد: وقد كلمناهم في هذا وتقرينا كتبهم فما وجدنا لهم حجة في هذا أصلاً أكثر من أن بعضهم قال لو بقي وقتين لشغل مكاناً.
قال أبو محمد: وهذه حجة فقيرة إلى حجة ودعوى كاذبة نصر بها دعوى كاذبة ولا عجب أكثر من هذا ثم لو صحت لهم للزمهم هذا بعينه فيما جوزوه من بقاء العرض وقتاً واحداً ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لو بقي العرض وقتاً واحداً لشغل مكاناً وبيقين يدري كل ذي حس سليم أنه لا فرق في اقتضاء المكان بين بقاء وقت واحد وبين بقاء وقتين فصاعداً فإن أبطلوا بقاءه وقتاً لزمهم أنه ليس باقياً أصلاً وإذا لم يكن باقياً فليس موجوداً أصلاً وإذ لم يكن موجوداً فهو معدوم فحصلوا من هذا التخليط على نفي الأعراض ومكابرة العيان ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال بل يبقى وقتين ولا يبقى ثلاثة أوقات إذ لو بقي ثلاثة أوقات لشغل مكاناً وكل هذا هوس وليس من أجل البقاء وجب اقتضاء الباقي المكان لكن من أجل أنه طويل عريض عميق فقط ولا مزيد وقد قال بعضهم أن الشيء في حين خلق الله تعالى له ليس باقياً ولا فانياً وهذه دعوى في الحمق كما سلف لهم ولا فرق وهي مع ذلك لا تعقل ولا يتمثل في الوهم أن يكون في الزمان أو في العالم شيء موجود ليس باقياً ولا فانياً.
قال أبو محمد: ولا عجب أعجب من حمق من قال أن بياض الثلج وسواد القار وخضرة البقل ليس شيء منها الذي كان آنفاً بل يفني في كل حين ويستعيض ألف ألف بياض وأكثر وألف ألف خضرة وأكثر هذه دعوى عارية من الدليل إلا أنها جمعت السخف مع المكابرة.
قال أبو محمد: والصحيح من هذا هو ما قلناه ونقوله أن الأعرض تنقسم أقساماً فمنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله لإنفساد ما هو فيه لو أمكن ذلك كالصورة الكلية أو كالطول والعرض والعمق ومنها ما لا يزول ولا يتوهم زواله إلا بإنفساد حامله كالاسكار في الخمر ونحو ذلك فإنها إن لم تكن مسكرة لم تكن خمراً وهكذا كل صفة يجدها ما هي عليه ومنها ما لا يزول إلا بفساد حامله إلا أنه لو توهم زائلاً لم يفسد حامله كزرق الأزرق وفطس الأفطس فلو زالا لبقي الإنسان إنساناً بحسبه ومنها ما يبقى مدداً طوالاً وقصاراً وربما زايل ما هو فيه كسواد الشعر وبعض الطعوم والخشونة والاملاس في بعض الأشياء والطيب والنتن في بعضها والسكون والعلم وكبعض الألوان التي تستحيل ومنها ما يسرع الزوال كحمرة الخجل وكمدة الهم وليس من الأعراض شيء يفني بسرعة حتى لا يمكن أن يضبط مدة بقائه إلا الحركة فقط على أنها بضرورة العقل والحسن ندري أن حركة الجزء من الفلك التي تقطع بنصفين من شرق إلى غرب أسرع من حركة الجزء منه الذي حوالي القطبين لأن كل هذين الجزأين يرجع إلى مكانه الذي بدأ منه في أربع وعشرين ساعة وبين دائريهما في الكبر ما لا يكون مساحة خط دائرة أو خط مستقيم أكثر منه في العالم وبيقين يدري أن حركة المذعورة في طيرانها أسرع من حركة السلحفاة في مشيها وأن حركة المنساب في الحدور أسرع من حركة الماء الجاري في مسيل النهر وأن حركة العصر في الجري أسرع من حركة الماشي فصح يقيناً أن في خلال الحركات أيضاً بقاء إقامة يتفاضل في مدته لأن الحركات كلها إنما هي نقلة من مكان إلى مكان فللمتحرك مقابلة ولا بد لكل جرم مر عليه ففي تلك المقابلات يكون التفاضل في السرعة أو في البطئ إلا أنه لا يحس أجزاؤه ولا تضبط دقائقه إلا بالعقل فقط الذي به يعرف زيادة الظل والشمس ولا يدرك ذلك بالحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما فإنه حينئذ يعرف بحس البصر كما لا يدرك بالحواس نماء النامي إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكما يعرف بالعقل لا بالحس أن لكل خردلة جزءاً من الأث قال فلا يحس إلا إذا اجتمعت منه جملة ما وكذلك الشبع والري وكثير من أعراض العالم فتبارك خالق ذلك هو الله أحسن الخالقين وأما قولهم أن العرض لا يحمل العرض فكلام فاسد مخالف للشريعة وللطبيعة وللعقل وللحواس ولإجماع جميع ولد آدم لأننا لا نختلف في أن نقول حركة سريعة وحركة بطيئة وحمرة مشرقة وخضرة أشد من خضرة وخلق حسن وخلق مسيء وقال تعالى " إن كيدكن عظيم " وقال تعالى " فصبر جميل " وحسبك فساداً بقول أدى إلى هذا ومن أحال على العيان والحس والمعقول وكلام الله تعالى فقد فاز قدحه وخسرت صفقة من خالفه.
قال أبو محمد: ولسنا نقول أن عرضاً يحمل عرضاً إلى ما لا نهاية له بل هذا باطل ولكن كما وجد وكما خلق الباري تعالى ما خلق ولا مزيد وما عدا هذا فرقة دين وضعف عقل وقلة حياء ونعوذ بالله من هذه الثلاث وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الكلام في المعارف
قال أبو محمد: اختلف الناس في المعارف فقال قائلون المعارف كلها باضطرار إليها وقال آخرون المعارف كلها باكتساب لها وقال آخرون بعضها باضطرار وبعضها باكتساب.
قال أبو محمد: والصحيح في هذا الباب أن الإنسان يخرج إلى الدنيا ليس عاقلاً لا معرفة له قال أو محمد: فحركاته كلها طبيعية كأخذه الثديين حين ولادته وتصرفه تصرف البهائم على حسبها في تألمها وطربها حتى إذا كبر وعقل وتقوت نفسه الناطقة وأنست بما صارت فيه وسكنت إليه وبدت رطوباته تجف بدأت بتمييز الأمور في الدار التي صارت فيها فيحدث الله تعالى لها قوة على التفكر واستعمال الحواس في الاستدلال وأحدث الله لها الفهم بما تشاهد وما تخبر به فطريقه إلى بعض المعارف اكتساب في أول توصله إليها لأنه بأول فهمه ومعرفته عرف أن الكل أكثر من الجزء وأن جسماً واحداً لا يكون في مكانين وأنه لا يكون قاعداً قائماً معاً وهو إن لم يحسن العبارة عن ذلك فإن أحواله كلها تقتضي تيقنه كل ما ذكرنا وعرف أولاً صحة وما أدرك بحواسه ثم انتجت له بعد ذلك سائر المعارف بمقدمات راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو بعد فكل ما ثبت عندنا ببرهان وإن كان بعيد الرجوع إلى ما ذكرنا فمعرفة النفس به اضطرارية لأنه لو رام جهده أن يزيل عن نفسه المعرفة بما ثبت عنده هذا الثبات لم يقدر فإذ هذا لا شك فيه فالمعارف كلها باضطرار إذ ما لم يعرف بيقين فإنما عرف بظن وما عرف ظناً فليس علماً ولا معرفة هذا ما لا شك فيه إلا أن يتطرق إلى طلب البرهان بطلب وهذا الطلب هو الاستدلال ولو شاء أن لا يستدل لقدر على ذلك فهذا الطلب وحده هو الاكتساب فقط وأما ما كان مدركاً بأول العقل وبالحواس فليس عليه استدلال اًلاً بل من قبل هذه الجهات يبتدي كل أحد بالاستدلال وبالرد إلى ذلك فيصح استدلاله أو يبطل وحد العلم بالشيء وهو المعرفة به أن نقول العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه به وارتفاع الشكوك عنه ويكون ذلك إما بشهادة الحواس وأول العقل وأما ببرهان راجع من قرب أو من بعد إلى شهادة الحواس أو أول العقل وإما بإنفاق وقع له في مصادفة اعتقاد الحق خاصة بتصديق ما افترض الله عز وجل عليه اتباعه خاصة دون استدلال وأما علم الله تعالى فليس محدوداً أصلاً ولا يجمعه مع علم الخلق حد فلا حس ولا شيء أصلاً وذهبت الأشعرية إلى أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حد واحد.
قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش إذ من الباطل أن يقع ما لم تزل النهايات وعلم الله تعالى ليس هو غير الله تعالى على ما بيننا قبل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: قالت طوائف منهم الأشعرية وغيرهم من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل لكن بتقليد أو تميل بإرادته فليس عالماً به ولا عارفاً به ولكنه معتقد له وقالوا كل علم ومعرفة اعتقاد وليس كل اعتقاد علماً ولا معرفة لأن العلم والمعرفة بالشيء إنما يعبر بهما عن تيقن صحته قالوا وتيقن الصحة لا يكون إلا ببرهان قالوا وما كان بخلاف ذلك فإنما هو ظن ودعوى لا تيقن بها إذ لو جاز أن يصدق قول بلا دليل لما كان قول أولى من قول ولكانت الأقوال كلها صحيحة على تضادها ولو كان ذلك لبطلت الأقوال ولبطلت الحقائق كلها لأن كل قول يبطل كل قول سواه فلو صحت الأقوال كلها لبطلت كلها لأنه لو كان يكون كل قول صادقاً في إبطاله ما عداه. قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق إن التسمية والحكم ليس إلينا وإنما هما إلى خالق اللغات وخالق الناطقين بها وخالق الأشياء ومرتبها كما شاء لا إله إلا هو قال عز وجل منكراً على من سمى من قبل نفسه " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم فنهي الله عز وجل كل أحد عن أن يقول ما ليس له به علم ووجدناه عز وجل يقول في غير موضع من القرآن " يا أيها الذين آمنوا " وقال تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا " وقال تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فأخوانكم في الدين " فخاطب الله تعالى بهذه النصوص وبغيرها وكذلك رسول الله ﷺ كل مؤمن في العالم إلى يوم القيامة وبيقين ندري أنه قد كان في المؤمنين على عهده عليه السلام ثم من بعده عصراً عصراً إلى يوم القيامة المستدل وهم الأقل وغير المستدل كمن أسلم من الزنج ومن الروم والفرس والآماء وضعفة النساء والرعاة ومن نشأ على الإسلام بتعليم أبيه أو سيده إياه وهم الأكثر والجمهور فسماهم عز وجل مؤمنين وحكم لهم بحكم الإسلام وهذا كله معروف بالمشاهدة والضرورة وقال تعالى " آمنوا بالله ورسوله " وقال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويؤمنوا بما أرسلت به فصح يقيناً أنهم كلهم مأمورون بالقول بجميع ما جاء به النبي ﷺ وأن كل من صد عنه فهو كافر حلال دمه وماله فلو لم يؤمن بالقول بالإيمان إلا من عرفه من طريق الاستدلال لكان كل من لم يستدل ممن ذكرنا منهياً عن اتباع الرسول ﷺ وعن القول بتصديقه لأنه عند هؤلاء القوم ليسوا عالمين بذلك وهذا خلاف القرآن وسنة رسول الله ﷺ واجتماع الأمة المتيقن أما القرآن والسنة فقد ذكرناهما وأما إجماع الأمة فمن الباطل المتيقن أن يكون الاستدلال فرضاً لا يصح أن يكون أحد مسلماً إلا به ثم يغفل الله عز وجل أن يقول لا تقبلوا من أحد أنه مسلم حتى يستدل أتراه نسي تعالى ذلك أو تعمد عز وجل ترك ذكر ذلك إضلالاً لعباده وبترك ذلك رسوله ﷺ إما عمداً أو قصداً إلى الضلال والإضلال أو نسياناً لما اهتدى له هؤلاء ونبهوا إليه وهم من هم بلادة وجهلاً وسقوطاً هذا لا يظنه إلا كافر ولا يحققه إلا مشرك فما قال قط رسول الله ﷺ لأهل قرية أو حلة أو حي ولا لراع ولا لراعية ولا للزنج ولا للنساء لا أقبل إسلامكم حتى أعلم المستدل من غيره فإذا لم يقل عليه السلام ذلك فالقول به واعتقاده افك وضلال وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر استدلال ثم هكذا جيلاً فجيلاً حتى حدث من لا قدر له فإن قالوا قد قال الله عز وجل " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " قلنا نعم وهذا حق وإنما قاله الله عز وجل لمن خالف الحق الذي أمر عز وجل الجن والأنس باتباعه وهكذا القول إن كل من قال قولاً خالف فيه ما أمر الله عز وجل باتباعه فسواء استدل بزعمه أو لم يستدل هذا مبطل غير معذور إلا من عذره الله عز وجل فيما عذره فيه كالمجتهدين من المسلمين يخطأ قاصداً إلى الحق فقط ما لم يقم عليه الحجة فيعاند وأما من اتبع الحق فما كلفه الله عز وجل قط برهاناً والبرهان قد ثبت بصحة كل ما أمر الله تعالى به فسواء علمه فتبع الرسول ﷺ بعلمه حسبه أنه عالم بالحق معتقد له موقن به وإن جهل برهانه الذي قد علمه غيره وهذا خلق الله عز وجل الإيمان والعلم في نفسه كما خلقه في نفس المستدل ولا فرق قال تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً " فسماهم داخلين في دينه وإن كانوا أفواجاً وما شرط الله عز وجل قط ولا رسوله ﷺ أن يكون ذلك باستدلال بل هذا شرط من شرط ذلك ممن قذفه إبليس في قلبه وعلى لسانه ليخرجه إلى تكفير الأمة ولا عجب أعجب من اطباق هذه الطائفة الضالة المخذولة على أنه لا يصح لأحد إيمان حتى يستدل على ذلك ولا يصح لأحد استدلال حتى يكون شاكا في نبوة محمد ﷺ غير مصدق بها فإذا كان ذلك صح له الاستدلال وإلا فليس مؤمناً فهل سمع أحمق أو أدخل في الحمق والكفر من قول من قال لا يؤمن أحد حتى يكفر بالله تعالى وبالرسول ﷺ وإن من آمن بهما ولم يكفر بهما قط فهو كافر مشرك نبرأ إلى الله تعالى من كل من قال بهذا.
قال أبو محمد: فهذان طريقان لا ثالث لهما كل طريق منها تنقسم قسمين أحدهما من اتبع الذي أمره الله عز وجل باتباعه وهو رسول الله ﷺ فهذا مؤمن عالم حقاً سواء استدل أو لم يستدل لأنه فعل ما أمره الله تعالى به ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما من لم يتبع قط غيره عليه الصلاة والسلام ووافق الحق بتوفيق الله عز وجل فهذا له في كل عقد اعتقده أجران وأما أن يكون حرم موافقه الحق وهو مريد في أمره ذلك اتباع رسول الله ﷺ فهذا معذور مأجور أجراً واحداً ما لم تقم عليه الحجة فيعاندها وهذا نص قوله عليه السلام في الحاكم المجتهد المصيب والمخطي والطريق الثاني من اتبع غير الذي أمره الله باتباعه فهذا سواء استدل أو لم يستدل هو مخطي ظالم عاص لله تعالى وكافر على حسب ما جاءت به الديانة في أمره ثم ينقسم هؤلاء قسمين أحدهما أصاب ما جاء به رسول الله ﷺ وهو غير قاصد إلى اتباعه عليه الصلاة والسلام فيه والآخر لم يصبه فكلاهما لا خير فيه وكلاهما آثم غير مأجور وكلاهما عاص لله عز وجل أو كافر على حاسب ما جاءت به الديانة من أمره لأنهما جميعاً تعديا حدود الله عز وجل فيما أمرهم به من اتباع رسول الله ﷺ وقال تعالى " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ولا ينتفع بإصابته الحق إذ لم يصبه من الطريق التي لم يجعل الله طلب الحق وأخذه إلا من قبلها وقد علمنا أن اليهود والنصارى يوافقون الحق في كثير كإقرارهم بنبوة موسى عليه السلام وكتوحيد بعضهم لله تعالى فما انتفعوا بذلك إذ لم يعتقدوه اتباعاً لرسول الله ﷺ وكذلك من قلد فقيهاً فاضلاً دون رسول الله ﷺ وكان عقده أنه لا يتبع رسول الله ﷺ إلا إن وافق قوله قول ذلك الفقيه فهذا فاسق بلا شك إن فعله غير معتقد له وهو كافر بلا شك إن اعتقده بقلبه أو نطق به بلسان لمخالفته قول الله تعالى " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " فنفي الله عز وجل عن أهل هذه الصفة الإيمان وأقسم على ذلك ونحن ننفي ما نفي الله عز وجل عمن نفاه عنه ونقسم على ذلك ونوقن أننا على الحق في ذلك وأما من قلد فقيهاً فاضلاً وقال إنما اتبعه لأنه اتبع رسول الله ﷺ فهذا مخطي لأنه فعل من ذلك ما لم يأمره الله تعالى به ولا يكفر لأنه قاصد إلى اتباع رسول الله ﷺ مخطي للطريق في ذلك ولعله مأجور بنيته أجراً واحداً ما لم تقع الحجة عليه بخطاء فعله فإن ذكروا قول رسول الله ﷺ في حديث فتنة القبر وأما المنافق أو المرتاب فإنه يقال له ما قولك في هذا الرجل يعني رسول الله ﷺ فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
قال أبو محمد: هذا حق على ظاهره كما أخبر رسول الله ﷺ أنه لا يقول هذا إلا المنافق أو المرتاب لا المؤمن الموقن بل المؤمن الموقن ذكر في هذا الحديث أنه يقول هو عبد الله ورسوله أتانا بالهدى والنور أو كلاماً هذا معناه فإنما أخبر عليه السلام عن موقن ومرتاب لا عن مستدل وغير مستدل وكذلك نقول أن من قال في نفسه أو بلسانه لولا أني نشأت بين المسلمين لم أكن مسلماً وإنما اتبعت من نشأت بينهم فهذا ليس مؤمناً ولا موقناً ولا متبعاً لمن أمره الله تعالى باتباعه بل هو كافر.
قال أبو محمد: وإذا كان قد يستدل دهره كله من لا يوفقه الله تعالى للحق وقد يوفق من لا يستدل يقيناً لو علم أن أباه أو أمه أو ابنه أو امرأته أو أهل الأرض يخالفونه فيه لاستحل دماءهم كلهم ولو خير بين أن يلقي في النار وبين أن يفارق الإسلام لاختار أن يحرق بالنار على أن يقول مثل هذا قلنا فإذ هو موجود فقد صح أن الاستدلال لا معنى له وإنما المدار على اليقين والعقد فقط وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإنما يضطر إلى الاستدلال من نازعته نفسه غليه ولم يسكن قلبه إلى اعتقاد ما لم يعرف برهانه فهذا يلزمه طلب البرهان حينئذ ليقي نفسه ناراً وقودها الناس والحجارة فإن مات شاكا قبل أن يصح عنده البرهان مات كافراً مخلداً في النار أبداً.
قال أبو محمد: ثم نرجع إلى ما كنا فيه هل المعارف باضطرار أم باكتساب فنقول وبالله تعالى التوفيق أن المعلوات قسم واحد وهو ما عقد عليه المرء قلبه وتيقنه ثم هذا ينقسم قسمين أحدهما حق في ذاته قد قام البرهان على صحته والثاني لم يقم على صحته برهان وأما ما لم يتيقن المرء صحته في ذاته فليس عالماً به ولا له به علم وإنما هو ظان له وأما كل ما علمه المرء ببرهان صحيح فهو مضطر إلى علمه به لأنه لا مجال للشك فيه عنده وهذه صفة الضرورة وأما الاختيار فهو الذي إن شاء المرء فعله وإن شاء تركه.
قال أبو محمد فعلمنا بحدوث العالم وأن له بكل ما فيه خالقاً واحداً لم يزل لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء والعلم بصحة نبوة محمد ﷺ وصحة كل ما أتى به مما نقله إلينا الصحابة كلهم رضي الله عنهم ونقله عنهم الكواف كافة بعد كافة حتى بلغ إلينا أو نقله المتفق على عدالته عن مثله وهكذا حتى بلغ إلى رسول الله ﷺ فهو كله علم حق متيقن مقطوع على صحته عند الله تعالى لأن الأخذ بالظن في شيء من الدين لا يحل قال الله تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئاً " وقال رسول الله ﷺ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وقال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فصح أن الدين محفوظ لما ضمن الله عز وجل حفظه فنحن على يقين أنه لا يجوز أن يكون فيه شك وقد أمر الله تعالى بقبول خبر الواحد العدل ومن المحال أن يأمر الله عز وجل بأن نقول عليه ما لم يقل وهو قد حرم ذلك أو أن نقول عليه ما لا نعلم أنه تعالى قد حرم ذلك بقوله " وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون " فكل ما أمرنا الله عز وجل بالقول به فنحن على يقين من أنه من الدين وأن الله تعالى قد حماه من كل دخل وكذلك أخذنا بالزايد من الاثنين المتعارضين ومن الخبرين الثابتين المتعارضين وقد علمنا صحة أن الحق في فعلنا ذلك علم ضرورة متيقن ولا أعجب ممن يقول أن خبر الواحد لا يوجب العلم وإنما هو غالب ظن ثم نقطع به ونقول أنه قد دخلت في الدين دواخل لا تميز من الحق وأنه لا سبيل إلى تمييز ما أمر الله تعالى به في الدين مما شرعه الكذابون هذا أمر نعوذ بالله منه ومن الرضاء به.
قال أبو محمد: وأما ما اجتمعت عليه الجماعات العظيمة من أرايهم مما لم يأت به نص عن الله عز وجل ولا عن رسول الله ﷺ فهو باطل عند الله بيقين لأنه شرع في الدين ما لم يأذن به الله عز وجل وقال على الله تعالى ما لم يقله وبرهان ذلك أنه قد يعارض ذلك قول آخر قال ته جماعات مثل هذه والحق لا يتعارض والبرهان لا يناقضه برهان آخر وقد تقصينا هذا في كتابنا المرسوم الأحكام في أصول فأغني عن ترداده والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فكل من كان من أهل الملل المخالفة فبلغته معجزات النبي ﷺ وقامت عليه البراهين في التوحيد فهو مضطر إلى الإقرار بالله تعالى وبنبوة محمد ﷺ وكذلك كل من قام على شيء ما أي شيء كان عنده برهان ضروري صحيح وفهمه فهو مضطر إلى التصديق به سواء كانت من الملل أو من النحل أو من غير ذلك وإنما أنكر الحق في ذلك أحد ثلاثة إما غافل معرض عما صح عنده من ذلك مشتغل عنه بطلب معاشه أو بالتزيد من مال أو جاه أو صوت أو لذة أو عمل يظنه صلاحاً أو إيثاراً للشغل بما يتبين له من ذلك عجزاً وضعف عقل وقلة تمييز لفضل الإقرار بالحق أو مسوف نفسه بالنظر كحال كل طبقة من الطبقات الذين نشاهدهم في كل مكان وكل زمان وأما مقلد لأسلافه أو لمن نشأ بينهم قد شغله حسن الظن بمن قلد أو استحسانه لما قلد فيه وغمر الهوى عقله عن التفكير فيما فهم من البرهان قد حال ما ذكرناه بينه وبين الرجوع إلى الحق وصرف الهوى وناظر قلبه عن التفكير فيما يتبين له من البرهان ونفر عنه وأوحشه منه فهو إذا سمع برهاناً ظاهراً لا مدفع فيه عنده ظنه من الشيطان وغالب نفسه حتى يعرض عنه وقالت له نفسه لا بد أن هاهنا برهاناً يبطل به هذا البرهان الذي أسمع وإن كنت أنا لا أدريه وهل خفي هذا على جميع أهل ملتي وأهل نحلتي أو مذهبي أو على فلان وفلان وفلان ولا بد أنه قد كان عندهم ما يبطلون به هذا.
قال أبو محمد: وهذا عام في أكثر من يظن أنه عالم في كل ملة وكل نحلة وكل مذعب وليس واحد من هاتين الطائفتين إلا والحجة قد لزمته وبهرته ولكنه غلب وساوس نفسه وحماقاتها على الحقايق اللايحة له ونصر ظنه الفاسد على يقين قلبه الثابت وتلاعب الشيطان به وسخر منه فأوهمه لشهوته لما هو فيه أن هاهنا دليلاً يبطل به هذا البرهان وأنه لو كان فلان حياً أو حاضراً لأبطل هذا البرهان وهذا أعظم ما يكون من السخافة لما لا يدري ولا سمع به وتكذيب لما صح عنده وظهر إليه ونعوذ بالله من الخذلان والثالث منكر بلسانه ما قد تيقن صحته بقلبه إما استدامة لرياسة أو استدرار مكسب أو طمعاً في أحدهما لعله يتم له أو لا يتم ولو تم له لكان خاسر الصفقة في ذلك أو أثر غروراً ذاهباً عن قريب على فوزاً لا بد أو يفعل ذلك خوف أذى أو عصبية لمن خالف ما قد قام البرهان عنده أو عداوة لقايل ذلك القول الذي قام به عنده البرهان وهذا كله موجود في جمهور الناس من أهل كل ملة وكل نحلة وأهل قال أبو محمد: ويقال لمن قال ممن ينتمي إلى الإسلام أن المعارف ليست باضطرار وإن الكفار ليسوا مضطرين إلى معرفة الحق في الربوبية والنبوة وأخبرونا عن معجزات الأنبياء عليهم السالم هل رفعت الشك جملة عن كل من شاهدها وحسمت عللها وفصلت بين الحق والباطل فصلاً تاماً أم لا فإن قالوا نعم أقروا بأن كل من شاهدها مضطر إلى المعرفة بأنها من عند الله تعالى حق شاهد بصدق من أتى بها ورجعوا إلى الحق الذي هو قولنا ولله الحمد وأن قالوا لا بل الشك باق فيها ويمكن أن تكون غير شاهدة بأنهم محقون قطع بأن الأنبياء عليهم السلام لم يأتوا ببرهان وإن الشك باق في أمرهم وأن حجة الله تعالى لم تقع على الكفار ولا لزمهم قط له تعالى حجة وأن الأنبياء عليهم السلام إنما أتوا بشيء ربما قام في الظن أنه حق وربما لم يقم وهذا كفر مجرد من دان به أو قاله وهكذا نسألهم في البراهين العقلية على آيات التوحيد وفي اكواف الناقلة أعلام الأنبياء عليهم السلام حتى يقروا بالحق بأن حجج الله تعالى بكل ما ظهرت وبهرت واضطرت الكفار كلهم إلى تصديقها والمعرفة بأنها حق أو يقولوا أنه لم تم لله حجة على أحد ولا تبين قط لأحد تعين صحة نبوة محمد ﷺ وإنما نحن في الإقرار بذلك على ظن إلا أنه من الظنون قوي وقد يمكن أن يكون بخلاف ذلك ومن قال بهذا فهو كفر مجرد محض شرك لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: ومن أنكر أن يكون الكفار وكل مبطل مضطرين إلى تصديق كل ما قام به برهان بعد بلوغه إليهم وقال أن ما اضطر المرء إلى معرفته فلا سبيل له إلى إنكاره أريناه كذب قوله في تكوين الأرض والأفلاك ومدار الشمس والقمر والنجوم وتناهي مسافة كل ذلك وأكثر الناس على إنكار هذا ودفعه الحق في ذلك وكذلك من دان بالقياس والرأي أو دليل الخطاب وسمع البراهين في إبطالها فهو مضطر إلى معرفة بطلان ما هو عليه مكابر لعقله في ذلك مغالط لنفسه مغالب ليقينه مغلب لظنونه.
قال أبو محمد: وعلم الملائكة عليهم السلام وعلم النبيين عليهم السلام بصحة ما جاءتهم به الملائكة وأوحي إليهم به وأروه في منامهم علم ضروري كساير ما أدركوه بحواسهم وأوايل عقولهم وكعلمهم بأن أربعة أكثر من اثنين وأنا النار حارة والبقل أخضر وصوت الرعد وحلاوة العسل ونتن الحلتيت وخشونة القنفذ وغير ذلك ولو لم يكن الأمر كذلك لكان عند الملائكة والنبيين شكاً في أمرهم وهذا كفر ممن أجازه إلا أن الملائكة لا علم لهم بشيء إلا هكذا ولا ظن لهم أصلاً لأنهم لا يخطئون ولا ركبوا من طبايع متخالفة كما ركب الإنسان فإن قال قائل فإذ العلم كله باضطرار فعل الله تعالى في النفوس فكيف يوجر الإنسان أو يعذب على فعل الله تعالى فيه قلنا نعم لا شيء في العالم إلا خلق الله تعالى وقد صحح البرهان بذلك على ما أوردنا في كلامنا في خلق الأفعال في ديواننا والحمد لله رب العالمين وما نقل حافظ نصاً ولا برهان عقل بالمنع من أن يعذبنا الله تعالى ويؤجرنا على ما خلق فينا والله تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهو يسألون.
قال أبو محمد: وكيف ينكر أهل الغفلة أن يكون قوم يخالفون ما هم إلى المعرفة به مضطرون وهم يشاهدون السوفسطائية الذين يبطلون الحقائق جملة وكما يعتقد النصارى وهم أمم لا يحصي عددهم إلا خالقهم ورازقهم ومضلهم لا إله إلا هو وفيهم علماء بعلوم كثيرة وملوك لهم التدابير الصائبة والسياسات المعجبة والآراء المحكمة والفطنة في دقائق الأمور وبرص بغوامضها وهم مع ذلك يقولون أن واحداً ثلاثة وثلاثة واحد وأن أحد الثلاثة أب والثاني ابن والثالث روح وأن الأب هو الابن وليس هو الابن والإنسان هو الإله وهو غير إله وإن المسيح إله تام وإنسان تام وهو غيره وإن الأول الذي لم يزل هو الحدث الذي لم يكن ولا هو هو.
قال أبو محمد: وليس في الجنون أكثر من هذا واليعقوبية منهم وهم مئين ألوف يعتقدون أن الباري تعالى عن كفرهم ضرب بالسياط واللطام وصلب ونحر ومات وسقى الحنظل وبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر وكأصحاب الحلول وغالية الرافضة الذين يعتقدون في رجل جالس معهم كالحلاج وابن أبي العز أنه الله والإله عندهم قد يبول ويسلح ويجوع فيأكل ويعطش فيشرب ويمرض فيسوقون إليه الطبيب ويقلع ضرسه إذا ضرب عليه ويتضرر إذا أصابه دمل ويجامع ويحتجم ويفتصد وهو الله الذي لم يزال ولا يزال خالق هذا العالم كله ورازقه ومحصيه ومدبره ومدبر الأفلاك المميت المحيي العالم بما في الصدور ويصبرون في جنب هذا الاعتقاد على السجود والمطابق وضرب السياط وقطع الأيدي والأرجل والقتل والصلب وهتك الحريم وفيهم قضاة وكتاب وتجاورهم اليوم ألوف وكما يدعي طوائف اليهود وطوائف من المسلمين أن ربهم تعالى جسد في صورة الإنسان لحم ودم يمشي ويقعد كالأشعرية الذين يقولون أن هاهنا أحوالاً لا مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا معلومة ولا مجهولة ولا حق ولا باطل وأن النار ليست حارة والثالج ليس بارداً وكما يقول بعض الفقهاء وأتباعه أن رجلاً واحداً يكون ابن رجلين وابن امرأتين كل واحد منهما أمه وهو ابنها بالولادة.
قال أبو محمد: أترى كل من ذكرنا لا تشهد نفسه وحسه ولا يقر عقله بأن كل هذا باطل بلى والذي خلقهم ولكن العوارض التي ذكرنا قبل سهلت عليهم هذا الاختلاط وكرهت عليهم الرجوع إلى الحق والإذعان له.
قال أبو محمد: وأما العناد فقد شاهدناه من كل رأيناه في المناظرة في الدين وفي المعاملات في الدنيا أكثر من أن يحصي ممن يعلم الحق يقيناً ويكابر على خلافه ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله قال أبو محمد: لا يدرك الحق من طريق البرهان إلا من صفى عقله ونفسه من الشواغل التي قدمنا ونظر من الأقوال كلها نظراً واحداً واستوت عنده جميع الأقوال ثم نظر فيها طالباً لما شهدت البراهين الراجعة رجوعاً صحيحاً غير مموه ضرورياً إلى مقدمات مأخوذة من أوايل العقل والحواس غير مسامح في شيء من ذلك فهذا مضمون له بعون الله عز وجل الوقوف على الحقائق والخلاص من ظلمة الجهل وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما نقله اثنان فصاعداً نوقن أنهما لم يجتمعا ولا تساررا فأخبرا بخبر واحد راجع إلى ما أدركه بالحواس من أي شيء كان فهو حق بلا شك مقطوع على حيته والنفس مضطرة إلى تصديقه وهذا قول أحد الكافة وأولها إذ لا يمكن البتة اتفاق اثنين في توليد حديث واحد لا يختلفان فيه عن غير تواطؤ وأما إذا تواطأت الجماعة العظيمة فقد تجتمع على الكذب وقد شاهدنا جماعات يشكرون ولاتهم وهم كاذبون إلا أن هذا لا يمكن أن يتفقوا على ظنه أبداً ومن أنكر ما تنقله الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر.
قال أبو محمد: وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه كمتذر بموت إنسان لدفنه وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد وككتاب وارد من صديق بديهة وكمخبر يخبرك أن هذا دار فلان وكمنذر بعرس عند فلان وكرسول من عند القاضي والحاكم وسائر ذلك من أخبار بأن هذا فلان بن فلان ومثل هذا كثير جداً وهذا لا ينضبط بأكثر مما يسمع ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعاً حتى يشاهد في منزله وخارج منزله من خبر واحد ما يضطر إلى تصديقه ولا بد كثيراً جداً وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم وبرهان شرعي قد ذكرناه في كتابنا الأحكام لأصول الأحكام وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ولا برهان على هذا وقال النظام أن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليه الغلط والكذب وكذلك يجوز على جميعهم ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ونظر ذلك بأعمى وأعمى وأعمي فلا يجوز أن يجتمع مبصرون.
قال أبو محمد: وهذا تنظير فاسد لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر وليس كذلك المخبرون لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب كذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعداً إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ولا بالملوك السالفين ولا بالأنبياء وهذا خروج إلى الجنون بلا شك أو إلى المكابرة في الحس وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل كيف أجزتم ههنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ومنعتم من ذلك في أفعال االفاعلين عند ذكركم الاستطاعة وخلق الله تعالى أفعال العباد وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في عباده قلنا أن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه وممكن منه ذلك وليس ممكناً منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه حق فهكذا أوقعناها هنا اسم الاضطرار ومنعنا منه هنالك وبالله تعالى نتأيد.
الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعنى هذا أنه لا يمكن نصر مذهب على مذهب ولا تغليب مقالة على مقالة حتى يلوح الحق من الباطل ظاهراً بيناً لا إشكال فيه بل دلائل كل مقالة فهي مكافئة لدلائل سائر الم قال ات وقالوا كلما ثبت بالجدل فإنه بالجدل ينقض وانقسم هؤلاء إلى أقسام ثلاثة فيما أنتجه لهم هذا الأصل فطائفة قالت بتكافؤ الأدلة جملة في كل ما اختلف فيه فلم تحقق الباري تعالى ولا أبطلته ولا أثبتت النبوة ولا أبطلتها وهكذا في جميع الأديان والأهواء لم تثبت شيئاً من ذلك ولا أبطلته إلا أنهم قالوا إننا نوقن أن قال أبو محمد: وكان إسماعيل بن يونس الأعور الطبيب اليهودي تدل أقواله ومناظراته دلالة صحيحة على أنه كان يذهب إلى القول لاجتهاده في نصر هذه المقالة وإن كان غير مصرح بأنه يعتقدها وقالت طائفة أخرى بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري تعالى فأثبتت الخالق تعالى وقطعت بأنه حق لكل ما دونه بيقين لا شك فيه ثم لم تحقق النبوة ولا أبطلتها ولا حققت دين ملة ولا أبطلته لكن قالت أن هذه الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك إلا أنه غير ظاهر إلى أحد ولا بين ولا كلفه الله تعالى أحداً وكان إسماعيل بن القراد الطبيب اليهودي يذهب إلى هذا القول يقيناً وقد ناظرنا عليه مصرحاً به وكان يقول إذا دعوناه إلى الإسلام وحسمنا شكوكه ونقضنا علله الانت قال في الملل تلاعب.
قال أبو محمد: وقد ذكر لنا عن قوم من أهل النظر والرياسة في العلم هذا القول إلا أننا لم يثبت ذلك عندنا عنهم وطائفة قالت بتكافؤ الأدلة فيما دون الباري عز وجل ودون النبوة فقطعت أن الله عز وجل حق وأنه خالق وأن النبوة حق وأن محمداً رسول الله ﷺ حقاً ثم لم يغلب قولاً من أقوال أهل القبلة على قول بل قالوا أن فيها قولاً هو الحق بلا شك إلا أنه غير بين إلى أحد ولا ظاهر وأما الأقوال التي صاروا إليها فيما يثبتوا عليها منها فطائفة لزمت الحيرة وقالت لا ندري ما نعتقد ولا يمكننا أخذ مقالة لم يصح عندنا دون غيرها فنكون مغالطين لأنفسنا مكابرين لعقولنا لكنا لا ننكر شيئاً من ذلك ولا نثبته وجمهور هذه الطائفة مالت إلى اللذات وأمراح النفوس في الشهوات كيف ما مالت إليه بطبايعها وطايفة قالت على المرء فرض لموجب العقل ألا يكون سداً بل يلزمه ولا بد أن يكون له دين يرد جربه عن الظلم والقبائح وقالوا من لا دين له فهو غير مأمور في هذا العالم على الإساد وقتل النفوس غيلة وجهراً وأخذ الأموال خيانة وعصياً والتعدي على الفروج تحيلاً وعلانية وفي هذا هلاك العالم بأسره وفساد البنية وانحلال النظام وبطلان العلوم والفضايل كلها التي تقتضي العلوم بلزومها وهذا هو الفساد الذي توجب العقول التحرز منه واجتنابه قالوا فمن لا يدن له فواجب على كل من قدر على قتله أن يسارع إلى قتله وإراحة العالم منهوتعجيل استكفاف ضره لأنه كالأفعى والعقرب أو أضر منهما ثم انقسم هؤلاء قسمين فطايفة قالت فإذ الأمر كذلك فوجب على الإنسان لزوم الدين الذي نشأ عليه أو ولد عليه لأنه هو الدين الذي تخيره الله له في مبدأ خلقه ومبدأ نشئته بيقين وهو الذي أثبته الله عليه فلا يحل له الخروج عما رتبه الله تعالى فيه وابتداه عليه أي دين كان وهذا كان قول إسماعيل بن القداد وكان يقول من خرج من دين إلى دين فهو وقاح متلاعب بالأديان عاص لله عز وجل المتعبد له بذلك الدين وكان يقول بالمسألة الكلية ومعنى ذلك ألا يبقى أحد دون دين يعتقده على ما ذكرنا آنفاً وقالت طائفة لا عذر للمرء في لزوم دين أبيه وجده أو سيده وجاره ولا حجة له فيه لكن الواجب على كل أحد أن يلزم ما اجتمعت الديانات بأسرها والعقول بكليتها على صحته وتفضيله فلا يقتل أحداً ولا يزني ولا يلوط ولا يبغ ولا يسع في إفساد حرمة أحد ولا يسرق ولا يغصب ولا يظلم ولا يجر ولا يجن ولا يغش ولا يغتب ولا ينم ولا يسفه ولا يضرب أحداً ولا يستطيل عليه ولكن يرحم الناس ويتصدق ويؤدي الأمانة ويؤمن الناس شره ويعين المظلوم ويمنع منه فهذا هو الحق بلا شك لأنه المتفق عليه من الديانات كلها ويتوقف عما اختلفوا فيه ليس علينا غير هذا لأنه لم يلح لنا الحق في شيء منه دون غيره.
قال أبو محمد: فهذه أصولهم ومعاقدهم وأما احتجاجهم في ذلك فهو أنهم قالوا وجدنا الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن الأوايل وبراهين باهرة وكل طائفة منها تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة نظر المناظر وقدرته على البيان والتحلل والتشعب لهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم قالوا فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلية ولو كان لما أشكل على أحد ولم يختلف الناس في ذلك كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لايح قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إماماً نشأت عليه وإماماً يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه وقالوا أيضاً إنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا فيها ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة وبأنهم قد اشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزوه من الشغب والإقناع ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وأفنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلايل الصحاح وميزوها من الفاسدة وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطق بالحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جميع هاتين الطائفتين فلسفيهم وكلاميهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافاً فمن يهودي يموت على يهدويته ونصراني يتهالك على نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته ومسلم يستقتل في إسلامه ومناني يستهلك في مانونيته ودهري ينقطع في دهريته قد استوى العامى المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتلكم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضاً كذلك سواء سواء فإن كان يهودياً فاما رباني يتقد غيظاً على سائر فرق دينه وأما صابئي يلعن سائر فرق دينه وأما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه وأما سامري يبرأ من سائر فرق دينه وإن كان نصرانياً فإما ملكي يتهالك غيظاً على سائر فرق دينه وأما نسطوري يقد أسفاً على سائر فرق دينه وأما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه وإن كان مسلماً فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته وأما معتزلي يكفر سائر فرق ملته وأما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته وأما مرجئي لا يرضى عن سائر فرق ملته وأما سني ينافر فرق ملته قد استوى في ذلك العامي والمقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا إما حنيفي يجادل عن حنيفيته وإما مالكي يقاتل عن مالكيته وإما شافعي يناضل عن شافعيته وإما حنبلي يضارب عن حنبليته وإما ظاهري يحارب عن ظاهريته وإما متحير مستدل فهنالك جاء التحازب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة وكل امرئ ممن ذكرنا يزرى على الآخرين وكلهم يدعي أنه أشرف على الحقيق وهكذا القائلون بالدهر أيضاً متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم فمن موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلاً لم يزل ومن موجب أزلية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدث ومن موجب أزلية الفاعل وحدوث العالم أمبطل للنبوات كلها كما اختلف سائر أهل النحل أو لا فرق قالوا فصح أن جميعهم إما متبع للذي نشأ عليه والنحلة التي تربي عليها وإما متبع لهواه قد تخيل له أنه الحق فهم على ما ذكرنا دون تحقيق قالوا فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ولبان على طول الأيام وكرور الزمان ومرور الدهور وتداول الأجيال له وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم وإفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس واستنفاذ وسعهم وجهدهم أين الحق فيرتفع الإشكال بل الأمر واقف بحسبه أو متزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق قالوا وأيضاً فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل المتيقن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج المستنفذ لعمره في طلب الحقائق المؤثر للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاه المستفرغ لقوته في ذلك النافر عن التقليد يعتقد مقالة ما ويناظر عنها ويحاجج دونها ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجداً في ذلك موقناً بصوابه وخطأ من خالفه منافراً له مضللاً أو مكفراً فيبقى كذلك الدهر الطويل والأعوام الجمة ثم أنه تبدو له بادية عنها فيرجع أشد ما كان عداوة لما كان ينصر ولا هل تلك المقالة التي كان يدين بصحتها وينصرف يقاتل في إبطالها ويناظر في إفسادها ويعتقد من ضلالها وضلال أهلها الذي كان يعتقد من صحتها ويعجب الآن من نفسه أمس وربما عاد إلى ما كان عليها أو خرج إلى قول ثالث قالوا فدل هذا على فساد الأدلة وعلى تكافؤها جملة وإن كل دليل فهو هادم الآخر كلاهما يهدم صاحبه وقالوا أيضاً لا يخلو من حقق شيئاً من هذه الديانات أو الم قال ات من أن يكون صح له أو لم يصح له ولا سبيل إلى قسم ثالث قالوا فإن كان لم يصح له بأكثر من دعواه أو من تقليده مدعياً فليس هو أولى من غيره بالصواب وإن كان صح له فلا يخو من أن يكون صح بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته أو صح له بدليل ما غير هذين ولا سبيل إلى قسم رابع فإن كان صح له بالحواس أو ببعضها أو بضرورة العقل وبديهته فيجب أن لا يختلف في ذلك أحد كما لم يختلفوا فيما أدرك بالحواس وبديهة العقل من أن ثلثة أكثر من اثنين وأنه لا يكون المرء قاعداً قائماً معاً بالعقل فلم يبق إلا أن يقولوا أنه صح لنا بدليل غير الحواس فنسألهم عن ذلك الدليل بماذا صح عندكم بالدعوى فلستم بأولى من غيركم في دعواه أم بالحواس ويدهة العقل فكيف خولفتم فيه هذا ولا يختلف في مدركاته أحد أم بدليل غير ذلك وهكذا أبداً إلى ما لا نهاية له قالوا وهذا ما لا مخلص لهم منه قالوا ونسألهم أيضاً عن علمهم بصحة ما هم عليه أيعلمون أنهم يعلمون ذلك أم لا فإن قالوا لا نعلم ذلك أحالوا وسقط قولهم وكفونا مؤونتهم لأنهم يقرون أنهم لا يعلمون أنهم يعلمون ما علموا وهذا هوس وإفساد لما يعتقدونه وإن قالوا بل نعلم ذلك سألناهم أبعلم علموا ذلك أم بغير علم وهكذا أبداً وهذا يقتضي أن يكون للعلم علم ولعلم العلم علم إلى ما لا نهاية له وهذا عندهم محال.
قال أبو محمد: هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شغباً غير ما ذكرنا ولا لهم متعلق سواه أصلاً قال أبو محمد: وكل هذا الذي موهوا به منحل بيقين ومنتقض بأبين برهان بلا كثير كلفة ولم نجد أحداً من المتكلمين السالفين أورد باباً خالصاً في النقض على هذه المقالة ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما موهوا به بالبراهين الواضحة وبالله تعالى التوفيق وذلك بعد أن نبين فساد معاقد هذه الطوائف المذكورة إن شاء الله عز وجل.
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى نتأيد أما الطائفة المتحيرة فقد شهدت على أنفسها بالجهل وكفت خصومها مؤنتها في ذلك وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا من لم يتبين له الشيء غباراً على من تبين له بل من علم فهو الحجة على من جهل هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفع علمت أن كل أحد جاهل به كجهلي وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس نعم ومن لا يتحجج فيه ولا يفهمه وإن طلبه هذا أمر مشاهد بالحواس فهم قد أقروا بالجهل وندعي نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوه نظراً صحيحاً متقصي بغير هوى فلا بد يقيناً من أن يلوح حقيقة قول المحق وبطلان قول المبطل فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ فسقطت هذه المقالة بيقين والحمد لله رب العالمين.
وأما من قطع بأن ليس هاهنا مذهب صحيح أصلاً فإن قوله ظاهر الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم أثبتوا حقيقة وجود العالم بما فيه وحقيقة ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معاً ولم يصححوا أن له خالقاً ولا أنه لا خالق له وأبطوا كلا الأمرين وأبطوا النبوة وأبطوا إبطالها فقد خرجوا يقيناً إلى المحال وإلى أقبح قول السوفسطائية وفارقوا بديهة العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكة عقل في أن كل ما لم يكن حقاً فهو باطل وما لم يكن باطلاً فإنه حق وإن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد قال نعم والآخر لا فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته وأما قول قائل هذا حق باطل معاً من وجه واحد في وقت واحد وقول من قال لا حق ولا باطل فهو بين باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته فواجب بإقرارهم أن من قال أن العالم لم يزل وقال الآخر هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها فظهر بيقين وضرورة العقل يقيناً فساد هذه المقالة إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تلك به السوفسطائية مما ذكرناه قبل وبالله تعالى التوفيق وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقيناً أنه على ضلال وخطأ وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه إلى الإنهماك وإذا بطل شيء بيقين فبيقين قد بطل ما تولد منه وإن مال إلى أحد الأقوال الآخر فكلها مبطل للزوم اللذات والإنهماك فصح ضرورة بطلان هذه الطريقة وإن صار إلى تحقيق الدهرية كلم بما تلكم به الدهرية مما قد أوضحناه والحمد لله وأما من قال بإلزام المرء دين سلفه والدين الذي نشأ عليه فخطأ لا خفاء به لأننا نقول لمن قال بوجوب ذلك ولزومه أخبرنا من أوجبه ومن ألزمه فالإيجاب والإلزام يقتضي فاعلاً ضرورة ولا بد منها فمن ألزم ما ذكرتم من أن يلزم المرء دين سلفه أو الدين الذي نشأ عليه الله ألزم ذلك جميع عباده أم غير الله تعالى أوجب ذلك إما إنسان وإما عقل وإما دليل فإن قال بل ما ألزم ذلك إلى من دون الله تعالى قيل له إن من دون الله تعالى معصي مخالف مرفوض لا حق له ولا طاعة إلى من أوجب الله عز وجل له فيلزم طاعته لأن الله أوجبها لا لأنها واجبة بذاتها وليس من أوجب شيئاً دون الله تعالى بأولى من آخر أبطل ما أوجب هذا وأوجب بطلانه وفي هذا كفاية لمن عقل ولا ينقاد للزوم من دون الله تعالى إلا جاهل مغرور كالبهيمة تقاد فتنقاد ولا فرق وإن قال إن العقل ألزم ذلك قيل له أنك تدعي الباطل على العقل إذا دعيت عليه ما ليس في بنيته لأن العقل لا يوجب شيئاً وإنما العقل قوة تميز النفس بها الأشياء على ما هي عليه فقط ويعرف ما صح وجوبه مما أوجبه من تلزم طاعته مما لم يصح وجوبه مما لم يوجبه من يجب طاعته ليس في العقل المراد به المتميز شيء غير هذا أصلاً وأيضاً فإن قائل هذا مجاهر بالباطل لأنه لا يخلو إن يكون يزعم أن العقل أوجب ذلك ببديهته أو ببرهان راجع إلى البديهة من قرب أو من بعد فإن ادعى أن العقل يوجب ذلك ببديهته كابر الحس ولم ينتفع بهذا أيضاً لأنه لا يعجز عن التوقح بمثل هذه الدعوى أحد في أي شيء شاء وإن ادعى أنه أوجب ذلك برهان راجع إلى العقل كلف المجيء به ولا سبيل إليه أبداً فإن قال أن الله عز وجل أوجب ذلك سئل الدليل على صحة هذه الدعوى التي أضافها إلى الباري عز وجل وهذا ما لا سبيل إليه لأن ما عند الله عز وجل من إلزام لا يعرف البتة إلا بوحب من عنده تعالى إلى رسول من خلقه يشهد له تعالى بالمعجزات وأما بما يضعه الله عز وجل في العقول وليس في شيء من هذين دليل على صحة دعوى هذا المدعي وأما احتجاجه بأنه هو الدين الذي اختراه الله عز وجل لكل أحد وأنشأه عليه فلا حجة له في هذا لأننا لم نخالفه في أن هذا درب على هذا الدين وخلقه الله عز وجل مع من دربه عليه بل نقر بهذا كما نقر بأن الله خلقه في مكان ما في صناعة ما وعلى معاش ما وعلى خلق ما وليس في ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ولا على أنه لزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليها والقوت الذي كبر عليه بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيرها وأن فرضاً عليه لزوال عن كل ذلك إذ كان مذموماً إلى المحمود من كل ذلك وأيضاً فإن جميع الأديان التي أوبجها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها وأهل كل دين منها تكفر سائر أهل تلك الأحيان وكلهم يكذب بعضهم بعضاً وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد فلو كان كل دين منها لازماً أن يعتقده من نشاء عليه لكان كل دين منها حقاً وإذا كان كل دين منها حقاً منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك فكل دين منها باطل بلا شك فوجب ضرورة على قول هذا القائل أن جميع الأديان باطل وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معاً فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين وأما من قال أني ألزم فعل الخير الذي اتفقت الديانات والعقول على أنه فضل وأجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح فقول فاسد مموه مضمحل أول ذلك أنه كذب ولا اتفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجموعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم وكل دين لا نحاشي ديناً قاتل بأحكام هي عند سائرها ظلم وأما المنانية فإنها وإن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحق وسائر الديانات محرمة لذلك فما اتفقت الديانات على شيء أصلاً ولا على التوحيد ولا على إبطاله لكن اتفقت الديانات على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد ديناً فبيناه بطلب موافق جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها وهكذا فليكن السعي المضلل وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للذات كارهة لما يتلزمه أهل الشرائع والفلاسفة فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفاً لجميع الديانات غير متعلق بدليل لا عقلي ولا سمعي وقد قلنا أن العقول لا توجب شيئاً ولا تقبحه ولا تحسنه وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيراً فإنهم أصحاب شرايع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان فما قال قط أصحاب العقول أنها جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادعى ذلك إلا أقل الناس ومن ليس عقله عياراً على عقل غيره ولو كان ذلك واجباً في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قالوا هم سواء سواء فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين مجلة وهذا أكسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين.
ثم نذكر إن شاء الله تعالى البراهين على إبطال حججهم الشغبة المموه بها وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد: أما احتجاجهم بأن قالوا وجدنا أهل الديانات والآراء والم قال ات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالاً بينهم فصح أنه ليس ههنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولا اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم وكما هم يختلفوا في الحساب وفي كل شيء عليه برهان لائح واللائح الحق على مرور الزمان وكثرة البحث وطول المناظرات قالوا ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاراً فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة تتبع أما ما نشأت عليه وأما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من كل ملة ونحلة وأن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته.
قال أبو محمد: هذه جمل نحن نبين كل عقد منها ونوفيها حقاً من البيان بتصحيح أو إفساد بما لا يخفي على أحد صحته وبالله تعالى التوفيق أما قولهم أن كل طائفة من أهل الديانات والآراء يناظر فينتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه فقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما ادعوه من تكافؤ الأدلة أصلاً لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم مخقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه وإنما نحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهال وأهل الصياح والتهويل والتشنيع القانعون بأن يقال غلب فلان فلاناً وأن فلاناً لنظار جدال ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به لا سيما تجادل أهل زماننا الذين أمالهم نوب معدودة لا يتجاوزونها بكلمة وإما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجعات وأما كثير الهدر قوي على أن يملأ المجلس كلاماً لا يتحصل منه معنى وأما الذي يعتقده أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته على كل حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب فإذا نقضوها ولم يبقوا منها شيئاً تأملوها كلها حجة حجة فميزوا الشغبي منها والأقناعي فأطرحوهما وفتشوا البرهاني على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم بالتقريب في مائية البرهان وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وفي كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالأحكام في أصول الأحكام فإن من سلك تلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبداء ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميز ما هو البرهان مما ليس برهاناً ثم لم يقبل إلا ما كان برهاناً راجعاً رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورة في كل مطلوب يطلبه فإن سارع الحق يلوح له واضحاً ممتازاً من كل باطل دون إشكال والحمد لله رب العالمين وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن وكده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط أو نصر مذهب قد الفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط فبعيد عن معرفة الحق من الباطل ومثل هؤلاء غروا هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظر مجراهما هذا المجرى الذي عهدوه ممن ذكرنا فضلوا ضلالاً بعيداً وأما قولهم فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ولما اختلف الناس فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لايح فقول أيضاً مموه لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة أن من عرف البرهان وميزه وطلب الحقيقة غير مايل بهوى ولا ألف ولا نفار ولا كسل فمضمون له تمييز الحق وهذا كمن سأل عن البرهان على أشكال أقليدس فإنه لا أشكال في جوابه عن جميعها بقول مجمل لكن يقال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه أو كمن سأل ما النحو وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن يقال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه لا يمكن أن نبين لك برهانها بحول الله تعالى وقوته ثم نقول لمن قال من هؤلاء أن ههنا قولاً صحيحاً واحداً لا شك فيه أخبرنا من أين عرفت ذلك ولعل الأمر كما يقول من قال أن جميع الأقوال كلها حق فإن قال لا لأنها لو كانت حقاً لكان محالاً ممتنعاً لأن فيها إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأنه فيه أيضاً إثبات إثبات الشيء وإبطاله معاً ولو كان جميعها باطلاً لكان كذلك أيضاً سواء سواء وهو محال ممتنع لأن فيه أيضاً إثبات الشيء وإبطاله معاً وإذا ثبت إثبات الشيء بطل إبطاله بلا شك وإذا بطل إثباته ثبت إبطاله بلا شك فإذ قد بطل هذان القولان بيقين لم يبق بلا شك إلا أن فيه حقاً بعينه وباطلاً بعينه قلنا له صدقت وإذا الأمر كما قلت فإن هذا العقل الذي عرفت به في تلك الأقوال قولاً صحيحاً بلا شك به تميز ذلك القول الصحيح بعينه مما ليس بصحيح لأن الصحيح من الأقوال يشهد له العقل والحواس ببراهين ترده إلى العقل وإلى الحواس رداً صحيحاً وأما الباطل فينقطع ويقف قبل أن يبلغ إلى العقل وإلى الحواس وهذا بين والحمد لله رب العالمين.
وأما من أبطل أن يكون في الأقوال كلها قول صحيح فقد أخبرنا أنه مبطل للحقائق كلها متناقض لأنه يبطل الحق والباطل معاً وبالله تعالى التوفيق أما قولهم لو كان ههنا قول صحيح لما أشكل على أحد ولا اختلف فيه كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم ولا في الحساب فإن هذا قول فاسد لأن أشكال الشيء على من أشكل عليه إنما معناه أنه جهل حقيقة ذلك الشيء فقط وليس جهل من جهل حجة على من علم برهان هذا أنه ليس في العالم شيء إلا ويجهله بعض الناس كالمجانين والأطفال ومن غمرة الجهال والبلدة ثم يتزيد الناس في الفهم فيفهم طائفة شيئاً لا تفهمه المجانين وتفهم أخرى ما لا تفهمه هؤلاء وهكذا إلى أرفع مراتب العلم فكلما اختلف فيه فقد واقف على الحقيقة فيه من فهمه وإن كان خفي على غيره هذا أمر مشاهد محسوس في جميع العلوم وآفة ذلك ما قد ذكرنا قبل وهو إما قصور الفهم والبلادة وإما كسل عن تقصي البرهان وإما لألف أو نفار قعدا بصاحبهما عن الغاية المطلوبة أو تعدياها وهذه دواعي الاختلاف في كل ما اختلف فيه فإذا ارتفعت الموانع لاح البرهان بيقين فبطل ما شغبوا به والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وفي الحساب وفيما أدركوه ببداية عقولهم فقول غير مطرد والسبب في انقطاع اطراده هو أنه ليس في أكثر ما يدرك بالحواس وبداية العقول شيء يدعو إلى التنازع ولا إلى تقليديتها لك في نصره أو إبطاله وكذلك في الحساب حتى إذا صرنا إلى ما فيه تقليد مما يدرك بالحواس أو بأوائل التمييز وجد فيه من التنازع والمكابرة والمدافعة وجحد الضرورات كالذي يوجد فيما سواه كمكابرة النصارى واستلاكهم في أن المسيح له طبيعتان ناسوتية ولاهوتية ثم منهم من يقول أن تلك الطبيعتين صارتا شيئاً واحداً وصار اللاهوت ناسوتاً تاماً محدثاً مخلوقاً وصار الناسوت ألهاً تاماً خالقاً غير مخلوق ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج العرض بالجوهر ومنهم من يقول امتزجا كامتزاج البطانة والظهارة وهذا حمق ومحال يدرك فساده بأول العقل وضرورته وكما تهالكت المنانية على أن الفلك في كل أفق من العالم لا يدور إلا كما يدور الرحى وهذا أمر يشاهد كذبه بالعيان وكما تهالكت اليهود على أن النيل الذي يحيط بأرض مصر وزويلة ومعادن الذهب وأن الفرات المحيط بأرض الموصل مخرجهما جميعاً من عين واحدة من المشرق وهذا كذب يدرك بالحواس وكما تهالكت المجوس على أن الولادة من إنسان وأن مدينة واقفة من بنيان بعض ملوكهم بين السماء والأرض وكتهالك جميع العامة على أن السماء مستوية كالصحيفة لا مقبية مكورة وأن الأرض كذلك أيضاً وأن الشمس تطلع على جميع الناس في جميع الأرض في ساعة واحدة وتغرب عنهم كذلك وهذا معلوم كذبه بالعيان وكتهالك الأشعرية وغيرهم ممن يدعي العلم والتوفيق فيه أن النار لا حر فيها وأن الثلج لا برد فيه وأن الزجاج والحصا لهما طعم ورائحة وأن الخمر لا يسكر وأن ههنا أحوالاً لا معدومة ولا موجودة ولا هي حي ولا هي باطل ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي معلومة ولا مجهولة وهذا كله معلوم كذبه وبطلانه بالحواس وبأول العقل وضرورته وتخليط لا يفهمه أحد ولا يتشكل في وعم أحد ولو أننا شاهدنا أكثر من ذكرنا لما صدقنا أن من له مسكة عقل ينطلق لسانه بهذا الجنون وكتهالك طوائف على أن اسمين يقعان على مسميين كل واحد من ذينك المسميين لا ههو الآخر ولا هو غيره وكالسوفسطائية المنكرة للحقائق وأما الحساب فقد اختلف له في أشياء من التعديل ومن قطع الكواكب وهل الحركة لها أو لأفلاكها وأما الذي لا يخلو وقت من وجوده فخطأ كثير من أهل الحساب في جمع الأعداد الكثيرة حتى يختلفوا اختلافاً ظاهراً حتى إذا حقق النظر يظهر الحق من الباطل وهذا نفس ما يعرض في كل ما يدرك بالحواس فظهر بطلان تمويههم وتشبيهم جملة والحمد لله رب العالمين وصح ما أنكروه من أن كثيراً من الناس يغيبون عن اعتقاد ما شهدت له الحواس وينكرون أوائل العقول ويكابرون الضرورات أما أنهم كسلوا عن طلب البرهان وقطعوا بظنونهم وأما لأنهم زلوا عن طريق البرهان وظنوا أنهم عليه وأما لأنهم ألفوا ما مالت إليه أهواؤهم لألف شيء ونفار عن آخر وأما قولهم وللاح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات في قال لهم وبالله تعالى التوفيق نعم قد لاح الحق وبان ظن الباطل وأن كان كل طائفة تدعيه فإن من نظر على الطريق التي وصفنا صح عنده المحق المدعي من المبطل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس فيعادنوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخر بلا معنى فقول فاسد لأنا قد رأيناهم أتوا أشياء بدا الحق فيها إلى الانس فعانده كثير منهم وبذلوا مهجعهم فيه وكأنهم ما شاهدوا الأمر الذي ملأ الأرض من المقاتلين الذين يعرفون بقلوبهم ويقرون بألسنتهم أنهم على باطل يقتتلون ويعترفون بأنهم بلغوا مهجهم ودماءهم وأموالهم وأديانهم ويوتمون أولادهم ويرملون نساءهم في قتال عن سلطان غائب عن ذلك القتال لا يرجون زيادة درهم ولا يخاف كل امرئ منهم في ذاته تقصيراً به لو لم يقاتل أو لم يروا كثيراً من الناس يأكلون أشياء يوقنون بأنهم يستضرون بها ويكثرون شرب الخمر وهم يقرون أنها قد آذنتهم وأفسدت أمزجتهم وأنها تؤديهم إلى التلاف وهم يقرون مع ذلك أنهم عاصون لله تعالى وكم رأينا من الموقنين بخلود العاصي في النار المحقيين لذلك يقر على نفسه أنه يفعل ما يخلد به في النار فإن قالوا أن هؤلاء يستلذون ما يفعلون من ذلك قلنا لهم أن استلذاذ من يدين بشيء ما يبصره لما يدين به وتعصبه له أشد من استلذاذ الأكل والشرب لما يدري أنه يبلغه من ذلك نقول لهم أخبرونا عن قولكم هذا أنه ليس ههنا قول سطعت حجته ولو كان لما اختلف الناس فيه أحق وهي هذه القضية التي قطعتم بها وهل قولك هذا ظاهر الحجة متيقن الحقيقة أم لا فإن قالوا لا أقروا بأن قولهم لم تصح حجته ولا لاح برهانه وأنه ليس حقاً ما قال وه وإن قالوا بل هو حق قد لاحق حجته قلنا لهم فكيف خولفتم في شيء لاحت حجته حتى صار أكثر أهل الأرض يعمون عماً لا شك فيه عندكم وعن ما لاح الحق فيه حتى اعتقدوا فيكم الضلال والكفر وإباحة الدم وهذا هو نفس ما أنكروا قد صرحوا أنه حق والحمد لله رب العالمين وأما احتجاجهم بانت قال من ينتقل من مذهب إلى مذهب وتهالكه في إثباته ثم تهالكه في إبطاله ورومهم أن يفسدوا بهذا جميع البراهين فليس كما ظنوا لأن كل متنقل من مذهب إلى مذهب فلا يخلو ضرورة من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون انتقل من خطأ إلى خطأ أو من خطأ إلى صواب أو من صواب إلى خطأ وأي ذلك كان فإنما أتى في الانت قال ين الاثنين الذين هما إلى الخطأ من أنه لم يطلب البرهان طلباً صحيحاً بل عاجزاً عنه بأحد الوجوه التي قدمنا قبل وأما الانت قال إلى الصواب فإنه وقع عليه بحد صحيح وطلب صحيح أو بحد وبحث وهذا يعرض فيما يدرك بالحواس كثيراً فيرى الإنسان شخصياً من بعيد فيظنه فلاناً ويحلف عليه ويكابر ويجرد ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وقد يشم الإنسان رائحة يظنها من بعض الروائح ويقطع على ذلك ويحلف عليه مجداً ثم يتبين له أنه ليس هو الذي ظن وهكذا في الذوق أيضاً وقد يعرض هذا في الحساب فقد يغلط الحاسبون في جمع الأعداد الكثيرة فيقول أحدهم أن الجميع من هذه الأعداد كذا وكذا ويخالفه غيره في ذلك حتى إذا بحثوا بحثاً صحيحاً صح الأمر عندهم وقد يعرض هذا للإنسان فيما بين يديه يطلب الشيء بين متاه طلباً مردداً المرة بعد المرة فلا يجده ولا يقع عليه وهو بين يديه ونصب عينيه ثم يجده في أقرب مكان منه وقد يكتب الإنسان مستملياً أو يقرأ فيصحف ويزيد وينقص وليس هذا بموجب ألا يصح شيء بإدراك الحواس أبداً ولا إلا يصح وجود الإنسان شيئاً افتقده أبداً ولا ألا يصح جمع الأعداد أبداً ولا ألا يصح حرف مكتوب ولا كلمة مقروءة أبداً لا مكان وجود الخطأ في بعض ذلك لكن التثبيت الصحيح يليح الحق من الباطل وهكذا كل شيء أخطأ فيه ولا بد من برهان يليح الحق فيه من الباطل ولا يظن جاهل أن هذه المعاني كلها حجة لمبطلي الحقائق بل هي برهان عليهم لائح قاطع لأن كل ما ذكرنا لا يختلف حس أحد في أن كل ذلك إذا فتش تفتيشاً صحيحاً فإنه يقع اليقين والضرورة بأن الوهم فيها غير صحيح وأن الحق فيها ولا بد فبطل تعلقهم بمن رجع من مذهب إلى مذهب ولم يحصلوا إلا على أن قالوا أنا نرى قوماً يخطئون فقلنا لهم نعم ويصيب آخرون فإقرارهم بوجود الخطأ موجب ضرورة أن ثم صواباً لأن الخطأ هو مخالفة الصواب فلو لم يكن صواباً لم يكن خطأ ولو لم يكن برهان لم يكن شغب مخالف للبرهان ثم نعكس استدلالهم عليهم فنقول لهم وبالله تعالى نتأيد فإذ قد وجدتم من يعتقد ما أنتم عليه ثم يرجع عنه فهلا قلتم أن مذهبكم هذا كالأقوال الأخر التي أبطلتموها من أجل هذا الظن الفاسد في الحقيقة وهو في ظنكم صحيح فهو لكم لازم لأنكم صححتموه ولا يلزمنا لأننا لا نصححه ولا صححه برهان.
قال أبو محمد: وبهذا الذي قلنا يبطل ما اعترضوا به من اختلاف المدعين الفلسفة والمنتحلين الكلام في مذاهبهم وما ذكروه من اختلاف المختارين أيضاً في اختيارهم لأننا لم ندع أن طبائع الناس سليمة من الفساد لكنا نقول أن الغالب على طبائع الناس الفساد فإن المنصف لنفسه أولاً ثم لخصمه ثانياً الطالب بالبرهان على حقيقة العارف به فدليل برهاننا على هذا ما وجدناه من اختلاف الناس واختلافهم كثيراً دليل على كثرة الخطاء منهم وقد وضحنا أن وجود الخطاء يقتضي ضرورة وجود الصواب منهم ولا بد وليس اختلافهم دليلاً على أن لا حقيقة في شيء من أقوالهم ولا على امتناع وجود السبيل إلى معرفة الحق وبالله تعالى التوفيق وأما احتجاجهم بأنه لا يخلو من حقق شيئاً من الديانات والم قال ات والآراء من أن يكون صح له بالحواس أو بالعقل أو ببعضها أو ببديهة العقل وضرورته أو بدليل من الأدلة غير هذين وأنه لو صح بالحواس أو بالعقل لم يختلف فيه وإلزامهم في الدليل مثل ذلك إلى آخر كلامهم فهذا كله مقرر قد مضي الكلام فيه وقد أريناهم أنه قد يختلف الناسفيما يدرك بالحواس وببديهة العقل كاختلافهم في الشخص يرونه ويختلفون فيه ما هو وفي الصوت يسمعونه بينهم فيما هو ويختلفون فيه وكأقوال النصارى وغيرهم مما يعلم بضرورة العقل فساده ثم نقول لهم أن أول المعارف هو ما أدرك بالحواس وببديهة العقل وضرورته ثم ينتج براهين راجعة من قرب أو من بعد إلى أول العقل أو إلى الحواس فما صححته هذه البراهين فهو حق وما لم تصححه هذه البراهين فهو غير صحيح ثم نعكس عليهم هذا السؤال بعينه فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق قولكم هذا بأي شيء علمتموه بالعقول أم بالحواس أو بدليل غيرهما فإن علمتموه بالحواس أو العقول فكيف خولفتم فيه وإن كنتم عرفتموه بدليل فذلك الدليل بما عرفتموه أبالحواس أم بالعقول أم بدليل آخر وهكذا أبداً وكل سؤال أفسد حكم نفسه فهو فاسد وعلى أن هذا لهم لازم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه ونحن لم نصحح هذا السؤال فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه بما دفعه عنا وأما هم فلا مخلص لهم منه وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم نسألهم عن علمهم بما يدعون صحته أتعلمونه أم لا فإن قالوا لا نعلمه بطل قولهم إذا قروا بأنهم لا يعلمونه وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم علمتم علمكم بذلك أم بغير علم وهكذا أبداً فهذا أمر قد أحكمنا بيان فساده في باب أفردناه في ديواننا هذا على أصحاب معمر في قولهم بالمعاني وعلى الأشعرية ومن وافقهم من المعتزلة في قولهم بالأحوال وإنما كلامنا هذا مع من يقول بتكافؤ الأدلة.
قال أبو محمد: وهذا السؤال نفسه مردوده عليهم كما هو ونسألهم أتعلمون صحة مذهبكم هذا أم لا فإن قالوا لا أقروا بأنهم لا يعلمون صحته وفي هذا إبطاله والله وإنما هو ظن لا حقيقة وإن قالوا بل نعلمه سألناهم أبعلم تعلمونه أم بغير علم وهكذا أبداً إلا أن أن السؤال لازم لهم لأنهم صححوه ومن صحح شيئاً لزمه وأما نحن فلم نصححه فلا يلزمنا وقد أجبنا عنه في بابه بأننا نعلم صحة علمنا بعلمنا ذلك بعينه لا بعلم آخر ونعقل أن لنا عقلاً بعقلنا ذلك بنفسه وإنما هو سؤال من يبطل الحقائق كلها لا من يقول بتكافؤ الأدلة فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: ثم نقول لهم أنتم قد أثبتم الحقائق وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها وهم السوفسطائية وعلمتم أنهم مخطئون في ذلك ببراهين وفي الناس من يبطلها ومن يشك فيها ما أبطلتموه أو شككتم فيه من أن في مذاهب الناس مذهباً صحيحاً ظاهر الصحة فإذا سأل عنها أجيب بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد: ويقال لمن قال لكل ذي ملة أو نحلة أو مذهب لعلك مخطئي وأنت تظن أنك مصيب لأن هذا ممكن في كثير من الأقوال بلا شك أخبرنا أفي الناس من فسد دماغه وهو يظن أنه صحيح الدماغ فإن أنكر ذلك كابر ودفع المشاهدات وإن قال هذا ممكن قيل له لعلك أنت الآن كذلك وأنت تظن أنك سالم الدماغ فإن قال لا لأن هاهنا براهين تصحح أني سالم الذهن قيل له وهاهنا براهين تصحح الصحيح من الأقوال وتبينه من الفاسد فإن سأل عنها أجبت بها في مسألة مسألة.
قال أبو محمد: فإذا قد بطل بيقين أن تكون جميع أقوال الناس صحيحة لأن في هذا أن يكون الشيء باطلاً وحقاً معاً وبطل أن تكون كلها باطلاً لأن في هذا أيضاً إثبات الشيء وضده معاً لأن الأقوال كلها إنما هي نفي شيء يثبته آخر من الناس فلو كان كلا الأمرين باطلاً لبطل النفي في الشيء وإثباته معاً وإذا بطل إثباته صح نفيه وإذا بطل نفيه صح إثباته فكان يلزم من هذا أيضاً أن يكون الشيء حقاً باطلاً معاً ثبت بيقين أن في الأقوال حقاً وباطلاً وإذ هذا لا شك فيه فبالضرورة نعرف أن بين الحق والباطل فرقاً موجوداً وذلك الفرق هو البرهان فمن عرف البرهان عرف الحق من الباطل وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنكم محيلون علي براهين تقولون أن ذكرها جملة لا يمكن وتأمرون بالجد في طلبها فما الفرق بينكم وبين دعاة الإسماعيلية والقرامطة الذين يحيلون على مثل هذا قلنا لهم الفرق بيننا وبينهم برهانان واضحان أحدهما أن القوم يأمرون باعتقاد أقوالهم وتصديقهم قبل أن يعرفوا براهينهم ونحن لا نفعل هذا بل ندعوا إلى معرفة البراهين وتصحيحها قبل أن نصدق فيما نقول والثاني أن القوم يكتمون أقوالهم وبراهينهم معاً ولا يبيحونها للسبر والنظر ونحن نهتف بأقوالنا وبراهيننا لكل أحد وندعوا إلى سبرها وتقييسها وأخذها إن صحت ورفضها إن لم تصح والحمد لله رب العالمين ولسنا نقول إننا لا نقدر أن نحد براهيننا بحد جامع مبين لها بل نقدر على ذلك وهو أن البرهان المفرق بين الحق والباطل في كل ما اختلفوا فيه أن يرجع رجوعاً صحيحاً متيقناً إلى الحواس أو إلى العقل من قرب أو من بعد رجوعاً صحيحاً لا يحتمل ولا يمكن فيه إلا ذلك العمل فهو برهان وهو حق متيقن وإن لم يرجع كما ذكرنا إلى الحواس أو إلى العقل فليس برهاناً ولا ينبغي أن تشتغل به فإنما هو دعوى كاذبة وبالله تعالى التوفيق وبهذا سقط القياس والتقليد لأنه لا يقدر القائلون بهما على برهان في تصحيحهما يرجع إلى الحواس أو إلى العقل رجوعاً متيقناً.
قال أبو محمد: ونحن نقول قولاً كافياً بعون الله وقوته وهو أن أول كل ما اختلف فيه من غير الشريعة ومن تصحيح حدوث العالم وأن له محدثاً واحداً لم يزل ومن تصحيح النبوة ثم تصحيح نبوة محمد ﷺ فإن براهين كل ذلك راجعة رجوعاً صحيحاً ضرورياً إلى الحواس وضرورة العقل فما لم يكن كذا فليس بشيء ولا هو برهاناً وإن كان ما اختلف فيه من الشريعة بعد صحة جملها فإن براهين كل ذلك راجعة إلى ما أخبر به رسول الله ﷺ عن الله تعالى إذ هو المبعوث إلينا بالشريعة فما لم يكن هكذا فليس برهاناً ولا هو شيئاً وفي أول ديواننا هذا باب في ماهية البراهين الموصلة إلى معرفة الحقيقة في كل ما اختلف الناس فيه فإذا أضيف إلى هذا ارتفع الإشكال والحمد لله رب العالمين.
الكلام في الألوان
قال أبو محمد: الأرض غبراء وفيها حمراء بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة والماء كله أبيض إلا أن يكتسب لوناً بما استضاف إليه لفرط صفائه فيكتسى لون إنائه أو ما هو فيه وإنما قلنا أنه أبيض لبراهين أحدها أنه إذا صب في الهواء بهرق ظهر أبيض صافي البياض والثاني في أنه إذا جمد فصار ثلجاً أو برداً ظهر أبيض شديد البياض وأما الهواء فلا لون له أصلاً ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لانطباقه على البصر وهذا فاسد جداً وبرهان أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما ولا يرى الهواء في تلك الحال وإن استلقي على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبداً أجزاء صغار وهي التي تسمي الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جداً ولونها الغبرة فهي التي ترى لا ما سواها ومن تأمل هذا عرفه يقيناً وإن البيوت مملوءة من هذا الضياء المنحل من الأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ولكن لدقتها لا ترى إلا أن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط وأم النار فلا ترى أيضاً لأنه لا لون لها في فلكها وأم المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق يستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألواناً بمقدار ما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولازوردية وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح.
قال أبو محمد: أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان على أنه لا يرى إلا الألوان وإن كل ما يرى فليس إلا لوناً وحدوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرق البصر وحدوا السواد بأنه لون قال أبو محمد: وهذا حد وقعت فيه مسامحة وإنما خرجوه على قول العامة في لون السواد ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن تشكل المرئيات وإذ هذا معنى القبض بلا شك فهو معنى منع البصر والإدراك وكفه ومن هذا سمى المكفوف مكفوفاً فإذا السواد يمنع البصر من الانتشار ويقبضه عن الانبساط ويكفه عن الإدراك وهذا كله معنى واحد وإن اختلفت العبارات في بيانه فالسواد بلا شك غير مرئي إذ لو رؤى لم يقبض خط البصر إذ لا رؤية إلا بامتداد البصر فإذ هو غير مرئي فالسواد ليس لوناً إذ اللون مرئي ولا بد ما لم ير فليس لوناً وهذا برهان عقلي ضروري وبرهان آخر حسي وهو أن الظلمة إذا أطبقت فلا فرق حينئذ بين المفتوح العينين السالم الناظرين وبين الأعمى المنطبق والمسدود العينين سداً أو كفاً فإذ ذلك كذلك فالظلمة لا ترى ومن الباطل الممتنع أن تكون ترى الظلمة وبالحس نعلم أن المنطبق العينين فيها بمنزلة واحدة من عدم الرؤية ومع المفتوح العينين فيها والظلمة هي السواد نفسه فمن ادعى أنهما متفاير إن فقد كابر العينان وادعى ما لا يأتي عليه بدليل أبداً ونحن نجد أن لو فتح في حائط بيت مغلق كوتان ثم جعل على أحدهما ستر أسود وتركت الأخرى مكشوفة لما فرق الناظر من بعد بينهما أصلاً ولو جعل على أحدهما ستر أحمر أو أصفر أو أبيض لتبين ذلك للناظر يقيناً من بعد أو قرب وهذا بيان أن السواد والظلمة سواء وبرهان أخر حسي وهو أن خطوط البصر إذ استوت فلا بد من أن تقع على شيء ما لم تقف فيه مانع من تماديها ونحن نشاهد من بين يديه ظلمة أو هو فيها لا يقع بصره على حائط إن كان في الظلمة وسواء كان فيها حائط مانع من تمادي خط البصر أو لم يكن فصح يقيناً أن الظلمة لا ترى بل هي مانعة من الرؤية والظلمة هي السواد والسواد هو الظلمة لم يختلف قط في هذا اثنان لا بطبيعة ولا بشريعة ولا في معنى الله ولا بالمشاهدة فقد صح أن السواد لا يرى أصلاً وأنه ليس لوناً.
قال أبو محمد: وإنما وقع الغلط على من ظن أن السواد يرى لأنه أحس بوقوع خطوط البصر على ما حوالي الشيء الأسود من سائر الألوان فعلم بتوسط إدراكه ما حوالي الأسود أن بين تلك النهايات شيئاً خارجاً عن تلك الألوان فقدر أنه يراه ومن هاهنا عظم غلط جماعة ادعوا بظنونهم من الجهة التي ذكرنا أنهم يرون الحركات والسكون في الأجرام والأمر في كل ذلك وفي الأسود واحد ولا فرق فإن قال قائل أنه إن كان في جسم الأسود زيادة ناتئة سوداء كسائر جسده رأيناها فلو لم تر لم تعلم بنتوء تلك الهيئة الناتئة له على سطح جسده قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا أيضاً وهم لأنه لما لم يمتد خط البصر عند قبض تلك الهيئة الناتئة له وامتدت سائر الخطوط إلى أبعد من تلك المسافة وعلمت النفس بذلك توهم من لم يحقق أن هذه رؤية وليست كذلك وتوهموا أيضاً أنهم يرون السواد ممازحاً لحمرة أو لغبرة أو لخضرة أو لصفرة أو لزرقة فإذا كان هذا هكذا فإن البصر يرى ما في ذلك السطح من هذه الألوان على حسب قوتها وضعفها فقط فيتوهمون من ذلك أنهم رأوا السواد ويتوهمون أيضاً أنهم يرونه لأنهم قالوا نحن نميز الأسود البراق البصيص واللمعان من الأسود الأكدر الغليظ.
قال أبو محمد: وهذا مكان ينبغي أن نتثبت فيه فنقول وبالله تعالى التوفيق أن الأملاس هو استواء أجزاء السطح والخشونة هي تباين أجزاء السطح وقد نجد أملس لماعاً وأملس كدراً فإذ ذلك كذلك فالبصيص واللمعان شيء أخير غير استواء أجزاء السطح وإذ هو كذلك وهو مرئي فالبصيص بلا شك لون آخر محمول في الملون بالحمرة أو الصفرة أو سائر الألوان وفيما عري من جميع الألوان سواء فإذا قلنا أسود لماع فإنما نريد أنه ليس فيه من الألوان إلا اللمعان فقط فهو لون صحيح وقد عرى من الحمرة ومن الصفرة ومن البياض والخضرة والزرقة ومما تولد من امتزاج هذه الألوان ولعل الكدرة أيضاً لون آخر مرئي كاللمعان وهي أيضاً غير سائر الألوان فهذا ما لا يوجد ما يمنع منه بل الدليل يثبت أن الكدرة أيضاً لون لون وهو وقوع البصر عليها وهو لا يقع إلا على لون ومن أبى من هذا كلفناه أن يحد لنا اللمعان والكدرة فإنه لا يقدر على شيء أصلاً غير ما قلنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فإنا نرى الثوب الأسود يستبين نسج خيوطه ونتوء ما نتأ منها وانخفاض ما انخفض فلولا أنه يرى ما علم ذلك كله فالجواب وبالله تعالى التوفيق أنا قد علمنا أن خطوط البصر تخرج من الناظر ولها مساحة ما وبعضها أطول من بعض بلا شك لأن الخطوط الخارجة من البصر إلى السماء أطول من الخطوط الخارجة من البصر إلى الجليس لك بلا شك فلما خرجت خطوط البصر إلى الثوب المذكور انقطع تمادي بعضها أكثر من تمادي البعض فبالحس علمنا هذا لا لأن بصرنا وقع على لون أصلاً وأيضاً فإن النور هو اللون الذي طبعه بسط قوة الناظر واستخراج قوى البصر حتى أنه إذا وافق ناظراً ضعيف البنية بطبعه أو بعرض اجتلب جميعه واستلبه كله أو اقتطفه فعلى قدر قوة النور في اللون المرئي وضعفه فيه يكون وقوع البصر عليه هذا أمر مشاهد بالعيان فكلما قل النور في اللون كان وقوع البصر عليه أضعف وكانت الرؤية له أقل حتى إذا عدم النور جملة ولم يبق منه شيء فقد بطل بالضرورة أن يمتد خطوط البصر إليه وأن يقع الناظر عليه إذ لا نور فيه ولا يختلف ذو حس في العالم في أن السواد المحض الخالص ليس فيه شيء من النور فإذ لا شك في هذا فلا شك في أنه لا يرى وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن جبلاً ذا لون ما وأرضاً ذات لون ما وفيهما غاران مظلمان لا شك أن كل ناظر إليهما فإنه لا يرى إلا ما حول الغارين وأنه لا يرى ما ضمه خط الغارين فإذ هذه كلها براهين ضرورية مشاهدة حسية عقلية فالبرهان لا يعارضه برهان أصلاً والبرهان لا يعارض بالدعوى ولا بالظنون والحمد لله رب العالمين وأما من كلام الله تعالى فالله يقول " ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها " وقوله تعالى " يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " فصح يقيناً أن الظلمة مانعة من النظر والرؤية جملة وهو السواد بلا شك فهو لا يرى ولا خلاف في أن البصر القليل يداوى بالثوب الأسود والقعود في الظلمة وليس ذلك غلا لمنعه من امتداد خط بصره فيكل بامتداده وبالله تعالى التوفيق فإن قيل السواد غير الظلمة قلنا إنا نجد الأرمد الشديد الرمد متى صار في بيت مظلم شديد الانطباق لا يدخله شيء من الضوء أمكنه فتح عينيه بحسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه ومتى جعلناه في بيت مضيء وعلى وجهه وعينيه ثوب كثيف جداً أسود أمكنه فتح عينيه حسب طاقته ولم يألم بالنظر إليه وكانت حاله في تغطية وجهه بذلك الثوب كحاله في الظلمة التامة سواء سواء وكذلك يعرض للصحيح البصر في الحالتين المذكورتين ولا فرق ومتى جعلنا على بصر الأرمد ثوباً أبيض ألم ألماً شديداً كلله إذا نظر في الضوء ولا فرق فإن جعلنا على وجهه ثوباً أصفر ألم دون ذلك وإن كان أحمر ألم دون ذلك فإن كان أخضر ألم دون ذلك على قدرهما في اللون من ممازجة البياض له فصح أن السواد والظلام شيء واحد وقال بعض أصحابنا السواد غير الظلمة وهو لا يرى الآن الزنجي والغراب والثوب ليس شيء من ذلك أسود وكل ذلك يرى ولون كل ما ذكرنا لون غير السواد إلا أنه باسم السواد مجازاً وقال بعضهم السواد اسم مشترك يقع على الظلمة ويقع على لون الزنجي والغراب والثوب فكل ظلام سواد وليس كل سواد ظلاماً فإن عنيت بالسواد لون الزنجي والغراب والثوب فهو يرى وهو غير الظلمة وإن عنيت بالسواد الظلمة فهو لا يرى وقال بعضهم الظلمة لا ترى وليست سواداً أصلاً والسواد شيء آخر غير الظلمة وهو لون يرى وقال بعضهم الظلمة والسواد شيء واحد وكلاهما يرى وأقروا بأن الأعمى والأكمة والمفقوء العينين والمطبق العينين يرى الظلمة.
الكلام في المتوالد والمتولد
قال أبو محمد: الحيوان كله ينقسم أقساماً ثلاثة متوالد ولا بد ولا يتولد ومتولد ولا بد لا يتوالد وقسم ثالث يتوالد ويتولد أيضاً فأما المتولد المتوالد فكبنات ردان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكالجعلان فإنها تتولد وقد رأيناها تتسافد وكثير من الحيوان المتولد في النبات وقد رأيناه يتسافد ومثل القمل فإنا قد شاهدناه يخرج من تحت الجلد يانا ويحدث في الرؤوس وقد يتوالد وقد نجد بعضه إذا قطع مملوء بيضاً وأما المتولد الذي لا يتوالد فالحيوان المتولد في أصول أشفار العينين وأصول شعر الشارب واللحية والصدر والعانة وهو ذو أرجل كثيرة لا يفارق موضعه وما علمناه يتوالد أصلاً ومثل الصفار المتولد في البطن وشحمة الأرض وكل هذا لا نعلمه يتوالد البتة وقد شاهدنا ضفادع صغاراً تتولد من ليلتها فتصبح مناقع المياه منها مملوءة ومنها الثلماندرية وهو حيوان كبير يشبه الجراذين الصغار بطيئة الحركة وحيوانات كثيرة منها صغير مفرط الصغر يكاد لصغره لا يتجزأ مثلما كثيراً رأيناه في الدوى والدفاتر وهو سريع المشي جداً ومنها السوس المتولد في الباقلا والدود المتولد في الجراحات وفي الحمص والبلوط وفي التفاح وبين الحشيش وبين الصنوبر وفي الكنف وهي ذوات الأذناب والحباحب المتولد في الخضر وهو في غاية الحسن ومنه ما يضيء بالليل كأنه شرارة نار والدود ذوات الأرجل الكثيرة لذاراريح وهذا كثير لا يحصيه لا خالقه عز جل ومنها الضفادع والحجازب فقد صح عندنا يقيناً لا مجال للشك فيه أنها تتولد في منافع المياه دويبات صغار ملس شديدة السواد ذوات أذناب تمشي عندنا ثم صح عندنا كذلك أنها تكبر فتقطع أذنابها وتتبدل ألوانها وتستحيل أشكالها وتعظم فتصير ضفادع ثم تزيد كبراً واستحالة ألوان فتصير حجازب.
قال أبو محمد: قد رأيتها في جميع تنقلها كما وصفنا وقد عرض علينا في منافع المياه خطوط ظاهرة قيل لنا أنها بيض الضفادع وأما الذباب فقد شاهدناها عياناً تتناكح والأنثى منها هي الكبار والذكور هي الصغار وشاهدنا البراغيث تتناكح أيضاً والكبار هي الأنثى والذكور هي الصغار نشاهد ذلك بأن الأعلى هو الصغير أبداً ونجد الأنثى مملوءة بيضاً إذا وضعت فتلقي في قال أبو محمد: وقد رأينا ذباباً صغيراً جداً وذباباً كباراً مفرط الكبر وشاهدنا بأبصارنا الدور الطويل الذنب المتولد في الكنف وزبول البقر والغنم يستحيل فيصير فراشاً طياراً مختلف الألوان بديع الخلقة من ابيض وأصفر فاقع وأخضر ولازوردي منقط ولا ندري كيف الحال في العقارب والعناكب والرتيلات والبقوقات والدبر إلا أننا ندري أن دود الحرير يتوالد يتسافد الذكور منها والأناث وتبيض ثم تحضن بيضها هذا ما لا خلاف فيه وما رأى أحد قط دود حرير يتولد من غير بيضه وكذلك النمل فإنه يتوالد وقد رأينا بيضه والعرب تسميه المازن وكذلك النحل يتوالد ويوجد في مواضع من بنائه في تضاعيف القبر الذي فيه العسل وكذلك الجراد والعرب تسميه بيضة الصرد.
قال أبو محمد: وما رأى أحد قط نحلاً يتولد ولا نملاً يتولد ولا جراداً يتولد إلا في أكذوبات لا تصح وأما سائر الحيوان فمتوالد ولا بد من مني أو بيض فكل ذي أذن بارزة يلد طائراً كان أو غير طائر كالخفاش وغيره وكل ما ليس له أذن بارزة فهو يبيض طائراً كان أو غير طائر كالحيات والجراذين والوزغ وغير ذلك.
قال أبو محمد: فطلبنا أن نحد حداً يجمع ما يتولد دون ما يتوالد أو ما يتوالد دون ما يتولد فلم نجد إلا أننا رأينا كل ذي عظم وفقارات لا سبيل البتة إلى أن يوجد من غير تناكح كحيوان البحر الذي له العظم والفقارات ورأينا ما لا عظم له ولا فقار فمنه ما يتولد ولا يتوالد ومنه ما يتولد ويتوالد معاً وكل ذلك خلق الله عز وجل يخلق ما يشاء كما شاء لا إلى إلا هو وليست القدرة في الخلق في خلق ما خلقه الله عز وجل حيواناً ذا أربع أو ذا ريش من بيضة أو من مني بأعظم من القدرة من خلقها من تراب دون توسط بيضة ولا مني ولا البرهان عن الصنع والابتداء في إحداهما بأوضح منه في الآخر بل كل ذلك برهان على ابتداء الخلقة وعلى عظيم القدرة من الباري لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: وقد ادعى قوم أنه يتولد في الثلج حيوان ويتولد في النار حيوان وهذا كذب وباطل وإنما قاسوه على تولد حيوان ما في الأرض والماء والقياس باطل لأنه دعوى بلا برهان وما لا برهان له فليس بشيء وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإذا حصلت الأمر فالحيوان لا يتولد من الماء وحده ولا من الأرض وحدها ولكن مما يجتمع من الأرض والماء معاً فتبارك الله أحسن الخالقين لا معقب لحكمه لا إله غيره عز وجل.
تم السفر الثالث بتمام جميع الديوان من الفصل في الملل والآراء والنحل بحمد الله وشكره على حسن تأييده وعونه.
تصنيف:
الفصل في الملل والأهواء والنحل 
 
=====
محتوي الجزء الاول من الكتاب روابط
 الفصل في الملل والأهواء والنحل/المجلد الأول

محتويات

1 المقدمة
2 باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق
3 باب الكلام على أهل القسم الأول وهم مبطلوا الحقائق وهم السوفسطائية
4 باب الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له
5 إفساد الاعتراض الأول
6 إفساد الاعتراض الثاني
7 إفساد الاعتراض الثالث
8 إفساد الاعتراض الرابع
9 إفساد الاعتراض الخامس
10 برهان أول
11 برهان ثان
12 برهان ثالث
13 برهان رابع
14 برهان خامس
15 باب الكلام على من قال أن العالم لم يزل وله مع ذلك فاعل لم يزل
16 باب الكلام على من قال أن للعالم خالقاً لم يزل
17 الكلام على من قال أن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد
18 الكلام على النصارى
19 الكلام على من يقول أن البارىء خلق العالم جملة
20 الكلام على من ينكر النبوة والملائكة
21 الرد على من زعم أن الأنبياء ليسوا أنبياء اليوم
22 فصل في الكلام على من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد الناس عن العلم بها جملة
23 الكلام على اليهود
24 فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة
25 فصل أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود
26 فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربانيهم وعانانيهم وعيسويهم
27 فصل وقال الله هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر
28 فصل وبعد ذلك وأسكن في شرقي جنة عدن
29 فصل وبعد ذلك قال الله تعالى كل من قتل قابيل نفاديه إلى سبعة
30 فصل وقبل هذا ذكر هابيل بن آدم وأنه راعي غنم
31 فصل وبعد ذلك قال فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض
32 فصل وفي خلال هذا قال لا يدين روحي في الإنسان إلى الدهر
33 فصل وبعد ذلك ذكر أن متوشالح بن حنوك بن مارد عاش تسعمائة سنة وتسعاً وستين سنة
34 فصل وبعد ذلك أن نوحاً إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان
35 فصل وقال توراتهم أن نوحاً لما بلغ خمسمائة سنة ولد له يافث وسام وحام
36 فصل وبعد ذلك أن الله تعالى قال لإبراهيم اعلم علماً أنه سيكون نسك غريباً في بلد
37 فصل وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال لإبراهيم لنسلك أعطي هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات
38 فصل ومنها أن الله تعالى قال لإبراهيم أنا الله الذي أخرجتك من أتون
39 فصل وبعد ذلك قال وتجلى الله لإبراهيم عند بلوطات ممرأ وهو جالس عند باب الخباء
40 فصل ثم قال متصلاً بهذا الفصل وقالوا له أين سارة زوجتك فقال ها هي ذه في الخباء
41 فصل وبعد ذلك وصف أن الملكين باتا عند لوط وأكلا عنده الخبز
42 فصل وذكر أن إبراهيم عليه السلام قال لله عز وجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط
43 فصل وبعد ذلك قال وأقام لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى
44 فصل وفي موضعين من توراتهم المبدلة أن سارة امرأة إبراهيم عليه السلام
45 فصل ثم ذكر موت سارة وقال تزوج إبراهيم عليه السلام امراة اسمها قطورة
46 فصل ثم ذكر أن رفعة بنت بتوئيل بن تارخ زوجة إسحاق عليه السلام
47 فصل ثم ذكر أن إسحاق قال لابنه عيسو يا بني ق
48 فصل ثم ذكر أن يعقوب إذ مضي إلى خله لابان بن نثوال خطب إليه ابنته راحيل
49 فصل وبعد ذلك ذكر أن يعقوب رجع من عند خاله لابان نسائه وأولاده
50 فصل ثم قال وبينا إسرائيل بذلك الموضع ضاجع رأوا بين ابن ليئة سرية أبيه بلهة وهي
51 فصل وبعد ذلك قال وأولاد يعقوب اثنا عشر
52 فصل وبعد ذلك قال وكان إسرائيل يحب يوسف لأنه كان ولد له في شيخوخته
53 فصل ثم ذكر بيع إخوة يوسف ليوسف
54 فصل وبعد ذلك ذكر عدد بني يعقوب المولودين بالشام عند خاله لابان الداخلين معه مصر
55 فصل ثم ذكر بعد هذا أولاد راحيل
56 فصل ثم ذكر بركة يعقوب عليه السلام على بنيه
57 فصل ثم ذكر عن يعقوب عليه السلام أنه قال لرأوبين في ذلك الوقت
58 فصل ثم ذكر أنه عليه السلام قال ليهوذا حينئذ لا تنقطع من يهوذا المخصرة
59 فصل ثم ذكر أن يعقوب عليه السلام قال للاوي وشمعون سأبددهما في يعقوب وأفرقهما في إسرائيل
60 فصل وقال في السفر الثاني من توراتهم أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام قل لفرعون السيد يقول الأسرائيل
61 فصل ثم ذكر أن هارون ألقى العصا بين يدي فرعون وعبيده فصارت حية
62 فصل قصة قلب الماء دماً فضيحة أخرى ظاهرة الكذب
63 فصل وبعد ذلك ذكر الله تعالى أمر موسى أن يقول لفرعون ستكون يدي على مكسبك الذي لك
64 فصل وبعد ذلك قال وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة
65 فصل وبعد ذلك قال وعند ذلك مجد موسى وبنو إسرائيل بهذه السورة
66 فصل ثم وصف المن النازل عليهم من السماء فقال وكان أبيض شبيهاً بزريعة الكزبر ومذاقهه كالسميد المعل
67 فصل وبعد ذلك قال إن الله عز وجل قال لبني إسرائيل لقد رأيتموني كلكم من السماء فلا تتخذوا معي آلهة الفضة
68 فصل وبعد ذلك قال فلما أطال موسى المقام اجتمع بنو إسرائيل إلى هارون
69 فصل وفي خلال هذه الفصول ذكر أن الله عز وجل قال لموسى دعني أغضب عليهم وأهلكهم وأقدمك على أمة عظيمة
70 فصل وبعد هذا ذكر أن الله تعالى قال لموسى اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك
71 فصل وفي خلال هذه الفصول قال وكان السيد يكلم موسى مواجهة فماً بفم كما يكلم المرء صديقه
72 فصل وفي السفر الثالث أن الباري تعالى قال له من ضاجع امرأة عمه أو خاله أو كشف عورة بنته فيحملان جميعاً ذنوبهما ويموتان من غير أولاد
73 فصل وفي السفر الرابع ذلك أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر القادرين على القتال
74 فصل ويتصل بهذا الفصل فصل آخر هو أشنع منه في شهرة الكذب وشنعة المحال وظهور التوليد وبشاعة الافتعال
75 فصل ثم وصف قيام بني إسرائيل على موسى عليه السلام وطلبهم منه اللحم للأكل
76 فصل وبعد ذلك ذكر قيام مريم وهارون أخو موسى عليه السلام معاندين لموسى من أجل امرأته الحبشية
77 فصل ذكر كما ذكرنا أن في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر
78 فصل ثم ذكر في السفر الخامس فقال إن طلع فيكم نبي
79 فصل ثم قال في آخر توراتهم فتوفي موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض مواب مقابل بيت فغور

======
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصنيف المحلي لابن حزم

تصنيف:محلى ابن حزم:المجلد الثاني اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث صفحات تصنيف «محلى ابن حزم:المجلد الثاني»  الصفحات 90 التالية مصنّفة بهذا ا...